بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة التّوبة

تفسير سورة براءة : هذه السورة مدنية إلا آيتين : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) [التوبة : ١٢٨] إلى آخرها ، وتسمى سورة التوبة ، فاله حذيفة وغيره ، وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس ، وتسمى الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، قال ابن عباس مازال ينزل ومنهم ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد ، وقال حذيفة : هي سورة العذاب ، قال ابن عمر كنا ندعوها المفشفشة ، قال الحارث بن يزيد : كانت تدعى المبعثرة ويقال لها المثيرة ، ويقال لها البحوث ، وقال أبو مالك الغفاري : أول آية نزلت من براءة (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] وقال سعيد بن جبير : كانت براءة مثل سورة البقرة في الطول ، واختلف لم سقط سطر بسم الله الرحمن الرحيم من أولها ، فقال عثمان بن عفان أشبهت معانيها معاني الأنفال وكانت تدعى القرينتين في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطول ، وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة ، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان.

قال القاضي أبو محمد : ويعزى هذا القول للمبرد وهو لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا كما يبدأ المخاطب الغاضب أما بعد ، دون تقريظ ولا استفتاح بتبجيل ، وروي أن كتبة المصحف في مدة عثمان اختلفوا في الأنفال وبراءة ، هل هي سورة واحدة أو هما سورتان؟ فتركوا فصلا بينهما مراعاة لقول من قال هما سورتان ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم مراعاة لقول من قال منهم هما واحدة فرضي جميعهم بذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول يضعفه النظر أن يختلف في كتاب الله هكذا ، وروي عن أبيّ بن كعب أنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا بوضع بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة ، ولم يأمرنا في هذا بشيء فلذلك لم نضعه نحن ، وروي عن مالك أنه قال : بلغنا أنها كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة ، فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه ، وسورة براءة من آخر ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحكى عمران بن جدير أن أعرابيا سمع سورة براءة فقال أظن هذه من آخر ما أنزل الله على رسوله ، فقيل له لم تقول ذلك؟ فقال أرى أشياء تنقص وعهودا تنبذ.

قوله عزوجل :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ


وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣)

(بَراءَةٌ) رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الآيات براءة ، ويصح أن ترتفع بالابتداء والخبر في قوله : (إِلَى الَّذِينَ) وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما ، وجاز الإخبار عنها ، وقرأ عيسى بن عمر «براءة» بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء ، و (بَراءَةٌ) معناها تخلص وتبرؤ من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض ، تقول برئت إليك من كذا ، فبرىء الله تعالى ورسوله بهذه الآية إلى الكفار من تلك العهود التي كانت ونقضها الكفار ، وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون من «من» ، وهذه الآية حكم من الله عزوجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم أو تحسس من جهتهم نقض ، ولما كان عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازما لأمته حسن أن يقول (عاهَدْتُمْ) قال ابن إسحاق وغيره من العلماء : كانت العرب قد وافقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهدا عاما على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو ذلك من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة الأشهر بلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر من أربعة أشهر أتم له عهده ، إلا إن كان ممن تحسس منه نقض فإنه قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة الأشهر «يسيح فيها» في الأرض أي يذهب مسرحا آمنا كالسيح من الماء وهو الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد : [السريع]

لو خفت هذا منك ما نلتني

حتى نرى خيلا أمامي تسيح

وهذا ينبىء عن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشعر من الكفار نقضا وتربصا به إلا من الطائفة المستثناة ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أول الأشهر الأربعة شوال وحينئذ نزلت الآية ، وانقضاؤها عند انسلاخ الأشهر الحرم وهو انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين يوما فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم نزول الآية ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.

قال القاضي أبو محمد : اعترض هذا بأن الأجل لا يلزم إلا من يوم سمع ويحتمل أن البراءة قد كانت سمعت من أول شوال ، ثم كرر إشهارها مع الأذان يوم الحج الأكبر ، وقال السدي وغيره : بل أولها يوم الأذان وآخرها العشر من ربيع الآخر ، وهي الحرم استعير لها الاسم بهذه الحرمة والأمن الخاص الذي رسمه الله وألزمه فيها ، وهي أجل الجميع ممن له عهد وتحسس منه نقض وممن لا عهد له ، وقال الضحاك وغيره من العلماء : كان من العرب من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة ، وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم النقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا ، فقوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه ، وأول هذا الأجل


يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر ، وقوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة ، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم ، وقوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) ، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض ، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة عاهد لهم المخش بن خويلد وكان تبقى من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر : وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما أجل الله أربعة أشهر من كان عهده ينصرم عند انقضائها أو قبله ، والمعنى فقل لهم يا محمد سيحوا ، وأما من كان له عهد يتمادى بعد الأربعة الأشهر فهم الذين أمر الله لهم بالوفاء ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) ، معناه واعلموا أنكم لا تفلتون الله ولا تعجزونه هربا من عقابه ، ثم أعلمهم بحكمه بخزي الكافرين ، وذلك حتم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وقوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) الآية ، (وَأَذانٌ) معناه إعلام وإشهار ، و (النَّاسِ) هاهنا عام في جميع الخلق ، و (يَوْمَ) منصوب على الظرف والعامل فيه (أَذانٌ) وإن كان قد وصف فإن رائحة الفعل باقية ، وهي عاملة في الظروف ، وقيل لا يجوز ذلك إذ قد وصف المصدر فزالت عنه قوة الفعل ، ويصح أن يعمل فيه فعل مضمر تقتضيه الألفاظ ، وقيل العامل فيه صفة الأذان وقيل العامل فيه (مُخْزِي).

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) قال عمر وابن عمر وابن المسيب وغيرهم : هو يوم عرفة ، وقال به علي ، وروي عنه أيضا أنه يوم النحر ، وروي ذلك عن أبي هريرة وجماعة غيرهم ، وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذ كانت الحمس تقف بالمزدلفة وكان الجمع يوم النحر بمنى ، فلذلك كانوا يسمونه الحج الأكبر أي من الأصغر الذي هم فيه مفترقون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا زال في حجة أبي بكر لأنه لم يقف أحد بالمزدلفة ، وقد ذكر المهدوي أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر ، والذي تظاهرت به الأحاديث في هذا المعنى أن عليا رضي الله عنه أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعلم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره ، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، فمن هنا يترجح قول سفيان إن (يَوْمَ) في هذه الآية بمعنى أيام ، بسبب ذلك قالت طائفة (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) عرفة حيث وقع أول الأذان وقالت طائفة أخرى : هو يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان ، واحتجوا أيضا بأنه من فاته الوقوف يوم عرفة فإنه يجزيه الوقوف ليلة النحر ، فليس يوم عرفة على هذا يوم الحج الأكبر.

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا ، وقال سفيان بن عيينة : المراد أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل يريد جميع أيامه ، وقال مجاهد (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حيث كانوا بذي المجاز وعكاظ حين نودي فيهم ألا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما قال عثمان لعمر حين عرض عليه زواج حفصة : إني قد رأيت ألا


أتزوج يومي هذا ، وكما ذكر سيبويه : تقول لرجل : ما شغلك اليوم؟ وأنت تريد في أيامك هذه ، واختلف لم وصف بالأكبر؟ فقال الحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون وصادف أيضا عيد اليهود والنصارى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف أن يصفه الله في كتابه بالكبر لهذا ، وقال الحسن أيضا : إنما سمي أكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وإمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبذت فيه العهود وعز فيه الدين وذل الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج عتاب بن أسيد كان أمر العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه فحقه لهذا أن يسمى أكبر ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : الحج أكبر بالإضافة إلى الحج الأصغر وهي العمرة ، وقال الشعبي : بالإضافة إلى العمرة في رمضان فإنها الحج الأصغر ، وقال مجاهد : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد ، وهذا ليس من هذه الآية في شيء ، وقد تقدم ما ذكره منذر بن سعيد ، ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بإضافة إلى أصغر معين ، بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله ، واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتتح مكة سنة ثمان ، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك ، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك ، فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعة أشياء ، وهي :

لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو له إلى مدته ، وفي بعض الروايات ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها ، فإذا انقضت ف (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).

قال القاضي أبو محمد : وأقول : إنهم كانوا ينادون بهذا كله ، فهذا للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه ، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض ، وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب ، فلام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا كلهم ولم يسح أحد.

قال القاضي أبو محمد : وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر عليا أن يقرأ على الناس الأربعين آية صدر سورة براءة وقيل ثلاثين ، وقيل عشرين ، وفي بعض الروايات عشر آيات ، وفي بعضها تسع آيات ، ذكرها النقاش ، وقال سليمان بن موسى الشامي ثمان وعشرون آية ، فلحق علي أبا بكر في الطريق فقال له أبو بكر أمير أو مأمور ، فقال بل مأمور فنهضا حتى بلغا


الموسم ، فلما خطب أبو بكر بعرفة : قال : قم يا علي ، فأدّ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام علي ففعل ، قال ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر ، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر ، وقرأ جمهور الناس «أن الله بريء» بفتح الألف على تقدير بأن الله ، وقرأ الحسن والأعرج : «إن الله» بكسر الألف على القطع ، إذ الأذان في معنى القول ، وقرأ جمهور الناس «ورسوله» بالرفع على الابتداء وحذف الخبر «ورسوله بريء منهم» ، هذا هو عند شيخنا الفقيه الأستاذ أبي الحسن بن الباذش رحمه‌الله معنى العطف على الموضع ، أي تؤنس بالجملة الأولى التي هي من ابتداء وخبر فعطفت عليها هذه الجملة ، وقيل هو معطوف على موضع المكتوبة قبل دخول «أن» التي لا تغير معنى الابتداء بل تؤكده وإذ قد قرئت بالكسر لأنه لا يعطف على موضع «أن» بالفتح ، وانظره فإنه مختلف في جوازه ، لأن حكم «أن» رفع حكم الابتداء إلا في هذا الموضع وما أشبهه ، وهذا قول أبي العباس وأبي علي رحمهما‌الله ، ومذهب الأستاذ على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه «أن» إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ولأنه لا فرق بين «أن» وبين ليت ولعل ، والإجماع أن لا موضع لما دخلت عليه هذه وقيل عطف على الضمير المرفوع الذي في «بريء» ، وحسن ذلك أن المجرور قام مقام التوكيد ، كما قامت «لا» في قوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «رسوله» بالنصب عطفا على لفظ المكتوبة ، وبهذه الآية امتحن معاوية أبا الأسود حتى وضع النحو إذ جعل قارئا يقرأ بخفض «ورسوله» ، والمعنى في هذه الآية بريء من عهودهم وأديانهم براءة عامة تقتضي المحارجة وإعمال السيف ، وقوله (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي عن الكفر ووعدهم مع شرط التوبة وتوعدهم مع شرط التولي ، وجاز أن تدخل البشارة في المكروه لما جاء مصرحا به مرفوع الاشكال.

قوله عزوجل :

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره في المشركين الذين بقي من عهدهم تسعة أشهر وكانوا قد وفوا بالعهد على ما يجب ، وقال قتادة : هم قريش الذين عوهدوا زمن الحديبية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الأذان بهذا كله ، وقال ابن عباس : قوله (إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى الأربعة الأشهر التي في الآية ، وقرأ الجمهور «ينقصوكم» بالصاد غير منقوطة ، وقرأ عطاء بن يسار وعكرمة وابن السميفع «ينقضوكم» بالضاد من النقض وهي متمكنة مع العهد ولكنها قلقة في تعديها إلى الضمير ، ويحسن ذلك أن النقض نقض وفاء وحق للمعاهد ، وكذلك تعدى «أتموا» ب «إلى» لما


كان العهد في معنى ما يؤدى ويبرأ به وكأنهم يقتضون العهد ، و (يُظاهِرُوا) معناه يعاونوا ، والضمير المعين ، وأصله من الظهر كان هذا يسند ظهره إلى الآخر والآخر كذلك وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى ، وقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الآية ، الانسلاخ خروج الشيء عن الشيء المتلبس به كانسلاخ الشاة عن الجلد والرجل عن الثياب ، ومنه قوله تعالى : (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] فشبه انصرام الأشهر أسمائها وأحكامها من الزمن بذلك ، وقد تقدم القول فيمن جعل له انقضاء الأشهر الحرم أجلا وما المعنى ب (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) بما أغنى عن إعادته ، وقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، أمر بقتال المشركين فخرج الأمر بذلك بلفظ اقتلوا على جهة التشجيع وتقوية النفس ، أي هكذا يكون أمركم معهم ، وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو مهادنة وما جرى مجرى ذلك وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية ، وقال الضحاك والسدي وعطاء : هذه الآية منسوخة بقوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤٧] وقالوا لا يجوز قتل أسير البتة صبرا إما أن يمن عليه وإما أن يفادى ، وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤٧] منسوخ بهذه الآية ، وقالوا لا يجوز المن على أسير ولا مفاداته ، ولا شيء إلا القتل ، وقال ابن زيد : هما محكمتان.

قال القاضي أبو محمد : ولم يفسر أكثر من هذا ، وقوله هو الصواب ، والآيتان لا يشبه معنى واحدة ، معنى الأخرى ، وذلك أن هذه الآية قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) أفعال إنما تمتثل مع المحارب المرسل المناضل ، وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم وإذا أخذ الكافر خرج عن درجات هذه الآية وانتقل إلى حكم الآية الأخرى ، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير ، فقول ابن زيد هو الصواب ، وقوله (خُذُوهُمْ) معناه الأسر ، وقوله (كُلَّ مَرْصَدٍ) معناه في مواضع الغرة حيث يرصدون ، وقال النابغة : [الطويل]

أعاذل إن الجهل من لذة الفتى

وإن المنايا للنفوس بمرصد

ونصب (كُلَ) على الظرف ، وهو اختيار الزجّاج ، أو بإسقاط الخافض التقدير في كل مرصد ، أو على كل مرصد ، وحكى سيبوية ضرب الظهر والبطن ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) يريد من الكفر فهي متضمنة الإيمان ، ثم قرن بها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على مكان الصلاة والزكاة من الشرع ، وقوله (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) تأمين ، وقال أنس بن مالك : هذا هو دين الله الذي جاءت به الرسل وهو من آخر ما نزل قبل اختلاف الأهواء ، وفيه قال النبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الدنيا مخلصا لله تعالى مطيعا له لقي الله وهو عنه راض» ، ثم وعد بالمغفرة في صيغة الخبر عن أوصافه تعالى.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية بعد الأمر بقتال المشركين بأن يكون متى طلب


مشرك عهدا يأمن به يسمع القرآن ويرى حال الإسلام أن يعطيه ذلك ، وهي الإجارة وهو من الجوار ، ثم أمر بتبليغه المأمن إذا لم يرض الإسلام ولم يهد إليه ، قال الحسن : هي محكمة سنة إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد وقال الضحاك والسدي : هذا منسوخ بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ، وقال غيرهما : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا ، وقوله سبحانه : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) يعني القرآن وهي إضافة صفة إلى موصوف لا إضافة خلق إلى خالق ، والمعنى ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه ، فذكر السماع بالأذان إذ هو الطريق إلى الفهم وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملا بمعنى الفهم كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك أنت لم تسمع قولي تريد لم تفهمه ، وذلك في كتاب الله تعالى في عدة مواضع ، و (أَحَدٌ) في هذه الآية مرتفع بفعل يفسره قوله (اسْتَجارَكَ) ويضعف فيه الابتداء لولاية الفعل ، لأن قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ولا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ).

الآية لفظ استفهام وهو على جهة التعجب والاستبعاد ، أي على أي وجه يكون للمشركين عهد وهم قد نقضوا وجاهروا بالتعدي ثم استثنى من عموم المشركين القوم الذين عوهدوا عند المسجد الحرام أي في ناحيته وجهته ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : المعني بهذا قريش ، وقال السدي : المعني بنو خزيمة بن الديل ، وقال ابن إسحاق : هي قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض ، وقال قوم : المعني خزاعة قاله مجاهد وهو مردود بإسلام خزاعة عام الفتح ، وقال بعض من قال إنهم قريش إن هذه الآية نزلت فلم يستقيموا بل نقضوا فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك ، وحكى الطبري هذا القول عن ابن زيد وهو ضعيف متناقض ، لأن قريشا وقت الأذان بالأربعة الأشهر لم يكن منهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة وكذلك خزاعة ، قاله الطبري وغيره ، وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يريد به الموفين بالعهد من المؤمنين ، فلذلك جاء بلفظ مغترق الوفاء بالعهد متضمن الإيمان.

قوله عزوجل :

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١٠)

بعد (كَيْفَ) في هذه الآية فعل مقدر ولا بد ، يدل عليه ما تقدم ، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر : [الطويل]

وخير تماني إنما الموت في القرى

فكيف وهاتا هضبة وكثيب

وفي (كَيْفَ) هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى ، و (لا يَرْقُبُوا) معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل


الارتقاب بالبصر ، ومنه الرقيب في الميسر وغيره ، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه ، وقرأ جمهور الناس «إلّا» وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام «إيلا» ، وقرأت فرقة «ألا» بفتح الهمزة ، فأما من قرأ «إلا» فيجوز أن يراد به الله عزوجل قاله مجاهد وأبو مجلز ، وهو اسمه بالسريانية ، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل ، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلا ، ومنه قول أبي جهل : [الطويل]

لإل علينا واجب لا نضيعه

متين فواه غير منتكث الحبل

ويجوز أن يراد به القرابة ، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل ، ومنه قول ابن مقبل : [الرمل]

أفسد الناس خلوف خلّفوا

قطعوا الإل وأعراق الرحم

أنشده أبو عبيدة على القرابة ، وظاهره أنه في العهود ، ومنه قول حسان : [الوافر]

لعمرك أن إلّك في قريش

كإل السقب من رال النعام

وأما من قرأ «ألا» بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد ، ومن قرأ «إيلا» فيجوز أن يراد به الله عزوجل ، فإنه يقال أل وأيل ، وفي البخاري قال جبر ، وميك ، وسراف : عبد بالسريانية ، وأيل الله عزوجل ، ويجوز أن يريد (إِلًّا) المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما ، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه : [البسيط]

يا ليت أمنا شالت نعامتها

أيما إلى جنة أيما إلى نار

ومنه قول عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحي وأما بالعشي فيخصر

وقال آخر : [الرجز]

لا تفسدوا آبا لكم

أيما لنا أيما لكم

قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس.

قال القاضي أبو محمد : كما قال عمر بن الخطاب : قد ألنا وإيل علينا فكان المعنى على هذا لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها ، و «الذمة» أيضا بمعنى المتات والحلف والجوار ، ونحوه قول الأصمعي الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى ، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب ، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين ، (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة ، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل ، وقد حكي ركن يركن ، وقوله (وَأَكْثَرُهُمْ) يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل ، وقوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) الآية اللازم من ألفاظ هذه الآية أن هذه


الطائفة الكافرة الموصوفة بما تقدم لما تركت آيات الله ودينه وآثرت الكفر وحالها في بلادها كل ذلك كالشراء والبيع ، لما كان ترك قد مكنوا منه وأخذ لما يمكن نبذه ، وهذه نزعة مالك رحمه‌الله في منع اختيار المشتري فيما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز التفاضل فيه ، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة وقوله (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) يريد صدوا أنفسهم وغيرهم ، ثم حكم عليهم بأن عملهم سيء ، و (ساءَ) في هذه الآية إذ لم يذكر مفعولها يحتمل أن تكون مضمنة كبئس ، فأما إذا قلت ساءني فعل زيد فليس تضمين بوجه ، وإن قدرت في هذه الآية مفعولا زال التضمين ، وروي أن أبا سفيان بن حرب جمع بعض العرب على طعام وندبهم إلى وجه من وجوه النقض فأجابوا إلى ذلك فنزلت الآية ، وقال بعض الناس : هذه في اليهود.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول وإن كانت ألفاظ هذه الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه ، ويختل أسلوب القول به ، وقوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ) الآية ، وصف لهذه الطائفة المشترية يضعف ما ذهب إليه من قال إن قوله (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) هو في اليهود ، وقوله تعالى : (فِي مُؤْمِنٍ) إعلام بأن عداوتهم إنما هي بحسب الإيمان فقط ، وقوله أولا (فِيكُمْ) كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت فزال هذا الاحتمال بقوله (فِي مُؤْمِنٍ) ، ثم وصفهم تعالى بالاعتداء والبداءة بالنقض للعهود والتعمق في الباطل.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢)

(تابُوا) رجعوا عن حالهم ، والتوبة منهم تتضمن الإيمان ، ثم قرن تعالى بإيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة ، وقال ابن زيد : قرن الله الصلاة بالزكاة ولم يرض بإحداهما دون الأخرى.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا مر أبو بكر رضي الله عنه وقت الردة ، و «الأخوة في الدين» هي أخوة الإسلام وجمع الأخ منها إخوان وجمعه من النسب إخوة قاله بعض اللغويين ، وقد قيل إن الأخ من النسب يجمع على إخوان أيضا وذلك ظاهر من قوله تعالى (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) [النور : ٦١] ويبين ذلك قوله تعالى في آخر الآية (أَوْ صَدِيقِكُمْ) [النور : ٦١] وكذلك قوله في هذه السورة (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ) [التوبة : ٢٤] ، فأما الأخ من التوادّ ففي كتاب الله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ، وقال أبو هريرة في البخاري كان إخوتي من المهاجرين يشغلهم صفق بالأسواق فيصح من هذا كله أن الأخ يجمع إخوة وإخوانا سواء كان من نسب أو مودة ، وتفصيل الآية بيانها وإيضاحها ، وقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) الآية ؛ النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل ، فهي في الأيمان والعهود مستعارة ، وقوله


(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي بالاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك ، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمر أسامة : إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، الحديث.

قال القاضي أبو محمد : ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه : إذا فعل شيئا من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوه قتل ، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدّب على الإعلان وترك ، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل ، وقال أبو حنيفة في هذا : إنه يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإسلام يجب ما قبله» ، وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالا من المسلم ، وقوله تعالى (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه ، وقال قتادة : المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير ، وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعد.

قال القاضي أبو محمد : يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبدا ويقتلون ، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين ، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولا بقوله (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أيمة» بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة ، وقد روي عن نافع مد الهمزة ، وروى عنه ابن أبي أويس «أأمة» بهمزتين وأصلها «أأمة» وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة ، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «أأمة» والتعليل واحد ، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء ، وقرأ المسيبي عن نافع «آئمة» بهمزة ممدودة ، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين ، وقرأ الناس الجم الغفير لا «أيمان لهم» على جمع يمين ، وليس المراد نفي الأيمان جملة ، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر ، وهذا المعنى يشبه الآية ، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة «لا إيمان لهم» ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق ، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم «لا إيمان لهم» فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيمانا ، ومنه قوله تعالى : (آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف ، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم.

قال القاضي أبو محمد : والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم.


قوله عزوجل :

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

قوله (أَلا تُقاتِلُونَ) عرض وتحضيض ، وقوله (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، قال الحسن بن أبي الحسن : المراد من المدينة ، وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وقال السدي : المراد من مكة فهذا على أن يكون المعنى هموا وفعلوا ، أو على أن يقال هموا بإخراجه بأيديهم فلم يصلوا إلى ذلك بل خرج بأمر الله عزوجل ، وهذا يجري مع إنكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي سفيان بن الحارث قوله : [الطويل]

وردني إلى الله من

طردته كل مطرد

ولا ينسب الإخراج إليهم إلا إذا كان الكلام في طريق تذنيبهم كما قال تعالى : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ١٢٧] وقوله : (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] والأول هو على أن ما فعلوا به من أسباب الإخراج هو الإخراج ، وقوله (أَوَّلَ مَرَّةٍ) قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين ، وقال مجاهد : يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان هذا بدء النقض ، وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر ، وقوله (أَتَخْشَوْنَهُمْ) استفهام على معنى التقرير والتوبيخ ، وقوله (فَاللهُ) مرتفع بالابتداء و (أَحَقُ) خبره ، و (أَنْ تَخْشَوْهُ) بدل من اسم الله بدل اشتمال أو في موضع نصب على إسقاط خافض تقديره بأن تخشوه ، ويجوز أن يكون «الله» ابتداء و (أَحَقُ) ابتداء ثان و (أَنْ تَخْشَوْهُ) خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا أي رجلا كاملا ، فهذا معناه إن كنتم مؤمنين كاملي الإيمان ، لأن إيمانهم قد كان استقر ، وقوله (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) الآية ، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حضض على القتال مقترنا بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك ، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم ، وقوله (يُعَذِّبْهُمُ) معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب ، (وَيُخْزِهِمْ) معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من حيث وقع في عار ، وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيا ، وأما قوله (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين ، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين ، وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير ، ويقتضي ذلك قول الخزاعي عن المستنصر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الرجز]

ثمّت أسلمنا فلم تنزع يدا


وفي آخر الرجز :

وقتلونا ركّعا وسجّدا

وقرأ جمهور الناس «ويذهب غيظ قلوبهم» على إسناد الفعل إلى الله عزوجل ، وقرأت فرقة «ويذهب غيظ قلوبهم» على إسناد الفعل إلى الغيظ ، وقرأ جمهور الناس «يتوب» بالرفع على القطع مما قبله ، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم ، قال أبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في (قاتِلُوهُمْ) على قراءة النصب ، وإنما الوجه الرفع على الاستئناف والقطع ، وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد وأبو عمرو فيما روي عنه «ويتوب» بالنصب على تقدير وأن يتوب ، ويتوجه ذلك عندي إذا ذهبت إلى أن التوبة إنما يراد بها هنا أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال ، و (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) صفتان نسبتهما إلى الآية واضحة.

قوله عزوجل :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)(١٧)

(أَمْ) في هذه الآية ليست المعادلة ، وإنما هي المتوسطة في الكلام ، وهي عند سيبويه التي تتضمن إضرابا عن اللفظ لا عن معناه ، واستفهاما فهي تسد مسد بل وألف الاستفهام ، وهي التي في قولهم : «إنها لإبل أم شاء» التقدير بل أهي شاء ، وقوله (أَنْ تُتْرَكُوا) يسد عند سيبويه مسد مفعولي «حسب» ، وقال المبرد : «أن» وما بعدها مفعول أول والثاني محذوف.

قال القاضي أبو محمد : كان تقديره مهملين أو سدى ونحو ذلك ، وقوله (وَلَمَّا) هي دخلت على لم وفيها مبالغة ، ومعنى الآية أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان؟ ف (لَمَّا) في هذه الآية بمنزلة قول الشاعر [الفرزدق] : [الطويل]

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلّت

قال القاضي أبو محمد : والمراد بقوله (وَلَمَّا يَعْلَمِ) لما يعلم ذلك موجودا كما علمه أزلا بشرط الوجود ولما يظهر فعلكم واكتسابكم الذي يقع عليه الثواب والعقاب ففي العبارة تجوز وإلا فحتم أنه قد علم الله في الأزل الذين وصفهم بهذه الصفة مشروطا وجودهم ، وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك ، و (وَلِيجَةً) معناه بطانة ودخيلة ، وقال عبادة بن صفوان الغنوي : [الطويل]

ولائجهم في كل مبدى ومحضر

إلى كل من يرجى ومن يتخوف


وهو مأخوذ من الولوج ، فالمعنى أمرا باطنا مما ينكره الحق ، وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] وكقوله (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ـ ٢] وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند ما فرض القتال ، وقرأ جمهور الناس «والله خبير بما تعملون» بالتاء على المخاطبة ، وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الحكاية عن الغائب ، وقوله تعالى (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) الآية ، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا ، وهذا هو الذي نفى الله عزوجل وإلا فقد عمروا مساجده قديما وحديثا وتغلبا وظلما ، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله» بالإفراد في الموضعين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد» بالجمع في الموضعين ، وقرأ ابن كثير أيضا وأبو عمرو «مسجد» بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد» بالجمع في الثاني ، كأنه ذكر أولا فيه النازلة ذلك الوقت ، ثم عمت المساجد ثانيا في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا ، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها ، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجدا ثم يجمع ، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده ، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له ، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام ، وقوله (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به ، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك ، وحكى الطبري عن السدي أنه قال : الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أنا نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لم يحفظ ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم (حَبِطَتْ) أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل ، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلا وهو الذي في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» الحديث.

قوله عزوجل :

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٩)

المعنى في هذه الآية (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) بالحق لهم والواجب ، ولفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، وقد قال بعض السلف إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به


الظن ، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا عليه بالإيمان» وقد تقدم القول في قراءة مسجد ، وقوله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) يتضمن الإيمان بالرسول إذ لا يتلقى ذلك إلا منه ، وقوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) حذفت الألف من «يخشى» للجزم ، قال سيبويه : واعلم أن الأخير إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع ، ويريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، وهذه المرتبة العدل بين الناس ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه ، و «عسى» من الله واجبة حيثما وقعت في القرآن ، ولم يرج الله بالاهتداء إلا من حصل في هذه المرتبة العظيمة من العدالة ، ففي هذا حض بليغ على التقوى ، وقرأ الجمهور «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام» وقرأ ابن الزبير وأبو حمزة ومحمد بن علي وأبو جعفر القاري «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» ، وقرأها كذلك ابن جبير إلا أنه نصب «المسجد» على إرادة التنوين في «عمرة» وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القاري «سقاية الحاج» بضم السين «وعمرة» ، فأما من قرأ «سقاية وعمارة» ففي الكلام عنده محذوف إما في أوله وإما في آخره فإما أن يقدر «أجعلتم أهل سقاية» وإما أن يقدر كفعل من آمن بالله. وأما من قرأ «سقاة» و «عمرة» فنمط قراءته مستو ، وأما قراءة الضحاك فجمع ساق إلا أنه ضم أوله كما قالوا عرف وعراف وظئر وظؤار ، وكان قياسه أن يقال سقاء وإن أنث كما أنث من الجموع حجارة وغيره. فكان القياس سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني ، و (سِقايَةَ الْحاجِ) كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني ، و (سِقايَةَ الْحاجِ) كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، قال الحسن : ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقيموا عليها فإنها لكم خير ، (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ) قيل هي حفظه من الظلم فيه ويقال هجرا ، وكان ذلك إلى العباس ، وقيل هي السدانة خدمة البيت خاصة ، وكانت في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الدار ، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة المذكور هذان هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان وشيبة : «يوم وفاء وبر خذوها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم».

قال القاضي أبو محمد : يعني السدانة واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقيل إن كفار قريش قالوا لليهود إنّا نسقي الحجيج ونعمر البيت ، أفنحن أفضل أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه؟ فقالت لهم أحبار اليهود بل أنتم ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إن الكفار افتخروا بهذه الأشياء فنزلت الآية في ذلك ، وأسند الطبري إلى النعمان بن بشير أنه قال : كنت عند منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه ، فقال أحدهم ما أتمنى بعد الإسلام إلا أن أكون ساقي الحاج ، وقال الآخر إلا أن أكون خادم البيت وعامره ، وقال الثالث إلا أن أكون مجاهدا في سبيل الله ، فسمعهم عمر بن الخطاب فقال : اسكتوا حتى أدخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأستفتيه فدخل عليه فاستفتاه فنزلت الآية في ذلك ، وقال ابن عباس والضحاك : إن المسلمين عيروا أسرى بدر بالكفر فقال العباس بل نحن سقاة الحاج وعمرة البيت فنزلت الآية في ذلك ، وقال مجاهد : أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب للكعبة فلا نهاجر


فنزلت (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) إلى قوله (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، وقال مجاهد وهذا كله قبل فتح مكة ، وقال محمد بن كعب : إن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فقال العباس أنا ساقي الحاج وقال عثمان أنا عامر البيت ولو شئت بت فيه وقال علي أنا صاحب جهاد الكفار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي آمنت وهاجرت قديما ، فنزلت الآية في ذلك.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)

لما حكم الله تعالى في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا يستوون بين ذلك في هذه الآية الأخيرة وأوضحه ، فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس ، وحكم أن أهل هذه الخصال (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من جميع الخلق ، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه ، والفوز بلوغ البغية إما في نيل رغبته أو نجاة من مهلكة ، وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث الذي جاء «دعوا لي أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».

قال القاضي أبو محمد : لأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام وهم ردوا الناس إلى الشرع ، وقوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) الآية ، هذه آية وعد ، وقراءة الناس «يبشّرهم» بضم الياء وكسر الشين المشددة ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وحميد بن هلال «يبشرهم» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين خفيفة ، وأسند الطبري إلى جابر بن عبد الله أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عزوجل أعطيتكم أفضل من هذا ، فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ قال : رضواني» ، وفي البخاري في كتاب السنة منه «فلا أسخط عليكم أبدا» ، وقرأ الجمهور «ورضوان» بكسر الراء ، وقرأ عاصم وعمرو «ورضوان» بضم الراء وقرأ الأعمش بضم الراء والضاد جميعا ، قال أبو حاتم لا يجوز هذا وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ) الآية ، ظاهر هذه المخاطبة أنها لجميع المؤمنين كافة ، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة ، وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر ، فالمخاطبة على هذا هي للمؤمنين الذين كانوا في مكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا بأن لا يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر ، ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء و «إخوان» في هذه الآية جمع أخ النسب ، وكذلك هو في قوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) [النور : ٦١] وقرأ عيسى بن عمر «أن استحبوا» بفتح الألف من «أن» وقرأ الجمهور «إن» بكسر الألف على الشرط ، و (اسْتَحَبُّوا) متضمنة معنى فضلوا


وآثروا ولذلك تعدت ب «على» ، ثم حكم الله عزوجل بأن من والاهم واتبعهم في أغراضهم فإنه ظالم أي واضع للشيء غير موضعه ، وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.

قوله عزوجل :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة ، وفي ضمن قوله : (فَتَرَبَّصُوا) وعيد بين ، وقوله : (بِأَمْرِهِ) قال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، وقال مجاهد : الإشارة إلى فتح مكة ، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلبوا ما يكون لكم أجرا ومكانة في الإسلام.

قال القاضي أبو محمد : وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة ، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة ، وقرأ جمهور الناس «وعشيرتكم» ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم» ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به ، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، و (اقْتَرَفْتُمُوها) معناه اكتسبتموها ، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء ، (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) بيّن في أنواع المال ، وقال ابن المبارك : الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب ، (وَمَساكِنُ) جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى ، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ، والمساكن القصور والدور ، و (أَحَبَ) خبر كان ، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبّ» بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف ، وذكر له رفع أحب فنفاه.

قال القاضي أبو محمد : وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن ولم يقرأ بذلك ، وقوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق.

قوله عزوجل :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ


كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و (مَواطِنَ) جمع موطن بكسر الطاء ، والموطن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن» المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف (مَواطِنَ) لأنه جمع ونهاية جمع ، (وَيَوْمَ) عطف على موضع قوله (فِي مَواطِنَ) أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و (حُنَيْنٍ) واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [حسان رضي الله عنه] : [الكامل]

نصروا نبيّهم وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال

وقوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفا قال : لن نغلب اليوم من قلة ، وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما» مصدرية ، وقوله (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) يريد فرار الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه‌الله ، فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عزوجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقا واحدا وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير.


وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في أربعة عشر ألفا ، وهذا غلط ، و (مُدْبِرِينَ) نصب على الحال المؤكدة كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الأدبار ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) الآية ، (ثُمَ) هاهنا على بابها من الترتيب ، و «السكينة» النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والحال ، والإشارة بالمؤمنين إلى الأنصار على ما روي ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى في ذلك اليوم يا معشر الأنصار ، فانصرفوا وهم ردوا الهزيمة ، و «الجنود» الملائكة ، و «الرعب» قال أبو حاجز يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب ، «وعذاب الذين كفروا» هو القتل الذي استحرّ فيهم والأسر الذي تمكن في ذراريهم ، وكان مالك بن عوف النصري قد أخرج الناس بالعيال والذراري ليقاتلوا عليها ، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة ، وقال لمالك بن عوف راعي ضأن وهل يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة ، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ، ويقال ابن الدغنة وقوله (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨)

قال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما : صفة المشرك بالنجس إنما كانت لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي كنجاسة الخمر ، قال الحسن البصري : من صافح مشركا فليتوضأ.

قال القاضي أبو محمد : فمن قال بسبب الجنابة أوجب الغسل على من يسلم من المشركين ، ومن قال بالقول الآخر لم يوجب الغسل ، والمذهب كله على القول بإيجاب الغسل إلا ابن عبد الحكم فإنه قال : ليس بواجب ، وقرأ أبو حيوة «نجس» بكسر النون وسكون الجيم ، ونص الله تعالى في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام ، فقاس مالك رحمه‌الله غيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور : ٣٦] ، وقال الشافعي هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد ، ومن حجته حديث ربط ثمامة بن أثال ، وقال أبو حنيفة هي خاصة في عبدة الأوثان وفي المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى في المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد ، وقال عطاء : وصف المسجد بالحرام ومنع القرب يقتضي منعهم من جميع الحرم.


قال القاضي أبو محمد : وقوة قوله (فَلا يَقْرَبُوا) يقتضي أمر المسلمين بمنعهم ، وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا لمسلم ، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع ، واختلف في أهل الكتاب ، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون ، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين ، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك ، وقوله (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يريد بعد عام تسع من الهجرة وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة ، وأما قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قال عمرو بن فائد : المعنى وإذ خفتم.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة والمعنى بارع بإن ، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش؟ فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله ، قال الضحاك : ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة ، بقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [التوبة : ٢٩] إلى قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، و «العيلة» الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، قال الشاعر : [أحيحة]

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود ، «عايلة» وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل ، وكالعاقبة والعافية ، ويحتمل أن تكون نعتا لمحذوف تقديره حالا عائلة ، وحكى الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر.

قوله عزوجل :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

هذه الأشياء تضمنت قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية ، قال مجاهد : وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك ، ومن جعل أهل الكتاب مشركين فهذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عزوجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذ تلقوها من غير طريقها ، وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا : عزير ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك ، ولهم أيضا في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان ، وقول اليهود في النار نكون فيها أياما بعد ونحو ذلك ، وأما قوله (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فبين ، ونص على مخالفتهم لمحمد


صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما قوله (وَلا يَدِينُونَ) فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون ، ومنه قول عائشة : ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين ، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا الشريعة ، وهي مثل قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، وأما قوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك ، وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، فقال كثير من العلماء معنى ذلك في أخذ الجزية منهم ، وليسوا أهل الكتاب ، فعلى هذا لم يتعد التشبيه إلى ذبائحهم ومناكحهم ، وهذا هو الذي ذكره ابن حبيب في الواضحة ، وقال بعض العلماء : معناه سنوا بهم سنة أهل الكتاب إذ هم أهل كتاب ، فعلى هذا يتجه التشبيه في ذبائحهم وغيرها ، والأول هو قول مالك وجمهور أصحابه ، وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، وأما مجوس العرب فقال ابن وهب : لا تقبل منهم جزية ولا بد من القتال أو الإسلام ، وقال سحنون وابن القاسم وأشهب : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها ، وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستثن الله فيهم جزية ولا بقي منهم على الأرض بشر ، قال ابن حبيب وإنما لهم القتال أو الإسلام وهو قول ابن حنيفة.

قال القاضي أبو محمد : ويوجد لابن القاسم أن الجزية تؤخذ منهم ، وذلك أيضا في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص ، وأما أهل الكتاب من العرب فذهب مالك رحمه‌الله إلى أن الجزية تؤخذ منهم ، وأشار إلى المنع من ذلك أبو حنيفة ، وأما السامرة والصابئون فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم ، وقالت فرقة لا تؤكل ذبائحهم ، وعلى هذا لا تؤخذ الجزية منهم ، ومنع بعضهم الذبيحة مع إباحة أخذ الجزية منهم ، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم ، وهو قول مالك في المدونة ، وقال الشافعي وأبو ثور : لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط ومذهب مالك رحمه‌الله أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، ولا تضرب على الصبيان والنساء والمجانين ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين ، قال مالك في الواضحة : وأما إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا بعد ذلك فلا تسقط عنهم ، وأما رهبان الكنائس فتضرب عليهم ، واختلف في الشيخ الفاني ، ومن راعى أن علتها الإذلال أمضاها في الجميع وقال النقاش : العقوبات الشرعية تكون في الأموال والأبدان فالجزية من عقوبات الأموال ، وأما قدرها فذهب رحمه‌الله وكثير من أهل العلم على ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض ... (١) رضي الله عنه ضيافة وأرزاقا وكسوة ، قال مالك في الواضحة ويحط ذلك عنهم اليوم لما (٢) عليهم من اللوازم ، فهذا أحد ما ذكر عن عمر وبه أخذ مالك ، قال سفيان الثوري رويت عن ... (٣) عمر ضرائب مختلفة.

قال القاضي أبو محمد : وأظن ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه في يسرهم وعسرهم ، وقال

__________________

(١) بياض في الأصل.


الشافعي وغيره : قدر الجزية دينار على الرأس ، ودليل ذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا بذلك وأخذه جزية اليمن كذلك أو قيمته معافر وهي ثياب ، وقال كثير من أهل العلم ليس لذلك في الشرع حد محدود وإنما ذلك إلى اجتهاد الإمام في كل وقت وبحسب قوم قوم ، وهذا كله في العنوة ، وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير ، واختلف في المذهب في العبد الذي يعتقه الذمي أو المسلم هل يلزمه جزية أم لا؟ وقال ابن القاسم لا ينقص أحد من أربعة دنانير كان فقيرا أو غنيا ، وقال أصبغ : يحط الفقير بقدر ما يرى من حاله ، وقال ابن الماجشون : لا يؤخذ من الفقير شيء والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافى عن ما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر : [الكامل]

يجزيك أو يثني عليك وإن من

أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

وقوله تعالى : (عَنْ يَدٍ) يحتمل تأويلات ، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له ، ومنها أن يريد عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتمينهم ، واليد في اللغة النعمة والصنع الجميل ، ومنها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل ، و «اليد» في كلام العرب القوة ، يقال : فلان ذو يد ويقال ليس لي بكذا وكذا يد أي قوة ، ومنها أن يريد أن ينقدوها ولا يؤخروا بها كما تقول بعته يدا بيد ، ومنها أن يريد عن استسلام منهم وانقياد على نحو قولهم ألقى فلان بيده إذا عجز واستسلم ، وقوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) لفظ يعم وجوها لا تنحصر لكثرتها ذكر منها عن عكرمة أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائم ، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم.

قوله عزوجل :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٣٠)

الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة ، وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.

قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله» بتنوين عزير ، والمعنى أن ابنا على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و (عُزَيْرٌ) ونحوه ينصرف عجميا كان أو عربيا ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله» دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن» خبر عن «عزير» وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين ونحوه قراءة من قرأ (أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك : [الرجز]


لتجدنّي بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرا

إذا عطيف السلمي برا

قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن» وقال بعضهم «ابن» صفة ل «عزير» كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله.

قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من «ابن» لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في «عزير» أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيرا كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله.

قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة ، وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حريث بن مخفض : [الطويل]

بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم

وآباؤهم أبناء صدق فأنجبوا

ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [الكامل]

والأرض تحملنا وكانت أمنا

ومنه أحد التأويلات في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي ملازمه والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و (عُزَيْرٌ) نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، وكقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، والمعنى الثاني في قوله (بِأَفْواهِهِمْ) أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى ، و (يُضاهِؤُنَ) قراءة الجماعة ومعناه يحاكون


ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون» بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وإن كان الضمير في (يُضاهِؤُنَ) لليهود والنصارى جميعا فالإشارة بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون (يُضاهِؤُنَ) لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان الضمير في (يُضاهِؤُنَ) للنصارى فقط كانت الإشارة ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله ، و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة (يُؤْفَكُونَ) معناه يحدون.

قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيرا ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيرا. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعد ما تبين لهم ، و «قاتل» في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين.

قوله عزوجل :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

واحد «الأحبار» حبر بكسر الحاء ، ويقال حبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحبر : بالكسر المداد والحبر بالفتح العالم ، و «الرهبان» جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم (أَرْباباً) وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ،


وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عزوجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكى الطبري أن عدي بن حاتم قال : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم. قال فذاك ، (وَالْمَسِيحَ) عطف على الأحبار والرهبان ، و (سُبْحانَهُ) نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيها ، فمعنى (سُبْحانَهُ) تنزيها له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار ، وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) الآية ، (نُورَ اللهِ) في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نورا سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء ، وقالت فرقة : النور القرآن.

قال القاضي أبو محمد : ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور ، وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها ، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه ، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع ، وقوله (وَيَأْبَى) إيجاب يقع بعده أحيانا إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي ، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء : هو إيجاب فيه طرف من النفي ، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الآية ، (رَسُولَهُ) يراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (بِالْهُدى) يعم القرآن وجميع الشرع ، وقوله (وَدِينِ الْحَقِ) إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية ، وقوله (لِيُظْهِرَهُ) قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله ما معناه : إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره.

قال القاضي أبو محمد : فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر ، وقالت فرقة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه.

قال القاضي أبو محمد : فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة : الضمير عائد على الرسول ، ومعنى (لِيُظْهِرَهُ) ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل وإن كان صحيحا جائزا فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين ، وخص (الْمُشْرِكُونَ) هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره العظم والأول ممن كره ذلك وصد فيه ، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقية فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مرارا كثيرة.


قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك ، واللام في (لَيَأْكُلُونَ) لام التأكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه ، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام ، ونحو ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : (بِالْباطِلِ) ، يعم هذا كله ، وقوله (يَصُدُّونَ) ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و «صد» يستعمل واقفا ومتجاوزا ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]

صددت الكأس عنا أم عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

و (سَبِيلِ اللهِ) الإسلام وشريعة محمد عليه‌السلام ، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل ، والأول أرجح ، وقوله (وَالَّذِينَ) ابتداء وخبره (فَبَشِّرْهُمْ) ، ويجوز أن يكون (وَالَّذِينَ) معطوفا على الضمير في قوله يأكلون على نظر في ذلك ، لأن الضمير لم يؤكد ، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال : لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأبي ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها.

قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية ، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال : بل هي فينا ، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة ، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال ، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون» بغير واو ، و (يَكْنِزُونَ) معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية ، ومنه قول المنخل الهذلي : [البسيط]

لا در دري إن أطعمت نازلهم

قرف الحتيّ وعندي البر مكنوز

أي محفوظ في أوعيته ، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظة المال أن يدفنوه حتى تورق


في المدفون اسم الكنز ، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع ، ومنه قول الراجز : [الرجز]

على شديد لحمه كناز

بات ينزيني على أوفاز

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، ولذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل ما أديت زكاته فليس بكنز» ، وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، ولكن قال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] فأتى فرض الزكاة على هذا كله.

قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالا فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) [التوبة : ١٠٣]. والضمير في قوله (يُنْفِقُونَها) يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع ، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [قيس بن الخطيم] : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

ونحن قول حسان : [الخفيف]

إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا

وسيبويه يكره هذا في الكلام ، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وهي لا تشبهها ، لأن «أو» قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر ، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر ، وروي أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه ، فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فسأله ، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه». وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت الآية «تبا للذهب تبا للفضة» ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم ، والفاء في قوله (فَبَشِّرْهُمْ) ، جواب كما في قوله (وَالَّذِينَ) من معنى الشرط ، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط ، وقيل بل هي أبدا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذابا أليما ، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معديكرب] : [الوافر]

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

وقوله تعالى (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) الآية : (يَوْمَ) ظرف والعامل فيه (أَلِيمٍ) وقرأ جمهور الناس


«يحمى» بالياء بمعنى يحمى الوقود ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تحمى» بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم ، وقرأ قوم «جباهم» بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم ، ووردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه ، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم ، فمن تلك الأحاديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك بعده كنزا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع» الحديث. وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر ، وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيتان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه ، ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط ، وليس في الأمة من يلزم هذا ، وقوله (هذا ما كَنَزْتُمْ) إشارة إلى المال الذي كوي به ، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم ، أي هذا جزاء ما كنزتم ، وقال ابن مسعود : والله لا يمس دينار دينارا بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم ، وقال الأحنف بن قيس : دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم ، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش.

قوله عزوجل :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس ، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه‌السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد ، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع ، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية ، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم


المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ، قال مجاهد : ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ثم يسمون ، ربيعا ، ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا ، ففي هذا قال الله عزوجل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أي ليست ثلاثة عشر شهرا ، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ، قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ، وبعد ذلك يندلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ، ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه : أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.

قال القاضي أبو محمد : ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة ، والذي ذكرناه هو بيانها ، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة ، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء ، ولما كانت سنة العرب هلالية بدىء العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر ، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ومعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها ، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها ، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق ، فقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش ، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [عوف بن الأحوص العامري] : [الوافر]

وشهر بني أمية والهدايا

البيت ؛ قال الأصمعي : يريد رجبا ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عشر شهرا» بسكون العين وذلك تخفيف لتوالي الحركات ، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر وقوله (فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض ، و «الكتاب» الذي هو المصدر هو العامل في (يَوْمَ) ، وفي قوله (فِي كِتابِ اللهِ) متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه ، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع ، وتأمل ، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «أن» ، وقوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) نص على تفضيل هذه


الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله ، وقوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، قالت فرقة : معناه الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي : معناه القضاء المستقيم.

قال القاضي أبو محمد : والأصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة لله ، (الْقَيِّمُ) أي القائم المستقيم ، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم ، وقوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الضمير عائد على ال (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله ، وقال قتادة الضمير عائد على الأربعة الأشهر ، ونهي عن الظلم فيها تشريفا لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهيا عنه في كل الزمن ، وزعم النحاة أن العرب تكني عما دون العشرة من الشهور ، فيهن وعما فوق العشرة فيها ، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا ، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له ، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل». ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن ، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة.

قال القاضي أبو محمد : وقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) معناه فيهن فأحرى في غيرهن ، وقوله (كَافَّةً) معناه جميعا وهو مصدر في موضع الحال ، قال الطبري : كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة ، ويظهر أيضا أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها ، فاللفظة على هذا اسم فاعل ، وقال بعض الناس : معناه يكف بعضهم بعضا عن التخلف ، وما قدمناه أعم وأحسن ، وقال بعض الناس : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه ألزم الأمة جميعا النفر ، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله (كَما يُقاتِلُونَكُمْ) فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم ، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد.

قوله عزوجل :

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

(النَّسِيءُ) على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك.


ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه». وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء ، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء» ، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي». فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.

قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول ، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء ، وقال الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر ، وقال أبو وائل كان النسيء رجلا من بني كنانة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأما «النسي» فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء ، وأما «النسء» هو مصدر من نسأ إذا أخر ، وأما «النسي» فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس ، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.

قال القاضي أبو محمد : والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة ، وقوله (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.

قال القاضي أبو محمد : ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم : [الوافر]

ومنا منسىء الشهر القلمس

وقال الآخر : [الكامل]

نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعز لم يتحول

ومنه قول جذل الطعان : [الوافر]

وقد علمت معدّ أنّ قومي

كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر

وأي الناس لم تعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد ، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يضل» بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم ، ف (الَّذِينَ) في التأويل الأول في موضع نصب ، وفي الثاني في موضع رفع ، وقرأ عاصم أيضا وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يضل» بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (زُيِّنَ) للتناسب في اللفظ ، وقرأ أبو رجاء «يضل» من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما ، وكذلك يروى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «حتى يضل الرجل إن


يدركم صلى» بفتح الضاد وكسرها ، وقوله (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.

قال القاضي أبو محمد : وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلا منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر ، ومشت الشهور مستقيمة ، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.

قال القاضي أبو محمد : والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات ، وقد بينه مجاهد وأبو مالك ، وهو مقتضى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم. أي ذلك كان ، وقوله (لِيُواطِؤُا) معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه ، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.

قال القاضي أبو محمد : فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر ، وقوله (زُيِّنَ) يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عزوجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم ، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن ، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم ، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار.

قال القاضي أبو محمد : وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء» أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.

قال القاضي أبو محمد : واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم ، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون.

قال القاضي أبو محمد : فهم على هذا عدة ، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.

قال القاضي أبو محمد : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» ، فقال بعض الناس : إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء ، وقيل غير ذلك.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ


تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة ، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ، وقوله (ما لَكُمْ) استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقوله (قِيلَ) يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعله يقتضي إغلاظا ومخاشنة ما ، و «النفر» هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيرا ونفرا ، ويقال في الدابة نفرت تنفر بضم الفاء نفورا ، وقوله (اثَّاقَلْتُمْ) أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال (فَادَّارَأْتُمْ) وكما تقول ازين ، وكما قال الشاعر [الكسائي] : [البسيط]

تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا

عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل

وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم» على الأصل ، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم» بتاءين ثم ثاء مثلثة ، وقال هي خطأ أو غلط ، وصوب «تثاقلتم» بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها ، وقوله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض ، وقوله : (أَرَضِيتُمْ) تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد ، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر ، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي ، وقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا) الآية ، (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) شرط وجواب ، وقوله (يُعَذِّبْكُمْ) لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة ، والتهديد بعمومه أشد تخويفا ، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به ، و «أليم» بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب : [الوافر]

أمن ريحانة الداعي السميع

وقوله (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) توعد بأن يبدل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم ، والضمير في قوله (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) عائد على الله عزوجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه ، ويحتمل أن يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أليق ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع.


قوله عزوجل :

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)

هذا أيضا شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله (فَقَدْ) وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد. لم يقرره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينتظر أمر الله عزوجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة» ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ظنك باثنين الله ثالثهما.

ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماما في باب الغار فتخيله المشركون نابتا وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبتت على باب الغار راءة أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل.

وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدّ به كواء الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ) معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثاني اثنين» بنصب الياء من «ثاني». قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين» بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف.


قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا وكقول جرير : [البسيط]

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

و «صاحبه» أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوما وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ).

قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) يريد به النصر والإنجاء واللطف ، وقوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على أبي بكر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة» عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم ، كقوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٢٤٨] ويحتمل أن يكون قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود» الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود» ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما» ، وقرأ مجاهد «وأأيده» بألفين ، والجمهور «وأيّده» بشد الياء ، وقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قيل يريد لا إله إلا الله ، وقيل الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمة» بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمة» بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا».

قوله عزوجل :

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢)

هذا أمر من الله عزوجل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر


عام لجميع المؤمنين تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخه الله عزوجل ، بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة ، وقال جل الناس : بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان ، وأما قوله (خِفافاً وَثِقالاً) فنصب على الحال من الضمير في قوله (انْفِرُوا) ، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا.

وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أعليّ أن أنفر؟ فقال له نعم ، حتى نزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١] ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل «الخفيف» الغني «والثقيل» الفقير : قاله مجاهد ، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة ، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي ، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد : وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش ، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي.

قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة.

وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وقال أبو طلحة : ما أسمع الله عذرا أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.

وقال أبو أيوب : ما أجدني أبدا إلا ثقيلا أو خفيفا ، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم إن الله قد عذرك ، فقال يا ابن أخي إنّا قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا ، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله ، فقال أتت علينا سورة البعوث (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ، وروي سورة البحوث ، وقوله تعالى : (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تنبيه وهز للنفوس ، وقوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) الآية ، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال ، فنفر المؤمنون ، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة ، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام ، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم


تركوا الأولى من التحامل ، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين ، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم ، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسير لبادروا إليه ، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة ، وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها ، وكان معه ابن له يسمى الأحوص فبادر الأحوص أباه بالقول ، فقال إنا من تعلمون وابنا سبيل وجئنا من شقة ونطلب في حق وتنطوننا ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له يا إياك إني قد كفيتك.

قال القاضي أبو محمد : يا تنبيه وإياك نهي ، وقرأ عيسى ابن عمر «الشّقة» بكسر الشين ، وقرأ الأعرج «بعدت» بكسر العين ، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين ، وقوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) يريد المنافقين ، وهذا إخبار بغيب ، وقوله (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم ، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله.

ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفرا ونفاقا ، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع ، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لو استطعنا» بضم الواو ، ذكره ابن جني ، ومثله بقوله تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) [التوبة : ٤٨](فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [البقرة : ٩٤] و (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة ١٦ ـ ١٧٥].

قوله عزوجل :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤)

هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار ، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم إيذن لي ولا تفتني وقال بعضهم إيذن لنا في الإقامة فأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيفاء منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذا بالأسهل من الأمور وتوكلا على الله ، وقال مجاهد إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك.

وقالت فرقة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا ، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عمرو بن ميمون الأودي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء.

هذه ، وأمر أسارى بدر ، فعاتبه الله فيهما ، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية (عَفَا اللهُ عَنْكَ) استفتاح كلام ، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله ، ولم يكن منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده ، وأما قوله (لِمَ أَذِنْتَ) فهي على معنى التقرير ، وقوله (الَّذِينَ


صَدَقُوا) يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن ، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكاذبين في أن لا عذر لهم.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم.

وأدخل الطبري أيضا في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [الآية : ٦٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى ، وقوله (لا يَسْتَأْذِنُكَ) الآية ، نفي عن المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في التخلف دون عذر كما فعل الصنف المذكور من المنافقين ، وقوله (أَنْ يُجاهِدُوا) يحتمل أن تكون (أَنْ) في موضع نصب على معنى لا يستأذنون في التخلف كراهية أن يجاهدوا ، قال سيبويه ويحتمل أن تكون في موضع خفض.

قال القاضي أبو محمد : على معنى لا يحتاجون إلى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا بل يمضون قدما ، أي فهم أحرى ألا يستأذنوا في التخلف ، ثم أخبر بعلمه تعالى (بِالْمُتَّقِينَ) وفي ذلك تعيير للمنافقين وطعن عليهم بين.

قوله عزوجل :

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧)

هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق ، (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) معناه شكّت ، والريب نحو الشك ، و (يَتَرَدَّدُونَ) أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى ، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين ، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين ، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا ، وأنه غير صحيح أحيانا ، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه ، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين ، وأيضا فبين الشك والريب فرق ما ، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به


الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها ، ألا ترى أن قول الهذلي :

كأني أريته بريب

لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري : وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور ، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [التوبة : ٤٤] إلى قوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) نسختها الآية التي في النور ، ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية : ٦٢] إلى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٦٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا غلط وقد تقدم ذكره ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) الآية ، حجة على المنافقين ، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه ، و «العدة» ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء ، وقرأ جمهور الناس «عدة» بضم العين وتاء تأنيث ، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد «عده» بضم العين وهاء إضمار يريد «عدته» فحذفت تاء التأنيث لما أضاف ، كما قال «وأقام الصلاة» يريد وإقامة الصلاة ، هذا قول الفراء ، وضعفه أبو الفتح وقال إنما حدف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضا منها ، وقال أبو حاتم : هو جمع عدة على عد ، كبرة وكبر ودرة ودر ، والوجه فيه عدد ولكن لا يوافق خط المصحف ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش «عده» بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالريح والقتل لأن العدو سمي قتلا إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته ، و (انْبِعاثَهُمْ) نفوذهم لهذه الغزوة ، و «التثبيط» التكسيل وكسر العزم ، وقوله (وَقِيلَ) ، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى ، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لهم في القعود ، أي لما كره الله خروجهم يسر أن قلت لهم (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ، والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر :

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وليس للهيئة في هذا كله مدخل ، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين وقوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) الآية ، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة ، وقوله (إِلَّا خَبالاً) استثناء من غير الأول ، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبال ، فيزيد المنافقون فيه ، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا ، ويحتمل أن يكون الاستثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال ، فلو خرج هؤلاء لا لتأموا مع الخارجين فزاد الخبال ، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

يا بني لبينى لستما بيد

إلّا يدا مخبولة العضد


وقرأ ابن أبي عبلة «ما زادكم» بغير واو ، وقرأ جمهور الناس (لَأَوْضَعُوا) ومعناه لأسرعوا السير ، و (خِلالَكُمْ) معناه فيما بينكم من هنا إلى هنا يسد الموضع الخلة بين الرجلين ، والإيضاع سرعة السير ، وقال الزجّاج (خِلالَكُمْ) معناه فيما يخل بكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وما ذا يقول في قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٥] وقرأ مجاهد فيما حكى النقاش عنه ، «ولأوفضوا» وهو أيضا بمعنى الإسراع ومنه قوله تعالى : (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج : ٤٣] ، وحكي عن الزبير أنه قرأ «ولأرفضوا» قال أبو الفتح : هذه من رفض البعير إذا أسرع في مشية رقصا ورقصانا ، ومنه قول حسان بن ثابت : [الكامل]

رقص القلوص براكب مستعجل

ووقعت «ولا أوضعوا» بألف بعد «لا» في المصحف ، وكذلك وقعت في قوله (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) [النمل : ٢١] ، قيل وذلك لخشونة هجاء الأولين قال الزجّاج : وإنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفا.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تمطل حركة اللام فيحدث بين اللام والهمزة التي من أوضع ، وقوله : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يطلبون لكم الفتنة ، وقوله (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ) ، قال سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري ، قال النقاش : بناء المبالغة يضعف هذا القول ، وقال جمهور المفسرين معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم ، وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) توعد لهم ولمن كان من المؤمنين على هذا الصفة.

قوله عزوجل :

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ(٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٥١)

في هذه الآية تحقير شأنهم ، وذلك أنه أخبر أنهم قد لما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم ، ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلُ) ما كان من حالهم من وقت هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها ، ومعنى (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) دبروها ظهرا لبطن ونظروا في نواحيها وأقسامها وسعوا بكل حيلة ، وقرأ مسلمة بن محارب «وقلبوا لك» بالتخفيف في اللام ، و (أَمْرُ اللهِ) الإسلام ودعوته ، وقوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما أمر


بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس هل لك العام في جلاد بني الأصفر ، وقال له وللناس : اغزوا تغنموا بنات الأصفر ، فقال له الجد بن قيس : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن ، ذكر ابن إسحاق ونحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر ، فقال الجد ائذن ولا تفتنا بالنساء ، وهذا منزع الأول إذا نظر ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة ، وقال ابن عباس إن الجد قال : ولكني أعينك بمالي ، وتأول بعض الناس قوله (وَلا تَفْتِنِّي) أي لا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك ، فسهل أنت عليّ ودعني غير مجلح ، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر ، وذلك معترض في هذا التأويل ، وقرأ عيسى بن عمر «ولا تفتني» بضم التاء الأولى قال أبو حاتم هي لغة بني تميم ، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما‌السلام وكان أصفر اللون فيقال للروم بنو الأصفر ، ومن ذلك قول أبي سفيان : أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر ، ومنه قول الشاعر [عدي بن زيد العبادي] : [الخفيف]

وبنو الأصفر الكرام ملوك الر

وم لم يبق منهم مذكور

وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف ، وقوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم ، و (سَقَطُوا) عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت ، ثم قال (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه ، وقوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) الآية ، أخبر تعالى عن معتقدهم وما هم عليه ، و «الحسنة» هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر ، و «المصيبة» الهزم والخيبة ، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه ، ومعنى قوله : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) ، أي حزمنا نحن في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا ، وقوله تعالى : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) الآية ، أمر الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما اعتقدوه ، بل الجميع مما قد كتبه الله عزوجل للمؤمنين ، فإما أن يكون ظفرا وسرورا في الدنيا وإما أن يكون ذخرا للآخرة ، وقرأ طلحة بن مصرف «قل هل يصيبنا» ، ذكره أبو حاتم ، وعند ابن جني وقرأ طلحة بن مصرف وأعين قاضي الري «قل لن يصيّبنا» بشد الياء التي بعد الصاد وكسرها كذا ذكر أبو الفتح وشرح ذلك وهو وهم ، والله أعلم.

قال أبو حاتم : قال عمرو بن شفيق سمعت أعين قاضي الري يقرأ «قل لن يصيبنا» النون مشددة ، قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع «هل» ، قال الله عزوجل (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥] وقوله : (كَتَبَ اللهُ) يحتمل أن يريد ما قضى وقدر.


ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنّا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد فندخل الجنة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول وقد ذكرهما الزجّاج ، وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح ، والذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين ، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه ، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب ، ومنه (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) [مريم : ٢٥] ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطير : «تغدو خماصا» الحديث.

ومنه قوله : «قيدها وتوكل» ، وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل غارا أو بيتا يجهل أمره فيه ويبقى في ذكر الله متوكلا يقول إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به وإن كان رزقي قد تم مت إذ ذلك حسن بالغ عند قوم ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم ، يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقة ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع ، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

قال القاضي أبو محمد : وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعيا جميلا لا يواقع فيه شبهة ، فإن تعذر عليه جميع ذلك وخرج إلى حد الاضطرار فحينئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح ، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم ، ومن الناس من يرى أن فرضا عليه إبقاء رمقه وأما من يختار الإلقاء باليد ـ والسعي ممكن ـ فما كان هذا قط من خلق الرسول ولا الصحابة ولا العلماء ، والله سبحانه الموفق للصواب ، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله «يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي بلا حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون وعلى ربهم يتوكلون» ، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لعكاشة بن محصن أن يكون منهم ، فقيل ذلك لأنه عرف منه أنه معد لذلك ، وقال للآخر سبقك بها عكاشة وردّت الدعوة ، فقيل : ذلك لأنه كان منافقا ، وقيل بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل.

قوله عزوجل :

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ)(٥٣)

فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين ، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل


بهم مصائب ، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت ، و (تَرَبَّصُونَ) معناه تنتظرون و «الحسنيان» الشهادة والظفر ، وقرأ ابن محيصن : «إلا احدى الحسنيين» بوصل ألف (إِحْدَى).

قال القاضي أبو محمد : وهذه لغة ليست بالقياس وهذا مثل قول الشاعر : [الكامل]

يا أبا المغيرة رب أمر معضل

وقول الآخر : [الكامل]

إن لم أقاتل فالبسيني برقعا

وقوله (بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) ، يريد الموت بأخذات الأسف ، ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة ، وقوله (أَوْ بِأَيْدِينا) ، يريد القتل وقيل (بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) يريد أنواع المصائب والقوارع وقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) وعيد وتهديد ، وقوله : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) سببها : أن الجد بن قيس حين قال : (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة : ٤٩] قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده ، والطوع والكره يعمان كل إنفاق ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وكرها» بضم الكاف.

قال القاضي أبو محمد : ويتصل هاهنا ذكر أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا ، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها» ونحو ذلك ، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما ما ينتفع بها في الآخرة فلا ، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله : أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال : «لا إنه لم يقل يوما ، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ، ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه : ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيرا وكان هذا القول بعد موت العاصي ، الحديث بطوله ، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين : أعني في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلمت على ما سلف لك من خير ، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبأنه وجده في غمرة من النار فأخرجه ، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة ، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم ، وقوله : (أَنْفِقُوا) أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير : إن تنفقوا لم يتقبل منكم ، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط.

قوله عزوجل :

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ


بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)(٥٦)

يحتمل أن يكون معنى الآية : وما منعهم الله من أن تقبل إلا لأجل أنهم كفروا بالله ، ف (أَنْ) الأولى على هذا في موضع خفض نصبها الفعل حين زال الخافض ، و «أن» الثانية ، في موضع نصب مفعول من أجله ، ويحتمل أن يكون التقدير : وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم ، فالأولى على هذا في موضع نصب ، ويحتمل أن يكون المعنى : وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم ، فالثانية في موضع رفع فاعلة ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم : «أن تقبل منهم نفقاتهم» ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع فيما روي عنه : «أن يقبل منهم نفقاتهم» بالياء وقرأ الأعرج بخلاف عنه : «أن تقبل منهم نفقتهم» بالتاء من فوق وإفراد النفقة ، وقرأ الأعمش ، «أن يقبل منهم صدقاتهم» ، وقرأت فرقة : «أن نقبل منهم نفقتهم» بالنون ونصب النفقة ، و (كُسالى) جمع كسلان ، وكسلان إذا كانت مؤنثته كسلى لا ينصرف بوجه وإن كانت مؤنثته كسلانة فهو ينصرف في النكرة ثم أخبر عنهم تعالى أنهم «لا ينفقون دومة إلا على كراهية» إذ لا يقصدون بها وجه الله ولا محبة المؤمنين ، فلم يبق إلا فقد المال وهو من مكارههم لا محالة ، وقوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) الآية ، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها ، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة» ، وقال الحسن : الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله.

قال القاضي أبو محمد : فالضمير في قوله (بِها) عائد في هذا القول على «الأموال» فقط ، وقال ابن زيد وغيره : «التعذيب» هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها ، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) ، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر ، ويحتمل أن يريد «وتزهق أنفسهم» من شدة التعذيب الذي ينالهم ، وقوله (وَهُمْ كافِرُونَ) جملة في موضع الحال على التأويل الأول ، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني ، وقوله (وَيَحْلِفُونَ) الآية ، أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون أنهم من المؤمنين في الدين والشريعة ثم أخبر تعالى عنهم على الجملة لا على التعيين أنهم ليسوا من المؤمنين ، وإنما هم يفزعون منهم فيظهرون الإيمان وهم يبطنون النفاق ، و «الفرق» ، الخوف ، والفروقة الجبان وفي المثل وفرق خير من حبين.

قوله عزوجل :

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ


رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩)

«الملجأ» من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم ، وقرأ جمهور الناس «أو مغارات» بفتح الميم ، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف «أو مغارات» بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج ، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله ، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة ، وقيل إن العرب تقول : غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل ، قال الزجّاج : إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضا من هذا.

قال القاضي أبو محمد : ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم ، فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون عصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه ، وقرأ جمهور الناس «أو مدخلا» أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق في الأرض ، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات ، «والمدخل» فسر ابن عباس رضي الله عنه ، وقال الزجّاج «المدخل» معناه قوما يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «أو مدخلا» فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش «أو مدخلا» بتشديدهما وقرأ أبي بن كعب «مندخلا» قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر [الكميت] : [البسيط]

ولا يدي في حميت السمن تندخل

قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم : قراءة أبي بن كعب «متدخلا» بتاء مفتوحة ، وروي عن الأعمش وعيسى «مدخلا» بضم الميم فهو من أدخل ، وقرأ الناس «لولوا» وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل «لوالوا» من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظن لوالوا بمعنى للجؤوا ، وقرأ جمهور الناس ، «يجمحون» معناه يسرعون مصممين غير منثنين ، ومنه قول مهلهل : [البسيط]

لقد جمحت جماحا في دمائهم

حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا

وقرأ أنس بن مالك «يجمزون» ومعناه يهربون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما إذ لقته الحجارة جمزة ، وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) الآية ، الضمير في قوله (وَمِنْهُمْ) عائد على المنافقين ، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال : جاء ابن ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم قسما فقال : اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله ، وفيه قال أبو سعيد : فنزلت في ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذه نزعة منافق ، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام


المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم ، و (يَلْمِزُكَ) معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر : [البسيط]

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة

وأن أغيب فأنت الهامز اللمزة

ومنه قول رؤبة : [الرجز]

في ظل عصري باطلي ولمزي

والهمز أيضا في نحو ذلك ومنه قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] وقيل لبعض العرب : أتهمز الفأرة فقال : إنها تهمزها الهرة قال أبو علي : فجعل الأكل همزا ، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله : [الطويل]

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

تركيبا على استعارة الأكل في الغيبة.

قال القاضي أبو محمد : ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل ، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر ، وقرأ جمهور الناس «يلمزك» بكسر الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة «يلمزك» بضم الميم ، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم ، وقرأ الأعمش «يلمّزك» ، وروى أيضا حماد بن سلمة عن ابن كثير «يلامزك» ، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية ، وصف للحال التي ينبغي أن يكون عليها المستقيمون ، يقول تعالى : ولو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم وما أعطاهم على يدي رسوله ورجوا أنفسهم فضل الله ورسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيرا لهم وأفضل مما هم فيه ، وحذف الجواب من الآية لدلالة ظاهر الكلام عليه ، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.

قوله عزوجل :

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)

(إِنَّمَا) في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف (الصَّدَقاتُ) على الثمانية الأصناف ، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره : ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ، وقال الشافعي : هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن (الْمُؤَلَّفَةِ) انقطعوا.

قال القاضي أبو محمد : ويقول صاحب هذا القول : إنه لا يجزىء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة ، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره : الفقير أبلغ فاقة وقال غيرهم : المسكين أبلغ فاقة.


قال القاضي أبو محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عزوجل (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٧٩] واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين» بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمساكين» بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [البسيط]

أما الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيرا بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ، وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقة إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقة : إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن.

قال القاضي أبو محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : «الفقراء» هم من المهاجرين (وَالْمَساكِينِ) من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئا.

قال القاضي أبو محمد : «والمسكين السائل» يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ، وقال عكرمة : «الفقراء» من المسلمين ، (وَالْمَساكِينِ) من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر : «الفقير» من لا مال له ولا حرفة سائلا كان أو متعففا ، «والمسكين» الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلا كان أو غير سائل ، وقال قتادة بن دعامة : الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : «المساكين» الذين يسعون ويسألون ، و «الفقراء» هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكينا ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] وقيل لأعرابي : أفقير أنت؟ فقال : إني والله مسكين ،


وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، اقرأوا إن شئتم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف ، وجرى تنبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم «الفقراء» في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم يتهمم بهم هلكوا ، والمسكين يلح ويذكر بنفسه ، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم ، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من (الْعامِلِينَ) لأنه يحشر الناس على السعي ، وقال الضحاك : للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن ، وقال الجمهور : لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف ، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل ، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة ، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل : يعطى منها عمالته وقيل : بل يعطاها الخمس ، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابن اللتبية حين استعمله على الصدقة فقال ، هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى لك» وأخذ الجميع منه.

قال القاضي أبو محمد : وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده ، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ ، وأما (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) فكانوا صنفين ، مسلمين وكافرين مساترين ، قال يحيى بن أبي كثير ، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي.

قال القاضي أبو محمد : وأكثر هؤلاء من الطلقاء الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر ، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم : انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه‌الله ، قال عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة.

قال القاضي أبو محمد : وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين ، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم : إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك ، يريد في الاستئلاف ، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد ، وقال كثير من أهل العلم : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) موجودون إلى يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد : وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف ، وقال الزهري : (الْمُؤَلَّفَةِ) من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا.

قال القاضي أبو محمد : يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه ، وأما (الرِّقابِ) فقال ابن عباس


والحسن ومالك وغيره : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته ، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه بالمنع والإباحة ، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد ، وقيل يمضى لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب ، وقال الشافعي : معنى (وَفِي الرِّقابِ) في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد ، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير ، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها ، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين ، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى ، قال ابن حبيب : ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره ، وأما «الغارم» فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه ، قال العلماء : فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله ، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا ، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله».

قال القاضي أبو محمد : وقد سقط (الْمُؤَلَّفَةِ) من هذا الحديث ، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله ، وإنما «الغارم» من عليه دين يسجن فيه ، وقد قيل في مذهبنا وغيره : يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور ، وأما (فِي سَبِيلِ اللهِ) فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنيا قال ابن حبيب : ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيرا فيعطى لفقره ، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق : يعطى منها الحاج وإن كان غنيا ، والحج سبيل الله ، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا ، وأما (ابْنِ السَّبِيلِ) فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في بلده ، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم : ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم : بنو الحرب وبنو المجد ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم ، وقال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين ، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير ، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط ، وأيضا فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغنى حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى فإن وقع ذو عسرة فنظرة ، وقالت فرقة : الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره ، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولا واحدا ، وقد قيل في الغارم : تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر ، ويعطي الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائبا في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى ، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير ، وقيل الجار أولى ويعطي الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم ، وتعطي المرأة زوجها ، وقال بعض الناس ما لم ينفق ذلك عليها ، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين ، واختلف


في ولاء الذي يعتق من الصدقة ، فقال مالك : ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد : ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن : يجعل ماله في بيت الصدقات ، وقال الحسن وأحمد وإسحاق : ويعتق من ماله رقاب ، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي وأما السبيل : فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنيا ، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعا به ، قال ابن المنذر؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما القرآن فقوله (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله» ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره : على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق ، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية ، قال الطبري : وقال بعض المتأخرين : إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف ، وقال الشافعي وعكرمة والزهري : هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذي سأله : «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحدا منها أعطيتك».

قال القاضي أبو محمد : والحديث في مصنف أبي داود ، وقال أبو ثور : إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفا دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي : إذا كان المال كثيرا قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلا أعطاه صنفا واحدا. وقالت فرقة من العلماء : من له خمسون درهما فلا يعطى من الزكاة ، وقال الحسن وأبو عبيد ، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهما ، قال الحسن : وهو غني وقال الشافعي : قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنيا بالدرهم مع سعيه وتحيله ، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف ، وقال أبو حنيفة : لا يأخذ الصدقة من له مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ ، قال سفيان الثوري : لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهما ، إلا أن يكون غارما وقال أصحاب الرأي ، إن أعطي ألفا وهو محتاج أجزأ ذلك ، وقال أبو ثور : يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك ، وقال ابن المنذر : أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه ، وقال مالك : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه ، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيرا فإذا هو غني ، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر ، فإن كان الآخذ غنيا وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه ، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له ، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر ، فإن كان أكلها أو لبسها ضمنها ، وإن كانت تلفت لم يضمن ، واختلف في إجزائها عن المتصدق فقال الحسن وأبو عبيدة : تجزيه ، وقال الثوري وغيره : لا تجزيه ، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فضلة فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام ، قال ابن حبيب في الواضحة : أما (الْمُؤَلَّفَةِ) فانقطع سهمهم ، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطي الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال.


قال القاضي أبو محمد : وهذا الشرط فيه نظر ، قال ابن حبيب : وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم ، قال مالك : ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة ، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته ، وقوله تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه ، شبه ما يفرض من الأحكام ، ونصب (فَرِيضَةً) على المصدر ، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم.

قوله عزوجل :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)

الضمير في قوله (وَمِنْهُمُ) عائد على المنافقين ، و (يُؤْذُونَ) لفظ يعم جميع ما كانوا يفعلونه ويقولونه في جهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ، وخص بعد ذلك من قولهم (هُوَ أُذُنٌ) ، وروي أن قائل هذه اللفظة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعرة أحمر العينين أسفع الخدين مشوها ، وروي عن الحسن البصري ومجاهد أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم (هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله ، أي فنحن لا نبالي عن أذاه ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه ، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع ، وروي عن ابن عباس وجماعة معه أنهم أرادوا بقولهم (هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله ، فهذا تشكّ منه ووصف بأنه يسوغ عنده الأباطيل والنمائم ، ومعنى (أُذُنٌ) سماع ، ويسمى الرجل السماع لكل قول أذنا إذا كثر منه استعمال الأذن ، فهذه تسمية الشيء بالشيء إذا كان منه بسبب كما يقال للربيئة عين وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو أذن أي ذو سماع ، وقيل إن قوله (أُذُنٌ) مشتق من قولهم أذن للشيء إذا استمع كما قال الشاعر وهو علي بن زيد : [الرمل]

أيها القلب تعلل بددن

إن همّي في سماع وأذن

وفي التنزيل (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الإنشقاق : ٢ ـ ٥] ومن هذا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ومن هذا قول الشاعر [عدي بن زيد] : [الرمل]


في سماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ماذيّ مشار

ومنه قول الآخر [قعنب بن أم صاحب] : [البسيط]

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وقرأ نافع «أذن» بسكون الذال فيهما ، وقرأ الباقون «أذن» بضم الذال فيهما ، وكلهم قرأ بالإضافة إلى (خَيْرٍ) إلا ما روي عن عاصم ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وعيسى بخلاف «قل أذن خير» برفع خير وتنوين «أذن» ، وهذا يجري مع تأويل الحسن الذي ذكرناه أي من يقبل معاذيركم خير لكم ، ورويت هذه القراءة عن عاصم ، ومعنى «أذن خير» على الإضافة أي سماع خير وحق ، (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) معناه يصدق بالله ، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة كما هي في قوله (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] وقال المبرد هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل كأنه قال وإيمانه للمؤمنين أي تصديقه ، ويقال آمنت لك بمعنى صدقتك ومنه قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧].

قال القاضي أبو محمد : وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه ، وكذلك (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] بما نقوله لك والله المستعان ، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «ورحمة» بالرفع عطفا على (أُذُنٌ) ، وقرأ حمزة وحده «ورحمة» بالخفض عطفا على (خَيْرٍ) ، وهي قراءة أبي بن كعب وعبد الله والأعمش ، وخصص الرحمة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا به ، ثم أوجب تعالى للذين يؤذون رسول الله العذاب الأليم وحتم عليهم به ، وقوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) الآية ، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب ، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل ، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا فأنا شر من الخمر ، فبلغ قوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهدا أنه ما فعل ، فنزلت الآية في ذلك ، وقوله (وَاللهُ) مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

ومذهب المبرد أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير ، حكاه النقاش عنه ، وليس هذا بشيء ، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصها» فجمع في ضمير ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت» ، إنما ذلك وقف في يعصهما فأدخل العاصي في الرشد ، وقيل الضمير في (يُرْضُوهُ) عائد على المذكور كما قال رؤبة : [الرجز].

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق


وقوله (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي على قولهم ودعواهم ، وقوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا) الآية ، قوله (أَلَمْ) تقرير ووعيد ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم» على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو وعيد لهم ، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا» بالتاء ، و (يُحادِدِ) معناه يخالف ويشاق ، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا ، وقال الزجاج : هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد ، وقوله (فَأَنَ) مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر ، وأيضا فإن الفاء تمانع البدل ، وأيضا فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل ، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه : هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة : هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له ، وقيل المعنى فله أن له ، وقالت فرقة : هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب ، وهذا مردود لأن الابتداء ب «أن» لا يجوز مع إضمار الخبر ، قاله المبرد : وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه ، وجميع القراء على فتح «أن» الثانية ، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف ، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة ، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها.

قوله عزوجل :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)

قوله ، (يَحْذَرُ) خبر عن حال قلوبهم ، وحذرهم إنما هو أن تتلى سورة ومعتقدهم هل تنزل أم لا ليس بنص في الآية لكنه ظاهر ، فإن حمل على مقتضى نفاقهم واعتقادهم أن ذلك ليس من عند الله فوجه بين ، وإن قيل إنهم يعتقدون نزول ذلك من عند الله وهم ينافقون مع ذلك فهذا كفر عناد ، وقال الزجّاج وبعض من ذهب إلى التحرز من هذا الاحتمال : معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه يقول «ليحذر» ، وقرأ أبو عمرو وجماعة معه «أن تنزل» ، ساكنة النون خفيفة الزاي ، وقرأ بفتح النون مشددة الزاي الحسن والأعرج وعاصم والأعمش ، و (أَنْ) من قوله (أَنْ تُنَزَّلَ) ، مذهب سيبويه أن ، (يَحْذَرُ) عامل فهي مفعوله ، وقال غيره حذر إنما هي من هيئات النفس التي لا تتعدى مثل فزع وإنما التقدير يحذر المنافقون من أن تنزل عليهم سورة ، وقوله (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) لفظه الأمر ومعناه التهديد ، ثم ابتدأ الإخبار عن أنه يخرج لهم إلى حيز الوجود ما يحذرونه ، وفعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، وقال الطبري : كان المنافقون إذا عابوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكروا شيئا من أمره قالوا لعل الله لا يفشي سرنا فنزلت الآية في ذلك.


قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي كفر العناد الذي قلناه ، وقوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية ، نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا يسيرون في غزوة تبوك ، فقال بعضهم لبعض هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات ، فوقفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، وقال لهم قلتم كذا وكذا ، فقالوا (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ، يريدون كنا غير مجدين ، وذكر ابن إسحاق أن قوما منهم تقدموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم كأنكم والله غدا في الحبال أسرى لبني الأصفر إلى نحو هذا من القول ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار بن ياسر : «أدرك القوم فقد احترقوا وأخبرهم بما قالوا» ، ونزلت الآية ، وروي أن وديعة بن ثابت المذكور قال في جماعة من المنافقين : ما رأيت كقرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء فعنفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه المقالة فقالوا (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ، ثم أمره بتقريرهم (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) وفي ضمن هذا التقرير وعيد ، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال : رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) والنبي يقول (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ، وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك ، وقوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا) الآية ، المعنى قل لهم يا محمد لا تعتذروا على جهة التوبيخ كأنه قال لا تفعلوا ما لا ينفع.

ثم حكم عليهم بالكفر فقال لهم (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الذي زعمتموه ونطقتم به ، وقوله (عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) يريد فيما ذكر المفسرون رجلا واحدا قيل اسمه مخشن بن حفير قاله ابن إسحاق ، وقال ابن هشام ويقال فيه مخشي وقال خليفة بن خياط في تاريخه مخاشن بن حمير وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وكان قد تاب وتسمى عبد الرحمن ، فدعا الله أن يستشهد ، ويجهل أمره فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده ، وذكر أيضا ابن عبد البر محشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ولم يتقن القصة ، وكان محشي مع المنافقين الذين قالوا (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) فقيل كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة ، وقيل كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا الله عنه في كلا الوجهين ، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم ، وقرأ جميع السبعة سوى عاصم «إن يعف عن طائفة» بالياء «تعذب» بالتاء ، وقرأ الجحدري «إن يعف» بالياء على تقدير يعذب الله «طائفة» بالنصب ، وقرأ عاصم وزيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «إن نعف» بالنون «نعذب» بنون الجميع أيضا ، وقرأ مجاهد «إن تعف» بالتاء المضمومة على تقدير إن تعف هذه الذنوب «تعذب» بالتاء أيضا.

قوله عزوجل :

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ


اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ(٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٩)

هذا ابتداء إخبار عنهم وحكم من الله تعالى عليهم بما تضمنته الآية ، فقوله (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يريد في الحكم والمنزلة من الكفر ، وهذا نحو قولهم الأذنان من الرأس يريدون في حكم المسح وإلا فمعلوم أنهما من الرأس ، ولما تقدم قبل «وما هم منكم» حسن هذا الإخبار ، وقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) يريد بالكفر وعبادة غير الله وسائر ذلك من الآية لأن المنافقين الذين نزلت هذه الآيات فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة وذلك بسبب ظهور الإسلام وكلمة الله عزوجل ، و «القبض» هو عن الصدقة وفعل الخير ، وقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) أي تركوه حين تركوا نبيه وشرعته فتركهم حين لم يهدهم ولا كفاهم عذاب النار ، وإنما يعبر بالنسيان عن الترك مبالغة إذا بلغ وجوه الترك الوجه الذي يقترن به نسيان ، وعلى هذا يجيء (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٣٧](وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٧] ثم حكم عليهم عزوجل بالفسق وهو فسوق الكفر المقتضي للخلود في النار.

وكان قتادة يقول (فَنَسِيَهُمْ) أي من الخير ولم ينسهم من الشر ، وقوله (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) الآية ، لما قيد الوعد بالتصريح بالشر صح ذلك وحسن وإن كانت آية وعيد محض ، و (الْكُفَّارَ) في هذه الآية المعلنون ، وقوله (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي كافيتهم وكافية جرمهم وكفرهم نكالا وجزاء ، فلو تمنى أحد لهم عذابا لكان ذلك عنده حسبا لهم ، (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) معناه أبعدهم عن رحمته ، و (عَذابٌ مُقِيمٌ) معناه مؤبد لا نقلة له ، وقوله تعالى (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، أمر الله نبيه أن يخاطب بها المنافقين فيقول لهم (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، والمعنى أنتم كالذين أو مثلكم مثل الذين من قبلكم ، وقال الزجّاج : المعنى وعدا كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق بوعد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، ثم قال (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ) وأعظم فعصوا فأهلكوا فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم ، والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء وخلاق المرء الشيء الذي هو به خليق والمعنى عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا باب الآخرة فاتبعتموهم أنتم.

قال القاضي أبو محمد : وأورد الطبري في تفسير هذه الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ، وما شاكل هذا الحديث مما يقتضي اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسائر الأمم ، وهو معنى لا يليق بالآية جدا إذ هي مخاطبة لمنافقين كفار أعمالهم حابطة والحديث مخاطبة لموحدين يتبعون سنن من مضى في أفعال دنيوية لا تخرج عن


الدين ، وقوله (خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي خلطتم كالذي خلطوا ، وهو مستعار من الخوض في المائعات ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأن التصرف في الحقائق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة» ، ثم قال تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فيحتمل أن يراد ب (أُولئِكَ) القوم الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والاستمتاع بالخلاق ، والمعنى وأنتم أيضا كذلك يعتريكم بإعراضكم عن الحق ، ويحتمل أن يريد ب (أُولئِكَ) المنافقين المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول ، و «حبط العمل» وما جرى مجراه يحبط حبطا إذا بطل بعد التعب فيه ، وحبط البطن حبطا بفتح الباء وهو داء في البطن ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» ، وقوله (فِي الدُّنْيا) معناه إذا كان في المنافقين ما يصيبهم في الدنيا من المقت من المؤمنين وفساد أعمالهم عليهم وفي الآخرة بأن لا تنفع ولا يقع عليها جزاء ، ويقوي أن الإشارة ب (أُولئِكَ) إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) فتأمله.

قوله عزوجل :

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢)

يقول عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها ، (وَعادٍ وَثَمُودَ) قبيلتان ، (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) نمرود وأصحابه وتباع دولته ، (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) قوم شعيب ، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أهل القرى الأربعة ، وقيل السبعة الذين بعث إليهم لوطصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى (الْمُؤْتَفِكاتِ) المنصرفات والمنقلبات أفكت فانتفكت لأنها جعل أعاليها أسفلها ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان : [البسيط]

بمنطق مستبين غير ملتبس

به اللسان وإني غير مؤتفك

أي غير منقلب منصرف مضطرب ومنه يقال للريح مؤتفكة لتصرفها ، ومنه (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٥ ، التوبة : ٣٠ ، العنكبوت : ٦١ ، الزخرف : ٨٧ ، المنافقون : ٤] والإفك صرف القول من


الحق إلى الكذب ، والضمير في قوله (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) عائد على هذه الأمم المذكورة ، وقيل على (الْمُؤْتَفِكاتِ) خاصة ، وجعل لهم رسلا وإنما كان نبيهم واحدا لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولا داعيا ، فهم رسل رسول الله ذكره الطبري ، والتأويل الأول في عود الضمير على جميع الأمم أبين ، وقوله (بِالْبَيِّناتِ) يريد بالمعجزات وهي بينة في أنفسها بالإضافة إلى الحق لا بالإضافة إلى المكذبين بها ، ولما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهى عنه عقب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغب في الإيمان وتنشط إليه تلطفا منه تعالى بعباده لا رب غيره ، وذكرت هنا «الولاية» إذ لا ولاية بين المنافقين لا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة ، وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) يريد بعبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك ، وقوله (عَنِ الْمُنْكَرِ) يريد عن عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك ، وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام وكل ما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين ، وقال ابن عباس في قوله (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) هي الصلوات الخمس.

قال القاضي أبو محمد : وبحسب هذا تكون (الزَّكاةَ) المفروضة ، والمدح عندي بالنوافل أبلغ ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض ، وقوله (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) جامع للمندوبات ، والسين في قوله (سَيَرْحَمُهُمُ) مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه ، وفضله تعالى زعيم بالإنجاز ، وقوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، وعد في هذه الآية صريحة في الخير ، وقوله (مِنْ تَحْتِهَا) إما من تحت أشجارها وإما من تحت علياتها وإما من تحتها بالإضافة إلى مبدأ كما تقول في دارين متجاورتين متساويتي المكان هذه تحت هذه ، وذكر الطبري في قوله (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) عن الحسن أنه قال سألت عنها عمران بن الحصين وأبا هريرة فقالا على الخبير سقطت ، سألنا عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ أو يقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز ، وأما قوله (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) فمعناه في جنات إقامة وثبوت يقال عدن الشيء في المكان إذا أقام به وثبت ، ومنه المعدن أي موضع ثبوت الشيء ، ومنه قول الأعشى :

وإن يستضيفوا إلى حلمه

يضافوا إلى راجح قد عدن

هذا الكلام اللغوي ، وقال كعب الأحبار (جَنَّاتِ عَدْنٍ) هي بالفارسية جنات الكروم والأعناب.

قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهما اختلط بالفردوس ، وقال الضحاك (جَنَّاتِ عَدْنٍ) هي مدينة الجنة وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها ، وقال ابن مسعود : «عدن» هي بطنان الجنة وسرتها ، وقال عطاء : «عدن» نهر في الجنة جناته على حافته ، وقال الحسن : «عدن» قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ومد بها صوته.

قال القاضي أبو محمد : والآية تأبى هذا التخصيص إذ قد وعد الله بها جمع المؤمنين ، وأما قوله (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) فروي فيه أن الله عزوجل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة هل رضيتم؟ فيقولون


وكيف لا نرضى يا ربنا؟ فيقول إني سأعطيكم أفضل من هذا كله ، رضواني أرضى عليكم فلا أسخط عليكم أبدا ، الحديث ، وقوله (أَكْبَرُ) يريد أكبر من جميع ما تقدم ، ومعنى الآية والحديث متفق ، وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن يكون قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم والذين يرون كما يرى النجم الفائر في الأفق ، وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع ، و (الْفَوْزُ) النجاة والخلاص ومن (أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] والمقربون هم في الفوز العظيم ، والعبارة عندي عن حالهم بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة ، واللذة أيضا مستعملة في هذا.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤)

قوله (جاهِدِ) مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة ، وتتنوع بحسب المجاهد فجهاد الكافر المعلن بالسيف ، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه ، ونحو ذلك ، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» ، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات ، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية لكنا نجلب قول المفسرين نصا لتكون معرضة للنظر ، قال الزجّاج : وهو متعلق في ذلك بألفاظ ابن مسعود : أمر في هذه الآية بجهاد الكفار والمنافقين بالسيف ، وأبيح له فيها قتل المنافقين ، قال ابن مسعود : إن قدر وإلا فباللسان وإلا فبالقلب والاكفهرار في الوجه.

قال القاضي أبو محمد : والقتل لا يكون إلا مع التجليح ومن جلح خرج عن رتبة النفاق ، وقال ابن عباس : المعنى «جاهد المنافقين» باللسان ، وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، قال : وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين.

قال القاضي أبو محمد : ووجه ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام ، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتل من يظهر الإسلام ، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة ، ومذهب الطبري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرفهم ويسترهم ، وأما قوله


تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فلفظة عامة تتصرف في الأفعال والأقوال واللحظات ، ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) [آل عمران : ١٥٩] ومنه قول النسوة لعمر بن الخطاب : أنت أفظ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى الغلظ خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥] ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم ، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم ، و «المأوى» حيث يأوي الإنسان ويستقر ، وقوله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية ، هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق ، وقال عروة اسمه مصعب ، وقال غيره وهما على حمارين.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سمى قوما ممن اتهمهم بالنفاق ، وقال إنهم رجس ، فقال الجلاس للذي كان يسير معه : والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا ، ولئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من حمرنا هذه ، فقال له ربيبه أو الرجل الآخر؟ والله إنه لحق ، وإنك لشر من حمارك ، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك ، فخرج وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية ، والإشارة ب (كَلِمَةَ الْكُفْرِ) إلى قوله : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمر ، إن التكذيب في قوة هذا الكلام ، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل عجزا عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ، وقال قتادة بن دعامة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فثاروا ، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين ، فثار الناس فهدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك ، فنزلت الآية مكذبة له ، والإشارة ب (كَلِمَةَ الْكُفْرِ) إلى تمثيله : سمن كلبك يأكلك ، قال قتادة والإشارة ب (هَمُّوا) إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة ، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لم ينالوا ، وقال تعالى : (بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم ، وقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، معناه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له ، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا ، وقيل بل كانت للجلاس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها ، وتقدم اختلاف القراء في (نَقَمُوا) في سورة الأعراف ، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف ، وهي لغة ، وقوله (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) استثناء من غير الأول كما قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر ، وقال مجاهد في قوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) إنها نزلت


في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يناسب الآية ، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند ، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم ، وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي» ، ثم فتح عزوجل لهم باب التوبة رفقا بهم ولطفا في قوله (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ).

وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص ، وحسنت توبته ، و «العذاب الأليم» اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين.

قوله عزوجل :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(٧٨)

هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، وقال الحسن : وفي معتب بن قشير معه ، واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره أنه جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعل لي مالا فإني لو كنت ذا مال لقضيت حقوقه وفعلت فيه الخير ، فراده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فعاود فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تريد أن تكون مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهبا لسارت ، فأعاد عليه حتى دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة ، فتنحى عنها وكثرت غنمه ، فكان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيدا ونجم نفاقه ، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم ، فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال : هذه أخت الجزية ، ثم قال لهم : دعوني حتى أرى رأيي ، فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه ، قال «ويح ثعلبة» ثلاثا ، ونزلت الآية فيه ، فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك ، فقد نزل كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك ، فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة ، فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبقي


ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان. وفي قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ) نص المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه ، وقوله : (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) يقتضي موافاتهم على النفاق ، ولذلك لم يقبل الخلفاء رضي الله عنهم رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالموافاة ، ولولا الاحتمال في أنه نفاق معصية لوجب قتله ، وقرأ الأعمش «لنصدقن» بالنون الثقيلة مثل الجماعة «ولنكونن» خفيفة النون ، والضمير الذي في قوله (فَأَعْقَبَهُمْ) يعود على الله عزوجل.

ويحتمل أن يعود على «البخل» المضمن في الآية ، ويضعف ذلك الضمير في (يَلْقَوْنَهُ) ، وقوله (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) ، يحتمل أن يكون نفاق كفر ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام وتعلقه بما فيه احتمال.

ويحتمل أن يكون قوله (نِفاقاً) يريد به نفاق معصية وقلة استقامة ، فيكون تقريره صحيحا ، ويكون ترك في أول الزكاة عقابا له ونكالا.

وهذا نحو ما روي أن عاملا كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلانا يمنع الزكاة ، فكتب إليه أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين ، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك ، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع وسائرهم (يَكْذِبُونَ) ، قرأ أبو رجاء «يكذبون» ، وذكر الطبري في هذه الآية ما يناسبها من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ، إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ونحو هذا من الأحاديث ، ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة.

وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال زوجوا فلانا فإني قد وعدته لا ألقى الله بثلث النفاق ، وهذا ظاهر كلام الحسن بن أبي الحسن ، وقال عطاء بن بن أبي رباح قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء ، وهذه الأحاديث إنما هي في المنافقين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين شهد الله عليهم ، وهذه هي الخصال في سائر الأمة معاص لا نفاق.

قال القاضي أبو محمد : ولا محالة أنها كانت مع التوحيد والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معاص لكنها من قبيل النفاق اللغوي ، وذكر الطبري عن فرقة أنها قالت : كان العهد الذي عاهد الله عليه هؤلاء المنافقون شيئا نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به.

قال القاضي أبو محمد : وهذا فيه نظر ، وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) الآية ، لفظ به تعلق من قال في الآية المتقدمة إن العهد كان من المنافقين بالنية لا بالقول ، وقرأ الجمهور «يعلموا» بالياء من تحت ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «ألم تعلموا» بالتاء ، من فوق ، وهذه الآية تناسب حالهم وذلك أنها تضمنت إحاطة علم الله بهم وحصره لهم ، وفيها توبيخهم على ما كانوا عليه من التحدث في نفوسهم من الاجتماع على ثلب الإسلام ، وراحة بعضهم مع بعض في جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرعه ، فهي تعم المنافقين أجمع ، وقائل المقالة المذكورة ذهب إلى أنها تختص بالفرقة التي عاهدت.


قوله عزوجل :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠)

قوله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) رد على الضمائر في قول (يَكْذِبُونَ) [التوبة : ٧٧] و (أَلَمْ يَعْلَمُوا) [التوبة : ٧٨] و (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [التوبة : ٧٨] و (يَلْمِزُونَ) معناه ينالون بألسنتهم ، وقرأ السبعة «يلمزون» بكسر الميم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمزون» بضم الميم ، و (الْمُطَّوِّعِينَ) لفظة عموم في كل متصدق ، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله ، عطفا على (الْمُطَّوِّعِينَ) ، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) ، ولو كان (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) قد دخلوا في (الْمُطَّوِّعِينَ) لما ساغ عطف الشيء على نفسه ، وهذا قول أبي على الفارسي في قوله عزوجل : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين.

وكذلك قال في قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] وفي هذا كله نظر ، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها ، وأصل (الْمُطَّوِّعِينَ) المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم ، وأما المتصدق بكثير الذي كان سببا للآية فأكثر الروايات أنه عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت.

وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله ، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق ، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي ، تصدق بصاع من تمر وقال يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة.

فقال المنافقون : الله غني عن صدقة هذا ، وقال بعضهم : إن الله غني عن صاع أبي عقيل ، وقيل : إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة ، وقيل أقل من هذا.

فقال المنافقون : ما هذا إلا رياء ، فنزلت الآية في هذا كله ، وقوله : (فَيَسْخَرُونَ) معناه يستهزئون ويستخفون ، وهو معطوف على (يَلْمِزُونَ) ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) ، وهذا لا يلزم ، لأن قوله (وَالَّذِينَ) معمول للذي عمل في (الْمُطَّوِّعِينَ) فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيدا وعمرا فقتلهما ، وقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم ، وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) معناه مؤلم ، وهي آية وعيد محض ، وقرأ جمهور «جهدهم» بضم الجيم ، وقرأ


الأعرج وجماعة معه «جهدهم» بالفتح ، وقيل هما بمعنى واحد ، وقاله أبو عبيدة ، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم ، ونحوه عن الشعبي ، وقوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين ، ويصح أن يكون ابتداء وخبره (سَخِرَ) ، وفي (سَخِرَ) معنى الدعاء عليهم.

ويحتمل أن يكون خبرا مجردا عن الدعاء ، ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة ، وقوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ، فيكون مثل قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٣] وبمنزلة قول الشاعر : [كثير]

أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية ، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييرا ، كأنه قال له : إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر (سَبْعِينَ مَرَّةً) ، وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبيينه ذلك.

وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله ، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم ، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت ، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت» ، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول ، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقينا عنده ، ومحال أن يصلي على كافر ، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عزوجل ، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر.

وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفض إلزام دليل الخطاب ، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه ، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عزوجل ، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب ، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى : في سورة المنافقون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون : ٦] ، ولمالك رحمه‌الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب ، منها قوله : إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك ، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب ، منها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وفي سائمة الغنم الزكاة» فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة ، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة ، ومنها أن الله عزوجل يقول في الصيد (مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) [المائدة : ٩٥] فقال مالك : حكم المخطئ والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا ، وأما تمثيله «السبعين» دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية وتحقيقا في الكثرة ، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من


السين والباء والعين فهو شديد الأمر ، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه ، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك.

ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول ، وقوله (ذلِكَ) إشارة إلى امتناع الغفران ، وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) إما من حيث هم فاسقون ، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره.

قوله عزوجل :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣)

هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد ، وقوله (الْمُخَلَّفُونَ) لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه وهذا أمكن في هذا من أن يقال المتخلفون ، ولم يفرح إلا منافق ، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر ، و «مقعد» مصدر بمعنى القعود ، ومثله :

من كان مسرورا بمقتل مالك

وقوله (خِلافَ) معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك : [الكامل]

عقب الربيع خلافهم فكأنّما

بسط الشواطب بينهنّ حصير

يريد بعدهم ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى

تأهّب لأخرى مثلها فكأن قد

وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا هو مفعول له ، والمعنى (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) لخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف ، و «كراهيتهم» لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا ، وقولهم (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال ، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس ، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها


لو فهمتم ، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة «خلف» وذكرها يعقوب ولم ينسبها ، وقرىء «خلف» بضم الخاء ، ويقوي قول الطبري أن لفظة «الخلاف» هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين.

وقال محمد بن كعب : قال (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) رجل من بني سلمة.

وقال ابن عباس : قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر ، قال النقاش : وفي قراءة عبد الله «يعلمون» بدل (يَفْقَهُونَ) ، وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خثيم وقتادة وابن زيد قوله (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) إشارة إلى مدة العمر في الدنيا ، وقوله (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) إشارة إلى تأبيد الخلود في النار ، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم ، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله ، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا ، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأمته «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا».

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه يا محمد لا تقنط عبادي ، و (جَزاءً) متعلق بالمعنى الذي تقديره (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) إذ هم معذبون (جَزاءً) ، وقوله : (يَكْسِبُونَ) نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب ، وقوله : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) الآية ، «رجع» يستوي مجاوزه وغير مجاوزه ، وقوله تعالى : «إن» مبينة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه وأيضا فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يقول لهم (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ) ، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب ، وقوله : (إِلى طائِفَةٍ) يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون ، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدوا ، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم» ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله ، وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) ونص في موافاتهم ، ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها.

وروي عن حذيفة أنه قال يوما : بقي من المنافقين كذا وكذا ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم؟ فقال لا ، والله ، لا أمنه منها أحدا بعدك ، وقرأ جمهور الناس «معي» بسكون الياء في الموضعين ، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معي» بحركة الياء في الموضعين ، وقوله (أَوَّلَ) هو الإضافة إلى وقت الاستئذان.

و «الخالفون» جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان


ثم نساء ، وهو جمع خالف ، وقال قتادة «الخالفون» النساء ، وهذا مردود ، وقال ابن عباس : هم الرجال ، وقال الطبري : يحتمل قوله (مَعَ الْخالِفِينَ) أن يريد مع الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة ، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين» وهو مقصور من الخالفين ، كما قال : عردا وبردا يريد عاردا وباردا ، وكما قال الآخر : [الرجز]

مثل النقا لبده برد الظلال

يريد الظلال.

قوله عزوجل :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)(٨٧)

هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه‌السلام ، فجذبه بثوبه وتلا عليه ، (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يصل عليه ، وتظاهرت الروايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى عليه ، وأن الآية نزلت بعد ذلك ، وفي كتاب الجنائز من البخاري من حديث جابر ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج ووضعه على ركبته ونفث عليه من ريقه ، وألبسه قميصه ، وروي في ذلك أن عبد الله بن أبي بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه ورغب إليه أن يستغفر له وأن يصلي عليه.

وروي أن ابنه عبد الله بن عبد الله جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موت أبيه فرغب في ذلك وفي أن يكسوه قميصه الذي يلي بدنه ، ففعل ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلي عليه قام إليه عمر رضي الله عنه ، فقال يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟

وجعل يعدد أفعال عبد الله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أخر عني يا عمر ، فإني خيرت ، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت» ، وفي حديث آخر «إن قميصي لا يغني عنه من الله


شيئا ، وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي» ، كذا في بعض الروايات ، يريد من منافقي العرب ، والصحيح أنه قال رجال من قومه ، فسكت عمر وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله ، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك ، وصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموضع إظهاره الإيمان ، ومحال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره وبعد هذا والله أعلم ، عين له من لا يصلي عليه.

ووقع في معاني أبي إسحاق وفي بعض كتب التفسير ، فأسلم وتاب بهذه الفعلة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والرغبة من عبد الله ألف رجل من الخزرج.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، قاله من لم يعرف عدة الأنصار ، وقوله تعالى : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) الآية ، تقدم تفسير مثل هذه الآية ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، إذ هو بإجماع ممن لا تفتنه زخارف الدنيا.

ويحتمل أن يكون معنى الآية ولا تعجبك أيها الإنسان ، والمراد الجنس ، ووجه تكريرها تأكيد هذا المعنى وإيضاحه ، لأن الناس كانوا يفتنون بصلاح حال المنافقين في دنياهم ، وقوله (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) الآية ، العامل في (إِذا اسْتَأْذَنَكَ) ، و «السورة» المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم ، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول ، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء ، فالسورة قطعة من القرآن ، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئا بعد شيء ، فهي الرتبة بعد الرتبة ، ومن هذا قول النابغة : [الطويل]

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

وقد مضى هذا كله مستوعبا في صدر هذا الكتاب ، و (أَنْ) في قوله : (أَنْ آمِنُوا) يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها ، ويحتمل أن يكون التقدير ب «أن» فهي في موضع نصب ، و (الطَّوْلِ) في هذه الآية المال ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما ، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، و «القاعدون» الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر.

وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) الآية ، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان ، و (الْخَوالِفِ) النساء جمع خالفة ، هذا قول جمهور المفسرين ، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم ، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش : (الْخَوالِفِ) من لا خير فيه ، وقالت فرقة (الْخَوالِفِ) جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، (وَطُبِعَ) في هذه الآية مستعار ، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعا منه وحفاظا عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه ، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب ، و (لا يَفْقَهُونَ) معناه لا يفهمون.


قوله عزوجل :

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)

الأكثر في (لكِنِ) أن تجيء بعد نفي ، وهو هاهنا في المعنى ، وذلك أن الآية السالفة معناها أن المنافقين لم يجاهدوا فحسن بعدها «لكن الرسول والمؤمنون جاهدوا» ، و (الْخَيْراتُ) جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ، وكثر استعماله في النساء ، فمن ذلك قوله عزوجل : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] ومن ذلك قول الشاعر أنشده الطبري : [الكامل]

ربلات هند خيرة الملكات

و (الْمُفْلِحُونَ) الذين أدركوا بغيتهم من الجنة ، والفلاح يأتي بمعنى إدراك البغية ، من ذلك قول لبيد : [الرجز]

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض

عف وقد يخدع الأريب

ويأتي بمعنى البقاء ومن ذلك قول الشاعر : [المنسرح]

لكل همّ من الهموم سعه

والمسى والصبح لا فلاح معه

أي لا بقاء.

قال القاضي أبو محمد : وبلوغ البغية يعم لفظة الفلاح حيث وقعت فتأمله ، و (أَعَدَّ) معناه يسر وهيأ ، وقوله (مِنْ تَحْتِهَا) يريد من تحت مبانيها وأعاليها ، و (الْفَوْزُ) حصول الإنسان على أمله ، وظفره ببغيته ، ومن ذلك فوز سهام الأيسار.

وقوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية ، اختلف المتألون في هؤلاء الذي جاءوا هل كانوا مؤمنين أو كافرين ، فقال ابن عباس وقوم معه منهم مجاهد : كانوا مؤمنين وكانت أعذارهم صادقه ، وقرأ «وجاء المعذرون» بسكون العين ، وهي قراءة الضحاك وحميد الأعرج وأبي صالح وعيسى بن هلال. وقرأ بعض قائلي هذه المقالة «المعذّرون» بشد الذال ، قالوا وأصله المتعذرون فقلبت التاء ذالا وأدغمت.

ويحتمل المعتذرون في هذا القول معنيين أحدهما المتعذرون بأعذار حق والآخر أن يكون الدين قد بلغوا عذرهم من الاجتهاد في طلب الغزو معك فلم يقدروا فيكون مثل قول لبيد :

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر


وقال قتادة وفرقة معه : بل الذين جاءوا كفرة وقولهم وعذرهم كذب ، وكل هذه الفرقة قرأ «المعذّرون» بشد الذال ، فمنهم من قال أصله المتعذرون نقلت حركة التاء إلى العين وأدغمت التاء في الذال ، والمعنى معتذرون بكذب ، ومنهم من قال هو من التعذير أي الذين يعذرون الغزو ويدفعون في وجه الشرع ، فالآية إلى آخرها في هذا القول إنما وصفت صنفا واحدا في الكفر ينقسم إلى أعرابي وحضري ، وعلى القول الأول وصفت صنفين : مؤمنا وكافرا ، قال أبو حاتم : وقال بعضهم سألت مسلمة فقال «المعذّرون» بشد العين والذال ، قال أبو حاتم : أراد المعتذرين والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج وهي غلط عنه أو عليه ، قال أبو عمرو : وقرأ سعيد بن جبير «المعتذرون» بزيادة تاء ، وقرأ الحسن بخلاف عنه وأبو عمرو ونافع والناس «كذبوا» بتخفيف الذال ، وقرأ الحسن وهو المشهور عنه وأبي بن كعب ونوح وإسماعيل «كذّبوا» بتشديد الذال ، والمعنى لم يصدقوه تعالى ولا رسوله وردوا عليه أمره ، ثم توعد في آخر الآية الكافرين ب (عَذابٌ أَلِيمٌ) ، فيحتمل أن يريد في الدنيا بالقتل والأسر.

ويحتمل أن يريد في الآخرة بالنار ، وقوله : (مِنْهُمْ) يريد أن المعذرين كانوا مؤمنين ويرجحه بعض الترجيح فتأمله ، وضعف الطبري قول من قال إن المعذرين من التعذير وأنحى عليه ، والقول منصوص ووجهه بين والله المعين ، وقال ابن إسحاق «المعذرون» نفر من بني غفار منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنهم مؤمنون.

قوله عزوجل :

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)(٩٢)

يقول تعالى ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زمانة أو عدم نفقة إثم ، و «الحرج» الإثم ، وقوله : (إِذا نَصَحُوا) يريد بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا ، وقرأ حيوة «نصحوا الله ورسوله» بغير لام وبنصب الهاء المكتوبة ، وقوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) الآية ، في لائمة تناط بهم أو تذنيب أو عقوبة ، ثم أكد الرجاء بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقرأ ابن عباس «والله لأهل الإساءة غفور رحيم».

قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف ، واختلف فيمن المراد بقوله : (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) ، فقالت فرقة : نزلت في بني مقرن.

قال القاضي أبو محمد : وبنو مقرن ستة إخوة صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم ، وقيل كانوا سبعة ، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل المزني ، قاله ابن عباس ، وقوله


تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) الآية ، اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في عرباض بن سارية ، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل ، وقيل في عائذ بن عمرو ، وقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه ، وقيل في بني مقرن ، وعلى هذا جمهور المفسرين ، وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى ، فهم البكاءون وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن من بني مازن بن النجار ، وسليمان بن صخر من بني المعلى ، وأبو رعياة عبد الرحمن بن زيد من بني حارثة وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائد بن عمرو المزني ، وقيل عبد الله بن عمرو المزني قال هذا كله محمد بن كعب القرظي ، وقال مجاهد : البكاءون هم بنو مكدر من مزينة.

ومعنى قوله : (لِتَحْمِلَهُمْ) أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث ، وقال بعض الناس : إنما استحملوه النعال ، ذكره النقاش عن الحسن بن صالح ، وهذا بعيد شاذ ، والعامل في (إِذا) يحتمل أن يكون (قُلْتَ) ، ويكون قوله (تَوَلَّوْا) مقطوعا.

ويحتمل أن يكون العامل (تَوَلَّوْا) ويكون تقدير الكلام فقلت ، أو يكون قوله (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) بمنزلة وجدوك في هذه الحال.

وفي الكلام اختصار وإيجاز ولا بد يدل ظاهر الكلام على ما اختصر منه ، وقال الجرجاني في النظم له إن قوله (قُلْتَ) في حكم المعطوف تقديره وقلت ، و (حَزَناً) نصب على المصدر ، وقرأ معقل بن هارون «لنحملهم» بنون الجماعة.

قوله عزوجل :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٤)

قوله في هذه الآية (إِنَّمَا) ليس بحصر وإنما هي للمبالغة فيما يريد تقريره على نحو ذلك إنما الشجاع عنترة ويقضي بذلك انّا نجد السبيل في الشرع على غير هذه الفرقة موجودا ، و (السَّبِيلُ) قد توصل ب (عَلَى) و (إِلى) فتقول لا سبيل على فلان ولا سبيل إلى فلان غير أن وصولها ب (عَلَى) يقتضي أحيانا ضعف المتوصل إليه وقلة منعته ، فلذلك حسنت في هذه الآية ، وليس ذلك في إلى ، ألا ترى أنك تقول فلان لا سبيل إلى الأمر ولا إلى طاعة الله ولا يحسن في شبه هذا على ، و (السَّبِيلُ) في هذه الآية سبيل المعاقبة ، وهذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب وغيرهم ، وقد تقدم نظير تفسير الآية ، قوله : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) الآية ، هذه المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،


وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضا إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضا تحصل للمؤمنين وقوله : (رَجَعْتُمْ) يريد من غزوة تبوك ، وقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) معناه لن نصدقكم ، ولكن لفظة (نُؤْمِنَ) تتصل بلام أحيانا كما تقدم في قوله (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١] ، و «نبأ» في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف لا تحتاج إلى أكثر من مفعولين ، فالضمير مفعول أول ، وقوله (مِنْ أَخْبارِكُمْ) مفعول ثان على مذهب أبي الحسن في زيادة (مِنْ) في الواجب ، فالتقدير قد نبأنا الله أخباركم ، وهو على مذهب سيبويه نعت لمحذوف هو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جلية من أخباركم ، وقيل «نبأ» بمعنى أعلم يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل ، فالضمير واحد و (مِنْ أَخْبارِكُمْ) ثان حسب ما تقدم من القولين ، والثالث محذوف يدل الكلام عليه ، تقديره قد نبأنا الله من أخباركم كذبا أو نحوه.

وحذف هذا المفعول مع الدلالة عليه جائز بخلاف الاقتصار ، وذلك أن الاقتصار إنما يجوز إما على المفعول الأول ويسقط الاثنان إذ هما الابتداء والخبر ، وإما على الاثنين الأخيرين ويسقط الأول ، وإما أن يقتصر على المفعولين الأولين ويسقط الثالث دون دلالة عليه ، فذلك لا يجوز ، ويجوز حذفه مع الدلالة عليه والإشارة بقوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) إلى قوله (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) [التوبة : ٤٧] ونحو هذا ، وقوله (وَسَيَرَى اللهُ) توعد معناه وسيراه في حال وجوده ويقع الجزاء منه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وقوله : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) يريد البعث من القبور ، و (الْغَيْبِ) والشهادة يعمان جميع الأشياء وقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ) معناه التخويف ممن لا تخفى عليه خافية.

قوله عزوجل :

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٩٧)

قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وذلك أن بعض المنافقين اعتذروا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستأذنوه في القعود قبل مسيره فأذن لهم فخرجوا من عنده وقال أحدهم والله ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : والله لقد نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكم قرآن ، فقالوا له وما ذلك؟ فقال لا أحفظ إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي والله لوددت أن أجلد مائة جلدة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له ما جاء بك؟ فقال : وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ ، فروي أنه ممن تاب وقوله : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أمرنا بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق.


وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المغالطة مبسوطا ، وقوله (رِجْسٌ) أي نتن وقذر ، وناهيك بهذا الوصف محطة دنياوية ، ثم عطف بمحطة الآخرة فقال (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مسكنهم ، ثم جعل ذلك جزاء بتكسبهم المعاصي والكفر مع أن ذلك مما قدره الله وقضاه لا رب غيره ولا معبود سواه ، وأسند الطبري عن كعب بن مالك أنه قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك جلس للناس فجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، وقوله (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) ، هذه الآية والتي قبلها مخاطبة للمؤمنين مع الرسول ، والمعنى يحلفون لكم مبطلين ومقصدهم أن ترضوا لا أنهم يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر ، وقوله (فَإِنْ تَرْضَوْا) إلى آخر الآية ، شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم ، وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها ، فإن المؤمن ينبغي أن يبغضه ولا يرضى عنه لسبب من أسباب الدنيا ، وقوله (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) الآية ، (الْأَعْرابُ) لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عزوجل ، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر ، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع ، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي ، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة ، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم ، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد : وما يريبك من يدي وهي الشمال؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال؟ فقال زيد صدق الله (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) ، (وَأَجْدَرُ) معناه أحرى وأقمن ، و «الحدود» هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٩)

هذا نص من المنافقين منهم ، ومعنى (يَتَّخِذُ) في هذه الآيات أي يجعل مقصده ولا ينوي فيه غير ذلك ، وأصل «المغرم» الدين ، ومنه تعوذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المغرم والمأثم ، ولكن كثر استعمال المغرم فيما يؤديه الإنسان مما لا يلزمه بحق ، وفي اللفظ معنى اللزوم ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] أي مكروها لازما ، و (الدَّوائِرَ) المصائب التي لا مخلص للإنسان منها فهي تحيط به كما تحيط الدائرة ، وقد يحتمل أن تشتق من دور الزمان ، والمعنى ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به ، ثم قال على جهة الدعاء (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عزوجل فإنما


هو بمعنى إيجاب الشيء ، لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ومن هذا ، (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] وللمطففين. ، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى ، وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم «دائرة السّوء» بفتح السين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن واختلف عنه عاصم والأعمش بخلاف عنهما «دائرة السّوء» بضم السين ، واختلف عن ابن كثير ، وقيل الفتح المصدر والضم الاسم ، واختلف الناس فيهما وهو اختلاف يقرب بعضه من بعض والفتح في السين يقتضي وصف الدائرة بأنها سيئة ، وقال أبو علي معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فإنما هي إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه.

قال القاضي أبو محمد : ولا يقال رجل سوء بفتح السين ، هذا قول أكثرهم وقد حكي «رجل سوء» بضم السين وقد قال الشاعر [الفرزدق] : [الطويل]

وكنت كذئب السّوء لما رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم

ولم يختلف القراء في فتح السين من قوله (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] وقوله تعالى: (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية ، قال قتادة : هذه ثنية الله تعالى من الأعراب ، و (يَتَّخِذُ) في هذه الآية أيضا هي بمعنى يجعله مقصدا ، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عزوجل واستغنام دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم ، ف (صَلَواتِ) على هذا عطف على (قُرُباتٍ) ، ويحتمل أن يكون عطفا على ما ينفق ، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة ، والأولى أبين ، و (قُرُباتٍ) جمع قربة أو قربة بسكون الراء وضمها وهما لغتان و «الصلاة» في هذه الآية الدعاء إجماعا.

وقال بعض العلماء : الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء ، ومن الناس عبادة ، والضمير في قوله (إِنَّها) يحتمل أن يعود على النفقة ، وهذا في انعطاف «الصلوات» على «القربات» ، ويحتمل أن يعود على الصلوات وهذا في انعطافه على ما ينفق ، وقرأ نافع «قربة» بضم الراء ، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش ، وقرأ الباقون «قربة» بسكون الراء ولم يختلف في (قُرُباتٍ) ، ثم وعد تعالى بقوله (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) الآية ، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد ، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت فينا (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) إلى آخر الآية.

قال القاضي أبو محمد : وقوله عشرة ولد مقرن يريد السنة أولاد مقرن لصلبه أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن ، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم.

قوله عزوجل :

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)


وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(١٠١)

قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) من صلى القبلتين ، وقال عطاء (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) من شهد بدرا.

قال القاضي أبو محمد : وحولت القبلة قبل بدر بشهرين ، وقال عامر بن شراحيل الشعبي : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) من أدرك بيعة الرضوان ، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) يريد سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان ، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولا يقتضيه اللفظ وتكون (مِنَ) لبيان الجنس ، (وَالَّذِينَ) في هذه الآية عطف على قوله (وَالسَّابِقُونَ) ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار» برفع الراء عطفا على (وَالسَّابِقُونَ) ، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) وجعل الأتباع عديلا للأنصار ، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد ، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الآية : ٣] وفي سورة الحشر (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الآية : ١٠] وفي سورة الأنفال في قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) [الآية : ٧٥] ، فرجع عمر إلى قول أبي ، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» فتأمله ، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» ، وقرأ الباقون «تحتها» بإسقاط «من» ومعنى هذه الآية الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته و (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية ، مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرك في بعضها أمته ، والإشارة بقوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) هي إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة ، فأخبر الله عن منافقيهم ، وتقدير الآية : ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ ، و (مَرَدُوا) قال أبو عبيدة : معناه مرنوا عليه ولجوا فيه ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون.

والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو المردود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك ، وهو مستعمل في الشر لا في الخير ، ومن ذلك قولهم شيطان مارد ومريد ،


ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت ، وقال بعض الناس : يقال تمرد الرجل في أمر كذا إذا تجرد له ، وهو من قولهم شجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق ، ومنه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [النمل : ٤٤] ومنه قولهم : تمرد مارد وعز الأبلق ومنه الأمرد الذي لا لحية له ، فمعنى (مَرَدُوا) في هذه الآية لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم ، ثم نفى عزوجل علم نبيه بهم على التعيين ، وأسند الطبري عن قتادة في قوله (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة فلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري ، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل ، قال نبي الله نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١٢] وقال نبي الله شعيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [هود : ٨٦] وقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) في مصحف أنس بن مالك «سيعذبهم» بالياء والكلام على القراءتين وعيد ، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب ، ولا خلاف بين المتأولين أن «العذاب العظيم» الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة ، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر ، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال مجاهد وغيره : هو عذابهم بالقتل والجوع ، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا ، وقال ابن عباس أيضا : عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه ، وقال ابن إسحاق : عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته ، وقال ابن عباس وهو الأشهر عنه : عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق ، وروي في هذا التأويل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق واخرج أنت يا فلان واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء ، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر.

قال القاضي أبو محمد : وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا بهم هو على جهة التأديب اجتهادا منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضا من العذاب ، وقال قتادة وغيره : العذاب الأول هي علل وأدواء أخبر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يصيبهم بها ، وأسند الطبري في ذلك عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين وقال «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا» ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى صلى عمر عليه وإلا ترك.

وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قال لا والله ولا أؤمن منها أحدا بعدك؟ وقال ابن زيد في قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد ، لكل صنف


عذاب ، فهو مرتان ، وقرأ قول الله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥] وقال ابن زيد أيضا «المرتان» هي في الدنيا ، الأولى القتل والجوع والمصائب ، والثانية الموت إذ هو للكفار عذاب ، وقال الحسن : الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم ، و «العذاب العظيم» هو جميع ما بعد الموت ، وأظن الزجّاج أشار إليه.

قوله عزوجل :

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٠٣)

المعنى ومن هذه الطوائف (آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) ، واختلف في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس فيما روي عنه وأبو عثمان : هي في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة ، فهي آية ترج على هذا ، وأسند الطبري هذا عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) ، وقال قتادة بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة ، وذلك أنه كلمهم في النزول على حكم الله ورسوله فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ونزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحله ، وذكر هذا الطبري عن مجاهد ، وذكره ابن إسحاق في كتاب السير أوعب وأتقن ، وقالت فرقة عظيمة : بل نزلت هذه الآية في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك ، فكان عملهم السيّء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة ، واختلفوا في «الصالح» فقال الطبري وغيره الاعتراف والتوبة والندم ، وقالت فرقة بل «الصالح» غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختلف أهل هذه المقالة في عدد القوم الذين عنوا بهذه الآية ، فقال ابن عباس : كانوا عشرة رهط ربط منهم أنفسهم سبعة ، وبقي الثلاثة الذين خلفوا دون ربط المذكورون بعد هذا ، وقال زيد بن أسلم كانوا ثمانية منهم كردم ومرداس وأبو قيس وأبو لبابة ، وقال قتادة : كانوا سبعة ، وقال ابن عباس أيضا وفرقة : كانوا خمسة ، وكلهم قال كان فيهم أبو لبابة ، وذكر قتادة فيهم الجد بن قيس وهو فيما أعلم وهم لأن الجد لم يكن نزوله توبة ، وأما قوله (وَآخَرَ) فهو بمعنى بآخر وهما متقاربان ، و (عَسَى) من الله واجبة.

وروي في خبر الذين ربطوا أنفسهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المسجد فرآهم ، قال ما بال هؤلاء؟ فقيل له إنهم تابوا وأقسموا أن لا ينحلوا حتى يحلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعذرهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأنا والله لا أحلهم ولا أعذرهم إلا أن يأمرني الله بذلك ، فإنهم تخلفوا عني وتركوا جهاد الكفار مع المؤمنين» ، وقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية ، روي أن أبا


لبابة والجماعة التائبة التي ربطت أنفسها وهي المقصودة بقوله (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) جاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تيب عليها فقالت يا رسول الله إنّا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المراد بها ، فروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى : (مِنْ أَمْوالِهِمْ) ، فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين ، ابن عباس رضي الله عنه وغيره ، وقالت جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الزكاة المفروضة ، فقوله على هذا (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ). ضميره لجميع الناس ، وهو عموم يراد به الخصوص إذ يخرج من الأموال الأنواع التي لا زكاة فيها كالثياب والرباع ونحوه ، والضمير الذي في (أَمْوالِهِمْ) أيضا كذلك عموم يراد به خصوص ، إذ يخرج منه العبيد وسواهم ، وقوله (صَدَقَةً) مجمل يحتاج إلى تفسير ، وهذا يقتضي أن الإمام يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها ، و (مِنْ) في هذه الآية للتبعيض ، هذا أقوى وجوهها ، وقوله (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أحسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من الضمير في (خُذْ) ، ويحتمل أن تكون من صفة «الصدقة» ، وهذا مترجح بحسب رفع الفعل ويكون قوله (بِها) أي بنفسها أي يقع تطهيرهم من ذنوبهم بها ، ويحتمل أن يكون (تُطَهِّرُهُمْ) صفة «للصدقة» ، (وَتُزَكِّيهِمْ) مسندا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون حالا من «الصدقة» ، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة ، وحكى مكي أن يكون (تُطَهِّرُهُمْ) من صفة الصدقة ، وقوله (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) حالا من الضمير في (خُذْ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لمكان واو العطف لأن ذلك يتقدر خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكيا بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو لم يكن في الكلام واو العطف جاز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تطهرهم» بسكون الطاء ، وقوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمأنينة ووقارا ، فهذه عبارة عن صلاح المعتقد ، وحكى مكي والنحاس وغيرهما أنه قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [التوبة : ٨٤].

قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم بعيد ، وذلك أن تلك في المنافقين الذين لهم حكم الكافرين ، وهذه في التائبين من التخلف الذين لهم حكم المؤمنين فلا تناسخ بين الآيتين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ونافع وابن عامر «إن صلواتك» بالجمع ، وكذلك في هود وفي المؤمنين وقرأ حفص عن عاصم وحمزة والكسائي «ان صلاتك» بالإفراد ، وكذلك قرأ حمزة والكسائي في هود وفي المؤمنين ، وقرأ عاصم في المؤمنين وحدها جمعا ، ولم يختلفوا في سورة الأنعام وسأل سائل ، وهو مصدر أفردته فرقة وجمعته فرقة ، وقوله (سَمِيعٌ) لدعائك (عَلِيمٌ) أي بمن يهدي ويتوب عليه وغير ذلك مما تقتضيه هاتان الصفتان ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية فعل ما أمر به من الدعاء والاستغفار لهم ، قال ابن عباس (سَكَنٌ لَهُمْ) رحمه لهم ، وقال قتادة (سَكَنٌ لَهُمْ) أي وقار لهم.

قال القاضي أبو محمد : وإنما معناه أن من يدعو له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه تطيب نفسه ويقوى رجاؤه ، ويروى أنه قد صحت وسيلته إلى الله تعالى وهذا بين.


قوله عزوجل :

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥)

قرأ جمهور الناس (أَلَمْ يَعْلَمُوا) على ذكر الغائب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا» على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا» ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق ، والضمير في (يَعْلَمُوا) قال ابن زيد : يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ، وذلك أنهم لما تيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء؟ فنزلت هذه الآية ، ويحتمل أن يكون الضمير في (يَعْلَمُوا) يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم ، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك ، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل ، ذلك أن يكون قبول رسوله قبولا منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك ، وقوله (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.

وقال الزجّاج : معناه ويقبل الصدقات ، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه : «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل» ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة : «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل» ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد ، فقد يحتمل أن تخرج لفظة (وَيَأْخُذُ) على هذا ، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة ، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عزوجل إجماعا ، وهذه نازلة هذه الآية ، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر ، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم ، واختلف هل تقبل توبة الجميع ، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله ، وأما إذا فرضنا تائبا غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا ، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون ـ وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه ـ يقطع على الله بقول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه ، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين ، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء ، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه ، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم.

قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القول ، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب ، وقوله تعالى (عَنْ عِبادِهِ) هي بمعنى «من» ، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره ، وقوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا) تقرير ،


والمعنى حق لهم أن يعلموا ، وقوله (وَقُلِ اعْمَلُوا) الآية ، صيغة أمر مضمنها الوعيد ، وقال الطبري : المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا) إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في الذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ٨٤] ، ومعنى (فَسَيَرَى اللهُ) أي موجودا معوضا للجزاء عليه بخير أو شر ، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز ، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز ، وقال الحسن ما معناه : إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ، وقوله تعالى (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يريد البعث من القبور ، و (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) معناه ما غاب وما شوهد ، وهي حالتان تعم كل شيء ، وقوله (فَيُنَبِّئُكُمْ) عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد.

قوله عزوجل :

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٠٧)

قوله (وَآخَرُونَ) عطف على قوله أولا (وَآخَرُونَ) [التوبة : ٨٤] ، وقرأ نافع والأعرج وابن نصاح وأبو جعفر وطلحة والحسن وأهل الحجاز «مرجون» من أرجى دون همز ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وأهل البصرة «مرجؤون» من أرجأ يرجىء بالهمز ، واختلف عن عاصم ، وهما لغتان ، ومعناهما التأخير ومنه المرجئة لأنهم أخروا الأعمال أي أخروا حكمها ومرتبتها ، وأنكر المبرد ترك الهمز في معنى التأخير وليس كما قال ، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن إسحاق الثلاثة الذين خلفوا وهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك ، ونزلت هذه الآية قبل التوبة عليهم ، وقيل إنها نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار ، وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من (آخَرُونَ) ، أو خبر ابتداء تقديره هم الذين ، فالآية على هذا فيها ترج لهم واستدعاء إلى الإيمان والتوبة ، و (عَلِيمٌ) معناه بمن يهدي إلى الرشد ، و (حَكِيمٌ) فيما ينفذه من تنعيم من شاء وتعذيب من شاء لا رب غيره ولا معبود سواه ، وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا» ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا» بإسقاط الواو ، وكذلك في مصحفهم ، قاله أبو حاتم ، وقال الزهراوي : وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو ، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله (وَآخَرُونَ) أي ومنهم الذين اتخذوا ، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع (الَّذِينَ) بالابتداء.

واختلف في الخبر فقيل الخبر (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) [التوبة : ١٠٨] قاله الكسائي ويتجه بإضمار إما في أول الآية


وإما في آخرها ، بتقدير لا تقم في مسجدهم وقيل الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح ، وقد ذكرت كون (الَّذِينَ) بدلا من ، (آخَرُونَ) ، آنفا ، وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه ، وأما الجماعة المرادة ب (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) ، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه ، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف ، وذكر النقاش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي ، وكان بانوه اثني عشر رجلا ، خذام بن خالد ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب ومتعب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وجارية بن عمرو وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم ، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث ، ويخرج وهو من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أردت إلا الحسنى» والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى» ، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد ، فروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بني مسجدا في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء ، وقيل وجده مبنيا قبل وروده ، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك ، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، فكان فيهم نفاق ، وكان موضع مسجد قباء مربطا لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية ، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم ، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيدا نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك فسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاسق ، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهرا لعداوته ، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف.

فلما أسلم أهل الطائف خرج هاربا إلى الشام يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجدا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له ، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه ، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبدا ويسر به ، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر ، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله» وقوله


(ضِراراً) أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال (ضِراراً) وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه ، ونصب «ضرار» وما بعده على المصدر في موضع الحال ، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله ، وقوله (بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان ، وقيل أراد بقوله (بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) جماعة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك ، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبدا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفقه غير قوي ، و «الإرصاد» الإعداد والتهيئة ، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق ، وقوله (مِنْ قَبْلُ) يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، والحالف المراد في قوله (لَيَحْلِفُنَ) هو يخرج ومن حلف من أصحابه ، وكسرت الألف من قوله (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأن الشهادة في معنى القول ، وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضرارا ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار ، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات.

قوله عزوجل :

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠٩)

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : بنينا مسجدا للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمشي معهم إلى ذلك ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) وقوله : (لَمَسْجِدٌ) قيل إن اللام لام قسم ، وقيل هي لام الابتداء كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلا ، وهي مقتضية تأكيدا ، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المراد «بالمسجد الذي أسس على التقوى» هو مسجد قباء.

وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ويليق القول الأول بالقصة ، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نظر مع الحديث ،


وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال : اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري : هو مسجد الرسول وقال الآخر : هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا ، وفي الآخر خير كثير إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد.

قال القاضي أبو محمد : ومسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومريد ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة ، وبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات ، الأولى بالسميط وهي لبنة أمام لبنة ، والثانية بالصعيدة ، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط ، والثالثة بالأنثى والذكر ، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان ، وكان في طوله سبعون ذراعا وكان عمده النخل وكان عريشا يكف في المطر ، وعرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنيانه ورفعه فقال : لا بل يكون عريشا كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل فيه اللبن على صدره ، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم وضع أبو بكر حجرا ، ثم وضع عمر حجرا ، ثم وضع عثمان حجرا ، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله ، قوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) قيل معناه منذ أول يوم ، وقيل معناه من تأسيس أول يوم ، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن «من» لا تجر بها الأزمان ، وإنما تجر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم ، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم ، فإذا وقعت «من» في الكلام وهي تلي زمنا فيقدر مضمر يليق أن تجره «من» كقول الشاعر : [زهير بن أبي سلمى]

لمن الديار كقنة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

ومن شهر رواية ، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر ، ولما كان «أول يوم» يوما وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس ، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام ، وهي هاهنا تقوم مقام المر في البيت المتقدم ، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ، ومعنى (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي بصلاتك وعبادتك ، وقرأ جمهور الناس «أن تقوم فيه فيه رجال» بكسر الهاء ، وقرأ عبد الله بن زيد «أن تقوم فيه فيه» بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد ، وقال قتادة وغيره : الضمير عائد على مسجد الرسول ، و «الرجال» جماعة الأنصار.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون؟ فقالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء.

قال القاضي أبو محمد : يريد الاستنجاء بالماء ، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا تدعوه أبدا ، وقال عبد الله بن سلام وغيره ما معناه : إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف.


وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما قال المقالة المتقدمة لنبي عمرو بن عوف والأول أكثر ، واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا ، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجارا في تراب ينقون بها ، ثم يستنجون بالماء أخذا بهذا القول.

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتصور الخلاف في البلاد التي يمكن فيها أن تنقى الحجارة ، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء ، وهو قول شذ فيه ، وقرأ جمهور الناس «يتطهروا» ، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يطهروا» بالإدغام ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «المتطهرين» بالتاء ، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال : أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : منهم عويم بن ساعدة ولم يسم أحد منهم غير عويم ، وقوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) الآية استفهام بمعنى تقرير ، وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «أسس بنيانه» على بناء «أسس» للمفعول ورفع «بنيان» فيهما ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجماعة «أسس بنيانه» على بناء الفعل للفاعل ونصب «بنيان» فيهما ، وقرأ عمارة بن ضبا رواه يعقوب الأول على بناء الفعل للمفعول والثاني على بنائه للفاعل ، والآية تتضمن معادلة بين شيئين ، فإما بين البناءين وإما بين البانين ، فالمعادلة الأولى هي بتقدير أبناء من أسس ، وقرأ نصر بن علي ورويت عن نصر بن عاصم : «أفمن أس بنيانه» على إضافة «أس» إلى «بنيان» وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة أيضا «أساس بنيانه» ، وقرأ نصر بن عاصم أيضا «أسس بنيانه» على وزن فعل بضم الفاء والعين وهو جمع أساس كقذال وقذل حكى ذلك أبو الفتح ، وذكر أبو حاتم أن هذه القراءة لنصر إنما هي «أسس» بهمزة مفتوحة وسين مفتوحة وسين مضمومة ، وعلى الحكايتين فالإضافة إلى البنيان ، وقرأ نصر بن علي أيضا «أساس» على جمع «أس» و «البنيان» يقال بنى يبني بناء وبنيانا كالغفران والطغيان فسمي به المبنى مثل الخلق إذا أردت به المخلوق ، وقيل هو جمع واحده بنيانة ، وأنشد في ذلك أبو علي : [الطويل]

كبنيانة القاري موضع رجلها

وآثار نسعيها من الدق أبلق

وقرأ الجمهور (عَلى تَقْوى) وقرأ عيسى بن عمر «على تقوّى» بتنوين الواو حكى هذه القراءة سيبويه وردها الناس ، قال أبو الفتح : قياسها أن تكون الألف للإلحاق كأرطى ونحوه ، وأما المراد بالبنيان الذي أسس على التقوى والرضوان فهو في ظاهر اللفظ وقول الجمهور المسجد المذكور قبل ويطرد فيه الخلاف المتقدم ، وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : المراد بالمسجد المؤسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بأنه أسس على تقوى من الله ، (وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) هو مسجد قباء ، وأما البنيان الذي أسس (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) فهو مسجد الضرار بإجماع. و «الشفا» الحاشية والشفير. و «الجرف» حول البئر ونحوه مما جرفته السيول والندوة والبلى. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو


والكسائي وجماعة «جرف» بضم الراء ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وجماعة «جرف» بسكون الراء ، واختلف عن عاصم. وهما لغتان ، وقيل الأصل ضم الراء وتخفيفها بعد ذلك مستعمل و (هارٍ) : معناه متهدم منهال وهو من هار يهور ويقال هار يهير ويهير ، وأصله هاير أو هاور ، فقيل قلبت راؤه قبل حرف العلة فجاء هارو أو هاري فصنع به ما صنع بقاض وغاز ، وعلى هذا يقال في حال النصب هاريا ، ومثله في يوم راح أصله رايح ومثله شاكي السلاح أصله شايك ومثله قول العجاج : [الوافر]

لاث به الأشاء والعبري

أصله لايث.

ومثله قول الشاعر [الأجدع الهمداني] : [الكامل]

خفضوا أسنتهم فكلّ ناع

على أحد الوجهين :

فإنه يحتمل أنه من نعى ينعي والمراد أنهم يقولون يا ثارات فلان ، ويحتمل أن يريد فكلهم نايع أي عاطش كما قال عامر بن شييم ، والأسل النياعا وقيل في (هارٍ) إن حرف علته حذف حذفا فعلى هذا يجري بوجوه الإعراب ، فتقول : جرف هار ورأيت جرفا هارا ، ومررت بحرف هار.

واختلف القراء في إمالة (هارٍ) وانهار ، وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه ، كما صنع بمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مسجد قباء.

والتأسيس (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين ، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة ، و (خَيْرٌ) في هذه الآية تفضيل ولا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد يأتي مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل ، وقوله (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) الظاهر منه وما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل ، أي مثل هؤلاء المضارين من المنافقين في قصدهم معصية الله وحصولهم من ذلك على سخطه كمن ينهار بنيانه في نار جهنم ، ثم اقتضب الكلام اقتضابا يدل عليه ظاهره ، وقيل بل ذلك حقيقة وإن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة وابن جريج.

وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال : رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام أكملوه يوم الجمعة وصلوا فيه يوم الجمعة وليلة السبت وانهار يوم الاثنين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بإسناد لين ، وما قدمناه أصوب وأصح ، وكذلك بقي أمره والصلاة فيه من قبل سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك إلى أن يقبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


وقوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : طعن على هؤلاء المنافقين وإشارة إليهم ، والمعنى لا يهديهم من حيث هم الظالمون ، أو يكون المراد الخصوص فيمن يوافي على ظلمه ، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال : رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر الله في القرآن ، فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان ، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور.

وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج أسنده الطبري.

قوله عزوجل :

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)

الضمير في (بُنْيانُهُمُ) عائد على المنافقين البانين للمسجد ومن شاركهم في غرضهم ، وقوله (الَّذِي بَنَوْا) تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع للإشكال ، و «الريبة» الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكا ، فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك ، ومعنى «الريبة» في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام ، فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء ، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر ، وقيل له أفكفر مجمع بن جارية؟ قال : لا ولكنها حزازة.

قال القاضي أبو محمد : ومجمع رحمه‌الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ولا قصد سوءا ، والآية إنما عنت من أبطن سوءا فليس مجمع منهم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنائهم الذي اتضح فيه نفاقهم ، وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «إلا أن تقطع قلوبهم» بضم التاء وبناء الفعل للمفعول ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم بخلاف عنه «إلا أن تقطع» بفتح التاء على أنها فاعلة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب : «إلى أن تقطع» على معنى إلى أن يموتوا ، وقرأ بعضهم: «إلى أن تقطع» ، وقرأ أبو حيوة «إلا أن يقطع» بالياء مضمومة وكسر الطاء ونصب «القلوب» أي بالقتل ، وأما على القراءة الأولى فقيل بالموت قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم ، وقيل ، بالتوبة وليس هذا بالظاهر إلا أن يتأول : أو يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة على الذنب ما يقطع القلوب هما وفكرة ، وفي مصحف ابن مسعود «ولو قطعت قلوبهم» ، وكذلك قرأها أصحابه وحكاها أبو عمرو «وأن قطعت» بتخفيف الطاء ، وفي مصحف أبيّ «حتى الممات» وفيه «حتى تقطع» ، وقوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ


أَنْفُسَهُمْ) الآية ، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو ، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة ، فقالوا : ما لنا على ذلك؟ قال الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقال ، وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك.

ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، وقال بعض العلماء : ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف ، وفي الحديث أن فوق كل بربرا حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك ، وهذا تمثيل من الله عزوجل جميل صنعه بالمبايعة ، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح ، وهذا القصة وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم ثم أمرهم ببذلها في ذاته ووعدهم على ذلك ما هو خير منها ، فهذا غاية التفضل ، ثم شبه القصة بالمبايعة ، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا : ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم وقاله ابن عباس والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن عيينة : معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله.

قال القاضي أبو محمد : فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله ، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية. كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر: ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلى والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) مقطوع ومستأنف ، وذلك على تأويل سفيان بن عيينة ، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وقتادة وأبو رجاء وغيرهم : «فيقتلون» على البناء للفاعل «ويقتلون» على البناء للمفعول ، وقرأ حمزة والكسائي والنخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش بعكس ذلك ، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يقتل وفيهم من يقتل وفيهم من يجتمعان له وفيهم من لا تقع له واحدة منهما ، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد ، وإذا اعتبر هذا بان ، وقوله سبحانه (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكدا لما تقدم من قوله : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وقال المفسرون : يظهر من قوله : (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب ، وقوله (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وقوله (فَاسْتَبْشِرُوا) فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل وليس هذا من معنى طلب الشيء ، كما تقول : استوقد نارا


واستهدى مالا واستدعى نصرا بل هو كعجب واستعجب ، ثم وصف تعالى ذلك البيع بأنه (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب.

قوله عزوجل :

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١١٣)

هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم ، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى : «هم التائبون» ، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة : بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط ، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله ، وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلا سأله عن قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) [التوبة : ١١١] وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية ، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم ، والأول أصوب ، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد ، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى ، وقالت فرقة : إن رفع «التائبين» إنما هو على الابتداء وما بعده صفة ، إلا قوله (الْآمِرُونَ) فإنه خبر الابتداء كأنه قال «هم الآمرون» ، وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها وذلك قلق فتأمله ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «التائبين العابدين» إلى آخرها ، ولذلك وجهان أحدهما : الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ والآخر النصب على المدح ، و (التَّائِبُونَ) لفظ يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها ، وإن لم تكن الأولى شرا بل خيرا ، وهكذا توبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم ، والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف ، والتائب عن ذنب يسمى تائبا وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب والتوبة ونقضها دائبا خير من الإصرار ، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة ، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم.

وقال الحسن في تفسير الآية : (التَّائِبُونَ) معناه من الشرك ، و (الْعابِدُونَ) لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام ، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه


وسلم في قوله ، «أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث ، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في العبادة يحصل الوصف ، و (الْحامِدُونَ) معناه : الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك ، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر ، و (السَّائِحُونَ) معناه الصائمون ، وروي عن عائشة أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، وأسنده الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الحديث «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي عليّ» ، ويروى الحديث «صياحين» بالصاد من الصياح والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية ، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش : (السَّائِحُونَ) هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته ، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات ، ومن ذلك قول معاذ بن جبل : اقعد بنا نؤمن ساعة ، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال : أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١] وفكرت كيف أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم ، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف ، وقوله : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هو أمر فرض على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين ، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال ، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط : منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجرا ، وأسند الطبري عن بعض العلماء أنه قال : حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر.

قال القاضي أبو محمد : ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى ، إذ يتناول ما دونه فتعميم اللفظ أولى ، وأما هذه الواو التي في قوله (وَالنَّاهُونَ) ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ هما من غير قبيل الصفات الأول.

قال القاضي أبو محمد : لأن الأول فيما يخص المرء ، وهاتان بينه وبين غيره ، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما ، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له ، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ، ومن هذا قوله في أبواب الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، وقوله (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، ومن هذا قوله (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥].

قال القاضي أبو محمد : على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية ، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء ، ولا يصح أن يكون «ثيبات أبكارا» [التحريم : ٥] ، فهي فاصلة ضرورة ، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه ، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، وأنكرها أبو علي ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من


شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة ، فهكذا هي لغتهم ، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو ، وقوله (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن ، وقوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من الله ، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين ، وقوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية ، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم ، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل لا جزاه الله خيرا ، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرو بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى ، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فقال أبو طالب : يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات على ذلك ، إذ لم يسمع منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال للعباس ، فنزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار لأبي طالب ، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي.

والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال فضيل بن عطية وغيره : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها ، فلم يؤذن له فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ، ومنع أن يستغفر لها ، فما رئي باكيا أكثر من يومئذ ، ونزلت الآية في ذلك ، وقالت فرقة : إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنافقين : والله لأزيدن على السبعين ، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك ، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نبينا وعليه ، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها ، وقوله (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) يريد من بعد الموت على الكفر فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم أي سكانها وعمرتها ، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له ولأبيه قال : لا ، إن أبي مات كافرا ، وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هاهنا يراد به الصلاة.


قوله عزوجل :

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦)

المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة ، واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم في أن يستغفر لأبيه وذلك قوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] ، وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله على الاستغفار له حتى نهي عنه ، وقرأ طلحة : «وما يستغفر إبراهيم» وروي عنه «وما استغفر إبراهيم» ، و (مَوْعِدَةٍ) مفعلة من الوعد ، وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت آزر على الكفر ، وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي.

وقال سعيد بن جبير : ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] فيقول له الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء ، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا أمذر فيتبرأ منه حينئذ.

قال القاضي أبو محمد : وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف ، وقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) ثناء من الله تعالى على إبراهيم ، و «الأواه» قال ابن مسعود هو الدعّاء ، وقيل هو الداعي بتضرع ، وقيل هو الموقن قاله ابن عباس ، وقيل هو الرحيم قاله ابن مسعود أيضا ، وقيل هو المؤمن التواب ، وقيل هو المسبح وقيل هو الكثير الذكر لله عزوجل ، وقيل هو التلّاء للقرآن ، وقيل هو الذي يقول من خوفه لله عزوجل أبدا أوه ويكثر ذلك.

وروي أن أبا ذر سمع رجلا يكثر ذلك في طوافه فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «دعه فإنه أواه».

والتأوه التفجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه ، ب «أوه» ، ويقال أوه فمن الأول قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال في بيع أو شراء أنكره عليه : أوه ، ذلك الربا بعينه ومن الثاني قول الشاعر : [الطويل]

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء

ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي : [الوافر]

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرجل الحزين


ويروى آهة ، ومن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «أوه لأفراخ محمد» ، و (حَلِيمٌ) معناه صابر محتمل عظيم العقل ، والحلم العقل ، وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) الآية معناه التأنيس للمؤمنين ، وقيل : إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين دون أمر من الله تعالى فنزلت الآية مؤنسة ، أي ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنبا لم يتقدم منه نهي عنه ، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة ، وقيل : إن هذه الآية إنما نزلت بسبب قوم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا غيبا فحولت القبلة فصلوا قبل أن يصلهم ذلك إلى بيت المقدس ، وآخرين شربوا الخمر بعد تحريمها قبل أن يصل إليهم ، فخافوا على أنفسهم وتكلموا في ذلك فنزلت الآية ، والقول الأول أصوب وأليق بالآية ، وذهب الطبري إلى أن قوله ، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) إشارة إلى أنها يجب أيها المؤمنون ألا تجزعوا من عدو وإن كثر ، ولا تهابوا أحدا فإن الموت المخوف والحياة المحبوبة إنما هما بيد الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى الذي قال صحيح في نفسه ولكن قوله ، إن القصد بالآية إنما هو لهذا قول يبعد ، والظاهر في الآية إنما هو لما نص في الآية المتقدمة نعمته وفضله على عبيده في أنه متى منّ عليهم بهداية ففضله أسبغ من أن يصرفهم ويضلهم قبل أن تقع منهم معصية ومخالفة أمر أتبع ذلك بأوصاف فيها تمجيد الله عزوجل وتعظيمه وبعث النفوس على إدمان شكره والإقرار بعبوديته.

قوله عزوجل :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١١٩)

«التوبة» من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله ، وأما توبته على «المهاجرين والأنصار» فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ، و (اتَّبَعُوهُ) معناه : دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، وقوله (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن ، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلّ من الزمن كالقطعة من النهار.

ألا ترى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث ،


فهي هنا بتجوز ، ويمكن أن يريد بقوله (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله ، وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة» و (الْعُسْرَةِ) الشدة وضيق الحال والعدم ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلب الدنانير بيده وقال : وما على عثمان ما عمل بعد هذا ، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر ، وقال مجاهد وقتادة : إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين ، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر ، وحينئذ قال رجل من المنافقين : وهل هذه إلا سحابة مرت ، وكانت الغزوة في شدة الحر ، وكان الناس كثيرا ، فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات ، ووصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها ، وانصرف وأما «الزيغ» الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه ، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة ، قاله الحسن ، وقيل زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود ، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ» بالتاء من فوق على لفظ القلوب.

وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ» بالياء على معنى جمع القلوب ، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق» ، وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ» ، وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه ، وترتفع «القلوب» على هذا ب «تزيغ» ، والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولا ، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوب فريق منهم ، والثالث أن يرتفع بها «القلوب» ويكون في قوله «تزيغ» ضمير «القلوب» ، وجاز ذلك تشبيها بكان في قوله (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] وأيضا فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير ، وشبهت (كادَ) ب «كان» للزوم الخبر لها ، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى.

ثم أخبر عزوجل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به ، وأنس بإعلامه للأمة بأنه (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال


ابن ربعي ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرنا سوقه ، وهم الذين تقدم فيهم (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) [التوبة : ١٠٦] ، ومعنى (خُلِّفُوا) أخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم ، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين ، وقيل معنى (خُلِّفُوا) أي عن غزوة تبوك ، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال : معنى (خُلِّفُوا) تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو ، ويقوي ذلك من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو ، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر ، وقرأ الجمهور «خلّفوا» بضم الخاء وشد اللام المكسورة ، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضا «خلفوا» بفتح الخاء واللام غير مشددة ، وقرأ أبو مالك «خلفوا» بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة ، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن «خالفوا» والمعنى قريب من التي قبلها ، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب ، وقرأ الأعمش «وعلى الثلاثة المخلفين» ، وقوله : (بِما رَحُبَتْ) معناه برحبها كأنه قال : على ما هي في نفسها رحبة ، ف «ما» مصدرية ، (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) استعارة لأن الغم والهم ملأها ، (وَظَنُّوا) في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علم لهم وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عزوجل ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه ، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث «الثلاثة» الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا ، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر.

وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه ، وكتب الأوزاعي رحمه‌الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ولا طاعته إلا وجوبا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام ، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله : [الكامل]

والعيب يعلق بالكبير كبير

وفي بعض طرق حديث «الثلاثة» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة ، وكانت لهم صالحة فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أمّ سلمة : تيب على كعب بن مالك وصاحبيه» ، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم؟ فقال «إذا يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم» ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين ، فجاء هذا الأمر اعتراضا في أثناء


الكلام إذ عن في القصة ما يجب التنبيه علي امتثاله ، وقال ابن جريج وغيره : الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث ، وقال نافع والضحاك ما معناه : إن اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : عود صدق ورجل صدق ، وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وأخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام ومع في هذه الآية تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «وكونوا من الصادقين» ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يتأوله في صدق الحديث.

وروي عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرأوا إن شئتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

قوله عزوجل :

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١)

هذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوه ، وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته إلى توجهه غازيا وبذل النفوس دونه ، واختلف المتأولون فقال قتادة : كان هذا الإلزام خاصا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء ، وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام والاحتياج إلى اتصال الأيدي ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدو بجهة فمتعين على كل أحد القيام بذبه ومكافحته ، وأما قوله تعالى : (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) فمعناه أن لا يحتمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله مشقة ويجود بنفسه في سبيل الله فيقع منهم شح على أنفسهم ويكعون عما دخل هو فيه ، ثم ذكر تعالى لم لم يكن لهم التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) ... الآية. و «النصب» التعب. ومنه قول النابغة : [الطويل]

كليني لهم يا أميمة ناصب

أي ذي نصب. ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٢] و «المخمصة»


مفعلة من خموص البطن وهي ضموره ، واستعير ذلك لحالة الجوع إذ الخموص ملازم له ، ومن ذلك قول الأعشى : [الطويل]

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

ومنه أخمص القدم والخمصانة من النساء ، وقوله تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) أي ولا ينتهون من الأرض منتهى مؤذيا للكفار ، وذلك هو الغائظ ومنه في المدونة كنا لا نتوضأ من موطىء من قول ابن مسعود ، وقوله تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة من أخذ مال أو إيراد هوان وكثيره ، والنيل مصدر نال ينال وليس من قولهم نلت أنوله نولا ونوالا وقيل هو منه ، وبدلت الواو ياء لخفتها هنا وهذا ضعيف ، والطبري قد ذكر نحوه وضعفه وقال ليس ذلك المعروف من كلام العرب ، وقوله (وَلا يُنْفِقُونَ) الآية ، قدم الصغيرة للاهتمام أي إذا كتبت الصغيرة فالكبيرة أحرى ، و «الوادي» ما بين جبلين كان فيه ماء أو لم يكن ، وجمعه أودية ، وليس في كلام العرب فاعل وأفعلة إلا في هذا الحرف وحده ، وفي الحديث «ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا».

قوله عزوجل :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)

قالت فرقة : سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عزوجل : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) [الكهف : ٦٢] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك ، وقالت فرقة : سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.

قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ) [الكهف: ٦٢] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر ، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) إلى قوله (يَحْذَرُونَ) بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر ، و «التفقه» هو من النافرين ، و «الإنذار» هو منهم ، والضمير في (رَجَعُوا) لهم أيضا ، وقالت فرقة هذه : الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة ، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك ، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين ، وقال ابن عباس ما معناه : إن


هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا ، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردا وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين ، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم ، وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال ، والضمير في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) عائد أيضا على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة ، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه ، والجمهور على أن «التفقه» إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبته ، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه» في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته من الله تعالى ، ورجحه الطبري وقواه ، والآخر أيضا قوي ، والضمير في قوله (لِيُنْذِرُوا) عائد على المتفقهين بحسب الخلاف ، و «الإنذار» عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضا كذلك ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) الآية ، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل ، وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة ، وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة ، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام ، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد ، وقال قائلو هذه المقالة : نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلى ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم ، وقال الحسن : هم الروم والديلم.

قال القاضي أبو محمد : يعني في زمنه ذلك ، وقاله علي بن الحسين ، وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلابِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] إلى قوله (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، وقرأ جمهور الناس «غلظة» بكسر الغين ، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غلظة» بفتحها ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غلظة» بضمها ، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضا ، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو ، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات ، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأسا ، وذلك مقصود به القتال ، ومنه (عَذابٍ غَلِيظٍ) [إبراهيم : ١٧ ، لقمان : ٢٤ ، فصلت : ٥٠ ، هود : ٥٨] و (غَلِيظَ الْقَلْبِ) [آل عمران : ١٢٩] و (غِلاظٌ شِدادٌ) [التحريم : ٦] في صفة الزبانية ، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق إلى غير ذلك ، ثم وعد تعالى في


آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو ، وقد قال بعض الصحابة : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب.

قوله عزوجل :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ(١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)(١٢٦)

هذه الآية نزلت في شأن المنافقين ، والضمير في قوله (فَمِنْهُمْ) عائد على المنافقين ، وقوله تعالى : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم ، ويحتمل أن يكون لقوم من قراباتهم من المؤمنين يستنيمون إليهم ويثقون بسترهم عليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق ، ومعنى (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الاستخفاف والتحقير لشأن السورة كما تقول أي غريب في هذا أو أي دليل ، ثم ابتدأ عزوجل الرد عليهم والحكم بما يهدم لبسهم فأخبر أن المؤمنين الموقنين قد «زادتهم إيمانا» وأنهم (يَسْتَبْشِرُونَ) من ألفاظها ومعانيها برحمة الله ورضوانه ، والزيادة في الإيمان موضع تخبط للناس وتطويل ، وتلخيص القول فيه أن الإيمان الذي هو نفس التصديق ليس مما يقبل الزيادة والنقص في نفسه ، وإنما تقع الزيادة في المصدق به ، فإذا نزلت سورة من الله تعالى ، حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل ، فتصديقهم بما تضمنته السورة من إخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل ، فهذا وجه من زيادة الإيمان ، ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلا أو تنبيها عليه فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة ، فإذا نزلت السورة زادت في أدلته ، وهذه أيضا جهة أخرى من الزيادة ، وكلها خارجة عن نفس التصديق إذا حصل تاما ، فإنه ليس يبقى فيه موضع زيادة ، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الرجل ربما عارضه شك يسير أو لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السورة ارتفعت تلك الشبهة واستراح منها ، فهذا أيضا زيادة في الإيمان إذ يرتقي اعتقاده عن مرتبة معارضة تلك الشبهة إلى الخلوص منها ، وأما على قول من يسمي الطاعات إيمانا وذلك مجاز عند أهل السنة فتترتب الزيادة بالسورة إذ تتضمن أوامر ونواهي وأحكاما ، وهذا حكم من يتعلم العلم في معنى زيادة الإيمان ونقصانه إلى يوم القيامة ، فإن تعلم الإنسان العلم بمنزلة نزول سورة القرآن و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون ، وهذا تشبيه وذلك أن السالم المعتقد المنشرح الصدر بالإيمان يشبهه الصحيح ، والفاسد المعتقد يشبهه المريض ، ففي العبارة مجاز فصيح لأن المرض والصحة إنما هي خاصة في الأعضاء ، فهي في المعتقدات مجاز ، و «الرجس» في هذه الآية عبارة عن حالهم التي جمعت معنى الرجس في اللغة ، وذلك أن الرجس في اللغة يجيء بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب ، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل ، وزيادة «الرجس إلى الرجس» هي عمههم في الكفر


وخبطهم في الضلال يعاقبهم الله على الكفر والإعراض بالختم على قلوبهم والختم بالنار عليهم ، وإذ كفروا بسورة فقد زاد كفرهم فذلك زيادة رجس إلى رجسهم ، وقوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) الآية ، قرأ الجمهور «أو لا يرون» بالياء على معنى أو لا يرى المنافقون ، وقرأ حمزة «أو لا ترون» بالتاء على معنى أو لا ترون أيها المؤمنون ، فهذا تنبيه للمؤمنين ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والأعمش «أو لا ترى» أي أنت يا محمد.

وروي عن الأعمش أيضا أنه قرأ «أو لم تروا».

وذكر عنه أبو حاتم «أو لم تر» ، وقال مجاهد (يُفْتَنُونَ) معناه يختبرون بالسنة والجوع ، وحكى عنه النقاش أنه قال مرضة أو مرضتين ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : معناه يختبرون بالأمر بالجهاد ، والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله تعالى أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة ، وأما الجهاد أو الجوع فلا يترقب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا فلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ويتذكرون وعد الله ووعيده ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين وقد كان الحسن ينشد :

أفي كل عام مرضة ثم نقهة

فحتى متى حتى متى وإلى متى

وقالت فرقة : معنى (يُفْتَنُونَ) بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأكاذيب ، فكأن الذي في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك ، وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة وهو غريب من المعنى.

قوله عزوجل :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

الضمير في قوله (بَعْضُهُمْ) عائد على المنافقين ، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) على جهة التقريب ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا) معناه عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك ، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء ، وابتدئ بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما


قد بيناه ، وقوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) يحتمل أن يكون دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبرا أي استوجبوا ذلك (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله ، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا قضينا الصلاة.

قال القاضي أبو محمد : فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نظر في هذه الآية في موضع قال ، وقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ) مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام ، وقال الزجّاج : هي مخاطبة لجميع العالم ، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب ، وقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يقتضي مدحا لنسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه من صميم العرب وشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم» ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني من نكاح ولست من سفاح» معناه أن نسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آدم عليه‌السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفسكم» بفتح الفاء من النفاسة ، ورويت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (ما عَنِتُّمْ) معناه عنتكم ف (ما) مصدرية وهي ابتداء ، و (عَزِيزٌ) خبر مقدم ، ويجوز أن يكون (ما عَنِتُّمْ) فاعلا ب (عَزِيزٌ) و (عَزِيزٌ) صفة للرسول ، وهذا أصوب من الأول والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضا معه ، وقال قتادة : المعنى عنت مؤمنيكم.

قال القاضي أبو محمد : وتعميم عنت الجميع أوجه ، وقوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) يريد على إيمانكم وهداكم ، وقوله : (رَؤُفٌ) معناه مبالغ في الشفقة ، قال أبو عبيدة : الرأفة أرق الرحمة ، وقرأ «رؤف» دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو ثم خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد تقريره عليهم هذه النعمة فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يا محمد أي أعرضوا بعد هذه الحال المتقررة التي من الله عليهم بها (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) معناه وأعمالك بحسب قوله من التفويض إلى الله والتوكل عليه والجد في قتالهم ، وليست بآية موادعة لأنها من آخر ما نزل ، وخصص (الْعَرْشِ) بالذكر إذ هو أعظم المخلوقات ، وقرأ ابن محيصن «العظيم» برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ، ووقع في البخاري أو أبي خزيمة ، فلما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أم لا ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده ، وأسند الطبري في كتابه قال : كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان ، فلما جاء خزيمة بهاتين الآيتين قال : والله لا أسألك عليهما بينة أبدا فإنه هكذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


قال القاضي أبو محمد : يعني صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تضمنتها الآية ، وهذا والله أعلم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مدة أبي بكر حين الجمع الأول وحينئذ فقدت الآيتان ولم يجمع من القرآن شيء في خلافة عمر ، وخزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين ، وعرف بذلك لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس وحكم بها لنفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا خصوص لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر النقاش عن أبيّ بن كعب أنه قال أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر الآية.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما

سورة يونس

هذه السورة هي مكيّة ، قال مقاتل : إلا آيتين وهي قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) [يونس: ٩٤] نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) [يونس : ٤٠] نزلت في اليهود بالمدينة. وقالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.

قوله عزوجل :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور. وتلك الأقوال كلها تترتب هنا ، وفي هذا الموضع قول يختص به ، قال ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي : (الر) و «حم؟؟» [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] و (ن) [القلم : ١] هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر» ، وقوله تعالى : (تِلْكَ) قيل هو بمعنى هذه وقد يشبه أن يتصل المعنى ب (تِلْكَ) دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره. و (الْكِتابِ) قال مجاهد وقتادة : المراد به التوراة والإنجيل ، وقال مجاهد أيضا وغيره : المراد به القرآن وهو الأظهر ، و (الْحَكِيمِ) فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] أي معتد معد ، ويمكن أن يكون «حكيم» بمعنى ذو حكمة فهو على النسب ، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال : هو الذي أحكمه وبيّنه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : فساق قولين على أنهما واحد ، وقوله: (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الآية ، قال ابن عباس وابن جريح وغيرهما نسبت هذه الآية أن قريشا استبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : (أَكانَ) تقرير والمراد ب «الناس» قائلو هذه المقالة ، و (عَجَباً) خبر كان واسمها (أَنْ أَوْحَيْنا) ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب» وجعل


الخبر في قوله (أَنْ أَوْحَيْنا) والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذا ومنه قول حسان : [الوافر]

يكون مزاجها عسل وماء

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أوصل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب؟ وقرأت فرقة «إلى رجل» بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم» هنا ما قدم ، واختلف في المراد بها هاهنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضا وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [الطويل]

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع

وقول ذي الرمة : [الطويل]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط» ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم» على هذا التأويل الجارحة والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء ، وقوله (قالَ الْكافِرُونَ) يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله أكان وحينا إلى بشر عجبا قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفا يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين» ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إن هذا لساحر» ، والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين» ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب.

قوله عزوجل :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ


كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤)

هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عزوجل وإعلام بصفاته ، والخطاب بها لجميع الناس ، و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هو على ما تقرر أن الله عزوجل خلق الأرض (ثُمَّ اسْتَوى) إلى السماء وهي دخان فخلقها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قيل هي من أيام الآخرة ، وقال الجمهور ، وهو الصواب : بل من أيام الدنيا.

قال القاضي أبو محمد : وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلق الله المخلوقات إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد ، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مما لا يوصل تعليله وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك والله عزوجل قد جعل لكل شيء قدرا وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك وقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد تقدم القول فيه في (المص) [الأعراف : ١] وقوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يصح أن يريد ب (الْأَمْرَ) اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد (الْأَمْرَ) الذي هو مصدر أمر يأمر ، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علما. وقال مجاهد (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) معناه يقضيه وحده ، وقوله (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها ، وقوله (ذلِكُمُ) إشارة إلى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه ، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي فيكون التذكر سببا للاهتداء ، واختصار القول في قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [إما] أن يكون (اسْتَوى) بقهره وغلبته وإما أن يكون (اسْتَوى) بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان ، فقد قيل في قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

إنه بيت مصنوع. وإما أن يكون فعل فعلا في العرش سماه (اسْتَوى) ، واستيعاب القول قد تقدم ، وقوله (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله (جَمِيعاً) حال من الضمير في (مَرْجِعُكُمْ) ، (وَعْدَ اللهِ) نصب على المصدر ، وكذلك قوله (حَقًّا) وقال أبو الفتح (حَقًّا) نعت ، وقرأ الجمهور «إنه» بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه» بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه.

قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون (إِنَّهُ) بدلا من قوله (وَعْدَ اللهِ) ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد. وإن شئت قدرته «وعد الله حقا أنه» ولا يعمل فيه المصدر الذي هو (وَعْدَ اللهِ) لأنه قد وصف فإذن


ذلك بتمامه وقطع عمله ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقّ» بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه» وقوله (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يبدىء الخلق» بضم الياء وكسر الدال ، وقوله (لِيَجْزِيَ) هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ابتداء و «الحميم» الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :

في كل يوم لها مقطرة

وكباء معدة وحميم

وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه ، وهو كما وصفه تعالى (يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف : ٢٩].

قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه عل صنعته الدالة على الصانع ، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء» أعظم من «النور» وأبهى بحسب (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ، ويلحق هاهنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلا على الذي هو «الضياء» وعدل إلى الأقل الذي هو «النور» ، فالجواب عن هذا والانفصال : أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام ، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة ، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرون ، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عزوجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها ، ويحتمل أن يعترض هذا الانفصال والله المستعان ، وقوله (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) يريد البروج المذكورة في غير هذه الآية ، وأما الضمير الذي رده على (الْقَمَرَ) وقد تقدم ذكر (الشَّمْسَ) معه فيحتمل أن يريد بالضمير «القمر» وحده لأنه هو المراعى في معرفة (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) عند العرب ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما يتصرفان في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. لكنه اجتزأ بذكر الواحد كما قال (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وكما قال الشاعر [أبو حيان] : [الطويل]

رماني بذنب كنت منه ووالدي

بريّا ومن أجل الطويّ رماني


قال الزجّاج وكما قال الآخر : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

وقوله (لِتَعْلَمُوا) المعنى قدر هذين النيرين ، (مَنازِلَ) لكي «تعلموا» بها ، (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) رفقا بكم ورفعا للالتباس في معاشكم وتجركم وإجاراتكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ ، وقوله (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي للفائدة لا للعب والإهمال فهي إذا يحق أن تكون كما هي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص «يفصل الآيات» ، وقرأ ابن كثير أيضا وعاصم والباقون والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل مكة والحسن والأعمش «نفصل» بنون العظمة ، وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملا للكل معدا ليحصله الجميع ، وقرأ جمهور السبعة وقد رويت عن ابن كثير «ضياء» ، وقرأ ابن كثير وحده فيما روي أيضا عنه «ضئاء» بهمزتين ، وأصله ضياء فقلبت فجاءت ضئائا ، فقلبت الياء همزة لوقوعها بين ألفين ، قال أبو علي : وهي غلط ، وقوله تعالى (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الآية ، آية اعتبار وتنبيه ، ولفظه الاختلاف تعم تعاقب الليل والنهار وكونهما خلفه وما يتعاورانه من الزيادة والنقص وغير ذلك من لواحق سير الشمس وبحسب أقطار الأرض ، قوله (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لفظ عام لجميع المخلوقات ، و «الآيات» العلامات والدلائل ، وخصص «القوم المتقين» تشريفا لهم إذ الاعتبار فيهم يقع ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ(٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره ، (يَرْجُونَ) في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب : [الطويل]

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل

وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء : إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف ، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده ، فعلى هذا التأويل معنى الآية : إن الذين لا يخافون لقاءنا ، وقال ابن زيد : هذه الآية في الكفار ، وقال بعض أهل العلم : «الرجاء» في هذه الآية على بابه ، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظنا بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل ، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة


خوف ، وهذه الحال من الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة ، والذي أقول : إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه ، وقوله (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم ، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية : إذا شئت رأيت هذا الموصوف ، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن ، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه ، إذ قد يكون العاصي المجلح مستوحشا من آخرته ، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر ، وقوله (وَاطْمَأَنُّوا بِها) تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها لأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره ، وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط ، ثم حتم عليهم بالنار وجعلها (مَأْواهُمُ) ، وهو حيث يأوي الإنسان ويستقر ، ثم جعل ذلك بسبب كسبهم واجتراحهم ، وفي هذه اللفظة رد على الجبرية ونص على تعلّق العقاب بالتكسب الذي للإنسان ، وقوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا). الآية لما قرر تبارك وتعالى حالة الفرقة الهالكة عقب ذلك بذكر حالة الفرقة الناجية ليتضح الطريقان ويرى الناظر فرق ما بين الهدى والضلال ، وهذا كله لطف منه بعباده ، وقوله (يَهْدِيهِمْ) لا يترتب أن يكون معناه يرشدهم إلى الإيمان لأنه قد قررهم مؤمنين فإنما الهدى في هذه الآية على أحد وجهين : إما أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم ، كما قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦] فإنما معناه اثبتوا ، وإما أن يريد يرشدهم إلى طرق الجنان في الآخرة ، وقوله : (بِإِيمانِهِمْ) يحتمل أن يريد بسبب إيمانهم ويكون مقابلا لقوله قبل (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى ، أي يهديهم إلى طرق الجنة بنور إيمانهم ، قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به ويتركب هذا التأويل على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيّب الرائحة فيقول : من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة ، وبعكس هذا في الكافر» ، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) يريد من تحت علياتهم وغرفهم وليس التحت الذي هو بالمماسة بل يكون إلى ناحية من الإنسان كما قال تعالى : (جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] وكما قال حكاية عن فرعون (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] وقوله (دَعْواهُمْ) الآية ، الدعوى بمعنى الدعاء يقال دعا الرجل وادعى بمعنى واحد ، قاله سيبويه ، و (سُبْحانَكَ اللهُمَ) تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله عن كل ما لا يليق به ، وقال علي بن أبي طالب في ذلك : هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه ، وقال طلحة بن عبيد الله : قلت يا رسول الله ، ما معنى سبحان الله؟ فقال : معناها تنزيه الله من السوء ، وقد تقدم ذكر خلاف النحاة في (اللهُمَ) ، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رأوا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن في الجنة عند ما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائرا أو غير ذلك قال : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى ، رواه ابن جريح وسفيان بن عيينة ، وقوله (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) يريد تسليم بعضهم على بعض ، و «التحية» مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها ، يقال حياه يحييه ، ومنه قول زهير بن جناب : [مجزوء الكامل]


من كل ما نال الفتى

قد نلته إلا التحيه

يريد دعاء الناس للملوك بالحياة ، وقد سمي الملك تحية بهذا التدريج ومنه قول عمرو بن معديكرب:

أزور أبا قابوس حتى

أنيخ على تحيته بجندي

أراد علي مملكته وقال بعض العلماء (وَتَحِيَّتُهُمْ) يريد تسليم الله عزوجل عليهم ، و «السلام» مأخوذ من السلامة ، وقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) يريد وخاتمة دعواهم في كل موطن وكلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه ، وكانت بدأتهم بالتنزيه والتعظيم ، وقرأ جمهور الناس «أن الحمد لله» وهي عند سيبويه «أن» المخففة من الثقيلة ، وقرأ ابن محيصن وبلال بن أبي بردة ويعقوب وأبو حيوة «أنّ الحمد لله» ، وهي على الوجهين رفع على خبر الابتداء ، قال أبو الفتح : هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة هي أن المخففة من الثقيلة بمنزلة الأعشى : [البسيط]

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل

قوله عزوجل :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا ، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر ، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) فتأمل هذا التقدير تجده صحيحا ، و (اسْتِعْجالَهُمْ) نصب على المصدر ، والتقدير مثل استعجالهم ، وقيل : التقدير تعجيلا مثل استعجالهم ، وهذا قريب من الأول ، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] وقيل نزلت في قوله (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) [الأعراف : ٧٧] وما جرى مجراه ، وقرأ جمهور القراء «لقضي» على بناء الفعل للمفعول ورفع «الأجل» ، وقرأ ابن عامر وحده وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب ، «لقضى» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجل» وقرأ الأعمش : «لقضينا» ، و «الأجل» في هذا الموضع أجل الموت ، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ ، ومنه قول أبي ذؤيب : [الكامل]

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع


وأنشد أبو علي في هذا المعنى : [الطويل]

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

فوائح في أكمامها لم تفتق

وتعدّى «قضى» في هذه الآية ب «إلى» لما كان بمعنى فرغ ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، فمن ذلك قول جرير :

ألان فقد فرغت إلى نمير

فصرت على جماعتها عذابا

ومن الآخر قوله عزوجل (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] وقرأ الأعمش : «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا» ، و (يَرْجُونَ) في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله ، والرجاء مقترن أبدا بخوف ، «والطغيان» الغلو في الأمر وتجاوز الحد ، و «العمه» الخبط في ضلال ، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس ، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر ، فلو عجل لهم لهلكوا ، وقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) الآية ، هذه الآية أيضا عتاب على سوء الخلق من بعض الناس ، ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى الله تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره ، وقوله (لِجَنْبِهِ) في موضع حال كأنه قال : مضطجعا ، ويجوز أن يكون حالا من الإنسان والعامل فيه (مَسَ) ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في (دَعانا) والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان ، و (الضُّرُّ) لفظ لجميع الأمراض ، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين ، وقيل هو مختص برزايا البدن : الهزال والمرض ، وقوله (مَرَّ) يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص ، فمعنى الآية (مَرَّ) في إشراكه بالله وقلة توكله عليه ، وقوله (زُيِّنَ) إن قدرناه من الله تعالى فهو خلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم صحبة أعمالهم الفاسدة ومثابرتهم عليها ، وإن قدرنا ذلك من الشيطان فهو بمعنى الوسوسة والمخادعة ، ولفظة التزيين قد جاءت في القرآن بهذين المعنيين من فعل الله تعالى ومرة من فعل الشياطين.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥)

هذه الآية وعيد للكفار وضرب أمثال لهم ، أي كما فعل هؤلاء فعلكم فكذلك يفعل بكم ما فعل بهم ،


وقوله (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) إخبار عن قسوة قلوبهم وشدّة كفرهم ، وقرأ جمهور السبعة وغيرهم : «نجزي» بنون الجماعة ، وفرقة «يجزي» بالياء على معنى يجزي الله ، و (خَلائِفَ) جمع خليفة ، وقوله (لِنَنْظُرَ) معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلا ، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز ، وقرأ يحيى بن الحارث وقال : رأيتها في الإمام مصحف عثمان ، «لنظر» بإدغام النون في الظاء ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية ، وكان أيضا يقول : قد استخلفت يا ابن الخطاب فانظر كيف تعمل؟ وأحيانا كان يقول قد استخلفت يا ابن أم عمر ، قوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) الآية ، هذه الآية نزلت في قريش لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا وأحل ما حرمته وحرم ما حللته ليكون أمرنا حينئذ واحدا وكلمتنا متصلة ، فذم الله هذه الصنعة وذكرهم بأنهم يقولون هذا للآيات البيّنات ، ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالبعث ، ثم أمر الله نبيه عليه‌السلام أن يرد عليهم بالحق الواضح وأن يستسلم ويتبع حكم الله تعالى ويعلم بخوفه ربه ، و «اليوم العظيم» يوم القيامة.

قوله عزوجل :

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٨)

هذه من كمال الحجة أي هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي وإنما هو من عند الله ، ولو شاء ما بعثني به ولا تلوته عليكم ولا أعلمتكم به ، و (أَدْراكُمْ) بمعنى أعلمكم يقال دريت بالأمر وأدريت غيري ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه : «ولا دراكم به» وهي لام تأكيد دخلت على أدرى ، والمعنى على هذا ولا علمكم به من غير طريقي وقرأ ابن عباس وابن سيرين وأبو رجاء والحسن «ولا أدرأتكم به» ، وقرأ ابن عباس أيضا وشهر بن حوشب : «ولا أنذرتكم به» ، وخرج الفراء قراءة ابن عباس والحسن على لغة لبعض العرب منها قولهم : لبأت بمعنى لبيت ، ومنها قول امرأة منهم : رثأت زوجي بأبيات أي رثيت. وقال أبو الفتح إنما هي «أدريتكم» قلبت الياء ألفا لانفتاح ما قبلها ، وروينا عن قطرب : أن لغة عقيل في أعطيتك أعطأتك ، قال أبو حاتم : قلبت الياء ألفا كما في لغة بني الحارث بن كعب : السلام علاك ، ثم قال (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي الأربعين سنة قبل بعثته عليه‌السلام ، ويريد لم تجربوني في كذب ولا تكلمت في شيء من هذا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن كلا عمره وتقاصر أمله واشتدت حنكته وخوفه لربه ، وقرأ الجمهور بالبيان في «لبثت» ، وقرأ أبو عمرو :


«لبت» بإدغام الثاء في التاء ، وقوله (فَمَنْ أَظْلَمُ) الآية ، جاء في هذه الآية التوقيف على عظم جرم المفتري على الله بعد تقدم التنصل من ذلك قيل ، فاتسق القول واطردت فصاحته ، وقوله (فَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام وتقرير أي لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، أو ممن (كَذَّبَ بِآياتِهِ) بعد بيانها ، وذلك أعظم جرم على الله وأكثر استشراف إلى عذابه ، ثم قرر (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) أهل الجرم ، و (يُفْلِحُ) معناه يظفر ببغيته ، وقوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ) الآية ، الضمير في (يَعْبُدُونَ) عائد على الكفار من قريش الذين تقدّمت محاورتهم ، و (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) هي الأصنام ، وقولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) هو مذهب النبلاء منهم ، فأمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام أن يقررهم ويوبخهم أهم يعلمون الله بأنباء من السماوات والأرض لا يعلمها هو؟ وذكر (السَّماواتِ) لأن من العرب من يعبد الملائكة والشعرى ، وبحسب هذا حسن أن يقول : (هؤُلاءِ) ، وقيل ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل ، وفي التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم ، ولا يمكنهم ألا أن يقولوا : لا نفعل ولا نقدر ، وذلك لهم لازم من قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) ، و (سُبْحانَهُ) استئناف تنزيه لله عزوجل ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر هنا : «عما يشركون» بالياء على الغيبة ، وفي حرفين في النحل وحرف في الروم وحرف في النمل ، وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك نافع والحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش ، وقرأ ابن كثير ونافع هنا وفي النمل فقط «تشركون» بالتاء على مخاطبة الحاضر ، وقرأ حمزة والكسائي الخمسة الأحرف بالتاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن.

قوله عزوجل :

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١)

قالت فرقة : المراد آدم كان أمة واحدة ثم اختلف الناس بعد في أمر ابنيه وقالت فرقة : المراد نسم بنيه إذ استخرجهم الله من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ، وقالت فرقة : المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر ، وقالت فرقة : المراد (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) في الضلالة والجهل بالله فاختلفوا فرقا في ذلك بحسب الجهالة ، ويحتمل أن يكون المعنى كان الناس صنفا واحدا معدا للاهتداء ، واستيفاء القول في هذا متقدم في سورة البقرة في قوله (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣]. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر ونافع وشيبة وأبو عمرو «لقضي بينهم» بضم القاف وكسر الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «لقضى» بفتحهما على الفعل الماضي ، وقوله (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال الموقتة ، ويحتمل أن يريد «الكلمة» في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما كان حينئذ ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية ، يريدون بقولهم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) آية ، تضطر الناس


إلى الإيمان وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ولا هي المعجزات اضطرارية وإنما هي معرضة للنظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، وقوله (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على غيبه أحد ، وقوله (فَانْتَظِرُوا) وعيد قد صدقه الله تعالى بنصرته محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الطبري : في بدر وغيره ، وقوله (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) الآية ، المراد ب (النَّاسَ) في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير ، و «الرحمة» هنا بعد الضراء ، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر ، و «المكر» الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة ، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متقين به واقع لا محالة ، وكل آت قريب ، قال أبو حاتم : قرأ الناس «أن رسلنا» بضم السين ، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، وقال أبو علي (أَسْرَعُ) من سرع ولا يكون من أسرع يسرع ، قال ولو كان من أسرع لكان شاذا.

قال القاضي أبو محمد : وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نار جهنم «لهي أسود من القار» وما حفظ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس بشاذ. وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون» بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل ، ورويت أيضر عن نافع والأعرج ، قال أبو حاتم : قال أيوب بن المتوكل : في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكرا وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون».

قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٢٢)

هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر ، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه ، وكذلك لضرورة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر ، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر ، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن ، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث : «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البحر لا أركبه أبدا». وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم «يسيركم» قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي : [الطويل]

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها

وأول راض سنة من يسيرها

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدا في هذا. وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق وهذه قراءة الجمهور من سير ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود ، وفي مصحف أبي شيخ وقال عوف بن أبي جميلة قد : كان يقرأ «ينشركم» فغيرها الحجاج بن


يوسف «يسيركم» ، قال سفيان بن أبي الزعل : كانوا يقرأون «ينشركم» فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها «يسيركم» ، فأول من كتبها كذلك الحجاج ، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه «يسيركم» من أسار ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «ينشركم» بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث ، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة ، وروي عن الحسن أنه قرأ «ينشركم» بضم الياء وكسر الشين وقال : هي قراءة عبد الله ، قال أبو حاتم : أظنه غلط ، و (الْفُلْكِ) جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد ولكنه فعل جمع على فعل ، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء «في الفلكي» على وزن فعليّ بياء نسب وذلك كقولهم أشقري وكدواري في دور الدهر وكقول الصلتان أنا الصلتاني ، وقوله (وَجَرَيْنَ) علامة قليل العدد ، وقوله (بِهِمْ) خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قولهم : (كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن ، و «الريح» إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه ، لكنها لا يحسن في البحر أن تكون إلا واحدة متصلة لا نشرا ، فقيدت المفردة «بالطيب» فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى ، وقرأ ابن أبي عبلة «جاءتهم ريح عاصف» ، والعاصف الشديدة من الريح ، يقال : عصفت الريح ، وقوله (وَظَنُّوا) على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور ، وقوله (دَعَوُا اللهَ) أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله ، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم : هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم ، قال الطبري : جواب قوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ) : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) ، وجواب قوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ).

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)

(يَبْغُونَ) : أي يفسدون ويكفرون ، والبغي : التعدي والأعمال الفاسدة ، ووكد ذلك بقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) ، ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ ، وقوله «متاع الحياة» رفع ، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء ، والمبتدأ (بَغْيُكُمْ) ، ويصح أن يرتفع (مَتاعَ) على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع ، وخبر «البغي» قوله (عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن ابن كثير وابن أبي إسحاق : «متاع» بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من «البغي» ، وخبر البغي على هذا محذوف تقديره : مذموم أو مكروه ونحو هذا ، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله (عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي ، ويصح أن ينتصب (مَتاعَ) بفعل مضمر تقديره : تمتعون متاع الحياة الدنيا ، وقرأ ابن أبي إسحاق : «متاعا الحياة الدنيا» بالنصب فيهما ، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة ، قال سفيان بن عيينة : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا ، وعلى هذا قالوا : البغي يصرع أهله.


قال القاضي أبو محمد : وقالوا : الباغي مصروع ، قال الله تعالى : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج : ٦٠] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي». وقرأت فرقة «فننبئكم» على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة : «فينبئكم» ، على ضمير الغائب ، والمراد الله عزوجل.

قوله عزوجل :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤)

المعنى : (إِنَّما مَثَلُ) تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين إذ يصير ذلك إلى الفناء كمطر نزل من السماء (فَاخْتَلَطَ) ، ووقف هنا بعض القراء على معنى ، فاختلط الماء بالأرض ثم استأنف به (نَباتُ الْأَرْضِ) على الابتداء والخبر المقدم ، ويحتمل على هذا أن يعود الضمير في (بِهِ) على «الماء» أو على «الاختلاط» الذي يتضمنه القول. ووصلت فرقة فرفع «النبات» على ذلك بقوله اختلط أي اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، وقوله (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) ، يريد الزروع والأشجار ونحو ذلك ، وقوله (وَالْأَنْعامُ) يريد سائر العشب المرعي ، و (أَخَذَتِ الْأَرْضُ) ، لفظة كثرت في مثل هذا كقوله (خُذُوا زِينَتَكُمْ) [الأعراف : ٣١] و «الزخرف» التزين بالألوان ، وقد يجيء الزخرف بمعنى الذهب إذ الذهب منه ، وقرأ مروان بن الحكم وأبو جعفر والسبعة وشيبة ومجاهد والجمهور : (وَازَّيَّنَتْ) أصله : تزينت سكنت التاء لتدغم فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبيّ بن كعب «وتزينت» وهذه أصل قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وأبو العالية والشعبي وقتادة ونصر بن عاصم وعيسى «وأزينت» على معنى حضرت زينتها كما تقول أحصد الزرع ، «وأزينت» على مثال أفعلت وقال عوف بن أبي جميلة : كان أشياخنا يقرؤونها «وازيانت» النون شديدة والألف ساكنة قبلها ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي ، وقرأت فرقة «وازيأنت» ، وهي لغة منها قول الشاعر [ابن كثير] : [الطويل]

إذا ما الهوادي بالغبيط احمأرّت

وقرأت فرقة «وازاينت» والمعنى في هذا كله ظهرت زينتها ، وقوله (وَظَنَّ أَهْلُها) على بابها. والضمير في (عَلَيْها) عائد على (الْأَرْضِ) ، والمراد ما فيها من نعمة ونبات ، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها ، و (حَتَّى) غاية وهي حرف ابتداء لدخولها على (إِذا) ومعناها متصل إلى قوله (قادِرُونَ عَلَيْها) ، ومن بعد ذلك بدأ الجواب ، والأمر الآتي واحد الأمور كالريح والصر والسموم ونحو ذلك ، وتقسيمه (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت ، و (حَصِيداً) : فعيل بمعنى مفعول وعبر ب «حصيد» عن التالف الهالك من النبات وإن لم يهلك بحصاد إذ الحكم فيهما واحد وكأن الآفة حصدته قبل أوانه ، وقوله (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر


بغضارتها وقرأ قتادة «يغن» بالياء من تحت يعني الحصيد ، وقرأ مروان «كأن لم تتغن» بتاءين مثل تتفعل والمغاني المنازل المعمورة ومنه قول الشاعر : [الوافر]

وقد نغنى بها ونرى عصورا

بها يقتدننا الخرد الخذالا

وفي مصحف أبي بن كعب «كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات» ، رواها عنه ابن عباس ، وقيل : إن فيه «وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، وقرأ أبو الدرداء «لقوم يتذكرون» ومعنى الآية التحذير من الاغترار بالدنيا ، إذ هي معرضة للتلف وأن يصيبها ما أصاب هذه الأرض المذكورة بموت أو غيره من رزايا الدنيا ، وخص «المتفكرين» بالذكر تشريفا للمنزلة وليقع التسابق إلى هذه الرتبة.

قوله عزوجل :

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧)

نصت هذه الآية أن الدعاء إلى الشرع عام في كل بشر ، والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه ، و (السَّلامِ) قيل : هو اسم الله عزوجل ، فالمعنى يدعو إلى داره التي هي الجنة ، وإضافتها إليه إضافة ملك إلى مالك ، وقيل : (السَّلامِ) بمعنى السلامة ، أي من دخلها ظفر بالسلامة وأمن الفناء والآفات ، وهذه الآية رادة على المعتزلة ، وقد وردت في دعوة الله تعالى عباده أحاديث منها رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ رأى في نومه جبريل وميكائيل ومثلا دعوة الله ومحمدا الداعي والملة المدعو إليها والجنة التي هي ثمرة الغفران بالمادية يدعو إليها ملك إلى منزله. وقال قتادة في كلامه على هذه الآية ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا «يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انته». وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية ، قالت فرقة وهي الجمهور : (الْحُسْنى) الجنة و «الزيادة» النظر إلى وجه الله عزوجل ، وروي في نحو ذلك حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه صهيب ، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : «الزيادة» غرفة من لؤلؤة واحدة ، وقالت فرقة (الْحُسْنى) هي الحسنة ، و «الزيادة» هي تضعيف الحسنات إلى سبعمائة فدونها حسبما روي في نص الحديث ، وتفسير قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، وهذا قول يعضده النظر ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول ، وطريق ترجيحه أن الآية تتضمن اقترانا بين ذكر عمال الحسنات وعمال السيئات ، فوصف المحسنين بأن لهم حسنى وزيادة من جنسها ، ووصف المسيئين بأن لهم بالسيئة مثلها فتعادل الكلامان ، وعبر عن الحسنات


ب (الْحُسْنى) مبالغة ، إذ هي عشرة ، وقال الطبري : (الْحُسْنى) عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل ، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك أيضا قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، ولو كان معنى (الْحُسْنى) الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى ، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة وأنهم لا يرهق وجوهم قتر ولا ذلة ، ثم قال (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) على جهة المدح لهم ، أي أولئك مستحقوها وأصحابها حقا وباستيجاب ، و (يَرْهَقُ) معناه يغشى مع ذلة وتضييق ، والقتر الغبار المسود ، ومنه قول الشاعر [الفرزدق] : [البسيط]

متوج برداء الملك يتبعه

موج ترى وسطه الرايات والقترا

وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش وأبو رجاء «قتر» بسكون التاء ، وقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) الآية ، اختلف النحويون في رفع «الجزاء» بم هو؟ فقالت فرقة : التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها ، وقالت فرقة : التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة.

قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون رفع «الجزاء» على المبتدأ وخبره في (الَّذِينَ) لأن (الَّذِينَ) معطوف على قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) ، فكأنه قال والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وعلى الوجه الآخر فقوله (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) رفع بالابتداء ، وتعم (السَّيِّئاتِ) هاهنا الكفر والمعاصي ، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى. و «العاصم» المنجي ، ومنه قوله تعالى : (إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) [هود : ٤٣]. و (أُغْشِيَتْ) كسيت ومنه الغشاوة ، و «القطع» جمع قطعة ، وقرأ ابن كثير والكسائي «قطعا» من الليل بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، و «القطع» الجزء من الليل ومنه قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ٨١] وهذا يراد به الجزء من زمان الليل ، وفي هذه الآية الجزء من سواده ، و (مُظْلِماً) ، نعت ل «قطع» ، ويجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في قوله (مِنَ اللَّيْلِ) ، فإذا كان نعتا فكان حقه أن يكون قبل الجملة ولكن قد يجيء بعدها ، وتقدير الجملة قطعا استقر من الليل مظلما على نحو قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ١٥٥] ومن قرأ «قطعا» على جمع قطعة فنصب «مظلما» على الحال (مِنَ اللَّيْلِ) والعامل في الحال (مِنَ) إذ هي العامل في ذي الحال ، وقرأ أبي بن كعب ، «كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل وظلم» ، وقرأ ابن أبي عبلة «قطع من الليل مظلم» بتحريك الطاء في قطع.

قوله عزوجل :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ(٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوايَفْتَرُونَ)(٣٠)

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والحسن وشيبة وغيرهم ، «نحشرهم» بالنون ، وقرأت فرقة:


«يحشرهم» بالياء ، والضمير في «يحشرهم» عائد على جميع الناس محسنين ومسيئين ، و (مَكانَكُمْ) نصب على تقدير لازموا مكانكم وذلك مقترن بحال شدة وخزي ، و (مَكانَكُمْ) في هذا الموضع من أسماء الأفعال إذ معناه قفوا واسكنوا ، وهذا خبر من الله تعالى عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله الأصنام بالتبري منهم. وقوله : (وَشُرَكاؤُكُمْ) ، أي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء لله ، فأضافهم إليهم لأن كونهم شركاء إنما هو بزعم هؤلاء ، وقوله (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) معناه فرقنا في الحجة والمذهب وهو من زلت الشيء عن الشيء أزيله ، وهو تضعيف مبالغة لا تعدية ، وكون مصدر زيل تزييلا ، يدل على أن زيل إنما هو فعل لا فيعل ، لأن مصدره كان يجيء على فيعلة ، وقرأت «فزايلنا» ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام : والله ما كنا نسمع ولا نعقل و (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فتقول الآلهة (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) الآية.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم ، و (أَنْتُمْ) رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون ، ويجوز أن يكون (أَنْتُمْ) تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه. و (شَهِيداً) نصب على التمييز ، وقيل على الحال ، «وإن» هذه عند سيبويه هي مخففة موجبة حرف ابتداء ولزمتها اللام فرقا بينها وبين «إن» النافية ، وقال الفراء : «إن» بمعنى ما واللام بمعنى إلا ، و (هُنالِكَ) نصب على الظرف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «تبلوا» بالباء بواحدة بمعنى اختبر ، وقرأ حمزة والكسائي «تتلوا» بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى تتبع أي تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها ، ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها ، وقرأ يحيى بن وثاب «وردوا» بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله» ، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه ، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه.

قوله عزوجل :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣٣)

هذا توقيف وتوبيخ واحتجاج لا محيد عن التزامه ، و (مِنَ السَّماءِ) يريد بالمطهر ومن (الْأَرْضِ) يريد بالإنبات ونحو ذلك ، و (يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) ، لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه حتى أن ما عداهما من الحواس تبع ، و (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الجنين من النطفة ، والطائر من البيضة ، والنبات من


الأرض إذ له نمو شبيه بالحياة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ، مثل البيضة من الطائر ونحو ذلك ، وقد تقدم فيما سلف إيعاب القول في هذه المعاني ، و «تدبير الأمر» عام لهذا وغيره من جميع الأشياء ، وذلك استقامة الأمور كلها عن إرادته عزوجل ، وليس تدبيره بفكر ولا روية وتغيرات تعالى عن ذلك بل علمه محيط كامل دائم ، (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) لا مندوحة لهم عن ذلك ، ولا تمكنهم المباهتة بسواه ، فإذا أقروا بذلك (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ). في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة : وقوله تعالى (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ) الآية ، يقول : فهذا الذي هذه صفاته (رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي المستوجب للعبادة والألوهية ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق ، وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازا وإيضاحا ، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف وهي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات» ، و (الْحَقُ) في هذه في الطرفين لأن المتعبدين إنما طلبوا بالاجتهاد لا بعين في كل نازلة ويدلك على أن «الحق» في الطرفين اختلاف الشرائع بتحليل وتحريم في شيء واحد ، والكلام في مسائل الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بالمتشرع ، وقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تقرير كما قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير : ٢٦] ثم قال : (كَذلِكَ حَقَّتْ) أي كما كانت صفات الله كما وصف وعبادته واجبة كما تقرر وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم وتكسبوا (كَذلِكَ حَقَّتْ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ، وحمزة والكسائي هنا وفي آخر السورة «كلمة» على الإفراد الذي يراد به الجمع كما يقال للقصيدة كلمة ، فعبر عن وعيد الله تعالى بكلمته ، وقرأ نافع وابن عامر في الموضعين المذكورين «كلمات» ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة بن نصاح ، وهذه الآية إخبار أن في الكفار من حتم بكفره وقضى بتخليده ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «إنهم» بكسر الألف.

قوله عزوجل :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

هذا توقيف أيضا على قصور الأصنام وعجزها ، وتنبيه على قدرة الله عزوجل ، و «بدء الخلق» يريد به إنشاء الإنسان في أول أمره ، و «إعادته» هي البعث من القبور ، و (تُؤْفَكُونَ) معناه : تصرفون وتحرمون ، تقول العرب : أرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة والقلب ، كما قال (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) [النجم : ٥٣] وقوله تعالى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي) الآية ، (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) يريد به يبين


الطرق والصواب ويدعو إلى العدل ويفصح بالآيات ونحو هذا ، ووصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت ، فوجه ذلك أنه عامل في العبارة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن ، وذكر ذلك أبو علي الفارسي ، والذي أقول: إن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى أمن لا يهدي أحدا إلا أن يهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله ، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها «أمن لا يهتدي إلا أن يهدى» فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير ، وقال بعضهم : هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل ، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إلى مناكرة الكفار يوم القيامة ، حسبما مضى في هذه السورة ، وقراءة حمزة والكسائي هي «يهدي» بفتح الياء وسكون الهاء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وشيبة والأعرج وأبو جعفر «يهدّي» بسكون الهاء وتشديد الدال ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يهدي» بفتح الياء والهاء ، وهذه أفصح القراءات ، نقلت حركة تاء «يهتدي» إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال ، وهذه رواية ورش عن نافع وقرأ عاصم في رواية حفص «يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء وشد الدال ، أتبع الكسرة الكسرة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، «يهدّي» ، بكسر الياء والهاء وشد الدال وهذا أيضا إتباع وقال مجاهد : الله يهدي من الأوثان وغيرها ما شاء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقرأ يحيى بن الحارث الزماري. «إلا أن يهدّي» بفتح الهاء وشد الدال ، ووقف القراء (فَما لَكُمْ) ، ثم يبدأ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وقوله (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) ، إخبار عن فساد طرائقهم وضعف نظرهم وأنه ظن ، ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده من الحق ، و (الظَّنَ) في هذه الآية على بابه في أنه معتقد أحد جائزين لكن ثم ميل إلى أحدهما دون حجة تبطل الآخر ، وجواز ما اعتقده هؤلاء إنما هو بزعمهم لا في نفسه. بل ظنهم محال في ذاته. و (الْحَقِ) أيضا على بابه في أنه معرفة المعلوم على ما هو به. وبهذه الشروط «لا يغني الظن من الحق شيئا». وأما في طريق الأحكام التي تعبد الناس بظواهرها فيغني الظن في تلك الحقائق ويصرف من طريق إلى طريق. والشهادة إنما هي مظنونة. وكذلك التهم في الشهادات وغيرها تغني. وليس المراد في هذه الآية هذا النمط. وقرأ جمهور الناس. «يفعلون». وقرأ عبد الله بن مسعود «تفعلون» بالتاء على مخاطبة الحاضر.

قوله عزوجل :

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣٨)

هذا نفي قول من قال من قريش إن محمدا يفتري القرآن وينسبه إلى الله تعالى ، وعبر عن ذلك بهذه الألفاظ التي تتضمن تشنيع قولهم وإعظام الأمر كما قال تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] وكما قال حكاية عن عيسى عليه‌السلام (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ)


[المائدة : ١١٦] ونحو هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته ، و (يُفْتَرى) معناه : يختلق وينشأ ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة ، فهو مشتق من فريت إذا قطعت لإصلاح ، و (تَصْدِيقَ) نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر ، وقال الزجّاج : هو خبر «كان» مضمرة ، والتقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه ، وقوله (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يريد التوراة والإنجيل ، والذي بين اليد هو المتقدم للشيء ، وقالت فرقة في هذه الآية : إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ، والأمر بالعكس كتاب الله تعالى بين يدي تلك ، أما أن الزجّاج تحفظ فقال : الضمير يعود على الأشراط ، والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه القرآن.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضا قلق ، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه ، و (تَفْصِيلَ الْكِتابِ) هو تبيينه ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) يريد هو في نفسه على هذه الحالة وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه ، وقوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الآية ، (أَمْ) هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو ، وإنما هي التي تتوسط الكلام ، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاما وإضرابا عما تقدم ، وهي كقولهم : إنها لا بل أم شاء ، وقالت فرقة في (أَمْ) هذه : هي بمنزلة ألف الاستفهام ، ثم عجزهم في قوله (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم ، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن : إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة ، كل ذلك في التعريف بالحقائق ، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل ، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده.

قال القاضي أبو محمد : هكذا قول جماعة من المتكلمين ، وفيه عندي نظر ، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب ردا على قولهم (افْتَراهُ) ، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق ، وما ألزموا قط إتيانا بغيب ، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ٣] ، وكقوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك ، وأما التحدي بالنظم فبين أيضا أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عزوجل قد أحاط بكل شيء علما ، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود ، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول ، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم ، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية ، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول ، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته ـ وهي الحوليات ـ يبدل فيها ويقدم ويؤخر ، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح ، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل ، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى ، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره ، كفعل الفرزدق في أبيات جرير ، والجارية في شعر الأعشى ، وقول الأعرابي «عرفجكم» فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين : اطراد النظم والسرد ،


وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل : فأما مثل قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] وقوله (ثُمَّ نَظَرَ) [المدثر : ٢١] فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه ، وقوله (مِثْلِهِ) صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر ، كأنه قال : فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه ، وخلطت فرق في قوله (مِثْلِهِ) من جهة اللسان كقول الطبري : ذلك على المعنى ، ولو كان على اللفظ لقال : «مثلها» ، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه ، وقرأ عمرو بن فائد «بسورة مثله» ، على الإضافة ، قال أبو الفتح : التقدير بسورة كلام مثله ، قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة «سورة» أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت ، وقوله (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك ، وهو كقوله في الآية الأخرى ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] أي معينا ، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزا لهم.

قوله عزوجل :

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)(٤٣)

المعنى : ليس الأمر كما قالوا في أنه مفترى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) ، وهذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما أن يريد بها الوعيد الذي توعدهم الله عزوجل على الكفر ، وتأويله على هذا يراد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] ، والآية بجملتها على هذا التأويل تتضمن وعيدا ، والمعنى الثاني أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة ولا أحاطوا بعلم غيوبه وحسن نظمه ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه ، و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد من سلف من أمم الأنبياء ، قال الزجّاج (كَيْفَ) في موضع نصب على خبر (كانَ) ولا يجوز أن يعمل فيها «انظر» لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.

قال القاضي أبو محمد : هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا «كيف» في كل مكان معاملة الاستفهام المحض في قولك : كيف زيد ، ول «كيف» تصرفات غير هذا ، تحل محل المصدر الذي هو كيفية وتخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي فإنه لم يستفهم وذكر الفعل المسند إلى «العاقبة» لما كانت بمعنى المآل ونحوه وليس تأنيثها بحقيقي ، وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية ، الضمير في (مِنْهُمْ) عائد على قريش ، ولهذا الكلام معنيان قالت فرقة : معناه من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ومنهم من حتم الله أنه لا يؤمن به


أبدا ، وقالت فرقة : معناه من هؤلاء القوم من هو مؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه وعلمه بأن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعجاز القرآن حق ، حفظا لرياسته أو خوفا من قومه ، كالفتية الذين خرجوا إلى بدر مع الكفار فقتلوا فنزل فيهم (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] وكالعباس ونحو هذا ، ومنهم من ليس بمؤمن.

قال القاضي أبو محمد : وفائدة الآية على هذا التأويل التفرق لكلمة الكفار ، وإضعاف نفوسهم ، وأن يكون بعضهم على وجل من بعض ، وفي قوله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) ، تهديد ووعيد ، وقوله (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) ، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد ، وهذه الآية نحو قوله (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] إلى آخر السورة ، وقال كثير من المفسرين منهم ابن زيد : هذه الآية منسوخة بالقتال لأن هذه مكية ، وهذا صحيح ، وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ، جمع (يَسْتَمِعُونَ) على معنى (مَنْ) لا على لفظها ، ومعنى الآية : ومن هؤلاء الكفار من يستمع إلى ما يأتي به من القرآن بإذنه ولكنه حين لا يؤمن ولا يحصل فكأنه لا يسمع ، ثم قال على وجه التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفأنت يا محمد تريد أن تسمع الصم. أي لا تكترث بذلك ، وقوله (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) معناه : ولو كانوا من أشد حالات الأصم ، لأن الأصم الذي لا يسمع شيئا بحال ، فذلك لا يكون في الأغلب إلا مع فساد العقل والدماغ فلا سبيل أن يعقل حجة ولا دليلا أبدا ، (وَلَوْ) هذه بمعنى «إن» ، وهذا توقيف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ألزم نفسك هذا ، وقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) الآية ، هي نحو الأولى في المعنى ، وجاء (يَنْظُرُ) على لفظ (مَنْ) ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف آخر على اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ ، وهذه الآية نحو الأولى في المعنى كأنه قال : ومنهم من ينظر إليك ببصره لكنه لا يعتبر ولا ينظر ببصيرته ، فهو لذلك كالأعمى فهون ذلك عليك ، أفتريد أن تهدي العمي ، والهداية أجمع إنما هي بيد الله عزوجل.

قوله عزوجل :

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ)(٤٦)

قرأت فرقة : «ولكن الناس» بتخفيف «لكن» ورفع «الناس» ، وقرأت فرقة «ولكنّ» بتشديد «لكنّ» ونصب «الناس» ، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم ، وعرف «لكن» إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف ، وقد ينخرم هذا ، وقال الكوفيون : قد يدخل اللام في خبر «لكن» المشددة على حد دخولها في «أن» ومنع ذلك البصريون ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الآية ، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض ، و (يَوْمَ) ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا


ساعَةً مِنَ النَّهارِ) ، ويصح نصبه ب (يَتَعارَفُونَ) ، والكاف من قوله (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) في موضع الحال من الضمير في (يَحْشُرُهُمْ) وخصص (النَّهارِ) بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنة للجميع ، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا ، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء ، وأما قوله (يَتَعارَفُونَ) فيحتمل أن يكون معادلة لقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) كأنه أخبر أنهم يوم الحشر (يَتَعارَفُونَ) ، وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض. ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في (يَحْشُرُهُمْ) ويكون معنى التعارف كالذي قبله ، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في (يَلْبَثُوا) ويكون التعارف في الدنيا ، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها ، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «نحشرهم» ، بالنون ، وقرأ الأعمش فيما روي عنه ، «يحشرهم» بالياء ، وقوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ) إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى ، وهذا على أن الكلام إخبار من الله تعالى وقيل : إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم ، وقوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) الآية ، (إِمَّا) شرط وجوابه (فَإِلَيْنا) ، والرؤية في قوله (نُرِيَنَّكَ) رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر (بَعْضَ) ، والإشارة بقوله (بَعْضَ الَّذِي) إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها ، ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف (ثُمَ) هاهنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها ، وإما هي «إن» زيدت عليها «ما» ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز.

قوله عزوجل :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) ، إخبار مثل قوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى) [الملك : ٨] وقال مجاهد وغيره : المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك «القضاء بينهم بالقسط» وقيل : المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا من حتم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم ، فذلك قضاء بينهم بالقسط ، وقرن بعض المتأولين هذه الآية بقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وذلك يتفق إما بأن نجعل (مُعَذِّبِينَ) [الإسراء : ١٥] في الآخرة ، وإما بأن نجعل «القضاء بينهم» في الدنيا بحيث يصح اشتباه


الآيتين ، وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) إلى (يَسْتَقْدِمُونَ) ، الضمير في (يَقُولُونَ) يراد به الكفار ، وسؤالهم عن الوعد تحرير بزعمهم في الحجة ، أي هذا العذاب الذي توعدنا حدد لنا فيه وقته لنعلم الصدق في ذلك من الكذب ، وقال بعض المفسرين : قولهم هذا على جهة الاستخفاف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يظهر من اللفظة ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، المعنى قل لهم يا محمد ردا للحجة إني (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) من دون الله ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وبضمن الحاجة إلى لطفه ، فإذا كنت هكذا فأحرى أن لا أعرف غيبه ولا أتعاصى شيئا من أمره ، ولكن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) انفرد الله تعالى بعلم حده ووقته ، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة لم يتأخروا ساعة ولا أمكنهم التقدم عن حد الله عزوجل ، وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بالجمع.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٥٣)

المعنى : قال يا أيها الكفرة المستعجلون عذاب الله عزوجل (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) ليلا وقت المبيت ، يقال : بيت القوم القوم إذا طرقوهم ليلا بحرب أو نحوها (أَوْ نَهاراً) لكم منه منعة أو به طاقة؟ فماذا تستعجلون منه ، وأنتم لا قبل لكم به؟ و «ما» ابتداء و «ذا» خبره ، ويصح أن تكون (ما ذا) بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء وخبره الجملة التي بعده ، وضعف هذا أبو علي وقال : إنما يجوز ذلك على تقدير إضمار في (يَسْتَعْجِلُ) وحذفه كما قال [أبو النجم] : [الرجز]

كله لم أصنع

وزيدت ضربت قال : ويصح أن تكون (ما ذا) في حال نصب ل (يَسْتَعْجِلُ) ، والضمير في (مِنْهُ) يحتمل أن يعود على الله عزوجل ، ويحتمل أن يعود على «العذاب» ، وقوله (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) الآية ، عطف بقوله (ثُمَ) جملة القول على ما تقدم ثم أدخل على الجميع ألف التقرير ، ومعنى الآية : إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به حينئذ ، وذلك غير نافعكم بل جوابكم الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به ، وقرأ طلحة بن مصرف «أثم» بفتح الثاء ، وقال الطبري في قوله «ثم» بضم الثاء ، معناه هنالك وقال : ليست «ثم» هذه التي تأتي بمعنى العطف.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى صحيح على أنها «ثم» المعروفة ولكن إطباقه على لفظ التنزيل هو كما قلنا ، وما ادعاه الطبري غير معروف ، و (آلْآنَ) أصله عند بعض النحاة آن فعل ماض دخلت عليه الألف واللام على حدها في قوله : الحمار اليجدع ولم يتعرف بذلك كل التعريف ولكنها لفظة مضمنة معنى


حرف التعريف ولذلك بنيت على الفتح لتضمنها معنى الحرف ولوقوعها موقع المبهم لأن معناها هذا الوقت ، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وعاصم والجمهور (آلْآنَ) بالمد والاستفهام على حد التوبيخ ، وكذلك (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) [يونس : ٩١] وقرأها باستفهام بغير مد طلحة والأعرج. وقوله تعالى: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية ، هو الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخص الذي هو ظلم الكفر لا ظلم المعصية ، وقوله (هَلْ تُجْزَوْنَ) توقيف وتوبيخ ، ونصت هذه الآية على أن الجزاء في الآخرة ، هو على تكسب العبد ، وقوله (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين : ثلاثة : أحدها الكاف ، والآخر في الابتداء والخبر ، وقيل هي بمعنى يستعلمونك ، فهي على هذا تحتاج إلى مفعولين ثلاثة : أحدها الكاف ، والابتداء والخبر يسد مسد المفعولين ، و (أَحَقٌّ هُوَ) قيل الإشارة إلى الشرع والقرآن ، وقيل : إلى الوعيد وهو الأظهر ، وقرأ الأعمش «الحق هو» بمدة وبلام التعريف ، وقوله (إِي) ، هي لفظة تتقدم القسم وهي بمعنى «نعم» ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : (إِي وَرَبِّي) وإي ربي ومعجزين معناه مفلتين ، وهذا الفعل أصله تعدية عجز لكن كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان ، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٥٦)

هذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن ذلك الوعد حق ، (وَأَسَرُّوا) لفظة تجيء بمعنى أخفوا ، وهي حينئذ من السر ، وتجيء بمعنى أظهروا ، وهي حينئذ من أسارير الوجه ، قال الطبري : المعنى وأخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة عن سفلتهم ووضعائهم.

قال القاضي أبو محمد : بل هو عام في جميعهم و (أَلا) استفتاح وتنبيه ، ثم أوجب أن جميع (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملك لله تعالى ، قال الطبري : يقول : فليس لهذا الكافر يومئذ شيء يقتدي به.

قال القاضي أبو محمد : وربط الآيتين هكذا يتجه على بعد ، وليس هذا من فصيح المقاصد ، وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قيد بالأكثر لأن بعض الناس يؤمن فهم يعلمون حقيقة وعد الله تعالى وأكثرهم لا يعلمون فهم لأجل ذلك يكذبون ، وقوله و (هُوَ يُحيِي) ، يريد يحيي من النطفة (وَيُمِيتُ) بالأجل ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله ، وقرأ «ترجعون» بالتاء من فوق الأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع والناس ، وقرأ عيسى بن عمر «يرجعون» بالياء من تحت ، واختلف عن الحسن.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(٥٧)


قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)

هذه آية خوطب بها جميع العالم ، و «الموعظة» : القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد ، وهذه صفة الكتاب العزيز ، وقوله (مِنْ رَبِّكُمْ) يريد لم يختلقها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هي من عند الله ، وما (فِي الصُّدُورِ) يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان ، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله (هُدىً وَرَحْمَةٌ) بحسب المؤمنين فقط ، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه ، وقوله سبحانه (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) ، قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس : «الفضل» : الإسلام ، و «الرحمة» : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري : «الفضل» : القرآن ، و «الرحمة» أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل» : القرآن ، و «الرحمة» : الإسلام ، وقالت فرقة : «الفضل» : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «الرحمة» : القرآن.

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن «الفضل» هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، و «الرحمة» هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فلتفرحوا» ، و «تجمعون» بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، وقرأ السبعة سوى ابن عامر وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش : بالياء فيهما على ذكر الغائب ، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما ، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة : بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة ، ورويت عن أبي التياح ، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «فبذلك فافرحوا» ، وأما من قرأ «فلتفرحوا» ، فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة ، حكى ذلك أبو علي في الحجة ، وقال أبو حاتم وغيره : الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر ، وإذا كان أمرا لغائب بلام ، قال أبو الفتح : إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده ، وقرأ أبو الفتوح والحسن : بكسر اللام من «فلتفرحوا» ، فإن قيل : كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله (لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ١٠] ، وفي قوله (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] قيل إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية ، وإذا ورد مقيدا


في شر أو مطلقا لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنة على ذنبه وخوفه لربه ، وقوله : (مِمَّا يَجْمَعُونَ) يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠)

هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب والنصيب من الحرث والأنعام وغير ذلك مما لم يأذن الله به ، وإنما اختلقوه بأمرهم ، وقوله تعالى : (أَنْزَلَ) لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق ، إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمئال ، أو نزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع ، ثم أمر الله نبيه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله تعالى في ذلك ، فلم يبق إلا أنهم افتروه ، وهذه الآية نحو قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] ، ذكر ذلك الطبري عن ابن عباس ، وقوله (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ) الآية ، وعيد ، لما تحقق عليهم ، بتقسيم الآية التي قبلها ، أنهم مفترون على الله ، عظم في هذه الآية جرم الافتراء ، أي ظنهم في غاية الرداءة بحسب سوء أفعالهم ، ثم ثنى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء ، والعصيان : والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة ، ثم استدرك ذكر من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره ولا يبادر به فيه على جهة الذم لهم ، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله وجميع تقصير الخلق في شكره ، لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٦٣)

قصد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء ، ومعنى اللفظ (وَما تَكُونُ) يا محمد ، والمراد هو وغيره (فِي شَأْنٍ) من جميع الشؤون (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) الضمير عائد على (شَأْنٍ) أي فيه وبسببه من قرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن ، ثم عم بقوله (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) ، وفي قوله (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) ، تحذير وتنبيه ، و (تُفِيضُونَ) تنهضون بجد ، يقال : أفاض الرجل في سيره وفي حديثه ، ومنه الإفاضة في الحج ومفيض القدام ، ويحتمل أن «فاض» عدي بالهمزة ، و (يَعْزُبُ) معناه : يغيب حتى


يخفى حتى قالوا للبعيد عازب ، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] : [الطويل]

عوازب لم تسمع نبوح مقامه

ولم تر نارا تم حول محرم

وقيل للغائب عن أهله : عازب ، حتى قالوه لمن لا زوجة له ، وفي السير أن بيت سعد بن خيثمة كان يقال : بيت العزاب ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يعزب» يضم الزاي ، وقرأ الكسائي وحده منهم : «يعزب» بكسرها وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف ، قال أبو حاتم : القراءة بالضم ، والكسر لغة ، و «المثقال» : الوزن ، وهو اسم ، لا صفة كمعطار ومضراب ، والذر : صغار النمل ، جعلها الله مثالا إذ لا يعرف في الحيوان المتغذي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه ، وقرأ جمهور الناس وأكثر السبعة : «ولا أصغر ولا أكبر» بفتح الراء عطفا على (ذَرَّةٍ) في موضع خفض لكن منع من ظهوره امتناع الصرف ، وقرأ حمزة وحده : «ولا أصغر ولا أكبر» عطفا على موضع قوله (مِثْقالِ) ، لأن التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ، و «الكتاب المبين» : اللوح المحفوظ ، كذا قال بعض المفسرين ، ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة ، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل ، وتقديم «الأصغر» في الترتيب جرى على قولهم : القمرين والعمرين ، ومنه قوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] والقصد بذلك تنبيه ، الأقل وأن الحكم المقصود إذا وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم ، و (أَلا) استفتاح وتنبيه ، و (أَوْلِياءَ اللهِ) هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة ، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنّما نبهنا هذا التنبيه حذرا من بعض الوصفية وبعض الملحدين في الولي ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذ سئل عن أولياء الله؟ فقال : الذين إذا رأيتهم ذكرت الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وصف لازم للمتقين لأنهم يخشعون ويخشعون ، وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا أنه قال : «أولياء الله قوم تحابوا في الله واجتمعوا في ذاته لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه وقوله (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يحتمل أن يكون في الآخرة ، أي لا يهتمون بهمها ولا يخافون عذابا ولا عقابا ولا يحزنون لذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا أي لا يخافون أحدا من أهل الدنيا ولا من أعراضها ولا يحزنون على ما فاتهم منها ، والأول أظهر والعموم في ذلك صحيح لا يخافون في الآخرة جملة ولا في الدنيا الخوف الدنياوي الذي هو في فوت آمالها وزوال منازلها وكذلك في الحزن ، وذكر الطبري عن جماعة من العلماء مثل ما في الحديث من الأولياء الذين إذا رآهم أحد ذكر الله ، وروي فيهم حديث : «إن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله وتجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم ، فهم في عرصة القيامة لا يخافون ولا يحزنون» ، وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال : «قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال» ، الحديث ، ثم قرأ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) يصح أن يكون في موضع نصب على البدل من الأولياء ، ويصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء على تقديرهم الذين ، وكثيرا ما يفعل ذلك بنعت ما عملت فيه «أن» إذا جاء بعد خبرها ، ويصح أن يكون (الَّذِينَ) ابتداء وخبره في قوله (لَهُمُ الْبُشْرى) ،


وقوله (وَكانُوا يَتَّقُونَ) لفظ عام في تقوى الشرك والمعاصي.

قوله عزوجل :

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (٦٦)

أما بشرى الآخرة فهي بالجنة قولا واحدا وتلك هي الفضل الكبير الذي في قوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧] وأما بشرى الدنيا فتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ، روى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو الدرداء وعمران بن حصين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم على أنه سئل عن ذلك ففسره بالرؤيا ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم أنه قال : «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة» ، وروت عنه أم كرز الكعبية أنه قال : «ذهبت النبوءة وبقيت المبشرات» ، وقال قتادة والضحاك : البشرى في الدنيا هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوى ذلك بقوله في هذه الآية (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي الرؤيا» إلا إن قلنا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى مثالا من البشرى وهي تعم جميع الناس ، وقوله (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) يريد لا خلف لمواعيده ولا رد في أمره.

قال القاضي أبو محمد : وقد أخذ ذلك عبد الله بن عمر على نحو غير هذا وجعل التبديل المنفي في الألفاظ وذلك أنه روي : أن الحجّاج بن يوسف خطب فأطال خطبته حتى قال : إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله ، فقال له عبد الله بن عمر : إنك لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، فقال له الحجاج : لقد أعطيت علما فلما انصرف إليه في خاصته سكت عنه ، وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجّاج ، ذكره البخاري ، وقوله (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إشارة إلى النعيم الذي به وقعت البشرى. وقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) ، الآية. هذه آية تسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم ، أي قول كفار قريش ، ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك ، ثم ابتدأ بوجوب (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ، أي فهم لا يقدرون على شيء ولا يؤذونه إلا بما شاء الله وهو القادر على عقابهم لا يعازه شيء ، ففي الآية وعيد لهم ، وكسر (إِنَ) في الابتداء ولا ارتباط لها بالقول المتقدم لها ، وقال ابن قتيبة لا يجوز فتح «إن» في هذا الموضع وهو كفر.

قال القاضي أبو محمد : وقوله هو كفر غلو ، وكأن ذلك يخرج على تقدير لأجل أن العزة لله ، وقوله :


(هُوَ السَّمِيعُ) أي لجميع ما يقولونه (الْعَلِيمُ) بما في نفوسهم من ذلك ، وفي ضمن هذه الصفات تهديد ، ثم استفتح بقوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي بالملك والإحاطة ، وغلب من يعقل في قوله (مَنْ) إذ له ملك الجميع ما فيها ومن فيها ، وإذ جاءت العبارة ب «ما» فذلك تغليب للكثرة إذ الأكثر عددا من المخلوقات لا يعقل ، ف (مَنْ) تقع للصنفين بمجموعهما ، «وما» كذلك» ، ولا تقع لما يعقل إذا تجرد من الصفات والأحوال ، ألا ترى لو ذكرت لك قوله في مسألة فأردت أن تسأل عن قائلها أيجوز في كلام العرب أن تقول : ما قائل هذا القول؟ هذا ما يتقلده من يفهم كلام العرب ، وقوله (وَما يَتَّبِعُ) يصح أن تكون (ما) استفهاما بمعنى التقرير وتوقيف نظر المخاطب ، ويعمل (يَدْعُونَ) في قوله (شُرَكاءَ) ويصح أن تكون نافية ويعمل (يَتَّبِعُ) في (شُرَكاءَ) على معنى أنهم لا يتبعون شركاء حقا ، ويكون مفعول (يَدْعُونَ) محذوفا ، وفي هذا الوجه عندي تكلف وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «تدعون» بالتاء وهي قراءة غير متجهة وقوله (إِنَ) نافية و (يَخْرُصُونَ) معناه يحدسون ويخمنون لا يقولون بقياس ولا نظر ، وقرأت فرقة «ولا يحزنك» من أحزن ، وقرأت فرقة «ولا يحزنك» من حزن.

قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل ، وقوله (لِتَسْكُنُوا) دال على أن النهار للحركة والتصرف ، وكذلك هو في الوجود ، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء ، وقوله (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار ، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم ، فمن ذلك قول ذي الرمة : [الطويل]

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطي بنائم

وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها. وإنما ذلك مثل قول الشاعر : [الكامل]

أما النهار ففي قيد وسلسلة

والليل في بيت منحوت من الساج

فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك ، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن ، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار» بالنصب ، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه ، فذكر طرف من


هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين ، وهذا كما في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) [البقرة : ١٧١]. وقوله (يَسْمَعُونَ) يريد ويعون ، والضمير في (قالُوا) للكفار العرب وذلك قول طائفة منهم : الملائكة بنات الله ، والآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول كالنصارى ومن يمكن أن يعتقد ذلك من الكفرة ، و (سُبْحانَهُ) : مصدر معناه تنزيها له وبراءة من ذلك ، فسره بهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (هُوَ الْغَنِيُ) صفة على الإطلاق أي لا يفتقر إلى شيء من الجهات ، و «الولد» جزء مما هو غني عنه ، والحق هو قول الله تعالى (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] ، وقوله (ما فِي السَّماواتِ) ، أي بالملك والإحاطة والخلق ، و (إِنْ) نافية ، و «السلطان» الحجة ، وكذلك معناه حيث تكرر من القرآن ، ثم وقفهم موبخا بقوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وقوله (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ) الآية ، هذا توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية ولا يبقون في نعمة إذ هذه حال من يصير إلى العذاب وإن نعم في دنياه يسيرا ، وقوله : (مَتاعٌ) مرفوع على خبر ابتداء ، أي ذلك متاع أو هو متاع أو على الابتداء بتقدير : لهم متاع ، وقوله (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) إلى آخر الآية توعد بحق.

قوله عزوجل :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(٧١)

تقدم في الأعراف الكلام على لفظة (نُوحٍ) و «المقام» وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه ، و «المقام» بضم الميم إقامته ساكنا في موضع أو بلد ، ولم يقرأ هنا بضم الميم و «تذكيره» : وعظه وزجره ، والمعنى : يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه ، وقرأ السبعة وجمهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى : «فأجمعوا» من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر : [الكامل]

هل أغدون يوما وأمر مجمع

ومنه قول الآخر : [الخفيف]

أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

ومنه الحديث ما لم يجمع مكثا ومنه قول أبي ذؤيب : [الكامل]

ذكر الورود بها فأجمع أمره

شوقا وأقبل حينه يتتبع

وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش «فاجمعوا» بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئا إلى شيء ، و (أَمْرَكُمْ) يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه : ٦٠] وكل هؤلاء نصب «الشركاء» ، ونصب قوله : (شُرَكاءَكُمْ) ، يحتمل أن يعطف على قوله (أَمْرَكُمْ) ، وهذا على قراءة «فاجمعوا» بالوصل ،


وأما من قرأ : «فأجمعوا» بقطع الألف فنصب «الشركاء» بفعل مضمر كأنه قال : وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر : [المتقارب]

شراب اللبان وتمر وأقط

ومن قول الآخر : [مجزوء الكامل مرفل]

ورأيت زوجك في الوغى

متقلدا سيفا ورمحا

ومن قول الآخر : [الرجز]

علفتها تبنا وماء باردا

حتى شأت همالة عيناها

وفي مصحف أبي بن كعب : «فأجمعوا وادعوا شركاءكم» ، قال أبو علي : وقد ينتصب «الشركاء» بواو «مع» ، كما قالوا جاء البريد والطيالسة ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم» بالرفع عطفا على الضمير في «أجمعوا» ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في (أَمْرَكُمْ) ناب مناب أنتم المؤكد للضمير ، ولطول الكلام أيضا ، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير ، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا ، وقرأت فرقة «وشركائكم» بالخفض على العطف على الضمير في قوله : (أَمْرَكُمْ) ، التقدير وأمر شركائكم ، فهو كقول الشاعر [العجّاج] :

أكل امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد بالليل نارا

أي وكل نار ، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله ، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وقوله (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) ، أي ملتبسا مشكلا ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهلال ، «فإن غم عليكم» ومنه قول الراجز :

ولو شهدت الناس إذا تكمّوا

بغمة لو لم تفرج غمّوا

وقوله (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي ، وقرأ السدي بن ينعم : «ثم أفضوا» بالفاء وقطع الألف ، ومعناه : أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة وجلية ، وقوله (وَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخرون والنظرة التأخير.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)(٧٣)

المعنى فإن لم تقبلوا على دعوتي وكفرتم بها وتوليتم عنها ، و «التولي» أصله في البدن ويستعمل في


الإعراض عن المعاني ، يقول : فأنا لم أسألكم أجرا على ذلك ولا مالا ، فيقع منكم قطع بي وتقصير بإرادتي ، وإنما أجري على الذي بعثني ، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه : «أجري» بسكون الياء ، وقرأ «أجري» بفتح الياء الأعرج وطلحة بن مصرف وعيسى وأبو عمرو ، وقال أبو حاتم : هما لغتان ، والقراءة بالإسكان في كل القرآن ، ثم أخبرهم بأن الله أمره بالإسلام والدين الحنيفي الذي هو توحيد الله والعمل بطاعته والإعداد للقائه ، وقوله (فَكَذَّبُوهُ) الآية ، إخبار من الله عزوجل عن حال قوم نوح المكذبين له ، وفي ضمن ذلك الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضرب المثال لهم ، أي أنتم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكونون بحالهم من النقمة والتعذيب ، و (الْفُلْكِ) : السفينة ، والمفسرون وأهل الآثار مجمعون على أن سفينة نوح كانت واحدة ، و (الْفُلْكِ) لفظ الواحد منه ولفظ الجمع مستو وليس به وقد مضى شرح هذا في الأعراف ، و (خَلائِفَ) حمع خليفة ، وقوله (فَانْظُرْ) مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاركه في معناها جميع الخلق ، وفي هذه الآية أنه أغرق جميع من كذب بآيات الله التي جاء بها نوح ، وهي مقتضية أيضا أنه أنذرهم فكانوا منذرين ، فلو كانوا جميع أهل الأرض كما قال بعض الناس لاستوى نوح ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البعث إلى أهل الأرض ، ويرد ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» الحديث. ويترجح بهذا النظر أن بعثة نوح والغرق إنما كان في أهل صقع لا في أهل جميع الأرض.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(٧٥)

الضمير في قوله (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على نوح عليه‌السلام والضمير في (قَوْمِهِمْ) عائد على الرسل ، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم ، و «البينات» المعجزات والبراهين الواضحة ، والضمير في قوله (كانُوا) وفي (لِيُؤْمِنُوا) عائد على قوم الرسل ، والضمير في (كانُوا) عائد على قوم نوح ، وهذا قول بعض المتأولين ، وقال بعضهم : بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم ، وقال يحيى بن سلام (مِنْ قَبْلُ) ، معناه من قبل العذاب.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول بعد ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جراه ، ويؤيد هذا التأويل قوله (كَذلِكَ نَطْبَعُ) ، وقال بعض العلماء : عقوبة التكذيب الطبع على القلوب ، وقرأ جمهور الناس : «نطبع» بالنون ، وقرأ العباس بن الفضل : «يطبع» بالياء ، وقوله (كَذلِكَ) أي هذا فعلنا بهؤلاء ، ثم ابتدأ (كَذلِكَ نَطْبَعُ) أي كفعلنا هذا و (الْمُعْتَدِينَ) هم الذين تجاوزوا طورهم


واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي هاهنا في الكفر ، والضمير في (بَعْدِهِمْ) عائد على الرسل ، والضمير في (مَلَائِهِ) عائد على (فِرْعَوْنَ) ، والملأ : الجماعة من قبيلة وأهل مدينة ، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ ، أي هم يقومون مقام الملأ ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قريش بدر : «أولئك الملأ» ، وكذلك هي في قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) [القصص : ٢٠]. وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف وقد مضى في (المص) [الأعراف : ١] ، ذكر ما بعث إليهم فيه ، و «الآيات» : البراهين والمعجزات وما في معناها ، وقوله (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا وكفروا بها ، و (مُجْرِمِينَ) معناه : يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)(٧٨)

يريد ب (الْحَقُ) آيتي العصا واليد ، ويدل على ذلك قولهم عندهما : هذا سحر ولم يقولوا ذلك إلا عندهما ولا تعاطوا إلا مقاومة العصا فهي معجزة موسى عليه‌السلام التي وقع فيها عجز المعارض ، وقرأ جمهور الناس : «لسحر مبين» ، وقرأ سعيد بن جبير والأعمش : «لساحر مبين» ، ثم حكي عن موسى أنه وقفهم ووبخهم بقوله (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) ، ثم اختلف المتأولون في قوله (أَسِحْرٌ هذا) فقالت فرقة : هو حكاية من موسى عنهم على معنى أن قولهم كان (أَسِحْرٌ هذا) ، ثم اختلف في معنى قول قوم فرعون : (أَسِحْرٌ هذا) فقال بعضهم : قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر ، فهو يسأل عنه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يضعفه ما ذكر الله قبل عنهم من أنهم صمموا على أنه سحر بقولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ، وقال بعضهم بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا؟ على معنى التعجب منه والاستغراب وأنت قد علمت أنه فرس ، وقالت فرقة غير هاتين : ليس ذلك حكاية من موسى عنهم بل القول الذي حكاه عنهم مقدر تقديره أتقولون للحق لما جاءكم سحر.

قال القاضي أبو محمد : أو نحو هذا من التقدير ، ثم ابتدأ يوقفهم بقوله : (أَسِحْرٌ هذا) على جهة التوبيخ ، ثم أخبرهم عن الله تعالى أن الساحرين لا يفلحون ولا يظفرون ببغية ، ومثل هذا التقدير المحذوف على هذا التأويل موجود في كلام العرب ، ومنه قول ذي الرمة :

فلما لبسن الليل أو حين نصّبت

له من خذا آذانها وهو جانح

يريد أو حين قاربن ذلك ، ومنه قول الله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ)


[الإسراء : ٧] المعنى بعثناهم ليسوءوا ، ومثل هذا كثير شائع ، وقوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا) الآية ، المعنى قال قوم فرعون لموسى : أجئتنا لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا ، يقال لفت الرجل عن الآخر إذا لواه ، ومنه قولهم : التفت فإنه افتعل من لفت عنقه ، ومنه قول رؤبة : [الرجز]

لفتا وتهزيعا سواء اللفت

وقرأ السبعة سوى أبي عمرو فإنه اختلف عنه «وتكون» بالتاء من فوق وهي قراءة جمهور الناس ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما زعم خارجة وإسماعيل ، «ويكون» بالياء من تحت ورويت عن أبي عمرو وعن عاصم وهي قراءة ابن مسعود ، و (الْكِبْرِياءُ) : مصدر مبالغ من الكبر ، والمراد به في هذا الموضع الملك ، وكذلك قال فيه مجاهد والضحاك وأكثر المتأولين ، لأنه أعظم تكبر الدنيا ، ومنه قول الشاعر [ابن الرقاع] : [الخفيف]

مؤددا غير فاحش لا تداني

ه تجبارة ولا كبرياء

وقوله (بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين.

قوله عزوجل :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢)

يخبر أن فرعون قال لخدمته ومتصرفيه : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ) ، هذه قراءة جمهور الناس ، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب وعيسى «بكل سحار» على المبالغة ، قال أبو حاتم : لسنا نقرأ «سحار» إلا في سورة الشعراء ، فروي أنهم أتوه بسحرة الفرما وغيرها من بلاد مصر حسبما قد ذكر قبل في غير هذه الآية ، فلما ورد السحرة باستعدادهم للمعارضة خيّروا موسى كما ذكر في غير هذه الآية ، فقال لهم عن أمر الله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا) الآية ، المعنى فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وخيلوا بها وظنوا أنهم قد ظهروا قال لهم موسى هذه المقالة ، وقرأ السبعة سوى أبي عمرو (السِّحْرُ) وهي قراءة جمهور الناس ، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع (بِهِ السِّحْرُ) بألف الاستفهام ممدودة قبل (السِّحْرُ).

فأما من قرأ (السِّحْرُ) بغير ألف استفهام قبله ف (ما) في موضع رفع على الابتداء وهي بمعنى الذي وصلتها قوله (جِئْتُمْ بِهِ) والعائد الضمير في (بِهِ) ، وخبرها (السِّحْرُ) ، ويؤيد هذه القراءة والتأويل أن في مصحف ابن مسعود «ما جئتم به سحر» ، وكذلك قرأها الأعمش وهي قراءة أبي بن كعب ، «ما أتيتم به سحر» ، والتعريف هنا في السحر أرتب لأنه قد تقدم منكرا في قولهم (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ) [يونس : ٧٦] فجاء هنا بلام العهد كما يقال في أول الرسالة ، سلام عليك وفي آخرها والسلام عليك ، ويجوز أن تكون (ما)


استفهاما في موضع رفع بالابتداء و (جِئْتُمْ بِهِ) الخبر و (السِّحْرُ) خبر ابتداء مضمر تقديره هو السحر إن الله سيبطله ، ووجه استفهامه هذا هو التقرير والتوبيخ ، ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب على معنى أي شيء جئتم و (السِّحْرُ) مرفوع على خبر الابتداء تقدير الكلام أي شيء جئتم به هو السحر ، (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ، وأما من قرأ الاستفهام والمد قبل (السِّحْرُ) ف (ما) استفهام رفع بالابتداء و (جِئْتُمْ بِهِ) الخبر ، وهذا على جهة التقرير ، وقوله : (السِّحْرُ) استفهام أيضا كذلك ، وهو بدل من الاستفهام الأول ، ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بمضمر تفسيره (جِئْتُمْ بِهِ) تقديره أي شيء جئتم به السحر ، وقوله (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) إيجاب عن عدة من الله تعالى ، وقوله (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) ، يصح أن يكون من كلام موسى عليه‌السلام ، ويصح أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى ، وقوله (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) الآية ، يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه‌السلام ، ويحتمل أن يكون من إخبار الله عزوجل ، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري ، وأما قوله (بِكَلِماتِهِ) فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك ، قال ابن سلام (بِكَلِماتِهِ) بقوله : لا تخف ، ومعنى (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) وإن كره المجرمون والمجرم : المجترم الراكب للخطر.

قوله عزوجل :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)

المعنى فما صدق موسى ، ولفظة (آمَنَ) تتعدى بالباء ، وتتعدى باللام وفي ضمن المعنى الباء ، واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في (قَوْمِهِ) فقالت فرقة : هو عائد على موسى ، وقالت فرقة هو عائد على (فِرْعَوْنَ) ، فمن قال إن العود على موسى قال معنى الآية وصف حال موسى في أول مبعثه أنه لم يؤمن به إلا فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل ، فالضمير في «الملأ» عائد على «الذرية» وتكون الفاء على هذا التأويل عاطفة جملة على جملة لا مرتبة ، وقال بعض القائلين بعود الضمير على موسى : إن معنى الآية أن قوما أدركهم موسى ولم يؤمنوا به وإنما آمن ذريتهم بعد هلاكهم لطول الزمان ، قاله مجاهد والأعمش ، وهذا قول غير واضح ، وإذا آمن قوم بعد موت آبائهم فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية ، وأيضا فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، وهيئة قوله (فَما آمَنَ) يعطي تقليل المؤمنين به لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض ولو كان الأكثر مؤمنا لأوجب الإيمان أولا ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية إنه القليل لا أنه أراد أن لفظة الذرية هي بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره ، وقالت فرقة إنما سماهم ذرية لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط ، فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء وهم الفرس المنتقلون مع وهرز


بسعاية سيف بن ذي يزن ، والأمر بكماله في السير ، وقال السدي كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون.

قال القاضي أبو محمد : ومما يضعف عود الضمير على «موسى» أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما قد تقدمت فيهم النبوات وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبيا ، فلما جاءهم موسى عليه‌السلام أصفقوا عليه واتبعوه ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على «فرعون» ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر الله ذلك عنهم ، ثم قال (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) من قوم فرعون الذين هذه أقوالهم ، وروي في ذلك أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه ، قاله ابن عباس ، والسحرة أيضا فإنهم معدودون في قوم فرعون وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني ، التي عطفت ، ويعود الضمير في (مَلَائِهِمْ) على «الذرية» ، ولاعتقاد الفراء وغيره عود الضمير على موسى تخبطوا في عود الضمير في (مَلَائِهِمْ) ، فقال بعضهم : ذكر فرعون وهو الملك يتضمن الجماعة والجنود ، كما تقول جاء الخليفة وسافر الملك وأنت تريد جيوشه معه ، وقال الفراء : المعنى على خوف من آل فرعون وملئهم وهو من باب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا التنظير غير جيد لأن إسقاط المضاف في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] هو سائغ بسبب ما يعقل من أن «اسأل القرية» لا تسأل ، ففي الظاهر دليل على ما أضمر ، وأما هاهنا فالخوف من فرعون متمكن لا يحتاج معه إلى إضمار ، إما أنه ربما احتج أن الضمير المجموع في (مَلَائِهِمْ) يقتضي ذلك والخوف إنما يكون من الأفعال والأحداث التي للجثة ولكن لكثرة استعماله ولقصد الإيجاز أضيف إلى الأشخاص ، وقوله (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) بدل من (فِرْعَوْنَ) وهو بدل الاشتمال ، ف (أَنْ) في موضع خفض ، ويصح أن تكون في موضع نصب على المفعول من أجله ، وقرأ الحسن والجراح ، ونبيح «أن يفتنهم» بضم الياء ، ثم أخبر عن فرعون بالعلو في الأرض والإسراف في الأفعال والقتل والدعاوى ليتبين عذر الخائفين ، وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى) ـ إلى ـ (الْكافِرِينَ) ، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنسا لهم ونادبا إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات ، والذي أقول : إن التوكل الذي أمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع ، وهو الذي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قيدها وتوكل» فقد جعله متوكلا مع التقييد ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله ، وكذلك السلف كله ، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها ، كمن يدخل غارا خفيا يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء ، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف ، وللصحيح منه قرائن تسهله ، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ، ولهم قال (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال : ٢] ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهمه ، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء ، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة ، فكيف


بمن يحتسب ، وقال لهم : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ) مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة كما تقول ، إن كنت رجلا فقاتل ، تخاطب بذلك رجلا تريد إقامة نفسه ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) ، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط ، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى ، ثم ذكر أنه أجاب بنو إسرائيل بنية التوكل على الله والنطق بذلك ، ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة ، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق ، قاله مجاهد وغيره.

قال القاضي أبو محمد : فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين ، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون ، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق ، وفي ذلك فساد الأرض ، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «ليس الميت أبو امامة اليهود والمشركين يقولون : لو كان نبيا لم يمت صاحبه» ، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة : إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة وفي هذا التأويل قلق ، وباقي الآية بيّن.

قوله عزوجل :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)

روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر ، قال مجاهد : «مصر» في هذه الآية الإسكندرية ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر ، و (تَبَوَّءا) معناه كما قلنا تخيرا واتخذا ، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها ، ومن ذلك قول الشاعر : [الطويل]

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت

لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرئ القيس : [الكامل]

يتبوأون مقاعدا لقتالكم

كليوث غاب ليلهن زئير

وقرأ الناس «تبوّآ» بهمزة على تقدير تبوعا ، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا» وهذا تسهيل ليس بقياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، قوله (قِبْلَةً) ومعناه مساجد ، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم ، قالوا : خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم ، وقيل يقابل بعضها بعضا ، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب ، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة ، قاله ابن عباس ، ومن هذا حديث عن النبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة» ، وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر ، وقوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أمر لموسى عليه‌السلام ، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا غير متمكن ، وقوله تعالى (وَقالَ مُوسى) الآية ، غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها ، و (آتَيْتَ) معناه أعطيت وملكت ، وتكرر قوله (رَبَّنا) استغاثة كما يقول الداعي بالله ، وقوله (لِيُضِلُّوا) يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجا فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة ، كما قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا ، وروي عن الحسن أنه قال : هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك ، وفي هذا تقرير الشنعة عليهم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة : «ليضلوا» بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه ، «ليضلوا» بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم ، وقرأ الشعبي «ليضلوا» بكسر الياء ، وقرأ الشعبي أيضا وغيره «اطمس» بضم الميم ، وقرأت فرقة «اطمس» بكسر الميم وهما لغتان ، وطمس يطمس ويطمس ، قال أبو حاتم : وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة ، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه ، ومنه قول كعب بن زهير : [البسيط]

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول

وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة ، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد ، وقال مجاهد وغيره ، معناه أهلكها ودمرها ، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع ، وقوله (اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) بمعنى اطبع واختم عليهم بالكفر ، قاله مجاهد والضحاك ، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦]. وقوله (فَلا يُؤْمِنُوا) مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفا على قوله (لِيُضِلُّوا) ، وقيل هو منصوب في جواب الأمر ، وقال الفراء والكسائي : هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر [الأعشى] : [الطويل]

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تلقني إلّا وأنفك راغم

وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية ، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره ، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه ، قال ابن عباس : (الْعَذابَ) هنا الغرق ، وقرأ الناس «دعوتكما» ، وقرأ السدي والضحاك «دعواتكما» ، وروي عن ابن جريح ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة. وحينئذ كان الغرق.

قال القاضي أبو محمد : وأعلما أن دعاءهما صادق مقدورا ، وهذا معنى إجابة الدعاء ، وقيل لهما


(لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له ، وقوله (دَعْوَتُكُما) ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى ، وروي أن هارون كان يؤمّن على دعاء موسى ، قاله محمد بن كعب القرظي ، نسب الدعوة إليهما ، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال «قفا نبكي» ونحو هذا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء ، قال علي بن سليمان قول موسى : (رَبَّنا) دال على أنهما دعوا معا ، وقوله (فَاسْتَقِيما) أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله ، وأمرا بالاستقامة وهما عليها للإدامة والتمادي ، وقرأ نافع والناس ، «تتّبعانّ» بشد التاء والنون على النهي ، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان «تتبعانّ» بتخفيف التاء وشد النون ، وقرأ ابن ذكوان أيضا : «تتّبعانِ» بشد التاء وتخفيف النون وكسرها ، وقرأت فرقة «تتبعان» بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبرا معناه الأمر ، أي لا ينبغي أن تتبعا ، قال أبو علي : إن شئت جعلته حالا من استقيما كأنه قال غير متبعين.

قال القاضي أبو محمد : والعطف يمانع في هذا فتأمله.

قوله عزوجل :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)

قرأ الحسن بن أبي الحسن «وجوّزنا» بشد الواو ، وطرح الألف ، ويشبه عندي أن يكون «جاوزنا» كتب في بعض المصاحف بغير ألف ، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف ، وقرأ جمهور الناس «فأتبعهم» لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد ، وقرأ قتادة والحسن «فاتّبعهم» بشد التاء ، قال أبو حاتم : القراءة «أتبع» بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك ، و «اتّبع» بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك ، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف ، وكان يعقوب قد استقر أولا بمصر في نيف على السبعين ألفا من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور ، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل ، وروي أقل من هذه الأعداد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني إسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة (عَدْواً) على مثال غزا غزا ، وقرأ الحسن وقتادة «غزوا» على مثال علا علوا ، وقوله (أَدْرَكَهُ


الْغَرَقُ) أي في البحر ، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل ، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر ، وبعث الله ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر ، فانطبق عليهم حينئذ ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية ، وقرأ جمهور الناس «أنه» بفتح الألف ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «إنه» بكسر الألف ، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه ، وإما على أن يتم الكلام في قوله (آمَنْتُ) ثم يبتدىء إيجاب «إنه» ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن جبريل عليه‌السلام قال ما أبغضت أحدا قط بغضي لفرعون ، ولقد سمعته يقول (آمَنْتُ) الآية ، فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله» وفي بعض الطرق : «مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة».

قال القاضي أبو محمد : فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم ، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه ، «أهللت كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، والحال الطين ، كذا في الغريب المصنف وغيره ، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد ، وفعل جبريل عليه‌السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة ، وقوله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) الآية ، قال أبو علي : اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين : أحدهما أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيه فيقال الحمر وقد حكى ذلك سيبويه ، وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناسا يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل فمن ذلك قول الشاعر : [الطويل]

وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة

فبح لان منها بالذي أنت بائح

قرأ نافع في رواية ورش لم يختلف عنه «الآن» بمد الهمزة وفتح اللام ، وقرأ الباقون بمد الهمزة وسكون اللام وهمز الثانية ، وقرأت فرقة «الان» بقصر الهمزة وفتح اللام وتخفيف الثانية وقرأ جمهور الناس «ألأن» بقصر الأولى وسكون اللام وهمز الثانية.

قال القاضي أبو محمد : وقراءات التخفيف في الهمزة تترتب على ما قال أبو علي فتأمله ، فإن الأولى على لغة من يقول الحمر ، وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه ، وهذا اللفظ يحتمل أن يكون مسموعا لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله ، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه ، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين ، وقوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) الآية ، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد فرقه ، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم ، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتا كأنه ثور أحمر ، وتحققوا غرقه ، وقرأت فرقة «فاليوم


ننجيك» وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء ، وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها ، ومنه قول أوس بن حجر : [البسيط]

فمن بعقوته كمن بنجوته

والمستكن كمن يمشي بقرواح

وقرأ يعقوب «ننجيك» بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقرأ أبي بن كعب «ننحّيك» بالحاء المشددة من التنحية ، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي ، وقالت فرقة : معنى (بِبَدَنِكَ) بدرعك ، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة «بندائك» أي بقولك (آمَنْتُ) إلخ الآية ، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف ، ومعنى الآية أنّا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع ، وقرأت فرقة هي الجمهور «خلفك» أي من أتى بعدك ، وقرأت فرقة «خلقك» المعنى يجعلك الله آية له في عباده ، ثم بيّن عزوجل العظة لعباده بقوله (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وهذا خبر في ضمنه توعد.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥)

المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل ، و (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله ، ويعني بهذه الآية : إحلالهم بلاد الشام وبيت المقدس ، قاله قتادة وابن زيد ، وقيل : بلاد مصر والشام ، قاله الضحاك ، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر ، على أن القرآن كذلك (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك ، وقد يحتمل أن يكون (أَوْرَثْناها) [الشعراء : ٥٩] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد ، وقوله (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين ، وهذا التأويل يحتاج إلى سند ، والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا.

قال القاضي أبو محمد : فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل ، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم ، وقوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآية ، قال بعض المتأولين وروي ذلك عن الحسن : أن «إن» نافية بمعنى ما والجمهور على أن «إن» شرطية ، والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك


أو يعارض ، وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك إن كنت ابني فبرّني.

قال القاضي أبو محمد : وليس هذا المثال بجيد وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى «أأنت قلت للناس اتخذوني». وروي أن رجلا سأل ابن عباس عما يحيك في الصدر من الشك فقال ما نجا من ذلك أحد ولا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أنزل عليه (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ).

قال القاضي أبو محمد : وذكر الزهراوي أن هذه المقالة أنكرت أن يقولها ابن عباس وبذلك أقول ، لأن الخواطر لا ينجو منها أحد وهي خلاف الشك الذي يحال فيه عليه الاستشفاء بالسؤال ، و (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) هم من أسلم من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت هذه الآية : «أنا لا أشك ولا أسأل». وقرأ «فسل» دون همز الحسن وأبو جعفر وأهل المدينة وأبو عمرو وعيسى وعاصم ، وقرأ جمهور عظيم بالهمز ، ثم جزم الله الخبر بقوله (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، واللام في (لَقَدْ) لام قسم ، و (المُمْتَرِينَ) معناه الشاكين الذين يحتاجون في اعتقادهم إلى المماراة فيها ، وقوله (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يريد به من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه ، وهذا قول أهل التأويل قاطبة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الذي يشبه أن ترتجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب ، ويحتمل اللفظ أن يريد بما أنزلنا جميع الشرع ولكنه بعيد بالمعنى لأن ذلك لا يعرف ويزول الشك فيه إلا بأدلة العقل لا بالسماع من مؤمني بني إسرائيل ، وقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) الآية ، مما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد سواه.

قال القاضي أبو محمد : ولهذا فائد ، ليس في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(٩٨)

جاء في هذا تحذير مردود وإعلام بسوء حال هؤلاء المحتوم عليهم ، والمعنى أن الله أوجب لهم سخطه في الأزل وخلقهم لعذابه فلا يؤمنون ، ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمان ، كما صنع فرعون وأشباهه من الخلق وذلك وقت المعاينة ، وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله ، وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وأبو رجاء «كلمة» بالإفراد ، وقرأ نافع وأهل المدينة «كلمات» بالجمع ، وقد تقدم ذكر هذه الترجمة ، وقوله (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الآية ، في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا» والمعنى فيهما واحد ، وأصل «لولا»


في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره ، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها ، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه ، وقد تجيء «لولا» ، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير : [الطويل]

لولا الكمي المقنعا

وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي ، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب : لولا تحرزت ، وهذه الآية من هذا القبيل.

قال القاضي أبو محمد : ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعا في هذه الحالة ، ثم استثنى قوم يونس ، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل ، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله (إِلَّا قَوْمَ) هو الوجه ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة :

إلا الأواري

وذلك هو حكم لفظ الآية ، وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء ، وقال المهدوي: والرفع على البدل من (قَرْيَةٌ) ، وروي في قصة قوم يونس : أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه : أن أنذرهم بالعذاب لثلاثة ، ففعل فقالوا : هو رجل لا يكذب فارقبوه ، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم ، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك ، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم ، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل ، وروي عن علي ميل ، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضبا كما ذكر الله في هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك ، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون ، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد ، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش «يونس» بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في «يوسف» ، وقوله : (إِلى حِينٍ) ، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل ، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له إنه من أهل نينوى ، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث ، الذي في السيرة لابن إسحاق.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(٩٩)


وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠١)

المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنا ، فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك فالأمر محتوم ، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عزوجل قد شاء غيره.

قال القاضي أبو محمد : فهذا التأويل الآية عليه محكمة ، أي ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان ، وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة ، وقوله تعالى : (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) تأكيد وهو من فصيح الكلام ، و (جَمِيعاً) حال مؤكدة ، ونحوه قوله (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] ، وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الآية ، رد إلى الله تعالى وإلى أن الحول والقوة لله ، في إيمان من يؤمن وكون الرجس على الكفار ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «ونجعل الرجس» بنون العظمة ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم : «ويجعل» بالياء وقرأ الأعمش : «ويجعل الله الرجس» ، و (الرِّجْسَ) يكون بمعنى العذاب كالرجز ، ويكون بمعنى القذر والنجاسة ذكره أبو علي هنا وغيره وهو في هذه الآية بمعنى العذاب ، و (لا يَعْقِلُونَ) يريد آيات الله وحجج الشرع. ومعنى «الإذن» في هذه الآية الإرادة والتقدير لذلك ، فهو العلم والتمكين ، وقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع وغير ذلك من آيات السماوات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك ، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك ، المعنى : انظروا في ذلك بالواجب فهو ينهاكم إلى المعرفة بالله والإيمان بوحدانيته ، وقرأ أبو عبد الرحمن والعامة بالبصرة ، «قل انظروا» بكسر اللام ، وقرأ نافع وأهل المدينة : قل انظروا» بضم اللام ، ثم أعلم في آخر الآية أن النظر في الآيات والسماع من النذر وهم الأنبياء لا يغني إلا بمشيئة الله ، وأن ذلك غير نافع لقوم قد قضى الله أنهم لا يؤمنون ، وهذا على أن تكون (ما) نافية ، ويجوز أن يعد استفهاما على جهة التقرير الذي في ضمنه نفي وقوع الغناء ، وفي الآية على هذا توبيخ لحاضري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين ، وقوله : (الْآياتُ وَالنُّذُرُ) ، حصر طريقي تعريف الله تعالى عباده ، ويحتمل أن تكون (ما) في قوله : (وَما تُغْنِي) ، مفعولة بقوله (انْظُرُوا) معطوفة على قوله : (ما ذا) ، أي تأملوا قدر غناء الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإنه يرفع بالعذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات ، فالآية على هذا تحريض على الإيمان.

قال القاضي أبو محمد : وتجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو في قوله (لا يُؤْمِنُونَ).

قوله عزوجل :

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ(١٠٢)


ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٤)

هذا وعيد وحض على الإيمان ، أي إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنة الله في الأمم الخالية ، فهل عند هؤلاء غير ذلك. وهو استفهام بمعنى التوقيف ، وفي قوله (قُلْ فَانْتَظِرُوا) مهادنة ما ، وهي من جملة ما نسخه القتال ، وقوله (نُنَجِّي رُسُلَنا) الآية ، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم ، فالتخويف على هذا أشد ، وكلهم قرأ «ننجي» مشددة الجيم إلا الكسائي وحفصا عن عاصم فإنهما قرآ «ننجي» بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقرأ عاصم في سورة الأنبياء في بعض ما روي عنه «نجي» بضم النون وحذف الثانية وشد الجيم ، كأن النون أدغمت فيها ، وهي قراءة لا وجه لها ، ذكر ذلك الزجاج. وحكى أبو حاتم نحوها عن الأعمش ، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج» بجيم مطلقة دون ياء وكذلك قرأ الكسائي في سورة مريم (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧٢] بسكون النون وتخفيف الجيم ، والباقون بفتح النون وشد الجيم ، والكاف في قوله (كَذلِكَ) يصح أن تكون في موضع رفع ، ويصح أن تكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف ، وقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية ، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام ، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز ، والمعنى إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله ، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به ، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة.

قوله عزوجل :

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧)

المعنى : قيل لي : كن من المؤمنين وأقم وجهك للدين ، ثم جاءت العبارة بهذا الترتيب ، و «الوجه» في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد ، أي اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع ، و (حَنِيفاً) معناه : مستقيما على قول من قال ، الحنف الاستقامة ، وجعل تسمية المعوج القدم أحنف على جهة التفاؤل. ومن قال الحنف الميل جعل (حَنِيفاً) هاهنا مائلا عن حال الكفرة وطريقهم ، و (حَنِيفاً) نصب على الحال ،


وقوله (وَلا تَدْعُ) معناه قيل لي : (وَلا تَدْعُ) فهو عطف على (أَقِمْ) ، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت هكذا فأحرى أن يتحرز من ذلك غيره ، وما لا ينفع ولا يضر هو الأصنام والأوثان ، والظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه ، وقوله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الآية ، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله ، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم ، و «الضر» لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان كان ذلك في ماله أو في بدنه ، وهذه الآية مظهرة فساد حال الأصنام ، لكن كل مميز أدنى ميز يعرف يقينا أنها لا تكشف ضرّا ولا تجلب نفعا. وقوله (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) لفظ تام العموم ، وخصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفقه بالذكر في قوله «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وهو على جهة التشريف للفقه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ترجية وبسط ووعد ما.

قوله عزوجل :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

هذه مخاطبة لجميع الكفار مستمرة مدى الدهر ، و (الْحَقُ) هو القرآن والشرع الذي جاء به محمد ، (فَمَنِ اهْتَدى) ، أي اتبع الحق وتدين به فإنما يسعى لنفسه لأنه يوجب لها رحمة الله ، ويدفع عذابه ، (وَمَنْ ضَلَ) أي حاد عن طريق الحق ولم ينظر بعين الحقيقة وكفر بالله عزوجل فيضل ذلك ، وقوله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) ، أي لست بآخذكم ولا بد بالإيمان وإنما أنا مبلغ ، وهذه الآية منسوخة بالقتال ، وقوله (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) الآية معناه : اتبع ما رسمه لك شرعك وما أعلمك الله به من نصرته لك ، (وَاصْبِرْ) على شقاء الرسالة وما ينالك في الله من الأذى ، وقوله (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يغلبهم ـ كما وقع ـ تقتضيه قوة اللفظ ، وهذا الصبر منسوخ بالقتال ، وهذه السورة مكية وقد تقدم ذكر هذا في أولها.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة هود

هذه سورة مكية إلا قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) [هود : الآية ١٢] ، وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [هود : الآية ١٧] ، ونزلت في ابن سلام وأصحابه ، وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ، نزلت في شأن الثمار وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل ، على أن الأولى تشبه المكي.

وإذا أردت ب «هود» اسم السورة لم ينصرف كما تفعل إذا سميت امرأة بعمرو وزيد وإذا أردت سورة هود صرفت.

قوله عزوجل :

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤)

تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي (حم) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] وفي (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١].

و (كِتابٌ) مرتفع على خبر الابتداء ، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب» ؛ والمراد بالكتاب القرآن.

و (أُحْكِمَتْ) معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أزمنة مختلفة ف (ثُمَ) على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب ؛ وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي


هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : (فُصِّلَتْ) معناه فسرت ، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير ـ فيما روي عنه ـ : «ثم فصلت» بفتح الفاء والصاد واللام ، ويحتمل ذلك معنيين : أحدهما : «فصلت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى. والثاني فصلت بين المحق والمبطل من الناس.

و (مِنْ لَدُنْ) معناه من حيث ابتدئت الغاية ، كذا قال سيبويه وفيها لغات : يقال : لدن ولدن بسكون الدال : وقرىء بهما. (مِنْ لَدُنْ) ، ويقال : «لد» بفتح اللام وضم الدال دون نون ، ويقال «لدا» ، بدال منونة مقصورة. ويقال : «لد» بدال مكسورة منونة ، حكى ذلك أبو عبيدة.

و (حَكِيمٍ) أي محكم ، و (خَبِيرٍ) أي ذو خبرة بالأمور أجمع ، (أَلَّا تَعْبُدُوا) أن في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض ، وقيل على البدل من موضع الآيات ، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات ، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع : ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير : تفصيله ألا تعبدوا وقيل : على البدل من لفظ الآيات.

وقوله تعالى : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي من عقابه وبثوابه : وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم و (أَنِ) معطوفة على التي قبلها.

ومعنى الآية : استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. و (ثُمَ) مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.

وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء ، وقرأ ابن محيصن «يمتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء ، وفي كتاب أبي حاتم : «إن هذه القراءات بالنون» ، وفي هذا نظر. و (مَتاعاً) مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وقيل نصب بتعدي (يُمَتِّعْكُمْ) لأنك تقول : متعت زيدا ثوبا. ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عزوجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا ، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى» : هو أجل الموت معناه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لكل واحد منكم ، وهذا ظاهر الآية : «واليوم الكبير» ـ على هذا ـ هو يوم القيامة.

وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا ، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا ، فتشبه ما قاله نوح عليه‌السلام ، و «اليوم الكبير» ـ على هذا ـ يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم محصل والأجل واحد.

وقوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي كل ذي إحسان بقوله ، أو بفعله ، أو قوته ، أو بماله ، أو غير ذلك ، مما يمكن أن يتقرب به و (فَضْلَهُ) ، يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عزوجل أي يؤتي


الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين ، وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور لمن شاء ، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال : ويل لمن غلبت آحاده عشراته. ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقا للمعنى الأول.

وقرأ جمهور «وإن تولّوا» بفتح التاء واللام ، فبعضهم قال الغيبة ، أي فقل لهم : إني أخاف عليكم ، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر ، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : «وإن تولوا» بضم التاء واللام وإسكان الواو.

وقوله تعالى : (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ، توعد بيوم القيامة : ويحتمل أن يريد به يوما من الدنيا كبدر وغيره.

وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) توعد ، وهو يؤيد أن «اليوم الكبير» يوم القيامة لأنه توعد به ، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله ، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية. وقوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء.

قوله عزوجل :

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦)

قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه ، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عزوجل فنزلت الآية في ذلك.

و (صُدُورَهُمْ) منصوبة على هذا ب (يَثْنُونَ). وقيل : هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها.

فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.

وقرأ سعيد بن جبير «يثنون» بضم الياء والنون من أثنى ، وقرأ ابن عباس «ليثنوه» ، وقرأ ابن عباس أيضا ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك «تثنوني صدورهم» برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في (يَثْنُونَ) ، وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر ، كما


تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك. وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوما كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. وقرأ ابن عباس ـ فيما روى ابن عيينة ـ «تثنو» بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو ، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه ، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي» بتقديم النون على الثاء ، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنون» بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة ، وقرأ أيضا هما ومجاهد فيما روي عنه «تثنان» بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة ، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع : وأصل «تثنون» تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها ، وأما «تثنان» فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا : اثنانت كما قالوا احمار وابياض ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على الله تعالى ، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (يَسْتَغْشُونَ) معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء : [البسيط]

أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها

وتارة أتغشّى فضل أطماري

وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» ومن هذا الاستعمال قول النابغة : [الطويل]

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

وذات (الصُّدُورِ) : ما فيها ، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدها كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى.

وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ ...) الآية ، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ). و «الدابة» ما دب من الحيوان ، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب ، وقد قال الأعشى : [الطويل]

نياف كغصن البان ترتج إن مشت

دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة : فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر ، وتخصيصه بقول (فِي الْأَرْضِ) إنما هو لأنه الأقرب لحسهم : والطائر والعائم إنما هو في الأرض ، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما.

وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافا للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.

وقوله تعالى : (عَلَى اللهِ) إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلا. و «المستقر» : صلب الأب : و «المستودع» بطن الأم ، وقيل «المستقر» : المأوى ، و «المستودع» القبر ، وهما على هذا الطرفان ، وقيل «المستقر» ، ما حصل موجودا من الحيوان ، والمستودع ما يوجد بعد.


قال القاضي أبو محمد : و «المستقر» على هذا ـ مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى. وقوله : (فِي كِتابٍ) إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال بعض الناس : هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ(٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨)

قال أكثر أهل التفسير : «الأيام» هي من أيام الدنيا ، وقالت فرقة : هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار ، والأول أرجح.

وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام ، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق ، فروى أبو هريرة ـ فيما أسند الطبري ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيده وقال : خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء ، والنور يوم الأربعاء ، وبث الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة ، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم ، وفي الدلائل لثابت : وكان خلق آدم في يوم الجمعة ، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه ، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله ، وروي عن كعب الأحبار أنه قال : بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد ، وفرغ يوم الجمعة ، وخلق آدم في آخر ساعة منه. ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد ، وقال قوم : خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة. نهجا إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان العرش على الماء ، وكان الماء على الريح.

وقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق ب (خَلَقَ) والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس : هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا القائل : أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر.

وقرأ عيسى الثقفي : «ولئن قلت» بضم التاء ، وقرأ الجمهور «قلت» بفتح التاء.

ومعنى الآية : أن الله عزوجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم : إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا : هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض ، فهم من


جملة المقرين بهذا ، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.

واللام في (لَئِنْ) مؤذنة بأن اللام في (لَيَقُولَنَ) لام قسم لا جواب شرط.

وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر» وقرأت فرقة «ساحر» وقد تقدم.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الآية ، المعنى : ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب؟ على جهة التكذيب. و «الأمة» في هذه الآية : المدة كما قال (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥]. قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس ونحدث فيها أخرى ، فهي على هذه المدة الطويلة.

ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده شيء ولا يصرفه. و (حاقَ) معناه : حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه و (يَوْمَ) منتصب بقوله : (مَصْرُوفاً).

قوله عزوجل :

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١)

(أَذَقْنَا) هاهنا مستعارة ، لأن «الرحمة» هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. و (الْإِنْسانَ) هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.

ويؤس و (كَفُورٌ) بناءان للمبالغة ، و (كَفُورٌ) هاهنا من كفر النعمة ، والمعنى أنه ييأس ويحرج ويتسخط ، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك ، ولم يكفرها لم يكن ذلك ، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضا بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.

وقال بعض الناس في هذه الآية : (الْإِنْسانَ) إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة (كَفُورٌ) ، وهذا عندي مردود ، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.

و «النعماء» تشمل الصحة والمال ونحو ذلك و «الضراء» من الضر وهو أيضا شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.

ولفظة (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) تقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله ، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة ، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل ، لم يقع ذلك.

و (السَّيِّئاتُ) هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.


وقرأت فرقة «لفرح» بكسر الراء ، وقرأت فرقة «لفرح» بضمها ، وهذا الفرح مطلق ، ولذلك ذم ، إذ الفرح انهمال النفس : ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) الآية ، هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس : ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا : إن الاستثناء منقطع ، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد ، وكذلك قاله من النحاة قوم.

واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله : وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. و «الصبر» و «العمل الصالح» لا ينفع إلا مع هداية وإيمان ، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضا عليها وحضا ، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.

قوله عزوجل :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٣)

سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها ، وليس المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.

و «لعلك» هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير ، و (ما يُوحى إِلَيْكَ) هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره ؛ ويحتمل أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب (ضائِقٌ) دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع (تارِكٌ) ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا لأنه وصف لازم ، و (ضائِقٌ) وصف عارض فهو الذي يصلح هنا ، والضمير في (بِهِ) عائد على «البعض» ، ويحتمل أن يعود على «ها» و (أَنْ) في موضع نصب على تقدير كراهة أن و «الكنز» هاهنا : المال : وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان : والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار ، كالناقة لثمود.


ثم أنسه تعالى بقوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك ، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.

وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ ...) الآية ، هذه (أَمْ) التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام ، كأنه أضرب عن الكلام الأول ، واستفهم في الثاني على معنى التقرير ، كقولهم : إنها لإبل أم شاء ، و «الافتراء» أخص من الكذب ، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر ، وجاء بأمر عظيم منكر ، ووقع التحدي في هذه الآية (بِعَشْرِ) لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣ ، يونس : ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة ، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة ؛ وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه : ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة ؛ وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم (افْتَراهُ) فكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا ؛ والتكليفان سواء ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم : (افْتَراهُ) ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.

قال القاضي أبو محمد : وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين : في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة.

و (مَنِ) في قوله : (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يريد في أن القرآن مفترى.

قوله عزوجل :

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٦)

لهذه الآية تأويلان :

أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكفار ؛ أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها ، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ويأتي قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) متمكنا.


والثاني : أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين : أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله ، وهذا على معنى دوموا على علمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك. قال مجاهد : قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هو لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (بِعِلْمِ اللهِ) يحتمل معنيين :

أحدهما : بإذنه وعلى علم منه.

والثاني : أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب ، فكأنه أراد المعلومات له وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) تقرير.

وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ...) الآية ، قالت فرقة : ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة : هذا قول قتادة والضحاك ، وقال مجاهد : هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين : وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء ، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث ، بكى معاوية وقال : صدق الله ورسوله : وتلا : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الآية ، إلى قوله : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله (يُرِيدُ) يقصد ويعتمد ، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى : من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله ـ في الدنيا ـ بالنعم والحواس وغير ذلك : فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.

قال القاضي أبو محمد : فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات ـ بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن ـ فإنما قصد بهذه الآية (أُولئِكَ).

وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى (يُرِيدُ) عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد ، وإن كان له مقصدا آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا ، ثم يأتي قوله : (لَيْسَ لَهُمْ) بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار ، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته ، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.

وقال أنس بن مالك : هي في أهل الكتاب.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية ، لا أنها ليست في غيرهم.

وقرأ جمهور الناس : «نوف» بنون العظمة ؛ وقرأ طلحة وميمون بن مهران «يوف» بياء الغائب.

و (يُبْخَسُونَ) معناه : يعطون أقل من ثوابهم ، و (حَبِطَ) معناه : يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقتل حبطا أو يلم» ، وهي مستعملة في فساد الأعمال ، والضمير في قوله : (فِيها) عائد


على الدنيا في الأولين ؛ وفي الثالثة عائد على الآخرة ، ويحتمل أن يعود في الثلاثة على الدنيا ؛ ويحتمل أن تعود الثانية على الأعمال.

وقرأ جمهور الناس : «وباطل» بالرفع على الابتداء والخبر ، وقرأ أبيّ وابن مسعود : «وباطلا» بالنصب ؛ قال أبو حاتم : ثبتت في أربعة مصاحف ، والعامل فيه (يَعْمَلُونَ) و (ما) زائدة ، التقدير : وباطلا كانوا يعملون. والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق.

قوله عزوجل :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١٧)

اختلف المتأولون في المراد بقوله : (أَفَمَنْ) فقالت فرقة : المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت فرقة المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس : المراد بذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون جميعا.

وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة» فقالت فرقة : المراد بذلك القران ، أي على جلية بسبب القرآن ، وقالت فرقة : المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهاء في «البيّنة» للمبالغة كهاء علامة ونسابة.

وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد» فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة : هو جبريل.

وقال الحسين بن علي : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مجاهد أيضا : هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل.

وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هو لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت فرقة : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي ذلك عنه ، وقالت فرقة : هو الإنجيل ، وقالت فرقة : هو القرآن ، وقالت فرقة : هو إعجاز القرآن.

قال القاضي أبو محمد : ويتصرف قوله (يَتْلُوهُ) على معنيين : بمعنى يقرأ ، وبمعنى يتبعه ، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد» ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل.

فإذا قلنا إن قوله : (أَفَمَنْ) يراد به المؤمنون ، فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صح أن يترتب «الشاهد» الإنجيل ويكون (يَتْلُوهُ) بمعنى يقرأه ، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يترتب جبريل عليه‌السلام ويكون (يَتْلُوهُ) بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة


فيه ، وأن يترتب الملك ويكون الضمير في (مِنْهُ) عائدا على البيّنة التي قدرناها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يترتب القرآن ويكون (يَتْلُوهُ) بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في (مِنْهُ) على الرب.

وإن جعلنا «البيّنة» القرآن على أن (أَفَمَنْ) هم المؤمنون ـ صح أن يترتب «الشاهد» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك. ويكون (يَتْلُوهُ) بمعنى يقرأه : وصح أن يترتب «الشاهد» الإعجاز ، ويكون (يَتْلُوهُ) بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير فى (مِنْهُ) على القرآن.

وإذا جعلنا (أَفَمَنْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت «البيّنة» القرآن ، وترتب «الشاهد» لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترتب الإنجيل ، وترتب جبريل والملك ، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وترتب الإعجاز. ويتأول (يَتْلُوهُ) بحسب «الشاهد» كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله (أُولئِكَ) فإنا إذا جعلنا قوله : (أَفَمَنْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] وهو شبه ليس بالقوي.

والأصح في الآية أن يكون قوله : (أَفَمَنْ) للمؤمنين ، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد» بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلا في قوله : (أَفَمَنْ). وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله.

وقرأ جمهور الناس «كتاب» بالرفع ؛ وقرأ الكلبي وغيره «كتابا» بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد» الإنجيل معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بحسب الخلاف ـ و «الإنجيل» و «من قبل» كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد» القرآن ، وتطرد الألفاظ بعد ذلك ، ومن نصب «كتابا» قدر «الشاهد» جبريل عليه‌السلام ، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى.

قال القاضي أبو محمد : وهنا اعتراض يقال : إذ قال (مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أو «كتاب» بالنصب على القراءتين. والضمير في (قَبْلِهِ) عائد على القرآن ـ فلم لم يذكر الإنجيل ـ وهو قبله ـ بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال : أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله ، والإنجيل ليس كذلك : فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى : وهذا يجري مع قول الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [الأحقاف : ٣٠] ومع قول النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به موسى ، لخرج من مشكاة واحدة ؛ فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة ، ونصب (إِماماً) على الحال من (كِتابُ مُوسى) ، و (الْأَحْزابِ) هاهنا يراد به جميع الأمم ، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» فقلت : أين مصداق هذا من كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية ، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله.


قال القاضي أبو محمد : والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون (أَفَمَنْ) للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم ، إذ قد تقدم ذكر (الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) [هود : ١٦] ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم ، و «البيّنة» القرآن وما تضمن. و «الشاهد» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله : (أَفَمَنْ) أو الإنجيل والضمير في (يَتْلُوهُ) للبيّنة ، وفي (مِنْهُ) للرب تعالى ، والضمير في (قَبْلِهِ) للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفا محتمل.

وقرأ الجمهور «في مرية» بكسر الميم ، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مرية» بضم الميم ، وهما لغتان في الشك ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على كون الكفرة موعدهم النار ، وسائر الآية بيّن.

وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه ، ونحو هذا ، في معنى الحذف ، قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١] ، لكان هذا القرآن ، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

فأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

التقدير لرددناه ولم نصغ إليه.

قوله عزوجل :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)(٢٠)

قوله : (وَمَنْ) استفهام بمعنى التقرير ، وكأنه قال : لا أحد أظلم ممن افترى كذبا ، والمراد ب (مَنْ) الكفرة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويفترون في غير ما شيء ، وقوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) عبارة عن الإشادة بهم والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة.

وقوله : (يَقُولُ الْأَشْهادُ) قالت فرقة : يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة ، فيجيء قوله : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) إخبارا عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة : (الْأَشْهادُ) بمعنى الشاهدين ، ويريد جميع الخلائق ، وفي ذلك إشادة بهم ، وروي في نحو هذا حديث : «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» فيجيء قوله : (هؤُلاءِ) ـ على هذا التأويل ـ استفهاما عنهم وتثبتا فيهم كما تقول إذا رأيت مجرما قد عوقب : هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك ، ويحتمل الإخبار عنهم.


وقوله : (أَلا) استفتاح كلام ، و «اللعنة» الإبعاد ، و (الَّذِينَ) نعت ل (الظَّالِمِينَ) ؛ ويحتمل الرفع على تقدير هم الذين ، و (يَصُدُّونَ) يحتمل أن يقدر متعديا على معنى : يصدون الناس ويمنعونهم من سبيل الله ، ويحتمل أن يقدر غير متعد على معنى يصدون هم ، أن يعرضون. و (سَبِيلِ اللهِ) شريعته ، و (يَبْغُونَها) معناه يطلبون لها كما تقول بغيتك خيرا أو شرا أي طلبت لك ، و (عِوَجاً) على هذا مفعول : ويحتمل أن يكون المعنى : ويبغون السبيل على عوج ، أي فهم لا يهتدون أبدا ف (عِوَجاً) على هذا مصدر في موضع الحال ، والعوج الانحراف والميل المؤدي إلى الفساد ، وكرر قوله : (هُمْ) على جهة التأكيد ، وهي جملة في موضع خبر الابتداء الأول : وليس هذا موضع الفصل لأن الفصل إنما يكون بين معرفتين ، أو معرفة وفكرة تقارب المعرفة ، لأنها تفصل ما بين أن يكون ما بعدها صفة أو خبرا وتخلصه للخبر. و (مُعْجِزِينَ) معناه : مفلتين لا يقدر عليهم. وخص ذكر (الْأَرْضِ) لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه لا يستطيع النفوذ منها. وقوله : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يحتمل معنيين :

أحدهما : أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائنا من كان.

والثاني : أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة ، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء.

ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان. و (يُضاعَفُ) فعل مستأنف وليس بصفة.

وقوله : و (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) يحتمل خمسة أوجه :

أحدها : أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ولا يبصرون كذلك.

والثاني : أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشد الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف ، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم.

والثالث : أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها ـ على التأويل المقدم ـ أن تكون أولياء.

و (ما) في هذه الوجوه نافية.

والرابع : أن يكون التقدير : يضاعف لهم العذاب بما كانوا : بحذف الجار ، وتكون (ما) مصدرية ، وهذا قول فيه تحامل. قاله الفراء ، وقرنه بقوله : أجازيك ما صنعت بي.

والخامس : أن تكون (ما) ظرفية ، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر ، وقد أعلمت


الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبدا فالعذاب ـ إذن ـ متماد أبدا.

وقدم (السَّمْعَ) في هذه الآية على «البصر» لأن حاسته أشرف من حاسة البصر ، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء ، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك.

قوله عزوجل :

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بوجوب العذاب عليهم ، ولا خسران أعظم من خسران النفس ، و (ضَلَ) معناه : تلف ولم يجدوه حيث أملوه. و (لا جَرَمَ) لفظة مركبة من : (لا) ، ومن : (جَرَمَ) بنيتا. ومعنى (لا جَرَمَ) : حق. هذا مذهب سيبويه والخليل. وقال بعض النحويين : معناها : لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج : (لا) رد عليهم ، ولما تقدم من كل ما قبلها ، و (جَرَمَ) معناه : كسب ، أي كسب فعلهم (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ). فموضع «أن» على مذهب سيبويه رفع : وموضعها على مذهب الزجاج ـ نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.

قال القاضي أبو محمد : فكأن (جَرَمَ) على هذا من معنى القطع ، تقول : جرمت أي قطعت : وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر : [الطويل]

جريمتنا هض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

وجريمة القوم كاسبهم.

وأما قول الشاعر جرير :

ولقد طعنت أبا أميمة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فيحتمل الوجهين : ويختلف معنى البيت.

وفي (لا جَرَمَ) لغات : يقول بعض العرب : لا ذا جرم ، وبعضهم : لا أن ذا جرم ، وبعضهم : لا عن ذا جرم ، وبعضهم : لا جر ، حذفوا الميم لكثرة استعماله.

و (أَخْبَتُوا) قيل معناه : خشعوا ، قاله قتادة ، وقيل : أنابوا ، قاله ابن عباس ، وقيل : اطمأنوا ، قاله مجاهد ، وقيل : خافوا ، قاله ابن عباس أيضا ، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض ، وأصل اللفظ من الخبت ، وهو البراح القفر المستوي من الأرض ؛ فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة ، فشبه المتذلل الخاشع بذلك ، وقيل : إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته.


وقوله (إِلى رَبِّهِمْ) قيل : هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم. وقيل : المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم ، و «الفريقان» الكافرون والمؤمنون : شبه الكافر بالأعمى (وَالْأَصَمِ) ، وشبه المؤمن ب (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) فهو على هذا تمثيل بمثالين. وقال بعض المتأولين : التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول : جاءني زيد العاقل والكريم ، وأنت تريده بعينه ؛ فهو على هذا تمثيل بمثال واحد.

و (مَثَلاً) نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالا.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧)

هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببدع من الرسل. وروي أن نوحا عليه‌السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل ، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء ، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «إني» بكسر الألف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول ، والمعنى : قال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، ثم يجيء قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا) محمولا ل (أَرْسَلْنا) ، أي أرسلنا نوحا بأن لا تعبدوا إلا الله ، واعترض أثناء الكلام بقوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، وفتح الألف على إعمال (أَرْسَلْنا) في «أن» أي بأني لكم نذير. قال أبو علي : وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام : أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.

و «النذير» المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها و (مُبِينٌ) من أبان يبين.

وقوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها ، وذلك بين في غير هذه الآية.

و (أَلِيمٍ) معناه مؤلم ، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزا إذ العذاب في اليوم ، فهو كقولهم : نهار صائم وليل قائم.


و (الْمَلَأُ) الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونحوه ، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور ، وكل جماعة كبيرة ملأ.

ولما قال لهم نوح : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ...) قالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ...) أي والله لا يبعث رسولا من البشر ، فأحالوا الجائز على الله تعالى.

و «الأراذل» جمع أرذل ، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم على هذا أن يقال : أراذيل ؛ وإذا ثبتت الياء في جمع صيرف فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها. وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له ، ولا يبالى ما يقول ولا ما يقال له.

وقرأ الجمهور «بادي الرأي» بياء دون همز ، من بدا يبدو ، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلا ، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي» بالهمز من بدأ يبدأ.

قال القاضي أبو محمد : وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر ، فتركت التطويل ببسطه ، والعرب تقول : أما بادىء بدء فإني أحمد الله ، وأما بادي بدي بغير همز فيهما ، وقال الراجز : [الرجز]

أضحى لخالي شبهي بادي بدي

وصار للفحل لساني ويدي

وقال الآخر : وقد علتني ذرأة بادي بدي.

وقرأ الجمهور بهمز «الرأي» وقرأ أبو عمرو بترك همزه. (بادِيَ) نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفا كما يصح في قريب ونحوه ، وفعيل وفاعل متعاقبان أبدا على معنى واحد ، وفي المصدر كقولك : جهد نفسي أحب كذا وكذا.

وتعلق قوله : (بادِيَ الرَّأْيِ) يحتمل ستة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب (نَراكَ) بأول نظر وأقل فكرة ، وذلك هو (بادِيَ الرَّأْيِ) ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.

والثاني : أن يتعلق بقوله : (اتَّبَعَكَ) أي ، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ؛ ثم يحتمل على هذا قوله : (بادِيَ الرَّأْيِ) معنيين :

أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.

والثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك. وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.

والوجه الثالث : من تعلق قوله (بادِيَ الرَّأْيِ) أن يتعلق بقوله : (أَراذِلُنا) أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم ، ويبادي الرأي يعلم ذلك منهم ، ويحتمل أن يكون قولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) وصفا منهم لنوح ، أي تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك ، ونصبه على الحال وعلى الصفة ، ويحتمل أن يكون


اعتراضا في الكلام مخاطبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجيء جميع هذا ستة معان ، ويجوز التعلق في هذا الوجه «بقال».

ومعنى (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال: (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) فيحتمل أنهم خاطبوا نوحا ومن آمن معه من قومه ، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب ، وقولكم إنه نبي مرسل.

قوله عزوجل :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٣٠)

هذه الآية كأنه قال : أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه ، واستفهامه في هذه الآية أولا وثانيا على جهة التقرير. وعبارة نوح عليه‌السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه ، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية ، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا ، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه.

وقوله (عَلى بَيِّنَةٍ) أي على أمر بيّن جلي ، والهاء في (بَيِّنَةٍ) للمبالغة كعلامة ونسابة ، و «إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة ، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع ، وقوله (مِنْ عِنْدِهِ) تأكيد ، كما قال : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة.

وقرأ جمهور الناس «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى :

أحد هما : خفيت ، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له : الغمام لأنه يغمه ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء».

والمعنى الثاني : أن تكون الإرادة : فعميتم أنتم عنها ، لكنه قلب ، كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ترى النور فيها مدخل الظل رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال أبو علي : وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم : ٤٧] وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعمّيت» بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء ؛ ويحتمل القلب المذكور.


وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم». قال أبو حاتم : روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت» بالواو خفيفة.

وقوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها) يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : معناه أن وجبها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ.

وفي قراءة أبي بن كعب : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا» ، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا».

وقوله (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ...) الآية ؛ الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على التبليغ.

وقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطرد تباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش.

وقوله : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى ، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه.

وقوله (يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ ...) الآية ؛ هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف ، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه ، ثم وقفهم بقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج.

قوله عزوجل :

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٣٢)

قوله : (وَلا أَقُولُ) عطف على قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) [هود : ٢٩] ، ومعنى هذه الآية : أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له ، فلست أقول (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه ، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء ، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له ، فإن سمي ذلك ـ على جهة التجوز ـ مختزنا فيشبه. ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم ، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض. وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو ، وقال ابن عباس وغيره : عتت على الخزان. فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن. ثم قال : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ، ثم انحط على هاتين فقال (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مسألة اختلاف. وظواهر القرآن على ما قلناه.

قال القاضي أبو محمد : وإن أخذنا قوله (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) على حد أن لو قال : ولا أقول إني


كوكب أو نحوه ـ زالت طريقة التفضيل ، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا.

و (تَزْدَرِي) أصله تزتري (تفتعل) من زرى يزري ؛ ومعنى (تَزْدَرِي) : تحتقر. و «الخير» هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة ، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر ، فيكون الخير المال ؛ وقد قال بعض المفسرين : حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام تحامل ، والذي يشبه أن يقال : إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه.

وقوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) تسليم لله تعالى ، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود ، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك ، وقال بعض المتأولين : هي رد على قولهم : اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم.

قال القاضي أبو محمد : حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفا ، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم ، الله عزوجل أعلم بما في نفوسهم ، ثم قال : (إِنِّي إِذاً) لو فعلت ذلك (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الذين يضعون الشيء في غير موضعه.

وقوله : (يا نُوحُ ...) ، الآية معناه : قد طال منك هذا الجدال ، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة ، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه : حبل مجدول ، أي ممرّ ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه ؛ و «الجدال» فعال ، مصدر فاعل ، وهو يقع من اثنين ، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة ، فتركت الياء من فيعال ورفضت. ومن الجدال ما هو محمود ، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي ، ومن ذلك هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] إلى غير ذلك من الأمثلة. ومن الجدال ما هو مكروه ، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وكرهه العلماء ، والله المستعان.

وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جدلنا» بغير ألف ، وبفتح الجيم ، ذكره أبو حاتم.

والمراد بقولهم ما (تَعِدُنا) العذاب والهلاك ، والمفعول الثاني ل (تَعِدُنا) مضمر تقديره بما تعدناه. ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد.

قوله عزوجل :

(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥)

المعنى : ليس ذلك بيدي ولا إلىّ توفيته ، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء ، ولستم من


المنعة بحال من يفلت أو يعتصم بمنج ، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك ، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين. وأن إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو ب (نُصْحِي) ، وتعلق الآخر هو ب «لا ينفع». والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه ، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه ، والمنصح الإبرة ، والمخيط يقال له منصح ونصاح : وقالت فرقة معنى قوله (يُغْوِيَكُمْ) : يضلكم ، من قولهم غوى الرجل يغوى ، ومنه قول الشاعر [المرقش] : [الطويل]

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وإذا كان هذا معنى اللفظة ، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد. وقالت فرقة معنى قوله : (يُغْوِيَكُمْ) : يهلككم ، والغوى المرض والهلاك ؛ وفي لغة طيّىء : أصبح فلان غاويا ، أي مريضا ، والغوى بشم الفصيل ، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعا ، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى ، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد ، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة ، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] ونحوها.

قال القاضي أبو محمد : ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقا وحجة بالغة بهذا التأويل ، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب.

وقوله : (هُوَ رَبُّكُمْ) ، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إخبار في ضمنه وعيد وتخويف ، وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) الآية ، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير : إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : افتري القرآن وافتري هذه القصة على نوح ، فنزلت الآية في ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده ، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه‌السلام ، ويبقى اتساق الآية مطردا ، ويكون الضمير في قوله (افْتَراهُ) عائدا إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره ، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى : أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك ؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا.

و (أَمْ) هي التي بمعنى بل يقولون ، و «الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى ، يقال : جرم وأجرم بمعنى ، ومن ذلك قول الشاعر :

طريد عشيرة ووهين ذنب

بما جرمت يدي وجنى لساني

قوله عزوجل :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)


وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٣٧)

قرأ أبو البرهسم : «وأوحى» بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عزوجل ، «إنه» بكسر الهمزة ، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به ، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول : يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا ؛ رواه عبيد بن عمير وغيره ، وهذه الآية هي التي أيأست نوحا عليه‌السلام من قومه ، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

و (تَبْتَئِسْ) من البؤس تفتعل ، ومعناه : لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر ـ وهو لبيد بن ربيعة ـ : [مجزوء الكامل]

في مأتم كنعاج حا

رة تبتئس بما لقينا

حارة : موضع.

قال القاضي أبو محمد : وفي أمر نوح عليه‌السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه ، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه‌السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم ، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها ، قاله ابن عباس وغيره ، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان ، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض ، ما كان ذلك ، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت ، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس ، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي». فلا بد أن نقرر كثيرا من الأمم كان في ذلك الوقت ، وإذا كان ذلك ، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلا قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم ، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحا هو أول الرسل إلى أهل الأرض ؛ ولا يمكن أيضا أن نقول : عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].

والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول : إن نوحا عليه‌السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس ـ بحسب ما ثبت في الحديث ـ ثم نقول : إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه ، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم ، فتصح الخاصة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نقول : إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان ، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر ، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم ، وكان الشرع ـ ببعث نوح ـ موجودا مستقرا.

فقد وجب عليهم النظر ، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه : فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، أي


حتى نوجده ، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة ، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله ، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد ، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوحصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات ، والله الموفق للصواب.

وقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) عطف على قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) و (الْفُلْكَ) : السفينة ، وجمعها أيضا فلك ، وليس هو لفظا للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد ، جاز أن يجمع فعل على فعل ، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به ، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول : فلك وفلكان وفلك ، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصور» ، تريد «يا منصور» ، فرخمت على لغة من يقول : يا حار بالضم ، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل ، وليست بها في الحكم.

وقوله : (بِأَعْيُنِنا) يمكن ـ فيما يتأول ـ أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك ، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى : (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٣] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله : (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] ، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات ، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله (بِأَعْيُنِنا) أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون الجمع على هذا للتكثير.

وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغما.

وقوله (وَوَحْيِنا) معناه : وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي ، وروي في ذلك أن نوحا عليه‌السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه : أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير ، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها ، فقد روي أيضا أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري ، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر : لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكا بل كانت وعاء فقط ، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر ، وفي الحديث : كان راز سفينة نوح عليه‌السلام جبريل عليه‌السلام والراز : القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله (وَوَحْيِنا) أي بأمرنا لك ، فذلك ضعيف لأن قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) مغن عن ذلك. و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة ، قال ابن جريج : وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.

قوله عزوجل :

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ


كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)(٤٠)

التقدير : فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال ، إذ في خلالها وقع مرورهم ، قال ابن عباس : صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص. وروي أن عودها من الساج وأن نوحا عليه‌السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة ؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان ، وعرضها ستمائة ذراع ، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، ذكره قتادة ، وروي غير هذا مما لم يثبت ، فاختصرت ذكره ، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للبهائم ، وطبقة للطير ، إلى غير ذلك في حديث طويل.

و «الملأ» هنا الجماعة ، و (سَخِرُوا) معناه استجهلوه ، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت ـ فوجه الاستجهال واضح. وبذلك تظاهرت التفاسير ؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجارا بعد النبوة؟!!.

وقوله (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) قال الطبري : يريد في الآخرة.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام ، بل هو الأرجح ، أن يريد : إنا نسخر منكم الآن ، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه ، ثم جاء قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديدا ، والسخر : الاستجهال مع استهزاء ، ومصدره : سخرى بضم السين ، والمصدر من السخرة والتسخير سخرى بكسرها.

و «العذاب المخزي» هو الغرق ، و «المقيم» هو عذاب الآخرة ، وحكى الزهراوي أنه يقرأ «ويحل» بضم الحاء ، ويقرأ «ويحل» بكسرها ، بمعنى ويجب. و (مَنْ) في موضع نصب ب (تَعْلَمُونَ). وجاز أن يكون (تَعْلَمُونَ) بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد ، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) الآية ، الأمر هاهنا يحتمل أن بكون واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون مصدر أمر ، فمعناه أمرنا للماء بالفوران ، أو للسحاب بالإرسال ، أو للملائكة بالتصرف في ذلك ، ونحو هذا مما يقدر في النازلة و (فارَ) معناه انبعث بقوة ؛ واختلف الناس في (التَّنُّورُ) ، فقالت فرقة ـ وهي الأكثر ـ منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هو تنور الخبز الذي يوقد فيه ، وقالت فرقة : كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح ، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة ؛ ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فورانا ، وأحرى بذلك. وروي أنه كان تنور آدم عليه‌السلام خلص إلى نوح فكان يوقد


فيه ، وقال النقاش : اسم المستوقد التنور بكل لغة ؛ وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، وقيل : إن موضع تنور نوح عليه‌السلام كان بالهند ، وقيل : كان في موضع مسجد الكوفة ، وقيل كان في ناحية الكوفة ، قاله الشعبي ومجاهد ، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة ، وقال ابن عباس وعكرمة : التنور وجه الأرض ، ويقال له : تنور الأرض ، وقال قتادة : (التَّنُّورُ) : أعالي الأرض ، وقالت فرقة : (التَّنُّورُ) : عين بناحية الجزيرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : (التَّنُّورُ) مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس ، وقالت فرقة : (التَّنُّورُ) هو الفجر ، المعنى : إذا طلع الفجر فاركب في السفينة ، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إلا أن التصريف يضعفه ، وكان يلزم أن يكون التنور ، وقالت فرقة : الكلام مجاز وإنما أراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة الحرب : «حمي الوطيس» والوطيس أيضا مستوقد النار ، فلا فرق بين حمي و (فارَ) إذ يستعملان في النار ، قال الله تعالى : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) [الملك : ٧] ، فلا فرق بين الوطيس والتنور.

وقرأ حفص عن عاصم «من كلّ زوجين اثنين» بتنوين (كُلٍ) وقرأ الباقون «من كلّ زوجين» بإضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ). فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير : من كل حيوان أو نحوه ، وأعمل «الحمل» في (زَوْجَيْنِ) ، وجاء قوله : (اثْنَيْنِ) تأكيدا ـ كما قال : (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١]. ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل» في قوله (اثْنَيْنِ) ، وجاء قوله (زَوْجَيْنِ) بمعنى العموم ، أي من كل ما له ازدواج ، هذا معنى قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) قاله أبو علي وغيره ، ولو قدرنا المعنى : احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة ، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج ، فيقال : هذا زوج هذا ، وهما زوجان : وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الأنعام : ١٤٣ ، الزمر : ٦] ثم فسرها ، وكذلك هو في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة : وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج ، ومن ذلك قول لبيد : [الكامل]

من كل محفوف يظل عصيه

زوج عليه كلة وقرامها

وهكذا يأخذ العدديون : الزوج أيضا في كلام العرب النوع كقوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧] وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : ٣٦] إلى غير ذلك.

وروي في قصص هذه الآية أن نوحا عليه‌السلام كان يأتيه الحيوان ، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما ادخل في السفينة الذر ، وآخر ما أدخل الحمار ، فتمسك الشيطان بذنبه ، فزجره نوح عليه‌السلام فلم ينبعث فقال له : ادخل ولو كان معك الشيطان ، قال ابن عباس : زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ ، وكان في كوثل السفينة ، أي عند مؤخرها ، وقيل كان على ظهرها. وروي أن نوحا عليه‌السلام آذاه نتن الزبل والعذرة ، فأوحى الله إليه : أن امسح على ذنب الفيل ، ففعل ، فخرج من الفيل ـ وقيل من أنفه ـ خنزير وخنزيرة ، فكفيا نوحا وأهله ذلك الأذى ؛ وهذا يجيء منه أن نوع


الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك ، فأمر الله نوحا أن يمسح على جبهة الأسد ففعل ، فعطس فخرج منه هر وهرة ، فكفياهم الفأر ، وروي أيضا أن الفأر خرج من أنف الخنزير.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم كيف كان.

وقوله : (وَأَهْلَكَ) عطف على ما عمل فيه (احْمِلْ) و «الأهل» هنا القرابة ، وبشرط من آمن منهم ، خصصوا تشريفا ؛ ثم ذكر (مَنْ آمَنَ) وليس من الأهل واختلف في الذي (سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) فقيل : هو ابنه يام ، وقال النقاش : اسمه كنعان ؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة ؛ وقيل : هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. و (الْقَوْلُ) هاهنا معناه : القول بأنه يعذب ، وقوله : (وَمَنْ آمَنَ) عطف على قوله : (وَأَهْلَكَ) ثم قال إخبارا عن حالهم (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) واختلف في ذلك «القليل» فقيل : كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين : وقيل كانوا ثمانين في الكل ، قاله السدي : وقيل : عشرة ؛ وقيل : ثمانية ، قاله قتادة وقيل : سبعة ؛ والله أعلم. وقيل : كان في السفينة جرهم ، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق ، وكان في السفينة مع نوح عليه‌السلام ثلاثة من بنيه : سام ، وحام ، ويافث ، وغرق يام. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : سام أبو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبو الحبش.

قوله عزوجل :

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢)

المعنى (وَقالَ) نوح ـ حين أمر بالحمل في السفينة ـ لمن آمن معه : (ارْكَبُوا فِيها) ؛ فأنث الضمير ، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر.

وفي مصحف أبيّ «على اسم الله». وقوله : (بِسْمِ اللهِ) يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله : (ارْكَبُوا) كما تقول : خرج زيد بثيابه وبسلاحه ، أي اركبوا متبركين بالله تعالى ، ويكون قوله : (مَجْراها وَمُرْساها) ظرفين ، أي وقت إجرائها وإرسائها. كما تقول العرب : الحمد لله سرارك وإهلالك وخفوق النجم ومقدم الحاج ، فهذه ظرفية زمان ، والعامل في هذا الظرف ما في (بِسْمِ اللهِ) من معنى الفعل ، ويصح أن يكون قوله : (بِسْمِ اللهِ) في موضع خبر و (مَجْراها وَمُرْساها) ابتداء مصدران كأنه قال : اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها ، وتكون هذه الجملة ـ على هذا ـ في موضع حال من الضمير في قوله (فِيها) ، ولا يصح أن يكون حالا من الضمير في قوله : (ارْكَبُوا) لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه : وعلى هذا التأويل قال الضحاك : إن نوحا كان إذا أراد جري السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ) ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال : (بِسْمِ اللهِ) فتقف.


وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ـ في رواية أبي بكر وابن عامر : «مجراها ومرساها» بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما ، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس ، ومن ذلك قول لبيد : [الكامل]

وعمرت حرسا قبل مجرا داحس

لو كان للنفس اللجوج خلود

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : «مجراها» بفتح الميم وكسر الراء ، وكلهم ضم الميم من «مرساها» وقرأ الأعمش وابن مسعود «مجراها ومرساها» بفتح الميمين ، وذلك من الجري والرسو ؛ وهذه ظرفية مكان ، ومن ذلك قول عنترة : [الكامل]

فصبرت نفسا عند ذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

واختار الطبري قراءة «مجراها» بفتح الميم الأولى وضم الثانية ، ورجحها بقوله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي) ، ولم يقرأ أحد ، «تجري» وهي قراءة ابن مسعود أيضا رواها عنه أبو وائل ومسروق. وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاري والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام : «مجريها ومرسيها» وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله (بِسْمِ اللهِ).

وقوله (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم.

وقوله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) الآية ، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطرفيه ، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع ، فهكذا كان التقاء الماء ، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعا وقيل خمسة عشرة ذراعا ؛ وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق : ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا؟.

وقرأت فرقة : «ابنه» على إضافة الابن إلى نوح ، وهذا قول من يقول : هو ابنه لصلبه ، وقد قال قوم : إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حنانا منه وتلطفا ، وقرأ ابن عباس «ابنه» بسكون الهاء ، وهذا على لغة لأزد السراة ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ومطواي مشتاقان له أرقان

وقرأ السدي «ابناه» قال أبو الفتح : ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية ، وقرأ عروة بن الزبير أيضا وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنه» على تقدير ابنها ، فحذف الألف تخفيفا وهي لغة ومنها قول الشاعر : [البسيط]

أما تقود به شاة فتأكلها

أو أن تبيعه في نقض الأزاكيب


وأنشد ابن الأعرابي على هذا :

فلست بمدرك ما فات مني

بلهف ولا بليت ولا لواني

يريد : بلهفا.

قال القاضي أبو محمد : وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال.

وقرأ وكيع بن الجراح : «ونادى نوح ابنه» بضم التنوين ، قال أبو حاتم : وهي لغة سوء لا تعرف.

وقوله : (فِي مَعْزِلٍ) أي في ناحية ، فيمكن أن يريد في معزل في الدين ، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة ، واللفظ يعمهما : وقال مكي في المشكل : ومن قال : «معزل» ـ بكسر الزاي ـ أراد الموضع ، ومن قال : «معزل» ـ بفتحها ـ أراد المصدر : فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه.

وقرأ السبعة «يا بنيّ» بكسر الياء المشددة ، وهي ثلاث ياءات : أولاها ياء التصغير ، وحقها السكون ؛ والثانية لام الفعل ، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور : والثالثة : ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء ، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب ، تقول : يا غلام ، ويا عبيد ، وتبقى الكسرة دالة ، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة ، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضا «يا بنيّ» بفتح الياء المشددة ، وذكر أبو حاتم : أن المفضل رواها عن عاصم ، ولذلك وجهان : أحدهما : أن يبدل من ياء الإضافة ألفا وهي لغة مشهورة تقول : يا غلاما ، ويا عينا ، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافا ولسكونها وسكون الراء من قوله (ارْكَبْ).

والوجه الثاني : أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات ، هذا مذهب سيبويه ، وعلى هذا حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وحواري الزبير». وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) [لقمان : ١٣] بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة ، وقرأ الثانية : (يا بُنَيَّ إِنَّها) [لقمان : ١٦] كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة : (يا بُنَيَّ أَقِمِ ...) [لقمان : ١٧] ساكنة كالأولى.

وقوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) يحتمل أن يكون نهيا محضا مع علمه أنه كافر ، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى ـ وهو مؤمن ـ مع الكفرة فيهلك بهلاكهم ، والأول أبين.

قوله عزوجل :

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٤)

ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة ، وقوله : (لا عاصِمَ) قيل فيه : إنه على لفظة فاعل ؛


وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) يريد إلا الله الراحم ، ف (مِنَ) كناية عن اسم الله تعالى ، المعنى : لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا ف (مِنَ) في موضع رفع ، وقيل : قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) استثناء منقطع كأنه قال : لا عاصم اليوم موجود ، لكن من رحم الله موجود ، وحسن هذا من جهة المعنى ، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم. فهو حاصل بالمعنى. وأما من جهة اللفظ ، ف (مِنَ) في موضع نصب على حد قول النابغة : إلا الأواري. ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر : [الرجز].

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر ، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه ، وقيل (عاصِمَ) معناه ذو اعتصام ، ف (عاصِمَ) على هذا في معنى معصوم ، ويجيء الاستثناء مستقيما ، و (مِنَ) في موضع رفع ، و (الْيَوْمَ) ظرف ، وهو متعلق بقوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، أو بالخير الذي تقديره : كائن اليوم ، ولا يصح تعلقه ب (عاصِمَ) لأنه كان يجيء منونا : لا عاصما اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحدا ، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحدا : (لا) وما عملت فيه ، ومثال النحويين في هذه المسألة : لا أمرا يوم الجمعة لك ، فإن أعلمت في يوم لك قلت : لا أمر.

و (بَيْنَهُمَا) يريد بين نوح وابنه ، فكان الابن ممن غرق ، وقوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الآية ، بناء الفعل للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت ، وكذلك بناء الأفعال بعد ذلك في سائر الآية ؛ وروي أن أعرابيا سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين ، و «البلع» هو تجرع الشيء وازدراده ، فشبه قبض الأرض للماء وتسربه فيها بذلك ، وأمرت بالتشبيه وأضاف الماء إليها إذ عليها وحاصل فيها ، و «السماء» في هذه الآية ، إما السماء المظلة ، وإما السحب ، و «الإقلاع» عن الشيء تركه ، والمعنى : أقلعي عن الإمطار ، و (غِيضَ) معناه نقص ، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى جفوف كقوله : (وَغِيضَ الْماءُ) ، وكقوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) [الرعد : ٨] وأكثر المفسرين على أن ذلك في الحيض ، وكذلك قول الأسود بن يعفر :

ما غيض من بصري ومن أجلادي

وذلك أن الإنسان الهرم إنما تنقصه بجفوف وقضافة وقوله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) إشارة إلى جميع القصة : بعث الماء وإهلاك الأمم وإنجاء أهل السفينة. وروي أن نوحا عليه‌السلام ركب في السفينة من عين وردة بالشام أول يوم من رجب ، وقيل : في العاشر منه ، وقيل : في الخامس عشر ، وقيل : في السابع عشر ، واستوت السفينة في ذي الحجة ، وأقامت على (الْجُودِيِ) شهرا ، وقيل له : اهبط في يوم عاشوراء فصامه وصامه من معه من ناس ووحوش : وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، وذكر أيضا حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجودي ، فصامه نوح ومن معه». وروي أن نوحا لما طال مقامه على الماء بعث الغراب ليأتيه بخبر كمال الغرق فوجد جيفة طافية فبقي عليها فلم يرجع بخبر ، فدعا عليه نوح فسود لونه وخوف من الناس ، فهو لذلك مستوحش ، ثم بعث نوح الحمام فجاءته بورق زيتونة في فمها ولم تجد ترابا تضع رجليها عليه ، فبقي أربعين يوما ثم بعثها فوجدت الماء قد


انحسر عن موضع الكعبة ، وهي أول بقعة انحسر الماء عنها ، فمست الطين برجليها وجاءته ، فعلم أن الماء قد أخذ في النضوب ، ودعا لها فطوقت وأنست. فهي لذلك تألف الناس ؛ ثم أوحى الله إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي ـ وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة ـ لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة بأمر الله عليه ، وبقيت عليه أعوادها ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة». وقال الزجاج : (الْجُودِيِ) هو بناحية آمد. وقال قوم : هو عند باقردى. وروي أن السفينة لما استقلت من عين وردة جرت حتى جاءت الكعبة فوجدتها قد نشزت من الأرض فلم ينلها غرق فطافت بها أسبوعا ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي.

قال القاضي أبو محمد : والقصص في هذه المعاني كثير صعب أن يستوفي ، فأشرت منه إلى نبذ ؛ ويدخله الاختلاف كما ترى في أمر الكعبة والله أعلم كيف كان. و (اسْتَوَتْ) معناه : تمكنت واستقرت.

وقرأ جمهور الناس : «على الجوديّ» بكسر الياء وشدها ، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة «على الجودي» بسكون الياء ، وهما لغتان. وقوله (وَقِيلَ : بُعْداً) يحتمل أن يكون من قول الله تعالى عطفا على (وَقِيلَ) الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين ، والأول أظهر وأبلغ.

قوله عزوجل :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٤٦)

هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب ، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة ؛ ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن ، وهو محتمل ، والأول أليق.

وهذه الآية احتجاج من نوح عليه‌السلام ، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل ، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل ، ثم حسن المخاطبة بقوله : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ، وبقوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) ، فإن هذه الأقوال معينة في حجته ، وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه‌السلام ظن أن ابنه مؤمن ، وذلك أشد الاحتمالين.

وقوله تعالى : (قالَ يا نُوحُ) الآية ، المعنى قال الله تعالى : يا نوح ، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك ، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه ، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح ، وحلف الحسن أنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه.

قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) [هود : ٤٢].


وقرأ الحسن ومن تأول تأويله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) على هذا المعنى ، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي : وقراءة جمهور الناس ، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن : المعنى : ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء. فمن قرأ من هذه الفرقة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) جعله وصفا له بالمصدر على جهة المبالغة ، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها : [البسيط]

ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح» وهي قراءة الكسائي ، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره أبو حاتم ، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب ، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك ، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها : «إنه عمل عملا غير صالح». وقالت فرقة : الضمير في قوله : «إنه عمل غير صالح» على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم». وقالت فرقة : الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح ، المعنى : أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح ، وقال أبو علي : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى ، وكل هذه الفرق قال : إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا : إنه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط».

قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث ليس بالمعروف ، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة. وقالوا في قوله عزوجل : (فَخانَتاهُما) إن الواحدة كانت تقول للناس : هو مجنون ؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف ، وأما غير هذا فلا ، وهذه منازع ابن عباس وحججه ؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس.

وقرأ ابن أبي مليكة : «فلا تسلني» بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز. وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن» ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنّي» ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن» وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنّ» بفتح النون المشددة ، وهي قراءة ابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلن» خفيفة النون ساكنة اللام ، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل ، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف. ومعنى قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك هو بحق واجب واجب عند الله.

قال القاضي أبو محمد : ولكن نوحا عليه‌السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض


لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عتابه ، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، وقد قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَكُونَنَ) [البقرة : ١٤٧ ، الأنعام : ٣٤ ـ ١١٤ ، يونس : ٩٤] ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته ، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة ، وإلا فمتقرر أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين. وقال قوم : إنما وقر نوح لسنه. وقال قوم : إنما حمل اللفظ على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، ويحتمل قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي ، وقال : إن (بِهِ) يجوز أن يتعلق بلفظة (عِلْمٌ) كما قال الشاعر : [الرجز]

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

ويجوز أن يكون (بِهِ) بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر.

قال القاضي أبو محمد : واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد ، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف ؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بشع ، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحا اعتقد هذا وعياذا بالله ، وغاية ما وقع لنوح عليه‌السلام أن رأى ترك ابنه معارضا للوعد فذكر به ، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى.

قوله عزوجل :

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)

هذه الآية فيها إنابة نوح وتسليمه لأمر الله تعالى واستغفاره بالسؤال الذي وقع النهي عليه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه ؛ وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا.

وظاهر قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] يعم النحويين من السؤال ، فلذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر ، و «الخاسرون» هم المغبونون حظوظهم من الخير ، وقوله تعالى : (قِيلَ


يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ) كان هذا عند نزوله من السفينة مع أصحابه للانتشار في الأرض ، و «السّلام» هنا السلامة والأمن ونحوه ، و «البركات» الخير والنمو في كل الجهات ، وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، قاله محمد بن كعب القرظي ؛ وقوله (مِمَّنْ مَعَكَ) أي من ذرية من معك ومن نسلهم ، فمن ـ على هذا ـ هي لابتداء الغاية ، أي من هؤلاء تكون هذه الأمم ، ومن موصولة ، وصلتها (مَعَكَ) وما بتقدر معها نحو قولك : ممن استقر معك ونحوه ثم قطع قوله : (وَأُمَمٌ) على وجه الابتداء إذ كان أمرهم مقطوعا من الأمر الأول ، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الآية إشارة إلى القصة ، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى ، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك ، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، وتكون لقومك مثالا وتحذيرا ، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ، أي فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة. وفي مصحف ابن مسعود : «من قبل هذا القرآن».

قوله عزوجل :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ(٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)(٥٢)

(وَإِلى عادٍ) عطف على قوله (إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥] في قصة نوح ، و (عادٍ) قبيلة وكانت عربا ـ فيما ذكر ـ و «هود» عليه‌السلام منهم ، وجعله (أَخاهُمْ) بحسب النسب والقرابة ؛ فإن فرضناه ليس منهم فالأخوة بحسب المنشأ واللسان والجيرة. وأما قول من قال هي أخوة بحسب النسب الآدمي فضعيف.

وقرأ جمهور الناس : «يا قوم» بكسر الميم ، وقرأ ابن محيصن : «يا قوم» برفع الميم ، وهي لغة حكاها سيبويه ، وقرأ جمهور الناس : «غيره» بالرفع على النعت أو البدل من موضع قوله : (مِنْ إِلهٍ). وقرأ الكسائي وحده بكسر الراء ، حملا على لفظ : (إِلهٍ) وذلك أيضا على النعت أو البدل ويجوز «غيره» نصبا على الاستثناء.

و (مُفْتَرُونَ) معناه كاذبون أفحش كذب في جعلكم الألوهية لغير الله تعالى ، والضمير في قوله: (عَلَيْهِ) عائد على الدعاء إلى الله تعالى ، والمعنى : ما أجري وجزائي إلا من عند الله ، ثم وصفه بقوله (الَّذِي فَطَرَنِي) فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل ، فجعل الوصف


بذلك في درج كلامه ، منبها على أفعال الله تعالى ، وأنه هو الذي يستحق العبادة ، و «فطر» معناه اخترع وأنشأ ، وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توقيف على مجال القول بأن غير الفاطر إلاه ، ويحتمل أن يريد : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ لم أطلب عرضا من أعراض الدنيا إني إنما أريد النفع لكم والدار الآخرة ؛ والأول أظهر ، و «الاستغفار» طلب المغفرة ، وقد يكون ذلك باللسان ، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة ، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار ، فكأنه قال لهم : اطلبوا غفران الله بالإنابة ، وطلب الدليل في نبوتي ، ثم توبوا بالإيمان من كفركم ، فيجيء الترتيب على هذا مستقيما وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون : (تُوبُوا) أمرا بالدوام ، و «الاستغفار» طلب المغفرة بالإيمان ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وقال أبو المعالي في الإرشاد : «التوبة» في اصطلاح المتكلمين هي الندم ، بعد أن قال : إنها في اللغة الرجوع ، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد.

قال القاضي أبو محمد : والذي أقول : إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه ، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها ؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره ، لأنه هو نفس رجوعه ، و «تاب» في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور ، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى» يقتضي أنها الرجوع لا الندم ، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا ، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه ، والله المستعان.

و (مِدْراراً) هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء ، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن (السَّماءَ) المطر نفسه ، وهو من در يدر ؛ ومفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي ، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي : وقول من قال : إنه ألزم للرباعي غير لازم.

ويروي أن عادا كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين ، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار ، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب ، فلهذا وعدهم بالمطر ، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض ، وقولهم: (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة ، وتلك عادة الله في عباده ، ومنه قول نوح عليه‌السلام «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا» ، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفارا فسقي ، فسئل عن ذلك ، فقال : لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء.

وقوله : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد ، وقالت فرقة : كان الله تعالى قد حبس نسلهم ، فمعنى قوله : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) أي الولد ، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه ، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله. و (مُجْرِمِينَ) حال من الضمير في (تَتَوَلَّوْا).

قوله عزوجل :

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)


إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

المعنى : (ما جِئْتَنا) بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق ، كما جعلت قريش القرآن سحرا وشعرا ونحو هذا ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث ، وهذا يقضي بأن هودا وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.

وقوله : (عَنْ قَوْلِكَ) أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية ، وقولهم : (إِنْ نَقُولُ) الآية ، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون ، يقال : عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء ، فحينئذ جاهرهم هود عليه‌السلام بالتبري من أوثانهم وحضهم على كيده هم وأصنامهم ، ويذكر أن هذه كانت له معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء.

و (تُنْظِرُونِ) معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه ، وقوله تعالى : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) الآية ، المعنى : أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم ؛ ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) وعبر عن ذلك ب «الناصية» ، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه ، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته. و «الدابة» : جميع الحيوان ، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم.

وقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يريد أن أفعال الله عزوجل هي في غاية الإحكام ، وقوله الصدق ، ووعده الحق ؛ فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عزوجل. فعبر عن ذلك بقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على تقدير مضاف.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا


فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)

قرأ الجمهور : «تولّوا» بفتح اللام والتاء على معنى تتولوا ، وقرأ عيسى الثقفي والأعرج : «تولوا» بضم التاء واللام ، و «إن» شرط ، والجواب في الفاء وما بعدها من قوله (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) ، والمعنى أنه ما علي كبير همّ منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان. ويحتمل أن يكون (تَوَلَّوْا) فعلا ماضيا ، ويجيء في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب ، أي فقل : قد أبلغكم.

وقرأ جمهور «ويستخلف» بضم الفاء على معنى الخبر بذلك ، وقرأ عاصم ـ فيما روى هبيرة عن حفص عنه ـ «ويستخلف» بالجزم عطفا على موضع الفاء من قوله (فَقَدْ).

وقوله : (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) يحتمل من المعنى وجهين :

أحدهما ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ، ولا يختل أمره ، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود : «ولا تنقصونه شيئا».

والمعنى الآخر : (وَلا تَضُرُّونَهُ) أي ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بكم بشيء يضره. ثم أخبرهم أن ربه (حَفِيظٌ) على كل شيء عالم به ، وفي ترديد هذه الصفات ونحوها تنبيه وتذكير ، و «الأمر» واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر ، أي أمرنا للريح أو لخزنتها ونحو ذلك ، وقوله (بِرَحْمَةٍ) ، إما أن يكون إخبارا مجردا عن رحمة من الله لحقتهم ، وإما أن يكون قصدا إلى الإعلام أن النجاة إنما كملت بمجرد رحمة الله لا بأعماله ؛ فتكون الآية ـ على هذا ـ في معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل أحد الجنة بعمله». قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمته».

وقوله (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) يحتمل أن يريد : عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يريد : وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا ، تعديد النعمة ومشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا. وحكى الزجاج أنها كانت تدخل في أبدانهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا. وتعدى (جَحَدُوا) بحرف جر لما نزل منزلة كفروا ، وانعكس ذلك في الآية بعد هذا ، وقوله : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ، شنعة عليهم وذلك أن في تكذيب رسول واحد تكذيب سائر الرسل وعصيانهم ، إذ النبوات كلها مجمعة على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته : ويحتمل أن يراد هود. وآدم ، ونوح و «العنيد» : فعيل من «عند» إذا عتا. ومنه قول الشاعر : [الرجز].

إني كبير لا أطيق العندا

أي الصعاب من الإبل ، وكان التجبر والعناد من خلق عاد لقوتهم ، وقوله (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا


لَعْنَةً) الآية ، حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم ، و «اللعنة» : الإبعاد والخزي ، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر فيلعن الكافر الموافي على كفره ولا يلعن معين حي ، لا من. كافر ، ولا من فاسق ، ولا من بهيمة ، كل ذلك مكروه بالأحاديث. و (يَوْمَ) ظرف معناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة. ثم ذكرت العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم ؛ وتعدى «كفر» بغير الحرف إذ هو بمعنى (جَحَدُوا) كما تقول شكرت لك وشكرتك ، وكفر نعمته وكفر بنعمته ، و (بُعْداً) منصوب بفعل مقدر وهو مقام ذلك الفعل.

قوله عزوجل :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٦٢)

التقدير : وأرسلنا إلى ثمود وقد تقدم القول في مثل هذا وفي معنى الأخوة في قصة هود.

وقرأ الجمهور : «وإلى ثمود» بغير صرف ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وإلى ثمود» بالصرف حيث وقع ، فالأولى على إرادة القبيلة ، والثانية على إرادة الحي ، وفي هذه الألفاظ الدالة على الجموع ما يكثر فيه إرادة الحي كقريش وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان ؛ وفيها ما يكثر فيه إرادة القبيلة كتميم وتغلب ، ألا ترى أنهم يقولون تغلب ابنة وائل ، وقال الطرماح : [الطويل]

«إذا نهلت منه تميم وعلّت»

وقال الآخر : [المتقارب]

«تميم ابن مر وأشياعها»

وفيها ما يكثر فيه الوجهان كثمود وسبأ ، فالقراءتان هنا فصيحتان مستعملتان. وقرأت فرقة «غيره» برفع الراء ، وقد تقدم آنفا.

و (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ، أي اخترعكم وأوجدكم ، وذلك باختراع آدم عليه‌السلام : فكأن إنشاء آدم إنشاء لبنيه. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) ، أي اتخذكم عمارا ، كما تقول : استكتب واستعمل. وذهب قوم إلى أنها من العمر أي عمركم ، وقد تقدم مثل قوله : (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).

(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ، أي إجابته وغفرانه قريب ممن آمن وأناب ، و (مُجِيبٌ) ، معناه بشرط المشيئة والظاهر الذي حكاه جمهور المفسرين أن قوله : (مَرْجُوًّا) معناه : مسودا ؛ نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم : (أَتَنْهانا) وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيرا.


قال القاضي أبو محمد : فأما أن يكون لفظ (مَرْجُوًّا) بمعنى حقير فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أن القصد بقولهم : (مَرْجُوًّا) يكون : لقد كنت فينا سهلا مرامك قريبا رد أمرك ، ممن لا يظن أن يستفحل من أمره مثل هذا فمعنى «مرجو» أي مرجو اطراحه وغلبته ونحو هذا ، فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، فلذلك فسر بحقير ، ويشبه هذا المعنى قول أبي سفيان بن حرب : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ... الحديث ؛ ثم يجيء قولهم : (أَتَنْهانا) على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه.

و (ما يَعْبُدُ آباؤُنا) يريدون به الأوثان والأصنام ، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله ، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدا إلى مرتبته من الشك قال القاضي : ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر ، و (مُرِيبٍ) معناه ملبس متهم ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

يا قوم ما بال أبي ذؤيب

كنت إذا أتيته من غيب

يشم عطفي ويمس ثوبي

كأنني أربته بريب

قوله عزوجل :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)(٦٥)

قوله : (أَرَأَيْتُمْ) هو من رؤية القلب ، أي أتدبرتم؟ والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي (أَرَأَيْتُمْ) ؛ و «البينة» : البرهان واليقين ، والهاء في «بيّنة» للمبالغة ، ويحتمل أن تكون هاء تأنيث ، و «الرحمة» في هذه الآية : النبوة وما انضاف إليها ، وفي الكلام محذوف تقديره أيضرني شككم أو أيمكنني طاعتكم ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية.

وقوله (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) معناه : فما تعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان وأطلبكم به من الإنابة غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة ، وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم ، كما تقول لمن توصيه : أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي شرا.

فكأن الوجه البيّن ؛ وأنت تزيد شرا ولكن من حيث كنت مريد خير به ومقتضي ذلك ـ حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك.

وقوله تعالى : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) الآية ، اقتضب في هذه الآية ذكر أول أمر الناقة ، وذلك أنه


روي أن قومه طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان ، فأخرج الله ، جلت قدرته ، لهم الناقة من الجبل ، وروي أنهم اقترحوا تعيين خروج الناقة من تلك الصخرة ، فروي أن الجبل تمخض كالحامل ، وانصدع الحجر ، وخرجت منه ناقة بفصيلها ، وروي أنها خرجت عشراء ، ووضعت بعد خروجها ، فوقفهم صالح وقال لهم: (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ، ونصب (آيَةً) على الحال.

وقرأت فرقة «تأكل» بالجزم على جواب الأمر ، وقرأت فرقة : «تأكل» على طريق القطع والاستئناف ، أو على أنه الحال من الضمير في «ذروها».

وقوله (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) عام في العقر وغيره ، وقوله : (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) هذا بوحي من الله إليه أن قومك إذا عقروا الناقة جاءهم عذاب قريب المدة من وقت المعصية ، وهي الأيام الثلاثة التي فهمها صالح عليه‌السلام من رغاء الفصيل على جبل القارة. وأضاف العقر إلى جميعهم لأن العاقر كان منهم وكان عن رضى منهم وتمالؤ ، وعاقرها قدار ، وروي في خبر ذلك أن صالحا أوحى الله إليه أن قومك سيعقرون الناقة وينزل بهم العذاب عند ذلك ، فأخبرهم بذلك فقالوا : عياذا بالله أن نفعل ذلك ، فقال : إن لم تفعلوا أنتم ذلك أوشك أن يولد فيكم من يفعله ، وقال لهم : صفة عاقرها أحمر أزرق أشقر ، فجعلوا الشرط مع القوابل وأمروهم بتفقد الأطفال ، فمن كان على هذه الصفة قتل ، وكان في المدينة شيخان شريفان عزيزان ، وكان لهذا ابن ولهذا بنت ، فتصاهرا فولد بين الزوجين قدار ، على الصفة المذكورة ، فهم الشرط بقتله ، فمنع منه جداه حتى كبر ، فكان الذي عقرها بالسيف في عراقيبها ، وقيل : بالسهم في ضرعها وهرب فصيلها عن ذلك ، فصعد على جبل يقال له القارة ، فرغا ثلاثا ، فقال صالح : هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب ، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه عسى أن يصلوا إليه فيندفع عنه العذاب به ، فراموا الصعود إليه في الجبل ، فارتفع الجبل في السماء حتى ما تناله الطير ، وحينئذ رغا الفصيل.

وقوله (فِي دارِكُمْ) هي جمع دارة كما تقول ساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [الوافر]

له داع بمكة مشمعلّ

وآخر عند دارته ينادي

ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا ، و «الثلاثة الأيام» تعجيز قاس الناس عليه الاعذار إلى المحكوم عليه ونحوه.

قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي مفترق لأنها في المحكوم عليه والغارم في الشفعة ونحوه توسعة ، وهي هنا توقيف على الخزي والتعذيب ، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال : لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ


هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٦٨)

«الأمر» جائز أن يراد به المصدر من أمر ، وجائز أن يراد به : واحد الأمور. وقوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) يحتمل أن يقصد أن التنجية إنما كانت بمجرد الرحمة ، ويحتمل أن يكون وصف حال فقط : أخبر أنه رحمهم في حال التنجية. وقوله : (مِنَّا) الظاهر أنه متعلق برحمة ويحتمل أن يتعلق بقوله (نَجَّيْنا).

وقرأت فرقة : «ومن خزي يومئذ» بتنوين خزي وفتح الميم من (يَوْمِئِذٍ) وذلك يجوز فيه أن تكون فتحة الميم إعرابا ، ويجوز أن يكون بني الظرف لما أضيف إلى غير متمكن ، فأنت مخير في الوجهين. والروايتان في قول الشاعر :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ومن خزي يومئذ» بإضافة «خزي» وكسر الميم من (يَوْمِئِذٍ) وهذا توسع في إضافة المصدر إلى الظرف كما قال : (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ونحو هذا ، وقياس هذه القراءة أن يقال سير عليه «يومئذ» برفع الميم ، وهذه قراءتهم في قوله تعالى : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) [المعارج : ١١] ، و (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) [النمل : ٨٩] ، وقرأ عاصم وحمزة كذلك إلا في قوله (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) [النمل : ٨٩] فإنهما نونا العين وفتحا الميم واختلفت عن نافع في كسر الميم وفتحها ، وهو يضيف في الوجهين ، وقرأ الكسائي «من خزي يومئذ» بترك التنوين وفتح الميم من (يَوْمِئِذٍ) وهذا جمع بين الإضافة وبناء الظرف.

وقرأ «ومن فزع» [النمل : ٨٩] كعاصم وحمزة وأما «إذ» فكان حقها : «إذ» ساكنة إلا أنها من حقها أن تليها الجمل فلما حذفت لها هاهنا الجملة عوضت بالتنوين ، والإشارة بقوله : (يَوْمِئِذٍ) إلى يوم التعذيب ، وقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) الآية ، روي أن صالحا عليه‌السلام قال لهم حين رغا الفصيل : ستصفر وجوهكم في اليوم الأول وتحمر في الثاني وتسود في الثالث ، فلما كان كذلك تكفنوا في الأنطاع واستعدوا للهلاك وأخذتهم صيحة فيها من كل صوت مهول ، صدعت قلوبهم وأصابت كل من كان منهم في شرق الأرض وغربها ، إلا رجلا كان في الحرم فمنعه الحرم من ذلك ثم هلك بعد ذلك : ففي مصنف أبي داود : قيل يا رسول الله من ذلك الرجل؟ قالوا أبو رغال.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وخلافه في السير. وذكر الفعل المسند إلى الصيحة إذ هي بمعنى الصياح ، وتأنيثها غير حقيقي. وقيل : جاز ذلك وهي مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها. كما قالوا :

حضر القاضي اليوم امرأة ؛ والأول أصوب ، و «الصيحة» إنما تجيء مستعملة في ذكر العذاب لأنها فعلة تدل على مرة واحدة شاذة ، والصياح يدل على مصدر متطاول ، وشذ في كلامهم قولهم : لقيته لقاءة واحدة ، والقياس لقية ، و (جاثِمِينَ) أي باركين قد صعق بهم ، وهو تشبيه بجثوم الطير ، وبذلك يشبه جثوم الأثافي


وجثوم الرماد. و (يَغْنَوْا) مضارع من غني في المكان إذا أقام فيه في خفض عيش وهي المغاني : وقرأ حمزة وحده : «ألا ان ثمود» وكذلك في الفرقان والعنكبوت والنجم ، وصرفها الكسائي كلها. وقوله : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) واختلف عن عاصم : فروى عنه حفص ترك الإجراء كحمزة ، وروى عنه أبو بكر إجراء الأربعة وتركه في قوله : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) وقرأ الباقون : «ألا إن ثمودا» فصرفت «ألا بعد لثمود» غير مصروف ؛ والقراءتان فصيحتان ؛ وكذلك صرفوا في الفرقان والعنكبوت والنجم.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٧١)

«الرسل» الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقالت فرقة : بدل إسرافيل عزرائيل ـ ملك الموت ـ وروي أن جبريل منهم كان مختصا بإهلاك قرية لوط ، وميكائيل مختصا بتبشير إبراهيم بإسحاق. وإسرافيل مختصا بإنجاء لوط ومن معه.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقضي باشتراكهم في البشارة بإسحاق وقالت فرقة ـ وهي الأكثر ـ «البشرى» هي بإسحاق. وقالت فرقة : «البشرى» هي بإهلاك قوم لوط.

وقوله : (سَلاماً) نصب على المصدر ، والعامل فيه فعل مضمر من لفظه كأنه قال : أسلم سلاما ، ويصح أن يكون : (سَلاماً) حكاية لمعنى ما قالوه لا للفظهم ـ قاله مجاهد والسدي ـ فلذلك عمل فيه القول ، كما تقول ـ الرجل قال : لا إله إلّا الله ـ قلت حقا أو إخلاصا ؛ ولو حكيت لفظهم لم يصح أن تعمل فيه القول وقوله : (قالَ : سَلامٌ) حكاية للفظه ، و (سَلامٌ) مرتفع إما على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره عليكم ؛ وإما على خبر ابتداء محذوف تقديره أمري سلام ، وهذا كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨] إما على تقدير فأمري صبر جميل ، وإما على تقدير : فصبر جميل أجمل.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «قالوا : سلاما قال : سلام» وقرأ حمزة والكسائي : «قالوا سلاما ، قال : سلم» وكذلك اختلافهم في سورة الذاريات. وذلك على وجهين : يحتمل أن يريد به السّلام بعينه ، كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام ومن ذلك قول الشاعر : [الطويل]

مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت

كما اكتلّ بالبرق الغمام اللوائح

اكتل : اتخذ إكليلا أو نحو هذا قال الطبري وروي : كما انكلّ ـ ويحتمل أن يريد ب «السلم» ضد الحرب ، تقول نحن سلم لكم.


وكان سلام الملائكة دعاء مرجوا ـ فلذلك نصب ـ وحيي الخليل بأحسن مما حيي وهو الثابت المتقرر ولذلك جاء مرفوعا.

وقوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) يصح أن تكون «ما» نافية ، وفي (لَبِثَ) ضمير إبراهيم وإن جاء في موضع نصب أي بأن جاء ، ويصح أن تكون «ما» نافية وإن جاء بتأويل المصدر في موضع رفع ب (لَبِثَ) أي ما لبث مجيئه ، وليس في (لَبِثَ) على هذا ضمير إبراهيم ، ويصح أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي (لَبِثَ) ضمير إبراهيم ـ وإن جاء خبر «ما» أي فلبث إبراهيم مجيئه بعجل حنيذ ، وفي أدب الضيف أن يجعل قراه من هذه الآية.

و «الحنيذ» بمعنى المحنوذ ومعناه بعجل مشوي نضج يقطر ماؤه ، وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات ، ولكن هيئة المحنوذ في اللغة الذي يغطى بحجارة أو رمل محمي أو حائل بينه وبين النار يغطى به والمعرض من الشواء الذي يصفف على الجمر ؛ والمهضب : الشواء الذي بينه وبين النار حائل ، يكون الشواء عليه لا مدفونا له ، والتحنيذ في تضمير الخيل هو أن يغطى الفرس بجل على جل لينتصب عرقه.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ ...) الآية ، روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا؟

قال القاضي أبو محمد : وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر ، فروي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له : أزل الشعرة عن لقمتك ، فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعر في لقمتي والله لا أكلت معك.

و (نَكِرَهُمْ) ـ على ما ذكر كثير من الناس ـ معناه : أنكرهم ، واستشهد لذلك بالبيت الذي نحله أبو عمرو بن العلاء الأعشى وهو : [البسيط]

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقال بعض الناس : «نكر» هو مستعمل فيما يرى بالبصر فينكر ، وأنكر هي مستعملة فيما لا يقرر من المعاني ، فكأن الأعشى قال : وأنكرتني مودتي وأدمتي ونحوه ، ثم جاء ب «نكر» في الشيب والصلع الذي هو مرئي بالبصر ، ومن هذا قول أبي ذؤيب : [الكامل]

فنكرنه فنفرن وامترست به

هو جاء هادية وهاد جرشع

والذي خاف منه إبراهيم عليه‌السلام ما يدل عليه امتناعهم من الأكل ، فعرف من جاء بشر أن لا يأكل طعام المنزول به ، و (أَوْجَسَ) معناه أحس في نفسه خيفة منهم ، و «الوجيس» : ما يعتري النفس عند الحذر وأوائل الفزع ، فأمنوه بقولهم : (لا تَخَفْ) وعلم أنهم الملائكة ، ثم خرجت الآية إلى ذكر المرأة وبشارتها فقالت فرقة : معناه : (قائِمَةٌ) خلف ستر تسمع محاورة إبراهيم مع أضيافه ، وقالت فرقة : معناه (قائِمَةٌ) في صلاة ، وقال السد معناه (قائِمَةٌ) تخدم القوم ، وفي قراءة ابن مسعود : «وهي قائمة وهو جالس». وقوله


(فَضَحِكَتْ) قال مجاهد : معناه : حاضت ، وأنشد على ذلك اللغويون :

وضحك الأرانب فوق الصفا

كمثل دم الجوق يوم اللقاء

وهذا القول ضعيف قليل التمكن ، وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى : حاضت وقرره بعضهم ، ويقال ضحك إذا امتلأ وفاض : ورد الزجّاج قول مجاهد ، وقال الجمهور: هو الضحك المعروف ، واختلف مم ضحكت؟ فقالت فرقة : ضحكت من تأمينهم لإبراهيم بقولهم : (لا تَخَفْ). وقال قتادة : ضحكت هزؤا من قوم لوط أن يكونوا على غفلة وقد نفذ من أمر الله تعالى فيهم ما نفذ.

وقال وهب بن منبه : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير ، وقال محمد بن قيس : ضحكت لظنها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط ؛ قال القاضي : وهذا قول خطأ لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقد حكاه الطبري ، وإنما ذكرته لمعنى التنبيه على فساده ، وقالت فرقة : ضحكت من فزع إبراهيم من ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين من الرجال ، وقيل : المائة. وقال السدي : ضحكت من أن تكون هي تخدم وإبراهيم يحفد ويسعى والأضياف لا يأكلون. وقيل : ضحكت سرورا بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لإبراهيم ، إنه لا بد أن ينزل العذاب بقوم لوط ، وروي أن الملائكة مسحت العجل فقام حيا فضحكت لذلك.

وقرأ محمد بن زياد الأعرابي : «فضحكت» بفتح الحاء.

وامرأة إبراهيم هذه هي سارة بنت هارون بن ناحور ، وهو إبراهيم بن آزر بن ناحور فهي ابنة عمه ، وقيل : هي أخت لوط.

قال القاضي أبو محمد : وما أظن ذلك إلا أخوة القرابة لأن إبراهيم هو عم لوط فيما روي : وذكر الطبري أن إبراهيم لما قدم العجل قالوا له : إنّا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، فقال لهم : ثمنه أن تذكروا الله تعالى عليه في أول ، وتحمدوه في آخر ، فقال جبريل لأصحابه : بحق اتخذ الله هذا خليلا.

وقوله : (فَبَشَّرْناها) أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى إذ كان بأمره ووحيه ، وبشر الملائكة سارة (بِإِسْحاقَ) وبأن إسحاق سيلد يعقوب ، ويسمى ولد الولد من الوراء ، وهو قريب من معنى وراء في الظروف إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده ؛ ورأي ابن عباس رجلا معه شاب ، فقال له : من هذا؟ فقال له : ولد ولدي ، فقال : هو ولدك من الوراء ، فغضب الرجل ، فذكر له ابن عباس الآية.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «يعقوب» بالرفع على الابتداء والخبر المقدم ، وهو على هذا دخل في البشرى ، وقالت فرقة : رفعه على القطع بمعنى : ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب ، وعلى هذا لا يدخل في البشارة وقرأ ابن عامر وحمزة «يعقوب» بالنصب واختلف عن عاصم ، فمنهم من جعله معطوفا على «إسحاق» إلا أنه لم ينصرف ، واستسهل هذا القائل أن فرق بين حرف العطف والمعطوف بالمجرور ، وسيبويه لا يجيز هذا إلا على إعادة حرف الجر ، وهو كما تقول : مررت بزيد اليوم وأمس عمرو ، فالوجه


عنده : وأمس بعمرو ، وإذا لم يعد ففيه كبير قبيح ، والوجه في نصبه أن ينتصب بفعل مضمر ، تدل عليه البشارة وتقديره : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، وهذا رجح أبو علي.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن سارة كانت في وقت هذه البشارة بنت تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم ابن مائة سنة.

وهذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسماعيل وأنه أسن من إسحاق وذلك أن سارة كانت في وقت إخدام الملك الجائر هاجر أم إسماعيل امرأة شابة جميلة حسبما في الحديث ، فاتخذها إبراهيم عليه‌السلام أم ولد ، فغارت بها سارة ، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق وجاء من يومه مكة فتركهما ـ حسبما في السير ـ وانصرف إلى الشام من يومه ثم كانت البشارة بإسحاق ، وسارة عجوز متجالة ، وأما وجه دلالة الآية على أن إسحاق ليس بالذبيح فهو أن سارة وإبراهيم بشرا بإسحاق وأنه يولد له يعقوب ، ثم أمر بالذبح حين بلغ ابنه معه السعي ، فكيف يؤمر بذبح ولد قد بشر قبل أنه سيولد لابنه ذلك ، وأيضا فلم يقع قط في أثر أن إسحاق دخل الحجاز وإجماع أن أمر الذبح كان بمنى ، ويؤيد هذا الغرض قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن الذبيحين» يريد أباه عبد الله وأباه إسماعيل ، ويؤيده ما نزع به مالك رحمه‌الله من الاحتجاج برتبة سورة الصافات فإنه بعد كمال أمر الذبيح قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢].

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله موضع معارضات لقائل القول الآخر : إن الذبيح هو إسحاق ، ولكن هذا الذي ذكرناه هو الأرجح والله أعلم.

قوله عزوجل :

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(٧٣)

اختلف الناس في الألف التي في قوله : (يا وَيْلَتى) وأظهر ما فيها أنها بدل ياء الإضافة ، أضلها : يا ويلتي ، كما تقول : يا غلاما ويا غوثا ؛ وقد تردف هذه الألف بهاء في الكلام ، ولم يقرأ بها ، وأمال هذه الألف عاصم والأعمش وأبو عمرو.

ومعنى (يا وَيْلَتى) في هذا الموضع ؛ العبارة عما دهم النفس من العجب في ولادة عجوز ، وأصل هذا الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة أو مكروه يهم النفس ، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس وقال قوم : إنما قالت : (يا وَيْلَتى) لما مر بفكرها من ألم الولادة وشدتها ، ثم رجعت بفكرها إلى التعجب ونطقت بقولها (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)؟ الآية.

وقرأت فرقة : «أألد» بتحقيق الهمزتين ، وقرأت فرقة بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية ، وفي النطق بهذه


عسر ، وقرأت فرقة : بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية ، والتخفيف هنا مدها ، وقرأت فرقة «ءاألد» بتحقيق الهمزتين ومدة بينهما.

و «العجوز» المسنة ، وقد حكى بعض الناس : أن العرب تقول : العجوزة ، و «البعل» : الزوج ، و (شَيْخاً) نصب على الحال وهي حال من مشار إليه لا يستغنى عنها لأنها مقصود الإخبار ، وهي لا تصح إلا إذا لم يقصد المتكلم التعريف بذي الحال ، مثل أن يكون المخاطب يعرفه ؛ وأما إذا قصد التعريف به لزم أن يكون التعريف في الخبر قبل الحال ، وتجيء الحال على بابها مستغنى عنها ، ومثال هذا قولك : هذا زيد قائما ، إذا أردت التعريف بزيد. أو كان معروفا وأردت التعريف بقيامه ، وأما إن قصد المتكلم أن زيديته إنما هي مادام قائما ، فالكلام لا يجوز.

وقرأ الأعمش «هذا بعلي شيخ» ، قال أبو حاتم وكذلك في مصحف ابن مسعود ، ورفعه على وجوه : منها : أنه خبر بعد خبر كما تقول : هذا حلو حامض ، ومنها : أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره : هو شيخ وروي أن بعض الناس قرأه : «وهذا بعلي هذا شيخ» ، وهذه القراءة شبيهة بهذا التأويل. ومنها : أنه بدل من (بَعْلِي) ومنها : أن يكون قولها (بَعْلِي) بدلا من (هذا) أو عطف بيان عليه ، ويكون «شيخ» خبر (هذا).

ويقال شيخ وشيخة ـ وبعض العرب يقول في المذكر والمؤنث شيخ. وروي أن سارة كانت وقت هذه المقالة من تسع وتسعين سنة ، وقيل : من تسعين ـ قاله ابن إسحاق ـ وقيل من ثمانين ؛ وكذلك قيل في سن إبراهيم ، إنه كان مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة سنة ، وغير ذلك مما يحتاج إلى سند.

والضمير في قوله : (قالُوا) للملائكة ، وقوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) يحتمل أن يريد واحد الأمور ، أي من الولادة في هذه السن ، ويحتمل أن يريد مصدر أمر ، أي مما أمر الله في هذه النازلة.

وقوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) يحتمل اللفظ أن يكون دعاء وأن يكون إخبارا ، وكونه إخبارا أشرف ، لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم ، وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. ونصب (أَهْلَ الْبَيْتِ) على الاختصاص ـ هذا مذهب سيبويه ، ولذلك جعل هذا والنصب على المدح في بابين. كأنه ميز النصب على المدح بأن يكون المنتصب لفظا يتضمن بنفسه مدحا كما تقول : هذا زيد عاقل قومه ، وجعل الاختصاص إذا لم تتضمن اللفظة ذلك ، كقوله : إنا معاشر الأنبياء وإنا بني نهشل.

قال القاضي أبو محمد : ولا يكون الاختصاص إلا بمدح أو ذم ، لكن ليس في نفس اللفظة المنصوبة.

وهذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته لأنها خوطبت بهذا ، فيقوى القول في زوجات النبي عليه‌السلام بأنهن من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس ، بخلاف ما تذهب إليه الشيعة ، وقد قاله أيضا بعض أهل العلم ، قالوا : «أهل بيته» الذين حرموا الصدقة ، والأول أقوى وهو ظاهر جلي من سورة


الأحزاب لأنه ناداهن بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٣٢] ثم بقوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣].

قال القاضي أبو محمد : ووقع في البخاري عن ابن عباس قال : أهل بيته الذين حرموا الصدقة بعده ؛ فأراد ابن عباس : أهل بيت النسب الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم : إن الصدقة لا تحل لأهل بيتي إنما هي أوساخ الناس.

و (الْبَيْتِ) في هذه الآية وفي سورة الأحزاب بيت السكنى ففي اللفظ اشتراك ينبغي أن يتحسس إليه. ففاطمة رضي الله عنها من أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوجهين وعلي رضي الله عنه بالواحد ، وزوجاته بالآخر ، وأما الشيعة فيدفعون الزوجات بغضا في عائشة رضي الله عنها. و (حَمِيدٌ) أي أفعاله تقتضي أن يحمد ، و (مَجِيدٌ) أي متصف بأوصاف العلو ، ومجد الشيء إذا حسنت أوصافه.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

(الرَّوْعُ) : الفزع والخيفة التي تقدم ذكرها ، وكان ذهابه بإخبارهم إياه أنهم ملائكة. و (الْبُشْرى) : تحتمل أن يريد الولد ، ويحتمل أن يريد البشرى بأن المراد غيره ، والأول أبين. وقوله : (يُجادِلُنا) فعل مستقبل جائز أن يسد مسد الماضي الذي يصلح لجواب «لما» ، لا سيما والإشكال مرتفع بمضي زمان الأمر ومعرفة السامعين بذلك ، ويحتمل أن يكون التقدير ظل أو أخذ ونحوه يجادلنا ، فحذف اختصارا لدلالة ظاهر الكلام عليه ، ويحتمل أن يكون قوله ، (يُجادِلُنا) حالا من (إِبْراهِيمَ) أو من الضمير في قوله : (جاءَتْهُ) ، ويكون جواب «لما» في الآية الثانية : «قلنا : يا إبراهيم أعرض عن هذا» واختار هذا أبو علي ، و «المجادلة» : المقابلة في القول والحجج ، وكأنها أعم من المخاصمة فقد يجادل من لا يخاصم كإبراهيم.

وفي هذه النازلة وصف إبراهيم «بالحلم» قيل : إنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله. و «الحلم» : العقل إلا إذا انضاف إليه أناة واحتمال. وال (أَوَّاهٌ) معناه : الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله تعالى ؛ ويروى أن إبراهيم عليه‌السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية ، قيل : كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في «الأواه» عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته وتلزمه. وال (مُنِيبٌ) : الرجاع إلى الله تعالى في كل أمره.

وصورة جدال إبراهيم عليه‌السلام كانت أن قال إبراهيم : إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذبونهم؟ قالوا لا. قال : أفتسعون؟ قالوا لا. قال : أفثمانون؟ فلم يزل كذلك حتى بلغ خمسة ووقف عند ذلك ؛ وقد عد في بيت لوط امرأته فوجدهم ستة بها فطمع في نجاتهم ولم يشعر أنها من الكفرة ، وكان ذلك من إبراهيم حرصا على إيمان تلك الأمة ونجاتها ، وقد كثر اختلاف رواة المفسرين لهذه الأعداد في قول إبراهيم عليه‌السلام ، والمعنى كله نحو مما ذكرته ، وكذلك ذكروا أن قوم لوط كانوا أربعمائة ألف في خمس قرى.


وقالت فرقة : المراد (يُجادِلُنا) في مؤمني قوم لوط ـ وهذا ضعيف ـ وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصا عليهم ، والمعنى : قلنا يا إبراهيم أعرض عن المجادلة في هؤلاء القوم والمراجعة فيهم ، فقد نفذ فيهم القضاء ، و (جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) الأمر هنا : واحد الأمور بقرينة وصفه بالمجيء ، فإن جعلناه مصدر أمر قدرنا حذف مضاف ، أي جاء مقتضى أمر ربك ونحو هذا ؛ وقوله (آتِيهِمْ عَذابٌ) ابتداء وخبر ؛ جملة في موضع خبر «إن» وقيل : (آتِيهِمْ) خبر «إن» فهو اسم فاعل معتمد ، و (عَذابٌ) فاعل ب (آتِيهِمْ).

وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور ، فأما الدعاء في طلب غير المقدور فغير مجد ولا نافع.

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(٨٠)

«الرسل» هنا هم الملائكة الذين كانوا أضياف إبراهيم عليه‌السلام ، وذلك أنهم لما خرجوا إلى بلد لوط ـ وبينه وبين قرية إبراهيم ثمانية أميال ـ وصلوه ، فقيل : وجدوا لوطا في حرث له ، وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم ـ وهي أكبر حواضر قوم لوط ـ فسألوها الدلالة على من يضيفهم ، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط ، وقالت لهم : مكانكم ؛ وذهبت إلى أبيها فأخبرته ، فخرج إليهم ، فقالوا له : نريد أن تضيفنا الليلة ، فقال لهم : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا وما عملهم؟ فقال أشهد بالله لهم شر قوم في الأرض وقد كان الله عزوجل قال للملائكة : لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال لوط هذه قال جبريل لأصحابه : هذه واحدة وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ، ثم دخل لوط بهم المدينة وحينئذ (سِيءَ بِهِمْ) أي أصابه سوء. و (سِيءَ) فعل بني للمفعول ، و «الذرع» : مصدر مأخوذ من الذراع ، ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة له به : ضاق بهذا الأمر ذراع فلان ، وذرع فلان ، أي حيلته بذراعه ، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا : فلان رحب الذراع ، إذا وصفوه باتساع القدرة ومنه قول الشاعر :

يا سيد ما أنت من سيد

موطأ الأكناف رحب الذراع

وقوله : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أشار به إلى ما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه واحتياجه إلى المدافعة مع ضعفه عنها ، و (عَصِيبٌ) بناء اسم فاعل معناه : يعصب الناس بالشر كما يعصب الخابط السلمة إذا أراد خبطها ونفض ورقها ، ومنه قول الحجاج في خطبته : ولأعصبنكم عصب السلمة ، فهو من


العصابة ثم كثر وصفهم اليوم بعصيب ، ومنه قول الشاعر ، وهو عدي بن زيد : [الوافر]

وكنت لزاز خصمك لم أعرد

وقد سلكوك في يوم عصيب

ومنه قول الآخر : [الطويل]

فإنك إلا ترض بكر بن وائل

يكن لك يوم بالعراق عصيب

ف «عصيب» ـ بالجملة ـ في موضع شديد وصعب الوطأة ، واشتقاقه كما ذكرنا.

وقوله تعالى : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ) الآية ، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت ، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم : إن لوطا أضاف الليلة فتية ما ريء مثلهم جمالا وكذا وكذا ، فحينئذ جاءوا (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) ، ومعناه يسرعون ، والإهراع هو أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والخمر ، فهي مشية الأسير الذي يسرع به ، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته ، ونحو هذا ؛ يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه.

والقراءة المشهورة : «يهرعون» بضم الياء أي يهرعون الطمع ، وقرأت فرقة : «يهرعون» بفتح الياء ، من هرع ، ومن هذه اللفظة قول مهلهل : [الوافر]

فجاءوا يهرعون وهم أسارى

تقودهم على رغم الأنوف

وقوله : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال ، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعا ، وقال : (هؤُلاءِ بَناتِي) فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح ، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقالت فرقة : إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه ، روي هذا القول عن أبي عبيدة ، وهو ضعيف ، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير : الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت فرقة : أشار بقوله : (بَناتِي) إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم ، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] وهو أب لهم وأشار أيضا لوط ـ في هذا التأويل ـ إلى النكاح.

وقرأت فرقة ـ هي الجمهور ـ «هن أطهر» برفع الراء على خبر الابتداء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير : «أطهر» بالنصب قال سيبويه : هو لحن ، قال أبو عمرو بن العلاء : احتبى فيه ابن مروان في لحنه ، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون (بَناتِي) ابتداء و (هُنَ) خبره ، والجملة خبر (هؤُلاءِ).

قال القاضي أبو محمد : وهو إعراب مروي عن المبرد ، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية ، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله : (أَطْهَرُ) وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها ـ كما تقدم في قوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ، والوجه أن يقال : (هؤُلاءِ بَناتِي) ابتداء وخبر ، و (هُنَ) فصل و (أَطْهَرُ) حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى


الخبر ، فمن حيث كان الخبر هنا في (أَطْهَرُ) ساغ القول بالفصل ، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان ، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح ، و «الضيف» : مصدر يوصف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث ؛ ثم وبخهم بقوله : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي يزعكم ويردكم.

وقوله تعالى : (قالُوا : لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) الآية ، روي أن قوم لوط كانوا قد خطبوا بنات لوط فردهم ، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا ، فلذلك قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ).

قال القاضي أبو محمد : وبعد أن تكون هذه المخاطبة ، فوجه الكلام : إنا ليس لنا إلى بناتك تعلق ، ولا هم قصدنا ولا لنا عادة نطلبها في ذلك وقولهم : (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) ، إشارة إلى الأضياف ؛ فلما رأى استمرارهم في غيهم وغلبتهم وضعفه عنهم قال ـ على جهة التفجع والاستكانة ـ (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) و (أَنَ) في موضع رفع بفعل مضمر تقديره : لو اتفق أو وقع ونحو هذا ، ـ وهذا مطرد في «أن» التابعة ل «لو» ـ وجواب (لَوْ) محذوف وحذف مثل هذا أبلغ ، لأنه يدع السامعين ينتهي إلى أبعد تخيلاته ، والمعنى لفعلت كذا وكذا.

وقرأ جمهور : «أو آوي» بسكون الياء ، وقرأ شيبة وأبو جعفر : «أو آوي» بالنصب ، التقدير أو أن آوي ، فتكون «أن» مع «آوي» بتأويل المصدر ، كما قالت ميسون بنت بحدل :

للبس عباءة وتقر عيني ...

ويكون ترتيب الكلام لو أن لي بكم قوة أو أويا ، و «أوى» معناه : لجأ وانضوى ، ومراد لوط عليه‌السلام بال (رُكْنٍ) العشيرة والمنعة بالكثرة ، وبلغ به قبيح فعلهم إلى هذا ـ مع علمه بما عند الله تعالى ـ ، فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات ، وقالوا : إن ركنك لشديد ؛ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله لوطا لقد كان يأوي (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، فالعجب منه لما استكان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نقد لأن لفظ بهذه الألفاظ ، وإلا فحالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت طرح سلا الجزور ومع أهل الطائف وفي غير ما موطن تقتضي مقالة لوط لكن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة ، وإنما خشي لوط أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم ، فتمنى ركنا من البشر يعاجلهم به ، وهو يعلم أن الله تعالى من وراء عقابهم ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يبعث الله تعالى بعد لوط نبيا إلا في ثروة من قومه» أي في منعة وعزة.

قوله عزوجل :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)(٨١)

الضمير في (قالُوا) ضمير الملائكة ، ويروى أن لوطا لما غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قالت


له الرسل : تنح عن الباب ، فتنحى وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه‌السلام بجناحه فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاء النجاء ، فعند لوط قوم سحرة ، وتوعدوا لوطا ، ففزع حينئذ من وعيدهم ، فحينئذ قالوا له : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) فأمن ، ذكر هذا النقاش ؛ وفي تفسير غيره ما يقتضي أن قولهم : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) كان قبل طمس العيون ، ثم أمروه بالسرى وأعلموه أن العذاب نازل بالقوم ، فقال لهم لوط : فعذبوهم الساعة ، قالوا له : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي بهذا أمر الله ، ثم أنسوه في قلقه بقولهم : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

وقرأ نافع وابن كثير «فأسر» من سرى إذا سار في أثناء الليل ، وقرأ الباقون «فاسر» إذا سار في أول الليل و «القطع» القطعة من الليل ، ويحتمل أن لوطا أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر فتجتمع هذه الآية مع قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [القمر : ٣٤] وبيت النابغة جمع بين الفعلين في قوله : [البسيط]

أسرت عليه من الجوزاء سارية

تزجي الشمال عليه جامد البرد

فذهب قوم إلى أن سري وأسرى بمعنى واحد واحتجوا بهذا البيت.

قال القاضي أبو محمد : وأقول إن البيت يحتمل المعنيين ، وذلك أظهر عندي لأنه قصد وصف هذه الديمة ، وأنها ابتدأت من أول الليل وقت طلوع الجوزاء في الشتاء.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «إلا امرأتك» بالرفع على البدل من (أَحَدٌ) وهذا هو الأوجه إذا استثني من منفي ، كقولك : ما جاءني أحد إلا زيد ، وهذا هو استثناء الملتفتين ، وقرأ الباقون «إلا أمرأتك» بالنصب ، ورأت ذلك فرقة من النحاة الوجه في الاستثناء من منفي ، إذ الكلام المنفي في هذا مستقل بنفسه كالموجب ، فإذ هو مثله في الاستقلال ، فحكمه كحكمه في نصب المستثنى ؛ وتأولت فرقة ممن قرأ : «إلا امرأتك» بالنصب أن الاستثناء وقع من الأهل كأنه قال : «فأسر بأهلك إلا امرأتك». وعلى هذا التأويل لا يكون إلا النصب ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : لو كان الكلام : «ولا يلتفت» ـ بالرفع ـ لصح الرفع في قوله : «إلا أمرأتك» ولكنه نهي ، فإذا استثنيت «المرأة» من (أَحَدٌ) وجب أن تكون «المرأة» أبيح لها الالتفات فيفسد معنى الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الاعتراض حسن ، يلزم الاستثناء من (أَحَدٌ) رفعت التاء أو نصبت والانفصال عنه يترتب بكلام حكي عن المبرد ، وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده ، و «الالتفات» منفي عنهم بالمعنى ، أي لا تدع أحدا منهم يلتفت ، وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد إلا زيد ، وأولئك لم يسمعوك ، فالمعنى : لا تدع أحدا من هؤلاء يقوم والقيام بالمعنى منفي عن المشار إليهم.

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا أن لفظ الآية هو لفظ قولنا : لا يقم أحد إلا زيد ، ونحن نحتاج أن يكون معناها معنى قولنا : لا يقم أحد إلا زيد وذلك اللفظ لا يرجع إلى هذا المعنى إلا بتقدير ما حكيناه عن المبرد ، فتدبره. ويظهر من مذهب أبي عبيد أن الاستثناء ، إنما هو من الأهل. وفي مصحف ابن مسعود : «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» وسقط قوله : (وَلا يَلْتَفِتْ


مِنْكُمْ أَحَدٌ). والظاهر في (يَلْتَفِتْ) أنها من التفات البصر ، وقالت فرقة : هي من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط. وهذا شاذ مع صحته وفي كتاب الزهراوي : أن المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف ، بل يخرج مسرعا مع لوط عليه‌السلام : وروي أن امرأة لوط لما سمعت الهدة ردت بصرها وقالت : وا قوماه ، فأصابها حجر فقتلها.

وقرأت فرقة : «الصبح» بضم الباء.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

روي أن جبريل عليه‌السلام أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم أرسلها معكوسة ، وأتبعهم الحجارة من السماء ، وروي أن جبريل عليه‌السلام أخذهم بخوافي جناحه : ويروى أن مدينة منها نجيت كانت مختصة بلوط عليه‌السلام يقال لها : زغر.

و (أَمْرُنا) في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدرا من أمر ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره مقتضى أمرنا ، ويحتمل أن يكون واحد الأمور ، والضمير في قوله : (عالِيَها سافِلَها) للمدن ، وأجري (أَمْطَرْنا) عليها كذلك ، والمراد على أهلها ، وروي أنها الحجارة استوفت منهم من كانوا خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين. وروي أنه كان منهم في الحرم رجل فبقي حجره معلقا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر ، و «أمطر» أبدا إنما يستعمل في المكروه ، ومطر يستعمل في المحبوب ، هذا قول أبي عبيدة.

قال القاضي أبو محمد : وليس كذلك وقوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] يرد هذا القول لأنهم إنما ظنوه معتاد الرحمة ، وقوله (مِنْ سِجِّيلٍ) اختلف فيه : فقال ابن زيد : (سِجِّيلٍ) : اسم السماء الدنيا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، ويرده وصفه ب (مَنْضُودٍ). وقالت فرقة هو مأخوذ من لفظ السجل ، أي هي من أمر كتب عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، وقالت فرقة : هو مأخوذ من السجل إذا أرسل الشيء كما يرسل السجل وكما تقول : قالها مسجلة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقالت فرقة : (مِنْ سِجِّيلٍ) معناه : من جهنم لأنه يقال : سجيل وسجين حفظ فيها بدل النون لاما ، كما قالوا : أصيلال وأصيلان. وقالت فرقة : (سِجِّيلٍ) معناه : شديد وأنشد الطبري في ذلك [ابن مقبل] :

ضربا تواصى به الأبطال سجيلا


والبيت في قصيدة نونية : سجينا ، وقالت فرقة : (سِجِّيلٍ) لفظة أصلها غير عربت أصلها سنج وكل. وقيل غير هذا في أصل اللفظة. ومعنى هذا اللفظ ماء وطين. هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وغيرهم ، وذهبت هذه الفرقة إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ كانت من طين قد تحجر ـ نص عليه الحسن ـ.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يشبه. وهو الصواب الذي عليه الجمهور. وقالت فرقة : معنى (سِجِّيلٍ) حجر مخلوط بطين أي حجر وطين. قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن يرد هذا إلى الذي قبله ، لأن الآجر وما جرى مجراه يمكن أن يقال فيه حجر وطين لأنه قد أخذ من كل واحد منهما بحظه. هي طين من حيث هو أصلها. وحجر من حيث صلبت.

و (مَنْضُودٍ) معناه بعضه فوق بعض. أي تتابع ؛ وهي صفة ل (سِجِّيلٍ) وقال الربيع بن أنس : «نضده» : إنه في السماء منضود معد بعضه فوق بعض.

و (مُسَوَّمَةً) معناه معلمة بعلامة ، فقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض وحمرة : ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه ، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «سوموا فقد سومت الملائكة». ويحتمل أن تكون (مُسَوَّمَةً) هاهنا بمعنى : مرسلة ، وسومها من الهبوط.

وقوله (وَما هِيَ) إشارة إلى الحجارة. و (الظَّالِمِينَ) قيل : يعني قريشا. وقيل : يريد عموم كل من اتصف بالظلم ، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة» ، وقد ورد أيضا حديث : «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك». وقيل يعني ب (هِيَ) : المدن ، ويكون المعنى : الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة ـ والأول أبين ـ وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام ، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن : صيعة ، وصعدة وعمزة ، ودوما وسدوم وهي القرية العظمى.

قوله عزوجل :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(٨٦)

التقدير : (وَإِلى مَدْيَنَ) أرسلنا (أَخاهُمْ شُعَيْباً) ، واختلف في لفظة (مَدْيَنَ) فقيل : هي بقعة ، فالتقدير على هذا : وإلى أهل مدين ـ كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يونس : ٤٢] ـ وقيل كان هذا القطر في


ناحية الشام ، وقيل (مَدْيَن) اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه ، و (مَدْيَنَ) لا ينصرف في الوجهين ، حكى النقاش أن (مَدْيَنَ) هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد وقد قيل : إن (شُعَيْباً) عربي ، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط ، ودعاء «شعيب» إلى «عبادة الله» يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك بين من قولهم فيما بعد ، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم ، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر ، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة ، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام ، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافيا ويعطوا ناقصا في وزنهم وكيلهم ، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك ، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضا.

وقوله (بِخَيْرٍ) قال ابن عباس : معناه في رخص من الأسعار ، و «عذاب اليوم المحيط» هو حلول الغلاء المهلك. وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق وقيل لهم قوله : (بِخَيْرٍ) عام في جميع نعم الله تعالى ، و «عذاب اليوم» هو الهلاك الذي حل بهم في آخر ، وجميع ما قيل في لفظ «خير» منحصر فيما قلناه.

ووصف «اليوم» ب «الإحاطة» وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم : وقد يصح أن يوصف «اليوم» ب «الإحاطة» على تقدير : محيط شره. ونحو هذا.

وكرر عليهم الوصية في «الكيل والوزن» تأكيدا وبيانا وعظة لأن (لا تَنْقُصُوا) هو (أَوْفُوا) بعينه. لكنهما منحيان إلى معنى واحد.

قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يعظ الناس في الكيل والوزن فقال : اعتبروا في أن الإنسان إذا رفع يده بالميزان فامتدت أصابعه الثلاث والتقى الإبهام والسبابة على ناصية الميزان جاء من شكل أصابعه صورة المكتوبة فكأن الميزان يقول: الله الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ مليح مذكر. والقسط العدل ونحوه ، و «البخس» النقصان ، و (تَعْثَوْا) معناه : تسعون في فساد ، وكرر (مُفْسِدِينَ) على جهة التأكيد ، يقال عثا يعثو أو عثى يعثي ، وعث يعث ، وعاث يعيث ـ إذا أفسد ونحوه من المعنى ، والعثة : الدودة التي تفسد ثياب الصوف.

وقوله : (بَقِيَّتُ اللهِ) قال ابن عباس معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن حير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد : معناه طاعة الله ، وقال ابن عباس ـ أيضا ـ معناه رزق الله ، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية ، وإنما المعنى عندي ـ إبقاء الله عليكم إن أطعتم. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة.


وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط في أن تكون البقية خيرا لهم ، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال ، وجواب هذا الشرط ، متقدم ، و «الحفيظ» المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب ، والمعنى : إنما أنا مبلغ والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال.

قوله عزوجل :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

قرأ جمهور الناس «أصلواتك» بالجمع ، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك» بالإفراد ، وكذلك قرأ في براءة (إِنَّ صَلاتَكَ) [التوبة : ٩] وفي المؤمنين : (عَلى صَلَواتِهِمْ) [المؤمنون : ٩] كل ذلك بالإفراد.

واختلف في معنى «الصلاة» هنا ، فقالت فرقة : أرادوا الصلوات المعروفة ، وروي أن شعيبا عليه‌السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وقال الحسن : لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. وقيل : أرادوا قراءتك. وقيل أرادوا : أمساجدك؟ وقيل : أرادوا : أدعواتك.

قال القاضي أبو محمد : وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز ، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع : فمعنى هذا : ألما كنت مصليا تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل : أمرته ، كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].

وقوله : (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس: «نفعل» و «نشاء» بنون الجماعة فيهما ؛ وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل» و «تشاء» بتاء المخاطبة فيهما : ورويت عن أبي عبد الرحمن : «نفعل» بالنون. «ما تشاء» بالتاء ، ورويت عن ابن عباس. فأما من قرأ بالنون فيهما ف (أَنْ) الثانية عطف على (ما) لا على (أَنْ) الأولى ، لأن المعنى يصير : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ وهذا قلب ما قصدوه. وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف (أَنْ) الثانية على (ما) لا على (أَنْ) الأولى ، قال بعض النحويين ، ويصح عطفها على (ما) ويتم المعنى في الوجهين.

قال القاضي أبو محمد : ويجيء (نَتْرُكَ) في الأول بمعنى نرفض ، وفي الثاني بمعنى نقرر ، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف ، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع ، وأما من قرأ بالنون في «نفعل» والتاء في «تشاء» ف (أَنْ) معطوفة على الأولى ، ولا يجوز أن تنعطف على (ما) لأن المعنى ـ أيضا ـ ينقلب ، فتدبره.


وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره ، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، قاله محمد بن كعب وغيره ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض ، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم ، وتؤول أيضا بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس.

واختلف في قولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) فقيل : إنما كانت ألفاظهم : إنك لأنت الجاهل السفيه ، فكنى الله عن ذلك وقيل : بل هذا لفظهم بعينه ، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء ـ قاله ابن جريج وابن زيد ـ وقيل المعنى : إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك. وقيل : بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه ، فكأنهم فندوه ، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر ، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة ، حين قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا إخوة القردة» ، يا محمد ما علمناك جهولا.

قال القاضي أبو محمد : والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه ، وبين ما بادر به محمد عليه‌السلام بني قريظة.

وقوله تعالى : (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) ، الآية ، هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه‌السلام ، قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك خطيب الأنبياء. وجواب الشرط الذي في قوله : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) محذوف تقديره : أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة؟ و (بَيِّنَةٍ) يحتمل أن تكون بمعنى : بيان أو بين ، ودخلت الهاء للمبالغة ـ كعلامة ـ ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف ، فتكون الهاء هاء تأنيث.

وقوله : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) يريد : خالصا من الفساد الذي أدخلتم أنتم أموالكم. ثم قال لهم : ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن ، فأستأثر بالمال لنفسي ، وما أريد إلا إصلاح الجميع ، و (أُنِيبُ) معناه : أرجع وأتوب وأستند.

قوله عزوجل :

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(٩٢)

(لا يَجْرِمَنَّكُمْ) معناه : لا يكسبنكم ، يقال : جرمه كذا وكذا وأجرمه إذا أكسبه ، كما يقال : كسب وأكسب بمعنى ، ومن ذلك قول الشاعر :


ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقرأ الجمهور «يجرمنكم» بفتح الياء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «يجرمنكم» بضمها ، و (شِقاقِي) معناه : مشاقتي وعداوتي ، و (أَنْ) مفعولة ب (يَجْرِمَنَّكُمْ).

وكانت قصة قوم لوط أقرب القصص عهدا بقصة قوم شعيب ، وقد يحتمل أن يريد وما منازل قوم لوط منكم ببعيد ، فكأنه قال : وما قوم لوط منكم ببعيد بالمسافة ، ويتضمن هذا القول ضرب المثل لهم بقوم لوط.

وقرأ الجمهور «مثل» بالرفع على أنه فاعل (يُصِبْكُمْ) وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق «مثل» بالنصب ، وذلك على أحد وجهين : إما أن يكون «مثل» فاعلا ، وفتحة اللام فتحة بناء لما أضيف لغير متمكن ، فإن «مثل» قد يجري مجرى الظروف في هذا الباب وإن لم يكن ظرفا محضا.

وإما أن يقدر الفاعل محذوفا يقتضيه المعنى ، ويكون «مثل» منصوبا على النعت لمصدر محذوف تقديره : إصابة مثل.

وقوله (وَاسْتَغْفِرُوا) الآية ، تقدم القول في مثل هذا من ترتيب هذا الاستغفار قبل التوبة. و (وَدُودٌ) معناه : أن أفعاله ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان إليهم كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له.

وقوله تعالى : (قالُوا : يا شُعَيْبُ) الآية ، (نَفْقَهُ) معناه : نفهم وهذا نحو قول قريش (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت : ٥] ومعنى : «ما نفقه ما تقول» أي ما نفقه صحة قولك ، وأما فقههم لفظه ومعناه فمتحصل ، وروي عن ابن جبير وشريك القاضي في قولهم : (ضَعِيفاً) أنه كان ضرير البصر أعمى ، وحكى الزهراوي : أن حمير تقول للأعمى : ضعيف ، كما يقال له : ضرير ، وقيل : كان ناحل البدن زمنه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ولا تقوم عليه حجة بضعف بصره أو بدنه ؛ والظاهر من قولهم : (ضَعِيفاً) أنه ضعيف الانتصار والقدرة ، وأن رهطه الكفرة كانوا يراعون فيه.

و «الرهط» جماعة الرجل ، ومنه الراهطاء لأن اليربوع يعتصم به كما يفعل الرجل برهطه. و (لَرَجَمْناكَ) قيل : معناه بالحجارة ـ وهو الظاهر وقاله ابن زيد ـ وقيل معناه : (لَرَجَمْناكَ) بالسب ـ وبه فسر الطبري. وهذا أيضا تستعمله العرب. ومنه قوله تعالى : (لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم: ٤٦] ، وقولهم (بِعَزِيزٍ) أي بذي منعة وعزة ومنزلة في نفوسنا.

وقوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي) الآية ، «الظهري» الشيء الذي يكون وراء الظهرك ، وقد يكون الشيء وراء الظهر بوجهين : في الكلام ، إما بأن يطرح ، كما تقول : جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر أذنك ومنه قول الفرزدق :

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي

بظهر فلا يعيى عليّ جوابها

وإما بأن يسند إليه ويلجأ. ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : «وألجأت ظهري


إليك» فقال جمهور المتأولين في معنى هذه الآية أنه : واتخذتم الله ظهريا أي غير مراعى وراء الظهر على معنى الاطراح ـ ورجحه الطبري.

قال القاضي أبو محمد : وهو عندي على حذف مضاف ولا بد ، وقال بعضهم : الضمير في قوله : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) عائد على أمر الله وشرعه ، إذ يتضمنه الكلام.

وقالت فرقة : المعنى : أترون رهطي أعز عليكم من الله وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.

قال القاضي أبو محمد : فقول الجمهور ـ على أن كان كفر قوم شعيب جحدا بالله تعالى وجهلا به. وهذا القول الثاني ـ على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ونحو هذا ؛ وهاتان الفرقتان موجودتان في الكفرة.

ومن اللفظة الاستظهار بالبيّنة ، وقد قال ابن زيد : «الظهري» : الفضل ، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها وإلا فهي فضلة.

قال القاضي أبو محمد : هذا كله مما يستند إليه.

وقوله (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) خبر في ضمنه توعد. ومعناه محيط علمه وقدرته.

قوله عزوجل :

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

(عَلى مَكانَتِكُمْ) معناه : على حالاتكم ، وهذا كما تقول : مكانة فلان في العلم فوق مكانة فلان ، يستعار من البقاع إلى المعاني.

وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم : «مكانتكم» بالجمع ، والجمهور على الإفراد.

وقوله : (اعْمَلُوا) تهديد ووعيد ، وهو نحو قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وقوله : (مَنْ يَأْتِيهِ) يجوز أن تكون (مَنْ) مفعولة ب (تَعْلَمُونَ) والثانية عطف عليها ، قال الفراء : ويجوز أن تكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء.

قال القاضي أبو محمد : الأول أحسن لأنها موصولة ولا توصل في الاستفهام ، ويقضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة ، والصحيح أن الوقف في قوله : (إِنِّي عامِلٌ) ثم ابتداء الكلام بالوعيد ، و (مَنْ) معمولة ل (تَعْلَمُونَ) وهي موصولة.


وقوله : (وَارْتَقِبُوا) كذلك تهديد أيضا.

وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) الآية ، «الأمر» هاهنا يصح أن يكون مصدر أمر ويصح أن يكون واحد الأمور. وقوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) إما أن يقصد الإخبار عن الرحمة التي لحقت شعيبا لنبوته وحسن عمله وعمل متبعيه ، وإما أن يقصد أن النتيجة لم تكن إلا بمجرد رحمة لا بعمل من أعمالهم ، وأما (الصَّيْحَةُ) فهي صيحة جبريل عليه‌السلام ، وروي أنه صاح بهم ، صيحة جثم لها كل واحد منهم في مكانه حيث سمعها ميتا قد تقطعت حجب قلبه ، و «الجثوم» أصله في الطائر إذا ضرب بصدره إلى الأرض ، ثم يستعمل في غيره إذا كان منه بشبه.

وقوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) الآية ، الضمير في قوله : (فِيها) عائد على «الديار» ، و (يَغْنَوْا) معناه : يقيمون بنعمة وخفض عيش ، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل ، وقوله : (أَلا) تنبيه للسامع ، وقوله : (بُعْداً) مصدر ، دعا به ، وهذا كما تقول : سقيا لك ورعيا لك وسحقا للكافر ونحو هذا ، وفارقت هذه قولهم : سلام عليك ، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل ، وتلك إنما هي دعاء مترجى : ومعنى «البعد» ـ في قراءة من قرأ «بعدت» بكسر العين ـ الهلاك ـ وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان : [الكامل]

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

ومنه قول مالك بن الريب : [الطويل]

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني

وأين مكان البعد إلا مكانيا

وأما من قرأ «بعدت» وهو السلمي وأبو حيوة ـ فهو من البعد الذي ضده القرب ، ولا يدعى به إلا على مبغوض.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ)(١٠٠)

«الآيات» : العلامات ، و «السلطان» : البرهان والبيان في الحجة ؛ قيل : هو مشتق من السليط الذي يستضاء به ، وقيل : من أنه مسلط على كل مناو ومخاصم ، و «الملأ» : الجمع من الرجال والمعنى : أرسلناه إليهم ليؤمنوا بالله تعالى ، فصدهم فرعون فاتبعوا أمره ولم يؤمنوا وكفروا ، ثم أخبر تعالى عن أمر فرعون أنه ليس (بِرَشِيدٍ) أي ليس بمصيب في مذهبه ولا مفارق للسفاهة.


وقوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ، أخبر الله تعالى في هذه الآية عن فرعون أنه يأتي يوم القيامة مع قومه المغرقين معه ، وهو يقدمهم إلى النار : وأوقع الفعل الماضي في (فَأَوْرَدَهُمُ) موقع المستقبل ، لوضوح الأمر وارتفاع الإشكال عنه ، ووجه الفصاحة من العرب في أنها تضع أحيانا الماضي موضع المستقبل أن الماضي أدل على وقوع الفعل وحصوله ، و «الورود» في هذه الآية هو ورود الدخول وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣] وقال ابن عباس : في القرآن أربعة أوراد : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] وهذه في مريم ، وفي الأنبياء : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] قال : وهي كلها ورد دخول ، ثم ينجي الله الذين اتقوا و (الْمَوْرُودُ) صفة لمكان الورد ـ على أن التقدير : (وَبِئْسَ) مكان (الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) ـ وقيل : (الْمَوْرُودُ) ابتداء والخبر مقدم ، والمعنى : المورود بئس الورد.

وقوله : (فِي هذِهِ) يريد دار الدنيا ، و «اللعنة» إبعادهم بالغرق والاستئصال وقبيح الذكر غابر الدهر ، وقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يلعنون أيضا بدخولهم في جهنم ، قال مجاهد : فلهم لعنتان ، وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا ، وقبح إرفاد آخرا ، وقوله : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطي لهم ، و (الرِّفْدُ) في كلام العرب : العطية وسمي العذاب هنا رفدا لأن هذا هو الذي حل محل الرفد ، وهذا كما تقول : يا فلان لم يكن خيرك إلا أن تضربني أي لم يكن الذي حل محل الخير منك ، والإرفاد : المعونة. ومنه رفادة قريش : معونتهم لفقراء الحج بالطعام الذي كانوا يطعمونه في الموسم.

وقوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ) الغيب الآية ، (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة ، و «الأنباء» الأخبار. و (الْقُرى) يحتمل أن يراد بها القرى التي ذكرت في الآيات المتقدمة خاصة ، ويحتمل أن يريد القرى عامة ، أي هذه الأنباء المقصوصة عليك هي عوائد المدن إذا كفرت ، فيدخل ـ على هذا التأويل ـ فيها المدن المعاصرة ، ويجيء قوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) منها عامر ودائر ، وهذا قول ابن عباس : وعلى التأويل الأول ـ في أنها تلك القرى المخصوصة ـ يكون قوله : (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) بمعنى قائم الجدرات ومتهدم لا أثر له ، وهذا قول قتادة وابن جريج ، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم.

قوله عزوجل :

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ


النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(١٠٥)

المعنى : وما وضعنا عندهم من التعذيب ما لا يستحقونه ، لكنهم ظلموا أنفسهم بوضعهم الكفر موضع الإيمان ، والعبادة في جنبة الأصنام ، فما نفعتهم تلك الأصنام ولا دفعت عنهم حين جاء عذاب الله.

وال (تَتْبِيبٍ) الخسران ، ومنه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] ومنه قول جرير : [الوافر]

عرابية من بقية قوم لوط

ألا تبا لما فعلوا تبابا

وصورة زيادة الأصنام التتبيب ، إنما يتصور : إما بأن تأهيلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم وصرفتها عن النظر في الشرع وعاقتها ، فلحق عن ذلك عنت وخسران ، وإما بأن عذابهم على الكفر يزاد إليه عذاب على مجرد عبادة الأوثان.

وقوله (وَكَذلِكَ) الإشارة إلى ما ذكر من الأحداث في الأمم ، وهذه آية وعيد تعم قرى المؤمنين ، فإن (ظالِمَةٌ) أعم من كافرة ، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة ، وأما الظلمة ـ في الغالب فمعاجلون أما أنه يملى لبعضهم ، وفي الحديث ـ من رواية أبي موسى ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) الآية.

وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري «ربّك إذا أخذ القرى» وهي قراءة متمكنة المعنى ولكن قراءة الجماعة تعطي بقاء الوعيد واستمراره في الزمان ، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) المعنى : أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل ، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى ، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما ، ويعود الضمير عليه ، و (النَّاسُ) ـ على هذا ـ مفعول لم يسم فاعله ، ويصح أن يكون (النَّاسُ) رفعا بالابتداء و (مَجْمُوعٌ) خبر مقدم.

وهذه الآية خبر عن الحشر ، و (مَشْهُودٌ) عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان ، في قول الجمهور ، وفيه ـ أعني الحيوان الصامت ـ اختلاف ، وقال ابن عباس : الشاهد : محمد عليه‌السلام ، و «المشهود» يوم القيامة.

وقوله : (وَما نُؤَخِّرُهُ) الآية ، المعنى وما نؤخر يوم القيامة عجزا عن ذلك ، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

وقرأ الجمهور «نؤخره» بالنون ، وقرأ الأعمش «يؤخره» بالياء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة «يوم يأت» بحذف الياء من «يأتي» في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير بإثباتها في الوصل والوقف ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف ، ورويت أيضا كذلك عن ابن كثير ، والياء ثابتة في مصحف أبي بن كعب ، وسقطت في إمام عثمان ، وفي مصحف ابن مسعود «يوم يأتون» ، وقرأ بها


الأعمش ، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل ، وإثباتها في الوجهين هو الأصل ، ووجه حذفها في الوصل التخفيف كما قالوا في لا أبال ولا أدر ، وأنشد الطبري :

كفاك كف ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

وقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يصح أن تكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في «يأتي» وهو العائد على قوله : (ذلِكَ يَوْمٌ) ، ولا يجوز أن يعود على قوله : «يوم يأتي» لأن اليوم المضاف إلى الفعل لا يكون فاعل ذلك الفعل ، إذ المضاف متعرف بالمضاف إليه ، والفعل متعرف بفاعله ، وليس في نفسه شيئا مقصودا مستقلا دون الفاعل ، وقولهم : سيد قومه ومولى أخيه وواحد أمه ـ مفارق لما لا يستقل ، فلذلك جازت الإضافة فيها ، ويكون قوله ـ على هذا ـ «يوم يأتي» في موضع الرفع بالابتداء وخبره : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وفي الكلام ـ على هذا ـ عائد محذوف تقديره : لا تكلم نفس فيه إلا ، ويصح أن يكون قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) صفة لقوله : «يوم يأتي» ، والخبر قوله : (فَمِنْهُمْ) ، ويصح أن يكون قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) ، خبرا عن قوله : «يوم يأتي».

وقوله : (ذلِكَ يَوْمٌ) يراد به اليوم الذي قبله ليلته ، وقوله «يوم يأتي» يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه ، فهو كما قال عثمان : إني رأيت ألا أتزوج يومي هذا ، وكما قال الصديق رضي الله عنه : فإن الأمانة اليوم في الناس قليل.

ومعنى قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة ، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل ، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة ، وقوله (فَمِنْهُمْ) عائد على الجميع الذي تضمنه قوله : (نَفْسٌ) إذ هو اسم جنس يراد به الجمع.

قوله عزوجل :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١٠٨)

قوله : (الَّذِينَ شَقُوا) على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية يراد به كل من يعذب من كافر وعاص ـ وعلى بعضها ـ كل من يخلد ، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة.

وال (زَفِيرٌ) : صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه ، وال (شَهِيقٌ) كذلك. كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه ، وقال ابن عباس : «الزفير» : صوت حاد. و «الشهيق» صوت ثقيل ، وقال أبو العالية «الزفير» من الصدر و «الشهيق» من الحلق وقيل : بالعكس. وقال قتادة «الزفير» : أول صوت الحمار. و «الشهيق» : آخره. فصياح أهل النار كذلك. وقيل «الزفير» : مأخوذ من الزفر وهو الشدة ،


و «الشهيق» : من قولهم : جبل شاهق أي عال. فهما ـ على هذا المعنى ـ واحد أو متقارب ، والظاهر ما قال أبو العالية : فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفع معها النفس أحيانا ، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه.

وأما قوله (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة ، ويجعل الأرض مكانا لجهنم والسماء مكانا للجنة ، ويتأبد ذلك ، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه ؛ ويروى عن ابن عباس أنه قال : إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة ، فلهما ثم بقاء دائم ، وقيل معنى قوله (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب ، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول : لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر ، وما ناح الحمام و (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، ونحو هذا مما يريدون به طولا من غير نهاية ، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض.

وأما قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فقيل فيه : إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ـ إِنْ شاءَ اللهُ ـ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع ، ويؤيد هذا قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها فهم ـ على هذا ـ يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مختل ، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمي جهنم ، وسمي الكل به تجوزا.

وقيل : إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ، فيجيء قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي لقوم ما ، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم ، وعلى هذا فيكون قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) عاما في الكفرة والعصاة ـ كما قدمنا ـ ويكون الاستثناء من (خالِدِينَ) ، وقيل : (إِلَّا) بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاء الله زائدا على ذلك ، ونحو هذا قول الشاعر : [الوافر]

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال القاضي أبو محمد : وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم ، وأما إن كان قائله من دهرية العرب فلا حجة فيه ، إذ يرى ذلك مؤبدا فأجرى «إلا» على بابها.

وقيل (إِلَّا) في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع ، كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك ، فكأنه قال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) سوى ما شاء الله زائدا على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى» ؛ وسيبويه يقدره ب «لكن» ؛ وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه ، وقيل استثناء من مدة السماوات : المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا ؛


وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة ؛ وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولهم إنما هو زمرا بعد زمر ؛ وقيل : الاستثناء من قوله : (فَفِي النَّارِ) كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري.

ثم أخبر منبها على قدرة الله تعالى بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ «سعدوا» بفتح السين ، وهو فعل لا يتعدى ؛ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم ـ في رواية حفص ـ «سعدوا» بضم السين ، وهي شاذة ولا حجة في قولهم : مسعود ، لأنه مفعول من أسعد على حذف الزيادة كما يقال : محبوب ، من أحب ، ومجنون من أجنه الله ، وقد قيل في مسعود : إنما أصله الوصف للمكان ، يقال : مكان مسعود فيه ثم نقل إلى التسمية به ؛ وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول : سعده الله بمعنى أسعده. وبضم السين قرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش.

والأقوال المترتبة في استثناء التي قبل هذه تترتب هاهنا إلا تأويل من قال : هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم ، فإنه لا يترتب مثله في هذه الآية ، ويزيد هنا قول : أن يكون الاستثناء في المدة التي يقيمها العصاة في النار ؛ ولا يترتب أيضا تأويل من قال في تلك : إن الاستثناء هو من قوله : (فَفِي النَّارِ).

وقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، نصب على المصدر ، و «المجذوذ» : المقطوع. و «الجذ» : القطع وكذلك «الجد» وكذلك «الحز».

قوله عزوجل :

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١)

لفظ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى له ولأمته ، ولم يقع لأحد شك فيقع عنه نهي ولكن من فصاحة القول في بيان ضلالة الكفرة إخراجه في هذه العبارة ، أي حالهم أوضح من أن يمترى فيها ، وال (مِرْيَةٍ) : الشك ، و (هؤُلاءِ) إشارة إلى كفار العرب عبدة الأصنام ؛ ثم قال : (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ). المعنى : أنهم مقلدون لا برهان عندهم ولا حجة ، وإنما عبادتهم تشبها منهم بآبائهم لا عن بصيرة ؛ وقوله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) وعيد ، ومعناه : العقوبة التي تقتضيها أعمالهم ، ويظهر من قوله : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أن على الأولين كفلا من كفر الآخرين.

وقرأ الجمهور «لموفّوهم» بفتح الواو وشد الفاء ، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» بسكون الواو وتخفيف الفاء.


وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية ، تسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر قصة موسى مثل له ، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك ، فهذه هي سيرة الأمم ، فقد جاء موسى ، بكتاب فاختلف الناس عليه.

وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) إلى آخر الآية ، يحتمل أن يريد به أمة موسى ، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه‌السلام ؛ وأن يعمهم اللفظ أحسن ـ عندي ـ ويؤكد ذلك قوله : (وَإِنَّ كُلًّا) و «الكلمة» هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفصل بين المؤمن والكافر ، بنعيم هذا وعذاب هذا .... ووصف «الشك» بالمريب تقوية لمعنى الشك.

وقرأ الكسائي وأبو عمرو : «وإنّ كلّا لما» بتشديد النون وتخفيف الميم من (لَمَّا) وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما ، وقرأ حمزة بتشديدهما ، وكذلك حفص عن عاصم ؛ وقرأ عاصم ـ في رواية أبي بكر ـ بتخفيف «إن» وتشديد الميم من «لمّا» وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : «وإن كلّا لمّا» بتشديد الميم وتنوينها. وقرأ الحسن بخلاف : «وإن كلّ لما» بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وشد «لمّا» وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف «لما» ، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود «وإن كل إلا ليوفينهم» وهي قراءة الأعمش ، قال أبو حاتم : الذي في مصحف أبيّ : «وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم». فأما الأول ف «إن» فيها على بابها ، و «كلّا» اسمها ، وعرفها أن تدخل على خبرها لام. وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر «إن» فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب «ما» ـ هذا قول أبي علي ـ والخبر في قوله (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، وقال بعض النحاة : يصح أن تكون «ما» خبر «إن» وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف ، فهي بمنزلة من ، كأنه قال : وإن كلّا لخلق ليوفينهم ؛ ورجح الطبري هذا واختاره ، اما أنه يلزم القول أن تكون «ما» موصوفة إذ هي نكرة ، كما قالوا : مررت بما معجب لك ، وينفصل بأن قوله : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) يقوم معناه مقام الصفة ، لأن المعنى : وإن كلّا لخلق موفى عمله ، وأما من خففها ـ وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم «إن» وهي مخففة حكمها مثقلة ، وتلك لغة فصيحة ، حكى سيبويه أن الثقة أخبره : أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمرا لمنطلق وهو نحو قول الشاعر :

ووجه مشرق النحر

كأن ثدييه حقان

رواه أبو زيد.

ويكون القول في فصل «ما» بين اللامين حسبما تقدم ، ويدخلها القول الآخر من أن تكون «ما» خبر «إن» وأما من شددهما أو خفف «إن» وشدد «الميم» ففي قراءتيهما إشكال ، وذلك أن بعض الناس قال : إن «لما» بمعنى إلا ، كما تقول : سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت قال أبو علي : وهذا ضعيف لأن «لما» هذه لا تفارق القسم ، وقال بعض الناس : المعنى لمن ما أبدلت النون ميما ، وأدغمت في التي بعدها فبقي «لمما» فحذفت الأولى تخفيفا لاجتماع الأمثلة ، كما قرأ بعض القراء (وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ) [النحل : ٩٠] به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر :

وأشمت العداة بنا فأضحوا

لدى يتباشرون بما لقينا


قال أبو علي وهذا ضعيف ؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله : (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا.

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض الناس أصلها : لمن ما ، ف «من» خبر «إن» و «ما» زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله : لمن ما ، ف «ما» هي الخبر دخلت عليها «من» على حد دخولها في قول الشاعر :

وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم

وقالت فرقة «لما» أصلها «لما» منونة ، والمعنى : وإن كلا عاما حصرا شديدا ، فهو مصدر لم يلم ، كما قال : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً «لَمًّا») [الفجر : ١٩] أي شديدا قالت : ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرىء : تترى.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، حكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل في «لما» ، قال أبو علي : وأما من قرأ «لمّا» بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا ، وأما من قرأ : «وإن كل لما» فهي المخففة من الثقيلة ، وحقها ـ في أكثر لسان العرب ـ أن يرتفع ما بعدها ، و «لما» هنا بمعنى إلا ، كما قرأ جمهور القراء : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤]. ومن قرأ «إلا» مصرحة فمعنى قراءته واضح ، وهذه الآية وعيد.

وقرأ الجمهور : «يعملون» بياء على ذكر الغائب ، وقرأ الأعرج «تعملون» بتاء على مخاطبة الحاضر.

قوله عزوجل :

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

أمر النبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت ، وهذا كما تأمر إنسانا بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر ، ولسائر أمته بالمعنى ، وروي أن بعض العلماء رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال له : يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت : شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود؟ قال له : قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

قال القاضي أبو محمد : والتأويل المشهور في قوله عليه‌السلام : شيبتني هود وأخواتها ـ أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة ، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه‌السلام.

وقوله : (أُمِرْتَ) مخاطبة تعظيم ، وقوله : (وَمَنْ) معطوف على الضمير في قوله : (فَاسْتَقِمْ) ،


وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله : (كَما أُمِرْتَ). و (لا تَطْغَوْا) معناه : ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى ، و «الطغيان» : تجاوز الحد ومنه قوله : (طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١] وقوله في فرعون : (إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤ ـ ٤٣ ، النازعات : ١٧] ، وقيل في هذه معناه : ولا تطغينكم النعم ، وهذا كالأول.

وقرأ الجمهور «تعملون» بتاء ، وقرأ الحسن والأعمش «يعملون» بياء من تحت ـ وقرأ الجمهور : «ولا تركنوا» بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو ـ فيما روى عنه هارون ـ بضمها ، وهو لغة ، يقال : ركن يركن وركن يركن ، ومعناه السكون ، إلى الشيء والرضا به قال أبو العالية : «الركون» : الرضا. قال ابن زيد : «الركون» : الإدمان.

قال القاضي أبو محمد : فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره ، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة ، و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هنا هم الكفار ، وهو النص للمتأولين ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.

وقرأ الجمهور «فتمسكم» ، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمة والأعمش وابن مصرف وحمزة ـ فيما روي عنه ـ «فتمسكم» بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب ، وقد جاء في الياء ييجل وييبى ، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر.

وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية ، لم يختلف أحد في أن (الصَّلاةَ) في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة ، واختلف في (طَرَفَيِ النَّهارِ) وزلف الليل فقيل : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء ، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في المغرب والعشاء : «هما زلفتا الليل». وقيل : الطرف الأول : الصبح ، والثاني : العصر ، قاله الحسن وقتادة والضحاك ، والزلف : المغرب والعشاء ، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول ـ بل هي في غيرها ، وقيل الطرفان : الصبح والمغرب ـ قاله ابن عباس والحسن ـ أيضا ـ والزلف : العشاء ، وليست في الآية الظهر والعصر. وقيل : الطرفان : الظهر والعصر ، والزلف : المغرب والعشاء والصبح.

قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القائل راعى جهر القراءة ، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين : الصبح والمغرب ، وأنه الظاهر ، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى.

وقرأ الجمهور «زلفا» بفتح اللام ، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر : «زلفا» بضم اللام كأنه اسم مفرد. وقرأ «زلفا» بسكون اللام مجاهد ، وقرأ أيضا : «زلفى» على وزن ـ فعلى ـ وهي قراءة ابن محيصن. والزلف : الساعات القريب بعضها من بعض. ومنه قول العجاج : [الرجز]

ناج طواه الأين مما وجفا

طي الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

وقوله (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن (الْحَسَناتِ) يراد بها الصلوات الخمس ـ وإلى هذه الآية ذهب عثمان ـ رضي الله عنه ـ عند وضوئه على


المقاعد وهو تأويل مالك ، وقال مجاهد : (الْحَسَناتِ) : قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقولهعليه‌السلام : «ما اجتنبت الكبائر».

وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عباد ، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه ، فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك ، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى معه ، ثم أخبره وقال : اقض فيّ ما شئت ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله ، قال : نعم ، فوبخه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما أدري ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاها عليه : فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله خاصة؟ قال : بل للناس عامة. وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجمعة إلى الجمعة ، والصلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان ـ كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر». فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله : «إن اجتنبت الكبائر» ، فقال جمهورهم : هو شرط في معنى الوعد كله ، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب ، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئا من الصغائر. وقالت فرقة : معنى قوله إن اجتنبت : أي هي التي لا تحطها العبادات ، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله : ما بينهما ، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.

قال القاضي أبو محمد : وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره ؛ وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص الحذاق الأصوليين. وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.

وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات ، ووصفها ب (ذِكْرى) ، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وهو تفسير الطبري.

ثم أمره تعالى بالصبر ، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد : أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن ، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه ، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى ، ثم وعد بقوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).


قوله عزوجل :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)

لو لا هي التي للتحضيض ـ لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] ، و (الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره ، والقرن من الناس : المقترنون في زمان طويل أكثره ـ فيما حد الناس ـ مائة سنة ، وقيل ثمانون وقيل غير ذلك إلى ثلاثين سنة ؛ والأول أرجح لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد». قال ابن عمر : يريد أنها تخرم ذلك القرن و (بَقِيَّةٍ) هنا يراد بها النظر والعقل والحزم والثبوت في الدين ، وإنما قيل : (بَقِيَّةٍ) لأن الشرائع والدول ونحوها ـ قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول.

وقرأت فرقة : «بقية» بتخفيف الياء وهو رد فعيلة إلى فعلة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف على وزن فعلة.

و (الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) هو الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم. و (قَلِيلاً) نصب على الاستثناء وهو منقطع عند سيبويه ، والكلام عنده موجب ، وغيره يراه منفيا من حيث معناه أنه لم يكن فيهم أولو بقية.

وقرأ جمهور الناس «واتبع» على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ حفص بن محمد : «واتبع» على بنائه للمفعول ، ورويت عن أبي عمرو.

و (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي عاقبة ما نعموا به ـ على بناء الفعل للمفعول ـ والمترف : المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك ومنه قول الشاعر :

تحيي رؤوس المترفين الصداد

إلى أمير المؤمنين الممتاد

يريد المسئول ، يقال ماده : إذا سأله. وقوله : (بِظُلْمٍ) ، يحتمل أن يريد بظلم منه لهم ـ تعالى عن ذلك ـ قال الطبري : ويحتمل أن يريد : بشرك منهم ، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم في بعض ، أي أنهم لا بد من معصية تقترن بكفرهم.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متجها ، أي ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان ، والاحتمال الأول في ترتيبنا أصح إن شاء الله.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

المعنى : لجعلهم أمة واحدة مؤمنة ـ قاله قتادة ـ حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة ، ولكنه عزوجل لم يشأ ذلك ، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل ـ هذا تأويل الجمهور ـ قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم : المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف. وقالت فرقة : (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في السعادة والشقاوة ، وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والاختلاف فيها ، ويكون الاختلاف ـ على هذا التأويل ـ يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة ؛ وقال الحسن أيضا : لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية ، ثم استثنى الله تعالى من الضمير في (يَزالُونَ) من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له.

وقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة : ولشهود اليوم المشهود ـ المتقدم ذكره ـ خلقهم ، وقالت فرقة : ذلك إشارة إلى قوله ـ قبل ـ (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] أي لهذا خلقهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد ؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال : ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

قال القاضي أبو محمد : فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين : الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ويجيء ـ عليه ـ الضمير في (خَلَقَهُمْ) للصنفين وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي وللرحمة خلق المرحومين ، قال الحسن ، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ).

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن يقال : كيف خلقهم للاختلاف؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم؟ فالوجه في الانفصال أن نقول : إن قاعدة الشرع أن الله عزوجل خلق خلقا للسعادة وخلقا للشقاوة ، ثم يسر كلّا لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في


الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب ، فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم : أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة. ويصح أن يجعل اللام في قوله : (وَلِذلِكَ) لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أي لآمرهم بالعبادة ، وأوجبها عليهم ، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه.

وقوله ، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، واللام في (لَأَمْلَأَنَ) لام قسم إذ «الكلمة» تتضمن القسم. و «الجن» جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء» في (بِالْجَنَّةِ) للمبالغة. وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه.

قوله عزوجل :

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

قوله : (وَكُلًّا) مفعول مقدم ب (نَقُصُ) وقيل : هو منصوب على الحال ، وقيل على المصدر.

قال القاضي أبو محمد : وهذان ضعيفان ، و (ما) بدل من قوله : (كُلًّا) ، و (نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي نؤنسك فيما تلقاه ، ونجعل لك الأسوة في من تقدمك من الأنبياء ، وقوله : (فِي هذِهِ) قال الحسن : هي إشارة إلى دار الدنيا ، وقال ابن عباس : إلى السورة والآيات التي فيها ذكر قصص الأمم ، وهذا قول الجمهور.

قال القاضي أبو محمد : ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها ب (الْحَقُ) ـ والقرآن كله حق ـ أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر ، أي جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة ، وهذا كما يقال عند الشدائد : جاء الحق وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه ، ولا يستعمل في ذلك : جاء الحق ، ثم وصف أيضا أن ما تضمنته السورة هي (مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ؛ فهذا يؤيد أن لفظة (الْحَقُ) إنما تختص بما تضمنت من وعيد للكفرة.

وقوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ، هذه آية وعيد ، أي (اعْمَلُوا) على حالاتكم التي أنتم عليها من كفركم.


وقرأ الجمهور هنا : (مَكانَتِكُمْ) واحدة دالة على جمع وألفاظ هذه الآية تصلح للموادعة ، وتصلح أن تقال على جهة الوعيد المحض والحرب قائمة.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه ، وهو علم الغيب ، وتبيين أن الخير والشر ، وجليل الأشياء وحقيرها ـ مصروف إلى أحكام مالكه ، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى ، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله.

وقرأ السبعة ـ غير نافع ـ «يرجع الأمر» على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ نافع وحفص عن عاصم : «يرجع الأمر» على بنائه للمفعول ورواها ابن أبي الزناد عن أهل المدينة ، وقرأ «تعملون» بالتاء من فوق ، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعرج والحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمرو وقتادة والجحدري ، واختلف عن الحسن وعيسى ، وقرأ الباقون «يعلمون» بالياء على كناية الغائب.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يوسف

هذه السورة مكية ، ويروى أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة بسبب ذلك ؛ ويروى أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة ؛ وقيل : سبب نزولها تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف ، وسورة يوسف لم يتكرر من معناها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء ، ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول ، وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه : لو كررت لفترت فصاحتها.

قوله عزوجل :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)

تقدم القول في فواتح السور ، و (الْكِتابِ) القرآن ، ووصفه ب (الْمُبِينِ) قيل : من جهة أحكامه وحلاله وحرامه ، وقيل : من جهة مواعظة وهداه ونوره ، وقيل : من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان ـ روي هذا القول عن معاذ بن جبل ـ ويحتمل أن يكون مبينا لنبوة محمد بإعجازه.

والصواب أنه «مبين» بجميع هذه الوجوه. والضمير في قوله : (أَنْزَلْناهُ) ل (الْكِتابِ) ، والإنزال : إما بمعنى الإثبات ، وإما أن تتصف به التلاوة والعبارة ؛ وقال الزجاج : الضمير في (أَنْزَلْناهُ) يراد به خبر يوسف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ) يحتمل أن تتعلق ب (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلناه لعلكم ، ويحتمل أن تتعلق بقوله : (عَرَبِيًّا) أي جعلناه (عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، إذ هو لسانكم. و (قُرْآناً) حال ، و (عَرَبِيًّا) صفة له ، وقيل : إن (قُرْآناً) بدل من الضمير ـ وهذا فيه نظر ـ وقيل : (قُرْآناً) توطئة للحال و (عَرَبِيًّا) حال ، وهذا كما تقول : مررت بزيد رجلا صالحا ، وقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الآية ، روى ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملوا ملة فقالوا : لو قصصت


علينا يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، ثم ملوا ملة أخرى فقالوا : لو حدثتنا يا رسول الله ، فنزلت (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) [الزمر : ٢٣].

و (الْقَصَصِ) : الإخبار بما جرى من الأمور ، كأن الأنباء تتبع بالقول ، وتقتص بالأخبار كما يقتص الآخر ، وقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بوحينا. و (الْقُرْآنَ) نعت ل (هذَا) ، ويجوز فيه البدل ، وعطف البيان فيه ضعيف. و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام في خبرها لام التأكيد ـ هذا مذهب البصريين ـ ومذهب أهل الكوفة أن (إِنْ) بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا. والضمير في (قَبْلِهِ) للقصص العام لما في جميع القرآن منه. ومن (الْغافِلِينَ) ، أي عن معرفة هذا القصص. ومن قال : إن الضمير في (قَبْلِهِ) عائد على (الْقُرْآنَ) ، جعل من (الْغافِلِينَ) في معنى قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] أي على طريق غير هذا الدين الذي بعثت به ، ولم يكن عليه‌السلام في ضلال الكفار ولا في غفلتهم لأنه لم يشرك قط ، وإنما كان مستهديا ربه عزوجل موحدا ، والسائل عن الطريق المتخير يقع عليه في اللغة اسم ضال.

قوله عزوجل :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

العامل في (إِذْ) فعل مضمر تقديره : اذكر (إِذْ) ويصح أن يعمل فيه (نَقُصُ) [يوسف : ٣] كأن المعنى : نقص عليك الحال (إِذْ) وحكى مكي أن العامل فيه (لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣] ، وهذا ضعيف.

وقرأ طلحة بن مصرف «يوسف» بالهمز وفتح السين ـ وفيه ست لغات : «يوسف» بضم الياء وسكون الواو وبفتح السين وبضمها وبكسرها وكذلك بالهمز. وقرأ الجمهور «يا أبت» بكسر التاء حذفت الياء من أبي وجعلت التاء بدلا منها ، قاله سيبويه ، وقرأ ابن عامر وحده وأبو جعفر والأعرج : «يا أبت» بفتحها ، وكان ابن كثير وابن عامر يقفان بالهاء ؛ فأما قراءة ابن عامر بفتح التاء فلها وجهان : إما أن يكون : «يا أبتا» ، ثم حذفت الألف تخفيفا وبقيت الفتحة دالة على الألف ، وإما أن يكون جاريا مجرى قولهم : يا طلحة أقبل ، رخموه ثم ردوا العلامة ولم يعتد بها بعد الترخيم ، وهذا كقولهم : اجتمعت اليمامة ثم قالوا : اجتمعت أهل اليمامة ، فردوا لفظة الأهل ولم يعتدوا بها ، وقرأ أبو جعفر والحسن وطلحة بن سليمان : «أحد عشر كوكبا» بسكون العين لتوالي الحركات ، ويظهر أن الاسمين قد جعلا واحدا.

وقيل : إنه قد رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب إخوته وأبويه ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : الإخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة ، وقيل إنما كان رأى إخوته وأبويه فعبر عنهم بالكواكب والشمس والقمر ، وهذا ضعيف ترجم به الطبري ، ثم أدخل عن قتادة والضحاك وغيرهما كلاما محتملا أن يكون كما ترجم وأن يكون مثل قول الناس ، وقال المفسرون : (الْقَمَرَ) تأويله : الأب ، و (الشَّمْسَ) تأويلها : الأم ، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب ، وحكى الطبري عن


جابر بن عبد الله أن يهوديا يسمى بستانة جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه‌السلام ، فسكت عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل جبريل عليه‌السلام فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهودي ، فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ قال : نعم ، قال : حربان ، والطارق ، والذيال ، وذا الكنفان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان والفليق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها.

وتكرر (رَأَيْتُهُمْ) لطول الكلام وجرى ضمائر هذه الكواكب في هذه الآية مجرى ضمائر من يعقل إنما كان لما وصفت بأفعال هي خاصة بمن يعقل.

وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة ، وأنها خرجت بعد أربعين سنة ، وقيل : بعد ثمانين سنة.

قوله عزوجل :

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّمُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه‌السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته ، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم ، فيعملوا الحيلة على هلاكه ، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف ـ الذي يأتي ذكره ـ يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت. ووقع في كتاب الطبري لابن زيد: أنهم كانوا أنبياء ؛ وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الأباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله.

ثم أعلمه : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه.

وأمال الكسائي (رُؤْياكَ) ، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه : أنه لم يمل : (رُؤْياكَ) في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت ، وقرأ «روياك» بغير همز ـ وهي لغة أهل الحجاز ـ ولم يملها الباقون حيث وقعت.

و «الرؤيا» مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم : لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم ، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر.

وقوله : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ) الآية ، ف (يَجْتَبِيكَ) معناه : يختارك ويصطفيك ، ومنه : جبيت الماء في الحوض ، ومنه : جباية المال ، وقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال مجاهد والسدي : هي عبارة الرؤيا. وقال الحسن : هي عواقب الأمور. وقيل : هي عامة لذلك وغيره من المغيبات. وقوله : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ)


يريد النبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم. وقوله : (آلِ يَعْقُوبَ) يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي من نسله ، أي يجعل فيهم النبوءة ، ويروى أن ذلك إنما علمه يعقوب من دعوة إسحاق له حين تشبه له بعيصو ـ والقصة كاملة في كتاب النقاش لكني اختصرتها لأنه لم ينبل ألفاظها وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل ، فإنها قصة مشهورة عندهم ، وباقي هذه الآية بيّن. و «النعمة» على يوسف كانت تخليصه من السجن وعصمته والملك الذي نال ؛ وعلى (إِبْراهِيمَ) هي اتخاذه خليلا ؛ وعلى (إِسْحاقَ) فديته بالذبح العظيم ، مضافا ذلك كله إلى النبوءة. و (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مناسبتان لهذا الوعد.

قوله عزوجل :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

قرأ الجمهور «آيات» بالجمع ، وقرأ ابن كثير ـ وحده ـ «آية» بالإفراد ، وهي قراءة مجاهد وشبل وأهل مكة ؛ فالأولى : على معنى أن كل حال من أحواله آية فجمعها. والثانية : على أنه بجملته آية ، وإن تفصل بالمعنى ، ووزن «آية» فعلة أو فعلة أو فاعلة على الخلاف فيه ، وذكر الزجّاج : أن في غير مصحف عثمان : «عبرة للسائلين» ؛ قال أبو حاتم : هو في مصحف أبيّ بن كعب.

وقوله : (لِلسَّائِلِينَ) يقتضي حضا ما على تعلم هذه الأنباء ، لأنه إنما المراد آية للناس ، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. ويصح أيضا أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي. وقولهم : (وَأَخُوهُ) يريدون به : يامين ـ وهو أصغر من يوسف ـ ويقال له : بنيامين ، وقيل : كان شقيق يوسف وكانت أمهما ماتت ، ويدل على أنهما شقيقان تخصيص الأخوة لهما ب (أَخُوهُ) وهي دلالة غير قاطعة. وكان حب يعقوب ليوسف عليه‌السلام ويامين لصغرهما وموت أمهما ، وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر ؛ وقد قيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم ، والمريض حتى يفيق.

وقولهم : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي نحن جماعة تضر وتنفع ، وتحمي وتخذل ، أي لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة. و «العصبة» في اللغة : الجماعة ، قيل : من عشرة إلى خمسة عشر ، وقيل : من عشرة إلى أربعين ، وقال الزجاج : العشرة ونحوهم ، وفي الزهراوي : الثلاثة : نفر ـ فإذا زادوا فهم : رهط إلى التسعة ، فإذا زادوا فهم : عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة : عصبة. وقولهم : (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لفي اختلاف وخطأ في محبة يوسف وأخيه ، وهذا هو معنى الضلال ، وإنما يصغر قدره أو يعظم بحسب الشيء الذي فيه يقع الائتلاف. و (مُبِينٍ) معناه : يظهر للمتأمل.


وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة «مبين اقتلوا» بكسر التنوين في الوصل لالتقاء ساكن التنوين والقاف ، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «مبين اقتلوا» بكسر النون وضم التنوين اتباعا لضمة التاء ومراعاة لها.

وقوله : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) الآية ، كانت هذه مقالة بعضهم. (أَوِ اطْرَحُوهُ) معناه : أبعدوه ، ومنه قول عروة بن الورد :

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا

يغرر ويطرح نفسه كل مطرح

والنوى : الطروح البعيدة ، و (أَرْضاً) مفعول ثان بإسقاط حرف الجر ، لأن طرح ـ لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك. وقالت فرقة : هو نصب على الظرف ـ وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه.

وقوله : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) استعارة ، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم ، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه : الثكل أرأمها ، أي عطفها عليه ، والضمير في (بَعْدِهِ) عائد على يوسف أو قتله أو طرحه ، و (صالِحِينَ) قال السدي ومقاتل بن سليمان : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم ، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء ، وقال الجمهور : (صالِحِينَ) معناه بالتوبة ، وهذا هو الأظهر من اللفظ ، وحالهم أيضا تعطيه ، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة ؛ والقائل منهم قيل : هو روبيل ـ أسنهم ـ قاله قتادة وابن إسحاق ، وقيل : يهوذا أحلمهم ، وقيل شمعون أشجعهم ، قاله مجاهد ، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه. و «الغيابة» ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئا آخر.

وقرأ الجمهور : «غيابة الجب» ، وقرأ نافع وحده «غيابات الجب» ، وقرأ الأعرج «غيّابات الجب» بشد الياء ، قال أبو الفتح : هو اسم جاء على فعالة ، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه ، ووجدت أنا من ذلك : التيار للموج والفجار للخزف.

قال القاضي أبو محمد : وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل.

وقرأ الحسن : «في غيبة الجب» على وزن فعلة ، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر ـ وهو المنخل ـ

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

و (الْجُبِ) البئر التي لم تطو لأنها جبت من الأرض فقط.

وقرأ الجمهور : «يلتقطه بعض» بالياء من تحت على لفظ بعض ، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء «تلتقطه» بالتاء ، وهذا من حيث أضيف «البعض» إلى (السَّيَّارَةِ) فاستفاد منها تأنيث العلاقة ، ومن هذا قول الشاعر : [الوافر]


أرى مرّ السنين أخذن منّي

كما أخذ السرار من الهلال

ومنه قول الآخر : [الطويل]

إذا مات منهم سيد قام سيد

فذلت له أهل القرى والكنائس

وقول كعب : [الكامل]

ذلت لوقعتها جميع نزار

 .............................................

حين أراد بنزار القبيلة ، وأمثلة هذا كثير.

وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه‌السلام : و (السَّيَّارَةِ) جمع سيار. وهو بناء للمبالغة ، وقيل في هذا (الْجُبِ) : أنه بئر بيت المقدس. وقيل : غيره : وقيل : لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء : وقيل : بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف ، وروي أنهم رموه بحبل في الجب فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك.

قوله عزوجل :

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٥)

الآية الأولى تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم الخبيثة في جهة يوسف. وهذه أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك.

وقرأ الزهري وأبو جعفر «لا تأمنا» بالإدغام دون إشمام. ورواها الحلواني عن قالون ، وقرأ السبعة بالإشمام للضم ، وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا» وقرأ ابن وثاب والأعمش «لا تيمنا» بكسر تاء العلامة.

و (غَداً) ظرف أصله : غدو ، فلزم اليوم كله ، وبقي الغدو والغدوة اسمين لأول النهار ، وقال النضر ابن شميل : ما بين الفجر إلى الإسفار يقال فيه غدوة. وبكرة.

وقرأ أبو عمرو وأبو عامر : «نرتع ونلعب» بالنون فيهما وإسكان العين والباء ، و «نرتع» ـ على هذا ـ من الرتوع وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب ، ومنه قول الغضبان بن القبعثري : القيد والرتعة وقلة التعتعة. ومنه قول الشاعر : [الوافر]

...... وبعد عطائك المائة الرتاعا


و «لعبهم» هذا دخل في اللعب المباح كاللعب بالخيل والرمي ونحوه ، فلا وصم عليهم في ذلك ، وليس باللعب الذي هو ضد الحق وقرين اللهو ، وقيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف يقولون : نلعب وهم أنبياء؟ قال : لم يكونوا حينئذ أنبياء.

وقرأ ابن كثير : «نرتع ونلعب» بالنون فيهما ، وبكسر العين وجزم الباء ، وقد روي عنه «ويلعب» بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد. و «نرتع» ـ على هذا ـ من رعاية الإبل : وقال مجاهد هي من المراعاة : أي يراعي بعضنا بعضا ويحرسه ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «يرتع ويلعب» بإسناد ذلك كله إلى يوسف ، وقرأ نافع «يرتع» بالياء فيهما وكسر العين وجزم الباء ، ف «يرتع» ـ على هذا ـ من رعي الإبل ؛ قال ابن زيد : المعنى : يتدرب في الرعي وحفظ المال ؛ ومن الارتعاء قول الأعشى:

ترتعي السفح فالكثيب فذاقا

ن فروض القطا فذات الرئال

قال أبو علي : وقراءة ابن كثير ـ «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء ـ فنزعها حسن ، لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه.

وقرأ العلاء بن سيابة ، «يرتع ويلعب» برفع الباء على القطع. وقرأ مجاهد وقتادة : «نرتع» بضم النون وكسر التاء و «نلعب» بالنون والجزم. وقرأ ابن كثير ـ في بعض الروايات عنه ـ «نرتعي» بإثبات الياء ـ وهي ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كما قال الشاعر : [الوافر]

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

وقرأ أبو رجاء «يرتع» بضم الياء وجزم العين و «يلعب» بالياء والجزم.

وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط.

وقوله تعالى : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) الآية.

قرأ عاصم وابن كثير والحسن والأعرج وعيسى وأبو عمرو وابن محيصن «ليحزنني» بفتح الياء وضم الزاي ، قال أبو حاتم : وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والإدغام ، ورواية روش عن نافع : بيان النونين مع ضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن ، وأن الأولى فاعلة والثانية مفعولة ب (أَخافُ). وقرأ الكسائي وحده : «الذيب» دون همز وقرأ الباقون بالهمز ـ وهو الأصل ومنه جمعهم إياه على ذؤبان ، ومنه تذاءبت الريح والذئاب إذا أتت من هاهنا وهاهنا. وروى ورش عن نافع : «الذيب» بغير همز ، وقال نصر : سمعت أبا عمرو لا يهمز ، قال : وأهل الحجاز يهمزون.

وإنما خاف يعقوب الذئب دون سواه ، وخصصه لأنه كان الحيوان العادي المنبت في القطر ، وروي أن يعقوب كان رأى في منامه ذئبا يشتد على يوسف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي ضعيف لأن يعقوب لو رأى ذلك لكان وحيا ، فإما أن يخرج على وجهه وذلك لم يكن ، وإما أن يعرف يعقوب بمعرفته لعبارة مثال هذا المرئي ، فكان يتشكاه بعينه ، اللهم إلا


أن يكون قوله : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) بمعنى أخاف أن يصيبه مثل ما رأيت من أمر الذئب ـ وهذا بعيد ـ وكذلك يقول الربيع بن ضبع : [المنسرح]

والذئب أخشاه ......

إنما خصصه لأنه كان حيوان قطره العادي ، ويحتمل أن يخصصه يعقوب عليه‌السلام لصغر يوسف : أي أخاف عليه هذا الحقير فما فوقه ، وكذلك خصصه الربيع لحقارته وضعفه في الحيوان ، وباقي الآية بيّن.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) الآية ، أسند الطبري إلى السدي قال : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه فجعل لا يرى منهم رحيما ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ، فقال لهم يهوذا : ألم تعطوني موثقا أن لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ، فجعلوا يدلونه فيتعلق بالشفير فربطوا يديه ونزعوا قميصه. فقال : يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك ؛ فدلوه حتى إذا بلغ نصف الجب ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في الجب ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة يبكي ، فنادوه ، فظن أنهم رحموه ، فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يأتيه بالطعام.

وجواب «لما» محذوف تقديره : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) أجمعوا ، هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو نص لهما في قول امرئ القيس : [الطويل]

فلما أجزنا ساحية الحي وانتحى ......

ومثل هذا قول الله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣] ـ وقال بعض النحاة ـ في مثل هذا ـ : إن الواو زائدة ـ وقوله مردود لأنه ليس في القرآن شيء زائد لغير معنى.

و (أَجْمَعُوا) معناه : عزموا واتفق رأيهم عليه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في المسافر ـ «ما لم يجمع مكثا» ، على أن إجماع الواحد قد ينفرد بمعنى العزم والشروع ، ويتصور ذلك في إجماع إخوة يوسف وفي سائر الجماعات ـ وقد يجيء إجماع الجماعة فيما لا عزم فيه ولا شروع ولا يتصور ذلك في إجماع الواحد.

والضمير في (إِلَيْهِ) عائد إلى يوسف. وقيل على يعقوب ، والأول أصح وأكثر ، ويحتمل أن يكون الوحي حينئذ إلى يوسف برسول ، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم ـ وكل ذلك قد قيل ـ وقال الحسن : أعطاه الله النبوءة وهو في الجب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد.

وقرأ الجمهور : «لتنبئنهم» بالتاء ، وفي بعض مصاحف البصرة بالياء ، وقرأ سلام بالنون ، وهذا كله في العلامة التي تلي اللام.


وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال ابن جريح : وقت التنبيه إنك يوسف. وقال قتادة : لا يشعرون بوحينا إليه.

قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ـ على التأويل الأول ـ مما أوحي إليه ـ وعلى القول الثاني ـ خبر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)

قرأت فرقة «عشاء» أي وقت العشاء ، وقرأ الحسن : «عشى» على مثال دجى ، أي جمع عاش ، قال أبو الفتح : «عشاة» كماش ومشاة ، ولكن حذفت الهاء تخفيفا كما حذفت من مألكة ، وقال عدي :

أبلغ النعمان عني مألكا

أنه قد طال حبسي وانتظاري

قال القاضي أبو محمد : ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى ، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية ، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا : لا ، قال فأين يوسف؟ قالوا : (ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ؛ فبكى وصاح وقال : أين قميصه؟ ـ وسيأتي قصص ذلك.

و (نَسْتَبِقُ) معناه : على الأقدام أي نجري غلابا ، وقيل : بالرمي أي ننتصل. وهو نوع من المسابقة ، قاله الزجاج.

وقولهم : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) أي بمصدق ؛ ومعنى الكلام : أي لو كنا موصوفين بالصدق ؛ وقيل : المعنى : ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديما لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ذكره الزجاج وغيره ، ويحتمل أن يكون قولهم : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ، بمعنى : وإن كنا صادقين ـ وقاله المبرد ـ كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة ، فهو تماد منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) [الأعراف : ٨٨] بمعنى أو إن كنا كارهين.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وتخبط الرماني في هذا الموضع ، وقال : ألزموا أباهم عنادا ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك ، بل قالوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن ، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا. ولا


ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم‌السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم ، فإنما هو بشر ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ..» الحديث. فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب. وكذلك قد صدق عليه‌السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيدا ، حتى نزل الوحي ، فظهر الحق ، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد.

وقوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الآية ، روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب : هذا قميصه ، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا أثر ناب. فاستدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان الذئب حليما ، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ ـ قص هذا القصص ابن عباس وغيره ، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص ـ واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها ـ في قول مالك ـ إلى غير ذلك.

قال الشافعي : كان في القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم وشهادته في قده ، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئبا فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب ، هذا أكل يوسف ، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.

ووصف الدم ب (كَذِبٍ) إما على معنى بدم ذي كذب ، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه ، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر : [الكامل]

حتى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب.

قال القاضي أبو محمد : هذا كلام الطبري ، ولا شاهد له فيه عندي ، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل ، ولا يحتاج إلى بدل ، وإنما «الدم الكذب» عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة.

وقرأ الحسن : «بدم كذب» بدال غير معجمة ، ومعناه الطري ونحوه ، وليست هذه القراءة قوية.

ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي رضيت وجعلت سولا ومرادا. (أَمْراً) أي صنعا قبيحا بيوسف. وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر : إما على تقدير : فشأني صبر جميل ، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب : «فصبرا جميلا» على إضمار فعل ، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك ـ وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [الرجز]

...... صبرا جميلا فكلانا مبتلى

وينشد أيضا بالرفع ويروى «صبر جميل» ، على نداء الجمل المذكور في قوله : [الرجز]


شكى إليّ جملي طول السرى

يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى

وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه‌السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه.

وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من بث لم يصبر صبرا جميلا.

وقوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه ، والتقدير على احتمال ما تصفون.

قوله عزوجل :

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٢٠)

قيل إن «السيارة» جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب ، (سَيَّارَةٌ) : جمع سيار ، كما قالوا بغال وبغالة ، وهذا بعكس تمرة وتمر ، و (سَيَّارَةٌ) : بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق. وروي أن هذه «السيارة» كانوا قوما من أهل مدين ، وقيل : قوم أعراب. و «الوارد» هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة ، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر ، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، ويقال : «أدلى الدلو» : إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء. ودلاه يدلوه : إذا استقاه من البئر. وفي الكلام هنا حذف تقديره : فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي ، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ، ويرجح هذا لفظة (غُلامٌ) ، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز ؛ وقيل : كان ابن سبع عشرة سنة ـ وهذا بعيد ـ.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشراي» بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول : احضري ، فهذا وقتك ، وهذا نحو قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] وروى ورش عن نافع «يا بشراي» بسكون الياء ، قال أبو علي : وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة ، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها ، كما اختصت في القوافي بالتأسيس ، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة وليس شيء من ذلك في الياء والواو.

وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريّ» تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة ، وهي لغة فاشية ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب : [الكامل]

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ولكل جنب مصرع


وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك :

يطوّف بي كعب في معد

ويطعن بالصملة في قفيا

فإن لم تثأروا لي في معد

فما أرويتما أبدا صديا

وقرأ حمزة والكسائي «يا بشري» ويميلان ولا يضيفان. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل ، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي : كان في أصحاب هذا «الوارد» رجل اسمه بشرى ، فناداه وأعلمه بالغلام ، وقيل : هو على نداء البشرى ـ كما قدمنا ـ والضمير في قوله : (وَأَسَرُّوهُ) ظاهر الآيات أنه ل «وارد» الماء ، ـ قاله مجاهد ، وقال : إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا : وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود.

قال القاضي أبو محمد : هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خيارا ، فأسروا بينهم أن يقولوا : أبضعه معنا بعض أهل المصر.

و (بِضاعَةً) حال ، و «البضاعة» : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح ، مأخوذة من قولهم : بضعت أي قطعت. وقيل : إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجرا ، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئا ؛ ثم يكون الضمير في قوله : (وَشَرَوْهُ) لهم أيضا ، أي باعوه بثمن قليل ، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره ، بل كانوا زاهدين فيه ، وروي ـ على هذا ـ أنهم باعوه من تاجر. وقال مجاهد : الضمير في (أَسَرُّوهُ) لأصحاب «الدلو» ، وفي (شَرَوْهُ) لإخوة يوسف الأحد عشر ، وقال ابن عباس : بل الضمير في (أَسَرُّوهُ) و (شَرَوْهُ) لإخوة يوسف.

قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا : هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم ، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفا منهم ، ولينفذ الله أمره ؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها ، واتخذوه (بِضاعَةً) أي متجرا لهم ومكسبا (وَشَرَوْهُ) أيضا (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) ، أي باعوه.

وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد ، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف ، وسوق الأقدار بناء حاله ، فهو ـ حينئذ ـ بمعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يدبر ابن آدم والقضاء يضحك.

وفي الآية ـ أيضا ـ تسلية للنبي عليه‌السلام عما يجري عليه من جهة قريش ، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.

و (شَرَوْهُ) ـ هنا ـ بمعنى باعوه ، وقد يقال : شرى ، بمعنى اشترى ، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري : [مجزوء الكامل]

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه


برد : اسم غلام له ندم على بيعه ، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين ؛ و «البخس» مصدر وصف به «الثمن» وهو بمعنى النقص ـ وهذا أشهر معانيه ـ فكأنه القليل الناقص ـ وهو قول الشعبي ـ وقال قتادة : «البخس» هنا بمعنى الظلم ، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه ، وقال الضحاك : وهو بمعنى الحرام ، وهذا أيضا بمعنى لا يحل بيعه.

وقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية ، وهي أربعون درهما ، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه‌السلام : فقيل باعوه بعشرة دراهم ، وقال ابن مسعود : بعشرين ، وقال مجاهد : باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة : بأربعين درهما دفعت ناقصة خفافا ، فهذا كان بخسها.

وقوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) وصف يترتب في «ورّاد» الماء ، أي كانوا لا يعرفون قدره ، فهم لذلك قليل اغتباطهم به ، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد ، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف ، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز.

وقوله (فِيهِ) ليست بصلة ل (الزَّاهِدِينَ) ـ قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا ، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف ، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات ، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله : (وَشَرَوْهُ).

قوله عزوجل :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢)

روي أن مبتاع يوسف ـ وهو الوارد من إخوته أو التاجر من الوراد ، حسبما تقدم من الخلاف ـ ورد به مصر ، البلد المعروف ، ولذلك لا ينصرف ، فعرضه في السوق ، وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما ـ فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير فاشتراه العزيز ، وكان حاجب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد ، وقيل مصعب بن الريان ، وهو أحد الفراعنة ، وقيل : هو فرعون موسى ، عمر إلى زمانه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وذلك أن ظهور يوسف عليه‌السلام لم يكن في مدة كافر يخدمه يوسف ؛ واسم العزيز المذكور : قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : أطفير ، وقيل : قنطور ؛ واسم


امرأته : راعيل ، قاله ابن إسحاق ، وقيل ربيحة ، وقيل : زليخا ، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته ـ حسبما نذكره في البرهان الذي رأى يوسف ـ وقال مجاهد : كان العزيز مسلما.

و «المثوى» مكان الإقامة ، و «الإكرام» إنما هو لذي المثوى ، ففي الكلام استعارة وقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ، أي بأن يعيننا في أبواب دنيانا وغير ذلك من وجوه النفع ، وقوله : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبناه ، وكان فيما يقال لا ولد له.

ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ) ، أي كما وصفنا (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ) فعلنا ذلك. و (الْأَحادِيثِ) : الرؤيا في النوم ـ قاله مجاهد ـ وقيل : أحاديث الأمم والأنبياء.

والضمير في (أَمْرِهِ) يحتمل أن يعود على يوسف ، قاله الطبري ، ويحتمل أن يعود على الله عزوجل ، قاله ابن جبير ، فيكون إخبارا منبها على قدرة الله عزوجل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاما في كل أمر. وكذلك الاحتمال في قول الشاعر : [الطويل]

رأيت أبا بكر ـ وربك ـ غالب

على أمره يبغي الخلافة بالتمر

وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة ، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أصح الناس فراسة ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، وابنة شعيب حين قالت : «استأجره ، إن خير من استأجرت القوي الأمين» وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.

قال القاضي أبو محمد : وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين ، فإن ما تفرس خرج بعينه.

و «الأشد» : استكمال القوة وتناهي البأس ، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان ، وهما أشدان : وذكره منذر بن سعيد ، والثاني : الذي يستعمله العرب وقيل : هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف : وقيل : «الأشد» : بلوغ الأربعين ، وقيل : بل ستة وثلاثون. وقيل : ثلاثة وثلاثون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو أظهر الأقوال ـ فيما نحسبه ـ وهو الأسبوع الخامس ، وقيل : عشرون سنة ، وهذا ضعيف. وقال الطبري : «الأشد» لا واحد له من لفظه ، وقال سيبويه : «الأشد» جمع شدة نحو نعمة وأنعم ، وقال الكسائي : «أشد» جمع شد نحو قد وأقد ، وشد النهار : معظمه وحيث تستكمل نهاريته.

وقوله : (حُكْماً) يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة ، وهذا على الأشد الأعلى ، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة ، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا. و (عِلْماً) يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك. ويحتمل أن يريد بقوله : (حُكْماً) أي سلطانا في الدنيا وحكما بين الناس بالحق. وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله : (وَعِلْماً).


(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ألفاظ فيها وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.

قوله عزوجل :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٥)

«المراودة» الملاطفة في السوق إلى غرض ، وأكثر استعمال هذه اللفظة إنما هو في هذا المعنى الذي هو بين الرجال والنساء ؛ ويشبه أن يكون من راد يرود إذا تقدم لاختبار الأرض والمراعي ، فكان المراود يختبر أبدا بأقواله وتلطفه حال المراود من الإجابة أو الامتناع.

وفي مصحف وكذلك رويت عن الحسن. و (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) هي زليخا امرأة العزيز. وقوله (عَنْ نَفْسِهِ) كناية عن غرض المواقعة. وقوله : (وَغَلَّقَتِ) تضعيف مبالغة لا تعدية ، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه‌السلام.

وقرأ ابن كثير وأهل مكة : «هيت» بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء ، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو الأسود وعيسى بفتح الهاء وكسر التاء «هيت» ، وقرأ ابن مسعود والحسن والبصريون «هيت» بفتح الهاء والتاء وسكون الياء ، ورويت عن ابن عباس وقتادة وأبي عمرو ، قال أبو حاتم : لا يعرف أهل البصرة غيرها وهم أقل الناس غلوا في القراءة ، قال الطبري : وقد رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ نافع وابن عامر «هيت» بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء ـ وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر ـ وهذه الأربع بمعنى واحد ، واختلف باختلف اللغات فيها ، ومعناه الدعاء أي تعال وأقبل على هذا الأمر ، قال الحسن : معناها هلمّ ، ويحسن أن تتصل بها (لَكَ) إذ حلت محل قولها : إقبالا أو قربا ، فجرت مجرى سقيا لك ورعيا لك ، ومن هذا قول الشاعر يخاطب علي بن أبي طالب : [مجزوء الكامل]

أبلغ أمير المؤمنين

أخا العراق إذا أتينا

أن العراق وأهله

عنق إليك فهيت هيتا

ومن ذلك على اللغة الأخرى قول طرفة : [الخفيف]

ليس قومي بالأبعدين إذا ما

قال داع من العشيرة هيت


ومن ذلك أيضا قول الشاعر : [الرجز]

قد رابني أن الكرى قد أسكتا

ولو غدا يعني بنا لهيتا

أسكت : دخل في سكوت ، و «هيت» معناه : قال : هيت ، كما قالوا : أفف إذا قال : أف أف ، ومنه سبح وكبر ودعدع إذ قال : داع داع.

والتاء على هذه اللغات كلها مبنية فهي في حال الرفع كقبل وبعد ، وفي الكسر على الباب لالتقاء الساكنين ، وفي حال النصب ككيف ونحوها ؛ قال أبو عبيدة : و (هَيْتَ) لا تثنى ولا تجمع ، تقول العرب : (هَيْتَ لَكَ) ، وهيت لكما ، وهيت لكم.

وقرأ هشام ابن عامر «هيت» ، بكسر الهاء والهمز ، ضم التاء وهي قراءة علي بن أبي طالب ، وأبي وائل ، وأبي رجاء ويحيى ، ورويت عن أبي عمرو ، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا أحسن هيئته ـ على مثال جاء يجيء ـ ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت ، كما يقال : فئت وتفيأت بمعنى واحد ، قال الله عزوجل : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨] وقال : (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩].

وقرأ ابن أبي إسحاق ـ أيضا ـ «هيت» بتسهيل الهمزة من هذه القراءة المتقدمة. وقرأ ابن عباس ـ أيضا ـ «هيت لك». وقرأ الحلواني عن هشام «هئت» بكسر الهاء والهمز وفتح التاء قال أبو علي : ظاهر أن هذه القراءة وهم ، لأنه كان ينبغي أن تقول : هئت لي ، وسياق الآيات يخالف هذا. وحكى النحاس : أنه يقرأ «هيت» بكسر الهاء وسكون الياء وكسر التاء. و (مَعاذَ) نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله.

ثم قال : (إِنَّهُ رَبِّي) فيحتمل أن يعود الضمير في (إِنَّهُ) على الله عزوجل ، ويحتمل أن يريد العزيز سيده ، أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني ، قال مجاهد ، والسدي (رَبِّي) معناه سيدي ، وقاله ابن إسحاق.

قال القاضي أبو محمد : وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك ، وأحرى أن يحفظ ربه.

ويحتمل أن يكون الضمير للأمر والشأن ، ثم يبتدىء (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ).

والضمير في قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) مراد به الأمر والشأن فقط ، وحكى بعض المفسرين : أن يوسف عليه الصلاة والسلام ـ لما قال : معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة ، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به ، ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله ، ودافع بعنف وتغيير ـ لم يهم بشيء من المكروه.

وقرأ الجحدري «مثواي» وقرأها كذلك أبو طفيل وروي عن النبي عليه‌السلام : «فمن تبع هداي».

وقوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) الآية ، لا شك أن «هم» زليخا كان في أن يواقعها يوسف ، واختلف في «هم» يوسف عليه‌السلام ، فقال الطبري : قالت فرقة : كان مثل «همها» ، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية ، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالا للمذنبين


ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا ، وهي قد استقلت له ؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف.

وقالت فرقة في «همه» إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها ، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه ، فلا يبعد هذا على مثله عليه‌السلام ، وفي الحديث : «إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات» ، وفي حديث آخر «حسنة» ، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف.

وقالت فرقة : كان «هم» يوسف بضربها ونحو ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف البتة ، والذي أقول في هذه الآية : إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك ، لأن العصمة مع النبوة ، وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء ، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد ، والهم بالشيء مرتبتان : فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة ، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي ، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تنطق به أو تعمل». معناه من الخواطر ، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحا ، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر ، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه كان حريصا على قتل صاحبه.

وقوله الله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] وهذا منتزع من غير موضع من الشرع ، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز.

واختلف في «البرهان» الذي رأى يوسف ، وقيل : نودي. واختلف فيما نودي به ، فقيل ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء. وتفعل فعل السفهاء؟ وقيل : نودي : يا يوسف ، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى ـ ناداه بذلك يعقوب ـ ، وقيل غير هذا مما في معناه. وقيل : كان «البرهان» كتابا رآه مكتوبا ، فقيل : في جدار المجلس الذي كان فيه ، وقيل : بين عيني زليخا ، وقيل : في كف من الأرض خرجت دون جسد ؛ واختلف في المكتوب ، فقيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، وقيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، وقيل : قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] وقيل غير هذا. وقيل : كان البرهان أن رأى يعقوبعليه‌السلام ممثلا معه في البيت عاضا على إبهامه وقيل : على شفته. وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك. وقيل: إن جبريل قال له : لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة ، وقيل : إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقيل : بل كان «البرهان» فكرته في عذاب الله ووعيده على


المعصية ، وقيل : بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له : مكانك حتى أستر هذا الصنم ـ لصنم كان معها في البيت ـ فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال ؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال : من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء ، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله.

و «البرهان» في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري ، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين.

و (أَنْ) في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى) في موضع رفع ، التقدير : لولا رؤيته برهان ربه ، وهذه (لَوْ لا) التي يحذف معها الخبر ، تقديره : لفعل أو لارتكب المعصية. وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) وأن جواب (لَوْ لا) في قوله : (وَهَمَّ بِها) وأن المعنى : لولا أن رأى البرهان لهمّ أي فلم يهم عليه‌السلام ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف. قال الزجّاج : ولو كان الكلام : ولهمّ بها لولا ، لكان بعيدا ، فكيف مع سقوط اللام!.

والكاف من قوله : (كَذلِكَ) متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ) ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير : عصمتنا له كذلك لنصرف.

وقرأ الجمهور «لنصرف» بالنون ، وقرأ الأعمش «ليصرف» بالياء ـ على الحكاية عن الغائب ـ ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلصين» بكسر اللام في كل القرآن ، وكذلك (مُخْلَصاً) [مريم : ٥١] في سورة مريم. وقرأ نافع مخلصا [الزمر : ٢ ـ ١١ ـ ١٤ ، مريم : ٥١] كذلك بكسر اللام ، وقرأ سائر القرآن «المخلصين» بفتح اللام ، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلصين» بفتح اللام و «مخلصا» كذلك في كل القرآن.

وقوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) الآية ، (وَاسْتَبَقَا) معناه سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب ، هي لترده إلى نفسها وهو ليهرب عنها ؛ فقبضت في أعلى قميصه من خلفه ، فتخرق القميص عند طوقه ، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. و «القد» : القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا ، «والقط» يستعمل فيما كان عرضا ، وكذلك هي اللفظة في قول النابغة :

تقد السلوقي

فإن قوله : توقد بالصفاح يقتضي أن القطع بالطول. و (أَلْفَيا) : وجدا ، و «السيد» الزوج ، قاله زيد بن ثابت ومجاهد. فيروى أنهما وجدا العزيز ورجلا من قرابة زليخا عند الباب الذي استبقا إليه قاله السدي. فلما رأت الفضيحة فزعت إلى مطالبة يوسف والبغي عليه ، فأرت العزيز أن يوسف أرادها ، وقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وتكلمت في الجزاء ، أي أن الذنب ثابت متقرر. وهذه الآية تقتضي بعظم موقع السجن من النفوس لا سيما بذوي الأقدار ، إذ قرن بأليم العذاب.


قوله عزوجل :

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)

قال نوف الشامي : كان يوسف عليه‌السلام لم يبن على كشف القصة ، فلما بغت به غضب فقال الحق ، فأخبره أنها هي راودته عن نفسه ، فروي أن الشاهد كان الرجل ابن عمها ، قال : انظر إلى القميص فإن كان قده من دبر فكذبت ، أو من قبل فصدقت ، قاله السدي. وقال ابن عباس : كان رجلا من خاصة الملك ، قاله مجاهد وغيره. وقيل : إن الشاهد كان طفلا في المهد فتكلم بهذا ، قاله أيضا ابن عباس وأبو هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك.

قال القاضي أبو محمد : ومما يضعف هذا أن في صحيح البخاري ومسلم : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى بن مريم ، وصاحب جريج ، وابن السوداء الذي تمنت له أن يكون كالفاجر الجبار ، فقال : لم يتكلم وأسقط صاحب يوسف منها ، ومنها أن الصبي لو تكلم لكان الدليل نفس كلامه دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. وأسند الطبري إلى ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم في المهد أربعة» ، فذكر الثلاثة وزاد صاحب يوسف ، وذكر الطبري عن ابن عباس : أن ابن ماشطة فرعون تكلم في المهد ، فهم على هذا خمسة ، وقال مجاهد ـ أيضا ـ الشاهد القميص.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأنه لا يوصف بأنه من الأهل.

وقرأ جمهور الناس : «من قبل» و «من دبر» بضم الباءين وبالتنوين ، وقرأ ابن يعمر والجارود بن أبي سبرة ونوح وابن أبي إسحاق «من قبل» و «من دبر» بثلاث ضمات من غير تنوين ، قال أبو الفتح : هما غايتان بنيتا ، كقوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] قال أبو حاتم : وهذا رديء في العربية جدا ، وإنما يقع هذا البناء في الظروف ، وقرأ الحسن «من قبل» و «من دبر» بإسكان الباءين والتنوين ، ورويت عن أبي عمرو وروي عن نوح القاري أنه أسكن الباءين وضم الأواخر ولم ينون ورواها عن ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر.

وسمي المتكلم بهذا الكلام (شاهِدٌ) من حيث دل على الشاهد ونفس الشاهد هو تخريق القميص.

وقرأت فرقة : «فلما رأى قميصه عط من دبر». والضمير في (رَأى) هو للعزيز ، وهو القائل : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) ، قاله الطبري وقيل : بل «الشاهد» قال ذلك ، والضمير في (إِنَّهُ) يريد مقالها المتقدم في الشكوى ب «يوسف».


ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالأمارة ، من العلماء ، فإنها معتمدهم ، و (يُوسُفُ) في قوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) منادى ، قاله ابن عباس ، ناداه الشاهد ، وهو الرجل الذي كان مع العزيز ، و (أَعْرِضْ عَنْ هذا) معناه : عن الكلام به ، أي اكتمل ولا تتحدث به ؛ ثم رجع إليها فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي استغفري زوجك وسيدك ، وقال : (مِنَ الْخاطِئِينَ) ولم يقل : من الخاطئات لأن الخاطئين أعم ، وهو من : خطىء يخطأ خطئا وخطأ ، ومنه قول الشاعر [أوس بن غلفاء]: [الوافر]

لعمرك إنما خطئي وصوبي

عليّ وإنما أتلفت مالي

وينشد بيت أمية بن أبي الصلت : [الوافر]

عبادك يخطئون وأنت رب

بكفيك المنايا والحتوم

قوله عزوجل :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٣١)

ذكر الفعل المسند إلى «النسوة» لتذكير اسم الجمع و (نِسْوَةٌ) جمع قلة لا واحد له من لفظه ، وجمع التكثير نساء ، و (نِسْوَةٌ) فعلة ، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد ، وقد نظمها القائل ببيت شعر : [البسيط]

بأفعل وبأفعال وأفعلة

وفعلة يعرف الأدنى من العدد

ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعا : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة. و (الْعَزِيزِ) : الملك ومنه قول الشاعر : [الرمل]

درة غاص عليها تاجر

جلبت عند عزيز يوم طل

و «الفتى» : الغلام ، وعرفه في المملوك ـ وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ، وليقل فتاي وفتاتي» ، ولكنه قد يقال في غير المملوك ، ومنه (إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) [الكهف : ٦٠] وأصل «الفتى» في اللغة الشاب ، ولكن لما كان جل الخدمة شبابا استعير لهم اسم الفتى. و (شَغَفَها) معناه : بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف ، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب ، وقيل : «الشغاف» : سويداء القلب ، وقيل : الشغاف : داء يصل إلى القلب.

وقرأ أبو رجاء والأعرج وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت وعوف ومجاهد وغيرهم : «قد شعفها» بالعين غير منقوطة ، ولذلك وجهان :


أحدهما أنه علا بها كل مرقبة من الحب ، وذهب بها كل مذهب ، فهو مأخوذ ـ على هذا ـ من شعف الجبال وهي رؤوسها وأعاليها ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن».

والوجه الآخر أن يكون الشعف لذة بحرقة يوجد من الجراحات والجرب ونحوها ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

أيقتلني وقد شعفت فؤادها

كما شعف المهنوءة الرجل الطالي

والمشعوف في اللغة الذي أحرق الحب قلبه ، ومنه قول الأعشى :

تعصي الوشاة وكان الحب آونة

مما يزين للمشعوف ما صنعا

وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء أنهما قرآ : «قد شعفعما» بكسر العين غير منقوطة. قال أبو حاتم : المعروف فتح العين وهذا قد قرىء به. وقرأ ابن محيصن : (قَدْ شَغَفَها) أدغم الدال في الشين.

وروي أن مقالة هؤلاء النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها أو يحق لومها. وقد قال ابن زيد الشغف في الحب والشغف في البغض ، وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب والشعف الجنون والمشعوف المجنون ، وهذان القولان ضعيفان.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) الآية ، إنما سمي قولهن مكرا من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن ، وقيل : مكرهن انهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن إياه ، وهذا لا يكون مكرا إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها.

ومعنى (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي ليحضرن ، و (أَعْتَدَتْ) معناه : أعدت ويسرت ، و (مُتَّكَأً) ما يتكأ عليه من فرش ووسائد ، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة ، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب ، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ» بالطعام ؛ قال ابن عباس : (مُتَّكَأً) معناه مجلسا ، ذكره الزهراوي. وقال القتبي : يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا.

وقوله : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين ، فقيل كان لحما ، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزا بالسكاكين ؛ وقيل : كان أترجا ، وقيل : كان زماورد ، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد ، وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط.

وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تكا» بضم الميم وتنوين الكاف. واختلف في معناه ، فقيل : هو الأترنج ، وقيل : هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره ، وأنشد الطبري :

نشرب الإثم بالصواع جهارا

وترى المتك بيننا مستعارا


وقرأ الجمهور : «متّكا» بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر ، وقرأ الزهري : «متّكا» مشدد التاء من غير همز ـ وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح ، وقرأ الحسن «متكاء» بالمد على إشباع الحركة.

و «السكين» تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء ، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير.

وقولها : (اخْرُجْ) أمر ليوسف ، وأطاعها بحسب الملك ، وقال مكي والمهدوي : قيل : إن في الآية تقديما وتأخيرا في القصص ، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد ، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية ، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين ، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] وهذا يدل على قلة الغيرة ، ثم سكن الأمر بأن قال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩] وأنت (اسْتَغْفِرِي) [يوسف : ٢٩] وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة ، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك ، لأن دليل القميص لم يكن قاطعا وإنما كان أمارة ما ؛ هذا إن لم يكن المتكلم طفلا.

وقوله : (أَكْبَرْنَهُ) معناه : أعظمنه واستهولن جماله ، هذا قول الجمهور ، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده : معناه : حضن ، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل : [البسيط]

يأتي النساء على أطهارهنّ ولا

يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف من معناه منكور ، والبيت مصنوع مختلف ـ كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه‌الله.

وقوله : (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي كثرن الحز فيها بالسكاكين ، وقال عكرمة : «الأيدي» هنا الأكمام ، وقال مجاهد هي الجوارح ، وقطعنها حتى ألقينها.

قال القاضي أبو محمد : فظاهر هذا أنه بانت الأيدي ، وذلك ضعيف من معناه ، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة ، ومحال أن يسهو أحد عنها ، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد ، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزا ، وهذا قول الجماعة.

وضوعفت الطاء في (قَطَّعْنَ) لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مرارا.

وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى الله» وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله» ، وقرأ سائر السبعة «حاش لله» ، وفرقة «حشى لله» وهي لغة ، وقرأ الحسن «حاش لله» بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن ـ أيضا ـ «حاش الإلاه» محذوفا من «حاشى». فأما «حاش» فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء ، كذا قال سيبويه ، وقد ينصب به ، تقول : حاشى زيد وحاشى زيدا ، قال المبرد : النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم : حاش لزيد ، والحرف لا يحذف منه.


قال القاضي أبو محمد : يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير ، وأن الفعل هو الذي ينصب به ، فهذه اللفظة تستعمل فعلا وحرفا ، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل ، وذلك في قراءة من قرأ «حاشى لله» معناه مأخوذ من معنى الحرف ، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به ، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى ، ومن ذلك قول الشاعر : [المعطل الهذلي].

يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله

بأي الحشى صار الخليط المباين

ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له ، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية ، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر ، والحروف لا تدخل بعضها على بعض ، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين «حاش» على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر ، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل : لعل ، فيحذف ، ويرجع عل ، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله.

قال القاضي أبو محمد : ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة : فحاشى بالناس ، فمعنى «حاشى لله» أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به ، أو يدعى إله مثله لأن تلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم إنما هو ملك ـ هكذا رتب أبو علي ـ الفارسي معنى هذا الكلام ، على هاتين القراءتين اللتين في السبع ـ وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ، فعلى أن «حاشى» حرف استثناء ـ كما قال الشاعر [ابن عطية] : [الكامل]

حاشى أبي ثوبان إنّ به

ضنّا عن الملحاة والشتم

وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن ، ضعيف ، جمع بين ساكنين ، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى».

قال القاضي أبو محمد : والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى.

وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم» بكسر اللام في «ملك» ، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن : ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء ، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكا كريما.

ونصب «البشر» من قوله : (ما هذا بَشَراً) هو على لغة الحجاز شبهت (ما) بليس ، وأما تميم فترفع ، ولم يقرأ به.

وروي أن يوسف عليه‌السلام أعطي ثلث الحسن ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه أعطي نصف الحسن ، ففي بعض الأسانيد هو وأمه ، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التمثيل ، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه ، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال.


قوله عزوجل :

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤)

قال الطبري : المعنى : فهذا (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ، أي هذا الذي قطعتن أيديكن بسببه هو الذي جعلتني ضالة في هواه ، والضمير عائد على يوسف في (فِيهِ) ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه.

ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة واستنامت إليهن في ذلك إذ قد علمت أنهن قد عذرنها ، واستعصم معناه : طلب العصمة وتمسك بها وعصاني ، ثم جعلت تتوعده وهو يسمع بقولها : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) إلى آخر الآية.

واللام في قوله : (لَيُسْجَنَنَ) لام القسم ، واللام الأولى هي المؤذنة بمجيء القسم ، والنون هي الثقيلة والوقف عليها بشدها ، و (لَيَكُوناً) نونه هي النون الخفيفة ، والوقف عليه بالألف ، وهي مثل قوله : (لَنَسْفَعاً) [العلق : ١٥] ومثلها قول الأعشى : [الطويل]

وصلّ على حين العشيات والضحى

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

أراد فاعبدن.

وقرأت فرقة «وليكونن» بالنون الشديدة. و (الصَّاغِرِينَ) الأذلاء الذين لحقهم الصغار.

وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ، روي أنه لما توعدته امرأة العزيز قال له النسوة : أطع مولاتك ، وافعل ما أمرتك به ؛ فلذلك قال : (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) قال نحوه الحسن ووزن «يدعون» فى هذه الآية : يفعلن ، بخلاف قولك : الرجال يدعون.

وقرأ الجمهور «السّجن» بكسر السين ، وهو الاسم ، وقرأ الزهري وابن هرمز ويعقوب وابن أبي إسحاق «السّجن» بفتح السين وهي قراءة عثمان رضي الله عنه وطارق مولاه ، وهو المصدر ، وهو كقولك : الجزع والجزع.

وقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ) إلى آخر الآية ، استسلام لله تعالى ورغبة إليه وتوكل عليه ؛ المعنى : وإن لم تنجني أنت هلكت ، هذا مقتضى قرينة كلامه وحاله ، والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على الفاحشة المعنية بما في قوله (مِمَّا). و (أَصْبُ) مأخوذة من الصبوة ، وهي أفعال الصبا ، ومن ذلك قول الشاعر ـ أنشده الطبري ـ [الهزج]


إلى هند صبا قلبي

وهند مثلها يصبي

ومن ذلك قول دريد بن الصمة : [الطويل]

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه

فلما علاه قال للباطل ابعد

و (الْجاهِلِينَ) هم الذين لا يراعون حدود الله تعالى ونواهيه.

وقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) الآية ، قول يوسف عليه‌السلام : (رَبِّ السِّجْنُ) إلى قوله : (مِنَ الْجاهِلِينَ) كلام يتضمن التشكي إلى الله عزوجل من حاله معهن ، والدعاء إليه في كشف بلواه. فلذلك قال ـ بعد مقالة يوسف ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي أجابه إلى إرادته وصرف عنه كيدهن في أن حال بينه وبين المعصية ، وقوله : (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) صفتان لائقتان بقوله : (فَاسْتَجابَ).

قوله عزوجل :

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٣٦)

لما أبى يوسف المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإما حبسته كما أنا محبوسة. فحينئذ بدا لهم سجنه. قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن ؛ قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.

و (بَدا) معناه : ظهر ، والفاعل ب (بَدا) محذوف تقديره بدو ـ أو ـ رأي. وجمع الضمير في (لَهُمْ) والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور. ويسجننه جملة دخلت عليها لام القسم. ولا يجوز أن يكون الفاعل ببدا (لَيَسْجُنُنَّهُ) لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه ، هذا صريح مذهب سيبويه. وقيل الفاعل (لَيَسْجُنُنَّهُ) وهو خطأ ، وإنما هو مفسر للفاعل.

و (الْآياتِ) ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص ، قاله مجاهد وغيره ، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص ، قاله عكرمة ، وحز النساء أيديهن ، قاله السدي.

قال القاضي أبو محمد : ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة ، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف ، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص ، فإن كان المتكلم طفلا ـ على ما روي ـ فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلا فهي آية فيها


استدلال ما ، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح ، وقد تقع (الْآياتِ) أيضا على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح.

ويحتمل أن يكون معنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف بريء ، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة.

و «الحين» في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير ، وذلك بين موارده في القرآن ؛ وقال عكرمة «الحين» ـ هنا ـ يراد به سبعة أعوام ، وقيل : بل يراد بذلك سنة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف.

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ «عتى حين» بالعين ـ وهي لغة هذيل ـ فقال له : من أقرأك؟ قال : ابن مسعود ، فكتب عمر إلى ابن مسعود : إن الله أنزل القرآن عربيا بلغة قريش ، فبها أقرئ الناس ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ، وروي عن ابن عباس أنه قال : عثر يوسف عليه‌السلام ثلاث عثرات : (هَمَ) [يوسف : ٢٤] فسجن ، وقال : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [يوسف : ٤٢](فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] فطول سجنه ، وقال : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠] فروجع : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧].

وقوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ) الآية ، المعنى : فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضا ، وهذه «مع» تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول ، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذا ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم ـ الوليد بن الريان ـ أحدهما : خبازه ، والآخر : ساقيه.

و «الفتى» الشاب ، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر ، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك ، واللفظة من ذوات الياء ، وقولهم : الفتوة شاذ. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ، ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما ، قاله السدي ، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه ، وقال له : كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات : أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى ، وكان يوسف عليه‌السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه ؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة ، فأرادا سؤاله ، فقال أحدهما واسمه بنو ، فيما روي ، إني رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ؛ وقال الآخر ، واسمه مجلث ، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه.

وقوله (أَعْصِرُ خَمْراً) قيل : إنه سمى العنب خمرا بالمئال ، وقيل : هي لغة أزد عمان ، يسمون العنب خمرا ، وقال الأصمعي : حدثني المعتمر ، قال : لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء ، فقلت : ما تحمل؟ قال : خمرا ، أراد العنب.


وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنبا».

قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها. وقوله (خُبْزاً) يروى أنه رأى ثريدا فوق رأسه ، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه».

وقوله (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال الجمهور : يريدان في العلم ، وقال الضحاك وقتادة : المعنى : (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم ، وقيل : إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا إذا تأول لهما ما رأياه ، ونحا إليه ابن إسحاق.

قوله عزوجل :

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٣٨)

روي عن السدي وابن إسحاق : أن يوسف عليه‌السلام لما علم شدة تعبير منامه رأى الخبز وأنها تؤذن بقتله ، ذهب إلى غير ذلك من الحديث ، عسى ألا يطالباه بالتعبير ، فقال لهما ـ معلما بعظيم علمه للتعبير ـ : إنه لا يجيئكما طعام في نومكما ، تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام ، أي بما يؤول إليه أمره في اليقظة ، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروي أنهما قالا : ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويحسن لهما الإيمان بالله : فروي أنه قصد في ذلك وجهين : أحدهما : تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه ـ إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما ـ والآخر : الطماعية في إيمانهما. ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته. وقال ابن جريج : أراد يوسف عليه‌السلام : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ) في اليقظة (تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما) منه بعلم وبما يؤول إليه أمركما (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) ذلك المآل.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا إنما أعلمهم بأنه يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا. وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين. وهذا على ما روي من أنه نبىء في السجن ، فإخباره كإخبار عيسى عليه‌السلام ، وقال ابن جريج : كانت عادة ذلك الملك إذا أراد قتل أحد ممن في سجنه بعث إليه طعاما يجعله علامة لقتله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله لا يقتضيه اللفظ ولا ينهض به إسناد.

وقوله : (تَرَكْتُ) مع أنه لم يتشبث بها ، جائز صحيح ، وذلك أنه عن تجنبه من أول بالترك ،


وساق لفظة الترك استجلابا لهما عسى أن يتوكأ الترك الحقيقي الذي هو بعد أخذ في الشيء ، والقوم المتروكة ملتهم : الملك وأتباعه. وكرر قوله : (هُمْ) على جهة التأكيد ، وحسن ذلك للفاصلة التي بينهما.

وقوله : (وَاتَّبَعْتُ) الآية ، تماد من يوسف عليه‌السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية ، وزوال عن مواجهة ـ مجلث ـ لما تقتضيه رؤياه.

وقرأ «آبائي» بالإسكان في الياء الأشهب العقيلي وأبو عمرو ، وقرأ الجمهور «آبائي» بياء مفتوحة ، قال أبو حاتم : هما حسنتان فاقرأ كيف شئت. وأما طرح الهمزة فلا يجوز ، ولكن تخفيفها جيد ؛ فتصير ياء مكسورة بعد ياء ساكنة أو مفتوحة.

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ملتهم وشرعهم ، وكون ذلك فضلا عليهم بين ، إذ خصهم الله تعالى بذلك وجعلهم أنبياء. وكونه فضلا على الناس هو إذ يدعون به إلى الدين ويساقون إلى النجاة من عذاب الله عزوجل.

وقوله (مِنْ شَيْءٍ) هي (مِنْ) الزائدة المؤكدة التي تكون مع الجحد. وقوله (لا يَشْكُرُونَ) يريد الشكر التام الذي فيه الإيمان.

قوله عزوجل :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

وصفه لهما ب (صاحِبَيِ السِّجْنِ) هو : إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه ـ كما قال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤ ، الحشر : ٢٠] ، و (أَصْحابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : ١١٩] ونحو هذا ـ وإما أن يريد صحبتهما له في السجن ، فأضافهما إلى السجن بذلك ، كأنه قال : يا صاحبيّ في السجن ، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم ؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها «بالتفرق» ، ووصف الله تعالى ب «الوحدة» و «القهر» تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته ، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ، ثم كذلك أبدا حتى يصل إلى الحق ، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده ؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم.


وقوله : (إِلَّا أَسْماءً) ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء.

قال القاضي أبو محمد : والاسم الذي هو ألف وسين وميم ـ قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين ، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى ، وليس الاسم ـ على هذا ـ بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر ، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة ، فيحتمل أن يريد : إلا ذوات أسماء ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ ويحتمل ـ وهو الراجح المختار إن شاء الله ـ أن يريد : ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة ، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة ، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء ، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم ، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم ؛ فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية ، ومن هذه الآية وهم من قال ـ في قولنا : رجل وحجر ـ إن الاسم هو المسمى في كل حال ، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق.

ومفعول «سميتم» الثاني محذوف ، تقديره : آلهة ، هذا على أن «الأسماء» يراد بها ذوات الأصنام ، وأما على المعنى المختار ـ من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام ـ فقوله (سَمَّيْتُمُوها) بمنزلة وضعتموها ، فالضمير للتسميات ، ووكد الضمير ليعطف عليه.

وال (سُلْطانٍ) الحجة ، وقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء ، أي فما بالها إذن؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره ، و (الْقَيِّمُ) معناه : المستقيم. و (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لجهالتهم وغلبة الكفر.

ثم نادى (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال لنبو : أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وقال لمجلث : أما أنت فتصلب ، وذلك كله بعد ثلاث ، فروي أنهما قالا له : ما رأينا شيئا وإنما تحالمنا لنجربك ؛ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب ؛ وقيل : كانا رأيا ثم أنكرا.

وقرأت فرقة : «يسقي ربه» من سقى ، وقرأت فرقة من أسقى ، وهما لمعنى واحد لغتان وقرأ عكرمة والجحدري : «فيسقى ربه خمرا» بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه.

وأخبرهما يوسف عليه‌السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى : إن الأمر قد قضي ووافق القدر.

وقوله : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ) الآية. «الظن» هاهنا ـ بمعنى اليقين ، لأن ما تقدم من قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) يلزم ذلك ، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود : وقال قتادة : «الظن» ـ هنا ـ على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن.

قال القاضي أبو محمد : وقول يوسف عليه‌السلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ) دال على وحي ولا يترتب قول


قتادة إلا بأن يكون معنى قوله (قُضِيَ الْأَمْرُ) أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم ، والله أعلم بما يكون بعد.

وفي الآية تأويل آخر ، وهو : أن يكون (ظَنَ) مسندا إلى الذي قيل له : إنه يسقي ربه خمرا ، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج : وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب.

ومعنى الآية : قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : (اذْكُرْنِي) عند الملك ، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق ، أو يذكره بهما.

والضمير في أنساه قيل : هو عائد على يوسف عليه‌السلام ، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله ، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق ، فروي أن جبريل عليه‌السلام جاءه فعاتبه عن الله عزوجل في ذلك ، وطول سجنه عقوبة على ذلك ، وقيل : أوحي إليه : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك ، وقيل : إن الضمير في أنساه عائد على الساقي ـ قاله ابن إسحاق ـ أي نسي ذكر يوسف عند ربه ، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده ، و «الرب» ـ على هذا التأويل ـ الملك.

و (بِضْعَ) في كلام العرب اختلف فيه ، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة ، قاله ابن عباس ، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه‌الله في الدعاوى والأيمان ؛ وقال أبو عبيدة : «البضع» لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة ، وقال الأخفش «البضع» من الواحد إلى العشرة ، وقال قتادة : «البضع» من الثلاثة إلى التسعة ، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس «أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع». وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة ، قال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف ، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه‌السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) بالبقاء في السجن سبع سنين ، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة ، وقيل : عوقب ببقاء سنتين ، وقال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» ، ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.

قوله عزوجل :

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)(٤٥)

المعنى : (وَقالَ الْمَلِكُ) الأعظم : (إِنِّي أَرى) يريد في منامه ، وقد جاء ذلك مبينا في قوله تعالى :


(إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات : ١٠٤]. وحكيت حال ماضية ف (أَرى) وهو مستقبل من حيث يستقبل النظر في الرؤيا. (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) يروى أنه قال : رأيتها خارجة من نهر ، وخرجت وراءها (سَبْعٌ عِجافٌ) ، فرأيتها أكلت تلك السمان حتى حصلت في بطونها ورأى «السنابل» أيضا كما ذكر ، و «العجاف» التي بلغت غاية الهزال ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

ورجال مكة مسنتون عجاف

ثم قال لجماعته وحاضريه : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي).

قرأت فرقة بتحقيق الهمزتين ، وقرأت فرقة بأن لفظت بألف «أفتوني» واوا.

وقوله (لِلرُّءْيا) دخلت اللام لمعنى التأكيد والربط ، وذلك أن المفعول إذا تقدم حسن في بعض الأفعال أن تدخل عليه لام ، وإذا تأخر لم يحتج الفعل إلى ذلك. و «عبارة الرؤيا» مأخوذة من عبر النهر ، وهو تجاوزه من شط إلى شط ، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها.

وقوله : (قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ) الآية ، «الضغث» في كلام العرب أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه ، وربما كان ذلك من جنس واحد. وربما كان من أخلاط النبات ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) [ص : ٤٤] وروي أنه أخذ عثكالا من النخل ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل نحو هذا في حد أقامه على رجل زمن ، ومن ذلك قول ابن مقبل : [الكامل]

خود كأنّ فراشها وضعت به

أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها : ضغث على إبالة فيشبه اختلاط الأحلام باختلاط الجملة من النبات ، والمعنى أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من الأحلام بسبب النوم ، ولسنا من أهل العلم بذلك ، أي بما هو مختلط ورديء ؛ فإنما نفوا عن أنفسهم عبر الأحلام لا عبر الرؤيا على الإطلاق ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان». وقال للذي كان يرى رأسه يقطع ثم يرده فيرجع : «إذا لعب الشيطان بأحدكم في النوم فلا يحدث بذلك».

قال القاضي أبو محمد : فالأحلام وحدثان النفس ملغاة ، والرؤيا هي التي تعبر ويلتمس علمها.

والباء في قولهم (بِعالِمِينَ) للتأكيد ، وفي قولهم : (بِتَأْوِيلِ) للتعدية وهي متعلقة بقولهم (بِعالِمِينَ).

و (الْأَحْلامِ) جمع حلم ، يقال : حلم الرجل ـ بفتح اللام ـ يحلم : إذا خيل إليه في منامه ، والأحلام مما أثبتته الشريعة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا من الله وهي المبشرة والحلم المحزن من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يكره ، فليتفل على يساره ثلاث مرات وليقل : أعوذ بالله من شر ما رأيت ، فإنها لا تضره». وما كان عن حديث النفس في اليقظة فإنه لا يلتفت إليه.

ولما سمع الساقي ـ الذي نجا ـ هذه المقالة من الملك ومراجعة أصحابه ، تذكر يوسف وعلمه بتأويل الأحلام والرؤى ، فقال مقالته في هذه الآية.


و (ادَّكَرَ) أصله ادتكر ـ افتعل ـ من الذكر ، قلبت التاء دالا وأدغم الأول في الثاني ، ثم بدلت دالا غير منقوطة لقوة الدال وجلدها ، وبعض العرب يقول : اذكر ؛ وقرىء «فهل من مذكر» [القمر : ١٥ ، ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠ ، ٥١] بالنقط و (مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٥ ، ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠ ، ٥١] على اللغتين ؛ وقرأ جمهور الناس : «بعد أمة» وهي المدة من الدهر ، وقرأ ابن عباس وجماعة «بعد أمة» وهو النسيان ، وقرأ مجاهد وشبل بن عزرة «بعد أمه» بسكون الميم وهو مصدر من أمه إذا نسي ، وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمة» بكسر الهمزة ، والإمة : النعمة والمعنى : بعد نعمة أنعمها الله على يوسف في تقريب إطلاقه وعزته.

وبقوله : (ادَّكَرَ) يقوي قول من يقول : إن الضمير في (أَنْسانِيهُ) [الكهف : ٦٣] عائد على الساقي ، والأمر محتمل.

وقرأ الجمهور : «أنا أنبئكم» وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «أنا آتيكم» ، وكذلك في مصحف أبي بن كعب.

وقوله : (فَأَرْسِلُونِ) استئذان في المضي ، فقيل : كان السجن في غير مدينة الملك ـ قاله ابن عباس ـ وقيل : كان فيها.

قال القاضي أبو محمد : ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال.

قوله عزوجل :

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)

المعنى : فجاء الرسول ـ وهو الساقي ـ إلى يوسف فقال له : يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) ـ وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير شيء ـ وهو بناء مبالغة من صدق ، وسمي أبو بكر صديقا من صدق غيره ، إذ مع كل تصديق صدق ، فالمصدق بالحقائق صادق أيضا ، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩].

ثم قال : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) أي فيمن رأى في المنام سبع بقرات ، وحكى النقاش حديثا روى فيه : أن جبريل عليه‌السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه ، وأخرجه من ، السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سببا لفرج يوسف. ويروى أن الملك كان يرى (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) يخرجن من نهر ، وتخرج وراءها (سَبْعٌ عِجافٌ) ، فتأكل العجاف السمان ، فكان يعجب كيف


غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف ، وكان يرى (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) وقد التفت بها سبع يابسات ، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضا لذلك.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي تأويل هذه الرؤيا ، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس. وقيل : (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سببا لتخلصك.

وقوله تعالى : (قالَ تَزْرَعُونَ) الآية ، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه‌السلام ثلاثة أنواع من القول :

أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ.

والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ).

والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا ألا يكون غيبا ، بل علم العبارة ، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع ، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف ، كما أعطى أن النهر مثال للزمان. إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالا للسنين.

و (دَأَباً) معناه : ملازمة لعادتكم في الزراعة ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

كدأبك من أم الحويرث قبلها ....................... البيت

وقرأ جمهور السبعة «دأبا» بإسكان الهمزة ، وقرأ عاصم وحده «دأبا» بفتح الهمزة ، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة ، وهما مثل : نهر ونهر. والناصب لقوله : (دَأَباً تَزْرَعُونَ) ، عند أبي العباس المبرد ، إذ في قوله (تَزْرَعُونَ) تدأبون ، وهي عنده مثل قولهم : قعد القرفصاء ، واشتمل الصماء ؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر ، كأنه قال : تزرعون تدأبون دأبا.

وقوله (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ) هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب ، ويؤكل الأقدم فالأقدم ؛ فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر ، وادخروا أيضا الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته ، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس ، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه‌السلام في دعائه على قريش : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء حتى دعا لهم النبي عليه‌السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين ، وروي أن يوسف عليه‌السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره ، قال له الملك : قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة ، فكان هذا أول ما ولي يوسف.

وأسند الأكل في قوله : (يَأْكُلْنَ) إلى السنين اتساعا من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦ ، يونس : ٦٧ ، غافر : ٦١] وكما قال : نهارك بطال وليلك قائم ؛ وهذا كثير في كلام


العرب. ويحتمل أن يسمى فعل الجدب وإيباس البلالات أكلا ، وفي الحديث : «فأصابتهم سنة حصت كل شيء» ؛ وقال الأعرابي في السنة جمشت النجم ، والتحبت اللحم ، وأحجنت العظم.

و (تُحْصِنُونَ) معناه تحرزون وتخزنون ، قاله ابن عباس ، وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ، ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز.

وقوله : (يُغاثُ) جائز أن يكون من الغيث ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ، أي يمطرون ، وجائز أن يكون من أغاثهم الله ، أذا فرج عنهم ، ومنه الغوث وهو الفرج.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يعصرون» بفتح الياء وكسر الصاد ، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة ، وقال جمهور المفسرين : هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة ؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئا مدة الجدب ، والحلب منه لأنه عصر للضروع. وقال أبو عبيدة وغيره : ذلك مأخوذ من العصرة والعصر وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : [الخفيف]

صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود

ومنه قول عدي بن زيد : [الرمل]

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

ومنه قول ابن مقبل : [البسيط]

وصاحبي وهوه مستوهل زعل

يحول بين حمار الوحش والعصر

ومنه قول لبيد : [الطويل]

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم

وما كان وقافا بغير معصر

أي بغير ملتجأ ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة.

وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد «يعصرون» بضم الياء وفتح الصاد ، وهذا مأخوذ من العصرة ، أي يؤتون بعصرة ؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم ، قال ابن المستنير : معناها يمطرون ، وحكى النقاش أنه قرىء «يعصرون» وجعلها من عصر البلل ونحوه. ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة ردا كثيرا بغير حجة.

قوله عزوجل :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)(٥٠)

في تضاعيف هذه الآية محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدل عليها ، والمعنى هنا : فرجع الرسول إلى


الملأ والملك فقص عليهم مقالة يوسف ، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي وتضمن الغيب في أمر العام الثامن ، مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنامة المتقدمة ، فعظم يوسف في نفس الملك ، وقال (ائْتُونِي بِهِ) ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه ، وقال : إن الملك قد أمر بأن تخرج ، قال له : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ـ أي الملك ـ وقل له : (ما بالُ النِّسْوَةِ) ومقصد يوسف عليه‌السلام إنما كان ـ وقل له : يستقصي عن ذنبي وينظر في أمري ، هل سجنت بحق أو بظلم. فرسم قصته بطرف منها إذا وقع النظر عليه بان الأمر كله. ونكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له.

وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو حيوة «النّسوة» بضم النون ، وقرأ الباقون «النّسوة» بكسر النون. وهما لغتان في تكسير نساء الذي هو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقرأت فرقة «اللايي» بالياء ، وقرأ فرقة «اللاتي» بالتاء وكلاهما جمع التي.

وكان هذا الفعل من يوسف عليه‌السلام أناة وصبرا وطلبا لبراءة الساحة ، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا ، فيراه الناس بتلك العين أبدا ، ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ، فأراد يوسف عليه‌السلام أن تبين براءته وتتحقق منزلته من العفة والخير ، وحينئذ يخرج للإخطاء والمنزلة ؛ وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يرحم الله أخي يوسف ، لقد كان صابرا حليما ، ولو لبثت في السجن لبثه لأجبت الداعي ولم ألتمس العذر حينئذ» ، وروي نحو هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك في كتاب التفسير من صحيح البخاري ، وليس لابن القاسم في الديوان غيره.

وهنا اعتراض ينبغي أن ينفصل عنه ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما ذكر هذا الكلام على جهة المدح ليوسف ، فما باله هو ، يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره ، فالوجه في ذلك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي له جهة أيضا من الجودة ، أي لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك ؛ وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها يوم القيامة ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور ، وذلك أن المتعمق في مثل هذه النازلة التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن ، ربما تنتج له من ذلك البقاء في سجنه ، وانصرفت نفس مخرجه عنه ، وإن كان يوسف عليه‌السلام أمن من ذلك بعلمه من الله فغيره من الناس لا يأمن ذلك ؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح ، وما فعله يوسف عليه‌السلام صبر عظيم وجلد.

وقوله (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يحتمل أن يريد بالرب الله عزوجل ، وفي الآية وعيد ـ على هذا ـ وتهديد ، ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه ، ففي ذلك استشهاد به وتقريع له.

والضمير في «كَيْدَهُنَّ» ل (النِّسْوَةِ) المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب.

قوله عزوجل :

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ


امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٥١)

المعنى : فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن ، وقال لهن : (ما خَطْبُكُنَّ ...) الآية ، أي : أي شيء كانت قصتكن؟ فهو استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد ، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة ، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن ـ جوابا عن ذلك ـ (حاشَ لِلَّهِ) وقد يحتمل ـ على بعد ـ أن يكون قولهن (حاشَ لِلَّهِ) في جهة يوسف عليه‌السلام ، وقولهن : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) ليس بإبراء تام ، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين ، ولو قلن : ما علمن عليه إلا خيرا لكان أدخل في التبرية. وقد بوب البخاري على هذه الألفاظ على أنها تزكية ، وأدخل قول أسامة بن زيد في حديث الإفك : أهلك ولا نعلم إلا خيرا.

قال القاضي أبو محمد : وأما مالك رحمه‌الله فلا يقنع بهذا في تزكية الشاهد ، لأنه ليس بإثبات العدالة.

قال بعض المفسرين فلما سمعت زوجة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي حضرتها نية وتحقيق ، فقالت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ). و (حَصْحَصَ) معناه : تبين بعد خفائه ، كذا قال الخليل وغيره وقيل : هو مأخوذ من الحصة ، أي بانت حصته من حصة الباطل. ثم أقرت على نفسها بالمراودة والتزمت الذنب وأبرأت يوسف البراءة التامة.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٣)

قالت جماعة من أهل التأويل : هذه المقالة هي من يوسف عليه‌السلام ، وذلك : (لِيَعْلَمَ) العزيز سيدي (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في أهله وهو غائب ، وليعلم أيضا أن الله تعالى (لا يَهْدِي) كيد خائن ولا يرشد سعيه.

قال القاضي أبو محمد : والهدى للكيد مستعار ، بمعنى لا يكلمه ولا يمضيه على طريق إصابة ، ورب كيد مهدي إذا كان من تقي في مصلحة.

واختلفت هذه الجماعة فقال ابن جريج : هذه المقالة من يوسف هي متصلة بقوله للرسول : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٠] ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، فالإشارة بقوله : (ذلِكَ) ـ على هذا التأويل ـ هي إلى بقائه في السجن والتماسه البراءة أي هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه.

وقال بعضهم : إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها ، إلى قولها : (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف : ٥١] فالإشارة ـ على هذا ـ إلى إقرارها ، وصنع الله تعالى فيه ، وهذا يضعف ، لأنه


يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك ، وبعد هذا يقول الملك : (ائْتُونِي بِهِ) [يوسف : ٥٤].

وقالت فرقة من أهل التأويل : هذه الآية من قول امرأة العزيز ، وكلامها متصل ، أي قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه ؛ والتقدير ـ على هذا التأويل توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه وأن الله لا يهدي ...

وعلى أن الكلام من يوسف يجيء التقدير : وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.

وقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) الآية ، هذه أيضا مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة ، حسب التي قبلها :

فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما قال يوسف : (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبريل : ولا حين هممت وحللت سراويلك ، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك. وروي أن المرأة قالت له ذلك ، قاله السدي ، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، قاله ابن عباس أيضا.

ومن قال : إن المرأة قالت (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات ، كأنها قالت : وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرىء أنا منه نفسي ، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه.

وأمارة بناء مبالغة ، و (ما) في قوله : (إِلَّا ما رَحِمَ) مصدرية ، هذا قول الجمهور فيها ، وهو على هذا. استثناء منقطع ، أي إلا رحمة ربي. ويجوز أن تكون بمعنى «من» ، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع ، كذا قال أبو علي ، فتقدير الآية : إلا النفوس التي يرحمها الله.

قال القاضي أبو محمد : وإذن النفس اسم جنس ، فصح أن تقع (ما) مكان «من» إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه ، وهو نص في كلام المبرد ، وهو ـ عندي ـ معنى كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي علي ـ ذكره في البغداديات.

ويجوز أن تكون (ما) ظرفية ، المعنى : أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي.

ثم ترجى في آخر الآية بقوله : (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله عزوجل :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ(٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ


يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)

المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه ، وتحقق في القصة أمانته ، وفهم أيضا صبره وجلده ، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي).

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي أمّ يوسف عليه‌السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فتأمل أن الملك قال أولا ـ حين تحقق علمه ـ (ائْتُونِي بِهِ) [يوسف : ٥٠] فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل ، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ، فلما جاءه وكلمه قال : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه ، إذ المرء مخبوء تحت لسانه ؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز.

و (أَمِينٌ) من الأمانة ، وقالت فرقة هو بمعنى آمن.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيرا ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له : إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي ، فقال له يوسف : أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم الخليل ، وابن إسحاق الذبيح ، وابن يعقوب الصديق.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الحديث بعد وضعف ، وقد قال ابن ميسرة : إنما جرى هذا في أول أمره ، كان يأكل مع العزيز ، فلما جرت قصد المرأة قالت للعزيز : أتدع هذا يواكلك؟ فقال له : اذهب فكل مع العبيد ؛ فأنف وقال ما تقدم.

اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية ، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر ، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك.

وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، ولو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر : ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل فقال : «عظيم الروم» ، ولم يقل : ملكا ولا أميرا ، لأن ذلك حكم ، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب ، ولو كتب له النبي عليه‌السلام : أمير الروم ، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله : شهد ـ والله ـ لي أبو الحسن.

وقوله تعالى : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) الآية ، فهم يوسف عليه‌السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك ، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله.


قال بعض أهل التأويل : في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه ، فيصلح منه ما شاء ؛ وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره ، فلا يجوز له ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه‌السلام لرغبته في أن يقع العدل ، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مع نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين ... الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه ، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره.

و (خَزائِنِ) لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. و (حَفِيظٌ عَلِيمٌ) صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء ، مثل قولهم : «حفيظ» بالحساب «عليم» بالألسن ، وقول بعضهم : «حفيظ» لما استودعتني ، «عليم» بسني الجوع ، وهذا كله تخصيص لا وجه له ، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال : مصر خزانة الأرض ، واحتج بهذه الآية.

وقوله (خَزائِنِ الْأَرْضِ) يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط ، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها ، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) الآية ، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الأفعال المنصوصة ، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض.

قال القاضي أبو محمد : فروي أن العزيز مات في تلك الليالي ، وقال ابن إسحاق : بل عزله الملك ثم مات أطفير ، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته ، فلما دخلت عليه عروسا قال لها : أليس هذا خيرا مما كنت أردت؟ فقالت له : أيها الصديق كنت في غاية الجمال ، وكنت شابة عذراء ، وكان زوجي لا يطأ ، فغلبتني نفسي في حبك ، فدخل يوسف بها فوجدها بكرا ، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز ، وولاه موضعه ، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع ، قال مجاهد : وأسلم الملك آخر أمره ، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه ، ومات وافتقرت زوجته ، وزمنت وشاخت ، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق ، والجنود حوله ووراءه ، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب (هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، وَسُبْحانَ اللهِ ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف : ١٠٨] فصاحت به وقالت : سبحان من أعز العبيد بالطاعة ، وأذل الأرباب بالمعصية ، فعرفها ، وقالت له : تعطف عليّ وارزقني شيئا فدعاها وكلمها ، وأشفق لحالها ، ودعا الله تعالى ، فرد عليها جمالها وتزوجها.

قال القاضي أبو محمد : وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته ، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور : «حيث يشاء» على الإخبار عن يوسف ؛ وقرأ ابن كثير وحده «حيث نشاء» بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه ، وحكى أبو حاتم هذه


القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين ؛ وقال أبو علي : إما أن يكون تقدير هذه القراءة : حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات ، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها ؛ وإما أن يكون معناها : حيث يشاء يوسف ، لكن أضاف الله عزوجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده ، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧].

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية ، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين ، فتأمله.

واللام في قوله : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) يجوز أن تكون على حد التي في قوله (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] و (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣]. وقوله : (يَتَبَوَّأُ) في موضع نصب على الحال ، و (حَيْثُ يَشاءُ) نصب على الظرف أو على المفعول به ، كما قال الشماخ : حيث تكوى النواحز. وباقي الآية بين.

ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد ، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولا بد من حسن عاقبته في الدنيا ، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضا ومقصدا ، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.

قوله عزوجل :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ)(٦٠)

قال السدي وغيره : سبب مجيئهم أن الجماعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب ، وروي أنه كان في الغربات من أرض فلسطين بغور الشام. وقيل : كان بالأولاج من ناحية الشعب ، وكان صاحب بادية له إبل وشاء ، فأصابهم الجوع ، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة ، فكان الناس يمتارون من عند يوسف ، وهو في رتبة العزيز المتقدم ، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير ، يسوي بين الناس ، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف ولم يعرفوه هم ، لبعد العهد وتغير سنه ، ولم يقع لهم ـ بسبب ملكه ولسانه القبطي ـ ظن عليه ؛ وروي في بعض القصص : أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم ـ بترجمان ـ أظنكم جواسيس ، فاحتاجوا ـ حينئذ ـ إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثني عشر ، ذهب واحد منا في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منا ، وكانوا عشرة ، ولهم أحد عشر بعيرا ؛ فقال لهم يوسف : ولم تخلف أخوكم؟ قالوا : لمحبة أبينا فيه ، قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه


أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين؟ وروي في القصص أنهم وردوا مصر ، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان ، فعرفهم ، وأمر بإنزالهم ، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأهبة شنيعة ؛ وروي أنه كان متلثما أبدا سترا لجماله ، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره ، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه ؛ فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم يوسف : صدقتم ، فلما قالوا : وكان لنا أخ أكله الذئب ، طن يوسف الصاع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم ، وقال : أراكم جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك ، في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة.

و «الجهاز» ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل ، وكذلك جهاز العروس وجهاز الميت.

وقول يوسف عليه‌السلام : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) الآية ، يرغبهم في نفسهم آخرا ، ويؤنسهم ويستميلهم. و (الْمُنْزِلِينَ) يعني المضيفين في قطره ووقته ، و «الجهاز» ـ المشار إليه ـ الطعام الذي كان حمله لهم ، ثم توعدهم إن لم يجيئوا بالأخ بأنه لا كيل لهم عنده في المستأنف ، وأمرهم ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة ، و (لا تَقْرَبُونِ) نهي لفظا ومعنى ، ويجوز أن يكون لفظه الخبر ومعناه النهي ، وتحذف إحدى النونين كما قرىء (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] ـ بكسر النون ـ وهذا خبر لا غير. وخلط النحاس في هذا الموضع ؛ وقال مالك رحمه‌الله : هذه الآية وما يليها تقتضي أن كيل الطعام على البائع ، وكذلك هي الرواية في التولية والشركة : أنها بمنزلة البيع ، والرواية في القرض : أن الكيل على المستقرض.

وروي أنه حبس منهم شمعون رهينة حتى يجيئوه ببنيامين ، ـ قاله السدي ـ وروي : أنه لم يحبس منهم أحدا. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن فيقول لهم : إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أبا شيخا».

قال القاضي أبو محمد : كأنها حيلة وإيهام لهم ، وروي : أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهارا لعزته بحسب غلائه في تلك المدة ، وروي : أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس ، ثم أملاكهم ، فمن هناك ليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه ، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى.

قوله عزوجل :

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣)

تقدم معنى «المراودة» أي سنفائل أباه في أن يتركه يأتي معنا إليك ، ثم شددوا هذه المقالة بأن


التزموها له في قولهم : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ، وأراد يوسف عليه‌السلام المبالغة في استمالتهم بأن رد مال كل واحد منهم في رحله بين طعامه ، وأمر بذلك فتيانه.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «لفتيته» وقرأ حمزة والكسائي : «لفتيانه» ، واختلف عن عاصم ، ففتيان للكثرة ـ على مراعاة المأمورين ـ وفتية للقلة ـ على مراعاة المتناولين وهم الخدمة ـ ويكون هذا الوصف للحر والعبد. وفي مصحف ابن مسعود : «وقال لفتيانه» وهو يكايلهم.

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) يريد : لعلهم يعرفون لها يدا ، أو تكرمة يرون حقها ، فيرغبون فينا ، فلعلهم يرجعون حينئذ وأما ميز البضاعة فلا يقال فيه : لعل ، وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن ، وهذا ضعيف من وجوه ، وسرورهم بالبضاعة وقولهم : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) [يوسف : ٦٥] يكشف أن يوسف لم يقصد هذا وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم ، فيرغبهم في نفسه كالذي كان ؛ وخص البضاعة بعينها ـ دون أن يعطيهم غيرها من الأموال ـ لأنها أوقع في نفوسهم ، إذ يعرفون حلها ، وماله هو إنما كان عندهم مالا مجهول الحال ، غايته أن يستجاز على نحو استجازتهم قبول الميرة ؛ ويظهر أن ما فعل يوسف من صلتهم ، وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه ، إذ هو ملك عدل وهم أهل إيمان ونبوة ؛ وقيل : علم عدم البضاعة والدراهم عند أبيه ، فرد البضاعة إليهم لئلا يمنعهم العدم من الانصراف إليه ؛ وقيل : جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستئلاف وصلة الرحم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «نكتل» بالنون على مراعاة (مُنِعَ مِنَّا) ويقويه : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَزْدادُ) [يوسف : ٦٥] وقرأ حمزة والكسائي : «يكتل» بالياء ، أي يكتل يامين كما اكتلنا نحن.

وأصل (نَكْتَلْ) ، وزنه نفتعل. وقولهم (مُنِعَ مِنَّا) ظاهره أنهم أشاروا إلى قوله : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) [يوسف : ٦٠] فهو خوف في المستأنف ؛ وقيل : أشاروا إلى بعير بنيامين ـ الذي لم يمتر ـ والأول أرجح. ثم تضمنوا له حفظه وحيطته.

قوله عزوجل :

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)(٦٥)

قوله (هَلْ) توقيف وتقرير ، وتألم يعقوب عليه‌السلام من فرقة بنيامين ، ولم يصرح بمنعهم من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة ، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم. وأنه يخاف عليه من كيدهم ، ولكن


ظاهر أمرهم أنهم كانوا نبئوا وانتقلت حالهم ، فلم يخف كمثل ما خاف على يوسف من قبل ، لكن أعلم بأن في نفسه شيئا ، ثم استسلم لله تعالى ، بخلاف عبارته في قصة يوسف.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ «خير حفظا» وقرأ حمزة والكسائي وحفص ـ عن عاصم ـ «خير حافظا» ونصب ذلك ـ في القراءتين ـ على التمييز. وقال الزجاج : يجوز أن ينصب «حافظا» على الحال ، وضعف ذلك أبو علي الفارسي ، لأنها حال لا بد للكلام والمعنى منها ، وذلك بخلاف شرط الحال ، وإنما المعنى أن حافظ الله خير حافظكم. ومن قرأ «حفظا» فهو مع قولهم : (وَنَحْفَظُ أَخانا). ومن قرأ «حافظا» فهو مع قولهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ٦٣] فاستسلم يعقوب عليه‌السلام لله وتوكل عليه. قال أبو عمرو الداني : قرأ ابن مسعود : «فالله خير حافظ وهو خير الحافظين».

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا بعد.

وقوله : (فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) سمى المشدود المربوط بحملته متاعا ، فلذلك حسن الفتح فيه ، قرأ جمهور الناس : «ردت» بضم الراء ، على اللغة الفاشية عن العرب ، وتليها لغة من يشم ، وتليها لغة من يكسر. وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب «ردت» بكسر الراء على لغة من يكسر ـ وهي في بني ضبة ـ ، قال أبو الفتح : وأما المعتل ـ نحو قيل وبيع ـ فالفاشي فيه الكسر ، ثم الإشمام ، ثم الضم ، فيقولون : قول وبوع ، وأنشد ثعلب : [الرجز]

...... وقول لا أهل له ولا مال

قال الزجاج : من قرأ : «ردت» بكسر الراء ـ جعلها منقولة من الدال ـ كما فعل في قيل وبيع ـ لتدل على أن أصل الدال الكسرة.

وقوله (ما نَبْغِي) يحتمل أن تكون (ما) استفهاما ، قاله قتادة. و (نَبْغِي) من البغية ، أي ما نطلب بعد هذه التكرمة؟ هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا. قال الزجّاج : ويحتمل أن تكون (ما) نافية ، أي ما بقي لنا ما نطلب ، ويحتمل أيضا أن تكون نافية ، و (نَبْغِي) من البغي ، أي ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة.

وقرأ أبو حيوة «ما تبغي» ـ بالتاء ، على مخاطبة يعقوب ، وهي بمعنى : ما تريد وما تطلب؟ قال المهدوي : وروتها عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأت فرقة : «ونمير» بفتح النون ـ من مار يمير : إذا جلب الخير ، ومن ذلك قول الشاعر : [الوافر]

بعثتك مائرا فمكثت حولا

متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأت عائشة رضي الله عنها : «ونمير» بضم النون ـ وهي من قراءة أبي عبد الرحمن السلمي ـ وعلى هذا يقال : مار وأمار بمعنى ...؟

وقولهم : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة ولم


يحمل الحادي عشر لغيب صاحبه : وقال مجاهد : (كَيْلَ بَعِيرٍ) أراد كيل حمار. قال : وبعض العرب يقول للحمار بعير.

قال القاضي أبو محمد : وهذا شاذ.

وقولهم : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) تقرير بغير ألف ، أي أذلك كيل يسير في مثل هذا العام فيهمل أمره؟ وقيل : معناه : (يَسِيرٌ) على يوسف أن يعطيه. وقال الحسن البصري : وقد كان يوسف وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن ؛ وقال السدي : معنى (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي سريع لا نحبس فيه ولا نمطل.

قال القاضي أبو محمد : فكأنهم أنسوه على هذا بقرب الأوبة.

قوله عزوجل :

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٦٧)

أراد يعقوب عليه‌السلام أن يتوثق منهم. و «الموثق» ـ مفعل ـ من الوثاقة. فلما عاهدوه أشهد الله بينه وبينهم بقوله : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) و «الوكيل» القيم الحافظ الضامن.

وقرأ ابن كثير «تؤتوني» بياء في الوصل والوقف ، وروي عن نافع أنه وصل بياء ووقف دونها. والباقون تركوا الياء في الوجهين.

وقوله : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) قيل : خشي عليهم العين لكونهم أحد عشر لرجل واحد ، وكانوا أهل جمال وبسطة. قال ابن عباس والضحاك وقتادة وغيره : والعين حق ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» ، وفي تعوذه عليه‌السلام : «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وكل عين لامة». وقيل : خشي أن يستراب بهم لقول يوسف قبل : أنتم جواسيس ويضعف هذا ظهورهم قبل بمصر. وقيل : طمع بافتراقهم أن يستمعوا أو يتطلعوا خبر يوسف ـ وهذا ضعيف يرده : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فإن ذلك لا يتركب على هذا المقصد.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر والمعنى تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلص. وقال مجاهد : المعنى : إلا أن تهلكوا جميعا. وقال قتادة : إلا ألا تطيقوا ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يرجحه لفظ الآية. وانظر أن يعقوب عليه‌السلام قد توثق في هذه القصة ، وأشهد الله تعالى ، ووصى بنيه ، وأخبر بعد ذلك بتوكله ، فهذا توكل مع تسبب ، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شط في رفض السعي وقنع بماء وبقل البرية ونحوه ، فتلك غاية التوكل وعليها بعض الأنبياء


عليهم‌السلام ، والشارعون منهم مثبتون سنن التسبب الجائز ، وما تجاوز ذلك من الإلقاء باليد مختلف في جوازه ، وقد فضله بعض المجيزين له ، ولا أقول بذلك ، وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٩)

روي أنه لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا. وفي كتاب أبي منصور المهراني : أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف فبكى.

وقوله : (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) بمثابة قولهم : لم يكن في ذلك دفع قدر الله بل كان أربا ليعقوب قضاه. وطيبا لنفسه تمسك به وأمر بحبسه. فجواب (لَمَّا) في معنى قوله : (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) و (إِلَّا حاجَةً) استثناء ليس من الأول. وال (حاجَةً) هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة خوف العين. قال مجاهد : «الحاجة» : خيفة العين ، وقاله ابن إسحاق ، وفي عبارتهما تجوز : ونظير هذا الفعل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سد كوة في قبر بحجر وقال : «إن هذا لا يغني شيئا ولكنه تطيب لنفس الحي».

قال القاضي أبو محمد : وقوله ـ عندي ـ (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) معناه : ما رد عنهم قدرا ، لأنه لو قضي أن تصيبهم عين لأصابتهم مفترقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة فوصى وقضى بذلك حاجته في نفسه في أن يتنعم برجائه ، أن تصادف القدر في سلامتهم.

ثم أثنى الله عزوجل على يعقوب بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى ، واندرج غير ذلك في العموم وقال إن أكثر الناس ليس كذلك ، وقيل : معناه : إنه لعامل بما علمناه ـ قاله قتادة ـ وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالما.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، اما انه صحيح في نفسه يرجحه المعنى ، ومات تقتضيه منزلة يعقوب عليه‌السلام.

قال أبو حاتم : قرأ الأعمش (لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ). ويحتمل أن يكون جواب (لَمَّا) في هذه الآية محذوفا مقدرا ، ثم يخبر عن دخولهم أنه (ما كانَ يُغْنِي ...) الآية.

وقوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) الآية. المعنى أنه لما دخل إخوة يوسف عليه ورأى أخاه شكر ذلك لهم ـ على ما روي ـ وضم إليه أخاه وآواه إلى نفسه : ومن هذه الكلمة المأوى. وكان بنيامين


شقيق يوسف فآواه. وصورة ذلك ـ على ما روي عن ابن إسحاق وغيره ـ أن يوسف عليه‌السلام أمر صاحب ضيافته أن ينزلهم رجلين رجلين ، فبقي يامين وحده ، فقال يوسف : أنا أنزل هذا مع نفسي ، ففعل وبات عنده ؛ وقال له : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) واختلف المتأولون في هذا اللفظ فقال ابن إسحاق وغيره : أخبره بأنه أخوه حقيقة واستكتمه ، وقال له : لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم. وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى ما يعمله فتيان يوسف ، من أمر السقاية ونحو ذلك ؛ ويحتمل أن يشير إلى ما عمله الإخوة قديما. وقال وهب بن منبه : إنما أخبره أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب ، ولم يكشف إليه الأمر بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته. و (تَبْتَئِسْ) ـ تفتعل ـ من البؤس ، أي لا تحزن ولا تهتم ، وهكذا عبر المفسرون.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ(٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٧٥)

هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه‌السلام ، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق ، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم ، فعلم يوسف أن إخوته ـ لثقتهم ببراءة ساحتهم ـ سيدعون في السرقة إلى حكمهم ؛ فتحيل لذلك ، واستسهل الأمر ـ على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه‌السلام ، وعليهم ـ لما علم في ذلك من الصلاح في الأجل ، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك ، ـ هذا تأويل قوم ، ويقويه. قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف : ٧٦] وقيل : إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى على ما ظهر إليه ـ ورجحه الطبري ؛ وتفتيش الأوعية يرد عليه. وقيل : إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا ، وإنه عوقب على ذلك بأن قالوا : «فقد سرق أخ له من قبل» وقوله : (جَعَلَ) أي بأمره خدمته وفتيانه.

وقرأ ابن مسعود «وجعل» بزيادة واو. و (السِّقايَةَ) : الإناء الذي به يشرب الملك وبه كان يكيل الطعام للناس ، هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن زيد.

قال القاضي أبو محمد : وفي كتب من حرر أمرها أنها شكل له رأسان ويصل بينهما مقبض تمسك الأيدي فيه فيكال الطعام بالرأس الواحد ويشرب بالرأس الثاني أو بهما. فيشبه أن تكون لشرب أضياف


الملك وفي أطعمته الجميلة التي يحتاج فيها إلى عظيم الأواني. وقال سعيد بن جبير : ال (صُواعَ) مثل المكوك الفارسي ، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه ، وكان إلى الطول ما هو ، قال : وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية.

قال القاضي أبو محمد : وقال ابن جبير ـ أيضا ـ «الصواع» : المكوك الفارسي الذي تلتقي طرفاه ، كانت تشرب فيه الأعاجم. وروي أنها كانت من فضة ـ وهذا قول الجمهور ـ وروي أنها كانت من ذهب قال الزجاج : وقيل : كان من مسك.

قال القاضي أبو محمد : وقد روي هذا بفتح الميم ، وقيل : كان يشبه الطاس ، وقيل : من نحاس ـ قاله ابن عباس أيضا ـ ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيلها على ذلك الإناء. وكان هذا الجعل بغير علم من يامين ـ قاله السدي ، وهو الظاهر.

فلما فصلت العير بأوفارها وخرجت من مصر ـ فيما روي وقالت فرقة بل قبل الخروج من مصر ـ أمر بهم فحبسوا. و (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) و «مخاطبة العير» تجوز ، والمراد أربابها ، وإنما المراد : أيتها القافلة أو الرفقة ، وقال مجاهد : كانت دوابهم حميرا ، ووصفهم بالسرقة من حيث سرق في الظاهر أحدهم ، وهذا كما تقول : بنو فلان قتلوا فلانا ، وإنما قتله أحدهم.

فلما سمع إخوة يوسف هذه المقالة أقبلوا عليهم وساءهم أن يرموا بهذه المنقبة ، وقالوا : (ما ذا تَفْقِدُونَ) ليقع التفتيش فتظهر براءتهم ، ولم يلوذوا بالإنكار من أول ، بل سألوا إكمال الدعوى عسى أن يكون فيها ما تبطل به ، فلا يحتاج إلى خصام.

وقرأ أبو عبد الرحمن : «تفقدون» بضم التاء ، وضعفها أبو حاتم.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) : وهو المكيال وهو السقاية رسمه أولا بإحدى جهتيه وآخرا بالثانية.

وقرأ جمهور الناس «صواع» بضم الصاد وبألف ، وقرأ أبو حيوة : «صواع» بكسر الصاد وبألف ، وقرأ أبو هريرة ومجاهد «صاع الملك» بفتح الصاد دون واو ، وقرأ عبد الله بن عوف : «صوع» بضم الصاد ، وقرأ أبو رجاء «صوع» وهذه لغة في المكيال ـ قاله أبو الفتح وغيره ـ وتؤنث هذه الأسماء وتذكر. وقال أبو عبيد : يؤنث الصاع من حيث سمي سقاية ، ويذكر من حيث هو صاع. وقرأ يحيى بن يعمر : «صوغ» بالغين منقوطة ـ وهذا على أنه الشيء المصوغ للملك على ما روي أنه كان من ذهب أو من فضة ، فهو مصدر سمي به ، ورويت هذه القراءة عن أبي رجاء. قال أبو حاتم : وقرأ سعيد بن جبير والحسن «صواغ» بضم الصاد وألف وغين معجمة.

وقوله : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ، أي لمن دل على سارقه وفضحه وجبر الصواع ـ وهذا جعل ـ وقوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) حمالة ، وذلك أنه لما كان الطعام لا يوجد إلا عند الملك فهم من المؤذن أنه إنما جعل عن غيره ، فلخوفه ألا يوثق بهذه الجعالة ـ إذ هي عن الغير ـ تحمل هو بذلك. قال مجاهد : ال (زَعِيمٌ) هو المؤذن الذي قال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) و «الزعيم» : الضامن ـ في كلام العرب ـ ويسمى الرئيس زعيما ، لأنه يتضمن حوائج الناس.


وقوله : (قالُوا : تَاللهِ) الآية ، روي : أن إخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فلذلك قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) أي لقد علمتم منا التحري ؛ وروي أنهم كانوا قد اشتهروا في مصر بصلاح وتعفف ، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس ، فلذلك قالوا : لقد علمتم ما جئنا لفساد وما نحن أهل سرقة.

والتاء في (تَاللهِ) بدل من واو ـ كما أبدلت في تراث وفي التورية وفي التخمة ـ ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى ، لا في غير ذلك ـ لا تقول : تالرحمن ولا تالرحيم ـ

وقوله تعالى : (قالُوا : فَما جَزاؤُهُ) الآية ، قال فتيان يوسف : فما جزاء السارق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في قولكم : (وَما كُنَّا سارِقِينَ)؟ فقال إخوة يوسف : جزاء السارق والحكم الذي تتضمنه هذه الألفاظ (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) ف (جَزاؤُهُ) الأول مبتدأ و (مَنْ) والجملة خبر قوله : (جَزاؤُهُ) الأول ، والضمير في (قالُوا جَزاؤُهُ) للسارق. ويصح أن تكون (مَنْ) خبرا عائد على (مَنْ) ويكون قوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) زياد بيان وتأكيد. وليس هذا الموضع ـ عندي ـ من مواضع إبراز الضمير على ما ذهب إليه بعض المفسرين ، ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله (فَهُوَ جَزاؤُهُ) وقولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه ، لأنهم التزموا إرغام من وجد في رحله ، وهذا أكثر من موجب شرعهم إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت سرقته ، وأمر بنيامين في السقاية كان محتملا. لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق. وقولهم (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ، أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة : أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق.

قال القاضي أبو محمد : وحكى بعض الناس : أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع ، وهذا ضعيف ، ما كان قط فيما علمت ، وحكى الزهراوي عن السدي : أن حكمهم إنما كان أن يستخدم السارق على قدر سرقته وهذا يضعفه رجوع الصواع فكان ينبغي ألا يؤخذ بنيامين إذ لم يبق فيما يخدم.

قوله عزوجل :

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

بدؤه ـ أيضا ـ من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة.

وقرأ جمهور الناس «وعاء» بكسر الواو ، وقرأ الحسن «وعاء» بضمها ، وقرأ ابن جبير «أعاء» بهمزة بدل الواو ، وذلك شائع في الواو المكسورة ، وهو أكثر في المضمومة ، وقد جاء من المفتوحة : أحد في وحد.

وأضاف الله تعالى إلى ضميره لما أخرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد ، وقال السدي والضحاك : (كِدْنا) معناه : صنعنا.


و (دِينِ الْمَلِكِ) فسره ابن عباس بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا متقارب ، والاستثناء في هذه الآية حكاية حال ، التقدير : إلا ان شاء الله ما وقع من هذه الحيلة ؛ ويحتمل أن يقدر أن تسنن لما قرر النفي.

وقرأ الجمهور «نرفع» على ضمير المعظم و «نشاء» كذلك ، وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء ، أي الله تعالى : «وقرأ أبو عمرو ونافع وأهل المدينة «درجات من» بإضافة الدرجات إلى (مَنْ) ، وقرأ عاصم وابن محيصن «درجات من» بتنوين» الدرجات ، وقرأ الجمهور ، «وفوق كل ذي علم». وقرأ ابن مسعود «وفوق كل ذي عالم» والمعنى أن البشر في العلم درجات ، فكل عالم فلا بد من أعلم منه ، فإما من البشر وإما الله عزوجل. وأما على قراءة ابن مسعود فقيل : (ذِي) زائدة ، وقيل : «عالم» مصدر كالباطل.

وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئا استغفر الله عزوجل تائبا من فعله ذلك ، وظاهر كلام قتادة وغيره ، أن المستغفر كان يوسف لأنه كان يفتشهم يعلم أين الصواع ، حتى فرغ منهم وانتهى إلى رحل بنيامين فقال : ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ، ولا أخذ شيئا ، فقال له إخوته ، والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا ، ففتش فأخرج السقاية ـ وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن إنما سرقه برأيه ، فإنما يقال جميع ذلك كان بأمر الله تعالى ، ويقوي ذلك قوله : (كِدْنا) ، وكيف لا يكون برأي يوسف وهو مضطر في محاولته إلى أن يلزمهم حكم السرقة له أخذ أخيه.

والضمير في قوله : (اسْتَخْرَجَها) عائد على (السِّقايَةَ) [يوسف : ٧٠] ، ويحتمل أن يعود على السرقة.

وروي أن إخوة يوسف لما رأوا ذلك قالوا : يا بنيامين بن راحيل قبحك الله ولدت أمك أخوين لصّين ، كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا له : فمن وضعها في رحلك قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم.

وما ذكرناه من المعنى في قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) هو قول الحسن وقتادة ، وقد روي عن ابن عباس ، وروي أيضا عنه رضي الله عنه : أنه حدث يوما بحديث عجيب فتعجب منه رجل ممن حضر ، وقال : الحمد لله (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ، وقال ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم لله وهو فوق كل ذي علم.

قال القاضي أبو محمد : فبين هذا وبين قول الحسن فرق.

قوله عزوجل :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)(٧٧)

الضمير في (قالُوا) لإخوة يوسف ، والأخ الذي أشاروا إليه هو يوسف ، ونكروه تحقيرا للأمر ، إذ


كان مما لا علم للحاضرين به ، ثم ألصقوه ببنيامين ، إذ كان شقيقه ، ويحتمل قولهم : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) تأويلين.

أحدهما : أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما‌السلام ، بحسب ظاهر الحكم ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف كان قد سرق. فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل : يوسف وبنيامين.

والوجه الآخر الذي يحتمله لفظهم يتضمن أن السرقة في جانب يوسف وبنيامين ـ مظنونة ـ كأنهم قالوا : إن كان هذا الذي رمي به بنيامين حقا في نفسه فالذي رمي به يوسف قبل حق إذا ، وكأن قصة يوسف والظن به قوي عندهم بما ظهر في جهة وبنيامين.

وقال بعض المفسرين : التقدير : فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، ونحو هذا من الأقوال التي لا ينطبق معناها على لفظ الآية.

وهذه الأقوال منهم عليهم‌السلام إنما كانت بحسب الظاهر وموجب الحكم في النازلتين ، فلم يقعوا في غيبة ليوسف ، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم ، ويختص بها هذان الشقيقان.

وأما ما روي في سرقة يوسف فثلاثة وجوه : الجمهور منها على أن عمته كانت ربته ، فلما شب أراد يعقوب أخذه منها ، فولعت به وأشفقت من فراقه ، فأخذت منطقة إسحاق ـ وكانت متوارثة عندهم ـ فنطقته بها من تحت ثيابه ، ثم صاحت وقالت : إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها ، ففتشت فوجدت عنده ، فاسترقّته ـ حسبما كان في شرعه ـ وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه.

وقال ابن إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاما فأخذ يوسف عرقا فخبأه فرموه لذلك بالسرقة ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : إنما أمرته أمه أن يسرق صنما لأبيها ، فسرقه وكسره ، وكان ذلك ـ منها ومنه ـ تغييرا للمنكر ، فرموه لذلك بالسرقة ، وفي كتاب الزجاج : أنه كان صنم ذهب.

والضمير في قوله : (فَأَسَرَّها) عائد يراد به الحزة التي حدثت في نفس يعقوب من قولهم ، والكلام يتضمنها ، وهذا كما تضمن الكلام الضمير الذي في قول حاتم :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

وهذا كقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٠] فهي مراد بها الحالة المتحصلة من هذه الأفعال.

وقال قوم : أسر المجازاة ، وقال قوم : أسر الحجة ، وما قدمناه أليق. وقرأ ابن أبي عبلة : «فأسره يوسف» بضمير تذكير.

وقوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) الآية ، الظاهر منه أنه قالها إفصاحا فكأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم تجهمهم بقوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي لسوء أفعالكم ، والله يعلم إن كان ما وصفتموه حقا ، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم ، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بالشيخ صلى


الله عليه وسلم. وقالت فرقة ـ وهو ظاهر كلام ابن عباس ـ لم يقل يوسف هذا الكلام إلا في نفسه ـ وإنما هو تفسير للذي أسر في نفسه ، أي هذه المقالة هي التي أسر ، فكأن المراد في نفسه : أنتم ...

وذكر الطبري هنا قصصا اختصاره : أنه لما استخرجت السقاية من رحل بنيامين قال إخوته : يا بني راحيل ألا يزال البلاء ينالنا من جهتكم؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم : ذهبتم بأخي فأهلكتموه ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فقالوا : لا تذكر الدراهم لئلا نؤخذ بها. ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فطن ، فقال : إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه ، فسجد بنيامين وقال : أيها العزيز سل صواعك هذا يخبرك بالحق.

قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص الذي آثرنا اختصاره. وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر يوسف بنيا له ، فمسه ، فسكن غضبه ، فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف ـ وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك ـ فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه عند ذلك وقالوا : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ...) [يوسف : ٨٨]

قوله عزوجل :

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٠)

خاطبوه باسم (الْعَزِيزُ) إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته ـ على ما روي في ذلك ـ وقولهم : (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) يحتمل أن يكون مجازا وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر ليسترقّ بدل من أحكمت السنة رقه ، وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ، ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف (مَعاذَ اللهِ) لأنه تعوذ من غير جائز ، ويحتمل أن يكون قولهم (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) حقيقة ، وبعيد عليهم ـ وهم أنبياء ـ أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة ، أي خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك ، ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ، ويعرف يعقوب جلية الأمر ، فمنع يوسف عليه‌السلام من ذلك ، إذ الحمالة في الحدود ونحوها لمعنى إحضار المضمون فقط جائزة مع التراضي غير لازمة إذا أبى الطالب ، وأما الحمالة في مثل ذلك ـ على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة ـ فلا يجوز ذلك إجماعا. وفي الواضحة : إن الحمالة بالوجه فقط في جميع الحدود جائزة إلا في النفس.


وقولهم : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوه من إحسانه في جميع أفعاله ـ معهم ومع غيرهم ـ ويحتمل أن يريدوا : إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا ـ وهذا تأويل ابن إسحاق.

و (مَعاذَ) نصب على المصدر ، ولا يجوز إظهار الفعل معه ، والظلم في قوله : (لَظالِمُونَ) على حقيقته ، إذ هو وضع الشيء في غير موضعه ، وذكر الطبري أنه روي أن يوسف أيأسهم بلفظه هذا ، قال لهم : إذا أتيتم أباكم فاقرأوا عليه‌السلام ، وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله.

وقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) الآية ، يقال : يئس واستيأس بمعنى واحد ، كما يقال : سخر واستسخر ، ومنه قوله تعالى : (يَسْتَسْخِرُونَ) [الصافات : ١٤] وكما يقال : عجب واستعجب ، ومنه قول أوس بن حجر : [الطويل]

ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم

ومنه نوك واستنوك ـ وعلى هذا يجيء قول الشاعر في بعض التأويلات : واستنوكت وللشباب نوك.

وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ ابن كثير : «استأيسوا» و «لا تأيسوا» و «لا يأيس» و «حتى إذا استأيس الرسل» أصله استأيسوا ـ استفعلوا ـ ومن أيس ـ على قلب الفعل من يئس إلى أيس ، وليس هذا كجذب وجبذ بل هذان أصلان والأول قلب ، دل على ذلك أن المصدر من يئس وأيس واحد ، وهو اليأس ، ولجذب وجبذ مصدران.

وقوله : (خَلَصُوا نَجِيًّا) معناه انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا ، والنجي لفظ يوصف به من له نجوى واحدا أو جماعة أو مؤنثا أو مذكرا ، فهو مثل عدو وعدل ، وجمعه أنجية ، قال لبيد :

وشهدت أنجية الأفاقة عاليا

كعبي وأرداف الملوك شهود

و (كَبِيرُهُمْ) قال مجاهد : هو شمعون لأنه كان كبيرهم رأيا وتدبيرا وعلما ـ وإن كان روبيل أسنهم ـ وقال قتادة : هو روبيل لأنه أسنهم ، وهذا أظهر ورجحه الطبري. وقال السدي : معنى الآية : وقال كبيرهم في العلم ، وذكرهم أخوهم الميثاق في قوله يعقوب (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف: ٦٦].

وقوله : (ما فَرَّطْتُمْ) يصح أن تكون (ما) صلة في الكلام لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر قوله : (فِي يُوسُفَ) ـ كذا قال أبو علي ـ ولا يجوز أن يكون قوله : (مِنْ قَبْلُ) متعلقا ب (فَرَّطْتُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وإنما تكون ـ على هذا ـ مصدرية ، التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع أو مستقر ، وبهذا المقدر يتعلق قوله : (مِنْ قَبْلُ). ويصح أن يكون في موضع نصب عطفا ، على أن التقدير : وتعلموا تفريطكم أو وتعلموا الذي فرطتم ، فيصح ـ على هذا الوجه ـ أن يكون بمعنى الذي ويصح أن تكون مصدرية.


وقوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أراد أرض القطر والموضع الذي ناله فيه المكروه المؤدي إلى سخط أبيه ، والمقصد بهذا اللفظ التحريج على نفسه والتزام التضييق ، كأنه سجن نفسه في ذلك القطر ليبلي عذرا.

وقوله : (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) لفظ عام بجميع ما يمكن أن يرده من القدر كالموت أو النصرة وبلوغ الأمل وغير ذلك ، وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف. ونصب (يَحْكُمَ) بالعطف على (يَأْذَنَ) ، ويجوز أن تكون (أَوْ) في هذا الموضع بمعنى إلا أن ، كما تقول : لألزمنك أو تقضيني حقي ، فتنصب على هذا (يَحْكُمَ) ب (أَوْ).

وروي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب بكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم : ذهبتم فنقصتم يوسف ، ثم ذهبتم فنقصتم شمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل.

قوله عزوجل :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٨٣)

الأمر بالرجوع قيل : هو من قول كبيرهم ، وقيل : بل هو من قول يوسف لهم ، والأول أظهر.

وقرأ الجمهور «سرق» على تحقيق السرقة على بنيامين ، بحسب ظاهر الأمر. وقرأ ابن عباس وأبو رزين «سرّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها ، وكأن هذه القراءة فيها لهم تحر ، ولم يقطعوا عليه بسرقة ، وإنما أرادوا جعل سارقا بما ظهر من الحال ـ ورويت هذه القراءة عن الكسائي ـ وقرأ الضحاك : «إن ابنك سارق» بالألف وتنوين القاف ، ثم تحروا بعد ـ على القراءتين ـ في قولهم (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وقولنا لك : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى الله ، ليس في ذلك حفظنا ، هذا قول ابن إسحاق ، وقال ابن زيد : قولهم : (ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أرادوا به : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقّ في شرعك إلا بما علمنا من ذلك ، (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أن السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا.

وقرأ الحسن «وما شهدنا عليه إلا بما علمنا» بزيادة «عليه».

ويحتمل قوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي حين واثقناك ، إنما قصدنا ألا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه.

وروي أن معنى قولهم : (لِلْغَيْبِ) أي الليل ، والغيب : الليل ـ بلغة حمير ـ فكأنهم قالوا : وما شهدنا


عندك إلا بما علمناه من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو أو التدليس عليه. ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها ـ وهي مصر ، قاله ابن عباس وغيره ، وهذا مجاز ، والمراد أهلها ، وكذلك قوله : (وَالْعِيرَ) ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح ، وحكى أبو المعالي في التلخيص عن بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من المجاز ، قال : وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له.

قال القاضي أبو محمد : وحذف المضاف هو عين المجاز وعظمه ـ هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر ـ وليس كل حذف مجازا ، ورجح أبو المعالي ـ في هذه الآية ـ أنه مجاز ، وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا.

وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة ، ومن حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن جوز فبعيد ، والأول أقوى ، وهنا كلام مقدر يقتضيه الظاهر ، تقديره : فلما قالوا هذه المقالة لأبيهم قال : (بَلْ سَوَّلَتْ) ، وهذا على أن يتصل كلام كبيرهم إلى هنا ، ومن يرى أن كلام كبيرهم تم في قوله : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ، فإنه يجعل الكلام هنالك تقديره : فلما رجعوا قالوا : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) الآية. والظاهر أن قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً). إنما هو ظن سيء بهم ، كما كان في قصة يوسف قبل ، فاتفق أن صدق ظنه هناك ، ولم يتحقق هنا ، و (سَوَّلَتْ) معناه : زينت وخيلت وجعلته سولا ، والسول ما يتمناه الإنسان ويحرص عليه.

وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) إما ابتداء وخبره أمثل أو أولى ، وحسن الابتداء بالنكرة من حيث وصفت. وإما خبر ابتداء تقديره ، فأمري أو شأني ، أو صبري صبر جميل ؛ وهذا أليق بالنكرة أن تكون خبرا ، ومعنى وصفه بالجمال : أنه ليس فيه شكوى إلى بشر ولا ضجر بقضاء الله تعالى. ثم ترجىعليه‌السلام من الله أن يجبرهم عليه وهم يوسف وبنيامين وروبيل الذي لم يبرح الأرض ، ورجاؤه هذا من جهات :

إحداها : الرؤيا التي رأى يوسف فكان يعقوب ينتظرها.

والثانية : حسن ظنه بالله تعالى في كل حال.

والثالثة : ما أخبروه به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه فوقع له ـ من هنا ـ تحسس ورجاء.

والوصف «بالعلم والإحكام» لائق بما يرجوه من لقاء بنيه ، وفيها تسليم لحكمة الله تعالى في جميع ما جرى عليه.

قوله عزوجل :

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما


أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٦)

المعنى : أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به ، (تَوَلَّى عَنْهُمْ) أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف ، قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب : (يا أَسَفى).

قال القاضي أبو محمد : والمراد : «يا أسفي». لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا نحو : يا غلاما ويا أبتا ، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك. وقيل : قوله : (يا أَسَفى) على جهة الندبة ، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلدا منه عليه‌السلام ، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل ، وقيل : قوله : (يا أَسَفى) نداء فيه استغاثة.

قال القاضي أبو محمد : ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و (يا أَسَفى) لهذه الأمة وليعقوبعليه‌السلام.

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن ، وروي «أن يعقوب عليه‌السلام حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط» ، رواه الحسن عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ ابن عباس ومجاهد «من الحزن» بفتح الحاء والزاي ، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي.

وهو (كَظِيمٌ) يمعنى كاظم ، كما قال (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران : ١٣٤] ، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد ، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره ، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر. وقال ناس : (كَظِيمٌ) بمعني : مكظوم.

قال القاضي أبو محمد : وقد وصف الله تعالى يونس عليه‌السلام بمكظوم في قوله (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم : ٤٨] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم بثه في صدره ، وجري كظيم على باب كاظم أبين. وفسر ناس «الكظيم» بالمكروب وبالمكمود ـ وذلك كله متقارب ـ وقال منذر بن سعيد : الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب ، ومنه قول الله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم : فأسفت فلطمتها ؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم.

قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا المنزع : أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن ، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها ، وقوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) الآية ، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرئ القيس : [الطويل]

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومنه قول الآخر :

تالله يبقى على الأيام ذو حيد

بمشمخر به الظيان والآس


أراد لا يبرح ولا يبقى ، وقال الزجاجي : وقد تحذف أيضا ما في هذا الموضع.

قال القاضي أبو محمد : وخطأه بعض النحويين ، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر : [الطويل]

فلا وأبي دهماء زالت عزيزة

على قومها ما قبل الزّند قادح

وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف «لا» ، وليست «ما» ، وفتىء بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل ، تقول : والله لا فتئت قاعدا كما تقول : لا زلت ولا برحت ، ومنه قول أوس بن حجر : [الطويل]

فما فتئت حتى كأن غبارها

سرادق يوم ذي رياح يرفّع

و «الحرض» : الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس ، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور «حرضا» بفتح الراء والحاء ... وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما ، وقرأت فرقة «حرضا» بضم الحاء وسكون الراء. وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد ، كعدل وعدو ، وقيل في قراءة الحسن : انه يراد : فتات الأشنان أي باليا متعتتا ، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم : رجل حارض ، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [البسيط]

إني امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني

حتى بليت وحتى شفني السقم

وقد سمع من العرب : رجل محرض ، قال الشاعر ـ وهو امرؤ القيس : [الطويل]

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا

كأحراض بكر في الديار مريض

و «الحرض» ـ بالجملة ـ الذي فسد ودنا موته ، قال مجاهد : «الحرض» : ما دون الموت ، قال قتادة : «الحرض» : البالي الهرم ، وقال نحوه الضحاك والحسن ، وقال ابن إسحاق : (حَرَضاً) معناه فاسد لا عقل له ؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له : أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك. فأجابهم يعقوب عليه‌السلام رادّا عليهم : أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف في ذلك. و «البث» ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أن يبثه وينشره ، وأكثر ما يستعمل «البث» في المكروه ، وقال أبو عبيدة وغيره : «البث» : أشد الحزن ، وقد يستعمل «البث» في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع : ولا يولج الكف ليعلم «البث» ، ومنه قولهم : أبثك حديثي.

وقرأ عيسى : «وحزني» بفتح الحاء والزاي.

وحكى الطبري بسند : أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له فرعون : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا : إنه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال له : طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال : يا رب خطيئة فاغفرها لي ، وأسند الطبري إلى الحسن قال : كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون


سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ولم يزل يبكي حتى كف بصره ، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب.

وقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده ، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر : إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت ، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.

قوله عزوجل :

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)(٨٨)

المعنى : (اذْهَبُوا) إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل ، (فَتَحَسَّسُوا) ، أي استقصوا ونقروا ، والتحسس : طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع ، ويستعمل في الخير والشر ، فمن استعماله في الخير هذه الآية ، وفي الشر نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : ولا تحسسوا.

وقوله : (مِنْ يُوسُفَ) يتعلق بمحذوف يعمل فيه تحسسوا التقدير : فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف. لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازا.

وقرأت فرقة : «تيأسوا» وقرأت فرقة «تأيسوا» على ما تقدم ، وقرأ الأعرج «تئسوا» بكسر التاء.

وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختارا. وهذان قد منعا الأوبة.

و «الروح» : الرحمة. ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إما التكذيب بالربوبية ، وإما الجهل بصفات الله تعالى.

وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز «من روح الله» بضم الراء. وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي روحه فيرجى ، ومن هذا قول الشاعر : [الطويل]

وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع

ومن هذا قول عبيد :

وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

ويظهر من حديث الذي قال : إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح. فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من الناس ، إنه يئس من روح الله ، وليس الأمر كذلك ، لأن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمنا إذ لا يغفر


الله لكافر ، فبقي أن يتأول الحديث ، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب ، فذلك معنى بين ، وإما أن تكون من القدرة ، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالا ، ولا يلزمه بهذا كفر. قال النقاش : وقرأ ابن مسعود «من فضل» وقرأ أبي بن كعب : «من رحمة الله».

وقوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) الآية ، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر ، وهي : أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على يوسف ، و (الضُّرُّ) أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم ، و «البضاعة» : القطعة من المال يقصد بها شراء شيء ، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح ، وال (مُزْجاةٍ) معناها المدفوعة المتحيل لها ، ومنه إزجاء السحاب ، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر :

على زواحف تزجى مخهارير

وكما قال النابغة : [البسيط]

وهبت الريح من تلقاء ذي أزل

تزجى مع الليل من صرّادها صرما

وقال الأعشى : [الكامل]

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجي خلفها أطفالها

وقال الآخر :

بحاجة غير مزجاة من الحاج

وقال حاتم :

ليبك على ملحان ضيف مدفع

وأرملة تزجي مع الليل أرملا

فجملة هذا أن من يسوق شيئا ويتلطف في تسييره فقد أزجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة ، فقيل : كان ذلك لأنها كانت زيوفا ـ قاله ابن عباس ـ وقال الحسن : كانت قليلة ، وقيل : كانت ناقصة ـ قاله ابن جبير ـ وقيل : كانت بضاعتهم عروضا ، فلذلك قالوا هذا.

واختلف في تلك العروض : ما كانت؟ فقيل : كانت السمن والصوف ـ قاله عبد الله بن الحارث ـ وقال علي بن أبي طالب : كانت قديد وحش ـ ذكره النقاش ـ وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: كانت الصنوبر والحبة الخضراء.

قال القاضي أبو محمد : وهي الفستق.

وقيل : كانت المقل ، وقيل : كانت القطن ، وقيل : كانت الحبال والأعدال والأقتاب.

وحكى مكي أن مالكا رحمه‌الله قال : المزجاة : الجائزة.

قال القاضي أبو محمد : ولا أعرف لهذا وجها ، والمعنى يأباه. ويحتمل أن صحف على مالك وأن


لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء. واستند مالك رحمه‌الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية ، وذلك ظاهر منها وليس بنص.

وقولهم : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) معناه بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة ، قاله السدي وغيره. وقيل : كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء وإنما حرمت على محمد ، قاله سفيان بن عيينة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، يرده حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة».

وقالت فرقة : كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزا واستعطافا منهم في المبايعة ، كما تقول لمن تساومه في سلعة : هبني من ثمنها كذا وخذ كذا ، فلم تقصد أن يهبك ، وإنما حسنت له الانفعال حتى يرجع معك إلى سومك ، وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أمر أخيهم بنيامين ، أي أوف لنا الكيل في المبايعة وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه.

وقولهم : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) قال النقاش : يقال : هو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب ، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا على غير دينهم ، ولو قالوا : إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة ، كذبوا ، فقالوا له لفظا يوهمه أنهم أرادوه وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل.

قوله عزوجل :

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٩٢)

روي أن يوسف عليه‌السلام لما قال إخوته (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) [يوسف : ٨٨] واستعطفوه ـ رق ورحمهم ، قال ابن إسحاق : وارفض دمعه باكيا فشرع في كشف أمره إليهم ، فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ) الآية.

وقوله : (فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) يريد من التفريق بينهما في الصغر والتمرس بهما وإذاية بنيامين. بعد مغيب يوسف. فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه ، ولم يشر إلى قصة بنيامين الآخرة لأنهم لم يفعلوا هم فيها شيئا ، ونسبهم إما إلى جهل المعصية ، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة ، فلما خاطبهم هذه المخاطبة ـ ويشبه أن يكون قد اقترن بها من هيئته وبشره وتبسمه ما دلهم ـ تنبهوا ووقع لهم من الظن القوي أنه يوسف ، فخاطبوه مستفهمين استفهام مقرر.

وقرأت فرقة «أإنك يوسف» بتحقيق الهمزتين ، وقرأت فرقة بإدخال ألف بين همزتين وتحقيقهما «أإنك» ،


وقرأت فرقة بتسهيل الثانية «إنك» ، وقرأ ابن محيصن وقتادة وابن كثير «إنك» على الخبر وتأكيده وقرأ أبي بن كعب «أإنك أو أنت يوسف» قال أبو الفتح : ينبغي أن يكون هذا على حذف خبر «إن» كأنه قال : أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف؟ وحكى أبو عمرو الداني : أن في قراءة أبي بن كعب : «أو أنت يوسف» وتأولت فرقة ممن قرأ «إنك» إنها استفهام بإسقاط حرف الاستفهام ، فأجابهم يوسف كاشفا أمره قال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) وقال مجاهد : أراد (مَنْ يَتَّقِ) في ترك المعصية ويصبر في السجن. وقال إبراهيم النخعي : المعنى : (مَنْ يَتَّقِ) الزنى ويصبر على العزوبة.

قال القاضي أبو محمد : ومقصد اللفظ إنما هو العموم في العظائم ، وإنما قال هذان ما خصصا ، لأنها كانت من نوازله ، ولو فرضنا نزول غيرها به لا تقى وصبر.

وقرأ الجمهور «من يتق ويصبر» وقرأ ابن كثير وحده : «من يتقي ويصبر» بإثبات الياء ، واختلف في وجه ذلك ، فقيل : قدر الياء متحركة وجعل الجزم في حذف الحركة ، وهذا كما قال الشاعر: [الوافر]

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

قال أبو علي : وهذا مما لا نحمله عليه ، لأنه يجيء في الشعر لا في الكلام ، وقيل : «من» بمعنى الذي و «يتقي» فعل مرفوع ، و «يصبر» عطف على المعنى لأن «من» وإن كانت بمعنى الذي ففيها معنى الشرط ، ونحوه قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] وقيل : أراد «يصبر» بالرفع لكنه سكن الراء تخفيفا ، كما قرأ أبو عمرو : (وَيَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] بإسكان الراء.

وقوله تعالى : (قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) الآية ، هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه. و (آثَرَكَ) لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا ، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية ، ولا يجوز تحقيقها ، والمصدر إيثار ، وخاطئين من خطىء يخطأ ، وهو المعتمد للخطأ ، والمخطئ من أخطأ ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه ، ومن ذلك قول الشاعر ـ وهو أمية بن الأسكر ـ [الوافر]

وإن مهاجرين تكتفاه

غداة إذ لقد خطئا وخابا

وقوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) عفو جميل ، وقال عكرمة : أوحى الله إلى يوسف : بعفوك على إخوتك رفعت لك ذكرك ؛ وفي الحديث : أن أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل ، فشق ذلك عليهما وأتيا أبا بكر فكلفاه الشفاعة ، فأبى ، وأتيا عمر فكذلك ، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى ابن عمه علي ، وذهب عبد الله إلى أخته أم سلمة ، فقال علي رضي الله عنه : الرأي أن تلقيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحفل فتصيحان به : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء فلا بد لذلك أن يقول : لا تثريب عليكما ، ففعلا ذلك ، فقال لهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) الآية.


والتثريب : اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه ، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب» ، أي لا يعير ، أخرجه الشيخان في الحدود.

ووقف بعض القراءة (عَلَيْكُمُ) وابتدأ (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ووقف أكثرهم : (الْيَوْمَ) وابتدأ (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) على جهة الدعاء ـ وهو تأويل ابن إسحاق والطبري ، وهو الصحيح ـ و (الْيَوْمَ) ظرف ، فعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به (عَلَيْكُمُ) تقديره : لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم. وهذا الوقف أرجح في المعنى ، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله ، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي.

قوله عزوجل :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥)

حكمه بعد الأمر إلقاء القميص على وجه أبيه بأن أباه يأتي بصيرا ويزول عماه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله. قال النقاش : وروي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله إياه حين خرج من النار وكان من ثياب الجنة. وكان بعد لإسحاق ثم ليعقوب ثم كان دفعه ليوسف فكان عنده في حفاظ من قصب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يحتاج إلى سند ، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد ، وهكذا تبين العرابة في أن وجد ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة لما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد.

وأما «أهلهم» فروي : أنهم كانوا ثمانين نسمة ، وقيل ستة وسبعين نفسا بين رجال ونساء ـ وفي هذا العدد دخلوا مصر ثم خرج منها أعقابهم مع موسى في ستمائة ألف. وذكر الطبري عن السدي أنه لما كشف أمره لإخوته سألهم عن أبيهم : ما حاله؟ فقالوا : ذهب بصره من البكاء. فحينئذ قال لهم : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي) الآية.

وقوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) الآية ، معناه : فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب ، حسبما اختلف فيه ، فقيل : كان على مقربة من بيت المقدس ، وقيل كان بالجزيرة والأول أصح لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك.

وروي أن يعقوب وجد (رِيحَ يُوسُفَ) وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام ، قاله ابن عباس ، وقال : هاجت ريح فحملت عرفه ؛ وروي : أنه كان بينهما ثمانون فرسخا ـ قاله الحسن ـ وابن جريج قال : وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا وسبعين سنة.


قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الأول.

وروي : أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يوما ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، وروي عن أبي أيوب الهوزني : أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك. وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه ، فروي : أنهم كانوا حفدته ، وقيل : كانوا بعض بنيه ، وقيل : كانوا قرابته.

و (تُفَنِّدُونِ) معناه : تردون رأيي وتدفعون في صدري ، وهذا هو التفنيد في اللغة ، ومن ذلك قول الشاعر : [البسيط]

يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي

فليس ما فات من أمري بمردود

ويقال : أفند الدهر فلانا : إذا أفسده.

قال ابن مقبل : [الطويل]

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه

إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ومما يعطي أن الفند الفساد في الجملة قول النابغة : [البسيط]

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فأحددها عن الفند

وقال منذر بن سعيد : يقال : شيخ مفند : أي قد فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز.

قال القاضي أبو محمد : والتفنيد يقع إما لجهل المفند ، وإما لهوى غلبه ، وإما لكذبه ، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه ، فلهذا فسّر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني ومنه قوله عليه‌السلام أو هرما مفندا. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : معناه تسفهون ، وقال ابن عباس ـ أيضا ـ تجهلون ، وقال ابن جبير وعطاء : معناه : تكذبون ، وقال ابن إسحاق : معناه : تضعفون ، وقال ابن زيد ومجاهد : معناه : تقولون : ذهب عقلك ، وقال الحسن : معناه : تهرمون.

والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف. قال الطبري : أصل التفنيد الإفساد.

وقولهم : (لَفِي ضَلالِكَ) يريدون في انتكافك وتحيرك ، وليس هو بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد ، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأول بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة رحمه‌الله : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه‌السلام ، وقال ابن عباس : المعنى : لفي خطئك.

قال القاضي أبو محمد : وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، فلذلك يقال له : ذو الحزنين.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا


تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)

روي عن ابن عباس : أن (الْبَشِيرُ) كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم.

قال القاضي أبو محمد : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الواعظ أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يقول : إن يوسف عليه‌السلام لما قال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) [يوسف : ٩٣] قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة ؛ فتركوه وذلك. وقال هذا المعنى السدي. وارتد معناه : رجع هو ، يقال : ارتد الرجل ورده غيره ، و (بَصِيراً) معناه : مبصرا ، ثم وقفهم على قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا ـ والله أعلم ـ هو انتظاره لتأويل الرؤيا ـ ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله تعالى فقط.

وروي : أنه قال للبشير : على أي دين تركت يوسف؟ قال : على الإسلام قال : الحمد لله ، الآن كملت النعمة.

وفي مصحف ابن مسعود : «فلما أن جاء البشير من بين يدي العير» ، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنه قال : (أَنْ) في قوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) زائدة ، والعرب تزيدها أحيانا في الكلام بعد لما وبعد حتى فقط ، تقول : لما جئت كان كذا ، ولما أن جئت ، وكذلك تقول : ما قام زيد حتى قمت ، وحتى أن قمت.

وقوله : (قالُوا : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الآية ، روي أن يوسف عليه‌السلام لما غفر لإخوته ، وتحققوا أيضا أن يعقوب يغفر لهم ، قال بعضهم لبعض : ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا؟! فطلبوا ـ حينئذ ـ من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى ، واعترفوا بالخطأ ، فقال لهم يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ) ، فقالت فرقة : سوفهم إلى السحر ، وروي عن محارب بن دثار أنه قال : كان عم لي يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول : اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت ، وهذا سحر فاغفر لي ، فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك ، فقال : إن يعقوب عليه‌السلام أخر بنيه إلى السحر ، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟» الحديث. ويقويه قوله تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧]. وقالت فرقة : إنما سوفهم يعقوب إلى قيام الليل ، وقالت فرقة ـ منهم سعيد بن جبير ـ سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض ، فإن الدعاء فيهن يستجاب وقيل : إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة ، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة».


ثم رجاهم يعقوب عليه‌السلام بقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وقوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا) الآية ، هاهنا محذوفات يدل عليها الظاهر ، وهي : فرحل يعقوب بأهله أجمعين وساروا حتى بلغوا يوسف ، فلما دخلوا عليه.

و (آوى) معناه : ضم وأظهر الحماية بهما ، وفي الحديث : «أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله». وقيل : أراد «بالأبوين» : أباه وأمه ـ قاله ابن إسحاق والحسن ـ وقال بعضهم : أباه وجدته ـ أم أمه ـ حكاه الزهراوي ـ وقيل : أباه وخالته ، لأن أمه قد كانت ماتت ـ قاله السدي ـ.

قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر ـ بحسب اللفظ ـ إلا لو ثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت.

وفي مصحف ابن مسعود : «آوى إليه أبويه وإخوته». وقوله : (ادْخُلُوا مِصْرَ) معناه : تمكنوا واسكنوا واستقروا ، لأنهم قد كانوا دخلوا عليه ، وقيل : بل قال لهم ذلك في الطريق حين تلقاهم ـ قاله السدي ـ وهذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه ، أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه بقوله في المستقبل ، وقال ابن جريج : هذا مؤخر في اللفظ وهو متصل في المعنى بقوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا التأويل ضعف.

و (الْعَرْشِ) : سرير الملك ، وكل ما عرش فهو عريش وعرش ، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك ، و (خَرُّوا) معناه : تصوبوا إلى الأرض ، واختلف في هذا السجود ، فقيل : كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان ، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود ـ على أي هيئة كان ـ فإنما كان تحية لا عبادة. قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم. وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن : الضمير في (لَهُ) لله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : ورد على هذا القول.

وحكى الطبري : أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئا على يهوذا ـ قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر ، قال : لا هو ابنك ، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ، فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان.

قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص ، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب : إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكرا ، فدخل عليه ، فقال فرعون : يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى؟ قال : تتابع البلاء عليّ. قال : فما زالت قدمه حتى نزل الوحي : يا يعقوب ، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك؟ قال : يا رب ذنب فاغفره. وقال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له : أتتقدم أباك؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي.


قوله عزوجل :

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١٠٠)

المعنى : قال يوسف ليعقوب : هذا السجود الذي كان منكم ، هو ما آلت إليه رؤياي قديما في الأحد عشر كوكبا وفي الشمس والقمر.

وقوله : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه ، وقوله : (قَدْ أَحْسَنَ بِي) ، أي أوقع وناط إحسانه بي. فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء ، وقد يقال : أحسن إليّ ، وأحسن فيّ ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول : يا محمد أحسن في مواليّ ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى ، وأليقها بيوسف قوله : (بِي) لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها.

وذكر يوسف عليه‌السلام إخراجه من السجن ، وترك إخراجه من الجب لوجهين :

أحدهما : أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس.

والوجه الآخر : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح.

وقوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة ، وكان منزل يعقوب عليه‌السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية.

و (نَزَغَ) معناه : فعل فعلا أفسد به ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده».

وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم ، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعا.

وقوله : (لِما يَشاءُ) أي من الأمور أن يفعله ، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها : فقالت فرقة أربعون سنة ـ هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد ، وقال عبد الله بن شداد : ذلك آخر ما تبطئ الرؤيا ـ وقالت فرقة ـ منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض ـ ثمانون سنة. وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر ، وقيل : اثنان وعشرون ـ قاله النقاش ـ وقيل : ثلاثون ، وقيل : خمس وثلاثون ـ قاله قتادة ـ وقال السدي وابن جبير : ستة وثلاثون سنة. وقيل : إن يوسف عليه‌السلام عمر مائة وعشرين سنة. وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف نيفا على عشرين سنة ثم توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا


الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه ، وأراد من صورة جمعهم ـ لا إله إلا هو ـ وقال النقاش : كان ذلك الوحي في الجب ، وهو قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف : ١٥] وهذا محتمل.

ومما روي في أخبار يعقوب عليه‌السلام : قال الحسن : إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئا يثيبه به فقال له : والله ما أصبت عندنا شيئا ، وما خبزنا منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. ومن أخباره : أنه لما اشتد بلاؤه وقال : يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف ، أفما ترحمني؟ فأوحى الله إليه : سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك ، وما عافيتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملا فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء ، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه. وحكى الطبري : أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم. قال : فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف ، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي : إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك. ومن أخباره : أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، ثم مات يوسف فدفن بمصر ، فلما خرج موسى ـ بعد ذلك ـ من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه.

قوله عزوجل :

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١٠٢)

قرأ ابن مسعود «آتيتن» و «علمتن» بحذف الياء على التخفيف ، وقرأ ابن ذر «رب آتيتني» بغير «قد».

وذكر كثير من المفسرين : أن يوسف عليه‌السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين ، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وقال ابن عباس : «لم يتمن الموت نبي غير يوسف» ، وذكر المهدوي تأويلا آخر ـ وهو الأقوى عندي ـ أن ليس في الآية تمني موت ـ وإنما عدد يوسف عليه‌السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي (تَوَفَّنِي) ـ إذا حان أجلي ـ على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين ، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت. وورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يتمنينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به». الحديث بكماله. وروي عنه عليه‌السلام أنه قال في بعض دعائه : «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز.

قال القاضي أبو محمد : فيشبه أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لضر نزل به ـ إنما يريد ضرر


الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحا ، ويدلك على هذا قول النبيعليه‌السلام : «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه ، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن».

قال القاضي أبو محمد : فقوله : ليس به الدين ـ يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالة الناس كيف تكون.

وقوله : (آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) قيل : (مِنَ) للتبعيض وقيل : لبيان الجنس ؛ وكذلك في قوله : (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) والمراد بقوله : (الْأَحادِيثِ) الأحلام ، وقيل : قصص الأنبياء والأمم.

وقوله : (فاطِرَ) منادى ، وقوله : (أَنْتَ وَلِيِّي) أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي.

وقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الآية ، (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف ، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمد ، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه.

والضمير في (لَدَيْهِمْ) عائد إلى إخوة يوسف ، وكذلك الضمائر إلى آخر الآية ، و (أَجْمَعُوا) معناه : عزموا وجزموا ، و «الأمر» هنا هو إلقاء يوسف في الجب ، و «المكر» هو أن تدبر على الإنسان تدبيرا يضره ويؤذيه ، والخديعة هي أن تفعل بإنسان وتقول له ما يوجب أن يفعل هو فعلا فيه عليه ضرر. وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال : والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم بذلك ، إنهم لأنبياء من أهل الجنة ، ولكن قص الله علينا نبأهم لئلا يقنط عبده.

قوله عزوجل :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٨)

هاتان الآيتان تدلان أن الآية التي قبلهما فيها تعريض لقريش ومعاصري محمد عليه‌السلام ، كأنه قال : فإخبارك بالغيوب دليل قائم على نبوتك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وإن كنت أنت حريصا على إيمانهم ، أي يؤمن من شاء الله. وقوله : (وَلَوْ حَرَصْتَ) اعتراض فصيح.

وقوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ) الآية ، توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم ، أي ما أسفههم؟؟؟ في أن تدعوهم إلى الله دون أن تبغي منهم أجرا فيقول قائل : بسبب الأجر يدعوهم.


وقرأ مبشر بن عبيد : «وما نسألهم» بالنون.

ثم ابتدأ الله تعالى الإخبار عن كتابه العزيز أنه ذكر وموعظة لجميع العالم ـ نفعنا الله به ووفر حظنا منه بعزته ـ.

وقرأت الجماعة «وكأيّن» بهمز الألف وشد الياء ، قال سيبويه : هي كاف التشبيه اتصلت بأي ، ومعناها معنى كم في التكثير. وقرأ ابن كثير «وكائن» بمد الألف وهمز الياء ، وهو من اسم الفاعل من كان ، فهو كائن ولكن معناه معنى كم أيضا. وقد تقدم استيعاب القراءات في هذه الكلمة في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) قتل [آل عمران : ١٤٦].

وال (آيَةٍ) هنا المخلوقات المنصوبة للاعتبار والحوادث الدالة على الله سبحانه في مصنوعاته ، ومعنى (يَمُرُّونَ عَلَيْها) الآية ـ أي إذا جاء منها ما يحس أو يعلم في الجملة لم يتعظ الكافر به ، ولا تأمله ولا اعتبر به بحسب شهواته وعمهه ، فهو لذلك كالمعرض ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : [الطويل]

تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا

ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

وقرأ السدي «والأرض» بالنصب بإضمار فعل ، والوقف ـ على هذا ـ في (السَّماواتِ) وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد «والأرض» بالرفع على الابتداء ، والخبر قوله : (يَمُرُّونَ) وعلى القراءة بخفض «الأرض» ف (يَمُرُّونَ) نعت لآية. وفي مصحف عبد الله : «والأرض يمشون عليها». وقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) الآية ، قال ابن عباس : هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث قالوا عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله. وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب ، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت ، فسماه إيمانا وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام ـ فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها. وقيل : هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك ، يقول له : قط قط ، أي قف هنا ولا تزد : إلا شريك هو لك.

وال (غاشِيَةٌ) ما يغشي ويغطي ويغم ، وقرأ أبو حفص مبشر بن عبد الله : «يأتيهم الساعة بغتة» بالياء ، و (بَغْتَةً) معناه : فجأة ، وذلك أصعب ، وهذه الآية من قوله : (وَكَأَيِّنْ) وإن كانت في الكفار ـ بحكم ما قبلها ـ فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ ، ويكون الإيمان حقيقة والشرك لغويا كالرياء ، فقد قال عليه‌السلام : «الرياء : الشرك الأصغر».

وقوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) الآية ، إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها. قال ابن زيد : المعنى : هذا أمري وسنتي ومنهاجي.

وقرأ ابن مسعود : «قل هذا سبيلي» «والسبيل» : المسلك ، وتؤنث وتذكر ، وكذلك الطريق ، و (بَصِيرَةٍ) : اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين ، و «البصيرة» أيضا في كلام العرب : الطريقة في الدم ، وفي الحديث المشهور : «تنظر في النصل فلا ترى بصيرة» ، وبها فسر بعض الناس قول الأشعر الجعفي :


راحوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدو بها عتد وأي

يصف قوما باعوا دم وليهم فكأن دمه حصلت منه طرائق على أكتافهم إذ هم موسومون عند الناس ببيع ذلك الدم.

قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن تكون «البصيرة» في بيت الأشعر على المعتقد الحق ، أي جعلوا اعتقادهم طلب النار وبصيرتهم في ذلك وراء ظهورهم ، كما تقول : طرح فلان أمري وراء ظهره.

وقوله : (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يحتمل أن يكون تأكيدا للضمير في (أَدْعُوا) ويحتمل أن تكون الآية كلها أمارة بالمعروف داعية إلى الله الكفرة به والعصاة.

و (سُبْحانَ اللهِ) تنزيه لله ، أي وقل : سبحان الله ، وقل متبرئا من الشرك. وروي أن هذه الآية: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) إلى آخرها كانت مرقومة على رايات يوسف عليه‌السلام.

قوله عزوجل :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠)

هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت : أبعث الله بشرا رسولا ، وكالطائفة التي اقترحت ملكا وغيرهما.

وقرأ الجمهور : «يوحى إليهم» بالياء وفتح الحاء ، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر ، وقرأ في رواية حفص : «نوحي» بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة.

و (الْقُرى) : المدن ، وخصصها دون القوم المنتوين ـ أهل العمود ـ فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة ، قال ابن زيد : (أَهْلِ الْقُرى) أعلم وأحلم من أهل العمود.

قال القاضي أبو محمد : فإنهم قليل نبلهم ولم ينشىء الله فيهم رسولا قط. وقال الحسن : لم يبعث الله رسولا قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن.

قال القاضي أبو محمد : والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين ، كقوله عليه‌السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما» الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسلمة بن الأكوع وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تعرب في الإسلام» وقال : من «بدا جفا». وروي عنه معاذ بن جبل أنه قال : «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة».

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين :


أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع.

والثاني : أنه إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر.

ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله ، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها ، ثم وقفهم موبخا بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وقوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين ، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين ، ولدار الآخرة أحسن لهم.

وأما إضافة «الدار» إلى (الْآخِرَةِ) فقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر : [الوافر]

فإنك لو حللت ديار عبس

عرفت الذل عرفان اليقين

وفي رواية :

فلو أقوت عليك ديار إلخ.

وكما يقال : مسجد الجامع ، ونحو هذا ، وقال البصريون : هذه على حذف مضاف تقديره : ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك ـ إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها ، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك : جبل أحد ، وقد تضاف إلى صفة كقولك : مسجد الجامع وحق اليقين ، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه.

وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة «يعقلون» بالياء ، واختلف عن الأعمش. قال أبو حاتم : قراءة العامة : «أفلا تعقلون» بالتاء من فوق.

ويتضمن قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن تدخل (حَتَّى) في قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ).

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة ـ بخلاف ـ وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة «كذّبوا» بتشديد الذال وضم الكاف ، وقرأ الباقون «كذبوا» بضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها ـ وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر ، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة ـ وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث ـ بخلاف عنهم ـ «كذبوا» بفتح الكاف والذال ، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين ، ويكون الضمير في (ظَنُّوا) وفي (كُذِبُوا) للرسل ، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه ؛ المعنى : وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على


ذلك ، وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه ، والضميران للرسل ، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه ، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم.

وأما القراءة الثانية ـ وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها ـ فيحتمل أن يكون المعنى ـ حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم ـ على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك ـ وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة ، أو فيما توعدوهم به من العذاب ـ لما طال الإمهال واتصلت العافية ـ فلما كان المرسل إليهم ـ على هذا التأويل ـ مكذبين ـ بني الفعل للمفعول في قوله : «كذبوا» ـ هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير ـ وأسند الطبري : أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير : يا أبا عبد الله ، آية بلغت مني كل مبلغ : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة. فقال له ابن جبير : يا أبا عبد الرحمن ؛ إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم ، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم ، فحينئذ جاء النصر. فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال : فرجت عني فرج الله عنك.

قال القاضي أبو محمد : فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم. وقال بهذا التأويل ـ في هذه القراءة ـ ابن مسعود ومجاهد ، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل ، وقال : إن رد الضمير في (ظَنُّوا) وفي «كذبوا» على المرسل إليهم ـ وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح ـ جائز لوجهين :

أحدهما : أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه.

والآخر : أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله : (عاقِبَةُ الَّذِينَ) ، وتحتمل هذه القراءة أيضا أن يكون الضمير في (ظَنُّوا) وفي (كُذِبُوا) عائد على الرسل ، والمعنى : كذبهم من أخبرهم عن الله ، والظن على بابه ـ وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم ـ والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم ـ قاله ابن عباس وابن مسعود أيضا وابن جبير ـ وقال : ألم يكونوا بشرا؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره. وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم ، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا. وقال أبو علي الفارسي : هذا غير جائز على الرسل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وأين العصمة والعلم؟

وأما القراءة الثالثة ـ وهي فتح الكاف والذال ـ فالضمير في (ظَنُّوا) للمرسل إليهم ، والضمير في «كذبوا» للرسل ، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل ، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه ، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره

وقوله : (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي بتعذيب أممهم الكافرة ، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم ، وهم الذين شاء رحمتهم ، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فننجي» ـ بنونين ـ من أنجى. وقرأ الحسن : «فننجي» ـ النون الثانية مفتوحة ، وهو من نجى ينجّي. وقرأ أبو عمرو أيضا وقتادة «فنجّي» ـ بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء ـ فقالت فرقة : إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم ؛ ومنع بعضهم أن


يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج ، وقال : إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع. وقرأ عاصم وابن عامر «فنجي» بفتح الياء على وزن فعل. وقرأت فرقة «فننجي» ـ بنونين وفتح الياء ـ رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ـ وهي غلط من هبيرة. وقرأ ابن محيصن ومجاهد «فنجى» ـ فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة ، قال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن «فنجّى» ـ بشد الجيم ـ على معنى فنجى النصر.

و «البأس» : العذاب. وقرأ أبو حيوة «من يشاء» ـ بالياء ـ وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين ، بقوله : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا ...) الآية ـ إذ في هذه الألفاظ وعيد بين ، وتهديد لمعاصري محمد عليه‌السلام. وقرأ الحسن «بأسه» ، بالهاء.

قوله عزوجل :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

الضمير في (قَصَصِهِمْ) عام ليوسف وأبويه وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة ، ولما كان ذلك كله في القرآن قال عنه (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) فإذا تأملت قصة يوسف ظهر أن في غرائبها وامتحان الله فيها لقوم في مواضع ، ولطفه لقوم في مواضع ، وإحسانه لقوم في مواضع ، معتبرا لمن له لب وأجاد النظر ، حتى يعلم أن كل أمر من عند الله وإليه.

وقوله : (ما كانَ) صيغة منع ، وقرينة الحال تقتضي أن البرهان يقوم على أن ذلك لا يفترى ، وذلك بأدلة النبوءة وأدلة الإعجاز ، و «الحديث» ـ هنا ـ واحد الأحاديث ، وليس للذي هو خلاف القديم هاهنا مدخل.

ونصب (تَصْدِيقَ) إما على إضمار معنى كان ، وإما على أن تكون (لكِنْ) بمعنى لكن المشددة.

وقرأ عيسى الثقفي «تصديق» بالرفع ، وكذلك كل ما عطف عليه ، وهذا على حذف المبتدأ ، التقدير : هو تصديق. وقال أبو حاتم : النصب على تقدير : ولكن كان ، والرفع على : ولكن هو. وينشد بيت ذي الرمة بالوجهين :

وما كان مالي من تراث ورثته

ولا دية كانت ولا كسي مأثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة

إلى كل محجوب السرادق خضرم

رفع عطاء الله ، والنصب أجود.

و (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) هو التوراة والإنجيل ، والضمير في (يَدَيْهِ) عائد على القرآن ، وهم اسم كان. وقوله : (كُلِّ شَيْءٍ) يعني من العقائد والأحكام والحلال والحرام. وباقي الآية بين.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة الرّعد

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه السورة مكية ـ قاله سعيد بن جبير ـ وقال قتادة : هي مدنية غير قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ ...) [الرعد : ٣١] الآية ـ حكاه الزهراوي ـ وحكى المهدوي عن قتادة : أن السورة مكية إلا قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) [الرعد : ٣١].

قال القاضي أبو محمد : وقال النقاش : هي مكية غير آيتين : قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) [الرعد : ٣١]. وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] والظاهر ـ عندي ـ أن المدني فيها كثير ، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.

وقيل السورة مدنية ـ حكاه منذر بن سعيد البلوطي وحكاه مكي بن أبي طالب.

قوله عزوجل :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(٢)

تقدم القول في فواتح السور وذكر التأويلات في ذلك إلا أن الذي يخص هذا الموضع من ذلك هو ما قال ابن عباس رضي الله عنه : إن هذه الحروف هي من قوله : «أنا الله أعلم وأرى». ومن قال : إن حروف أوائل السور هي مثال لحروف المعجم ـ قال : الإشارة هنا ب (تِلْكَ) هي إلى حروف المعجم ، ويصح ـ على هذا ـ أن يكون (الْكِتابِ) يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. و (المر) ـ على هذا ـ ابتداء ، و (تِلْكَ) ابتداء ثان ـ و (آياتُ) خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ـ وعلى قول ابن عباس في (المر) يكون (تِلْكَ) ابتداء و (آياتُ) بدل منه ، ويصح في (الْكِتابِ) التأويلان اللذان تقدما.

وقوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ الَّذِي) رفع بالابتداء و (الْحَقُ) خبره ـ هذا على تأويل من يرى (المر) حروف المعجم ، و (تِلْكَ آياتُ) ابتداء وخبر. وعلى قول ابن عباس يكون (الَّذِي) عطفا على (تِلْكَ) و (الْحَقُ) خبر (تِلْكَ). وإذا أريد ب (الْكِتابِ) القرآن فالمراد ب (الَّذِي أُنْزِلَ) جميع الشريعة : ما تضمنه القرآن منها وما لم يتضمنه. ويصح في (الَّذِي) أن يكون في موضع


خفض عطفا على الكتاب ، فإن أردت مع ذلك ب (الْكِتابِ) القرآن ، كانت «الواو» عطف صفة على صفة لشيء واحد ، كما تقول : جاءني الظريف والعاقل ، وأنت تريد شخصا واحدا ، ومن ذلك قول الشاعر : [المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وإن أردت مع ذلك ب (الْكِتابِ) التوراة والإنجيل ، فذلك بيّن ، فإن تأولت مع ذلك (المر) حروف المعجم ـ رفعت قوله : (الْحَقُ) على إضمار مبتدأ تقديره : هو الحق ، وإن تأولتها كما قال ابن عباس ف (الْحَقُ) خبر (تِلْكَ) ومن رفع (الْحَقُ) بإضمار ابتداء وقف على قوله: (مِنْ رَبِّكَ) وباقي الآية ظاهر بين إن شاء الله.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية ، لما تضمن قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) توبيخ الكفرة ، عقب ذلك بذكر الله الذي ينبغي أن يوقن به ، ويذكر الأدلة الداعية إلى الإيمان به.

والضمير في قوله : (تَرَوْنَها) قالت فرقة : هو عائد على (السَّماواتِ) ، ف (تَرَوْنَها) ـ على هذا ـ في موضع الحال ، وقال جمهور الناس : لا عمد للسماوات البتة ، وقالت فرقة : الضمير عائد على العمد ، ف (تَرَوْنَها) ـ على هذا ـ صفة للعمد ، وقالت هذه الفرقة : للسماوات عمد غير مرئية ـ قاله مجاهد وقتادة ـ وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم : أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليها كالقبة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والحق أن لا «عمد» جملة ، إذ العمد يحتاج إلى العمد ويتسلسل الأمر ، فلا بد من وقوفه على القدرة ، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] ونحو هذا من الآيات ، وقال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.

وفي مصحف أبيّ : «ترونه» بتذكير الضمير ، و «العمد» : اسم جمع عمود ، والباب في جمعه: «عمد» ـ بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل ، وشهاب وشهب وغيره ، ومن هذه الكلمة قول النابغة : [البسيط]

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفّاح والعمد

وقال الطبري : «العمد» ـ بفتح العين ـ جمع عمود ، كما جمع الأديم أدما.

قال القاضي أبو محمد : وليس كما قال ، وفي كتاب سيبويه : إن الأدم اسم جمع ، وكذلك نص اللغويون على العمد ، ولكن أبا عبيدة ذكر الأمر غير متيقن فاتبعه الطبري.

وقرأ يحيى بن وثاب «بغير عمد» بضم العين والميم.

وقوله : (ثُمَ) هي ـ هنا ـ لعطف الجمل لا للترتيب ، لأن الاستواء على العرش قبل «رفع


السماوات» ، ففي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال : كان الله ولم يكن شيء قبله. وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض.

وقد تقدم القول في كلام الناس في «الاستواء» ، واختصاره : أن أبا المعالي رجح أنه (اسْتَوى) بقهره وغلبته ، وقال القاضي ابن الطيب وغيره : (اسْتَوى) ـ في هذا الموضع ـ بمعنى استولى ، والاستيلاء قد يكون دون قهر. فهذا فرق ما بين القولين ، وقال سفيان : فعل فعلا سماه استواء. وقال الفراء : (اسْتَوى) ـ في هذا الموضع ـ كما تقول العرب : فعل زيد كذا ثم استوى إلي يكلمني ، بمعنى أقبل وقصد. وحكي لي عن أبي الفضل بن النحوي أنه قال : (الْعَرْشِ) ـ في هذا الموضع ـ مصدر عرش ، مكانه أراد جميع المخلوقات ، وذكر أبو منصور عن الخليل : أن العرش : الملك ، وهذا يؤيد منزع أبي الفضل بن النحوي إذ قال : العرش مصدر ، وهذا خلاف ما مشى عليه الناس من أن العرش هو أعظم المخلوقات وهو الشخص الذي كان على الماء والذي بين يديه الكرسي ؛ وأيضا فينبغي النظر على أبي الفضل في معنى الاستواء قريبا مما هو على قول الجميع. وفي البخاري عن مجاهد أنه قال : المعنى : علا على العرش.

قال القاضي أبو محمد : وكذلك هي عبارة الطبري ، والنظر الصحيح يدفع هذه العبارة.

وقوله : (وَسَخَّرَ) تنبيه على القدرة ، و (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب ـ وكذلك قال : (كُلٌّ يَجْرِي) أي كل ما هو في معنى الشمس والقمر من التسخير ، و (كُلٌ) لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة ، و «الأجل المسمى» هو انقضاء الدنيا وفساد هذه البنية ، وقيل : يريد بقوله : (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) الحدود التي لا تتحداها هذه المخلوقات أن تجري على رسوم معلومة.

وقوله : (يُدَبِّرُ) بمعنى : يبرم ـ وينفذ ـ وعبر بالتدبير تقريبا لأفهام الناس ، إذ التدبير إنما هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها ، وذلك من صفة البشر ، و (الْأَمْرَ) عام في جميع الأمور وما ينقضي في كل أوان في السماوات والأرضين وقال مجاهد : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) معناه : يقضيه وحده.

وقرأ الجمهور : «يفصل» وقرأ الحسن بنون العظمة ، ورواها الخفاف وعبد الوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص ، قال المهدوي : ولم يختلف في (يُدَبِّرُ) ، وقال أبو عمرو الداني : إن الحسن قرأ «نفصل» و «ندبر» بالنون فيهما ، والنظر يقتضي أن قوله : (يُفَصِّلُ) ليس على حد قوله : (يُدَبِّرُ) من تعديد الآيات بل لما تعددت الآيات وفي جملتها يدبر الأمر ، أخبر أنه يفصلها لعل الكفرة يوقنون بالبعث ، و (الْآياتِ) هنا إشارة إلى ما ذكر في الآية وبعدها.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ


وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤)

لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ذكرت آيات الأرض.

وقوله : (مَدَّ الْأَرْضَ) يقتضي أنها بسيطة لا كرة ـ وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم. و «الرواسي» الجبال الثابتة ، يقال : رسا يرسو ، إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

به خالدات ما يرمن وهامد

وأشعث أرسته الوليدة بالفهر

و «الزوج» ـ في هذه الآية ـ الصنف والنوع ، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره ، ومنه قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦] ومثل هذه الآية : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧].

وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «يغشي» بسكون الغين وتخفيف الشين ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ بفتح الغين وتشديد الشين ، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر ، وباقي الآية بين.

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان ، اثنان ، ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي ، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى ثم في قوله : (الثَّمَراتِ) ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين.

وقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ ...) الآية ، «القطع» : جمع قطعة وهي الأجزاء ، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب.

وقرأ الجمهور «وجنات» بالرفع ، عطفا على (قِطَعٌ) ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وجنات» بالنصب بإضمار فعل ، وقيل : هو عطف على (رَواسِيَ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ـ عن عاصم ـ «وزرع ونخيل صنوان وغير» بالرفع في الكل ـ عطفا على (قِطَعٌ) ـ وقرأ الباقون : «وزرع» بالخفض في الكل ـ عطفا على (أَعْنابٍ) وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع.

و «الجنة» حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر : [زهير بن أبي سلمى] [البسيط]


كأن عيني في غربي مقتلة

من النواضح تسقي جنة سحقا

أي نخيل جنة ، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل ، ومن خفض «الزرع» ف «الجنات» من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات.

و (صِنْوانٌ) جمع صنو ، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد ، وربما كان أكثر من فرعين ، قال البراء بن عازب : الصنوان : المجتمع ، «وغير الصنوان» : المتفرق فردا فردا ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العم صنو الأب». وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس ، فذكرت مكانك منه فسكت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب». وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال : «يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب» وجمع الصنو صنوان ، وهو جمع مكسر ، قال أبو علي : وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع ، وهو جار مجرى فلك. وتقول : صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه.

وقرأ عاصم ـ في رواية القواس عن حفص ـ «صنوان» بضم الصاد قال أبو علي : هو مثل ذئب وذؤبان.

قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي ، وهي لغة تميم وقيس ، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز ، وقرأ الحسن وقتادة «صنوان» بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه اللفظة : قنو وقنوان ، وإنما نص على «الصنوان» في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع ، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة : «تسقى» بالتاء ، وأمال حمزة والكسائي القاف. وقرأ عاصم وابن عامر «يسقى» بالياء ، على معنى يسقى ما ذكر. وقرأ الجمهور «نفضل» بالنون وقرأ حمزة والكسائي «ويفضل» بالياء ، وقرأ ابن محيصن : «يسقى بماء واحد ، ويفضل» بالياء فيهما ، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة «ويفضّل» بالياء وفتح الضاد «بعضها» بالرفع ، قال أبو حاتم : وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه ـ وهو أول من نقط المصاحف.

و (الْأُكُلِ) اسم ما يؤكل ، بضم الهمزة ، والأكل المصدر.

وقرأت فرقة «في الأكل» بضم الهمزة والكاف ، وقد تقدم هذا في البقرة وحكى الطبري عن غير واحد ـ ابن عباس وغيره ـ (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي واحدة سبخة ، وأخرى عذبة ، ونحو هذا من القول ، وقال قتادة المعنى : قرى متجاوزات.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه من العبرة كأنه قال : وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعان ، فهي «تسقى بماء واحد» ، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد ، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء ، تفضل


القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين سئل عن هذه الآية ـ فقال : «الدقل والفارسي والحلو والحامض». وعلى المعنى الأول قال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم : كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء ـ فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا ، فكذلك الناس : خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة ـ فرقت قلوب وخشعت ، وقست قلوب ولهت وجفت : قال الحسن : فو الله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢].

والتفضيل في الأكل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧)

هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب» يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ـ فهم أهل لذلك ، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم» : أنعود بعد كوننا «ترابا» ـ خلقا جديدا ـ ويحتمل اللفظ منزعا آخر أي وإن كنت تريد عجبا فلهم ، فإن من أعجب العجب «قولهم».

واختلف القراء في قراءة قوله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد» جميعا بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع «أئذا كنا» مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ «إنا لفي خلق جديد» مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة «أئذا كنا ترابا أإنا» بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إذا كنا» مكسورة الألف من غير استفهام «ءائنا» يهمز ثم يمد ثم يهمز ، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير ، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني ، و «إذا» ظرف له ، و «إذا» في موضع نصب بفعل مضمر ، تقديره : أنبعث أو نحشر إذا. ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين ، ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ.

والإشارة ب (أُولئِكَ) إلى القوم القائلين : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر.


وقوله : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) يحتمل معنيين :

أحدهما : الحقيقة وأنه أخبر عن كون (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) في الآخرة فهي كقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١].

ويحتمل أن يكون مجازا وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان ، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب ، وهي كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ) [يس : ٨] وباقي الآية بين.

وقال بعض الناس (الْأَغْلالُ) ـ هنا ـ عبارة عن الأعمال ، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.

قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ..) الآية ، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب ، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير ؛ ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر ، و (الْمَثُلاتُ) جمع مثلة ، كسمرة وسمرات ، وصدقة وصدقات.

وقرأ الجمهور «المثلات» بفتح الميم وضم الثاء ، وقرأ مجاهد «المثلات» بفتح الميم والثاء ، وذلك جمع مثلة ، أي الأخذة الفذة بالعقوبة ، وقرأ عيسى بن عمر «المثلات» بضم الميم والتاء ، ورويت عن أبي عمرو ؛ وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء ، وهاتان جمع مثلة ، وقرأ طلحة بن مصرف «المثلات» بفتح الميم وسكون الثاء.

ثم رجّى عزوجل بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قال الطبري : معناه في الآخرة ، وقال قوم : المعنى : إذا تابوا ، و «شديد العقاب» إذا كفروا.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من معنى «المغفرة» هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة ، ألا ترى التيسير في لفظ (مَغْفِرَةٍ) ، وأنها منكرة مقللة ، وليس فيها مبالغة كما في قوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [طه : ٨٢] ونمط الآية يعطي هذا ، ألا ترى حكمه عليهم بالنار ، ثم قال : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر ، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.

ثم خوف بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) قال ابن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشا ، ولو لا عقابه لا تكل كل أحد». وقال ابن عباس : ليس في القرآن أرجى من هذه الآية.

و (الْمَثُلاتُ) هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به ، ومنه التمثيل بالقتلى ، ومنه المثلة بالعبيد.


وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، هذه آية غض من اقتراحاتهم المتشططة التي لم يجر الله به عادة إلا للأمم التي حتم بعذابها واستئصالها ، و «الآية» هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك ، ثم أخبره الله تعالى بأنه (مُنْذِرٌ) وهذا الخبر قصد هو بلفظه ، والناس أجمعون بمعناه.

واختلف المتأولون في قوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال عكرمة وأبو الضحى : المراد بالهادي محمد عليه‌السلام ، و (هادٍ) عطف على (مُنْذِرٌ) كأنه قال : إنما أنت (مُنْذِرٌ) و (هادٍ) لكل قوم. فيكون هذا المعنى يجري مع قوله عليه‌السلام : بعثت للأسود والأحمر. و (هادٍ) ـ على هذا ـ في هذه الآية بمعنى داع إلى طريق الهدى. وقال مجاهد وابن زيد : المعنى : إنما أنت «منذر» ولكل أمة سلفت «هاد» أي نبي يدعوهم.

قال القاضي أبو محمد : والمقصد : فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر ، وهذا يشبه غرض الآية.

وقالت فرقة : «الهادي» في هذه الآية الله عزوجل ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، و (هادٍ) ـ على هذا ـ معناه مخترع للرشاد.

قال القاضي أبو محمد : والألفاظ تطلق بهذا المعنى ، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع.

وقالت فرقة «الهادي» : علي بن أبي طالب ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من طريق ابن عباس ـ أنه قرأ هذه الآية وعلي حاضر ، فأومأ بيده إلى منكب علي وقال : أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.

قال القاضي أبو محمد : والذي يشبهه ـ إن صح هذا ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جعل عليا رضي الله عنه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين ، كأنه قال : أنت يا علي وصنفك ، فيدخل في هذا أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة ، ثم كذلك من كل عصر ، فيكون المعنى ـ على هذا ـ إنما أنت يا محمد ولكل قوم في القديم والحديث رعاة وهداة إلى الخير.

قال القاضي أبو محمد : والقولان الأولان أرجح ما تأول في الآية.

قوله عزوجل :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ)(١٠)

لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور ـ قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث :


فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب ، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث ، من الأجنة من كل نوع من الحيوان ؛ وهذه البدأة تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة.

و (ما) في قوله : (ما تَحْمِلُ) يصح أن تكون بمعنى الذي ، مفعولة (يَعْلَمُ) ويصح أن تكون مصدرية ، مفعولة أيضا ب (يَعْلَمُ) ، ويصح أن تكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : (تَحْمِلُ) وفي هذا الوجه ضعف.

وفي مصحف أبي بن كعب : «ما تحمل كل أنثى وما تضع».

وقوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) معناه : ما تنقص ، وذلك أنه من معنى قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤] وهو بمعنى النضوب فهي ـ هاهنا ـ بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه ، فلما قابله قوله : (وَما تَزْدادُ) فسر بمعنى النقصان : ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان : فقال مجاهد «غيض الرحم» أن يهرق دما على الحمل ، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب ، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم ، فهذا هو معنى قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل.

وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض ، فيكون قوله : (وَما تَزْدادُ) ـ بعد ذلك ـ جاريا مجرى (تَغِيضُ) على غير مقابلة ، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه.

وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاما في خلقه.

وقال قتادة : الغيض : السقط ، والزيادة : البقاء بعد تسعة أشهر.

وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) لفظ عام في كل ما يدخله التقدير ، و (الْغَيْبِ) : ما غاب عن الإدراكات ، و (الشَّهادَةِ) : ما شوهد من الأمور ، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لا بد أن يتصف بإحدى الحالتين.

وقوله : (الْكَبِيرُ) صفة تعظيم على الإطلاق ، و «المتعالي» من العلو.

واختلفت القراءة في الوقف على «المتعال» : فأثبت ابن كثير وأبو عمرو ـ في بعض ما روي عنه ـ الياء في الوصل والوقف ، ولم يثبتها الباقون في وصل ولا وقف. وإثباتها هو الوجه والباب. واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل ـ كهذه الآية ـ قياسا على القوافي في الشعر ، ويقبح حذفها في غير فاصلة ولا شعر ، ولكن وجهه أنه لما كان التنوين يعاقب الألف واللام أبدا ، وكانت هذه الياء تحذف مع التنوين ، حسن أن تحذف مع معاقبه.

قال القاضي أبو محمد : ويتصل بهذه الآية فقه يحسن ذكره : فمن ذلك اختلاف الفقهاء في الدم


الذي تراه الحامل ، فذهب مالك رحمه‌الله وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وجماعة ، إلى أنه حيض. وقالت فرقة عظيمة : ليس بحيض ، ولو كان حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض وهو إجماع. وروي عن مالك ـ في كتاب محمد ـ ما يقتضي أنه ليس بحيض ، ومن ذلك أن الأمة مجمعة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وذلك منتزع من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣].

وهذه الستة أشهر هي بالأهلة ـ كسائر أشهر الشريعة ـ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك ـ وأظنه في كتاب ابن حارث ـ أنه إن نقص من الأشهر الستة ثلاثة أيام ، فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهور وزيادتها واختلف في أكثر الحمل فقيل تسعة أشهر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف.

وقالت عائشة وجماعة من العلماء أكثره حولان ، وقالت فرقة : ثلاثة أعوام وفي المدونة : أربعة أعوام وخمسة أعوام. وقال ابن شهاب وغيره : سبعة أعوام ، ويروى أن ابن عجلان ولدت امرأته لسبعة أعوام ، وروي أن الضحاك بن مزاحم بقي حولين ـ قال : وولدت وقد نبتت ثناياي ، وروي أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.

وقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ) الآية : (سَواءٌ) مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان. ورفعه على خبر الابتداء الذي هو «من» والمصدر لا يكون خبرا إلا بإضمار كما قالت الخنساء : [البسيط] :

........................... فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. فقالت فرقة هنا : المعنى : ذو سواء ، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار.

قال القاضي أبو محمد : هو عندي كعدل وزور وضيف.

وقالت فرقة : المعنى : مستو منكم ، فلا يحتاج إلى إضمار.

قال القاضي أبو محمد : وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة.

ومعنى هذه الآية : معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه ، (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) فأسمع ، لا يخفى على الله تعالى شيء.

وقوله تعالى : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) معناه : من هو بالليل في غاية الاختفاء ، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه ، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما. وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه : أن «المستخفي والسارب» هو رجل واحد مريب بالليل ، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس.

قال القاضي أبو محمد : فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته ، والمعنى : هذا والذي أمره كله


واحد بريء من الريب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل ، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار (مَنْ) ولا يأتي حذفها إلا في الشعر و «السارب» ـ في اللغة ـ المتصرف كيف شاء ، ومن ذلك قول الشاعر : [الأخنس بن شهاب الثعلبي] [الطويل]

أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم

ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي متصرف غير مدفوع عن جهة ، وهذا رجل يفتخر بعزة قومه ، ومن ذلك قول الآخر : [قيس بن الخطيم] [الكامل]

إني سربت وكنت غير سروب

وتقرب الأحلام غير قريب

وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف : فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث : متوسط متلون : يعصي بالليل مستخفيا ، ويظهر البراءة بالنهار. و (الْقَوْلَ) في الآية يطرد معناه في الأعمال.

وقال قطرب ـ فيما حكى الزجاج ـ (مُسْتَخْفٍ) معناه : الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته.

قال القاضي أبو محمد : قال امرؤ القيس : [الطويل]

خفاهن من أنفاقهن كأنما

خفاهن ودق من عشي مجلّب

قال : و (سارِبٌ) معناه : متوار في سرب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول ـ وإن كان تعلقه باللغة بينا ـ فضعيف ، لأن اقتران الليل ب «المستخفي» ، والنهار ب «السارب» ـ يرد على هذا القول.

قوله عزوجل :

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(١٣)

اختلف المتأولون في عود الضمير من (لَهُ) : فقالت فرقة : هو عائد على اسم الله عزوجل المتقدم ذكره ، و «المعقبات» ـ على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم ، والحفظة لهم أيضا ـ قاله الحسن ، وروى فيه عثمان بن عفان حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول مجاهد والنخعي ـ والضمير على هذا في قوله : (يَدَيْهِ) وما بعده من الضمائر عائد على العبد المذكور في قوله : (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ)


[الرعد : ١٠] و (مِنْ أَمْرِ اللهِ) يحتمل أن يكون صفة ل (مُعَقِّباتٌ) ويحتمل أن يكون المعنى : يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه ، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه.

وقال ابن عباس أيضا : الضمير في (لَهُ) عائد على المذكور في قوله (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) [الرعد : ١٠] وكذلك باقي الضمائر التي في الآية ، قالوا : و (مُعَقِّباتٌ) ـ على هذا ـ حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قالوا : والآية ـ على هذا ـ في الرؤساء الكافرين ، واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة ، قال عكرمة : هي المواكب خلفه وأمامه.

قال القاضي أبو محمد : ويصح على التأويل الأول الذي قبل هذا أن يكون الضمير في (لَهُ) للعبد المؤمن على معنى جعل الله له.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل عندي أقوى ، لأن غرض الآية إنما هو التنبيه على قدرة الله تعالى ، فذكر استواء (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) [الرعد : ١٠] ومن هو (سارِبٌ) [الرعد : ١٠] وأن (لَهُ مُعَقِّباتٌ) من الله تحفظه في كل حال ، ثم ذكر أن الله تعالى لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير ما بنفسه.

قال القاضي أبو محمد : وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعين من البشر.

وقال عبد الرحمن بن زيد : الآية في النبي عليه‌السلام ، ونزلت في حفظ الله له من أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل في القصة التي ستأتي بعد هذا في ذكر الصواعق.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية وإن كانت بألفاظها تنطبق على معنى القصة فيضعف القول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في (لَهُ) عليه.

و «المعقبات» : الجماعات التي يعقب بعضها بعضا ، فعلى التأويل الأول هي الملائكة ، وينظر هذا إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة المغرب والصبح» ، وعلى التأويل الثاني : هي الحرس والوزعة الذين للملوك.

و (مُعَقِّباتٌ) جمع معقبة وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، والتعقيب ـ بالجملة ـ أن تكون حال تعقبها حال أخرى من نوعها ، وقد تكون من غير النوع ، ومنه معاقبة الركوب ومعاقبة الجاني ومعقب عقبة القدر والمعاقبة في الأزواج ، ومنه قول سلامة بن جندل : [البسيط]

وكرّنا الخيل في آثارهم رجعا

كسر السنابك من بدء وتعقيب

وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر : «له معاقيب» قال أبو الفتح : هو تكسير معقب.

قال القاضي أبو محمد : بسكون العين وكسر القاف كمطعم ومطاعيم ، ومقدم ومقاديم.

وهي قراءة أبي البرهسم ـ فكأن معقبا جمع على معاقبة ثم جعلت الياء في معاقيب عوضا من الهاء المحذوفة في معاقبة ، والمعقبة ليست جمع معقب ـ كما ذكر ذلك الطبري وشبه ذلك برجل ورجال


ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر لأن تلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات.

وفي قراءة أبيّ بن كعب «من بين يديه ورقيب من خلفه» ، وقرأ ابن عباس : «ورقباء من خلفه» ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ : «معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله».

وقوله : (يَحْفَظُونَهُ) يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون بمعنى يحرسونه ، ويذبون عنه : فالضمير محمول ليحفظ.

والمعنى الثاني أن يكون بمعنى حفظ الأقوال وتحصيلها ، ففي اللفظة حينئذ حذف مضاف تقديره :

يحفظون أعماله ، ويكون هذا حينئذ من باب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وهذا قول ابن جريج.

وقوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) من جعل (يَحْفَظُونَهُ) بمعنى يحرسونه كان معنى قوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) يراد به «المعقبات» ، فيكون في الآية تقديم وتأخير ، أي «له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه» قال أبو الفتح : ف (مِنْ أَمْرِ اللهِ) في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع وهي «المعقبات».

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا التأويل في قوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) مع التأويل الأول في (يَحْفَظُونَهُ).

ومن تأول الضمير في (لَهُ) عائد على العبد ، وجعل «المعقبات» الحرس ، وجعل الآية في رؤساء الكافرين ـ جعل قوله (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بمعنى يحفظونه بزعمه من قدر الله ، ويدفعونه في ظنه ، عنه ، وذلك لجهالته بالله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل جعلها المتأول في الكافرين. قال أبو الفتح : ف (مِنْ أَمْرِ اللهِ) على هذا في موضع نصب ، كقولك حفظت زيدا من الأسد ، فمن الأسد معمول لحفظت وقال قتادة : معنى (مِنْ أَمْرِ اللهِ) : بأمر الله ، أي يحفظونه مما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل ، وقال قوم : المعنى الحفظ من أمر الله ، وقد تقدم نحو هذا.

وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وجعفر بن محمد : «يحفظونه بأمر الله».

ثم أخبر تعالى أنه لا يغير ما بقوم ـ بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقبا ـ حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة.

وهذا موضع تأمل لأنه يداخل هذا الخبر ما قررت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ، ومنه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد قيل له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ ـ قال : نعم إذا كثر الخبث. إلى أشياء كثيرة من هذا.

فقوله تعالى في هذه الآية : (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا) معناه حتى يقع تغيير إما منهم وإما من


الناظر إليهم أو ممن هو منهم بسبب ، كما غير الله تعالى بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة.

فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ، وثم أيضا مصائب يريد الله بها أجر المصاب فتلك ليست تغييرا.

ثم أخبر تعالى أنه (إِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) ولا حفظ منه ، وهذا جرى في طريقة التنبيه على قدرة الله تعالى وإحاطته ، والسوء والخير بمنزلة واحدة في أنهما إذا أرادهما الله بعبد لم يردا ، لكنه خص السوء بالذكر ليكون في الآية تخويف ، واختلف القراء في ـ وال ـ فأماله بعضهم ولم يمله بعضهم ، والوالي الذي يلي أمر الإنسان كالولي هما من الولاية كعليم وعالم من العلم.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ) الآية ، هذه آية تنبيه على القدرة ، و (الْبَرْقَ) روي فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مخراق بيد ملك يزجر به السحاب ، وهذا أصح ما روي فيه ، وروي عن بعض العلماء أنه قال : البرق : اصطكاك الأجرام ، وهذا عندي مردود ، وقال أبو الجلد : البرق ـ في هذه الآية ـ الماء ، وذكره مكي عن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا القول : أنه لما كان داعية الماء ، وكان خوف المسافرين من الماء وطمع المقيمين فيه عبر ـ في هذا القول ـ عنه بالماء.

وقوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ـ من رأى ذلك في الماء فهو على ما تقدم ، والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق ـ والطمع في المطر الذي يكون معه ، وهو قول الحسن ، و (السَّحابَ) جمع سحابة ، ولذلك جمع الصفة ـ و (الثِّقالَ) معناه : بحمل الماء ، وبذلك فسر قتادة ومجاهد ، والعرب تصفها بذلك ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [المتقارب].

فما روضة من رياض القطا

كأن المصابيح حواذنها

بأحسن منها ولا مزنة

دلوح تكشف أدجانها

والدلوح : المثقلة. و (الرَّعْدُ) ملك يزجر (السَّحابَ) بصوته ، وصوته ـ هذا المسموع ـ تسبيح ـ و (الرَّعْدُ) اسم الملك : وقيل : «الرعد» اسم صوت الملك وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا سمع «الرعد» قال : «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره : أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع «الرعد» قال : «سبحان من سبح الرعد بحمده». وقال ابن أبي زكرياء : من قال ـ إذا سمع الرعد ـ سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة.

وقيل في الرعد أيضا إنه ريح تختنق بين السحاب ـ روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فيه نظر ، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم.

وروي أيضا عن ابن عباس : أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق ، وتحتكّ فتكون الصواعق.

وقوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية ـ قيل : إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك.


وقال ابن جريج : كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمّه وعامر بن الطفيل ، وكان من أمرهما ـ فيما روي ـ أنهما قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه ـ فأبى ، فقال عامر : فتكون أنت على أهل الوبر ، وأنا على أهل المدر ـ فأبى ، فقال له عامر : فماذا تعطيني؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطيك أعنة الخيل ، فإنك رجل فارس ؛ فقال له عامر : والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا حتى آخذك ؛ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يأبى الله ذلك وابنا قيلة ؛ فخرجا من عنده ، فقال أحدهما لصاحبه : لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان ، فتآمر في الرجوع لذلك ، فقال عامر لأربد : أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف ؛ فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئا ؛ فلما انصرفا قال له عامر : والله يا أربد لا خفتك أبدا ولقد كنت أخافك قبل هذا ، فقال له أربد : والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك ، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك؟ فمضيا للحشد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته ، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه :

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السماك والأسد

فجعني الرعد والصواعق

بالفارس يوم الكريهة النجد

فنزلت الآية في ذلك.

وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جبارا من جبابرة العرب بعث إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه.

وقال مجاهد : إن بعض اليهود جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناظره ، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه.

وقوله : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور ، وتكون الواو واو حال ؛ أو إلى جدال الجبار المذكور. ويجوز ـ إن كانت الآية على غير سبب ـ أن يكون قوله : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم ، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات.

و (الْمِحالِ) : القوة والإهلاك ، ومنه قول الأعشى : [الخفيف]

فرع نبع يهتز في غصن المجد

عظيم الندى شديد المحال

ومنه قول عبد المطلب :

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

وقرأ الأعرج والضحاك «المحال» بفتح الميم بمعنى المحالة ، وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة ، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى ، والميم إذا كسرت أصلية ، وإذا فتحت زائدة ، ويقال : محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة.

قوله عزوجل :

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ


بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(١٦)

الضمير في (لَهُ) عائد على اسم الله عزوجل ، وقال ابن عباس : (دَعْوَةُ الْحَقِ) : لا إله إلا الله.

قال القاضي أبو محمد : وما كان من الشريعة في معناها.

وقال علي بن أبي طالب : (دَعْوَةُ الْحَقِ) : التوحيد. ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق ، ودعاء غيره من الأوثان باطل.

وقوله : (وَالَّذِينَ) يراد به ما عبد من دون الله ، والضمير في (يَدْعُونَ) لكفار قريش وغيرهم من العرب ..

وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء : «تدعون من دونه» بالتاء من فوق ، و (يَسْتَجِيبُونَ) بمعنى يجيبون ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وداع دعا : يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ومعنى الكلام : والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء. ثم مثل تعالى مثالا لإجابتهم بالذي يبسط (كَفَّيْهِ) نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه ، فلا يبلغ فمه أبدا ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع. وقوله : (هُوَ) يراد به الماء ، وهو البالغ ، والضمير في «بالغه» للفم ، ويصح أن يكون (هُوَ) يريد به الفم وهو البالغ أيضا ، والضمير في «بالغه» للماء ، لأن الفم لا يبلغ الماء أبدا على تلك الحال.

ثم أخبر تعالى عن (دُعاءُ الْكافِرِينَ) أنه في انتلاف و (ضَلالٍ) لا يفيد فيه شيئا ولا يغنيه.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) الآية ، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ : أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله ، وتسخر الأشياء له فقط ، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه‌السلام ، أي إن كنتم أنتم لا توقنون ولا تسجدون ، فإن جميع (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لهم سجود لله تعالى : وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري.

قال القاضي أبو محمد : و (مَنْ) تقع على الملائكة عموما ، وسجودهم طوع بلا خلاف ، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في (مَنْ) وسجودهم طوع ، وأما سجود الكفرة فهو الكره ، وذلك على نحوين من هذا المعنى :

فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام ـ كما قال


قتادة ـ فيسجد كرها ، إما نفاقا ، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة ، وإن صح إيمانه بعد.

وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل ـ على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر :

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

فيدخل الكفار أجمعون في (مَنْ) لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته.

وقال النحاس والزجاج : إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم.

قال القاضي أبو محمد : وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.

وقوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات. قال الطبري : وهذا كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) [النحل : ٤٨] قال : وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد : ظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره. وقال ابن عباس : يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله ، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال : «الظلال» هنا يراد به الأشخاص ـ وضعفه أبو إسحاق.

و (الْآصالِ) جمع أصيل. وقرأ أبو مجلز : «والإيصال» قال أبو الفتح : هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل ، كأصبحنا وأمسينا.

وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ.

وقوله : (قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) الآية ، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة ، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة ، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه ، وقال مكي : جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقع التوبيخ على اتخاذهم (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها ، وهذه غاية العجز ، وفي ضمن هذا الكلام : وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، ولفظة : (مِنْ دُونِهِ) تقتضي ذلك.

ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ).

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «تستوي الظلمات» بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : «يستوي» بالياء ، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء. والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي ، والفعل مقدم.

وشبهت هذه الآية الكافر ب (الْأَعْمى). والكفر ب (الظُّلُماتُ) وشبهت المؤمن ب (الْبَصِيرُ) والإيمان ب (النُّورُ) : ثم وقفهم بعد : هل رأوا خلقا لغير الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله؟ ثم أمر محمدا عليه‌السلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وهذا


عموم في اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى. قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما من الأصوليين : ويخرج عن ذلك صفات ذاته ـ لا رب غيره ـ والقرآن ، ووصف نفسه ب (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) من حيث لا موجود إلا به ، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات لا إله إلا هو العلي العظيم.

قوله عزوجل :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)(١٧)

صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالا للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به.

وقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يريد به المطر ، و «الأودية» ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق ، وقوله : (بِقَدَرِها) يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها.

وقرأ جمهور الناس : «بقدرها» بفتح الدال ، وقرأ الأشهب العقيلي : «بقدرها» بسكون الدال.

و «الزبد» ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الحباب الملتبك ، ومنه قول حسان بن ثابت :

ما البحر حين تهبّ الريح شامية

فيغطئل ويرمي العبر بالزبد

و «الرابي» : المنتفخ الذي قد ربا ، ومنه الربوة.

وقوله : (وَمِمَّا) خبر ابتداء ، والابتداء قوله : (زَبَدٌ) ، و (مِثْلَهُ) نعت ل (زَبَدٌ).

والمعنى : ومن الأشياء التي (تُوقِدُونَ) عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة ، ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق ، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي (تُوقِدُونَ) عليها ، فأخبر تعالى أن من هذه إذا أحمي عليها يكون (زَبَدٌ) مماثل للزبد الذي يحمله السيل ، ثم ضرب تعالى ذلك مثالا ل (الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو «كالحق» ـ و (الزَّبَدُ) الذي يجمد وينفش ويذهب هو كالباطل ، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق ، وما يذهب في الدخان هو كالباطل.

وقوله : (فِي النَّارِ) متعلق بمحذوف تقديره : كائنا أو ثابتا ـ كذا قال مكي وغيره ـ ومنعوا أن يتعلق بقوله : (يُوقِدُونَ) لأنهم زعموا : ليس يوقد على شيء إلا وهو (فِي النَّارِ) وتعليق حرف الجر ب (يُوقِدُونَ) يتضمن تخصيص حال من حال أخرى. وذهب أبو علي الفارسي إلى تعلقها ب (يُوقِدُونَ)


وقال : قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص: ٣٨] فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها.

وقوله : (جُفاءً) مصدر من قولهم : أجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب.

وقرأ رؤبة : «جفالا» من قولهم : جفلت الريح السحاب ، إذا حملته وفرقته. قال أبو حاتم : لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن.

وقوله : (ما يَنْفَعُ النَّاسَ) يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحسن : «توقدون» بالتاء ، أي أنتم أيها الموقدون ، وهي صفة لجميع أنواع الناس ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة : «يوقدون» بالياء ، على الإشارة إلى الناس ، و (جُفاءً) مصدر في موضع الحال.

قال القاضي أبو محمد : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يريد به الشرع والدين. وقوله : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) : يريد به القلوب ، أي أخذ النبيل بحظه. والبليد بحظه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يصح ـ والله أعلم ـ عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب برحمته ، وإن صح هذا القول عن ابن عباس فإنما قصد أن قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) معناه : (الْحَقَ) الذي يتقرر في القلوب المهدية ، (وَالْباطِلَ) : الذي يعتريها أيضا من وساوس وشبه حين تنظر في كتاب الله عزوجل.

قوله عزوجل :

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ)(٢١)

الذين (اسْتَجابُوا) : هم المؤمنون الذين دعاهم الله عزوجل على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه ، و (الْحُسْنى) : هي الجنة وكل ما يختص به المؤمنون من نعم الله عزوجل ، (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) هم : الكفرة ، و (سُوءُ الْحِسابِ) هو : التقصي على المحاسب وأن لا يقع في حسابه من التجاوز شيء ـ قاله شهر بن حوشب وإبراهيم النخعي ، وقاله فرقد السبخي وغيره ـ و «المأوى» : حيث يأوي الإنسان ويسكن و (الْمِهادُ) : ما يفترش ويلبس بالجلوس والرقاد. وقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ) استفهام


بمعنى التقرير ، والمعنى : أسواء من هداه الله فعلم صدق نبوتك وآمن بك ، ومن لم يهتد ولا رزق بصيرة فبقي على كفره ، فمثل عزوجل ذلك بالعمى.

وروي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام ، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم.

و (أَنَّما) في هذه الآية حاصرة ، أي (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) فيؤمن ويراقب الله من له لب وتحصيل.

ثم أخذ تعالى في وصف هؤلاء الذين يسرهم للإيمان فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) وقوله : (بِعَهْدِ اللهِ) : اسم للجنس ، أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي.

وقوله : (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا اعتقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة : وتقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بعض وعشرين آية ويحتمل أن يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه الله على عباده وقت مسحه على ظهر أبيهم آدمعليه‌السلام.

ووصل ما أمر الله به أن يوصل : ظاهره في القرابات وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. و (سُوءَ الْحِسابِ) هو أن يتقصى ولا تقع فيه مسامحة ولا تغمد.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٢٤)

«الصبر لوجه الله» يدخل في الرزايا والأسقام والعبادات وعن الشهوات ونحو ذلك.

و (ابْتِغاءَ) نصب على المصدر أو على المفعول لأجله ، و «الوجه» في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، وهذا كما تقول : خرج الجيش لوجه كذا ، وهذا أظهر ما فيه مع احتمال غيره و «إقامة الصلاة» هي الإتيان بها على كمالها ، و (الصَّلاةَ) هنا هي المفروضة وقوله : (وَأَنْفَقُوا) يريد به مواساة المحتاج ، و «السر» هو فيما أنفق تطوعا ، و «العلانية» فيما أنفق من الزكاة المفروضة ، لأن التطوع كله الأفضل فيه التكتم.

وقوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون من رأوا منه مكروها بالتي هي أحسن ، وقيل: يدفعون بقول : لا إله إلا الله ، شركهم وقيل : يدفعون بالسلام غوائل الناس.

قال القاضي أبو محمد : وبالجملة فإنهم لا يكافئون الشر بالشر ، وهذا بخلاف خلق الجاهلية ، وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات.


وقوله : (عُقْبَى الدَّارِ) يحتمل أن يكون (عُقْبَى) دار الدنيا ، ثم فسر العقبى بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إذ العقبى تعم حالة الخير وحالة الشر ، ويحتمل أن يريد (عُقْبَى) دار الآخرة لدار الدنيا ، أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم.

وقرأ الجمهور : «جنات عدن» وقرأ النخعي : «جنة عدن يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء. و (جَنَّاتُ) بدل من (عُقْبَى) وتفسير لها. و (عَدْنٍ) هي مدينة الجنة ووسطها ، ومنها جنات الإقامة. من عدن في المكان إذا أقام فيه طويلا ومنه المعادن ، و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يقال : هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط ـ قاله عبد الله بن عمرو بن العاصي ـ ويروى : أن لها خمسة آلاف باب.

وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ) أي من عمل صالحا وآمن ـ قاله مجاهد وغيره ـ ويحتمل : أي من صلح لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه.

وحكى الطبري في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها. والمعنى : يقولون: سلام عليكم ، فحذف ـ يقولون ـ تخفيفا وإيجازا ، لدلالة ظاهر الكلام عليه ، والمعنى : هذا بما صبرتم ، والقول في (عُقْبَى الدَّارِ) على ما تقدم من المعنيين.

وقرأ الجمهور «فنعم» بكسر النون وسكون العين ، وقرأ يحيى بن وثاب «فنعم» بفتح النون وكسر العين.

وقالت فرقة : معنى (عُقْبَى الدَّارِ) أي أن أعقبوا الجنة من جهنم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل مبني على حديث ورد ، وهو : أن كل رجل في الجنة فقد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله عنه إلى النعيم ، فيعرض عليه ويقال له : هذا كان مقعدك فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

هذه صفة حالة مضادة للمتقدمة. وقال ابن جريج في قوله (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إنه روي : إذا لم تمش إلى قريبك برجلك ولم تواسه بمالك فقد قطعته. وقال مصعب بن سعد : سألت أبي عن قوله تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)


[الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤] هم الحرورية؟ قال : لا ولكن الحرورية : هم (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وأولئك هم الفاسقون ، فكان سعد بن أبي وقاص يجعل فيهم الآيتين.

و «اللعنة» : الإبعاد من رحمة الله ومن الخير جملة. و (سُوءُ الدَّارِ) ضد (عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣] والأظهر في (الدَّارِ) هنا أنها دار الآخرة ، ويحتمل أنها الدنيا على ضعف.

وقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية ، لما أخبر عمن تقدمت صفته بأن (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أنحى بعد ذلك على أغنيائهم ، وحقر شأنهم وشأن أموالهم ، المعنى : أن هذا كله بمشيئة الله ، يهب الكافر المال ليهلكه به ، ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره.

وقوله : (وَيَقْدِرُ) أي من التقدير ، فهو مناقض يبسط. ثم استجهلهم في قوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وهي بالإضافة إلى الآخرة متاع ذاهب مضمحل يستمتع به قليلا ثم يفنى. و «المتاع» : ما يتمتع به مما لا يبقى وقال الشاعر : [الوافر]

تمتّع يا مشعث إن شيئا

سبقت به الممات هو المتاع

وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) الآية ، هذا رد على مقترحي الآيات من كفار قريش ، كسقوط السماء عليهم كسفا ونحو ذلك من قولهم : سيّر عنا الأخشبين واجعل لنا البطاح محارث ومغترسا كالأردن ، وأحي لنا قصيّا وأسلافنا ، فلما لم يكن ذلك ـ بحسب أن آيات الاقتراح لم تجر عادة الأنبياء بالإتيان بها إلا إذا أراد الله تعذيب قوم ـ قالوا هذه المقالة ، فرد الله عليهم (قُلْ ...) أي أن نزول الآية لا تكون معه ضرورة إيمانكم ولا هداكم ، وإنما الأمر بيد الله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي) إلى طاعته والإيمان به (مَنْ أَنابَ) إلى الطاعة وآمن بالآيات الدالة.

ويحتمل أن يعود الضمير في (إِلَيْهِ) على القرآن الكريم ، ويحتمل أن يعود على محمد عليه‌السلام. و (الَّذِينَ) بدل من (مِنْ) في قوله : (مَنْ أَنابَ) و «طمأنينة القلوب» هي الاستكانة والسرور بذكر الله والسكون به كمالا به. ورضى بالثواب عليه وجودة اليقين.

ثم استفتح عزوجل الإخبار بأن طمأنينة القلوب بذكر الله تعالى .. وفي هذا الإخبار حض وترغيب في الإيمان ، والمعنى : أن بهذا تقع الطمأنينة لا بالآيات المقترحة ، بل ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم.

و (الَّذِينَ) الثاني ابتداء وخبره : (طُوبى لَهُمْ) ويصح أن يكون (الَّذِينَ) بدلا من الأول.

و (طُوبى) ابتداء و (لَهُمْ) خبره. و (طُوبى) اسم ، يدل على ذلك كونه ابتداء. وهي فعلى من الطيب في قول بعضهم ، وذهب سيبويه بها مذهب الدعاء وقال : هي في موضع رفع ، ويدل على ذلك رفع (وَحُسْنُ). وقال ثعلب : (طُوبى) مصدر. وقرىء «وحسن» بالنصب ف (طُوبى) على هذا مصدر كما قالوا : سقيا لك ، ونظيره من المصادر الرجعى والعقبى. قال ابن سيده : والطوبى جمع طيبة عن كراع.


ونظيره كوسى في جمع كيسة وضوفى في جمع ضيفة.

قال القاضي أبو محمد : والذي قرأ : «وحسن» بالنصب هو يحيى بن يعمر وابن أبي عبلة واختلف في معنى (طُوبى) فقيل : خير لهم ، وقال عكرمة : معناه نعم ما لهم ، وقال الضحاك : معناه: غبطة لهم. وقال ابن عباس : (طُوبى) : اسم الجنة بالحبشية ، وقال سعيد بن مسجوع : اسم الجنة (طُوبى) بالهندية ، وقيل (طُوبى) : اسم شجرة في الجنة ـ وبهذا تواترت الأحاديث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى شجرة في الجنة ، يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرؤوا إن شئتم» : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] وحكى الطبري عن أبي هريرة وعن مغيث بن سميّ وعتبة بن عبد يرفعه أخبارا مقتضاها : أن هذه الشجرة ليس دار في الجنة إلا وفيها من أغصانها ، وأنها تثمر بثياب أهل الجنة ، وأنه يخرج منها الخيل بسروجها ولجمها ونحو هذا مما لم يثبت سنده.

و «المآب» : المرجع من آب يؤوب. ويقال في (طُوبى) طيبى.

قوله عزوجل :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)

الكاف في (كَذلِكَ) متعلقة بالمعنى الذي في قوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧] أي كما أنفذ الله هذا (كَذلِكَ) أرسلتك ـ هذا قول ـ والذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي ، لا بالآيات المقترحة. فكذلك أيضا فعلنا في هذه الأمة : (أَرْسَلْناكَ) إليها بوحي ، لا بآيات مقترحة ، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.

وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) قال قتادة وابن جريج : نزلت حين عاهدهم رسول الله عام الحديبية ، فكتب الكاتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال قائلهم : نحن لا نعرف الرحمن ولا نقرأ اسمه.

قال القاضي أبو محمد : والذي أقول في هذا : أن «الرحمن» يراد به الله تعالى وذاته ، ونسب إليهم الكفر به على الإطلاق ، وقصة الحديبية وقصة أمية بن خلف مع عبد الرحمن بن عوف ، إنما هي إباية الاسم فقط ، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل محمد عليه‌السلام.

ثم أمر الله تعالى نبيه بالتصريح بالدين والإفصاح بالدعوة في قوله : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ


تَوَكَّلْتُ) و «المتاب» : المرجع كالمآب ، لأن التوبة الرجوع.

ويحتمل قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) الآية ، أن يكون متعلقا بقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض» ـ هذا تأويل الفراء وفرقة من المتألين ـ وقالت فرقة : بل جواب (لَوْ) محذوف ، تقديره : ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه ، وقال أهل هذا التأويل ـ ابن عباس ومجاهد وغيرهما ـ إن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلانا وفلانا ـ فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ، وقالت فرقة : جواب (لَوْ) محذوف ، ولكن ليس في هذا المعنى ، بل تقديره : لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به ، وتتضمن الآية ـ على هذا ـ تعظيم القرآن ، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية.

وقوله : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين.

وقوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، (يَيْأَسِ) معناه : يعلم ، وهي لغة هوازن ـ قاله القاسم بن معن ـ وقال ابن الكلبي : هي لغة هبيل حي من النخع ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي : [الطويل]

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني

ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) الآية ـ على التأويلين في المحذوف المقدر ـ قال في هذه الآية : أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة ، علما منهم (أَنْ لَوْ يَشاءُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).

وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس» وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين».

ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزواته.

وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد : «ولا يزال الذين ظلموا» ثم قال : (أَوْ تَحُلُ) أنت يا محمد (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة ـ وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى (أَوْ تَحُلُ) القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ).

وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير : «أو يحل» بالياء «قريبا من ديارهم» بالجمع.

و «وعد الله» ـ على قول ابن عباس وقوم ـ فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة ، وأن حال الكفرة هكذا هي أبدا. و «وعد الله» : قيام الساعة ، والقارعة» : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه.

وقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) الآية ، هذه آية تأنيس للنبي عليه‌السلام ، أي لا يضيق صدرك يا محمد


بما ترى من قومك وتلقى منهم ، فليس ذلك ببدع ولا نكير ، قد تقدم هذا في الأمم و «أمليت لهم» أي مددت المدة وأطلت ، والإملاء : الإمهال على جهة الاستدراج ، وهو من الملاوة من الزمن ، ومنه : تمليت حسن العيش. وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) تقرير وتعجيب ، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه‌السلام.

قوله عزوجل :

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ، قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الرعد : ٣٠] والمعنى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر؟ ـ هذا تأويل ـ ويظهر أن القول مرتبط بقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) كأن المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا؟.

و «الأنفس» من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع. ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه.

وقوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر : هل تعلمون الله (بِما لا يَعْلَمُ)؟.

وقرأ الحسن : «هل تنبئونه» بإسكان النون وتخفيف الباء و (أَمْ) هي بمعنى : بل ، وألف الاستفهام ـ هذا مذهب سيبويه ـ وهي كقولهم : إنها لإبل أم شاء.

ثم قررهم بعد ، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر ، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال ، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له.

وقرأ الجمهور «زين» على بناء الفعل للمفعول «مكرهم» بالرفع ، وقرأ مجاهد «زين» على بنائه للفاعل «مكرهم» بالنصب ، أي زين الله ، و (مَكْرُهُمْ) : لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وصدوا» بضم الصاد ، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا ، وفي «صم» المؤمن ـ بفتحها ، وذلك يحتمل أن يكون «صدوا» أنفسهم أو «صدوا» غيرهم ، وقرأ يحيى بن وثاب : «وصدوا» بكسر الصاد.


وقوله : (لَهُمْ عَذابٌ) الآية ، آية وعيد أي لهم عذاب في دنياهم بالقتل والأسر والجدوب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحنهم الله ، ثم لهم في الآخرة عذاب (أَشَقُ) من هذا كله ، وهو الاحتراق بالنار ، و (أَشَقُ) أصعب من المشقة ، و «الواقي» : الساتر على جهة الحماية من الوقاية.

وقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) الآية ، قال قوم : (مَثَلُ) معناه ، صفة ، وهذا من قولك : مثلت الشيء ، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره ، وليس بضرب مثل لها ، وهو كقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] أي الوصف الأعلى. ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالا للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم.

وراجعه عند سيبويه فقدر قبل ، تقديره : فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة. وراجعه عند الفراء قوله : (تَجْرِي) أي صفة الجنة أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ونحو هذا موجود في كلام العرب ، وتأول عليه قوم : أن (مَثَلُ) مقحم وأن التقدير : (الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي).

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا قلق.

وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود «أمثال الجنة».

وقد تقدم غير مرة معنى قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقوله : (أُكُلُها) معناه : ما يؤكل فيها. و «العقبى» والعاقبة والعاقب : حال تتلو أخرى قبلها. وباقي الآية بين.

وقيل : التقدير في صدر الآية ، مثل الجنة جنة تجري ـ قاله الزجاج ـ فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٣٩)

اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فقال ابن زيد : عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى : مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه‌السلام من زيادات الشرع.


وقال قتادة : عنى به جميع المؤمنين ، و (الْكِتابَ) هو القرآن ، و (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يراد به ، جميع الشرع. وقالت فرقة : المراد ب (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) اليهود والنصارى ، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.

قال القاضي أبو محمد : ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم ، ويضعف أيضا بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه. وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.

و (الْأَحْزابِ) قال مجاهد : هم اليهود والنصارى والمجوس ، وقالت فرقة : هم أحزاب الجاهلية من العرب. وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك ، والدعاء إليه ، واعتقاد «المآب» إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.

وقوله : (وَكَذلِكَ) المعنى : كما يسرنا هؤلاء للفرح ، وهؤلاء لإنكار البعض ، كذلك (أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ، ويحتمل المعنى : والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم.

ثم عدد النعمة بقوله : «كذلك جعلناه» أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا.

و (حُكْماً) نصب على الحال ، و «الحكم» هو ما تضمنه القرآن من المعاني ، وجعله (عَرَبِيًّا) لما كانت العبارة عنه بالعربية.

ثم خاطب النبي عليه‌السلام محذرا من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة ، والخطاب لمحمد عليه‌السلام ، وهو بالمعنى يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة.

ووقف ابن كثير وحده على «واقي» و «هادي» و «والي» بالياء. قال أبو علي : والجمهور يقفون بغير ياء ، وهو الوجه. وباقي الآية بين.

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) الآية. في صدر هذه الآية تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشرا رسولا. فالمعنى : أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم. ثم جاء قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ) الآية ، لفظه لفظ النهي والزجر ، والمقصود به إنما هو النفي المحض ، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة ، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر ، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد ، و (بِإِذْنِ اللهِ) معناه: إلا أن يأذن الله في ذلك.

وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال ، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته. وكل أجل مكتوب محصور ، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة ، وقال الضحاك والفراء : المعنى : لكل كتاب أجل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا العكس غير لازم ولا وجه له ، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن ، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له.


وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «ويثبّت» بشد الباء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت» بتخفيفها.

وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ ، والذي يتخلص به مشكلها : أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل ، وهي التي ثبتت في (أُمُّ الْكِتابِ) وسبق بها القضاء ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم ، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها ، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها ـ ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك ، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث ، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم.

وقالت فرقة ـ منها الحسن ـ هي في آجال بني آدم ، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر ، وقيل : ـ في ليلة نصف شعبان ـ يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى. وقال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له ، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاما في جميع الأشياء ، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها ، أعني ما من شأنه أن يغير ـ على ما قدمناه ـ فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.

قال القاضي أبو محمد : وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها. أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة ، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا ، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك.

وقيل : إن هذه الآية نزلت لأن قريشا لما سمعت قول الله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، قال : ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ ، فنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.

وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : معنى الآية «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما أحلناه أولا في الآية.

وحكي عن فرقة أنها قالت : «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئا. وقالت فرقة معناه : يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد ، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة.


وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وما هي؟ قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). وذكر أبو المعالي في التلخيص : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب.

قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي لا يصح عن علي.

واختلفت أيضا عبارة المفسرين في تفسير (أُمُّ الْكِتابِ) فقال ابن عباس : هو الذكر ، وقال كعب : هو علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عاملون.

قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يفسر به (أُمُّ الْكِتابِ) أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت ـ قال نحوه قتادة ـ وقالت فرقة : معنى (أُمُّ الْكِتابِ) الحلال والحرام ـ وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

(إِنْ) شرط دخلت عليها (ما) مؤكدة ، وهي قبل الفعل فصارت في ذلك بمنزلة اللام المؤكدة في القسم التي تكون قبل الفعل في قولك : والله لنخرجن ، فلذلك يحسن أن تدخل النون الثقيلة في قولك : (نُرِيَنَّكَ) لحلولها هنا محل اللام هنالك ، ولو لم تدخل (ما) لما جاز ذلك إلا في الشعر ، وخص «البعض» بالذكر إذ مفهوم أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار مما توعد به الكفار. وكذلك أعطي الوجود ، ألا ترى أن أكثر الفتوح إنما كان بعد النبي عليه‌السلام و (أَوَ) عاطفة. وقوله : (فَإِنَّما) جواب الشرط.

ومعنى الآية : إن نبقك يا محمد لترى أو نتوفينك ، فعلى كلا الوجهين إنما يلزمك البلاغ فقط.

وقوله : (نَعِدُهُمْ) محتمل أن يريد به المضار التي توعد بها الكفار ، فأطلق فيها لفظة الوعد لما كانت تلك المضار معلومة مصرحا بها ، ويحتمل أن يريد الوعد لمحمد في إهلاك الكفر ، ثم أضاف الوعد إليهم لما كان في شأنهم.


والضمير في قوله : (يَرَوْا) عائد على كفار قريش وهم المتقدم ضميرهم في قوله : (نَعِدُهُمْ).

وقوله : (نَأْتِي) معناه بالقدرة والأمر ، كما قال الله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦] و (الْأَرْضَ) يريد به اسم الجنس ، وقيل : يريد أرض الكفار المذكورين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب الاختلاف في قوله : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها).

وقرأ الجمهور : «ننقصها» وقرأ الضحاك «ننقصها».

وقوله : (مِنْ أَطْرافِها) من قال : إنها أرض الكفار المذكورين ـ قال : معناه : ألم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل ، والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضا ، كما فعلنا بمجاوريهم ـ قاله ابن عباس والضحاك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب الاختلاف في قوله : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) القول لا يتأتى إلا بأن نقدر نزول هذه الآية بالمدينة ، ومن قال : إن (الْأَرْضَ) اسم جنس جعل الانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة ـ هذا قول ابن عباس أيضا ومجاهد.

وقالت فرقة : الانتقاص هو بموت البشر وهلاك الثمرات ونقص البركة ، قاله ابن عباس أيضا والشعبي وعكرمة وقتادة. وقالت فرقة : الانتقاص هو بموت العلماء والأخيار ـ قال ذلك ابن عباس أيضا ومجاهد ـ وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية.

و «الطرف» من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العلوم أودية في أي واد أخذت منها حسرت فخذوا من كل شيء طرفا. يعني خيارا.

وجملة معنى هذه الآية : الموعظة وضرب المثل ، أي ألم يروا فيقع منهم اتعاظ. وأليق ما يقصد لفظ الآية هو تنقص الأرض بالفتوح على محمد.

وقوله : (لا مُعَقِّبَ) أي لا راد ولا مناقض يتعقب أحكامه ، أي ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا؟ وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة ليست بعدد.

و (الْمَكْرُ) : ما يتمرس بالإنسان ويسعى عليه ـ علم بذلك أو لم يعلم ـ فوصف الله تعالى الأمم التي سعت على أنبيائها ـ كما فعلت قريش بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ب (الْمَكْرُ).

وقوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي العقوبات التي أحلها بهم. وسماها «مكرا» على عرف تسمية المعاقبة باسم الذنب ، كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ونحو هذا.

وفي قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) تنبيه وتحذير في طي إخبار ثم توعدهم تعالى بقوله : «وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار».

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» بالإفراد ، وهو اسم الجنس ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «الكفار» ، وقرأ عبد الله بن مسعود «الكافرون» ، وقرأ أبي بن كعب : «الذين كفروا». وتقدم القول في (عُقْبَى الدَّارِ) قبل هذا.


وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، المعنى : ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة ويقولون: لست مرسلا من الله وإنما أنت مدع ، قل لهم : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً).

و (بِاللهِ) في موضع رفع ، التقدير : كفى الله. و «شهيد» بمعنى : شاهد ، وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قيل : يريد اليهود والنصارى الذين عندهم الكتب الناطقة برفض الأصنام وتوحيد الله تعالى ، وقال قتادة : يريد من آمن منهم كعبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي ، الذين يشهدون بتصديق محمد ، وقال مجاهد : يريد عبد الله بن سلام خاصة ، قال هو : فيّ نزلت (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان الأخيران لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية ، والجمهور على أنها مكية ـ قاله سعيد بن جبير ، وقال : لا يصح أن تكون الآية في ابن سلام لكونها مكية وكان يقرأ : «ومن عنده علم الكتاب».

وقيل : يريد جنيا معروفا ، حكاه النقاش ، وهو قول شاذ ضعيف. وقيل : يريد الله تعالى ، كأنه استشهد بالله تعالى ، ثم ذكره بهذه الألفاظ التي تتضمن صفة تعظيم. ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ، وذلك لا يجوز وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض. ويحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره : أعدل وأمضى قولا ، ونحو هذا مما يدل عليه لفظ (شَهِيداً) ويراد بذلك الله تعالى.

وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والحكم وغيرهم «ومن عنده علم الكتاب» بكسر الميم من «من» وخفض الدال ، قال أبو الفتح : ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ علي بن أبي طالب أيضا والحسن وابن السميفع «ومن عنده علم الكتاب» بكسر الميم من «من» وضم العين من «علم» على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ورفع الكتاب ، وهذه القراءات يراد فيها الله تعالى ، لا يحتمل لفظها غير ذلك. والله المعين برحمته.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة ابراهيم

هذه السورة مكية إلا آيتين وهي قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] إلى آخر الآيتين : ذكره مكي والنقاش.

بسم الله الرحمن الرحيم ، قوله عزوجل :

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٣)

تقدم القوم في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك.

و (كِتابٌ) رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب ، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة ، وأما من قال فيها ، إنها كناية عن حروف المعجم ، ف (كِتابٌ) مرتفع بقوله : (الر) أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك ، وقوله : (أَنْزَلْناهُ) في موضع الصفة للكتاب.

قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما : إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه‌السلام من الكلام.

وقوله : (لِتُخْرِجَ) أسند الإخراج إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار ، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية. وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه‌السلام.

وعم (النَّاسَ) إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق ، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواترا من دعوته العالم كله ، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة ، ونقل عنهم تواترا ، فعلم قطعا والحمد لله.

واستعير (الظُّلُماتِ) للكفر ، و (النُّورِ) للإيمان ، تشبيها.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم ..


و (إِلَى) في قوله : (إِلى صِراطِ) بدل من الأولى في قوله : (إِلَى النُّورِ) أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته ، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات.

و (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) صفتان لائقتان بهذا الموضع ، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب ، وما في ضمن ذلك من القدرة ، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم.

وقرأ نافع وابن عامر «الله الذي» برفع اسم الله على القطع والابتداء وخبره «الذي» ، ويصح رفعه على تقدير هو الله الذي. وقرأ الباقون بكسر الهاء على البدل من قوله : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، وروى الأصمعي وحده هذه القراءة عن نافع. وعبر بعض الناس عن هذا بأن قال : التقدير : إلى صراط الله العزيز الحميد ، ثم قدم الصفات وأبدل منها الموصوف.

قال القاضي أبو محمد : وإذا كانت هكذا فليست بعد بصفات على طريقة صناعة النحو ، وإن كانت بالمعنى صفاته ، ذكر معها أو لم يذكر.

وقوله : (وَوَيْلٌ) معناه : وشدة وبلاء ونحوه. أي يلقونه من عذاب شديد ينالهم الله به يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد في الدنيا ، هذا معنى قوله : (وَوَيْلٌ). وقال بعض : «ويل» اسم واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خبر يحتاج إلى سند يقطع العذر ، ثم لو كان هذا لقلق تأويل هذه الآية لقوله : (مِنْ عَذابٍ) وإنما يحسن تأوله في قوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] وما أشبهه ، وأما هنا فإنما يحسن في «ويل» أن يكون مصدرا ، ورفعه على نحو رفعهم : سلام عليك وشبهه.

و (الَّذِينَ) بدل من الكافرين وقوله : (يَسْتَحِبُّونَ) من صفة الكافرين الذين توعدهم قبل ، والمعنى : يؤثرون دنياهم وكفرهم وترك الإذعان للشرع على رحمة الله وسكنى جنته ، وقوله : (يَصُدُّونَ) يحتمل أن يتعدى وأن يقف ، والمعنى على كلا الوجهين مستقل ، تقول : صد زيد وصد غيره ، ومن تعديته قول الشاعر : [الوافر]

صددت الكأس عنا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

و (سَبِيلِ اللهِ) طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله. وقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل : أظهرها أن يريد : ويطلبونها في حالة عوج منهم. ولا يراعى إن كانوا بزعمهم على طريق نظر وبسبيل اجتهاد واتباع الأحسن ، فقد وصف الله تعالى حالهم تلك بالعوج ، وكأنه قال : ويصدون عن سبيل الله التي هي بالحقيقة سبيله ، ويطلبونها على عوج في النظر.

والتأويل الثاني أن يكون المعنى : ويطلبون لها عوجا يظهر فيها ، أي يسعون على الشريعة بأقوالهم وأفعالهم. ف (عِوَجاً) مفعول.

والتأويل الثالث : أن تكون اللفظة من المعنى ، على معنى : ويبغون عليها أو فيها عوجا ، ثم حذف الجار ، وفي هذا بعض القلق.


وقال كثير من أهل اللغة : العوج ـ بكسر العين ـ في الأمور وفي الدين ، وبالجملة في المعاني ، والعوج ـ بفتح العين ـ في الأجرام.

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا القانون بقوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] وقد تتداخل اللفظة مع الأخرى ، ووصف «الضلال» بالبعد عبارة عن تعمقهم فيه.

وصعوبة خروجهم منه.

قوله عزوجل :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٥)

هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه‌السلام ، أي لست يا محمد ببدع من الرسل ، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا ، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة ، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالا في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي ، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع قوله : (فَيُضِلُ) أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين ، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل ، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه ، وله في ذلك العزة التي لا تعارض ، والحكمة التي لا تعلل ، لا رب غيره.

قال القاضي أبو محمد : فإن اعترض أعجمي بأن يقول : من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه؟ قيل له : أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك ، وفي ذلك كفايتك.

فإن قال : ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة؟ قيل له : الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر ، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة ، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء.

و «اللسان» في هذه الآية يراد به اللغة.

وقرأ أبو السمال «بلسن» بسكون السين دون ألف ـ كريش ورياش ـ ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن ـ بسكون السين.

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) الآية ، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع. وقوله : (أَنْ أَخْرِجْ) تقديره : بأن أخرج ، ويجوز أن تكون (أَنْ) مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وأما (الظُّلُماتِ) و (النُّورِ) فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان. وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل


بعث موسى أشياعا متفرقين في الدين : قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وكلهم على غير شيء ، وهذا مذهب الطبري ـ وحكاه عن ابن عباس ـ وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف (الظُّلُماتِ) الذل والعبودية ، و (النُّورِ) العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه‌السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة ، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة ، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل.

قال القاضي أبو محمد : ولا يترتب هذا إلا بإيمان به. وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك ، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل؟ فلو لم يتبع لمضى بأمته ، وألا ترى أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر؟ وأيضا فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم ، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل. ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل؟ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر. وأيضا فلو كان مبعوثا إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده ، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم.

قال القاضي أبو محمد : واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الأعراف : ١٠٣] ، و (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل : ١٢] والله أعلم.

وقوله : (وَذَكِّرْهُمْ) الآية. أمر الله عزوجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة ، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات ، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام» إذ هي في أيام ، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكر بها ، ومن هذا المعنى قولهم : يوم عصيب ، ويوم عبوس ، ويوم بسام ، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : أيام الله : نعمه : وعن فرقة أنها قالت : أيام الله : نقمه.

قال القاضي أبو محمد : ولفظة «الأيام» تعم المعنيين ، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعا.

وقوله : (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ


يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٩)

هذا من التذكير بأيام الله في النعم ، وكان يوم الإنجاء عظيما لعظم الكائن فيه ، وقد تقدم تفسير هذه الآية وقصصها بما يغني عن إعادته ، غير أن في هذه الآية زيادة الواو في قوله : (وَيُذَبِّحُونَ) وفي البقرة : (يُذَبِّحُونَ) [البقرة : ٤٩] ـ بغير واو عطف. فهناك فسر سوء العذاب بأنه التذبيح والاستحياء ، وهنا دل بسوء العذاب على أنواع غير التذبيح والاستحياء ، وعطف التذبيح والاستحياء عليها.

وقرأ ابن محيصن : «ويذبحون» بفتح الياء والباء مخففة.

و (بَلاءٌ) في هذه الآية يحتمل أن يريد به المحنة ، ويحتمل أن يريد به الاختبار ، والمعنى متقارب.

و (تَأَذَّنَ) بمعنى آذن. أي أعلم ، وهو مثل : أكرم وتكرم ، وأوعد وتوعد ، وهذا الإعلام منه مقترن بإنفاذ وقضاء قد سبقه ، وما في تفعل هذه من المحاولة والشروع إذا أسندت إلى البشر منفي في جهة الله تعالى ، وأما قول العرب : تعلم بمعنى أعلم ، فمرفوض. الماضي على ما ذكر يعقوب. كقول الشاعر :

تعلم أبيت اللعن ... ونحوه.

وقال بعض العلماء : الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة ، والدنيا أهون من ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وصحيح جائز أن يكون ذلك ، وأن يزيد الله أيضا المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضا منهما جميعا ، وفي هذه الآية ترجية وتخويف ، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر ، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد ، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا : معنى الآية : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) من طاعتي وضعفه الطبري ، وليس كما قال : بل هو قوي حسن ، فتأمله.

قال القاضي أبو محمد : وقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) هو جواب قسم يتضمنه الكلام.

وقوله : (وَقالَ مُوسى) الآية ، في هذه الآية تحقير للمخاطبين ـ بشرط كفرهم ـ وتوبيخ ، وذلك بين من الصفتين اللتين وصف بهما نفسه تعالى في آخر الآية ، وقوله : (لَغَنِيٌ) يتضمن تحقيرهم وعظمته ، إذ له الكمال التام على الإطلاق ، وقوله : (حَمِيدٌ) يتضمن توبيخهم ، وذلك أنه صفة يستوجب المحامد


كلها ، دائم كذلك في ذاته لم يزل ولا يزال ، فكفركم أنتم بإله هذه حاله غاية التخلف والخذلان ، وفي قوله أيضا : (حَمِيدٌ) ما يتضمن أنه ذو آلاء عليكم أيها الكافرون به كان يستوجب بها حمدكم ، فكفركم به مع ذلك أذهب في الضلال ، وهذا توبيخ بين.

وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) الآية ، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة. وقوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) من نحو قوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] ، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذب النسابون من فوق عدنان» ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله». وحكى عنه المهدوي أنه قال : «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون».

قال القاضي أبو محمد : وهذا الوقوف على عدتهم بعيد ، ونفي العلم بها جملة أصح ، وهو ظاهر القرآن

واختلف المفسرون في معنى قوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) بحسب احتمال اللفظ.

قال القاضي أبو محمد : و «الأيدي» في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح ، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم ، فمما ذكر على أن «الأيدي» الجوارح أن يكون المعنى : ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضا عليها من الغيظ على الرسل ، ومبالغة في التكذيب ـ هذا قول ابن مسعود وابن زيد ، وقال ابن عباس : عجبوا وفعلوا ذلك ، والعض من الغيظ مشهور من البشر ، وفي كتاب الله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩] وقال الشاعر :

قد أفنى أنامله أزمه

فأضحى يعضّ عليّ الوظيفا

وقال الآخر : [الرجز]

لو أن سلمى أبصرت تخددي

ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عوّدي

عضت من الوجد بأطراف اليد

ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت ، واستبشاعا لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم ودفعا في صدر قولهم ـ قاله الحسن ـ وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم.

قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الألفاظ معنى رابعا وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي» ، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب ، فكأن المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي» ، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة.

وحكى المهدوي قولا ضعيفا وهو أن المعنى : أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي لا وجه له.


ومما ذكر على أن «الأيدي» أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم ، أي بأقوالهم ـ فوصل الفعل ب (فِي) عوض وصوله بالباء ـ وروي نحوه عن مجاهد وقتادة.

قال القاضي أبو محمد : والمشهور : جمع يد النعمة : أياد ، ولا يجمع على أيد ، إلا أن جمعه على أبد ، لا يكسر بابا ولا ينقض أصلا ، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ ـ على هذا ـ معنى ثانيا ، أن يكون المقصد : ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل ، أي لم يقبلوه ، كما تقول لمن لا يعجبك قوله : أمسك يا فلان كلامك في فمك.

ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالا ساغ هذا فيها ، كما تقول : كسرت كلام فلان في فمه ، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد ، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال : معناه : ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه.

وقوله : (لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها ، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين ، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب.

وقرأ طلحة بن مصرف : «مما تدعونّا» بنون واحدة مشددة.

قوله عزوجل :

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١٠)

قوله : (أَفِي اللهِ) مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي ألوهية الله شك؟ وقال أبو علي الفارسي : تقديره : أفي وحدانية الله شك؟.

قال القاضي أبو محمد : وزعم بعض الناس : أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظا للاعتزال وزوالا عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها ، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال.

و «الفاطر» المخترع المبتدي ، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ ، أي أيشك فيمن هذه صفته؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك.

وقوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ذهب بعض النحاة إلى أنها زائدة ، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض.


قال القاضي أبو محمد : وهو معنى صحيح ، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي ، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتا عنه ليبقى معه في مشيئة الله تعالى ، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض ، فصح معنى (مِنْ).

وقوله : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف ، في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض. ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول : هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه؟.

فالأول هو قول المعتزلة ، والثاني قول أهل السنة :

فتقول المعتزلة : لو لم يقتله لعاش ، وهذا سبب القود.

وقالت فرقة من أهل السنة : لو لم يقتله لمات حتف أنفه.

قال أبو المعالي : وهذا كله تخبط ، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة ، فمحال أن يقع غير ذلك ، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله ، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل ، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه.

وقول الكفرة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فيه استبعاد بعثة البشر ، وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة أو من يقول من الفلاسفة : إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية وسلطان (مُبِينٍ) ، ولو كانت بعثتهم عندهم محالا لما طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز ، أي بعثتكم محال وإلا (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدا ، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة.

قوله عزوجل :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١٢)

المعنى : صدقتم في قولكم ، أي بشر مثلكم في الأشخاص والخلقة لكن تبايننا بفضل الله ومنه الذي يختص به من يشاء.

قال القاضي أبو محمد : ففارقوهم في المعنى بخلاف قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) [المدثر : ٥٠] فإن ذلك في المعنى لا في الهيئة.


وقوله : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره ـ فمعناها النهي والحظر ، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه ـ فمعناها نفي ذلك الأمر جملة ، وكذا هي آيتنا ، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي.

واللام في قوله : «ليتوكل» لام الأمر. وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة ، وتحريكها بالكسر هو أصلها. وتسكينها طلب التخفيف ، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعا.

وقوله : (ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ) الآية ، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله ، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه ، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى. و (ما) في قوله : (ما آذَيْتُمُونا) مصدرية ، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها ، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر ، وقال بعض النحويين : «ما» المصدرية بانفرادها اسم. ويحتمل أن تكون (ما) ـ في هذا الموضع ـ بمعنى الذي ، فيكون في (آذَيْتُمُونا) ضمير عائد ، تقديره آذيتموناه ، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر ، هذا مذهب سيبويه ، والأخفش يجوز ذلك.

قوله عزوجل :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧)

قوله : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) قالت فرقة : (أَوْ) هنا بمعنى : «إلا أن» كما هي في قول امرئ القيس : [الطويل]

فقلت له لا تبك عيناك إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

قال القاضي أبو محمد : وتحمل (أَوْ) في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين ، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين ، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك ، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر ، فتخلصت بمعنى إلا أن ، ولذلك نصب الفعل بعدها. وقالت فرقة هي بمعنى «حتى» في الآية ، وهذا ضعيف ، وإنما تترتب كذلك في قوله : لألزمنك أو تقضيني حقي ، وفي قوله : لا يقوم زيد أو يقوم عمرو ، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن.

و «العودة» أبدا إنما هي إلى حالة قد كانت ، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر ، فإنما المعنى.


لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالا ، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.

وخصص تعالى (الظَّالِمِينَ) من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.

وقوله : (لَنُسْكِنَنَّكُمُ) الخطاب للحاضرين ، والمراد هم وذريتهم ، ويترتب هذا المعنى في قوله : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [إبراهيم : ١٠] أي يؤخركم وأعقابكم.

وقرأ أبو حيوة : «ليهلكن» و «ليسكننكم» بالياء فيهما.

وقوله : (مَقامِي) يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة ، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة ، فإضافته ـ إذا كان مصدرا ـ إضافة المصدر إلى الفاعل ، وإضافته ـ إذا كان ظرفا ـ إضافة الظرف إلى حاضره ، أي مقام حسابي ، فجائز قوله : (مَقامِي) وجائز لو قال : مقامه ، وجائز لو قال : مقام العرض والجزاء ، وهذا كما تقول : دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.

وقال أبو عبيدة : (مَقامِي) مجازه ، حيث أقيمه بين يدي للحساب ، و «الاستفتاح» طلب الحكم ، والفتاح : الحاكم ، والمعنى : أن الرسل استفتحوا ، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة ، وقيل : بل استفتح الكفار ، على نحو قول قريش (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.

وقرأت فرقة «واستفتحوا» بكسر التاء ، على معنى الأمر للرسل ، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.

و (خابَ) معناه : خسر ولم ينجح ، و «الجبار» : المتعظم في نفسه ، الذي لا يرى لأحد عليه حقّا ، وقيل : معناه يجبر الناس على ما يكرهون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المفهوم من اللفظ ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار» بأنه الذي يأبى أن يقول : لا إله إلا الله.

و «العنيد» الذي يعاند ولا ينقاد ، وقوله : (مِنْ وَرائِهِ) ذكر الطبري وغيره من المفسرين : أن معناه : من أمامه ، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف : ٧٩] وأنشد الطبري :

أتوعدني وراء بني رياح

كذبت لتقصرن يداك دوني

قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر كما ذكر ، و «الوراء» هنا على بابه ، أي هو ما يأتي بعد في الزمان ، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان ، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد ، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن ، والقرآن وراءهما على هذا ، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم ، ومنه قولهم لولد الولد ، الوراء ، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما ، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم.


قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة ، فما تقدم فهو أمام ، وما تأخر فهو وراء المتقدم ، وكذلك قوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ) [الكهف : ٧٩] أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.

وقوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ) وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء ، ثم نعته ب (صَدِيدٍ) كما تقول : هذا خاتم حديد ، و «الصديد» القيح والدم ، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار ، قاله مجاهد والضحاك.

وقوله : (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) عبارة عن صعوبة أمره عليهم ، وروي أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.

وقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، أي من كل شعرة في بدنه ، قاله إبراهيم التيمي ، وقيل من جميع جهاته الست ، وقوله : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي لا يراح بالموت ، وباقي الآية كأولها ، ووصف «العذاب بالغليظ» ، مبالغة فيه ، وقال الفضيل بن عياض : العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل : إن الضمير في (وَرائِهِ) هنا هو للعذاب المتقدم.

قوله عزوجل :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠)

اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله : (مَثَلُ) ، فمذهب سيبويه رحمه‌الله أن التقدير : فيما يتلى عليكم أو يقص : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا). ومذهب الكسائي والفراء : أنه ابتداء خبره (كَرَمادٍ) والتقدير عندهم : مثل أعمال الذين كفروا كرماد ، وقد حكي عن الفراء : أنه يرى إلغاء (مَثَلُ) وأن المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، وقيل : هو ابتداء و (أَعْمالُهُمْ) ابتداء ثان ، و (كَرَمادٍ) خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت : المتحصل مثالا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة ، وهي : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ). وهذا يطرد عندي في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥ ، محمد : ١٥]. وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر ، ولا يجتمع منه شيء ، ووصف «اليوم» ب «العصوف» ـ وهي من صفة الريح بالحقيقة ـ لما كانت في اليوم ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [جرير] :

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطي بنائم

ومنه قول الآخر : يومين غيمين ويوما شمسا


فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء.

وقرأ نافع وحده وأبو جعفر «الرياح» والباقون «الريح» بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله.

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم بهذه الحال ، وعلى مثل هذا الغرور ، و (الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة.

وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر «في يوم عاصف» بإضافة يوم إلى عاصف ، وهذا بين ، وقرأ السلمي : «ألم تر» بسكون الراء ، بمعنى ألم تعلم من رؤية القلب. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «خلق السماوات» وقرأ حمزة والكسائي «خالق السماوات» فوجه الأولى : أنه فعل قد مضى ، فذكر كذلك ، ووجه الثانية : أنه ك (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤ يوسف : ١٠١ إبراهيم : ١٠ الزمر : ٤٦ الشورى : ١١] و (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦].

وقوله : (بِالْحَقِ) أي بما يحق في جوده ، ومن جهة مصالح عباده ، وإنفاذ سابق قضائه ، ولتدل عليه وعلى قدرته. ثم توعد تبارك وتعالى بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يعدمكم ويطمس آثاركم. وقوله : (بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يصح أن يريد : من فرق بني آدم ، ويصح غير ذلك ، وقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع.

قوله عزوجل :

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)(٢١)

(بَرَزُوا) معناه ، صاروا بالبراز ، وهي الأرض المتسعة كالبراح والقواء والخبار فاستعير ذلك لجمع يوم القيامة.

وقولهم (تَبَعاً) يحتمل أن يكون مصدرا ، فيكون على نحو قولهم : قول عدل ، وقوم حرب ، ويحتمل أن يكون جمع تابع ، على نحو غائب وغيب ، وهو تأويل الطبري.

وفسر الناس (الضُّعَفاءُ) بالأتباع ، و «المستكبرين» بالقادة وأهل الرأي ، وقولهم (مُغْنُونَ) من الغناء ، وهي المنفعة التي تكون من الإنسان للآخر في الدفاع وغيره ، وقوله : (أَجَزِعْنا) ألف التسوية ، وليست بألف استفهام ، بل هي كقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] و «المحيص» المفر والملجأ ، مأخوذ من حاص يحيص إذا نفر وفر ومنه في حديث هرقل : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، وروي عن ابن زيد وعن محمد بن كعب : أن أهل النار يقولون : إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله ، فتعال فلنصبر ، فيصبرون خمسمائة سنة ، فلا ينتفعون ، فيقولون هلم فلنجزع ،


فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى ، فلا ينتفعون ، فحينئذ يقولون هذا القول الذي في الآية ، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى.

قوله عزوجل :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)

المراد هنا ب (الشَّيْطانُ) إبليس الأفذم نفسه ، وروي في حديث عن النبي عليه‌السلام ـ من طريق عقبة بن عامر ـ أنه قال : «يقوم يوم القيامة خطيبان : أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة : ١١٧] ، وقال بعض العلماء : يقوم إبليس خطيب السوء ، الصادق بهذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) أي حصل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبري.

قال القاضي أبو محمد : و (قُضِيَ) قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل ، كقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف : ٤١].

و «الوعد» في هذه الآية على بابه في الخير ، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا ، ووعدهم إبليس الظفر والأمل إن كذبوا ، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده ، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده ، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم. وال (سُلْطانٍ) الحجة البينة ، وقوله : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع ، و (إِنَ) في موضع نصب ، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى : إلا أن النائب عن السلطان ، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر : [الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

ومعنى قوله : (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه.

قال القاضي أبو محمد : وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد ، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها ، والتقليد وإن كان باطلا ففساده من غير هذا الموضع.


قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد ب «السلطان» في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك ، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئا ، فأتى رأيكم عليه.

وقوله : (فَلا تَلُومُونِي) يريد بزعمه إذ لا ذنب لي (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب. و «المصرخ» المغيث ، والصارخ : المستغيث. ومنه قول الشاعر : [البسيط]

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قطع الظنابيب

فيقال : صرخ الرجل ، وأصرخ غيره ، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح ، ويوصف به ، كما يقال : رجل عدل ونحوه.

وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب «بمصرخي» بكسر الياء تشبيها لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله : مصرخيه ، ورد الزجاج هذه القراءة ، وقال : هي ردية مرذولة ، وقال فيها القاسم بن معن : إنها صواب ، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم : أن أبا عمرو حسنها ، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو.

وقوله : (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها ، ف «ما» مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم إياي مع الله قبل هذا الوقت.

قال القاضي أبو محمد : فهذا تبر منه ، وقد قال الله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤] ويحتمل أن يكون اللفظ إقرارا على نفسه بكفره الأقدم ، فتكون «ما» بمعنى الذي ، يريد الله تعالى ، أي خطيئتي قبل خطيئتكم ، فلا إصراخ عندي ، وباقي الآية بين.

وقرأ الجمهور «وأدخل» على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ الحسن : «وأدخل» على فعل المتكلم ، أي يقولها الله عزوجل ، وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت ما علا منها ، كالغرف والمباني والأشجار وغيره. و «الخلود» في هذه الآية على بابه في الدوام ، و «الإذن» هنا عبارة عن القضاء والإمضاء ، وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ) مصدر مضاف إلى الضمير ، فجائز أن يكون الضمير للمفعول أي تحييهم الملائكة ، وجائز أن يكون الضمير للفاعل ، أي يحيي بعضهم بعضا.

و (تَحِيَّتُهُمْ) رفع بالابتداء ، و (سَلامٌ) ابتداء ثان ، وخبره محذوف تقديره عليكم ، والجملة خبر الأول ، والجميع في موضع الحال من المضمرين في (خالِدِينَ) أو يكون صفة ل (جَنَّاتٍ).

قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)(٢٦)

قوله : (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم ، و (مَثَلاً) مفعول بضرب ، و (كَلِمَةً) مفعول أول بها ،


و (ضَرَبَ) هذه تتعدى إلى مفعولين ، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها : جعل ضربها. وقال المهدوي: (مَثَلاً) مفعول ، و (كَلِمَةً) بدل منه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد ، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في (ضَرَبَ) هذه.

والكاف في قوله : (كَشَجَرَةٍ) في موضع الحال ، أي مشبهة شجرة.

قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس وغيره : «الكلمة الطيبة» هي لا إله إلا الله ، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة» ، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين ، فكأن هذه الكلمة (أَصْلُها ثابِتٌ) في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته ـ هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد ، ويتنزل بها من قبل الله تعالى.

وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها» وقالت فرقة : إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة» المؤمن نفسه ، إذ «الكلمة الطيبة» لا تقع إلا منه ، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها. وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة ، فهو كشجرة فرعها في السماء ، وما يكون أبدا من المؤمن من الطاعة ، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين.

وقوله عن الشجرة (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) أي في الهواء نحو السماء ، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء ، وفي الحديث : خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا ، وفي كتاب سيبويه : والقيدودة : الطويل في غير سماء.

قال القاضي أبو محمد : كأنه انقاد وامتد.

وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد : «الشجرة الطيبة» في هذه الآية هي النخلة ، وروي ذلك في أحاديث وقال ابن عباس أيضا : هي شجرة في الجنة.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات فيدخل في ذلك النخلة وغيرها. وقد شبه الرسول عليه‌السلام المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ، فلا يتعذر أيضا أن يشبه بشجرتها. و «الأكل» الثمر وقرأ عاصم وحده «أكلها» بضم الكاف.

وقوله : (كُلَّ حِينٍ) : «الحين» في اللغة ـ القطيع من الزمن غير محدد كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ) [الإنسان : ١] وكقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨]. وقد تقتضي لفظة الحين بقرينتها تحديدا ، كهذه الآية ، فإن ابن عباس وعكرمة ومجاهدا والحكم وحمادا وجماعة من الفقهاء قالوا : من حلف ألا يفعل شيئا حينا فإنه لا يفعله سنة ، واستشهدوا بهذه الآية (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) أي كل سنة ، وقال ابن عباس وعكرمة والحسن : أي كل ستة أشهر ، وقال ابن المسيب : الحين شهران لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين ، وقال ابن عباس أيضا والضحاك والربيع بن أنس : (كُلَّ حِينٍ) أي غدوة وعشية ومتى أريد جناها.


قال القاضي أبو محمد : وهكذا يشبهها المؤمن الذي هو في جميع أيامه في عمل ، أو الكلمة التي أجرها والصادر عنها من الأعمال مستمر ، فيشبه أن قول الله تعالى إنما شبه المؤمن أو الكلمة بالشجرة في حال إثمارها إذ تلك أفضل أحوالها. وتأول الطبري في ذلك أن أكل الطلح في الشتاء ، وإن أكل الثمر في كل وقت من أوقات العام ، وهو إتيان أكل ، وإن فارق النخل ، وإن فرضنا التشبيه بها على الإطلاق. وهي إنما تؤتي في وقت دون وقت ، فالمعنى كشجرة لا تخل بما جعلت له من الإتيان بالأكل في الأوقات المعلومة ، فكذلك هذا المؤمن لا يخل بما يسر له من الأعمال الصالحة أو الكلمة التي لا تغب بركتها والأعمال الصادرة عنها بل هي في حفظ النظام كالشجرة الطيبة في حفظ وقتها المعلوم. وباقي الآية بين.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال : «الحين» سنة ـ راعى أن ثمر النخلة وجناها إنما يأتي كل سنة ، ومن قال ستة أشهر ـ راعى من وقت جذاذ النخل إلى حملها من الوقت المقبل. وقيل إن التشبيه وقع بالنخل الذي يثمر مرتين في العام ، ومن قال شهرين. قال : هي مدة الجني في النخل. وكلهم أفتى بقوله في الإيمان على الحين.

وحكي الكسائي والفراء : أن في قراءة أبي بن كعب «وضرب الله مثلا كلمة خبيثة» ، و «الكلمة الخبيثة» هي كلمة الكفر وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه. و «الشجرة الخبيثة» قال أكثر المفسرين هي شجرة الحنظل ـ قاله أنس بن مالك ورواه عن النبي عليه‌السلام ، وهذا عندي على جهة المثال. وقالت فرقة : هي الثوم ، وقال الزجاج : قيل هي الكشوت.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذه الأقوال من الاعتراض : أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر ، والله تعالى إنما مثل بالشجرة فلا تسمى هذه شجرة إلا بتجوز ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الثوم والبصل : من أكل من هذه الشجرة ، وأيضا فإن هذه كلها ضعيفة وإن لم تجتث ، اللهم إلا أن نقول : اجتثت بالخلقة.

وقال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.

والظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت فيها هذه الأوصاف. فالخبث هو أن تكون كالعضاه ، أو كشجر السموم أو نحوها. إذا اجتثت ـ أي اقتلعت ، حيث جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهاء والضعف ـ لتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أن بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغني عنه ، كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع وهي خبيثة الجني غير باقية.

قوله عزوجل :

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ


قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٣٠)

القول (الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، كلمة الإخلاص والنجاة من النار : لا إله إلا الله ، والإقرار بالنبوة.

وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه‌السلام إلى يوم القيامة ، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء : (الْحَياةِ الدُّنْيا) هي مدة حياة الإنسان. (وَفِي الْآخِرَةِ) هي وقت سؤاله في قبره. وقال البراء بن عازب وجماعة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هي وقت سؤاله في قبره ـ ورواه البراء عن النبي عليه‌السلام في لفظ متأول.

قال القاضي أبو محمد : ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا.

وقوله (فِي الْآخِرَةِ) هو يوم القيامة عند العرض.

قال القاضي أبو محمد : والأول أحسن ، ورجحه الطبري.

و (الظَّالِمِينَ) في هذه الآية ، الكافرين ، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين ، وعادل التثبيت بالإضلال ، وقوله : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) تقرير لهذا التقسيم المتقدم ، كأن امرأ رأى التقسيم فطلب في نفسه علته ، فقيل له : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) بحق الملك.

وفي هذه الآية رد على القدرية.

وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث ، منها ما وقع في الصحيح. وهي من عقائد الدين ، وأنكرت ذلك المعتزلة. ولم تقل بأن العبد يسأل في قبره ، وجماعة السنة تقول : إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلا ، إما بحياة كالمتعارفة ، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف ، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى ، غير أن في الأحاديث : «إنه يسمع خفق النعال» ، ومنها : «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب» ، وفيها : «إنه ليراجع» ، وفيها : «فيعاد روحه إلى جسده» ، وهذا كله يتضمن الحياة ـ فسبحان رب هذه القدرة.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) الآية ، هذا تنبيه على مثال من ظالمين أضلوا ، والتقدير : بدلوا شكر نعمة الله كفرا ، وهذا كقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢].

و (نِعْمَتَ اللهِ) المشار إليها في هذه الآية هو محمد عليه‌السلام ودينه ، أنعم الله به على قريش ، فكفروا النعمة ولم يقبلوها ، وتبدلوا بها الكفر.

والمراد ب (الَّذِينَ) كفرة قريش جملة ـ هذا بحسب ما اشتهر من حالهم ـ وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب : أنها نزلت في الأفجرين من قريش : بني مخزوم وبني أمية. قال عمر : فأما بنو المغيرة فكفوا يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وقال ابن عباس : هذه الآية في جبلة بن الأيهم.

قال القاضي أبو محمد : ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته ، وإنما أراد أنها تحصر من فعل جبلة إلى يوم القيامة.


وقوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) أي من أطاعهم ، وكان معهم في التبديل ، فكأن الإشارة والتعنيف إنما هي للرؤوس والأعلام ، و (الْبَوارِ) الهلاك ، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

يا رسول المليك إن لساني

فاتق ما رتقت إذ أنا بور

قاله الطبري : وقال هو وغيره : إنه يروى لابن الزبعرى ، ويحتمل أن يريد ب (الْبَوارِ) : الهلاك في الآخرة ففسره حينئذ بقوله : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) ، يحترقون في حرها ويحتملونه ، ويحتمل أن يريد ب (الْبَوارِ) : الهلاك في الدنيا بالقتل والخزي فتكون «الدار» قليب بدر ونحوه. وقال عطاء : نزلت هذه الآية في قتلى بدر.

قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله : (جَهَنَّمَ) نصبا ، على حد قولك : زيدا ضربته ، بإضمار فعل يقتضيه الظاهر.

و (الْقَرارُ) : موضع استقرار الإنسان ، و (أَنْداداً) جمع ند وهو المثيل والمشبه المناوىء والمراد الأصنام.

واللام في قوله : (لِيُضِلُّوا) ـ بضم الياء ـ لام كي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلوا» بفتح الياء ـ أي هم أنفسهم ـ فاللام ـ على هذا ـ لام عاقبة وصيرورة وقرأ الباقون «ليضلوا» ـ بضم الياء ـ أي غيرهم.

وأمرهم بالتمتع هو وعيد وتهديد على حد قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وغيره.

قوله عزوجل :

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

«العباد» جمع عبد ، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد. وقوله : (يُقِيمُوا) قالت فرقة من النحويين : جزمه بإضمار لام الأمر على حد قول الشاعر : [الوافر]

محمد تفد نفسك كل نفس

أنشده سيبويه ـ إلا أنه قال : إن هذا لا يجوز إلا في شعر. وقالت فرقة : أبو علي وغيره ـ هو فعل مضارع بني لما كان في معنى فعل الأمر ، لأن المراد : أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد لما شبه بقبل وبعد ، وقال سيبويه : هو جواب شرط مقدر يتضمنه صدر الآية ، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا.


قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : (قُلْ) ، وذلك أن يجعل (قُلْ) في هذه الآية بمعنى : بلغ وأد الشريعة يقيموا الصلاة ، وهذا كله على أن المقول هو : الأمر بالإقامة والإنفاق. وقيل إن المقول هو : الآية التي بعد ، أعني قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ).

و «السر» : صدقة التنفل ، و «العلانية» المفروضة ـ وهذا هو مقتضى الأحاديث ـ وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملا ، وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس ـ وهذا منه ـ عندي ـ تقريب للمخاطب.

و (خِلالٌ) مصدر من خالل : إذا واد وصافى ، ومنه الخلة والخليل وقال امرؤ القيس : [الطويل]

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش : «الخلال» جمع خلة.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : «لا بيع ولا خلال» بالرفع على إلغاء «لا» وقرأ أبو عمرو والحسن وابن كثير : «لا بيع ولا خلال» بالنصب على التبرية ، وقد تقدم هذا. والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) الآية ، تذكير بآلاء الله ، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة من جهتين.

و (اللهُ) مبتدأ ، و (الَّذِي) خبره. ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق. و (السَّماواتِ) هي الأرقعة السبعة والسماء في قوله ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ٢٢] السحاب.

وقوله : (مِنَ الثَّمَراتِ) يجوز أن تكون (مِنَ) للتبعيض ، فيكون المراد بعض جني الأشجار ، ويسقط ما كان منها سما أو مجردا للمضرات ، ويجوز أن تكون (مِنَ) لبيان الجنس ، كأنه قال : فأخرج به رزقا لكم من الثمرات ، وقال بعض الناس : (مِنَ) زائدة ـ وهذا لا يجوز عند سيبويه لكونها في الواجب ويجوز عند الأخفش.

و (الْفُلْكَ) جمع فلك ـ وقد تقدم القول فيه مرارا ـ وقوله : (بِأَمْرِهِ) مصدر من أمر يأمر ، وهذا راجع إلى الكلام القائم بالذات ، كقول الله تعالى للبحار والأرض وسائر الأشياء ، كن ـ عند الإيجاد ـ إنما معناه : كن بحال كذا وعلى وتيرة كذا ، وفي هذا يندرج جريان الفلك وغيره. وفي «تسخير الفلك» ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح ، وأما «تسخير الأنهار» فتفجرها في كل بلد ، وانقيادها للسقي وسائر المنافع. و (دائِبَيْنِ) معناه : متماديين ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش عليه : «إن هذا الجمل شكى إلي أنك تجيعه وتديبه» ، أي تديمه في الخدمة والعمل ـ وظاهر الآية أن معناه : دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة. وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفع إلى ابن عباس أنه قال : معناه : دائبين في طاعة الله ـ وهذا قول إن كان يراد به ـ أن الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله : (سَخَّرَ) وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر ، فهذا جيد ، والله أعلم.


وقوله : (وَآتاكُمْ) للجنس من البشر ، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر ، فيقال ـ بحسب هذا ـ للجميع أوتيتم كذا ـ على جهة التعديد للنعمة ـ وقيل المعنى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أن لو سألتموه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الأول.

و (ما) في قوله : (ما سَأَلْتُمُوهُ) يصح أن تكون مصدرية ، ويكون الضمير في قوله : (سَأَلْتُمُوهُ) عائدا على الله تعالى : ويصح أن يكون (ما) بمعنى الذي ، ويكون الضمير عائدا على الذي.

وقرأ الضحاك بن مزاحم «من كلّ ما سألتموه» بتنوين «كل» وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام ، ورويت عن نافع ، المعنى : وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل. ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به. ف (ما) في قوله : (ما سَأَلْتُمُوهُ) مفعول ثان ب (آتاكُمْ) وقال بعض الناس : (ما) نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير الضحاك. وأما القراءة الأولى بإضافة (كُلِ) إلى (ما) ـ فلا بد من تقدير المفعول الثاني جزءا أو شيئا ونحو هذا.

وقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك. وقال طلق بن حبيب : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد. ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.

وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ) يريد به النوع والجنس المعنى : توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر ، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(٣٧)

المعنى : واذكر إذ قال إبراهيم ، و (الْبَلَدَ) : مكة ، و (آمِناً) معناه فيه أمن ، فوصفه بالأمن تجوزا ـ كما قال : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] ، وكما قال الشاعر :

وما ليل المطي بنائم


(وَاجْنُبْنِي) معناه : وامنعني ، يقال : جنبه كذا وجنبه وأجنبه : إذا منعه من الأمر وحماه منه.

وقرأ الجحدري والثقفي «وأجنبني» بقطع الألف وكسر النون.

وأراد إبراهيم بني صلبه ، وكذلك أجيبت دعوته فيهم ، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام ، وهذا الدعاء من الخليل عليه‌السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته ، فكيف يخاف أن يعبد صنما؟! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة.

و (الْأَصْنامَ) هي المنحوتة على خلقة البشر ، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهي أوثان ، قاله الطبري عن مجاهد.

ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيرا من الناس ـ تجوز ـ إذ كانت عرضة الإضلال ، والأسباب المنصوبة للغيّ ، وعليها تنشأ الأغيار ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه ، وقيل : أراد بالأصنام هنا الدنانير والدراهم.

وقوله : (وَمَنْ عَصانِي) ظاهره بالكفر ، بمعادلة قوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا ، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسى (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته ، فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام؟

وقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) يريد : إسماعيل عليه‌السلام ، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر ـ بعد أن ولدت إسماعيل ـ تعذب إبراهيم عليه‌السلام ، بهما ، فروي أنه ركب البراق ـ هو وهاجر والطفل ـ فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفا من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولّى دعا بمضمن هذه الآية ، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل ، ففي كتاب البخاري والسير وغيره.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) للتبعيض ، لأن إسحاق كان بالشام ، و «الوادي» : ما بين الجبلين ، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء.

وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه‌السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقهما الماء ، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال : (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) ، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال : غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.

وقوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إما أن يكون البيت قد كان قديما ـ على ما روي قبل الطوفان ، وكان علمه عند إبراهيم ـ وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتا لله تعالى ، فيكون


محرما. ومعنى (الْمُحَرَّمِ) على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه ـ قاله قتادة وغيره.

وجمعه الضمير في قوله : (لِيُقِيمُوا) يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل. واللام في قوله : (لِيُقِيمُوا) هي لام كي هذا هو الظاهر فيها ـ على أنها متعلقة ب (أَسْكَنْتُ) ، والنداء اعتراض ، ويصح أن تكون لام أمر ، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة ، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة ، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه.

و (أَفْئِدَةً) : القلوب ، جمع فؤاد. سمي بذلك لإنفاده ، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.

وقرأ ابن عامر بخلاف : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) بياء بعد الهمزة.

وقوله : (مِنَ النَّاسِ) تبعيض ، ومراده المؤمنون ، قال مجاهد : لو قال إبراهيم : أفئدة الناس ـ لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال سعيد بن جبير : لحجته اليهود والنصارى. و (تَهْوِي) معناه: تسير بجد وقصد مستعجل ، ومنه قول الشاعر [أبو كبير] : [الكامل]

وإذا رميت به الفجاج رأيته

يهوي مخارمها هويّ الأجدل

ومنه البيت المروي : [السريع]

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمنو الجن كأنجاسها

وقرأ مسلمة بن عبد الله : «تهوي» بضم التاء ، من أهوى ، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة ، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد «تهوي» بفتح التاء والواو. وتعدي هذا الفعل ـ وهو من الهوى ـ ب «إلى» ، لما كان مقترنا بسير وقصد. وروي عن مسلم بن محمد الطائفي : أنه لما دعا عليه‌السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين ـ وقيل من الأردن ـ فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعا ، ووضعها قريب مكة ، فهي الطائف ، وبهذه القصة سميت ، وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة.

قوله عزوجل :

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ(٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

مقصد إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) التنبيه على اختصاره في الدعاء ، وتفويضه إلى ما علم الله من رغائبه وحرصه على هداية بنيه والرفق بهم وغير ذلك ، ثم انصرف إلى


الثناء على الله تعالى بأنه علام الغيوب ، وإلى حمده على هباته ، وهذه من الآيات المعلمة أن علم الله تعالى بالأشياء هو على التفصيل التام.

وروي في قوله : (عَلَى الْكِبَرِ) أنه لما ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاما ، وروي أقل من هذا ، و (إِسْماعِيلَ) أسنّ من (إِسْحاقَ) ، فيما روي ، وبحسب ترتيب هذه الآية ـ وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : بشر إبراهيم وهو ابن مائة وسبعة عشر عاما.

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) ، دعا إبراهيم عليه‌السلام في أمر كان مثابرا عليه متمسكا به ، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة ذلك الأمر واستمراره.

وقرأ طلحة والأعمش «دعا ربنا» بغير ياء. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «دعائي» بياء ساكنة في الوصل ، وأثبتها بعضهم دون الوقف في الوصل. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف. وروى ورش عن نافع : إثبات الياء في الوصل ، وقرأت فرقة «ولوالديّ» واختلف في تأويل ذلك ، وقالت فرقة : كان هذا من إبراهيم قبل يأسه من إيمان أبيه وتبينه أنه عدو لله ، فأراد أباه وأمه ، لأنها كانت مؤمنة ، وقيل : أراد آدم ونوحا عليهما‌السلام. وقرأ سعيد بن جبير «ولولدي» بإفراد الأب وحده ، وهذا يدخله ما تقدم من التأويلات ، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «ولولديّ» على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق ، وأنكرها عاصم الجحدري ، وقال إن في مصحف أبيّ بن كعب «ولأبوي» ، وقرأ يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام ، والولد لغة في الولد ، ومنه قول الشاعر ـ أنشده أبو علي وغيره : [الطويل]

فليت زيادا كان في بطن أمّه

وليت زيادا كان ولد حمار

ويحتمل أن يكون الولد جمع ولد كأسد في جمع أسد.

وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) معناه يوم يقوم الناس للحساب ، فأسند القيام للحساب إيجازا ، إذ المعنى مفهوم.

قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يريد قيام الحساب نفسه ، ويكون القيام بمعنى ظهوره وتلبس العباد بين يدي الله به ، كما تقول : قامت السوق وقامت الصلاة ، وقامت الحرب على ساق.

قوله عزوجل :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)(٤٤)

هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين ، وتسلية للمظلومين ، والخطاب بقوله : (تَحْسَبَنَ) لمحمد


عليه‌السلام ، والمراد بالنهي غيره ممن يليق به أن يحسب مثل هذا.

وقرأ طلحة بن مصرف «ولا تحسب الله غافلا» بإسقاط النون ، وكذلك «ولا تحسب الله مخلف وعده» [إبراهيم : ٤٧] وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن والأعرج : «نؤخرهم» بنون العظمة. وقرأ الجمهور : «يؤخرهم» بالياء ، أي الله تعالى.

و (تَشْخَصُ) معناه : تحد النظر لفزع ولفرط ذلك بشخص المحتضر ، و «المهطع» المسرع في مشيه ـ قاله ابن جبير وقتادة.

قال القاضي أبو محمد : وذلك بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه ـ وهذا هو أرجح الأقوال ـ وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر : [الكامل]

بمهطع سرج كأن عنانه

في رأس جذع من أوال مشذب

ومن ذلك قول عمران بن حطان : [البسيط]

إذا دعانا فأهطعنا لدعوته

داع سميع فلونا وساقونا

ومنه قول ابن مفرغ : [الوافر]

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السماع

ومن ذلك قول الآخر : [الطويل]

بمستهطع رسل كأن جديله

بقيدوم رعد من صوام ممنع

وقال ابن عباس وأبو الضحى : الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع»: الذي لا يرفع رأسه. قال أبو عبيدة : وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعا الإسراع وإدامة النظر ، و «المقنع» هو الذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشيء ، ومن ذلك قول الشاعر : [الشماخ] [الوافر]

يباكرن العضاه بمقنعات

نواجذهن كالحدأ الوقيع

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر.

وقال الحسن في تفسير هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وذكر المبرد ـ فيما حكي عن مكي ـ أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة.

قال القاضي أبو محمد : والأول أشهر.

وقوله : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يطرفون من الحذر والجزع وشدة الحال ، وقوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) تشبيه محض ، لأنها ليست بهواء حقيقة ، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، ويحتمل أن يكون


في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي ـ حناجرهم ـ فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء ، فمن ذلك قول الشاعر : [الطويل]

ولا تكن من أخدان كل يراعة

هواء كسقب الناب جوفا مكاسره

ومن ذلك قول حسان : [الوافر]

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوف نخب هواء

ومن ذلك قول زهير : [الوافر]

كأن الرحل منه فوق صعل

من الظلمان جوجؤه هواء

فالمعنى : أنه في غاية الخفة في إجفاله.

وقوله تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) الآية ، المراد ب (يَوْمَ) يوم القيامة ونصبه على أنه مفعول ب (أَنْذِرِ) ولا يجوز أن يكون ظرفا ، لأن القيامة ليست بموطن إنذار ، وقوله : (فَيَقُولُ) رفع عطفا على قوله : (يَأْتِيهِمُ) وقوله : (وَلَمْ تَكُونُوا) إلى آخر الآية ، معناه : يقال لهم ، فحذف ذلك إيجازا ، إذ المعنى يدل عليه ، وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) هو المقسم عليه نقل المعنى ، و (مِنْ زَوالٍ) معناه من الأرض بعد الموت. أي لا بعث من القبور ، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى عنهم في قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

قوله عزوجل :

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ(٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)(٤٨)

يقول عزوجل : (وَسَكَنْتُمْ) أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر من الأمم السالفة ، فنزلت بهم المثلات ، فكان نولكم الاعتبار والاتعاظ.

وقرأ الجمهور «وتبين» بتاء. وقرأ السلمي ـ فيما حكى المهدوي ـ «ونبين» بنون عظمة مضمومة وجزم ، على معنى : أو لم يبين ، عطف على (أَوَلَمْ تَكُونُوا) [إبراهيم : ٤٤] قال أبو عمرو : وقرأ أبو عبد الرحمن : بضم النون ورفع النون الأخيرة.


وقوله : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) هو على حذف مضاف تقديره : وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم ، ويحتمل قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أن يكون خطابا لمحمد عليه‌السلام ، والضمير لمعاصريه ، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم.

وقرأ السبعة سوى الكسائي : «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» بكسر اللام من (لِتَزُولَ) وفتح الأخيرة ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن» نافية بمعنى ما ، ومعنى الآية : تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها ، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين ، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم ، أي وإن كان شديدا إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور.

وقرأ الكسائي : «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» بفتح اللام الأولى من (لِتَزُولَ) وضم الأخيرة ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب ، وهذا على أن تكون «إن» مخففة من الثقيلة ، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته ، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته ، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه ، وهذا أشد في العبرة.

وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم» ، ويترتب مع هذه القراءة في (لِتَزُولَ) ما تقدم. وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولو لا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال». وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر ، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد أن أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت ، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود : ماذا ترى؟ قال : أرى بحرا وجزيرة ـ يريد الدنيا المعمورة ـ ثم قال : ماذا ترى؟ قال : أرى غماما ولا أرى جبلا ، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر ، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب. وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه ، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى ، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف ، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا.

وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) الآية ، تثبيت للنبي عليه‌السلام ولغيره من أمته ، ولم يكن النبي عليه‌السلام ممن يحسب مثل هذا ، ولكن خرجت العبارة هكذا ، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه‌السلام في أن قصد تثبيته.

وقرأ جمهور الناس «مخلف وعده» بالإضافة ، «رسله» بالنصب ، وإضافة «مخلف» إلى الوعد ، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز ، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل ، وهذا نحو قول الشاعر : [الطويل]

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع

وكقولك : هذا معطي درهم زيدا. وقرأت فرقة : «مخلف وعده رسله» بنصب الوعد وخفض الرسل ، على الإضافة ، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها ، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهي كقول الشاعر : [مجزوء الكامل]

فزججتها بمزجّة

زج القلوص أبي مزادة


وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر :

لله در اليوم من لامها

وقال آخر : [الوافر]

كما خط الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

والمعنى : لا تحسب يا محمد ـ أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم ـ أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله ، وإظهارهم ، ومعاقبة من كفر بهم ، في الدنيا أو في الآخرة ، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء ، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم.

وقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) الآية ، (يَوْمَ) ظرف للانتقام المذكور قبله. ورويت في «تبديل الأرض» أقوال ، منها في الصحيح : أن الله يبدل هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي ، وفي الصحيح : أن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه. وروي أنها تبدل أرضا من فضة. وروي : أنها أرض كالفضة من بياضها. وروي أنها تبدل من نار. وقال بعض المفسرين : تبديل الأرض : هو نسف جبالها وتفجير بحارها وتغييرها حتى لا يرى فيها عوج ولا أمت : فهذه حال غير الأولى ، وبهذا وقع التبديل.

قال القاضي أبو محمد : وسمعت من أبي رضي الله عنه : أنه روي : أن التبديل يقع في الأرض ، ولكن يبدل لكل فريق بما تقتضيه حاله ، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه ، وفريق يكون على فضة ـ إن صح السند بها ـ وفريق الكفرة يكونون على نار. ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله تعالى.

وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها. ولا سفك فيها دم ، وليس فيها معلم لأحد ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش» ، وروي عنه أنه قال : «الناس وقت التبديل على الصراط» ، وروي أنه قال «الناس حينئذ أضياف الله فلا يعجزهم ما لديه».

و (بَرَزُوا) مأخوذ من البراز ، أي ظهروا بين يديه لا يواريهم بناء ولا حصن. وقوله : (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) صفتان لائقتان بذكر هذه الحال.

قوله عزوجل :

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

(الْمُجْرِمِينَ) هم الكفار ، و (مُقَرَّنِينَ) مربوطين في قرن ، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر ، ومنه قول الشاعر : [البسيط].

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس


و (الْأَصْفادِ) الأغلال ، واحدها : صفد ، يقال : صفده وأصفده وصفده : إذا غلله ، والاسم : الصفاد ، ومنه قول سلامة بن جندل : [الوافر]

وزيد الخيل قد لاقى صفادا

يعض بساعد وبعظم ساق

وكذلك يقال في العطاء ، و «الصفد» العطاء ، ومنه قول النابغة.

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد.

و «السرابيل» : القمص ، و «القطران» هو الذي تهنأ به الإبل ، وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه ، ويقال : «قطران» بفتح القاف وكسر الطاء ، ويقال : «قطران» بكسر القاف وسكون الطاء ، ويقال : «قطران» بفتح القاف وسكون الطاء.

وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ، وابن عباس وأبو هريرة وعلقمة وسنان بن سلمة وعكرمة وابن سيرين وابن جبير والكلبي وقتادة وعمرو بن عبيد «من قطر آن» و «القطر» : القصدير ، وقيل : النحاس. وروي عن عمر أنه قال : ليس بالقطران ولكنه النحاس يسر بلونه. و «آن» وهو الطائب الحار الذي قد تناهى حره ؛ قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره. وقال ابن عباس المعنى : أنى أن يعذبوا به.

وقرأ جمهور الناس «وجوههم» بالنصب ، «النار» بالرفع. وقرأ ابن مسعود «وجوههم» بالرفع. «النار» بالنصب. فالأولى على نحو قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] فهي حقيقة الغشيان ، والثانية على نحو قول الشاعر : [الكامل]

يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

فهي بتجوز في الغشيان ، كأن ورود الوجوه على النار غشيان.

وقوله : (لِيَجْزِيَ) أي لكي يجزي ، واللام متعلقة بفعل مضمر ، تقديره : فعل هذا ، ونفذ هذا العقاب على المجرمين ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته. وجاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن ، لينبه على أن المحسن أيضا يجازي بإحسانه خيرا.

وقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) أي فاصله بين خلقه بالإحاطة التي له بدقيق أمرهم وجليلها. لا إله غيره ، وقيل لعلي بن أبي طالب : كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم في وقت واحد.

وقوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) الآية ، إشارة إلى القرآن والوعيد الذي يتضمنه ووصفه بالمصدر في قوله : (بَلاغٌ) والمعنى : هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به.

وقرأ جمهور الناس «ولينذروا» بالياء وفتح الذال على بناء الفعل للمفعول. وقرأ يحيى بن عمارة وأحمد بن يزيد بن أسيد : «لينذروا به» بفتح الياء والذال كقول العرب : نذرت بالشيء إذا أشعرت وتحرزت منه وأعددت وروي أن قوله : (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه السورة مكية.

قوله عزوجل :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)(٤)

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور. و (تِلْكَ) يمكن أن تكون إشارة إلى حروف المعجم ـ بحسب بعض الأقوال ـ ويمكن أن تكون إشارة إلى الحكم والعبر ونحوها التي تضمنتها آيات التوراة والإنجيل ، وعطف القرآن عليه. قال مجاهد وقتادة : (الْكِتابِ) في الآية ، ما نزل من الكتب قبل القرآن ، ويحتمل أن يريد ب (الْكِتابِ) القرآن ، ثم تعطف الصفة عليه.

وقرأ نافع وعاصم «ربما» بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بشدها ، إلا أن أبا عمرو قرأها على الوجهين ، وهما لغتان ، وروي عن عاصم «ربما» بضم الراء والباء مخففة ، وقرأ طلحة بن مصرف «ربتما» بزيادة تاء ، وهي لغة. و (رُبَما) للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير ، وقال قوم : إن هذه من ذلك ، ومنه : رب رفد هرقته. ومنه :

رب كأس هرقت يا ابن لؤي.

وأنكر الزجاج أن تجيء «رب» للتكثير. و «ما» التي تدخل عليها «رب» قد تكون اسما نكرة بمنزلة شيء ، وذلك إذا كان في الضمير عائد عليه ، كقول الشاعر : [الخفيف]

ربما تكره النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

التقدير : رب شيء ، وقد تكون حرفا كافا لرب وموطئا لها لتدخل على الفعل إذ ليس من شأنها أن تدخل إلا على الأسماء ، وذلك إذا لم يكن ثم ضمير عائد كقول الشاعر : [جذيمة الأبرش] [المديد]

ربما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات

قال القاضي أبو محمد : وكذلك دخلت «ما» على «من» كافة ، في نحو قوله : وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يحرك شفتيه. ونحو قول الشاعر : [الطويل]

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم


قال الكسائي والفراء : الباب في «ربما» أن تدخل على الفعل الماضي ، ودخلت هنا على المستقبل إذ هذه الأفعال المستقبلة من كلام الله تعالى لما كانت صادقة حاصلة ولا بد جرت مجرى الماضي الواقع.

قال القاضي أبو محمد : وقد تدخل رب على الماضي الذي يراد به الاستقبال ، وتدخل على العكس. والظاهر في (رُبَما) في هذه الآية أن «ما» حرف كاف ـ هكذا قال أبو علي ، قال : ويحتمل أن تكون اسما ، ويكون في (يَوَدُّ) ضمير عائد عليه ، التقدير : رب ود أو شيء يوده (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

قال القاضي أبو محمد : ويكون (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) بدلا من «ما».

وقالت فرقة : تقدير الآية : ربما كان يود الذين كفروا. قال أبو علي : وهذا لا يجيزه سيبويه ، لأن كان لا تضمر عنده.

واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن لو كانوا مسلمين ، فقالت فرقة : هو عند معاينة الموت في الدنيا ـ حكى ذلك الضحاك ـ وفيه نظر ، لأنه لا يقين للكافر حينئذ بحسن حال المسلمين ، وقالت فرقة : هو عند معاينة أهوال يوم القيامة ـ قاله مجاهد ـ وهذا بين ، لأن حسن حال المسلمين ظاهر ، فتود ، وقال ابن عباس وأنس بن مالك : هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة ، واحتج لهذا القول بحديث روي في هذا من طريق أبي موسى الأشعري وهو : أن الله إذا أدخل عصاة المسلمين النار نظر إليهم الكفار فقالوا : ليس هؤلاء من المسلمين فماذا أغنت عنهم لا إله إلا الله؟ قال : فيغضب الله تعالى لقولهم ، فيقول : أخرجوا من النار كل مسلم. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فحينئذ يود الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين».

قال القاضي أبو محمد : ومن العبر في هذه الآية حديث الوابصي الذي في صدر ذيل الأمالي ، ومقتضاه أنه ارتد ونسي القرآن إلا هذه الآية.

وقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) الآية وعيد وتهديد ، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف. وقوله :

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد ثان ، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال : الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين؟

ومعنى قوله : (وَيُلْهِهِمُ) أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله.

ومعنى قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) الآية ، أي لا تستبطئن هلاكهم فليس قرية مهلكة إلا بأجل وكتاب معلوم محدود. والواو في قوله : (وَلَها) هي واو الحال.

وقرأ ابن أبي عبلة «إلا لها» بغير واو. وقال منذر بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وباقي الآية بين.


قوله عزوجل :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١١)

الضمير في (قالُوا) يراد به كفار قريش. ويروى أن القائلين كانوا : عبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث ، وأشباههما.

وقرأ الأعمش : «يا أيها الذي ألقي إليه الذكر».

وقولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) كلام على جهة الاستخفاف ، أي بزعمك ودعواك ، وهذه المخاطبة كما تقول لرجل جاهل أراد أن يتكلم فيما لا يحسن : يا أيها العالم لا تحسن تتوضأ.

و (لَوْ ما) بمعنى لو لا ، فتكون تحضيضا ـ كما في هذه الآية ـ وقد تكون دالة على امتناع الشيء لوجود غيره ، كما قال ابن مقبل : [البسيط]

لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «ما تنزل الملائكة» بفتح التاء والرفع وقرأ عاصم ـ في رواية أبي بكر ـ «ما تنزل» بضم التاء والرفع ، وهي قراءة يحيى بن وثاب ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزل» بنون العظمة ـ «الملائكة» بالنصب ، وهي قراءة طلحة بن مصرف.

وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) قال مجاهد : المعنى : بالرسالة والعذاب.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن معناه : كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي رآها الله لعباده ، لا على اقتراح كافر ، ولا باختيار معترض.

ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا. فكأن الكلام : ما تنزل الملائكة إلا بحق وواجب ، لا باقتراحكم ؛ وأيضا فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب ، أي تؤخروا ، و «النظرة» : التأخير ، المعنى : فهذا لا يكون ، إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن.

وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد على المستخفين في قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ). وهذا كما يقول لك رجل على جهة الاستخفاف : يا عظيم القدر ، فتقول له ـ على جهة الرد والنجه : نعم أنا عظيم القدر. ثم تأخذ في قولك ـ فتأمله.

وقوله : (إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) قالت فرقة : الضمير في (لَهُ) عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،


أي يحفظه من أذاكم ويحوطه من مكركم وغيره ، ذكر الطبري هذا القول ولم ينسبه ؛ وفي ضمن هذه العدة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أظهر الله به الشرع وحان أجله. وقالت فرقة ـ وهي الأكثر ـ الضمير في (لَهُ) عائد على القرآن وقاله مجاهد وقتادة ، والمعنى : (لَحافِظُونَ) من أن يبدل أو يغير ، كما جرى في سائر الكتب المنزلة ، وفي آخر ورقة من البخاري عن ابن عباس : أن التبديل فيها إنما كان في التأويل وأما في اللفظ فلا ؛ وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ ، ووضع اليد في آية الرجم هو في معنى تبديل الألفاظ. وقيل : (لَحافِظُونَ) باختزانه في صدور الرجال.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى متقارب ، وقال قتادة : هذه الآية نحو قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢].

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية ، تسلية للنبي عليه‌السلام وعرض أسوة ، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وغير ذلك ، فقد تقدم منا إرسال الرسل في شيع الأولين ، وكانت تلك سيرتهم في الاستهزاء بالرسل. و (شِيَعِ) جمع شيعة ، وهي الفرقة التابعة لرأس ما : مذهب أو رجل أو نحوه وهي مأخوذة من قولهم : شيعت النار : إذا استدمت وقدها بحطب أو غيره ، فكأن الشيعة تصل أمر رأسها وتظهره وتمده بمعونة. وقوله : (أَرْسَلْنا) يقتضي رسلا ، ثم أوجز باختصار ذكرهم لدلالة الظاهر من القول على ذلك.

قوله عزوجل :

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)

يحتمل أن يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) يعود على الاستهزاء والشرك ونحوه ـ وهو قول الحسن وقتادة وابن جرير وابن زيد ـ ويكون الضمير في (بِهِ) يعود أيضا على ذلك بعينه ، وتكون باء السبب ، أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويكون قوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) في موضع الحال.

ويحتمل أن يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) عائدا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن ، أي مكذبا به مردودا مستهزأ به ندخله في قلوب المجرمين ، ويكون الضمير في (بِهِ) عائدا عليه أيضا أي لا يصدقون به.

ويحتمل أن يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) عائدا على الاستهزاء والشرك ، والضمير في (بِهِ) يعود على القرآن ، فيختلف ـ على هذا ـ عود الضميرين.

والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض.

و (نَسْلُكُهُ) معناه : ندخله ، يقال : سلكت الرجل في الأمر ، أي أدخلته فيه ، ومن هذا قول الشاعر [عدي بن زيد] : [الوافر]


وكنت لزاز خصمك لم أعرد

وقد سلكوك في يوم عصيب

ومنه قول الآخر [عبد مناف بن ربع الهذلي] : [البسيط]

حتى إذا سلكوهم في قتايدة

شلاكما تطرد الجمالة الشردا

ومنه قول أبي وجزة يصف حمر وحش؟؟؟ : [البسيط]

حتى سلكن الشوى منهن في مسك

من نسل جوابة الآفاق مهداج

قال الزجاج : ويقرأ : «نسلكه» بضم النون وكسر اللام ، و (الْمُجْرِمِينَ) في هذه الآية يراد بهم كفار قريش ومعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) عموم معناه الخصوص فيمن حتم عليه. وقوله (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي على هذه الوتيرة.

وتقول : سلكت الرجل في الأمر ، وأسلكته ، بمعنى واحد. ويروى : حتى إذا أسلكوهم في قتايدة ؛ البيت.

وقوله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) ، الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على قريش وكفرة العصر المحتوم عليهم.

والضمير في قوله : (فَظَلُّوا) يحتمل أن يعود عليهم ـ وهو أبلغ في إصرارهم ـ وهذا تأويل الحسن : و (يَعْرُجُونَ) معناه : يصعدون.

وقرأ الأعمش وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء ، والمعارج الأدراج ، ومنه : المعراج ، ومنه قول كثير : [الطويل].

إلى حسب عود بنى المرء قبله

أبوه له فيه معارج سلم

ويحتمل أن يعود على الملائكة [الحجر : ٧] لقولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [الحجر : ٧] ، فقال الله تعالى : «ولو رأوا الملائكة يصعدون ويتصرفون في باب مفتوح في السماء ، لما آمنوا» : وهذا تأويل ابن عباس.

وقرأ السبعة سوى ابن كثير : «سكّرت» بضم السين وشد الكاف ، وقرأ ابن كثير وحده بتخفيف الكاف ، وهي قراءة مجاهد. وقرأ ابن الزهري بفتح السين وتخفيف الكاف ، على بناء الفعل لفاعل. وقرأ أبان بن تغلب «سحرت أبصارنا» ، ويجيء قوله : (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) انتقالا إلى درجة عظمى من سحر العقل والجملة. وتقول العرب : سكرت الريح تسكر سكورا : إذا ركدت ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا ، وتقول سكر الرجل من الشراب سكرا : إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما للإنسان أن ينفذ فيه ، ومن هذا المعنى : سكران لا يبت ـ أي لا يقطع أمرا ، وتقول العرب : سكرت الفتق في مجاري الماء سكرا : إذا طمسته وصرفت الماء عنه ، فلم ينفذ لوجهه.

قال القاضي أبو محمد : فهذه اللفظة «سكّرت» ـ بشد الكاف ـ إذا كانت من سكر الشراب أو من


سكور الريح فهي فعل عدي بالتضعيف ، وإن كانت من سكر مجاري الماء فتضعيفها للمبالغة ، لا للتعدية ، لأن المخفف من فعله متعد. ورجح أبو حاتم هذه القراءة ، لأن «الأبصار» جمع ، والتثقيل مع الجمع أمثل ، كما قال : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] ومن قرأ «سكرت» ـ بضم السين وتخفيف الكاف ، فإن كانت اللفظة من سكر الماء فهو فعل متعد ؛ وإن كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح ، فيضمنا أن الفعل بني للمفعول إلى أن ننزله متعديا ، ويكون هذا الفعل من قبيل : رجح زيد ورجحه غيره ، وغارت العين وغارها الرجل : فتقول ـ على هذا ـ سكر الرجل ، وسكره غيره ، وسكرت الريح ، وسكرها شيء غيرها.

ومعنى هذه المقالة منهم : أي غيرت أبصارنا عما كانت عليه ، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء كما كانت تفعل.

قال القاضي أبو محمد : وعبر بعض المفسرين عن هذه اللفظة بقوله : غشي على أبصارنا وقال بعضهم عميت أبصارنا ، وهذا ونحوه تفسير بالمعنى لا يرتبط باللفظ.

ولقال أيضا هؤلاء المبصرون عروج الملائكة ، أو عروج أنفسهم ، بعد قولهم : (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) بل سحرنا حتى ما نعقل الأشياء كما يجب ، أي صرف فينا السحر.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١)

لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها ـ عقب ذلك بهذه الآية ـ فكأنه قال : وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة ، وكفرهم بها ، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو.

«والبروج» : المنازل ، واحدها برج ، وسمي بذلك لظهوره ووضوحه ، ومنه تبرج المرأة : ظهورها وبدوها ، والعرب تقول : برج الشيء : إذا ظهر وارتفع.

و «حفظ السماء» هو بالرجم بالشهب ـ على ما تضمنته الأحاديث الصحاح. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجا» ، قال : فينفرد المارد منها ، فيعلو فيسمع ، فيرمى بالشهاب. فيقول لأصحابه ـ وهو يلتهب ـ إنه من الأمر كذا وكذا ـ فيزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة ، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا ... الحديث. وقال ابن عباس : إن الشهب تجرح وتؤذي ولا تقتل ، وقال الحسن : تقتل.

قال القاضي أبو محمد : وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت


الإسلام وحفظ السماء حفظا تاما. وقال الزجاج : لم يكن إلا بعد النبي عليه‌السلام ، بدليل أن الشعراء لم يشبهوا به في السرعة إلا بعد الإسلام. وذكر الزهراوي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال : كنا لا نرى الرجم بالنجوم قبل الإسلام.

و (رَجِيمٍ) فعيل بمعنى مفعول. فإما من رجم الشهب ، وإما من الرجم الذي هو الشتم والذم. ويقال : تبعت الرجل واتبعته بمعنى واحد. و (إِلَّا) بمعنى : لكن.

قال القاضي أبو محمد : هذا قول ، والظاهر أن الاستثناء من الحفظ ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) ، فإنها لم تحفظ منه ـ ذكره الزهراوي.

وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) روي في الحديث : «أن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة ، فثبتها الله بالجبال». يقال : رسا الشيء يرسو : إذا رسخ وثبت.

وقوله : (مَوْزُونٍ) قال الجمهور : معناه مقدر محرر بقصد وإرادة ، فالوزن ـ على هذا ـ مستعار.

وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة والفلز كله وغير ذلك مما يوزن.

قال القاضي أبو محمد : الأول أعم وأحسن.

و (مَعايِشَ) جمع معيشة. وقرأها الأعمش بالهمز وكذلك روى خارجة عن نافع. والوجه ترك الهمز لأن أصل ياء معيشة الحركة. فيردها إلى الأصل الجمع ، بخلاف : مدينة ومدائن.

وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) يحتمل أن تكون (مَنْ) في موضع نصب وذلك على ثلاثة أوجه.

أحدها : أن يكون عطفا على (مَعايِشَ) ، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش ، وهي ما يؤكل ويلبس ، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد والصناع وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم.

والوجه الثاني : أن تكون (مَنْ) معطوفة على موضع الضمير في (لَكُمْ) وذلك أن التقدير: وأنعشناكم وأنعشنا أمما غيركم من الحيوان. فكأن الآية ـ على هذا ـ فيها اعتبار وعرض آية.

والوجه الثالث : أن تكون (مَنْ) منصوبة بفعل مضمر يقتضيه الظاهر ، تقديره : وأنعشنا من لستم له برازقين.

ويحتمل أن تكون (مَنْ) في موضع خفض عطفا على الضمير في (لَكُمْ) وهذا قلق في النحو لأن العطف على الضمير المجرور ، وفيه قبح ، فكأنه قال : ولمن لستم له برازقين ، وأنتم تنتفعون به.

وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) قال ابن جريج : وهو المطر خاصة.

قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.

و «الخزائن» المواضع الحاوية ، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق ، وهو ظاهر في قولهم في الريح : عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم ، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض ؛ إلى غير هذا من الشواهد. وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها ، فإذا شاء الله أوجدها.


قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضا ظاهر في أشياء كثيرة. وهو لازم في الاعراض إذا عممنا لفظة (شَيْءٍ) وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه.

وقوله : (نُنَزِّلُهُ) ما كان من المطر ونحوه. فالإنزال فيه متمكن ، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به ، إنزال على تجوز.

وقرأ الأعمش : «وما نرسله».

وقوله : (بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) روي فيه عن ابن مسعود وغيره : أنه ليس عام أكثر مطرا من عام ، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع.

قوله عزوجل :

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢٧)

يقال : لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة : إذا حملت ، والرياح تلقح الشجر والسحاب ، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة ، وتتجه صفة (الرِّياحَ) ب (لَواقِحَ) على أربعة أوجه :

أولها وأولاها : أن نجعلها لاقحة حقيقة ، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار ، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك ، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة ، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه ، فهي لاقحة بهذا الوجه ، وإن كانت أيضا تلقح غيرها وتصير إليه نفعها. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمي الشمال الحائل والعقيم ومحوة ، لأنها تمحو السحاب. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة ، وهي اللواقح التي ذكر الله ، وفيها منافع للناس» ؛ ومن هذا قول الطرماح :

قلق لا فبان الريا

ح للاقح منها وحائل

ومن قول أبي وجزة :

من نسل جوابة الآفاق

فجعلها حاملا تنسل.

قال القاضي أبو محمد : ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه.

والثاني : أن يكون وصفها ب (لَواقِحَ) من باب قولهم : ليل نائم ، أي فيه نوم ومعه ، ويوم عاصف ونحوه : فهذا على طريق المجاز.


والثالث : أن توصف الرياح ب (لَواقِحَ) على جهة النسب ، أي ذات لقح ، كقول النابغة :

كليني لهم يا أميمة ناصب

أي ذي نصب.

والرابع : أن تكون (لَواقِحَ) جمع ملقحة على حذف زوائده ، فكأنه لقحة ، فجمعها كما تجمع لاقحة ، ومثله قول الشاعر [سيبويه] : [الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة

وأشعث ممن طوحته الطوائح

وإنما طوحته المطاوح ، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله : (لَواقِحَ) ملاقح ، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري : لواقح ملاقح ملقحة.

وقرأ الجمهور «الرياح» بالجمع ، وقرأ الكوفيون ـ حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب ـ «الريح» بالإفراد ، وهي للجنس ، فهي في معنى الجمع ، ومثلها الطبري بقولهم : «قميص أخلاق وأرض أغفال».

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته ، فكذلك ريح لواقح لأنها متفرقة الهبوب ، وكذلك : دار بلاقع ، أي كل موضع منها بلقع.

وقال الأعمش : إن في قراءة عبد الله «وأرسلنا الرياح يلقحن» ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الريح من نفس الرحمن» ، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : (مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ومعنى نفس الرحمن : أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد. فمن التنفس بالريح النصر بالصبا وذرو الأرزاق بها ، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده. ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه‌الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره : [الطويل]

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت

على نفس محزون تجلت همومها

وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول : أسقى وسقى بمعنى واحد ، وقال لبيد : [الوافر]

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا ، والقبائل من هلال

فجاء باللغتين ، وقال أبو عبيدة : أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى ، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال : أسقى ، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي ، فإنما يقال فيه : أسقى ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

وقفت على رسم لمية ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه

قال القاضي أبو محمد : على أن بيت لبيد دعاء ، وفيه اللغتان.

وقوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) الآيات ، هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى وما يوجب توحيده وعبادته ، فمعنى هذه : وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه


من العدم إلى وجود الحياة ، وبرده عند البعث من مرقده ميتا ، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حيا ، (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) ، أي لا يبقى شيء سوانا ، وكل شيء هالك إلا وجهه لا رب غيره.

ثم أخبر تعالى بإحاطة علمه بمن تقدم من الأمم ، وبمن تأخر في الزمن من لدن أهبط آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة ، وأعلم أنه هو الحاشر لهم الجامع لعرض القيامة على تباعدهم في الأزمان والأقطار ، وأن حكمته وعلمه يأتيان بهذا كله على أتم غاياته التي قدرها وأرادها.

وقرأ الأعرج «يحشرهم» بكسر الشين.

قال القاضي أبو محمد : بهذا سياق معنى الآية ، وهو قول جمهور المفسرين. وقال الحسن : معنى قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) أي في الطاعة ، والبدار إلى الإيمان والخيرات ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) بالمعاصي.

قال القاضي أبو محمد : وإن كان اللفظ يتناول كل تقدم وتأخر على جميع وجوهه فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا ، وقال ابن عباس ومروان بن الحكم وأبو الجوزاء : نزل قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا) الآية ، في قوم كانوا يصلون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت تصلي وراءه امرأة جميلة ، فكان بعض القوم يتقدم في الصفوف لئلا تفتنه ، وكان بعضهم يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة ، فنزلت الآية فيهم.

قال القاضي أبو محمد : وما تقدم الآية من قوله : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وما تأخر من قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) ، يضعف هذه التأويلات ، لأنها تذهب اتصال المعنى ، وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد الله.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الآية ، (الْإِنْسانَ) هنا للجنس ، والمراد آدم ، قال ابن عباس سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي ، ودخل من بعده في ذلك إذ هو من نسله. و «الصلصال» : الطين الذي إذا جف صلصل ، هذا قول فرقة ، منها من قال : هو طين الخزف ، ومنها قول الفراء : هو الطين الحر يخالطه رمل دقيق. وقال ابن عباس : خلق من ثلاثة : من طين لازب وهو اللازق والجيد ، ومن (صَلْصالٍ) وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف ، ومن (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وهو الطين في الحمأة.

قال القاضي أبو محمد : وكان الوجه أن يقال ـ على هذا المعنى ـ صلال ، ولكن ضوعف الفعل من فائه وأبدلت إحدى اللامين من صلاص صادا. وهذا مذهب الكوفيين ، وقاله ابن جني والزبيدي ونحوهما على البصرة ، ومذهب جمهور البصريين : إنهما فعلان متباينان ، وكذلك قالوا في ثرة وثرثارة. قال بعضهم : تقول : صل الخزف ونحوه : إذا صوت بتمديد : فإذا كان في صوته ترجيع كالجرس ونحوه قلت : صلصل ، ومنه قول الكميت : [البسيط]

فينا العناجيج تردي في أعنتها

شعثا تصلصل في أشداقها اللجم

وقال مجاهد وغيره : (صَلْصالٍ) هنا إنما هو مأخوذ من صل اللحم وغيره : إذا أنتن.


قال القاضي أبو محمد : فجعلوا معنى (صَلْصالٍ) ومعنى (حَمَإٍ) في لزوم أنتن شيئا واحدا.

قال القاضي أبو محمد : و «الحمأ» جمع حمأة وهو الطين الأسود المنتن يخالطه ماء. و «المسنون» قال معمر : هو المنتن ، وهو من أسن الماء إذا تغير.

قال القاضي أبو محمد : والتصريف يرد هذا القول. وقال ابن عباس : «المسنون» : الرطب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير لا يخص اللفظة. وقال الحسن : المعنى : سن ذريته على خلقه. والذي يترتب في (مَسْنُونٍ) إما أن يكون بمعنى محكوك محكم العمل أملس السطح ، فيكون من معنى المسن والسنان ، وقولهم : سننت السكين وسننت الحجر : إذا أحكمت تمليسه ، ومن ذلك قول الشاعر : [الخفيف]

ثم دافعتها إلى القبة الخضرا

ء وتمشي في مرمر مسنون

أي محكم الإملاس بالسن ، وإما أن يكون بمعنى المصبوب ، تقول : سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء ، ومنه قول عمرو بن العاصي لمن حضر دفنه : إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا ، ومن هذا : هو سن الغارة. وقال الزجاج : هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق ، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء ، فمعنى الآية ـ على هذا ـ من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة.

(الْجَانَ) يراد به جنس الشياطين ، ويسمون : جنة وجانا لاستتارهم عن العين. وسئل وهب بن منبه عنهم فقال : هم أجناب ، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس تفعل هذا كله ، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.

وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «والجأن» بالهمز.

قال القاضي أبو محمد : والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن ، وفي الحديث : «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر». وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله (مِنْ قَبْلُ) لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة ، وخلق آدم آخر الخلق. و (السَّمُومِ) ـ في كلام العرب ـ إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقالت فرقة : السموم بالليل ، والحرور بالنهار.

قال القاضي أبو محمد : وأما إضافة (نارِ) إلى (السَّمُومِ) في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعا ، ويكون (السَّمُومِ) أمرا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ ؛ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم : مسجد الجامع ، ودار الآخرة ، على حذف مضاف.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ


مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٣٣)

(إِذْ) نصب بإضمار فعل تقديره : اذكر إذ قال ربك ، و «البشر» هنا آدم ، وهو مأخوذ من البشرة ، وهي وجه الجلد ، في الأشهر من القول. ومنه قول النبي عليه‌السلام : «وافقوا البشر». وقيل : البشرة ما يلي اللحم ، ومنه قولهم في المثل : إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.

وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم ، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور ـ فهي مخلوقات لطاف ـ فأخبرهم : أنه لا يخلق جسما حيا ذا بشرة وأنه يخلقه (مِنْ صَلْصالٍ).

قال القاضي أبو محمد : «والبشر» والبشارة أيضا أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.

و (سَوَّيْتُهُ) معناه : كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب ، وقوله : (مِنْ رُوحِي) إضافة خلق وملك إلى خالق مالك ، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.

وقوله : (فَقَعُوا) من وقع يقع ، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق ، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا ، لا أنه خضوع وتسليم ، وإشارة ، كما قال بعض الناس ، وشبهوه بقول الشاعر [أبي الأخزر الحماني] : [الطويل]

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف

وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا.

وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس : أنه قال : خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن عباس ـ من الأولين ـ يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم ، ويحتمل أن يريد : في أنه بقي منهم.

وقوله : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) هو ـ عند سيبويه ـ تأكيد بعد تأكيد ، يتضمن الآخر ما تضمن الأول. وقال غيره : (كُلُّهُمْ) لو وقف عليه ـ لصلحت للاستيفاء ، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد ، وهذا كما يقول القائل : كل الناس يعرف كذا ، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر ، فلما قال : (أَجْمَعُونَ) رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد ، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال ابن المبرد : لو وقف على (كُلُّهُمْ) لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة ، فلما قال : (أَجْمَعُونَ) دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.

قال القاضي أبو محمد : واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله : (أَجْمَعُونَ) حالا. بمعنى مجتمعين،


يلزمه ـ على هذا ـ أن يكون أجمعين ، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف ، والقراءة بالرفع تأبى قوله.

وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) قيل : إنه استثناء من الأول ، وقيل : إنه ليس من الأول. وهذا متركب على الخلاف في (إِبْلِيسَ) ، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر ـ من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية ـ أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود ، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود. وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن : أن إبليس إنما كان من قبيل الجن ولم يكن قط ملكا ؛ ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة ، وتعلق من قال هذا بقوله في صفته : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] وقالت الفرقة الأخرى : لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها وقد قال تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨].

وقوله تعالى : (قالَ : يا إِبْلِيسُ) ، قيل : إنه ـ حينئذ ـ سما «إبليس» ، وإنما كان اسمه ـ قبل ـ عزازيل ، وهو من الإبلاس وهو الإبعاد ، أي يا مبعد ، وقالت طائفة : «إبليس» كان اسمه ، وليس باسم مشتق ، بل هو أعجمي ، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف ، ولو كان عربيا مشتقا لكان كإجفيل ـ من أجفل ـ وغيره ، ولكان منصرفا ، قاله أبو علي الفارسي.

وقوله : (أَلَّا تَكُونَ) «أن» في موضع نصب ، وقيل : في موضع خفض ، والأصل : مالك ألا تكون؟ وقول إبليس (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ) ليس هذا موضع كفره عند الحذاق ، لأن إبايته إنما هي معصية فقط ، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقا مفضولا وكلف أفضل منه أن يذل له ، فكأنه قال : وهذا جور ، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من النار يأكل الطين ، فقاس وأخطأ في قياسه ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)(٤٤)

الضمير في (مِنْها) للجنة ، وإن لم يجر ذكرها في القصة تتضمنها ، ويحتمل أن يعود الضمير على ضيفة الملائكة ، وال (رَجِيمٌ) المشتوم أي المرجوم بالقول والشتم ، و (يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء ، ومنه قول الشاعر :


ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

وسأل إبليس «النظرة إلى يوم البعث» فأعطاه الله إياها إلى «وقت معلوم» ، واختلف فيه فقيل إلى يوم القيامة أي يكون آخر من يموت من الخلق ، قاله الطبري وغيره وقيل إلى وقت غير معين ولا مرسوم بقيامة ولا غيرها ، بل علمه عند الله وحده ، وقيل بل أمره كان إلى يوم بدر وأنه قتل يوم بدر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان روي فهو ضعيف ، والمنظر المؤخر ، وقوله (رَبِ) مع كفره يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق ، وهو الظاهر من حاله وما تقتضيه فيه الآيات والأحاديث ، وهذا لا يدفع في صدر كفره ، وقوله (بِما أَغْوَيْتَنِي) قال أبو عبيدة وغيره أقسم بالإغواء.

قال القاضي أبو محمد : كأنه جعله بمنزلة قوله «رب» بقدرتك علي وقضائك ويحتمل أن تكون باء سبب ، كأنه قال «رب» والله لأغوينهم بسبب إغوائك لي ومن أجله وكفاء له. ويحتمل أن يكون المعنى تجلدا منه ومبالغة في الجد أي بحالي هذه وبعدي عن الخير والله لأفعلن ولأغوين ، ومعنى (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي الشهوات والمعاصي ، والضمير في (لَهُمْ) لذرية آدم وإن كان لم يجر لهم ذكر ، فالقصة بجملتها حيث وقعت كاملة تتضمنهم ، و «الإغواء» : الإضلال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج «المخلصين» بفتح اللام ، أي الذين أخلصتهم أنت لعبادتك وتقواك ، وقرأ الجمهور «المخلصين» بكسر اللام ، أي الذين أخلصوا الإيمان بك وبرسلك ، وقوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ) الآية : القائل هو الله تعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة ، وقرأ الضحاك وحميد والنخعي وأبو رجاء وابن سيرين وقتادة وقيس بن عباد ومجاهد وغيرهم «علي مستقيم» من العلو والرفعة ، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص. قال الله له هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله ، وقرأ جمهور الناس «علي مستقيم» ، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص ، لما قسم إبليس الناس هذين القسمين ، قال الله هذا طريق علي ، أي هذا أمر إلى مصيره ، والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك ، وهذا نحو قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤].

قال القاضي أبو محمد : الآية على هذه القراءة تتضمن وعيدا ، ثم ابتدأ الإخبار عن سلامة عباده المتقين من إبليس وخاطبه بأنه لا حجة له عليهم ولا ملكه.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من قوله (عِبادِي) : الخصوص في أهل الإيمان والتقوى لا عموم الخلق ، وبحسب هذا يكون (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) مستثنى من غير الأول ، التقدير لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان ، وإن أخذنا العباد عاما في عباد الناس إذ لم يقرر الله لإبليس سلطانا على أحد فإنا نقدر الاستثناء في الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار ، والنظر الأول أصوب ، وإنما الغرض أن لا تقع في استثناء الأكثر من الأقل ، وإن كان الفقهاء قد جوزوه ، قال أبو المعالي ليس معروفا في استعمال العرب ، وهذه الآية أمثل ما احتج به مجوزوه.

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة لهم في الآية على ما بينته ، وقوله (جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) أي موضع


اجتماعهم ، والموعد يتعلق بزمان ومكان ، وقد يذكر المكان ولا يحد زمان الموعد ، و (أَجْمَعِينَ) تأكيد وفيه معنى الحال ، وقوله (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) ، قيل إن النار بجملتها سبعة أطباق أعلاها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم وفيه أبو جهل ، ثم الهاوية ، وإن في كل طبق منها بابا ، فالأبواب على هذا بعضها فوق بعض ، وعبر في هذه الآية عن النار جملة ب (جَهَنَّمَ) إذ هي أشهر منازلها وأولها وهي موضع عصاة المؤمنين الذين لا يخلدون ، ولهذا روي أن جهنم تخرب وتبلى ، وقيل إن النار أطباق كما ذكرنا لكن «الأبواب السبعة» كلها في جهنم على خط استواء ، ثم ينزل من كل باب إلى طبقة الذي يفضى إليه.

قال القاضي أبو محمد : واختصرت ما ذكر المفسرون في المسافات التي بين الأبواب وفي هواء النار ، وفي كيفية الحال إذ هي أقوال أكثرها لا يستند ، وهي في حيز الجائز ، والقدرة أعظم منها ، عافانا الله من ناره وتغمدنا برحمته بمنه. وقرأ الجمهور «جزء» بهمز ، وقرأ ابن شهاب «جزء» بضم الزاي ، وقرأت فرقة «جزّ» بشد الزاي دون همز وهي قراءة ابن القعقاع.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٥٠)

ذكر الله تعالى ما أعد لأهل الجنة عقب ذكره ما أعد لأهل النار ليظهر التباين ، وقرأ الجمهور و «عيون» بضم العين ، وقرأ نبيح والجراح وأبو واقد ويعقوب في رواية رويس «وعيون» بكسر العين مثل بيوت وشيوخ ، وقرأ الجمهور «ادخلوها» على الأمر بمعنى يقال لهم «ادخلوها» ، وقرأ رويس عن يعقوب «أدخلوها» على بناء الفعل للمفعول وضم التنوين في «عيون» ، ألقى عليه حركة الهمزة ، و «السلام» هاهنا يحتمل أن يكون السلامة ، ويحتمل أن يكون التحية ، و «الغل» الحقد ، وذكر الله تعالى في هذه الآية أن ينزع الغل من قلوب أهل الجنة ، ولم يذكر لذلك موطنا ، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط ، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة ، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا على أن الله تعالى يجعل ذلك تمثيلا بلون يخلقه هناك ونحوه ، وهذا كحديث ذبح الموت ، وقد يمكن أيضا أن يسل من الصدور ، ولذلك جواهر سود فيكون كمبارك الإبل ، وجاء في بعض الأحاديث أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة.

قال القاضي أبو محمد : والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم:


(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.). وذكر أن ابنا لطلحة كان عنده فاستأذن الأشتر فحبسه مدة ثم أذن له فدخل ، فقال ألهذا حبستني وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له فقال علي نعم إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الآية.

قال القاضي أبو محمد : وقد روي أن المستأذن غير الأشتر و (إِخْواناً) نصب على الحال ، وهذه أخوة الدين والود ، والأخ من ذلك يجمع على إخوان وإخوة أيضا ، والأخ من النسب يجمع أخوة وإخاء ، ومنه قول الشاعر :

وأي بني الإخاء تصفو مذاهبه

ويجمع أيضا إخوانا و (سُرُرٍ) جمع سرير ، و (مُتَقابِلِينَ) الظاهر أن معناه في الوجوه ، إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة ، قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه ، وقيل (مُتَقابِلِينَ) في المودة ، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ ، و «النصب» التعب ، يقع على القليل والكثير ، ومن الكثير قول موسى عليه‌السلام (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٢] ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

كليني لهم يا أمية ناصب

و (نَبِّئْ) معناه أعلم ، و (عِبادِي) مفعول ب (نَبِّئْ) ، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، ف (عِبادِي) مفعول و «أن» تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد ، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيدا منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين.

قال القاضي أبو محمد : وقد تتعدى (نَبِّئْ) إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) [التحريم : ٣] ، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف ، وفي هذا كله نظر ، وهذه آية ترجية وتخويف ، وروي في هذا المعنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه». وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله ، فقال : يا محمد أتقنط عبادي؟ وتلا عليه الآية ، فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم وأعلمهم.

قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها ، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية.

قوله عزوجل :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ


بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)(٥٦)

قرأ أبو حيوة «ونبهم» بضم الهاء من غير همز ، وهذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول ، و (ضَيْفِ) مصدر وصف به فهو للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد كعدل وغيره ، قال النحاس وغيره : التقدير عن أصحاب ضيف.

قال القاضي أبو محمد : ويغني عن هذا أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء كما فعل في رهن ونحوه ، والمراد ب «الضيف» هنا الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط وبشروا إبراهيم ، وقد تقدم قصصهم. وقوله (سَلاماً) مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلاما ، والسلام هنا التحية ، وقوله (سَلاماً) حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه ، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقا ونحو هذا وقوله (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي فزعون ، وإنما وجل إبراهيم عليه‌السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون ، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام ، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به ، وقرأ الجمهور «لا توجل» مستقبل وجل ، وقرأ الحسن «لا تؤجل» بضم التاء على بناء الفعل للمفعول من أوجل ، لأن وجل لا يتعدى ، وكانت هذه البشارة بإسحاق ، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة ، وقول إبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [إبراهيم : ٣٩] وليس يقتضي أنهما حينئذ وهبهما بل قبل الحمد بكثير. وقرأ الجمهور «أبشرتموني» بألف الاستفهام ، وقرأ الأعرج «بشرتموني» بغير ألف. وقوله : (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ، أي في حالة قد مسني فيها الكبر ، وقرأ ابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تبشرون» بفتح النون التي هي علامة الرفع ، والفعل على هذه القراءة غير معدى ، وقرأ الحسن البصري «تبشروني» بنون مشددة وياء ، وقرأ ابن كثير بشد النون دون ياء ، وهذه القراءة أدغمت فيها نون العلامة في النون التي هي للمتكلم موطئة للياء ، وقرأ نافع «تبشرون» بكسر النون ، وغلط أبو حاتم نافعا في هذه القراءة ، وقال إن شاهد الشعر في هذا اضطرار.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حمل منه ، وتقدير هذه القراءة أنه حذفت النون التي للمتكلم وكسرت النون التي هي علامة الرفع بحسب الياء ، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها ، ونحو هذا قول الشاعر أنشده سيبويه : [الوافر]

تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني

ومنه قول الآخر :

أبالموت الذي لا بد أني

ملاق لا أباك تخوفيني

ومن حذف هذه النون قول الشاعر :

قدني من نصر الخبيبين قدي

يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير ، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب ، وقرأ الحسن «فبم تبشرون» بفتح


التاء وضم الشين ، وقول إبراهيم عليه‌السلام (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما ، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرة الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر. قال مجاهد : عجب من كبره ومن كبر امرأته ، وقد تقدم ذكر سنه وقت البشارة. وقولهم (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) فيه شدة ما ، أي بشر بما بشرت به ودع غير ذلك ، وقرأ جمهور الناس «القانطين» ، والقنوط : أتم اليأس ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف ورويت عن عمرو «القنطين» ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة ، «ومن يقنط» بفتح النون في كل القرآن ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «ومن يقنط» بكسر النون ، وكلهم قرأ من (بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] بفتح النون ، ورد أبو عبيد قراءة أهل الحرمين وأنكر أن يقال قنط بكسر النون ، وليس كما قال لأنهم لا يجمعون إلا على قوي في اللغة مروي عندهم ، وهي قراءة فصيحة إذ يقال قنط يقنط وقنط يقنط مثل نقم ونقم ، وقرأ الأعمش هنا «يقنط» بكسر النون ، وقرأ (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] بكسر النون أيضا ، فقرأ باللغتين ، وقرأ الأشهب «يقنط» بضم النون وهي قراءة الحسن والأعمش أيضا وهي لغة تميم.

قوله عزوجل :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)(٦٥)

القائل هنا إبراهيم عليه‌السلام ، وقوله : (فَما خَطْبُكُمْ) سؤال فيه عنف ، كما تقول لمن تنكر حاله:ما دهاك وما مصيبتك؟ وأنت إنما تريد استفهاما عن حاله فقط. لأن «الخطب» لفظة إنما تستعمل في الأمور الشداد ، على أن قول إبراهيم عليه‌السلام (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وكونهم أيضا قد بشروه يقتضي أنه قد كان عرف أنهم ملائكة حين قال (فَما خَطْبُكُمْ) ، فيحتمل قوله (فَما خَطْبُكُمْ) مع هذا أنه أضاف الخطب إليهم من حيث هم حملته إلى القوم المعذبين أي ما هذا الخطب الذي تتحملونه وإلى أي أمة. ول (قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يراد به أهل مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه‌السلام ، والمجرم الذي يجر الجرائر ويرتكب المحظورات ، وأصل جرم وأجرم كسب ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]

جريمة ناهض في رأس نيق

أي كسب عقاب في قنة شامخ ، ولكن اللفظة خصّت في عرفها بالشر ، لا يقال لكاسب الأجر مجرم ، وقولهم (إِلَّا آلَ) استثناء منقطع ، والأول القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه ، كذا قال سيبويه ، وهذا نص في أن لفظة (آلَ) ليست لفظة أهل كما قال النحاس ، ويجوز على هذا إضافة (آلَ) إلى الضمير ، وأما أهيل فتصغير أهل ، واجتزوا به عن تصغير «آل» ، فرفضوا «أويلا» وقرأ جمهور السبعة


«لمنجّوهم» ، وقرأ حمزة والكسائي «لمنجوهم» بسكون النون وضم الجيم مخففة ، والضمير في (لَمُنَجُّوهُمْ) في موضع خفض بالإضافة ، وانحذفت النون للمعاقبة ، هذا قول جمهور النحويين ، وقال الأخفش الضمير في موضع نصب وانحذفت النون لأنه لا بد من اتصال هذا الضمير.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول ، وليس كذلك الأول مع «المجرمين» ، فيظهر الاستثناء الأول منقطعا والثاني متصلا ، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول ، ومثل بعض الناس في هذا بقولك : لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين ، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم ، وقال المبرد : ليس هذا المثال بجيد ، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق ، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية ، وإنما ينبغي أن يكون مثالا للآية قولك : ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجبا ، لأن حاجبا من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه ، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك الذي يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان.

قال القاضي أبو محمد : ونزعة المبرد في هذا نبيلة ، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر «قدّرنا» بتشديد الدال في كل القرآن ، وقرأ عاصم «قدرنا» بتخفيفها ، ونقل في رواية حفص ، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب : [الطويل]

ومفرهة عنس قدرت لساقها

فخرت كما تتابع الريح بالقفل

يريد قدرت ضربي لساقها ، وكقول النبي عليه‌السلام في الاستخارة : «واقدر لي الخير حيث كان» ، ويكون أيضا بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر : [يزيد بن مفرغ]

بقندهار ومن تقدير منيته

يرجع دونه الخبر

وكسرت الألف من (إِنَّها) بسبب اللام التي في قوله (لَمِنَ) والغابر الباقي في الدهر وغيره ، وقالت فرقة منهم النحاس : هو من الأضداد ، يقال في الماضي وفي الباقي ، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) الآيات ، تقدم القول وذكر القصص في أمر لوط وصورة لقاء الرسل له ، وقيل إن الرسل كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وقيل كانوا اثني عشر وقوله (مُنْكَرُونَ) أي لا يعرفون في هذا القطر ، وفي هذه اللفظة تحذير وهو من نمط ذمه لقومه وجريه إلى أن لا ينزل هؤلاء القوم في تلك المدينة خوفا منه أن يظهر سوء فعلهم وطلبهم الفواحش ، فقالت الرسل للوط بل جئناك بما وعدك الله من تعذيبهم على كفرهم ومعاصيهم ، وهو الذي كانوا يشكون فيه ولا يحققونه ، وقرأت فرقة «فاسر» بوصل الألف ، وقرأت فرقة «فأسر» بقطع الألف ، يقال سرى وأسرى بمعنى ، إذا سار ليلا ، وقال النابغة : [البسيط]

أسرت عليه من الجوزاء سارية


فجمع بين اللغتين في بيت ، وقرأ اليماني «فيسر بأهلك» ، وهذا الأمر بالسرى هو عن الله تعالى ، أي يقال لك ، و «القطع» الجزء من الليل ، وقرأت فرقة «بقطع» بفتح الطاء حكاه منذر بن سعيد. وقوله : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يتلوى ، و (حَيْثُ) في مشهورها ظرف مكان ، وقالت فرقة أمر لوط أن يسير إلى زغر ، وقيل : إلى موضع نجاة غير معروف عندنا ، وقالت فرقة : (حَيْثُ) قد تكون ظرف زمان ، وأنشد أبو علي في هذا بيت طرفة : [المديد]

للفتى عقل يعيش به

حيث تهدي ساقه قدمه

كأنه قال مدة مشيه وتنقله ، وهذه الآية من حيث أمر أن يسري (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ثم قيل له «حيث تؤمر». ونحن لا نجد في الآية أمرا له لا في قوله (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أمكن أن تكون (حَيْثُ) ظرف زمان ، و (يَلْتَفِتْ) مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين ، قال مجاهد : المعنى لا ينظر أحد وراءه.

قال القاضي أبو محمد : ونهوا عن النظر مخافة العقلنة وتعلق النفس بمن خلف ، وقيل بل لئلا تتفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. وقيل (يَلْتَفِتْ) معناه يتلوى من قولك لفت الأمر إذا لويته ، ومنه قولهم للعصيدة لفيتة لأنها تلوى ، بعضها على بعض.

قوله عزوجل :

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧)

المعنى (وَقَضَيْنا ذلِكَ الْأَمْرَ) أي أمضيناه وختمنا به ، ثم أدخل في الكلام (إِلَيْهِ) من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه و (أَنَ) في موضع نصب ، قال الأخفش : هي بدل من (ذلِكَ) ، وقال الفراء : بل التقدير «بأن دابر» فحذف حرف الجر ، والأول أصوب ، و «الدابر» الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم ، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم ، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام ، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى. و (مُصْبِحِينَ) معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح ، وقوله (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) ، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته ، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم ، وأن الأضياف ملائكة ، ويحتمل قوله (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أن يكون بعد علمه بهلاكهم ، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم.


قال القاضي أبو محمد : والاحتمال الأول عندي أرجح ، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة ، وقوله (يَسْتَبْشِرُونَ) أي بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة ، و «الضيف» مصدر وصف به ، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث ، وقولهم (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحدا ولا يجيره ، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه ، وقرأ الأعمش «إن دابر» بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله «وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع» ، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض ، فكانوا يعترضون الطرق ، وقول لوط عليه‌السلام (هؤُلاءِ بَناتِي) اختلف في تأويله ، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج ، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة ، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جدا ، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضا قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضا ما لزم المتقدم في ترتيبنا.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد بقوله عليه‌السلام (هؤُلاءِ بَناتِي) بنات صلبه ، ويكون ذلك على طريق المجاز ، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه ، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم ، وعليه قول النبي عليه‌السلام «ولو كمفحص قطاة» ، إلى غير هذا من الأمثلة و «العمر» و «العمر» بفتح العين وضمها واحد ، وهما مدة الحياة ، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح ، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه‌السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه ، قاله ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : والقسم ب (لَعَمْرُكَ) في القرآن ، وب «لعمري» ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع.

كقوله : [الطويل]

لعمري وما عمري عليّ بهين

وقول الآخر : [الوافر]

لعمر أبيك ما نسب المعالي

وكقول الآخر : [طرفة بن العبد] [الطويل]

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى

لك الطّول المرخى وثنياه باليد

والعرب تقول لعمر الله ، ومنه قول الشاعر :

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى : [الكامل]

ولعمر من جعل الشهور علامة

فيها فبين نصفها وكمالها


ويروى وهلالها ، وقال بعض أصحاب المعاني ، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر ، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي ، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه ، وذلك من كلام ضعفة الرجال ، ونحو هذا ، قول مالك في «لعمري» و «لعمرك» أنها ليست بيمين ، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف (لَعَمْرُكَ) في الكلام اقتداء بهذه الآية ، و (يَعْمَهُونَ) يرتبكون ويتحيرون ، والضمائر في (سَكْرَتِهِمْ) يراد بها قوم لوط المذكورون ، وذكر الطبري أن المراد قريش ، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده ، وقوله (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) مجاز وتشبيه ، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم ، و (يَعْمَهُونَ) معناه يتردون في حيرتهم ، و (مُشْرِقِينَ) معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد.

قال القاضي أبو محمد : وهذه «الصيحة» هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود ، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين ، وخبر قوله (لَعَمْرُكَ) محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني ، وفي هذا نظر ، وقرأ ابن عباس «وعمرك» ، وقرأ الأشهب العقيلي «لفي سكرتهم» بضم السين ، وقرأ ابن أبي عبلة «لفي سكراتهم» ، وقرأ الأعمش «لفي سكرهم» بغير تاء ، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم في سكرتهم» بفتح الألف ، وروي في معنى قوله (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أن جبريل عليه‌السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل ، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات ، ومن أفلت منهم أصابته (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ، و (سِجِّيلٍ) اسم من الدنيا ، وقيل لفظة فارسية ، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه ، وقد تقدم القول في هذا ، و «المتوسمون» قال مجاهد المتفرسون ، وقال الضحاك الناظرون ، وقال قتادة المعتبرون ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وهذا كله تفسير بالمعنى ، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني ، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا ، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى ، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما ، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم ، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر : [الطويل]

توسمته لما رأيت مهابة

عليه وقلت المرء من آل هاشم

وقال آخر :

فظللت فيها واقفا أتوسم

وقال آخر :

إني توسمت فيك الخير نافلة

والضمير في قوله (وَإِنَّها) يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة ، أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر ، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد ، ويحتمل أن يعود على الآيات ، ويحتمل أن يعود على الحجارة ، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه‌السلام قال : «إن حجارة العذاب معلقة بين السماء


والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي» ، وقوله (الْآيَةَ) أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)(٨٦)

(الْأَيْكَةِ) الغيضة والشجر الملتف المخضر يكون السدر وغيره ، قال قتادة ، وروي أن أيكة هؤلاء كانت من شجر الدوم ، وقيل من المقل ، وقيل من السدر ، وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة ويرتفقون بها في معايشهم فبعث الله إليهم شعيبا فكفروا فسلط الله عليهم الحر فدام عليهم سبعة أيام ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها فاضطرمت عليهم نارا ، وحكى الطبري قال : بعث شعيب إلى أمتين كفرتا فعذبتا بعذابين مختلفين : أهل مدين عذبوا بالصيحة ، و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ، ولم يختلف القراء في هذا الموضع في إدخال الألف واللام على «أيكة» ، وأكثرهم همز ألف أيكة بعد اللام ، وروي عن بعضهم أنه سهلها ونقل حركتها إلى اللام فقرأ «أصحاب الأيكة» دون همز ، واختلفوا في سورة الشعراء وفي سورة ص ، و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين ، وقال الفراء (إِنْ) بمعنى ما ، واللام في قوله (لَظالِمِينَ) بمعنى إلا. قال أبو علي : الأيك جمع أيكة كترة وتمر.

قال القاضي أبو محمد : ومن الشاهد على اللفظة قول أمية بن أبي الصلت :

كبكاء الحمام على غصون الأي

ك في الطير الجوانح

ومنه قول جرير : [الوافر]

وقفت بها فهاج الشوق مني

حمام الأيك يسعدها حمام

ومنه قول الآخر :

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة

إذا اخضرّ منها جانب جف جانب

ومنه قول الهذلي :

موشحة بالطرتين دنا لها

جنا أيكة تضفو عليها قصارها

وأنشد الأصمعي : [البسيط]


وما خليج من المروت ذو حدب

يرمي الصعيد بخشب الأيك والضال

والضمير في قوله (وَإِنَّهُما) يحتمل أن يعود على المدينتين اللتين تقدم ذكرهما : مدينة قوم لوط ، ومدينة أصحاب الأيكة ، ويحتمل أن يعود للنبيين : على لوط وشعيب ، أي أنهما على طريق من الله وشرع مبين. و «الإمام» في كلام العرب الشيء الذي يهتدى به ويؤتم ، يقولونه لخيط البناء ، وقد يكون الطريق ، وقد يكون الكتاب المفيد ، وقد يكون القياس الذي يعمل عليه الصناع ، وقد يكون الرجل المقتدى به ، ونحو هذا ، ومن رأى عود الضمير في (إِنَّهُما) على المدينتين قال «الإمام» الطريق ، وقيل على ذلك «الإمام» الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما ، و (أَصْحابُ الْحِجْرِ) هم ثمود ، وقد تقدم قصصهم ، و (الْحِجْرِ) مدينتهم ، وهي ما بين المدينة وتبوك ، وقال (الْمُرْسَلِينَ) من حيث يجب بتكذيب رسول واحد تكذيب الجميع ، إذ القول في المعتقدات واحد للرسل أجمع ، فهذه العبارة أشنع على المكذبين ، و «الآية» التي آتاهم الله هي الناقة وما اشتملت عليه من خرق العادة حسبما تقدم تفسيره وبسطه ، وقرأ أبو حيوة «وآتيناهم آيتنا» مفردة ، وقوله تعالى : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ) الآية ، يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالا أن بيوتهم كانوا ينحتونها في حجر الجبال ، و «النحت» النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «ينحتون» بكسر الحاء ، وقرأ الحسن «ينحتون» بفتحها ، وذلك لأجل حرف الحلق ، وهي قراءة أبي حيوة ، وقوله (آمِنِينَ) قيل معناه من انهدامها ، وقيل من حوادث الدنيا ، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمال.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة. فكانوا لا يعملون بحسبها ، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها ، ومعنى (مُصْبِحِينَ) أي عند دخولهم في الصباح ، وذكر أن ذلك كان يوم سبت ، وقد تقدم قصص عذابهم وميعادهم وتغير ألوانهم ، ولم تغن عنهم شدة نظرهم للدنيا وتكسبهم شيئا ، ولا دفع عذاب الله ، و (ما) الأولى تحتمل النفي وتحتمل التقرير ، والثانية مصدرية ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء ، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثا ولا سدى ، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم ، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) على جميع أمور الدنيا ، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد ، (فَاصْفَحِ) عن أعمالهم ، أي ولّها صفحة عنقك بالإعراض عنها ، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض.

وهذه الآية تقتضي مداهنة ، ونسخها في آية السيف قاله قتادة ، ثم تلاه في آخر الآية بأن الله تعالى يخلق من شاء لما شاء ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك لا هذه الأوثان التي يعبدونها ، وقرأ جمهور الناس «الخلاق» ، وقرأ الأعمش والجحدري «الخالق».

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ


وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٣)

قال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن جبير : «السبع» هنا هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والمص والأنفال مع براءة ، وقال ابن جبير : بل السابعة يونس وليست الأنفال وبراءة منها ، و (الْمَثانِي) على قول هؤلاء : القرآن كما قال تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [الزمر : ٢٣] ، وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثنى فيه وتردد ، وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس أيضا وابن مسعود والحسن وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وجماعة : «السبع» هنا هي آيات الحمد ، قال ابن عباس : هي سبع : ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقال غيره هي سبع دون البسملة ، وروي في هذا حديث أبي بن كعب ونصه : قال أبيّ : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أعلمك يا أبيّ سورة لم تنزل في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها» ، قلت : بلى ، قال : «إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها» ، فقام رسول الله وقمت معه ويدي في يده وجعلت أبطىء في المشي مخافة أن أخرج ، فلما دنوت من باب المسجد ، قلت : يا رسول الله ، السورة التي وعدتنيها؟ فقال : «كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة»؟ قال : فقرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١] حتى كملت فاتحة الكتاب ، فقال : «هي هي ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» ، كذا أو نحوه ذكره مالك في الموطأ ، وهو مروي في البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى أيضا ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنها السبع المثاني ، وأم القرآن ، وفاتحة الكتاب» وفي كتاب الزهراوي : وليس فيها بسملة ، و (الْمَثانِي) على قول هؤلاء يحتمل أن يكون القرآن ، ف (مِنَ) للتبعيض ، وقالت فرقة : بل أراد الحمد نفسها كما قال (الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ف (مِنَ) لبيان الجنس ، وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة ، وقيل سميت بذلك لأنها يثنى بها على الله تعالى ، جوزه الزجاج.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول من جهة التصريف نظر ، وقال ابن عباس : سميت بذلك لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها ، وقال نحوه ابن أبي مليكة ، وقرأت فرقة «والقرآن» بالخفض عطفا على (الْمَثانِي) وقرأت فرقة «والقرآن» بالنصب عطفا على قوله (سَبْعاً) ، وقال زياد بن أبي مريم : المراد بقوله (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) أي سبع معان من القرآن خولناك فيها شرف المنزلة في الدنيا والآخرة وهي : مر ، وانه ، وبشر ، وأنذر ، واضرب الأمثال ، واعدد النعم ، واقصص الغيوب ، وقال أبو العالية «السبع المثاني» هي آية فاتحة الكتاب ، ولقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء ، وقوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية ، حكى الطبري ، عن سفيان بن عيينة أنه قال هذه الآية أمر بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا ، وهي ناظرة إلى قوله عليه‌السلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أي يستغني به.


قال القاضي أبو محمد : فكأنه قال : ولقد آتيناك عظيما خطيرا فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا ، وصغر عظيما» وكأن «مد العين» يقترن به تمنّ ، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين» و «الأزواج» هنا الأنواع والأشباه ، وقوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم ، واصرف وجه تحفيك إلى من آمن بك (وَاخْفِضْ) لهم (جَناحَكَ) وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطئ أكنافك. «والجناح» الجانب والجنب ، ومنه (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢] فهو أمر بالميل إليهم ، والجنوح الميل ، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، أي تمسك بهذا القدر العظيم الذي وهبناك ، والكاف من قوله (كَما) متعلقة بفعل محذوف تقديره ، وقل إني أنا النذير المبين عذابا كالذي أنزلنا على المقتسمين ، فالكاف اسم في موضع نصب.

قال القاضي أبو محمد : هذا قول المفسرين ، وهو عندي غير صحيح لأن (كَما) ليس مما يقوله محمد عليه‌السلام بل هو من قول الله تعالى له فينفصل الكلام ، وإنما يترتب هذا القول بأن نقدر أن الله تعالى قال له تنذر عذابا كما ، والذي أقول في هذا المعنى : وقل أنا النذير كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ، ويحتمل أن يكون المعنى وقل أنا النذير كما قد أنزلنا قبل في الكتب أنك ستأتي نذيرا ، وهذا على أن (الْمُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب ، واختلف الناس في (الْمُقْتَسِمِينَ) من هم؟ فقال ابن زيد : هم قوم صالح الذين اقتسموا السيئات فالمقتسمون على هذا من القسم.

قال القاضي أبو محمد : ويقلق هذا التأويل مع قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : «المقتسمون» هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم ، وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقال نحوه مجاهد ، وقالت فرقة : «المقتسمون» هم من كفار قريش الذين اقتسموا الطرق وقت الموسم ليعرفوا الناس بحال محمد عليه‌السلام ، وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة فعضهوه بهذا وعضوه أعضاء بهذا التقسيم ، وقال عكرمة : «المقتسمون» هم قوم كانوا يستهزئون بسور القرآن فيقول الرجل منهم هذه السورة لي ، ويقول الآخر وهذه لي ، وقوله (عِضِينَ) مفعول ثان وجعل بمعنى صير ، أي بألسنتهم ودعواهم ، وأظهر ما فيه أنه جمع عضة ، وهي الفرقة من الشيء والجماعة من الناس كثبة وثبين وعزة وعزين ، وأصلها عضهة وثبوة فالياء والنون عوض من المحذوف ، كما قالوا سنة وسنون ، إذ أصلها سنهة ، وقال ابن عباس وغيره : (عِضِينَ) مأخوذ من الأعضاء أي عضوة فجعلوه أعضاء مقسما ، ومن ذلك قول الراجز :

وليس دين الله بالمعضى

وهذا هو اختيار أبي عبيدة ، وقال قتادة : (عِضِينَ) مأخوذ من العضة وهو السب المفحش ، فقريش عضهوا كتاب الله بقولهم : هو شعر ، هو سحر ، هو كهانة ، وهذا هو اختيار الكسائي ، وقالت فرقة : (عِضِينَ) جمع عضة وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش ، ومنه قول الراجز :

للماء من عضتهن زمزمة.

وقال هذا قول عكرمة مولى ابن عباس ، وقال العضة السحر ، وهم يقولون للساحرة العاضهة ، وفي الحديث «لعن الله العاضهة والمستعضهة» ، وهذا هو اختيار الفراء.


قال القاضي أبو محمد : ومن قال جعلوه أعضاء فإنما أراد قسموه كما تقسم الجزور أعضاء ، وقوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) إلى آخر الآية ، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه ، فالكافر يسأل عن لا إله إلا الله وعن الرسل وعن كفره وقصده به ، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه ، والإمام عن رعيته ، وكل مكلف عما كلف القيام به ، وفي هذا المعنى أحاديث ، وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين ، وقال في تفسيرها أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد : إن السؤال عن لا إله إلا الله ، وذكره الزهراوي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس في قوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ، قال يقال لهم : لم عملتم كذا وكذا؟ قال وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] معناه يقال له ما أذنبت لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه.

قوله عزوجل :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

(فَاصْدَعْ) معناه فانفد وصرح بما بعثت به ، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه ، فكأن المصرح بقول يرجع إليه ، يصدع به ما سواه مما يضاده ، والصديع الصبح لأنه يصدع الليل ، وقال مجاهد : نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة ، وفي (تُؤْمَرُ) ضمير عائد على «ما» ، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع ، وقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف ، قاله ابن عباس ، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه (الْمُسْتَهْزِئِينَ) من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة ، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير : «المستهزءون» خمسة نفر : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب أبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة ، وهو ابن غيطلة ، وهو ابن قيس ، قال أبو بكر الهذلي : قلت للزهري : إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين ، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة ، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس ، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في (الْمُسْتَهْزِئِينَ) هبار بن الأسود ، وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة ، وذكر الطبري عن ابن عباس : أن (الْمُسْتَهْزِئِينَ) كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في المسجد ، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه ، وقال للنبي عليه‌السلام : كفيت ثم جاز العاصي ، فأومأ إلى أخمصه ، وقال : كفيت ، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه ، ثم مر الأسود بن عبد يغوث ، فأومأ إلى أخمصه ، وقال : كفيت ، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه ، ثم مر الأسود بن عبد يغوث ، فأومأ إلى رأسه ، وقال كفيت ، ثم مر الحارث ، فأومأ إلى بطنه ، وقال : كفيت ، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة


فتعلق سهم من نبله بإزاره ، فخدش ساقه ، ثم برىء فانتقض به ذلك الخدش بعد إشارة جبريل ، فقتله ، وقيل إن السهم قطع أكحله ، قاله قتادة ومقسم ، وركب العاصي بغلة في حاجة فلما جاء ينزل وضع أخمصه على شبرقه فورمت قدمه فمات ، وعمي أبو زمعة ، وكان يقول : دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي ، وتمخض رأس الأسود بن عبد يغوث قيحا فمات ، وامتلأ بطن الحارث ماء فمات حبنا.

قال القاضي أبو محمد : وفي ذكر هؤلاء وكفايتهم اختلاف بين الرواة في صفة أحوالهم ، وما جرى لهم ، جليت أصحه مختصرا طلب الإيجاز ، ثم قرر تعالى ذنبهم في الكفر واتخاذ الأصنام آلهة مع الله تعالى ، ثم توعدهم بعذاب الآخرة الذي هو أشق ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) آية تأنيس للنبي عليه‌السلام ، وتسلية عن أقوال المشركين وإن كانت مما يقلق ، وضيق الصدر يكون من امتلائه غيظا بما يكره الإنسان ، ثم أمره تعالى بملازمة الطاعة وأن تكون مسلاته عند الهموم ، وقوله (مِنَ السَّاجِدِينَ) يريد من المصلين ، فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود ، وهي أكرم حالات الصلاة وأقمنها بنيل الرحمة ، وفي الحديث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» فهذا منه عليه‌السلام أخذ بهذه الآية ، و (الْيَقِينُ) : الموت ، بذلك فسره هنا ابن عمر ومجاهد والحسن وابن زيد ، ومنه قول النبي عليه‌السلام عند موت عثمان بن مظعون : «أما هو فقد رأى اليقين» ، ويروى «فقد جاءه اليقين». وليس (الْيَقِينُ) من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل ، فسماه هنا يقينا تجوزا ، أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك ، ويحتمل أن يكون المعنى (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) في النصر الذي وعدته.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّحل

هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده ، وهي مكية غير قوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) [النحل : ١٢٦] نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد ، وغير قوله تعالى (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧] ، وغير قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) [النحل : ١١٠] ، وأما قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) [النحل : ٤١] فمكي في شأن هجرة الحبشة.

قوله عزوجل :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤)

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي : (أَتى أَمْرُ اللهِ) وثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما ، فلما قال (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) سكن. وقوله (أَمْرُ اللهِ) قال فيه جمهور المفسرين : إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار ، وقيل : المراد نصر محمد عليه‌السلام ، وقيل : المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وظهوره عليهم ، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس ، وقيل : المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم ، هذا هو قول الضحاك ، ويضعفه قوله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) إنا لا نعرف استعجالا الا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب ، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام ، وقوله (أَتى) على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي ، وصح ذلك من جهة التأكيد ، وإذا كان الخبر حقا فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي ، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع ، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه ، وقال قوم : (أَتى) بمعنى قرب ، وهذا نحو ما قلت ، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينة التأكيد ويفهم المجاز ، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل ، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب ، وإنما جاز في الشرط لوضوح القرينة «بأن» ، ومن قال : إن الأمر القيامة ، قال : إن قوله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد ، ومن قال : إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتله لهم ، قال إن قوله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) رد على القائلين (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا)


[ص : ١٦] ونحوه من العذاب ، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء ، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه» بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم : «فلا تستعجلوه» ، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون» بالياء ، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين ، قال أبو حاتم : قرأ «يشركون» بالياء ، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء ، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء من تحت ، وقرأهما جميعا بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري ، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى. وقوله (سُبْحانَهُ) معناه تنزيها له ، وحكى الطبري عن ابن جريج ، قال : لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قال رجال من الكفار ، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر ، فلما لم يروا شيئا عادوا فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] فقالوا مثل ذلك : فنزلت (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] ، وقال أبو بكر بن حفص : لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) رفعوا رؤوسهم ، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ : «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه». و (سُبْحانَهُ) نصب على المصدر أي تنزيها له ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل» بالياء وشد الزاي ، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي ، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون ، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير ، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تنزّل الملائكة» بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة» على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي ، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي ، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكة» على أنها فاعلة ، ورواها المفضل عن عاصم ، و (الْمَلائِكَةَ) هنا جبريل ، واختلف المتأولون في «الروح» فقال مجاهد ، «الروح» النبوة ، وقال ابن عباس : الوحي ، وقال قتادة : بالرحمة والوحي ، وقال الربيع بن أنس : كل كلام الله روح ، ومنه قوله تعالى (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقال ابن جريج : الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه ، وهو كثير ، وهم ملائكة ، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند ، وقال الزجاج : «الروح» ما تحيى به القلوب من هداية الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد ، ألا ترى قوله (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) [الأنعام : ١٢٢].

قال القاضي أبو محمد : و (مِنْ) في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض ، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس ، و (مِنْ) في قوله (مَنْ يَشاءُ) هي للأنبياء ، و (أَنْ) في موضع خفض بدل من «الروح» ، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي ، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه» ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من


حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد ، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى ، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله» ، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه ، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها ، أو تحكى بالمعنى فقط ، وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، آية تنبيه على قدرة الله تعالى بالحق أي بالواجب اللائق ، وذلك أنها تدل على صفات يحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ويعيد ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة بخلاف شركائهم الذين لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية ، وقرأ الأعمش بزيادة فاء «فتعالى». وقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) يريد ب (الْإِنْسانَ) الجنس ، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة الله ، ويروى أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف من يحيي العظام وهي رميم؟ وقوله (خَصِيمٌ) يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في الله ويجادلون في توحيده وشرعه ، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري ، ويحتمل أن يريد أعم من هذا على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر ، ويظهر أنها إذا تقدر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما.

قوله عزوجل :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ(٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩)

(الْأَنْعامَ) الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ، ولا يقال للغنم مفردة ، ونصبها إما عطف على (الْإِنْسانَ) [النحل : ٤] وإما بفعل مقدر وهو أوجه ، و «الدفء» السخانة وذهاب البرد بالأكسية ونحوها ، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال : الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل.

قال القاضي أبو محمد : وقد قال ابن عباس : نسل كل شيء ، وقد قال ابن سيده : «الدفء» نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها ، والمعنى الأول هو الصحيح ، وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفء» بضم الفاء وشدها وتنوينها ، و «المنافع» ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك ، ثم ذكر «الأكل» الذي هو من جميعها ، وقوله (جَمالٌ) أي في المنظر. و (تُرِيحُونَ) معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطانا ممتلئة الضروع ، و (تَسْرَحُونَ) معناه تخرجونها غدوة إلى السرح ، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي ، كرجع رجعته ، وهذا «الجمال» هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته وهذا المعنى كقوله تعالى (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] وقرأ عكرمة والضحاك «حينما تريحون حينا تسرحون» ، وقرأت فرقة «وحينا ترتحون».


قال القاضي أبو محمد : وأظنها تصحيفا. و «الأثقال» الأمتعة ، وقيل المراد هنا الأجسام كقوله (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] أي أجسام بني آدم.

قال القاضي أبو محمد : واللفظ يحتمل المعنيين ، قال النقاش : ومنه سمي الإنس والجن الثقلين ، وقوله (إِلى بَلَدٍ) أي بلد توجهتم بحسب اختلاف أغراض الناس ، وقال عكرمة وابن عباس والربيع بن أنس : المراد مكة ، وفي الآية على هذا حض على الحج. و «الشق» المشقة ، ومنه قول الشاعر [النمر بن تولب] : [الطويل]

وذي إبل يسعى ويحسبها له

أخي نصب من شقها ودؤوب

أي من مشقتها ، ويقال فيها شق وشق أي مشقة ، وقرأ أبو جعفر القاري وعمرو بن ميمون وابن أرقم ومجاهد والأعرج «بشق الأنفس» بفتح الشين ، ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وذهب الفراء إلى أن معنى (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي بذهاب نصفها ، كأنه قد دأبت نصبا وتعبا.

قال القاضي أبو محمد : كما تقول لرجل لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك وبقطعة من كبدك ونحو هذا من المجاز ، وذهبوا في فتح الشين إلى أنه مصدر شق يشق ، ثم أوجب رأفة الله ورحمته في هذه النعم التي أذهبت المشقات ورفعت الكلف ، وقوله (وَالْخَيْلَ) عطف أي وخلق الخيل ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «والخيل والبغال والحمير» بالرفع في كلها ، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية ، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء ، وقوله (وَزِينَةً) نصب بإضمار فعل ، قيل تقديره وجعلنا زينة ، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة» دون واو ، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها وقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) عبرة منصوبة على العموم ، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة ، وبثها بأعيانها في البحر ، وزاد فيه مائتين ليست في البر.

وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئا ، كقول من قال سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال ، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه. قال الطبري : (ما لا تَعْلَمُونَ) هو ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ، واحتج بهذه الآية مالك رحمه‌الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك ، وذكر الطبري عن ابن عباس ، قال ابن جبير : سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فكرهها فاحتج بهذه الآية ، وقال : جعل الله الأنعام للأكل ، وهذه للركوب ، وكان الحكم بن عتبة يقول : الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء ، قالوا إنما ذكر الله عزوجل عظم منافع الأنعام ، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها ، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها ، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل ، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال ، وفي جواز أكلها


حديث أسماء بنت أبي بكر ، وحديث جابر بن عبد الله : كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور ، وهو تحقيق مذهب مالك ، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس ، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر ، وأنها ذوات حوافر ، وأنها لا أكراش لها ، وأنها متداخلة في النسل ، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر ، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة ، وقوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) الآية ، هذا أيضا من أجل نعم الله تعالى ، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه ، وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون ، ويحتمل أن يكون المعنى أن مرسلك السبيل القاصد فعلى الله ورحمته وتنعيمه طريقه وإلى ذلك مصيره ، فيكون هذا مثل قوله تعالى (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١] وضد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والشر ليس إليك» أي لا يفضي إلى رحمتك ، وطريق قاصد معناه بين مستقيم ، ومنه قول الآخر :

فصد عن نهج الطريق القاصد

والألف واللام في (السَّبِيلِ) للعهد ، وهي سبيل الشرع ، وليست للجنس ، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر ، وقوله (وَمِنْها جائِرٌ) يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام ، والضمير في (مِنْها) يعود على (السَّبِيلِ) التي تضمنها معنى الآية ، كأنه قال : ومن السبيل جائر ، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة (السَّبِيلِ) بالمعنى لها ، ويحتمل أن يعود الضمير في (مِنْها) على سبيل الشرع المذكورة وتكون «من» للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قال ومن بنيات الطرف في هذه السبيل ومن شعبها جائر ، وقوله (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) معناه لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد ، وقال الزجاج معناه لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج ، ووقع فيه رحمه‌الله عن غير قصد ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «ومنكم جائر» ، وقرأ علي بن أبي طالب «فعنكم جائر» ، و (السَّبِيلِ) تذكر وتؤنث.

قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٢)

هذا تعديد نعمة الله في المطر ، وقوله (وَمِنْهُ شَجَرٌ) أي يكون منه بالتدريج ، إذ يسقي الأرض فينبت


عن ذلك السقي الشجر ، وهذا من التجوز ، كقول الشاعر : [الرجز]

أسنمة الآبال في ربابه

وكما سمى الآخر العشب سماء ، في قوله : [الوافر]

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

قال أبو إسحاق : يقال لكل ما نبت على الأرض شجر ، وقال عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ. و (تُسِيمُونَ) معناه ترعون أنعامكم وسومها من الرعي وتسرحونها ، ويقال للأنعام السائمة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وفي سائمة الغنم الزكاة ، يقال أسام الرجل ماشيته إسامة إذا أرسلها ترعى ، وسومها أيضا وسامت هي ، ومن ذلك قول الأعشى :

ومشى القوم بالأنعام إلى الرّو

حى وأعيى المسيم أين المساق

ومنه قول الآخر : [الكامل]

مثل ابن بزعة أو كآخر مثله

أولى لك ابن مسيمة الأجمال

أي راعية للأجمال وفسر المتأولون بترعون ، وقرأ الجمهور «ينبت» بالياء على معنى ينبت الله ، يقال نبت الشجر وأنبته الله ، وروي أنبت الشجر بمعنى نبت ، وكان الأصمعي يأبى ذلك ويتمم قصيدة زهير التي فيها : حتى إذا أنبت البقل ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، «ننبت» بنون العظمة ، وخص عزوجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع ، ثم عم بقوله (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، ثم أحال القول على الفكرة في تصاريف النبات والأشجار وهي موضع عبر في ألوانها واطراد خلقها وتناسب ألطافها ، فسبحان الخلاق العليم. وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الآية ، قرأ الجمهور بإعمال (سَخَّرَ) في جميع ما ذكر ونصب «مسخرات» على الحال المؤكدة ، كما قال تعالى : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [فاطر : ٣١] وكما قال الشاعر : [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

ونحو هذا وقرأ ابن عامر «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» برفع هذا كله ، وقرأ حفص عن عاصم «والنجوم مسخرات بأمره» بالرفع ونصب ما قبل ذلك ، والمعنى في هذه الآية أن هذه المخلوقات مسخرات على رتبة قد استمر بها انتفاع البشر من السكون بالليل والسعي في المعايش وغير ذلك بالنهار ، وأما منافع الشمس والقمر فأكثر من أن تحصى ، وأما النجوم فهدايات ، وبهذا الوجه عدت من جملة النعم على بني آدم ، ومن النعمة بها ضياؤها أحيانا ، قال الزجاج : وعلم عدد السنين والحساب بها.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة بن مصرف «والرياح مسخرات» في موضع «النجوم» ، ثم قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لعظم الأمر لأن كل واحد مما ذكر آية في نفسه لا يشترك مع الآخر ، وقال في الآية قبل الآية لأن شيئا واحدا يعم تلك الأربعة وهو النبات ، وكذلك


في ذكر (ما ذَرَأَ) [النحل : ١٣] ليسارته بالإضافة ، وأيضا ف «آية» بمعنى «آيات» واحد يراد به الجمع.

قوله عزوجل :

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٥)

(ذَرَأَ) معناه بث ونشر ، والذرية من هذا في أحد الأقوال في اشتقاقها ، وقوله (أَلْوانُهُ) معناه أصنافه ، كما تقول هذه ألوان من التمر ومن الطعام ، ومن حيث كانت هذه المبثوثات في الأرض أصنافا فأعدت في النعمة وظهر الانتفاع بها أنه على وجوه ، ولا يظهر ذلك من حيث هي متلونة حمرة وصفرة وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان حمرة وصفرة والأول أبين. وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) الآية تعديد نعم ، وتسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله للركوب والإرفاق وغيره ، و (الْبَحْرَ) الماء الكثير ملحا كان أو عذبا ، كله يسمى بحرا ، و (الْبَحْرَ) هنا اسم جنس ، وإذا كان كذلك فمنه أكل اللحم الطري ومنه «استخراج الحلية» ، و «أكل اللحم» يكون من ملحه وعذبه ، وإخراج الحلية إنما يكون فيما عرف من الملح فقط ، ومما عرف من ذلك اللؤلؤ والمرجان والصدف والصوف البحري ، وقد يوجد في العذب لؤلؤ لا يلبس إلا قليلا ، وإنما يتداوى به ، ويقال إن في الزمرد بحريا وقد خطىء الهذلي في وصف الدرة. [الطويل]

فجاء بها من درة لطمية

على وجهها ماء الفرات يدوم

فجعلها من الماء الحلو.

قال القاضي أبو محمد : وتأمل أن قوله يخرج على أنه وصف بريقها ومائيتها فشبهه بماء الفرات ، ولم يذهب إلى الغرض الذي خطىء فيه ، و «اللحم الطري» ، و «الحلية» ما تقدم ، و (الْفُلْكَ) هنا جمع ، و (مَواخِرَ) جمع ماخرة ، والمخر في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصعب في الجملة الماء فيترتب منه أن يكون من السفينة ونحوها وهو في هذه الآية من السفن ، ويقال للسحاب بنات مخر تشبيها ، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح والماء الذي في السحاب ، وأمرها يشبه أمر البحر على أن الزجاج قد قال : بنات المخر سحاب بيض لا ماء فيها ، وقال بعض اللغويين المخر في كلام العرب الشق يقال : مخر الماء الأرض.

قال القاضي أبو محمد : فهذا بين أن يقال فيه للفلك (مَواخِرَ) ، وقال قوم (مَواخِرَ) معناه تجيء وتذهب بريح واحدة ، وهذه الأقوال ليست تفسير اللفظة ، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال ، إذ هي موضع النعمة المعددة ، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيه ، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في


التجارات والسفر فيها وما يمنح الله فيها من الأرباح والمن ، وقال الطبري : المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد ذلك بكون في ماء ، وقال إن من ذلك قول واصل مولى ابن عيينة إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب ، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله ، وقوله (وَلِتَبْتَغُوا) عطف على تأكلوا ، وهذا ذكر نعمة لها تفاصيل لا تحصى ، فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح ، وهذه ثلاثة أسباب في تسخير البحر ، وقوله (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ) الآية ، قال المتأولون (أَلْقى) بمعنى خلق وجعل.

قال القاضي أبو محمد : وهي عندي أخص من خلق وجعل ، وذلك أن (أَلْقى) تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه ، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد ، أن الله تعالى لما خلق الأرض ، وجعلت تمور ، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها. و «الرواسي» الثوابت ، رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد :

وأشعث أرسته الوليدة بالفهد

و (أَنْ) مفعول من أجله ، و «الميد» الاضطراب ، وقوله (أَنْهاراً) منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهارا.

قال القاضي أبو محمد : وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ل (أَلْقى) ولو كانت (أَلْقى) بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار ، و «السبل» الطرق ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في مشيكم وتصرفكم في السبل ، ويحتمل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها ، وهذا التأويل هو البارع ، أي سخر وألقى وجعل أنهارا وسبلا لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات.

قوله عزوجل :

(وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٢١)

(عَلاماتٍ) نصب على المصدر ، أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها (وَعَلاماتٍ) أي عبرة وإعلاما في كل سلوك ، فقد يهتدى بالجبال والأنهار والسبل ، واختلف الناس في معنى قوله (وَعَلاماتٍ) على أن الأظهر عندي ما ذكرت ، فقال ابن الكلبي «العلامات» الجبال ، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد : «العلامات» النجوم ، ومنها ما سمي علامات ومنها ما يهتدى به ، وقال ابن عباس: «العلامات» معالم الطرق بالنهار ، والنجوم هداية الليل.


قال القاضي أبو محمد : والصواب إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله أن اللفظة تعم هذا وغيره ، وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة ، وأحسن الأقوال المذكورة ، قول ابن عباس رضي الله عنه : لأنه عموم في المعنى فتأمله ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول :

إن في بحر الهند الذي يجرى فيه من اليمن إلى الهند حيتانا طوالا رقاقا كالحيات في التوائها وحركتها وألوانها ، وإنها تسمى علامات ، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلد الهند ، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته ، وإن بعض الناس قال : إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : قال أبي رضي الله عنه : وأما من شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها فحدثني منهم عدد كثير ، وقرأ الجمهور «وبالنجم» على أنه اسم الجنس ، وقرأ يحيى بن وثاب «وبالنّجم» بضم النون والجيم ساكنة على التخفيف من ضمها ، وقرأ الحسن «وبالنّجم» بضم النون وذلك جمع ، كسقف وسقف ، ورهن ورهن ، ويحتمل أن يراد وبالنجوم ، فحذفت الواو.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي توجيه ضعيف ، وقال الفراء : المراد الجدي والفرقدان. وقال غيره : المراد القطب الذي لا يجري ، وقال قوم : غير هذا ، وقال قوم : هو اسم الجنس وهذا هو الصواب ، ثم قررهم على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك ، وعبر عن الأصنام ب «من» لوجهين ، أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله ، وقد عبرت طوائف من تقع عليه العبارة ب «من» ، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها في أن لها تأثيرا وأفعالا ، ثم وبخهم بقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، وقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي إن حاولتم إحصاءها وحصرها عددا حتى لا يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك ، ولا اتفق لكم إحصاؤها إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم. و «النعمة» هنا مفردة يراد بها الجمع ، وبحسب العجز عن عد نعم الله يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها ، فلذلك قال عزوجل (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي تقصيركم في الشكر عن جميعها ، نحا هذا المنحى الطبري ، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد : الحمد لله رب العالمين مع شروطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم ، ولكن أين قولها بشروطها؟ والمخاطبة بقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) عامة لجميع الناس ، وقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) الآية متصلة بمعنى ما قبله ، أي أن الله لغفور في تقصيركم عن شكر ما لا تحصونه من نعم الله ، وأن الله تعالى يعلم سركم وعلنكم ، فيغني ذلك عن إلزامكم شكر كل نعمة ، هذا على قراءة من قرأ «تسرون» بالتاء مخاطبة للمؤمنين ، فإن جمهور القراء قرأ «تسرون» بالتاء من فوق «وتعلنون» و «تدعون» كذلك ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد على معنى قل يا محمد للكفار ، وقرأ عاصم «تسرون» و «تعلنون» بالتاء من فوق و «يدعون» بياء من تحت على غيبة الكفار ، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن ، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم ، كل ذلك بالياء على غيبة الكفار ، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم كل ذلك بالتاء من فوق ، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله «يعلم الذي تبدون وما تكتمون وتدعون» بالتاء من فوق في الثلاثة ، و «تدعون معناه تدعونه إلها ، وعبر عن الأصنام ب (الَّذِينَ) على ما قدمنا من أن ذلك يعم الأصنام وما عبد من دون الله وغيرها ، وقوله تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أجمع عبارة في نفي أحوال


الربوبية عنهم ، وقرأ محمد اليماني «والذين يدعون» بضم الياء وفتح على ما لم يسم. و (أَمْواتٌ) يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم أموات ، ويجوز أن يكون خبرا لقوله (وَالَّذِينَ) بعد خبر في قوله (لا يَخْلُقُونَ) ووصفهم بالموت مجازا. وإنما المراد لا حياة لهم ، فشبهوا بالموت ، وقوله (غَيْرُ أَحْياءٍ) أي لم يقبلوا حياة قط ، ولا اتصفوا بها.

قال القاضي أبو محمد : وعلى قراءة من قرأ «والذين يدعون» فالياء على غيبة الكفار ، يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في «يدعون» ، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين ، ويستقيم على هذا فيهم قوله (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) و «البعث» هنا هو الحشر من القبور ، و (أَيَّانَ) ظرف زمان مبني ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان» بكسر الهمزة ، والفتح فيها والكسر لغتان ، وقالت فرقة : (وَما يَشْعُرُونَ) أي الكفار (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) الضميران لهم ، وقالت فرقة : وما يشعر الأصنام أيان يبعث الكفار.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام ، ويكون البعث الإثارة ، كما تقول بعثت النائم من نومه إذا نبهته ، وكما تقول بعث الرامي سهمه ، فكأنه وصفهم بغاية الجمود أي وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك.

قال القاضي أبو محمد : وعلى تأويل من يرى الضمير للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد ، وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب ، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم «لا يشعرون وأيان يبعثون» طائل ، لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث ، وذكر بعض الناس أن قوله (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ظرف لقوله (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [النحل : ٢٢] وأن الكلام تم في قوله (وَما يَشْعُرُونَ) ، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد وهذا توعد.

قوله عزوجل :

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢٥)

لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية ، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها ، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين وأنهم يعتقدون ألوهية أشياء أخر ، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها ، واطراح طريقة آبائهم في عبادتها ، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة إذ هي أقوى رتب الكفر ، أعني الجمع بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث ، لأن كل مصدق يبعث فمحال أن يكذب بالله ، وقوله (لا جَرَمَ) عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد


ولا محالة ، وقالت فرقة : معناها حق أن الله ، ومذهب سيبويه أن (لا) ، نفي لما تقدم من الكلام ، و (جَرَمَ) معناه حق ووجب ، ونحو هذا ، هذا هو مذهب الزجاج ، ولكن مع مذهبهما (لا) ملازمة ل (جَرَمَ) لا تنفك هذه من هذه ، وفي (جَرَمَ) لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود ، وأنشد أبو عبيدة : / جرمت فزارة / وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا ، و (أَنَ) على مذهب سيبويه فاعلة ب (جَرَمَ) ، وقرأ الجمهور «أن» ، وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الألف على القطع ، قال يحيى بن سلام والنقاش : المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) عام في الكافرين والمؤمنين ، فأخذ كل واحد منهم بقسطه ، وفي الحديث «لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر» ، وفيه «أن الكبر منع الحق وغمص الناس». ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم ، ثم يقول (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) ، وروي في الحديث «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برىء من الكبر». وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) الآية ، الضمير في (لَهُمْ) لكفار مكة ، ويقال إن سبب الآية كان النضر بن الحارث ، سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها ، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة ، وأخبار السندباد ، ورستم ، فجاء إلى مكة ، فكان يقول : إنما يحدث محمد بأساطير الأولين ، وحديثي أجمل من حديثه ، وقوله (ما ذا) يجوز أن تكون «ما» استفهاما ، و «ذا» بمعنى الذي ، وفي (أَنْزَلَ) ضمير عائد ، ويجوز أن يكون «ما» و «ذا» اسما واحدا مركبا ، كأنه قال : أي شيء وقوله (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ليس بجواب على السؤال لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء ولا أن تم منزلا ، ولكنهم ابتدوا الخبر بأن هذه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، وإنما الجواب على السؤال ، قول المؤمنين في الآية المستقبلة (خَيْراً) [النحل : ٣٠] وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إنما هو جواب بالمعنى ، فأما على السؤال وبحسبه فلا ، واللام في قوله (لِيَحْمِلُوا) يحتمل أن تكون لام العاقبة لأنهم لم يقصدوا بقولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) «ليحملوا الأوزار» ، ويحتمل أن يكون صريح لام كي ، على معنى قدر هذا ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ، على معنى الحتم عليهم بذلك ، والصغار الموجب لهم ، و «الأوزار» الأثقال ، وقوله (وَمِنْ) للتبعيض ، وذلك أن هذا الواهن المضل يحمل وزر نفسه كاملا ويحمل وزرا من وزر كل مضل بسببه ولا تنقص أوزار أولئك ، وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجوز أن يريد بها المضل أي أضل بغير برهان قام عنده ، ويجوز أن يريد (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من المقلدين الذين يضلون ، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة ، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثا ، نصه «أيما داع دعا إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» و (ساءَ) فعل مسند إلى (ما) ، ويحتاج في ذلك هنا إلى صلة.

قوله عزوجل :

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ


شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢٧)

قال ابن عباس وغيره من المفسرين : الإشارة ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى نمرود الذي بنى صرحا ليصعد فيه إلى السماء على زعمه ، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش ، بعث الله عليه رمحا فهدمته ، «وخر سقفه» عليه وعلى أتباعه ، وقيل : جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسلفه ، وقالت فرقة أخرى : المراد ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى ، وقوله على هذا (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) إلى آخر الآية ، تمثيل وتشبيه ، أي حالهم بحال من فعل به هذا ، وقالت فرقة : المراد بقوله (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي جاءهم العذاب من قبل السماء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ينحو إلى اللعن ، ومعنى قوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) رفع الاحتمال في قوله (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه متاعه ، وقوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) ألزم أنهم كانوا تحته. وقوله (فَأَتَى) أي أتى أمر الله وسلطانه ، وقرأ الجمهور «بنيانهم» ، وقرأت فرقة «بنيتهم» ، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم» ، وقرأ الضحاك «بيوتهم» ، وقرأ الجمهور «السقف» بسكون القاف ، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه ، وقرأ الأعرج «السّقف» بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد «السّقف» بضم السين وسكون القاف ، وقوله (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا ، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله (يُخْزِيهِمْ) لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم ، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار ، وهذا نظير قوله (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢]. وقوله (أَيْنَ شُرَكائِيَ) توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم ، قال أبو علي : وهذا كما قال الله تعالى حكاية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وكما قال (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [الزخرف : ٤٩].

قال القاضي أبو محمد : والإضافات تترتب معقولة وملفوظا بأرق سبب ، وهذا كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر :

إذا قلت قدني قال تالله حلفة

لتغني عني ذا إنائك أجمعا

فأضاف الإناء إلى حابسه ، وقرأ البزي عن ابن كثير «شركاي» بقصر الشركاء ، وقرأت فرقة «شركاءي» بالمد وياء ساكنة ، و (تُشَاقُّونَ) معناه تحاربون وتحارجون ، أي تكون في شق والحق في شق ، وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون ، وقرأ نافع وحده بكسر النون ، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم ، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في (تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] ، وقرأت فرقة «تشاقونّي» بشد النون وياء بعدها ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين ، وقال يحيى بن سلام : هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة.


قال القاضي أبو محمد : والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي ، وغير ذلك ، وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ)(٣٠)

(الَّذِينَ) نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين ، ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله ، وخبره في قوله (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) فزيدت الفاء في الخبر ، وقد يجيء مثل هذا ، و (الْمَلائِكَةُ) يريد القابضين لأرواحهم ، وقوله (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال ، و (السَّلَمَ) هنا الاستسلام ، أي رموا بأيديهم وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه ، قال الحسن : هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) [الأنعام : ١٣] ومرة يجحدون كهذه الآية ، ويحتمل قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وجهين ، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاما منهم به ، على نحو قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءا ، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم ، وهو كذب في نفسه. و (عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعيد وتهديد ، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار ، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل ، وقال عكرمة : نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر ، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء ، وعلى هذا القول يحسن قطع (الَّذِينَ) ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن (بَلى) تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب ، وقد تجيء بعد التقرير ، كقوله أليس كذا ونحوه ، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير ، وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء فوق ، وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء وهي قراءة الأعمش ، قال أبو زيد : أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم «ما» ، وقوله (فَادْخُلُوا) من كلام الذي يقول (بَلى) ، و (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض ، و «الأبواب» كذلك باب على باب ، و (خالِدِينَ) حال ، واللام في قوله (فَلَبِئْسَ) لام التأكيد.

قال القاضي أبو محمد : وذكر سيبويه ، رحمه‌الله ، وهو إجماع النحويين قال : ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على «بئس» لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان ، و «المثوى» موضع الإقامة ، ونعم


وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك ، والمذموم هنا محذوف ، تقديره بئس المثوى (مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، و «المتكبر» هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر ، وقوله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية ، لما وصف تعالى مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين ، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوجب لكل فريق ما يستحق لتتباين المنازل بين الكفر والإيمان ، و (ما ذا) تحتمل ما ذكر في التي قبلها ، وقولهم (خَيْراً) جواب بحسب السؤال ، واختلف المتأولون في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلى آخر الآية ، فقالت فرقة : هو ابتداء كلام من الله مقطوع مما قبله ، لكنه بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم ، وقالت فرقة : هو من كلام الذين (قالُوا خَيْراً) وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبرا أن من أحسن في الدنيا بطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة ، وروى أنس بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة». وقد تقدم القول في إضافة «الدار» إلى الآخرة وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ(٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) يحتمل أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر بتقدير هي جنات عدن ، ويحتمل أن يرتفع بقوله (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل : ٣٠](جَنَّاتُ عَدْنٍ) ويحتمل أن يكون التقدير ، لهم جنات عدن ، ويحتمل أن يكون (جَنَّاتُ) مبتدأ وخبره (يَدْخُلُونَها) ، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «جنات» بالنصب ، وهذا نحو قولهم زيد ضربته ، وقرأ جمهور الناس «يدخلونها» ، وقرأ إسماعيل عن نافع «يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء ، ولا يصح هذا عن نافع ، ورويت عن أبي جعفر وشيبة بن نصاح ، وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في موضع الحال وباقي الآية بين. وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء ، وقرأ الأعمش «يتوفاهم» بالياء من تحت ، وفي مصحف ابن مسعود «توفاهم» بتاء واحدة في الموضعين ، و (طَيِّبِينَ) عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت ، وهذا بخلاف ما قال في الكفرة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النحل : ٢٨] ، والطيب الذي لا خبث معه ، ومنه قوله تعالى (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وقول الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، بشارة من الله تعالى ، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها وقوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما كان في أعمالكم من تكسبكم ، وهذا على التجوز ، علق دخولهم الجنة بأعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة ، ويعترض في هذا المعنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة أحد بعمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» وهذه الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث.


قال القاضي أبو محمد : ومن الرحمة والتغمد ، أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة ، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل ، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.

قوله عزوجل :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٣٥)

(يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون ، ونظر متى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب ب «إلى» ، ومتى لم تتعد ب «إلى» فهو بمعنى انتظر ، كما قال امرؤ القيس :

فإنكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

ومنه قوله تعالى حكاية (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ) نور [الحديد : ١٣] وقد جاء شاذا نظرت بمعنى الرؤية متعديا بغير إلى كقول الشاعر :

باهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما تنظر الأراك الظباء

وقرأ الجمهور «تأتيهم» بالتاء من فوق ، وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء ، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ، ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم ، وقوله (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا ، ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل أسلافهم من الأمم ، أي فعوقبوا ولم يكن ذلك ظلما لأنه لم يوضع ذلك العقاب في غير موضعه ، ولكن ظلموا أنفسهم بأن وضعوا كفرهم في جهة الله وميلهم إلى الأصنام والأوثان ، فهذا وضع الشيء في غير موضعه ، أي آذوها بنفس فعلهم ، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها ، وقوله (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة. (وَحاقَ) معناه نزل وأحاط ، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر من الكلام ، تقديره جزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الآية ، جدل من الكفار ، وذلك أن أكثر الكفار يعتقدون وجود الله تعالى وأنه خالقهم ورازقهم ، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم قالوا يا محمد : نحن من الله بمرىء في عبادة الأوثان لتنفع وتقرب زلفى ، ولو كره الله فعلنا لغيره منذ مدة ، إما بإهلاكنا وإما بهدايتنا ، وكان من الكفار فريق لا يعتقد وجود الله تعالى ، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم أخذوا الحجة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله ، أي إن الرب الذي تثبته يا محمد وهو على ما تصفه يعلم ويقدر لا شك أنه يعلم حالنا ، ولو كرهها لغيرها ، والرد على هذين الفريقين هو في أن الله تعالى ينهى عن الكفر وقد أراده بقوم ، وإنما نصب الأدلة وبعث الرسل ويسر كلّا لما حتم عليه ، وهذا الجدال من أي الصنفين فرضته ليس فيه استهزاء ، لكن أبا إسحاق الزجاج : قال إن هذا الكلام على


جهة الهزء ، فذهب أبو إسحاق رحمه‌الله والله أعلم إلى أن الطائفة التي لا تقول بإله ثم أقامت الحجة من مذهب خصمها كأنها مستهزئة في ذلك ، وهذا جدل محض ، والرد عليه كما ذكرناه وقوله (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يشير إلى ما ذكرناه ، وقولهم (وَلا حَرَّمْنا) يريدون البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما شرعوه ، وأخبر الله تعالى أن هذه النزعة قد سبقهم الأولون من الكفار إليها ، كأنه قال : والأمر ليس على ما ظنوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه ، بل قد نصب الله لعباده الأدلة وأرسل الرسل منذرين وليس عليهم إلا البلاغ.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣٨)

لما أشار قوله تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النحل : ٣٥] إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه ، بين ذلك في هذه الآية ، أي إنه بعث الرسل آمرا بعبادته وتجنب عبادة غيره ، و (الطَّاغُوتَ) في اللغة كل ما عبد من دون الله من آدمي راض بذلك ، أو حجر أو خشب ، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته ، ومنهم أيضا من أعرض وكفر ف (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ، وهي مؤدية إلى النار حتما ، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا ، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين ، وقوله (إِنْ تَحْرِصْ) الآية ، الحرص أبلغ الإرادة في الشيء ، وهذه تسلية للنبي عليه‌السلام أي إن حرصك لا ينفع ، فإنها أمور محتومة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وشبل ومزاحم الخراساني وأبو رجاء العطاردي وابن سيرين «لا يهدى» بضم الياء وفتح الدال ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لا يهدي» بفتح الياء وكسر الدال ، وهي قراءة ابن المسيب وابن مسعود وجماعة ، وذلك على معنيين أي إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله ، والآخر أن العرب تقول هدي الرجل بمعنى اهتدى حكاه الفراء وفي القرآن (لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) [يونس : ٣٥] وجعله أبو علي وغيره بمعنى يهتدي ، وقرأت فرقة «إن الله لا يهدي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال ، وقرأت فرقة «إن الله لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال ، وهي ضعيفة ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «إن الله لا هادي لمن أضل» ، قال أبو علي : الراجع إلى اسم (إِنْ) مقدر في (يُضِلُ) على كل قراءة إلا على قراءة من قرأ «يهدي» بفتح الياء وكسر الدال بمعنى يهدي الله ، فإن الراجع مقدر في «يهدي» ، وقوله (وَما لَهُمْ) ضمير على معنى «من» ، وتقول العرب حرص يحرص وحرص يحرص والكسر في المستقبل هي لغة أهل


الحجاز ، وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو حيوة بفتح الراء ، وقرأ إبراهيم منهم ، «وإن» بزيادة الواو ، والضمير في قوله (وَأَقْسَمُوا) لكفار قريش ، وذكر أن رجلا من المسلمين حاور رجلا من المشركين ، فقال في حديثه : لا والذي أرجوه بعد الموت ، فقال له الكافر أو نبعث بعد الموت؟ قال : نعم ، فأقسم الكافر مجتهدا في يمينه أن الله لا يبعث أحدا بعد الموت ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، و (جَهْدَ) مصدر ومعناه فغاية جهدهم ، ثم رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى (بَلى) فأوجب بذلك البعث ، وقوله (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان ، وقرأ الضحاك «بلى وعد عليه حق» بالرفع في المصدرين ، و (أَكْثَرَ النَّاسِ) في هذه الآية الكفار المكذبون بالبعث.

قال القاضي أبو محمد : والبعث من القبور مما يجوزه العقل ، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النبيين ، وقال بعض الشيعة إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعلي بن أبي طالب ، وإن الله سيبعثه في الدنيا ، وهذا هو القول بالرجعة ، وقولهم هذا باطل وافتراء على الله وبهتان من القول رده ابن عباس وغيره.

قوله عزوجل :

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٠)

اللام في قوله (لِيُبَيِّنَ) تتعلق بما في ضمن قوله (بَلى) [النحل : ٣٨] لأن التقدير «بلى يبعث ليبين» ، وقيل هي متعلقة بقوله (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) [النحل : ٣٦] والأول أصوب في المعنى ، لأن به يتصور كذب الكفار في إنكار البعث ، وقوله (إِنَّما قَوْلُنا) الآية ، «إنما» في كلام العرب هي للمبالغة وتحقيق تخصيص المذكور ، فقد تكون مع هذا حاصرة إذا دل على ذلك المعنى ، كقوله تعالى (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما الربا في النسيئة» وقول العرب : إنما الشجاع عنترة ، فبقي فيها معنى المبالغة فقط ، و (إِنَّما) في هذه الآية هي للحصر ، وقاعدة القول في هذه الآية أن تقول ، إن الإرادة والأمر اللذين هما صفتان من صفات الله تعالى القديمة ، هما قديمان أزليان ، وإن ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد ، لا إلى الإرادة ، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به ، لأن ذينك قديمان ، فمن أجل المراد عبر ب (إِذا) وب (نَقُولَ) ، ويرجع الآن على هذه الألفاظ فتوضح الوجه فيها واحدة واحدة ، أما قوله (لِشَيْءٍ) فيحتمل وجهين : أحدهما أن الأشياء التي هي مرادة وقيل لها (كُنْ) ، معلوم أن للوجود يأتي على جميعها بطول الزمن وتقدير الله تعالى ، فلما كان وجودها حتما جاز أن تسمى أشياء وهي في حالة عدم ، والوجه الثاني أن يكون قوله (لِشَيْءٍ) تنبيها لنا على الأمثلة التي تنظر فيها ، أي إن كل ما تأخذونه من الأشياء الموجودة فإنما سبيله أن يكون مرادا وقيل له (كُنْ) فكان ، ويكون ذلك الشيء المأخوذ من الموجودات مثالا لما يتأخر من الأمور وما تقدم وفني ، فبهذا يتخلص من تسمية المعدوم شيئا ، وقوله (أَرَدْناهُ) منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئا بعد


شيء ، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه ، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥] ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ١٤٠] ونحو هذا مما معناه ، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله (أَنْ نَقُولَ) منزل منزلة المصدر ، كأنه قال قولنا ، ولكن (أَنْ) مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية ، وكقوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] وغير ذلك ، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له ، كالمخاطب ، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق : (كُنْ) بشرط الوقت والصفة ، وقال الزجاج (لَهُ) بمعنى من أجله ، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول ، وذهب قوم إلى أن قوله (أَنْ نَقُولَ) مجاز ، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلانا ، ورد على هذا المنزع أبو منصور ، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى ، وقرأ الجمهور «فيكون» برفع النون ، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس ، «فيكون» بنصبها ، وهي قراءة ابن محيصن.

قال القاضي أبو محمد : والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله ، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة ، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات ، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح في سبب الآية ، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية ، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن أمر أبي جندل كان والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها.

قال القاضي أبو محمد : وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولا وآخرا. وقرأ الجمهور «لنبوئنهم» وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب. «لنثوينهم» وهاتان اللفظتان معناهما التقرير ، فقالت فرقة : الحسنة عدة ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة ، وإليها كانت الإشارة بقوله (حَسَنَةً) وقالت فرقة : الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.


قال القاضي أبو محمد : وفي (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أو «لنثوينهم» على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة ، وهذا على أن (حَسَنَةً) هي المباءة والمثوى ، وأن الفعل الظاهر عامل فيها ، وقال أبو الفتح : نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحسانا ، وجعلت (حَسَنَةً) موضع إحسانا ، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل ، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له : خذ ما وعدك الله في الدنيا ، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) ، ثم يتلو هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد ، وكل أمل أبلغه المهاجرون ، و «أجر الآخرة» هنا إشارة إلى الجنة ، والضمير في (يَعْلَمُونَ) عائد إلى كفار قريش ، وجواب (لَوْ) مقدر محذوف ، ومفعول (يَعْلَمُونَ) كذلك ، وفي هذا نظر ، وقوله (الَّذِينَ صَبَرُوا) من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله ، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى ، و «التوكل» تتفاضل مراتبه ، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك ، ومتوسط يسعى جميلا ، وهذا مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيدها وتوكل» ، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له ، وقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية ، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى ، فأعلمهم الله تعالى مخاطبا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم (إِلَّا رِجالاً). ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك ، و (رِجالاً) منصوب ب (أَرْسَلْنا) و (إِلَّا) إيجاب ، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء ، وقرأت فرقة «يوحي» بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده «نوحي» بالنون وكسر الحاء ، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى (فَسْئَلُوا) ، و (أَهْلَ الذِّكْرِ) هنا اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن ، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة : المراد من أسلم منهم ، وقال ابن جبير وابن زيد : (أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل القرآن.

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان فيهما ضعف ، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر ، لأنهم يكذبون هذه الصنائف ، وقال الزجاج : (أَهْلَ الذِّكْرِ) هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا ، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر ، وإخبارهم حجة على هؤلاء ، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم ، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء ، بل الحق واضح في نفسه ، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم ، وقوله (بِالْبَيِّناتِ) متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات ، وقالت فرقة الباء متعلقة ب (أَرْسَلْنا) في أول الآية ، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا ، ففي الآية تقديم وتأخير ، (وَالزُّبُرِ) الكتب المزبورة ، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت ، و (الذِّكْرَ) في هذه الآية القرآن ، وقوله (لِتُبَيِّنَ) يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل ، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل ، وشرحك ما أشكل مما نزل ، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة ، وهذا قول مجاهد.


قوله عزوجل :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)(٤٨)

هذه الآية تهديد لأهل مكة ، وهم المراد ب (الَّذِينَ) في قول الأكثر ، وقال مجاهد : المراد نمرود بن كنعان ، والأول أظهر ، ونصب (السَّيِّئاتِ) يحتمل وجهين : أحدهما أن ينصب بقوله (أَفَأَمِنَ) وتكون (السَّيِّئاتِ) على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به ، ويكون قوله (أَنْ يَخْسِفَ) بدلا منها. والوجه الثاني أن ينصب ب (مَكَرُوا) ، وعدي (مَكَرُوا) لأنه بمعنى عملوا وفعلوا ، و (السَّيِّئاتِ) على هذا معاصي الكفر وغيره ، قاله قتادة ، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف ، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش ، أن قوما في هذه الأمة ، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم ، و (تَقَلُّبِهِمْ) سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها ، و «المعجز» المفلت هربا كأنه عجز طالبه ، وقوله (عَلى تَخَوُّفٍ) أي على جهة التخوف ، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر : [البسيط]

تخوف السير منها تامكا فردا

كما تخوف عود النبعة السفن

والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف» في هذه الآية ، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، حتى سمع هذا البيت ، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف» ، فقال له يا أمير المؤمنين : إن أبي يتخوفني مالي ، فقال عمر : الله اكبر (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) ، ومنه قول طرفة :

وجامل خوف من نبيه

زجر المعلى أبدا والسفيح

ويروى من نبته ، ومنه قول الآخر : [الوافر]

ألأم على الهجاء وكل يوم

تلاقيني من الجيران غول

تخوف غدرهم مالي وهدي

سلاسل في الحلوق لها صليل

يريد الأهاجي ، ومنه قول النابغة : [الطويل]

تخوفهم حتى أذل سراتهم

بطعن ضرار بعد قبح الصفائح

قال القاضي أبو محمد : وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين : أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذا ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه ، وكأن


هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت ، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها ، ويؤيد هذا قوله (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد ، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع : والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ، ثم كذلك حتى يهلك الكل ، وقالت فرقة: «التخوف» هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تكلف ما ، وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا» بالياء على لفظ الغائب ، وكذلك في العنكبوت ، فهي جارية على قوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ) ، وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ) وقوله : (لا يَشْعُرُونَ) ، ورجحها الطبري ، وقرأ حمزة والكسائي «أو لم تروا» بالتاء في الموضعين ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما : أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أو لم تروا ، والوجه الآخر أن يكون خطابا عاما لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفا ، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق ، واختلف عنه في العنكبوت ، وقوله (مِنْ شَيْءٍ) لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل ، والرؤية هنا هي رؤية القلب ، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين ، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ» بالتاء من فوق ، وهي قراءة عيسى ويعقوب ، وقرأ الجمهور «يتفيأ» ، قال أبو علي : إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان ، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس ، فيعم ، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب ، وكذلك قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشي تذوق

فهو على المهيع ، وكذلك قول علقمة بن عبدة : [الطويل]

تتبع أفياء الظلال عشية

على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرئ القيس :

يفيء عليها الظل

وأما النابغة الجعدي فقال : [الخفيف]

فسلام الإله يغدو عليهم

وفيء الفردوس ذات الظلال

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال فيء وظل ، ولا يقال قبله إلا ظل فقط ، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة ، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ) [الحشر : ٧] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره ، فكأن الآية


جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملا على لفظ ما أو لفظ شيء ، وهو في المعنى لجمع ، وقرأ الثقفي «ظلله» بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء ، وقوله (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) أفرد اليمين وهو يراد به الجمع ، فكأنه للجنس ، والمراد عن الأيمان والشمائل ، كما قال الشاعر : [جرير]

الواردون ونيم في ذرى سبأ

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وكما قال الآخر :

ففي الشامتين الصخر إن كان هدني

رزية شبلي مخدر في الضراغم

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر ، أي تقدره ذا يمين وشمال ، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية ، وفيه تجوز واتساع ، ومن ذهب إلى أن (الْيَمِينِ) من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب ، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب ، وما قال بعض الناس من أن (الْيَمِينِ) أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال ، ولذلك جمع (الشَّمائِلِ) ، وأفرد (الْيَمِينِ) ، فتخليط من القول يبطل من جهات ، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ، ثم بعث الله الشمس عليه دليلا فقبض إليه الظل.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة ، وظلال متقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، وكأن الظل عن اليمين متصلا واحدا عاما لكل شيء ، وفي هذا القول تجوز في تفيأ ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبدا مندفعا عن اليمين إلى الزوال ، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل ، وقالت فرقة «الظلال» هنا الأشخاص هي المراد أنفسها ، والعرب تعبر أحيانا عن الأشخاص بالظل ، ومنه قول عبدة بن الطيب : [البسيط]

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية

وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الآخر : [الطويل]

تتبع أفياء الظلال عشية

أي أفياء الأشخاص.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قد قدره ، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة ، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت


الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت ، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة ، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود ، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف

والداخر المتصاغر المتواضع ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

فلم يبق إلا داخر في مخيّس

ومنجحر في غير أرضك في جحر

قوله عزوجل

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٥٥)

وقعت (ما) في هذه الآية لما يعقل ، قال الزجاج : قوله (ما فِي السَّماواتِ) يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان ، وقوله (وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) بين ، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله (وَالْمَلائِكَةُ) ويحتمل أن يكون قوله : (وَالْمَلائِكَةُ) هو الذي يعم «السماوات والأرض» ، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك ، إنما هو للحيوان أجمع ، وقوله (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) عام لجميع الحيوان ، وقوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) يحتمل معنيين : أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان ، والآخر أن يتعلق قوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) بقوله (يَخافُونَ) ، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم ، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق ، وقوله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة ، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى ، وقوله (وَقالَ اللهُ) الآية ، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعدا ، بما ينصه من قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ، قالت فرقة المفعول الأول ب (تَتَّخِذُوا) قوله (إِلهَيْنِ) ، وقوله (اثْنَيْنِ) تأكيد وبيان بالعدد ، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود بذكر عدده تأكيدا ، ومنه قوله (إِلهٌ واحِدٌ) لأن لفظ (إِلهٌ) يقتضي الانفراد ، وقال قوم منهم : المفعول الثاني محذوف تقديره معبودا أو مطاعا ونحو هذا ، وقالت فرقة : المفعول الأول (اثْنَيْنِ) ، والثاني قوله (إِلهَيْنِ) ، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين ، ومثله قوله تعالى (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء : ٢ ـ ٣] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل (تَتَّخِذُوا) ، وقوله (فَإِيَّايَ) منصوب بفعل مضمر تقديره


فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به ، وقوله (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ) الآية ، الواو في قوله (وَلَهُ) عاطفة على قوله : (إِلهٌ واحِدٌ) ، وجائز أن يكون واو ابتداء ، و (ما) عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل ، و (السَّماواتِ) هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق ، فيدخل فيه العرش والكرسي ، و (الدِّينُ) الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو : وحالت بيننا فدك. أي في طاعته وملكه ، و «الواصب» القائم ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر [أبي الأسود] : [الكامل]

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه

يوما بذم الدهر أجمع واصبا

ومنه قول حسان : [المديد]

غيرته الريح تسفي به

وهزيم رعده واصب

وقالت فرقة : هو من الوصب وهو التعب ، أي وله الدين على تعبه ومشقته.

قال القاضي أبو محمد : ف «واصب» على هذا جار على النسب أي ذا وصب ، كما قال : أضحى فؤادي به فاتنا ، وهذا كثير ، وقال ابن عباس أيضا : «الواصب» الواجب ، وهذا نحو قوله : الواصب الدائم ، وقوله (أَفَغَيْرَ) ، توبيخ ولفظ استفهام ونصب «غير» ب (تَتَّقُونَ) ، لأنه فعل لم يعمل في سوى «غير» المذكورة. والواو في قوله (وَما بِكُمْ) يجوز أن تكون واو ابتداء ، ويجوز أن تكون واو الحال ، ويكون الكلام متصلا بقول (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) ، كأنه يقال على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه ، والباء في قوله (بِكُمْ) متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا ، و (ما) بمعنى الذي ، والفاء في قوله (فَمِنَ اللهِ) دخلت بسبب الإبهام الذي في (ما) التي هي بمعنى الذي ، فأشبه الكلام الشرط ، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله ، إيجاده داخل في ذلك فما بعده ، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى ، و (الضُّرَّ) وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن ، و (تَجْئَرُونَ) معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع ، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها ، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح ، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته ، ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

يراوح من صلوات الملي

ك طورا سجودا وطورا جؤارا

وأنشده أبو عبيدة :

بأبيل كلما صلى جأر

والأصوات تأتي غالبا على فعال أو فعيل ، وقرأ الزهري «يجرون» بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم ، كما خففت «تسلون» من «تسألون» ، وقوله (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ) قرأ


الجمهور «كشف» ، وقرأ قتادة «كاشف» ، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة ، و (فَرِيقٌ) هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر ، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم ، وأضافوا ذلك الشفاء إليها ، وقوله (لِيَكْفُرُوا) يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا ، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد ، كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك ، ويؤيده قوله : (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر ، لقوله : (بِما آتَيْناهُمْ) أي بما أنعمنا عليهم ، وقرأ الجمهور (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) على معنى قل لهم يا محمد ، وروى أبو رافع عن النبي عليه‌السلام «فيمتعوا» بياء من تحت مضمومة «فسوف يعلمون» على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم ، وهي قراءة أبي العالية ، وقرأ الحسن «فتمتعوا» على الأمر «فسوف يعلمون» بالياء على ذكر الغائب ، وعلى ما روى أبو رافع يكون «يمتعوا» في موضع نصب عطفا على «يكفروا» إن كانت اللام لام كي ، أو نصبا بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر ، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.

قوله عزوجل :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٥٩)

الضمير في قوله (وَيَجْعَلُونَ) للكفار ، وقوله (لِما لا يَعْلَمُونَ) يريد الأصنام ، ومعناه لا يعلمون فيهم حجة ولا برهانا ، ويحتمل أن يريد بقوله : (يَعْلَمُونَ) الأصنام ، أي يجعلون لجمادات لا تعلم شيئا (نَصِيباً) ، فالمفعول محذوف ، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل ، وبحسب أنه إسناد منفي ، وهذا كله ضعيف ، و «النصيب» المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها ، والقسم لها من الغلات ، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام ، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم ، و «الفرية» اختلاق الكذب وقوله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) الآية ، هذا تعديد لقبح قول الكفار : الملائكة بنات الله ورد عليهم من وجهين ، أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك ، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم ، و (ما) في قوله (ما يَشْتَهُونَ) مرتفعة بالابتداء ، والخبر في المجرور قبله ، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفا على (الْبَناتِ) ، والبصريون لا يجيزون هذا لأنه من باب ضربتني ، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون ، والمراد بقوله (ما يَشْتَهُونَ) : الذكران من الأولاد ، وقوله (وَإِذا بُشِّرَ) لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير ، وقوله (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم ، وقد يعلو وجه


المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته ، فلذلك يذكر له السواد ، و (كَظِيمٌ) بمعنى كاظم كعليم وعالم ، والمعنى أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى ، وقوله (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) الآية ، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى ، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق توارى حتى يخبر بأحد الأمرين ، فليس المراد في الآية ، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج ، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه ، ومعنى (يَتَوارى) يتغيب ، وتقدير الكلام يتوارى من القوم مدبرا (أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ)؟ وقرأت فرقة «أيمسكه» على لفظ «ما أم يدسها» على معنى الأنثى ، وقرأ الجحدري «أيمسكها أم يدسها» على معنى الأنثى في الموضعين ، وقرأ الجمهور «على هون» بضم الهاء ، وقرأ عيسى بن عمر «على هوان» ، وهي قراءة عاصم الجحدري ، وقرأ الأعمش «على سوء» ، ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له ، أم يدسها فيدفنها حية ، فهو الدس في التراب ، ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله.

قوله عزوجل :

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(٦٢)

قالت فرقة (مَثَلُ) في هذه الآية بمعنى صفة ، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يضطر إليه ، لأنه خروج عن اللفظ ، بل قوله (مَثَلُ) على بابه ، وذلك أنهم إذا قالوا إن البنات لله فقد جعلوا له مثلا أبا البنات من البشر ، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم ، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ليس في البنات فقط ، لكن لما جعلوه هم في البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء ، ولا غاية أبعد من عذاب النار ، وقوله (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) على الإطلاق أيضا في الكمال المستغني ، وقال قتادة : (الْمَثَلُ الْأَعْلى) لا إله إلا الله ، وباقي الآية بين ، وقوله (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) الآية ، وآخذ هو تفاعل من أخذ ، كأن أحد المتؤاخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء ، وهي لغتان وأخذ وآخذ ، و (يُؤاخِذُ) يصح أن يكون من آخذ ، وأما كونها من واخذ فبين ، والضمير في (عَلَيْها) عائد على الأرض ، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها ، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات البلاد ظلامها

ومنه قول تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ولم يجر للشمس ذكر ، وقوله (مِنْ دَابَّةٍ) دخلت (مِنْ) لاستغراق الجنس ، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لو أخذ الناس بعقاب يستحقونه


بظلمهم في كفرهم ومعاصيهم لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى ، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء : كاد الجعل أن يهلك بذنوب بني آدم ، ذكره الطبري ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة» ، وسمع أبو هريرة رجلا يقول : إن الظالم لا يهلك إلا نفسه ، فقال أبو هريرة : بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلا بذنوب الظلمة ، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم ، وقالت فرقة : قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) ، يريد من أولئك الظلمة فقط ، ويدل على هذا التخصيص ، أن الله لا يعاقب أحدا بذنب أحد ، واحتجت بقول الله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] وهذا معنى آخر ، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحدا بسبب إذناب غيره ، ولكن إذا أرسل عذابا على أمة عاصية ، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب ، فأصابه العذاب لا بأنه له مجازاة ، ونحو هذا قوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال «نعم إذا كثر الخبث» ، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء ، وذلك بترك التغيير ومداهنة أهل الظلم ومداومة جوارهم ، و «الأجل المسمى» في هذه الآية هو بحسب شخص شخص ، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز ، وقوله (ما يَكْرَهُونَ) يريد البنات ، و (ما) في هذا الموضع تقع لمن يعقل من حيث هو صنف وقرأ الحسن «ألسنتهم الكذب» بسكون النون كراهية توالي الحركات ، وقرأ الجمهور «الكذب» بكسر الذال ، ف (أَنَ) بدل منه ، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام «الكذب» بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة ، و (أَنَّ لَهُمُ) مفعول ب (تَصِفُ) ، و (الْحُسْنى) قال مجاهد وقتادة : الذكور من الأولاد ، وهو الأسبق من معنى الآية ، وقالت فرقة يريد الجنة.

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا قوله (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) ومعنى الآية على هذا التأويل يجعلون لله المكروه ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة ، كما تقول لرجل أنت تعصي الله ، وتقول مع ذلك أنت تنجو ، أي هذا بعيد مع هذا ، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار ، وقد تقدم القول في (لا جَرَمَ) ، وقرأ الجمهور «أن لهم» بفتح الهمزة ، وإعرابها بحسب تقدير (جَرَمَ) ، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب ، ومن قدرها يوجب فهو رفع ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران «إن لهم» بكسر الهمزة وقرأ السبعة سوى نافع «مفرطون» بفتح الراء وخفتها ، ومعناه مقدمون إلى النار والعذاب ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس ، وقد رويت عن نافع ، وهو مأخوذ من فرط الماء وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا فرطكم على الحوض» ومنه قول القطامي :

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجل فرّاط لورّاد

وقالت فرقة : (مُفْرَطُونَ) معناه مخلفون متركون في النار منسيون فيها ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند ، وقال آخرون (مُفْرَطُونَ) معناه مبعدون في النار ، وهذا قريب من الذي قبله ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «مفرّطون» بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء ، ومعناه مقصرون في طاعة الله تعالى ، وقد


روي عنه فتح الراء مع شدها ، وقرأ نافع وحده «مفرطون» بكسر الراء وخفتها ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي رجاء وشيبة بن نصاح وأكثر أهل المدينة ، أي يتجاوزون الحد في معاصي الله عزوجل.

قوله عزوجل :

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)(٦٦)

هذه آية ضرب مثل لهم بمن تقدم وفي ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (الْيَوْمَ) يحتمل أن يريد يوم الإخبار بهذه الآية ، وهو بعد موت أولئك الأمم المذكورة ، أي لا ولي لهم منذ ماتوا واحتاجوا إلى الغوث إلا الشيطان ، ويحتمل أن يريد يوم القيامة ، والألف واللام فيه للعهد ، أي «هو وليهم» في «اليوم» المشهور وهو وقت الحاجة والفصل ، ويحتمل أن يريد (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) مدة حياتهم ، ثم انقطعت ولايته بموتهم ، وعبر عن ذلك بقوله (الْيَوْمَ) تمثيلا للمخاطبين بمدة حياتهم ، كما تقول لرجل شاب تحضه على طلب العلم : يا فلان لا يدرس أحد من الناس إلا اليوم ، تريد في مثل سنك هذه. فكأنه قال لهؤلاء : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) في مثل حياتكم هذه ، وهي التي كانت لهم ، وسائر الآية وعيد ، وقوله (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يريد القرآن ، وقوله (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) في موضع المفعول من أجله ، وقوله (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف عليه ، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم ، وقوله (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى ، أو بالقيامة ، أو بالنبوءات ، أو غير ذلك ، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية ، يدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى ، لا من الأصنام. وقوله تعالى (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الآية ، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه ، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل ، و «حياة الأرض وموتها» استعارة وتشبيه بالحيوان ، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت ، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي ، وقوله (يَسْمَعُونَ) يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه ، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب ، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ، و (الْأَنْعامِ) هي الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز ، و «العبرة» الحال المعتبر فيها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة «نسقيكم» بفتح النون من سقى يسقي ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «نسقيكم» بضم النون من أسقى يسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة ، قال بعض أهل اللغة ، هما لغتان بمعنى واحد ، وقالت فرقة : تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تعدّ سقيه أو تمنحه


شربا أسقيته ، وهذا قول من قرأ «نسقيكم» ، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر ، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى ، قول لبيد : [الوافر]

سقى قومي بني بدر وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل ، وقرأ أبو رجاء «يسقيكم» بالياء أي يسقيكم الله ، وقرأت فرقة «تسقيكم» بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر : مثل الفراخ نتفت حواصله ، وهذا كثير لقوله تعالى (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) [الإنسان : ٢٩](فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [المدثر : ٥٥] وقيل : إنما قال : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض ، إذ الذكور لا ألبان لها ، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام ، و «الفرث» ما ينزل إلى الأمعاء ، و «السائغ» السهل في الشرب اللذيذ ، وقرأت فرقة «سيّغا» بشد الياء ، وقرأ عيسى الثقفي «سيغا» بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين ، وليس وزنهما فعلا ، لأن اللفظة واوية ، ففعل منها سوغ ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

قال الطبري : التقدير (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) ما (تَتَّخِذُونَ) ، وقالت فرقة : التقدير (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) شيء (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) ، ويجوز أن يكون قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ) ، عطفا على (الْأَنْعامِ) [النحل : ٦٦] أي ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة ، ويجوز أن يكون عطفا على (مِمَّا) [النحل : ٦٦] ، أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات ، والسكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة ، فقال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، وأراد بالسكر الخمر ، وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين وقال بهذا القول ابن جبير وإبراهيم والشعبي وأبو زيد ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر ، وقال الشعبي ومجاهد : السكر السائغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ ، و «الرزق الحسن» العنب والتمر ، قال الطبري : والسكر أيضا في كلام العرب ما يطعم ، ورجح الطبري هذا القول ، ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ من الآية شيء ، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر : إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر ، وفي هذه المقالة درك ، لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «حرمت الخمر


بعينها ، والسّكر من غيرها». هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف ، أي جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره ، ورواه العراقيون ، و «السّكر» بضم السين وسكون الكاف وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال ، وباقي الآية بين ، وقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية ، الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء ، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك ، ومنه وحي الرؤيا ، ومنه وحي الإلهام ، وهو الذي في آياتنا هذه باتفاق من المتأولين ، والوحي أيضا بمعنى الأمر ، كما قال تعالى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥]. وقرأ يحيى بن وثاب «إلى النّخل» بفتح الحاء و (أَنِ) في قوله (أَنِ اتَّخِذِي) مفسرة ، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع ، إما في الجبال وكواها ، وإما في متجوف الأشجار ، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان ونحوها ، و «عرش» معناه هيأ ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها ، ومنه العريش الذي صيغ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، ومن هذا هي لفظة العريش ، ويقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها ، وقرىء بهما ، قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر ، واختلف عن عاصم ، وجمهور الناس على الكسر ، وقرأ بالضم أبو عبد الرحمن وعبيد بن نضلة ، وقال ابن زيد في قوله : (يَعْرِشُونَ) قال الكروم ، وقال الطبري (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يعني ما يبنون من السقوف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا منهما تفسير غير متقن ، وقوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الآية ، المعنى ثم ألهمها أن كلي ، فعطف (كُلِي) على (اتَّخِذِي) ، و (مِنْ) للتبعيض ، أي كلي جزءا أو شيئا من كل الثمرات ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار ، و «السبل» الطرق وهي مسالكها في الطيران وغيرها ، وأضافها إلى «الرب» من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك ، وقوله (ذُلُلاً) يحتمل أن يكون حالا من (النَّحْلِ) ، أي مطيعة منقادة لما يسرت له ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم ، وقرأ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٢] ، ويحتمل أن يكون حالا من «السبل» أي مسهلة مستقيمة ، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة أمر العسل في قوله (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة ، فظاهر هذا أنه من غير الفم ، و «اختلاف الألوان» في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير ، وقوله (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الضمير للعسل ، قاله الجمهور : ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان ، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض وعلى حال دون حال ، ففائدة الآية إخبار منبه منه في أنه دواء كما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين ، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل ، حتى إنه كان يدهن به الدمل والضرحة ويقرأ (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم ، وقال مجاهد : الضمير


للقرآن ، أي فيه شفاء ، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت ورجال بني هاشم ، وأنهم النحل ، وأن الشراب القرآن والحكمة ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي : فقال له رجل ممن حضر : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين ، وبهت الآخر ، وظهرت سخافة قوله ، وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)(٧٢)

هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك ، ثم اعترض بمن ينكث من الناس لأنهم موضع عبرة ، و (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) آخره الذي تفسد فيه الحواس ويختل النطق ، وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حال الطفولية كذلك ، من حيث كانت هذه لأرجاء معها ، والطفولية إنما هي بدأة والرجاء معها متمكن ، وقال بعض الناس : أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا في الأغلب ، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان ، والمعنى ، منكم من يرد إلى أرذل عمره ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره ، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره ، واللام في (لِكَيْ) يشبه أن يكون لام صيرورة ، وليس ببين ، والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا ، وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئا البتة ، ولم تحل (لا) بين «كي» ومعمولها لتصرفها ، وأنها قد تكون زائدة ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير ، وقوله (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) إخبار يراد به العبرة ، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها ، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم ، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب ، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه ، هذا تأويل الطبري ، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، قال المفسرون : هذه الآية كقوله تعالى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) [الروم : ٢٨] ، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان ، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم «يجحدون» بالياء من تحت ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «تجحدون» بالتاء ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه ، وهي على معنى قل


لهم يا محمد. قال قتادة : لا يكون الجحد إلا بعد معرفة ، وقوله (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) الآية ، آية تعديد نعم ، و «الأزواج» الزوجات ، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك ، وقوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه ، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال ، وهذا قول قتادة ، والأظهر عندي أن يريد بقوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، أي من نوعكم وعلى خلقتكم ، كما قال تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] وقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) ، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء ، واختلف الناس في قوله (وَحَفَدَةً) فقال ابن عباس : «الحفدة» أولاد البنين ، وقال الحسن : هم بنوك وبنو بنيك ، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير : «الحفدة» الأصهار وهم قرابة الزوجة ، وقال مجاهد : «الحفدة» الأنصار والأعوان والخدم ، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم ، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن ، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] وإنما الزينة في الذكور ، وقال ابن عباس أيضا : «الحفدة» أولاد زوجة الرجل من غيره ، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعا في الطاعة ومنه في القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، والحفدان خبب فوق المشي ، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر : [الكامل]

حفد الولائد بينهن وأسلمت

بأكفهن أرمة الإجمال

ومنه قول الآخر : [البسيط]

كلفت مجهولها نوقا ثمانية

إذا الحداة على أكسائها حفدوا

قال القاضي أبو محمد : وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس ، ويحتمل عندي أن قوله : (مِنْ أَزْواجِكُمْ) إنما هو على العموم والاشتراك ، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة ، وحصل تحت النعمة ، وأولئك الحفدة هم من الأزواج ، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم ، وتستقيم لفظة «الحفدة» على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة ، وقالت فرقة : «الحفدة» هم البنون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم ، كما لو قال جعلنالهم بنين وأعوانا أي وهم لهم أعوان ، فكأنه قال : وهم حفدة وقوله (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يريد الله : من الأشياء التي تطيب لمن رزقها ، ولا يقتصر هنا على الحلال لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع ، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة : إن الرزق إنما يكون الحلال فقط ، و (لَكُمْ) تعلق في لفظة (مِنْ) إذ هي للتبعيض ، فيقولون : ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالا ، وقرأ الجمهور «يؤمنون» ، وتجيء الآية على هذه القراءة توقيفا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله ، وقرأ أبو عبد الرحمن «تؤمنون» بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم على معنى قل لهم يا محمد ، ويجيء قوله بعد ذلك (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) إخبارا مجردا عنهم وحكما عليهم لا توفيقا ، وقد


يحتمل التوقيف أيضا على قلة اطراد في القول.

قوله عزوجل :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ(٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٧٥)

هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم ، وهي طلب الرزق ، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة ، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى ، وقوله (رِزْقاً) مصدر ونصبه على المفعول ب (يَمْلِكُ) ، وقوله (شَيْئاً) ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل ، من قوله (رِزْقاً) و (رِزْقاً) اسم ، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله (رِزْقاً) ولا نقدره اسما ، وهو كقوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥ ـ ٢٦] ف (كِفاتاً) [المرسلات : ٢٥] مصدر منصوب به (أَحْياءً) [المرسلات : ٢٦] ومنه أيضا في قوله عزوجل (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد : ١٤ ـ ١٥] فنصب (يَتِيماً) [البلد : ١٥] ب (إِطْعامٌ) [البلد : ١٤] ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فلولا رجاء النصر منك ورهبة

عقابك قد صاروا لنا كالموارد

والمصدر يعمل مضافا باتفاق لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن حال الفعلية ، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ، وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قول الشاعر : ضعيف النكاية أعداءه ، البيت :

وقوله : عن الضرب مسمعا ، وقوله (يَمْلِكُ) على لفظ (ما) ، وقوله (يَسْتَطِيعُونَ) على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل ، ويحتمل أن يكون الضمير في (يَسْتَطِيعُونَ) للذين يعبدون ، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها ، وقوله (فَلا تَضْرِبُوا) أي لا تمثلوا لله الأمثال ، وهو مأخوذ من قولك : ضريب هذا أي مثله ، والضرب النوع ، تقول : الحيوان على ضروب ، وهذان من ضرب واحد ، وباقي الآية بين وقوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) الآية ، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر ، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه ، وقد قال في المثال : لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمنا ينفق بحسب الطاعة ، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالا ، والرزق ما صح الانتفاع به ، وقال أبو منصور في عقيدته : الرزق ما وقع الاغتذاء به ، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص ،


وكذلك قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣٠] و (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤] وغير ذلك من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل رزقي في ظل رمحي» ، وقوله : «أرزاق أمتي في سنابك خيلها ، وأسنة رماحها ، فالغنيمة كلها رزق» ، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق ، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به ، وقد حصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوه الانتفاع في قوله : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».

قال القاضي أبو محمد : وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه ، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس : هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك. ويشبه ذلك العبد المذكور.

قال القاضي أبو محمد : والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط ، جعل له مثالا ، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن ، وإنما هو مثال للمؤمن ، فيقع التمثيل من جهتين ، وقال مجاهد والضحاك : هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام ، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب ، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أصوب ، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وعبد كان له ، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده.

قال القاضي أبو محمد : والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد ، وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له ، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك : الله أكبر ، على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا (هَلْ يَسْتَوُونَ)؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة ، وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يريد لا يعلمون أبدا ولا يداخلهم إيمان ، ويتمكن على هذا قوله : (أَكْثَرُهُمْ) ، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك ، ولو كان معنى قوله (لا يَعْلَمُونَ) أي الآن ، لكان قوله (أَكْثَرُهُمْ) بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم.

قوله عزوجل :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي


جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٧٩)

هذا مثل لله عزوجل والأصنام ، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، و «الكلّ» الثقل والمئونة ، وكل محمول فهو كلّ ، وسمي اليتيم كلا ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

أكول لمال الكلّ قبل شبابه

إذا كان عظم الكلّ غير شديد

كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير البتة ، هذا قول قتادة ، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر ، وقرأ ابن مسعود «يوجه» ، وقرأ علقمة «يوجّه» وقرأ الجمهور ، «يوجهه» ، وهي خط المصحف ، وقرأ يحيى بن وثاب «يوجّه» ، وقرأ ابن مسعود أيضا «توجهه» على الخطاب ، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة لأنه لازم ، والذي (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) هو الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو المؤمن. و «الصراط» الطريق ، وقوله (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه ، وقوله (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار ، والمعنى على ما قال قتادة وغيره : ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن ، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك ، ف (أَوْ) على هذا على بابها في الشك ، وقيل هي للتخيير ، و «لمح البصر» هو وقوعه على المرئي ، وقوى هذا الإخبار بقوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن قال (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد وتجوز كثير ، وبعد من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها ، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) كما يقال : ما السنة إلا لحظة ، إلا أن قوله (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) يرد أيضا هذه المقالة ، وقوله (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ) الآية ، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل ، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها ، فالله عزوجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئا ، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلما إلى درك المعارف ، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه ، و «أمهات» أصله أمات ، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيدا ، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء ، قاله أبو إسحاق ، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا ، وقرأ حمزة والكسائي «إمهاتكم» بكسر الهمزة ، وقرأ الأعمش «في بطون امّهاتكم» بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة ، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة ، قال أبو حاتم : حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في «لعل» هو بحسبنا ، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار ، وقوله «ا لم تروا إلى الطير» الآية ، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز «ألم تروا» بالتاء ، وقرأ أهل مكة والمدينة «ألم يروا» بالياء على الكناية عنهم ، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي ، و «الجو» مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل هو ما يلي الأرض منها ، وما فوق ذلك هو اللوح ، و «الآية» عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت.


قوله عزوجل :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(٨١)

هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت ، فذكر أولا بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان ، وإن كان الوصف ب (سَكَناً) يعم جميع البيوت ، والسكن مصدر يوصف به الواحد ، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة ، وقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف ، لأن هذه هي من الجلود ، لكونها نابتة فيها ، نحا إلى ذلك ابن سلام ، ويكون قوله (وَمِنْ أَصْوافِها) عطفا على قوله (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) ، أي جعل بيوتا أيضا ، ويكون قوله (أَثاثاً) نصبا على الحال ، و (تَسْتَخِفُّونَها) أي تجدونها خفافا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «ظعنكم» بسكون العين ، وهما لغتان ، وليس بتخفيف ، و «ظعن» معناه رحل والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز والبقر ، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه ، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضا عن ذلك السرف ، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف ، وأيضا فقد أشير إلى القطن والحرير والكتان في لفظ السرابيل ، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة ، هذا قول أبي زيد الأنصاري ، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.

قال القاضي أبو محمد : والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم : لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة ، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف ، وقوله (إِلى حِينٍ) يريد به وقتا غير معين ، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [الوافر]

أهاجتك الظعائن يوم بانوا

بذي الزيّ الجميل من الأثاث

وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) الآية ، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم ، وأنها الأشياء المباشرة لهم ، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر ، وقوله (مِمَّا خَلَقَ) يعم جميع الأشخاص المظلة ، و «الأكنان» جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك ، و «السرابيل» جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل ، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه ، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا ، والبرد فيها معدوم في الأكثر ، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر ، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط ، قاله الطبري عن عطاء الخراساني ، ألا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم ، قال ابن عباس : إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط.


قال القاضي أبو محمد : وأيضا فذكر أحدهما يدل على الآخر ، ومنه قول الشاعر :

وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

قال القاضي أبو محمد : وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز ، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد ، ومنه قول متمم :

إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا.

ومنه قول الآخر :

في ليلة من جمادى ذات أندية.

البيتين ، وغير هذا ، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع ، ومنه قول كعب بن زهير : [البسيط]

شم العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

وقال أوس بن حجر :

ولنعم حشو الدرع والسربال.

فهذا يراد به القميص ، و «البأس» مس الحديد في الحرب ، وقرأ الجمهور «يتم نعمته» ، وقرأ ابن عباس «تتم نعمته» على أن النعمة هي تتم ، وروي عنه «تتم نعمه» على الجمع وقرأ الجمهور «تسلمون» من الإسلام ، وقرأ ابن عباس «تسلمون» من السلامة ، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب ، وما في «لعل» من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين ، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٨٥)

هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف ، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم ، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه ، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة ، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى ، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها ، هذا قول مجاهد ، فسماهم منكرين للنعمة تجوزا ، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما ، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع ، وقال السدي : «النعمة» هاهنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري ، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة ، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك ، وقوله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) الآية وعيد ، والتقدير واذكر يوم نبعث ويرد


(شَهِيداً) على كفرهم وإيمانهم ، ف «شهيد» بمعنى ، شاهد وذكر الطبري أن المعنى ثم ينكرونها اليوم (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ، أي ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد وقوله (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ) أي لا يؤذن لهم في المعذرة ، وهذا في موطن دون موطن ، لأن في القرآن أن (كُلُّ نَفْسٍ) تأتي (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل فإذا استقرت أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار ، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة ، و (يُسْتَعْتَبُونَ) معناه يعتبون ، يقال أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه ، كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا ، فكأنه قال ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم والعرب تقول استفعل بمعنى أفعل ، تقول أدنيت الرجل واستدنيته وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.

قال القاضي أبو محمد : فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم ، وقال الطبري معنى (يُسْتَعْتَبُونَ) يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل. وقوله (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) الآية ، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب الله وشارفوها وتحققوا كنه شدتها ، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم ، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا ، فإن الإنسان لا يتوقع أمرا من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه ، وكذلك متى حل به كان طامعا في أن يخف ، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيرا ، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير.

قوله عزوجل :

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٨٩)

أخبر الله تعالى في هذه الآية أن المشركين إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله لأنها تحشر معهم توبيخا لهم على رؤوس الأشهاد أشاروا إليهم وقالوا هؤلاء كنا نعبد من دون الله ، أرادوا بذلك تذنيب المعبودين وإدخالهم في المعصية ، وأضافوا الشركاء إلى أنفسهم من حيث هم جعلوهم شركاء ، وهذا كما يصف رجل آخر بأنه خير فتقول أنت ما فعل خيرك فأضفته إليه من حيث وصفه هو بتلك الصفة ، والضمير في «أقول» عائد على الشركاء ، فمن كان من المعبودين من البشر ألقى القول المعهود بلسانه ، وما كان من الجمادات تكلمت بقدرة الله بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله ، ففي هذا وقع الكذب لا في العبادة وقال الطبري : المعنى إنكم لكاذبون ، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا.


قال القاضي أبو محمد : فكأنهم كذبوهم في التذنيب لهم وقوله (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ) ، الضمير في (أَلْقَوْا) عائد على المشركين ، والمعنى ألقوا إليه الاستسلام ، وألقوا ما بأيديهم وذلوا لحكمه ، ولم تكن لهم حيلة ولا دفع ، و (السَّلَمَ) الاستسلام ، وقرأ الجمهور «السلم» بفتح اللام ، وروى يعقوب عن أبي عمرو سكون اللام ، وقرأ مجاهد «السّلم» بضم السين واللام ، وقوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ) معناه وتلف عنهم كذبهم على الله وافتراؤهم الكفر والتشريك ، وقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، في ضمن قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) لأنه حل بهم عذاب الله وباشروا نقمته ، ثم فسره فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين وسلوك سبيل الله زادهم عذابا أجلّ من العذاب العام لجميع الناس عقوبة على إفسادهم ، فيحتمل أن يكون قوله (الَّذِينَ) بدلا من الضمير في (يَفْتَرُونَ) ، و (زِدْناهُمْ) فعل مستأنف إخباره ، ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) ابتداء و (زِدْناهُمْ) خبره ، وروي في ذلك أن الله تعالى يسلط عليهم عقارب وحيات لها أنياب كالنخل الطوال ، قاله ابن مسعود ، وقال عبيد بن عمير : لها أنياب كالنخل وعقارب كالبغال الدهم ، ونحو هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، إن لجهنم سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب ، فيفر الكافر إلى السواحل من النار ، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب ، فيفرون منها إلى النار فتتبعهم حتى تجد حر النار ، فترجع ، قال وهي في أسراب ، وقوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) الآية ، هذه الآية في ضمنها وعيد ، والمعنى واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليها ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شهيدا من الصالحين مع الرسل ، وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة ، (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بحسب أن بعثة الرسل كذلك ، في الدنيا وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير وفهم الأغراض والإشارات يتمكن له إفهامهم والرد على معانديهم ، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة ، فلذلك لم يبعث الله قط نبيا إلا من الأمة المبعوث إليهم ، وقوله (هؤُلاءِ) إشارة إلى هذه الأمة و (الْكِتابَ) القرآن ، وقوله (تِبْياناً) اسم وليس بالمصدر ، وهو كالنقصان ، والمصادر في مثل هذا ، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار ، ونصب (تِبْياناً) على الحال. وقوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) أي مما يحتاج في الشرع ولا بد منه في الملة كالحلال والحرام والدعاء إلى الله والتخويف من عذابه ، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين ، وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية.

قوله عزوجل :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٩١)

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أجمل آية في كتاب الله آية في سورة النحل ، وتلا هذه الآية ،


وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب ، فتعجب وقال : يا آل غالب ، اتبعوه تفلحوا فو الله ، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق ، وحكى النقاش قال : يقال زكاة العدل الإحسان ، وزكاة القدرة العفو ، وزكاة الغنى المعروف ، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.

قال القاضي أبو محمد : و «العدل» هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف وإعطاء الحق ، (وَالْإِحْسانِ) هو فعل كل مندوب إليه ، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه ، ومنها ما هو فرض ، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل ، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان ، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري : «العدل» لا إله إلا الله ، و (الْإِحْسانِ) أداء الفرائض.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القسم الأخير نظر ، لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث سؤال جبريل عليه‌السلام ، وذلك هو العدل ، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه ، حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه في حديث سؤال جبريل عليه‌السلام ، بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد أداء الفرائض مكملة (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهما أبلغ ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به في جانب (ذِي الْقُرْبى) داخل تحت «العدل» و (الْإِحْسانِ /) ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به وحضا عليه ، و (الْفَحْشاءِ) الزنى ، قاله ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة وفاعلها أبدا متستر بها ، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج ، والمنكر أعم منه ، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها ، و (الْبَغْيِ) هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه ، وهو داخل تحت (الْمُنْكَرِ) لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره بالناس ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الباغي مصروع ، وقد وعد الله تعالى من بغي عليه بالنصر» ، وفي بعض الكتب المنزلة : لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا.

قال القاضي أبو محمد : وتغيير المنكر فرض على الولاة ، إلا أن المغير لا يعنّ لمستور ، ولا يعمل ظنا ، ولا يتجسس ، ولا يغير إلا ما بدت صفحته ، ويكون أمره ونهيه بمعروف ، وهذا كله لغير الولاة ألزم وفرض على المسلمين عامة ، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلا ، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطانا ، فإن عدمه غير بيده ، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمدارأة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع ، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد تقي وغير تقي ، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب ، وقد ذم الله تعالى قوما بأنهم لم يتناهوا عن منكر فعلوه ، فقد وصفهم بفعله وذمهم لما لم يتناهوا عنه وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه ، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية


شروط ، وروي أن جماعة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي ، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يبينوا عليه كبيرة ظلم ، ولا جوروه له في شيء ، فقام فتى من القوم ، فقال يا أمير المؤمنين : إن الله أمر (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، وأنه عدل ولم يحسن ، قال : فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل ، وقوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) ، الآية مضمن قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، افعلوا كذا وانتهوا عن كذا ، فعطف على ذلك التقدير قوله (وَأَوْفُوا) ، و «عهد الله» لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة ، وبالجملة كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه ، كان فيه نفع للغير أو لم يكن ، وقوله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان تهمما بها وتنبيها عليها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير». ويقال تأكيد وتوكيد ووكد وأكد وهما لغتان ، وقال الزجاج : الهمزة مبدلة من الواو.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ، لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك ، و (كَفِيلاً) معناه متكفلا بوفائكم ، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، رواه أبو ليلى عن مزيدة ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فزادها الإسلام شدة.

قال القاضي أبو محمد : كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة» ، وهذا حديث معنى ، وإن كان السبب بعض هذا الأشياء ، فالألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين.

قوله عزوجل :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٣)

شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكما ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت سعد كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي


ولم يسميا المرأة ، وقيل كانت امرأة موسوسة تسمى خطية تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة و (أَنْكاثاً) نصب على الحال ، والنكث النقض ، و «القوة» في اللغة واحدة قوى الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :

حبل عجوز فتلت سبع قوى

ويظهر لي أن المراد ب «القوة» في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ولو قدرناها واحدة القوى لم يكن معها ما ينقض (أَنْكاثاً) ، والعرب تقول أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى من بعد إمرار قوة ، و «الدخل» الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة و «الربا» الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم أي أزيد خيرا ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و (يَبْلُوكُمُ) معناه يختبركم ، والضمير في (بِهِ) يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله (هِيَ أَرْبى) موضع (أَرْبى) عند البصريين رفع وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين لأنه لا يكون مع النكرة ، و (أُمَّةٌ) نكرة ، وحجة الكوفيين أن (أُمَّةٌ) وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) الآية ، أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي ليذهب كل أحد إلى ما يسر له ، وذلك منه تعالى بحق الملك ، وأنه لا يسأل عما يفعل ، ولو شاء لكان الناس كلهم في طريق واحد ، إما في هدى وإما في ضلالة ، ولكنه تعالى شاء أن يفرق بينهم ،. ويخص قوما بالسعادة وقوما بالشقاوة و (يُضِلُ) و (يَهْدِي) معناه يخلق ذلك في القلوب خلافا لقول المعتزلة ، ثم توعد في آخر الآية بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله ، وهذا سؤال توبيخ ، وليس ثم سؤال تفهم ، وذلك هو المنفي في آيات.

قوله عزوجل :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ


بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٧)

كرر النهي عن اتخاذ الأيمان (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تهمما بذلك ومبالغة في النهي عنه ، لعظم موقعه من الدين وتردده في معاشرات الناس ، و «الدخل» كما قلنا الغوائل الخدائع ، وقوله (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإحسان من حال خير إلى حال شر ، ومن هذا المعنى قول كثير :

فلما توافينا ثبت وزلت

أي تنقلت من حال إلى حال ، فاستعار لها الزلل ، ومنه يقال لمن أخطأ في شيء : زل فيه ، ثم توعد بعد بعذاب في الدنيا و (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة ، وقوله (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) الآية ، هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ أو تركه ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها ، فمن أخذ على ذلك مالا فقد أعطى عهد الله وأخذ قليلا من الدنيا ، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى ، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، أو ينقضي عنها ، ومنن الآخرة باقية دائمة ، وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزين» بنون ، وقرأ الباقون «وليجزين» بالياء ولم يختلفوا في قوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أنه بالنون ، كذا قال أبو علي ، وقال أبو حاتم : إن نافعا روي عنه «وليجزينهم» بالياء ، و (صَبَرُوا) معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعة وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة ، وقوله (بِأَحْسَنِ) أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون ، وقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) يعم جميع أعمال الطاعة ، ثم قيده بالإيمان ، واختلف الناس في «الحياة الطيبة» فقال ابن عباس والضحاك : هو الرزق الحلال ، وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي القناعة وهذا طيب عيش الدنيا ، وقال ابن عباس أيضا : هي السعادة ، وقال الحسن البصري : «الحياة الطيبة» هي حياة الآخرة ونعيم الجنة.

قال القاضي أبو محمد : وهناك هو الطيب على الإطلاق ، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا ، والذي أقول : إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، فبهذا تطيب حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة ، أو قناعة فذلك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب وجاء قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) على لفظ (مَنْ) ، وقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) على معناها ، وهذا وعد بنعيم الجنة ، وباقي الآية بين ، وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال : نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا ، وقال كل منهم ملتي أفضل ، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل.


قوله عزوجل :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(١٠٣)

الفاء في قوله (فَإِذا) واصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية فإذا أخذت في قراءة القرآن كما قال عزوجل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وكما تقول لرجل إذ أكلت فقل : بسم الله ، و «الاستعاذة» ندب عند الجميع ، وحكى النقاش عن عطاء أن التعوذ واجب ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة الآية ، وقد ذكرت الخلاف الذي قيل فيه في صدر هذا الكتاب ، و (الرَّجِيمِ) المرجوم باللغة وهو إبليس ، ثم أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة ، هذا ظاهر «السلطان» عندي في هذه الآية ، وذلك أن «السلطان» إن جعلناه الحجة فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر ، اللهم إلا أن يتأول متأول (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) يوم القيامة ، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم ، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون ، لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه ، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك ، إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي وهم الذين قال الله فيهم (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] وهم الذين قال إبليس فيهم (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٤٠] ، و (يَتَوَلَّوْنَهُ) معناه يجعلونه وليا ، والضمير فيه يحتمل أن يعود على اسم الله عزوجل ، والظاهر أنه يعود على اسم إبليس ، بمعنى من أجله وبسببه ، كما تقول لمعلمك : أنا عالم بك ، أي بسببك ، فكأنه قال : والذين هم بسببه مشركون بالله ، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة ، تقتضي أن الاستعاذة تتصرف كيده ، كأنها متضمنة للتوكل على الله والانقطاع إليه ، وقوله (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها ، لأن هذا كله يقع عليه التبديل ، يقولون : لو كان هذا من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد ، فأخبر الله عزوجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا ، وقرأ الجمهور «ينزّل» بفتح النون وشد الزاي ، وقرأ أبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، وعبّر ب «الأكثر» مراعاة لما كان عند قليل منهم من توقف وقلة مبالغة في التكذيب والظن ، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ قرر على قليل منهم أنهم يعلمون ويكفرون تمردا


وعنادا ، وأمر نبيه أن يخبر أن القرآن وناسخه ومنسوخه إنما نزله جبريل عليه‌السلام وهو (رُوحُ الْقُدُسِ) ، لا خلاف في ذلك ، و (الْقُدُسِ) الموضع المطهر ، فكأن جبريل أضيف إلى الأمر المطهر بإطلاق ، وسمي روحا إما لأنه ذو روح من جملة روح الله الذي بثه في خلقه ، وخص هو بهذا الاسم ، وإما لأنه يجري من الهدايات والرسالات ومن الملائكة أيضا مجرى الروح من الأجساد لشرفه ومكانته ، وقرأ ابن كثير «القدس» بسكون الدال ، وقرأ الباقون «القدس» بضمها ، وقوله (بِالْحَقِ) أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأحكامه ومصالحه ، وأخباره ، ويحتمل أن يكون قوله (بِالْحَقِ) بمعنى حقا ، ويحتمل أن يريد (بِالْحَقِ) في أن ينزل أي أنه واجب لمعنى المصلحة أن ينزل ، وعلى هذا الاحتمال اعتراضات عند أصحاب الكلام على أصول الدين ، وباقي الآية بين وقوله (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) ، قال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له بلعام ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه ويعلمه الإسلام ويرومه عليه فقالت قريش : هذا يعلم محمدا من جهة الأعاجم ، فنزلت الآية بسببه ، وقال عكرمة وسفيان : كان اسم الغلام يعيش ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان بمكة غلامان أحدهما اسمه جبر والآخر يسار ، وكانا يقرآن بالرومية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليهما ، فقالت قريش ذلك ، ونزلت الآية ، وقال ابن إسحاق : والإشارة إلى جبر ، وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة بمدة وقرأت فرقة «لسان الذي» ، وقرأ الحسن البصري «اللسان الذي» بالتعريف وبغير تنوين في رأي بشر ، وقرأ نافع وابن كثير «يلحدون» بضم الياء من ألحد إذا مال ، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر وأبي جعفر بن القعقاع ، وقرأ حمزة والكسائي «يلحدون» بفتح الياء من لحد ، وهي قراءة عبد الله وطلحة وأبي عبد الرحمن والأعمش ومجاهد ، وهما بمعنى ، ومنه قول الشاعر : [الرمل]

قدني من نصر الخبيبين قدي

ليس أمري بالشحيح الماحد

يريد المائل عن الجود وحال الرياسة ، وقوله (أَعْجَمِيٌ) إضافة إلى أعجم لا إلى العجم لأنه كان يقول عجمي ، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية ، وأما العجمي فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة ، وقوله (وَهذا) إشارة إلى القرآن والتقدير ، وهذا سرد لسان ، أو نطق لسان ، فهو على حذف مضاف ، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة ، و «اللسان» في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية ، واللسان الخبر ومنه قول الأعشى : إني أتتني لسان غير كاذبة.

ومنه قول الآخر : [الوافر]

لسان السوء يهديها إلينا

وجيت وما حسبتك أن تجينا

وحكى الطبري عن سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، (إِنَّما) هي إشارة إلى كاتب كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أواخر الآيات : «والله سميع عليم» ، أو «عزيز حكيم» ، أو نحو هذا ، ثم يشتغل بسماع الوحي ، فيبدل هو بغفور رحيم أو نحوه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الآيات : هو كما كتبت ، ففتن ، وقال أنا


أعلم محمدا ، وارتد ولحق بمكة ، ونزلت الآية فيه.

قال القاضي أبو محمد : هذا نصراني أسلم وكتب ، ثم ارتد ولحق بمكة ومات ، ثم لفظته الأرض ، وإلا فهذا القول يضعف لأن الكاتب المشهور الذي ارتد لهذا السبب ولغيره من نحوه هو عبد الله بن أبي سرح العامري ، ولسانه ليس بأعجمي فتأمله.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠٦)

المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر ، تهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم ، وذلك كقوله تعالى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] والمراد ما ذكرناه فكأنه قال إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله ، وقوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) بمعنى يكذب ، وهذه مقاومة للذين قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنت مفتر ، و (إِنَّما) أبدا حاصرة ، لكن حصرها يختلف باختلاف المعاني التي تقع فيها ، فقد يربط المعنى أن يكون حصرها حقيقيا كقوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] وقد يقتضي المعنى أن يكون حصرها تجوزا ومبالغة ، كقولك : إنما الشجاع عنترة ، وهكذا هي في هذه الآية ، قال الزجاج : يفتري هذا الصنف لأنهم إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله ، كذبوا بها ، فهذا أفحش الكذب ، وكرر المعنى في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لفائدة إيقاع الصفة بالكذب عليهم إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به ، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضه الخبر فبدأ في هذه الآية بالخبر ، ثم أكد بالصفة ، وقد اعترض هذا النظر مكي ، وليس اعتراضه بالقوي ، و (مَنْ) في قوله (مَنْ كَفَرَ) بدل من قوله (هُمُ الْكاذِبُونَ) ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله ، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يتأكد بما روي من أن قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد ، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة ، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذبونهم ليرتدوا ، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده ، ثم ابتدأ الإخبار : «أن من شرح


صدرا بالكفر فعليهم» ، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة (مَنْ) في قوله (مَنْ كَفَرَ) ابتداء ، وقوله (مَنْ شَرَحَ) تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه ، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب (وَلكِنْ) ، وقوله (فَعَلَيْهِمْ) خبر (مَنْ) الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى ، لأن الإخبار في قوله (مَنْ كَفَرَ) إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر ، و (صَدْراً) نصب على التمييز ، وقوله (شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) معناه انبسط إلى الكفر باختياره ، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامع به من القول ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف تجد قلبك؟ قال : أجده مطمئنا بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد.

قال القاضي أبو محمد : ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه ؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قولا واحدا فيما أحفظ ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف ، فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية ، وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه ، وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله.

قال القاضي أبو محمد : وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه ، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل ، فكيف لهذا ، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به ، فقصر الرحمة على القول ، ولم يذكر الفعل.

قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بحجة لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه ، فأما الإكراه على البيع والإيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عزوجل ، فلا يلزم المكره شيء من ذلك ، قاله مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك ، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية ، وقال : لا تقية فيما كان فعلا كشرب الخمر والفطر في رمضان ، ولا يحل فعلها لمكره ، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، قال مطرف : ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب ، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه ، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال ، هو لها ضامن كالغاصب ، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم ، قال مطرف : وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه ، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه ، ولا


استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد كالزنا والقتل أو نحوه ، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم : لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله ، فإن فعل فهو آثم ، ويلزمه الحد والقود ، قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد.

قال القاضي أبو محمد : ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين ، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه ، فقد يكون الضرب إكراها في شيء دون شيء ، فلهذه النوازل فقه الحال ، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة ، قال ابن الماجشون : وسواء حلف فيما هو لله طاعة ، أو فيما هو لله معصية ، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية ، فاليمين فيه ساقطة ، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمرا أو لا يفسق أو لا يغش في عمله ، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديبا له ، فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب ، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مطرف : لا تقية في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله ، وقال ابن الماجشون : لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه ، وقال ابن القاسم بقول مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب ، قال مطرف وابن الماجشون : وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه ، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب وإنما حلف خوفا من ضربه أو قتله أو أخذ ماله فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث ، وإذا اتهم الوالي أحدا بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي ، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية ، فالتقية في هذا ، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ويكون نظر الوالي فيه صوابا فلا تقية في اليمين ، وهو حانث ، قاله مالك وابن الماجشون.

قال القاضي أبو محمد : فهذه نبذة من مسائل الإكراه.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

قوله (ذلِكَ) إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية ، والضمير في أنهم


ل (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل : ١٠٦] ، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين ، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره ، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب ، وقوله (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم ، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر ، فجمعت الآية بين الأمرين ، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة ، وقوله (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم ، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي ، وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية ، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى ، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم ، وتغليب الإعراض على نظرهم ، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل ، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة ، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ و «السمع» اسم جنس وهو مصدر في الأصل ، فلذلك وحد ، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر ، فوصفهم ب «الغفلة» ، وقد تقدم شرح (لا جَرَمَ) في هذه السورة ، وقوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨ العنكبوت : ١٠] إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل.

قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا ، وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم ، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد.

قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدرا فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافا ، وإن وجد فهو ضعيف ، وقرأ الجمهور «من بعد ما فتنوا» بضم الفاء وكسر التاء ، وقرأ ابن عامر وحده «فتنوا» بفتح الفاء والتاء ، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول ، كما فعل عمار ، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون ، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان ، والضمير في (بَعْدِها) عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح ، وقوله (يَوْمَ تَأْتِي كُلُ


نَفْسٍ) المعنى لغفور رحيم يوم ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ) أي كل ذي نفس ، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأتت العلامة ، و (نَفْسٍ) الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى الذات ، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته ، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أن كل نفس (تُجادِلُ) كانت مؤمنة أو كافرة ، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف ، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن ، وقالت فرقة : «الجدال» قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي ، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة.

قوله عزوجل :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١١٤)

قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد. وكانت الأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية ، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية ، فأصابتهم السنون والخوف ، وسرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزواته ، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب.

قال القاضي أبو محمد : وإن كانت هي التي ضربت مثلا فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه ، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة ، فقيل لها قتل فقالت : والذي نفسي بيده ، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها ، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) الآية.

قال القاضي أبو محمد : فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت : إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلا ، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور الملل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلا ، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلا لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة ، و (رَغَداً) نصب على الحال و «أنعم» جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب «أنعم» جمع نعم وهي بمعنى التنعيم ، يقال هذه أيام


طعم ونعم وقوله (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى : [المتقارب]

إذا ما الضجيع ثنى جيدها

تثنّت عليه فصارت لباسا

ونحوه قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وقد لبست بعد الزبير مجاشع

ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما

كأن العار لما باشرهم وألصق بهم جعلهم لبسوه ، قوله «أذاقها» نظير قوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ونظير قول الشاعر :

دونك ما جنيته فأحسن وذق

وقرأ الجمهور : «والخوف» عطفا على (الْجُوعِ) وقرأ أبو عمرو : بخلاف عنه «والخوف» عطفا على قوله (لِباسَ) ، وفي مصحف أبي بن كعب «لباس الخوف والجوع» ، وقرأ ابن مسعود ، «فأذاقها الله الخوف والجوع» ولا بذكر (لِباسَ) ، والضمير في (جاءَهُمْ) لأهل مكة ، والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْعَذابُ) الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط ، وذكر الطبري أنه القتل ببدر ، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة ، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة ، فيحتمل أن يكون الضمير في (جاءَهُمْ) لأهل تلك المدينة ، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل. وقوله (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) الآية ، هذا ابتداء كلام آخر ، ومعنى حكم ، والفاء في قوله (فَكُلُوا) الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة ، هذا قول ، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى ، أي وأنتم أيها المؤمنون لستم كهذه القرية ، (فَكُلُوا) واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سننا وحرموا بعضا وأحلوا بعضا فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله (حَلالاً) حال ، وقوله (طَيِّباً) أي مستلذا ، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيدا وباقي الآية بين ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إقامة للنفوس كما تقول لرجل : إن كنت من الرجال فافعل كذا ، على معنى إقامة نفسه ، وذكر الطبري : أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطابا للكافر عن طعام كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إليهم في جوعهم ، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه.

قوله عزوجل :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ


باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٥)

حصرت (إِنَّما) هذه المحرمات وقت نزول الآية ، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس : «الميتة» ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «الميّتة» وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارئ عليه ، والعامل في نصبها (حَرَّمَ) ، وقرأت فرقة «الميتة» بالرفع على أن تكون «ما» بمعنى الذي.

قال القاضي أبو محمد : وكون «ما» متصلة «بإن» يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و «ما» كافة ، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة ، وذلك خلاف خط المصحف ، وقرأ الجمهور «حرم» على معنى حرم الله ، وقرأت فرقة «حرّم» على ما لم يسم فاعله ، وهذا برفع «الميتة» ولا بد.

قال القاضي أبو محمد : و (الْمَيْتَةَ) المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه ، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب ، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء (وَالدَّمَ) المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفردا وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه ، ولا يكلف أحد تتبعه ، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك ، (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) هو معظمه والمقصود الأظهر فيه ، فلذلك خصه بالذكر ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه ، والأولى تحريمه جملة ، وأما شعره فالانتفاع به مباح ، وقالت فرقة ذلك غير جائز ، والأول أرجح ، وقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواء ، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم ، لكن خرجت العبارة عن ذلك ب (أُهِلَ) ، ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به ، وقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) قالت فرقة : معناه أكره وقال الجمهور : معناه اضطره جوع واحتياج ، وقرأت فرقة «فمن» بضم النون «اضطر» بضم الطاء ، وقرأت فرقة «فمن» بكسر النون «اضطر» بكسر الطاء ، على أن الأصل اضطرت ، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء ، وقالت فرقة : «الباغي» صاحب البغي على الإمام ، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي ، و «العادي» بمعناه في أنه ينوي المعصية ، وقال الجمهور : (غَيْرَ باغٍ) معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها ، (وَلا عادٍ) معناه لا يعدو حدود الله في هذا ، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة ، وقالت فرقة : (باغٍ) و (عادٍ) في الشبع والتزود ، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة ، فقالت فرقة : الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط ، وقالت فرقة : بل يجوز الشبع التام ، وقالت فرقة منهم مالك رحمه‌الله : يجوز الشبع والتزود ، وقال بعض النحويين في قوله (عادٍ) إنه مقلوب من عائد ، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر : لأن بها الأشياء والعنبري ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر ، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجا وتضييقا في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات ، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لو لا ضرورته.


قال القاضي أبو محمد : وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء ، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه ، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافا.

قوله عزوجل :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) [الأنعام : ١٣٩] والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم ، ومنه ما جعلوه في الشهور ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «الكذب» بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء ، و «ما» مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب ، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن ، «الكذب» بخفض الباء على البدل من «ما» ، وقرأ بعض أهل الشام ومعاذ بن جبل وابن أبي عبلة «الكذب» بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة ، وقرأ مسلمة بن محارب «الكذب» بفتح الباء «الكذب» بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب ، وقوله (هذا حَلالٌ) إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا ، وقوله (وَهذا حَرامٌ) إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا ، وقوله (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها ، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق ، وهذا مراد الله ، ثم أخبرهم الله (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) لا يبلغون الأمل ، و «الفلاح» بلوغ الأمل ، فطورا يكون في البقاء كما قال الشاعر ، والصبح والمسى لا فلاح معه ، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى ، يقوي ذلك قوله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) ، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد : [الرجز]

أفلح بما شئت فقد يبلغ

بالضعف وقد يخدع الأريب

وقوله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) إشارة إلى عيشهم في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بعد ذلك في الآخرة. وقوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) الآية ، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضا بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم ، وقولهم (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) ، إشارة إلى ما في سورة الأنعام «من ذي الظفر والشحوم» الآية : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)


[الأنعام : ١٤٦] وقوله (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها ، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك. وقوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) هذه آية تأنيس لجميع العالم ، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب ، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة ، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم ، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص. وقالت فرقة «الجهالة» العمد ، و «الجهالة» عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أو أجهل أو يجهل علي». وهي التي في قول الشاعر : [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيرا ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر ، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع. والضمير في (بَعْدِها) عائد على التوبة.

قوله عزوجل :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٢٤)

لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم ، أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضا ، و (أُمَّةً) لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس ، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى (أُمَّةً) ، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه‌السلام (أُمَّةً) ، قال ابن مسعود: «الأمة» معلم الخير ، وكان معاذ بن جبل «أمة قانتا» ، وقال في بعض أوقاته إن معاذا كان (أُمَّةً قانِتاً) فقال قرة الكندي أو فروة بن نوفل : ليس كذلك إنما هو إبراهيم ، فقال أتدري ما الأمة ، هو معلم الخير وكذلك كان معاذ يعلم الخير ويطيع الله ورسوله ، وقال مجاهد : سمي إبراهيم (أُمَّةً) لانفراده بالإيمان في وقته مدة.

قال القاضي أبو محمد : وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك ، وقال بعض النحويين ، أظنه أبا الحسن الأخفش : «الأمة» فعلة من أم يؤم فهو كالهزأة والضحكة أي يؤتم به.

قال القاضي أبو محمد : ف (أُمَّةً) على هذا صفة ، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة ، و «القانت» المطيع الدائم على العبادة ، و «الحنيف» المائل إلى الخير والإصلاح ، وكانت العرب تقول ، لمن يختتن ويحج البيت حنيفا ، وحذف النون من «لم يكن» لكثرة الاستعمال كحذفهم من لا أبال ولا أدر ، وهو أيضا


يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك ، فكأن «لم» دخلت على «يكن» في حال الجزم. ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة : ١] ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة ، وقوله (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه‌السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم ، و (شاكِراً) ، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم ، و «الأنعم» جمع نعمة ، و (اجْتَباهُ) معناه تخيره ، وباقي الآية بين. وقوله (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الآية ، «الحسنة» لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق ، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب. وقوله (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم ، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا ، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين ، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة ، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية. وقوله (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية ، الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم ، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به و (أَنِ) في قوله (أَنِ اتَّبِعْ) مفسرة ، ويجوز أن تكون مفعولة ، و «الملة» الطريقة في عقائد الشرع ، و (حَنِيفاً) حال ، والعامل فيه الفعلية التي في قوله (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المرفوع في (اتَّبِعْ) قال مكي : ولا يكون حالا من إبراهيم ، لأنه مضاف إليه : وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال ، كقولك مررت بزيد قائما ، وقوله (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه ، قاله ابن زيد ، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة ، فقال جمهورهم : بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته ، فقال غيرهم : بل نقبل ما أمر الله به موسى ، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فألزمهم الله يوم السبت إلزاما قويا عقوبة لهم منه ، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم ، وقرأ الأعمش «إنما أنزلنا السبت» ، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة «جعل» بفتح الجيم والعين.

قال القاضي أبو محمد : وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه» ، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث ، وباقي الآية وعيد بين.

قوله عزوجل :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ


وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين ، أمره الله تعالى أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف ، وهو أن يسمع المدعو حكمه ، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع ، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل ، ونحو هذا ، فهذه حالة من يدعى وحالة من يجادل دون مخاشنة ، ويبين عليه دون قتال ، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن الله تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي ، وعلم من يضل ، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم الله قد سبق بالمهتدي منهم والضال ، وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة هي محكمة.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة ، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة ، وأيضا فهي محكمة في جهة العصاة ، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. وقوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) الآية ، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري ، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله ، ولكن ما روى الجمهور أثبت ، وأيضا فقوله (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين» ، وفي كتاب النحاس وغيره «بتسعين» منهم فقال الناس : «إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن» ، فنزلت هذه الآية ، ثم عزم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصبر في الآية بعدها ، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة ، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول ، وهذا بعكس قوله (مَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ، وقوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ، فإن الثاني هو المجاز ، والأول هو الحقيقة ، وقرأ ابن سيرين : «وإن عقبتم فعقبوا» ، وحكى الطبري عن فرقة : أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره ، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه ، فقالت فرقة : له ذلك ، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد ، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها ، وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك ، واحتجوا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدّ الأمانة إلى من استأمنك ولا تخن من خانك».


قال القاضي أبو محمد : ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار الرجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه‌الله ، لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها ، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل ، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها ، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم ، وقوله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) الآية ، هذه العزيمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى ، قال ابن زيد : هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون؟» ، قالوا : نصبر يا رسول الله كما ندبنا ، وقوله : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي بمعونة الله وتأييده لك على ذلك ، والضمير في قوله (عَلَيْهِمْ) قيل يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا ، وقالت فرقة : بل يعود على القتلى : حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة ، وقرأ الجمهور في «ضيق» بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير في «ضيق» بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه ، قال بعض اللغويين : الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة : الضيق مصدر والضّيق مخفف من ضيّق كميت وميت ، وهين وهيّن ، قال أبو علي الفارسي : والصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر لأنه إن كان مخففا من ضيّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف ، وليس هذا موضع ذلك.

قال القاضي أبو محمد : الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة ، كما تقول رأيت ضاحكا فإنما تخصص الإنسان ، ولو قلت : رأيت باردا لم تحسن ، وببارد مثل سيبويه رحمه‌الله «وضيق» لا يخصص الموصوف ، وقال ابن عباس وابن زيد : إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ ، وقوله : (مَعَ الَّذِينَ) أي بالنصر والمعونة والتأييد ، و (اتَّقَوْا) يريد المعاصي ، و (مُحْسِنُونَ) معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير.

كمل تفسير سورة النحل بعون الله وتأييده

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الإسراء

هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، قوله عزوجل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء : ٧٣] ، وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) [الإسراء : ٧٦] ، نزلت حين جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ثقيف ، وحين قالت اليهود ليس هذه بأرض الأنبياء ، وقوله عزوجل : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] ، وقوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] ، وقال مقاتل وقوله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) [الإسراء : ٨٥] ، قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف ، إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن من قديم كسبه.

قوله عزوجل :

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١)

لفظ الآية يقتضي أن الله عزوجل أسرى بعبده ، وهو محمد عليه‌السلام ، ويظهر أن (أَسْرى) هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره ، أسرى الملائكة بعبده ، وكذلك يقلق أن يسند (أَسْرى) وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى ، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة ، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعيا ، وأتيته هرولة» حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و (أَسْرى) في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذا اللفظ ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته و (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) [النحل : ٢٦] ويحتمل أن يكون (أَسْرى) بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابيا ، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله ، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه ، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته ، إلا في صعوده إلى السماء ، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري


بنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عزوجل ، وجوزه الحسن وابن إسحاق ، والحديث ، قال القاضي أبو محمد ، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما ، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب ، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم ، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري : البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام.

قال القاضي أبو محمد : يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشا التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أم هاني : لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل ، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] ، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا ، واحتج أيضا بأن في بعض الأحاديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم ، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه‌السلام ، وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيرا ، ولم يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (سُبْحانَ) مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل ، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى (سُبْحانَ) ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفا ، هذا كله مذهب سيبويه فيه ، وقالت فرقة : قال القاضي أبو محمد : نصبه على النداء كأنه قال : «يا سبحان» ، قال القاضي أبو محمد الذي ، وهذا ضعيف ومعناه تنزيها لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما معنى سبحان الله؟ قال : «تنزيها لله من كل سوء» ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء ، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيها فوقع (سُبْحانَ) مكان قولك تنزيها ، وقال قوم من المفسرين : (أَسْرى) فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى ، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة ، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام» ، وقوله من (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، قال أنس بن مالك : أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال : هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه‌السلام أنه قال : «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة» ، الحديث بطوله. وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام ، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه‌السلام : «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان» ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال : أسري بالنبي عليه‌السلام من شعب أبي طالب ، وقالت فرقة : (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة ، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء في بيتي ، وروي بعضها عن النبي عليه‌السلام ، أنه قال : «خرج سقف بيتي» وهذا يلتئم مع قول أم هاني ، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام ، وقاله قتادة ، وقيل بعام ونصف ، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك


في رجب ، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه : وذلك قبل الوحي إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك ، و (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) ، مسجد بيت المقدس ، وسماه (الْأَقْصَى) أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة ، ويحتمل أن يريد ب (الْأَقْصَى) البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة. و «البركة حوله» هي من جهتين ، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه ، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وروي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس» وقوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يريد لنري محمدا بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، ويحتمل أن يريد لنري محمدا للناس آية ، أي يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب ، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة. وقوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمدا في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي (هُوَ السَّمِيعُ) لما تقولون (الْبَصِيرُ) بأفعالكم.

قوله عزوجل :

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)(٤)

عطف قوله : (وَآتَيْنا) على ما في قوله (أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] من تقدير الخبر ، كأنه قال أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا ، و (الْكِتابَ) التوراة ، والضمير في (جَعَلْناهُ) يحتمل أن يعود على (الْكِتابَ) ويحتمل أن يعود على (مُوسَى). وقوله (أَلَّا تَتَّخِذُوا) يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب بتقدير كراهية أن موضع خفض بتقدير لأن لا تتخذوا ، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي كما قال (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) [ص : ٦] فهي في هذا مع أمر موسى وهي في آياتنا هذه مع نهي ، والمعنى مع هذه التقديرات فعلنا ذلك لئلا تتخذوا يا ذرية ، ويحتمل أن يكون (ذُرِّيَّةَ) مفعولا ، ويحتمل أن تكون «أن» زائدة ويضمر في الكلام قول تقديره قلنا لهم : لا تتخذوا ، وأما أن يضمر القول ولا تجعل «أن» زائدة فلا يتجه ، لأن ما بعد القول إما يكون جملة تحكى ، وإما أن يكون ترجمة عن كلام لا هو بعينه ، فيعمل القول في الترجمة كما تقول لمن قال : لا إله إلا الله قلت حقا ، وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا) ليس بواحد من هذين ، قاله أبو علي وقرأ جمهور الناس «تتخذوا» بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وحده «ألا يتخذوا» بالياء على لفظ الغائب ، وهي قراءة بن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبي رجاء ، و «الوكيل» هنا فعيل من التوكل أي


متوكلا عليه في الأمور ، فهو ند لله بهذا الوجه ، قال مجاهد (وَكِيلاً) شريكا ، وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها ، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضا بكسرها ، وكل هذا بشد الراء والياء ، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة ، و (ذُرِّيَّةَ) وزنها فعولة ، أصلها ذرورة ، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته ، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء ، وكل هؤلاء قرؤوا (ذُرِّيَّةَ) بالنصب ، وذلك متجه إما على المفعول ب «يتخذوا» ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلها من دون الله ، وإما على النداء أي يا ذرية ، فهذه مخاطبة للعالم ، قال قوم : وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ «تتخذوا» بالتاء من فوق ، ولا يجوز على قراءة من قرأ «يتخذوا» بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد ، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف ، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني ، وإما على البدل من قوله (وَكِيلاً) وهذا أيضا فيه تكلف ، وقرأت فرقة «ذرية» بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في «يتخذوا» وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء ، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت : ضربتك زيدا على البدل لم يجز ، وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم ، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة ، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر ، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش : اسم نوح عبد الجبار ، وقال ابن الكلبي : اسمه فرج ، ووصفه ب «الشكر» لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة ، وقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، قال الطبري : معنى (قَضَيْنا) فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : (قَضَيْنا) هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا (قَضَيْنا) معناه في أم الكتاب.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية (قَضَيْنا) ب (إِلى) ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى. فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعا في إيجاز ، جعل (قَضَيْنا) دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال (قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم. و (الْكِتابِ) هنا التوراة لأن القسم في قوله (لَتُفْسِدُنَ) غير متوجه مع أن يجعل (الْكِتابِ) هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب» على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتفسدن» بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لتفسدن» بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتفسدن» بضم التاء وفتح السين وضم الدال. قوله (وَلَتَعْلُنَ) أي لتتجبرون عن طاعة


الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا.

قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين» آخر الأولى وأول الثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤبدا بأنبياء وقيل سبعون سنة.

قوله عزوجل :

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)(٧)

الضمير في قوله (أُولاهُما) عائد على قوله (مَرَّتَيْنِ) [الإسراء : ٤] وعبر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرح بذكر المعاقبة ، وإذا لم يجىء «الوعد» مطلقا فجائز أن يقع في الشر ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن «عبيدا» ، واختلف الناس في العبيد المبعوثين ، وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا عيونه : أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه‌السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل ، كذا قال ابن إسحاق وابن جبير ، وقال ابن عباس : غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل : غزاهم آخرا ملك اسمه خردوس ، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان ، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء ، وقيل غزاهم أولا صنحابين ملك رومة ، وقيل بختنصر ، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك ، وقالت فرقة : إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء ، وصورة قتله : أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته ، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها : إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين ، فإذا قال لك تمني علي ما أردت ، فقولي رأس يحيى بن زكرياء : ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة ، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك ، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب


حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث ، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه ، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفا ، هذا مقتضى هذا الخبر ، وفي بعض رواياته زيادة ونقص ، فروت فرقة : أن أشعياء النبي عليه‌السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري ، وذكر أشعياء في آخره محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل ، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه ، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشارا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه ، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصا ، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه ، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول ، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرا هو سابور ذو الأكناف ، وقال أيضا ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران ، وآخر ، وقال مجاهد : إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس «فجاس خلال الديار» وتغلب ولكن لم يكن قتال ، ولا قتل في بني إسرائيل ، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر ، وقوله عزوجل (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وهي المنازل والمساكن. وقوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأولى غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال ، وقد قال مؤرج ، «جاسوا خلال الأزقة» ، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصا طويلا منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها ، وقوله (بَعَثْنا) يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاهم وقرأ الناس «فجاسوا» بالجيم ، وقرأ أبو السمال «فحاسوا» بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا ومنه الحواس ، وقيل لأبي السمال إنما القراءة «جاسوا» بالجيم فقال «جاسوا وحاسوا» واحد.

قال القاضي أبو محمد : فهذا يدل على تخير لا على رواية ، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه ، وقرأ الجمهور : «خلال» ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «خلل» ونصبه في الوجهين على الظرف ، وقوله (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) ، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل (رَدَدْنا) موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبلة بالماضي ، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا ، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه ، وحسنت حالهم برهة من الدهر ، وأعطاهم الله الأموال والأولاد ، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس ، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم ، قال قتادة : كانوا (أَكْثَرَ نَفِيراً) في زمن داود عليه‌السلام ، و «نفير» يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب ، وعبد وعبيد ، ويحتمل أن يكون فعيلا بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافرا.

قال القاضي أبو محمد : وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي ينفر سمي بالمصدر ، وقد قال تبع الحميري : [المتقارب]


فأكرم بقحطان من والد

وحمير أكرم بقوم نفيرا

وقالوا : لا في العير ولا في النفير ، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن ، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلما ولا تسرعا إليكم ، و (وَعْدُ الْآخِرَةِ) معناه من المرتين المذكورتين ، وقوله (لِيَسُوؤُا) اللام لام أمر ، وقيل المعنى بعثناهم (لِيَسُوؤُا) فهي لام كي كلها ، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد» ، وقرأ الجمهور : «ليسوءوا» بالياء جمع همزة وبين واوين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوء» بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، وقرأ الكسائي ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء» بنون العظمة ، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن» بنون خفيفة ، وهي لام الأمر ، وقرأ علي بن أبي طالب «لنسوءن» ، وهي لام القسم والفاعل الله عزوجل ، وفي مصحف أبي بن كعب «ليسيء» بياء مضمومة بغير واو ، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم» على الإفراد ، وخص ذكر «الوجوه» لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر ، و (الْمَسْجِدَ) مسجد بيت المقدس ، و «تبر» معناه أفسد بقسم وركوب رأس ، وقوله (ما عَلَوْا) أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد ، وقيل (ما) ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، و «تبر» معناه رد الشيء فتاتا كتبر الذهب والحديد ، ونحوه وهو مفتتة.

قوله عزوجل :

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(١١)

يقول الله عزوجل لبقية بني إسرائيل (عَسى رَبُّكُمْ) إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) و (عَسى) ترّج في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية ، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة ، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك ، و «الحصير» فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم ، وبنحو هذا فسر مجاهد ، وقتادة وغيرهما ، ويقال «الحصير» أيضا من الحصر للملك ومنه قول لبيد : [الكامل]

ومقامة غلب الرقاب كأنهم

جن لدى باب الحصير قيام

ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح : [الطويل]

قليلا تتلى حاجة ثم غولبت

على كل معروش الحصيرين بادن

وقال الحسن البصري في الآية : أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس.

قال القاضي أبو محمد : وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر ، وقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ)


الآية ، (يَهْدِي) في هذه الآية بمعنى يرشد ، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو ، و «التي» يريد بها الحالة والطريقة ، وقالت فرقة ، (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) لا إله إلا الله.

قال القاضي أبو محمد : والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال «التي هي أقوم» من كل حال تجعل بإزائها ، والاقتصار على (أَقْوَمُ) ولم يذكر من كذا إيجاز ، والمعنى مفهوم ، أي (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام ، وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه ، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات : و «الأجر الكبير» الجنة ، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة ، وقوله (إِنَ) الأولى في موضع نصب ب (يُبَشِّرُ) ، و (إِنَ) الثانية عطف على الأولى ، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين ، بشرهم القرآن بالجنة ، وأن الكفار لهم عذاب أليم ، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم ، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى ، هذا الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وقرأ الجمهور ، «ويبشّر» بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين ، وقرأ ابن مسعود ويحيى بن وثاب وطلحة «ويبشر» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، و (أَعْتَدْنا) معناه أحضرنا وأعددنا ومنه العتاد ، و «الأليم» الموجع ، وقوله (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) الآية ، سقطت الواو من (يَدْعُ) في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر ، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت ، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم ، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل ، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية ، و (الْإِنْسانُ) هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره ، وقال سلمان الفارسي وابن عباس : إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلا لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذوو عجلة موروثة من أبيكم ، ويروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل أسيرا في قيد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك؟ فقال : ألم القيد ، فقالت : فأرخت من ربطه فسكت ، ثم نامت ، فتحيل في الانحلال وفر ، فطلبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصبح ، فأخبر الخبر ، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه ، لأني بشر أغضب وأعجل ، فلترد سودة يديها ، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] ، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية : معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه ، لكنه يقصر حينئذ ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج ، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢].


قوله عزوجل :

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١٤)

«الآية» العلامة المنصوبة للنظر والعبرة ، وقوله (فَمَحَوْنا) قالت فرقة : سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلفه وكونه منيرا فقط ، وقالت فرقة ، وهو الظاهر : إن قوله (فَمَحَوْنا) إنما يريد في أصل خلقته ، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس ، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب ، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة ، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية (آيَتَيْنِ) فقط ، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه ، وقوله (مُبْصِرَةً) مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام ، فكذلك «آية مبصرة» أي يبصر بها ومعها ، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّاء : ما السواد الذي في القمر؟ فقال له علي : قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصرا ليبتغي الناس الرزق ، وفصل الله ، وجعل القمر مخالفا للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس ، وقوله (كُلَّ شَيْءٍ) منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلا وقيل : و (كُلَ) عطف على (وَالْحِسابَ) فهو معمول (لِتَعْلَمُوا) ، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه ، وقوله (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) الآية ، قوله (كُلَ) منصوب بفعل مقدر ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد ؛ «طيره في عنقه» ، قال ابن عباس (طائِرَهُ) ما قدر له وعليه ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف ، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة ، وسميت ذلك كله تطيرا ، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء. وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه ، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا عدوى ولا طيرة». (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب «الطائر» ، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في أمور على الطائر الميمون ، وبأسعد طائر ومنه ما طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون ، أي كان ذلك حظنا ، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير


والشر وأبطل ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا عدوى ولا طيرة» ، وقوله (فِي عُنُقِهِ) جرى أيضا على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزاما وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم : دمي في عنق فلان وكقول الأعشى :

والشعر قلدته سلامة ذا

فائش والشيء حيثما جعلا

وهذا كثير ، ونحوه جعلهم ما كان تكسبا وجناية وإثما منسوبا إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب ، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس «ونخرج» بنون العظمة «كتابا» بالنصب ، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن : و «يخرج» بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل «كتابا» أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب ، وقرأ الحسن من هؤلاء «كتاب» بالرفع ، وقرأ أبو جعفر أيضا «ويخرج» بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ، «كتابا» أي طائره ، وقرأ أيضا «كتابا» ، وقرأت فرقة «ويخرج» بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله ، وفي مصحف أبي بن كعب «في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا» ، وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته ، وقرأ الجمهور «يلقاه» بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف ، وقرأ ابن عامر وحده ، «يلقّاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف ، وأبي جعفر والجحدري ، وقوله (اقْرَأْ كِتابَكَ) حذف من الكلام يقال له اختصار الدلالة الظاهرة عليه ، و «الحسيب» الحاسب ونصبه على التمييز ، وأسند الطبري عن الحسن أنه قال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت أو قلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصل مع آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه ، وهذا هو قول ابن عباس وقال قتادة في قوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ) إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ.

قوله عزوجل :

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١٧)

معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره ، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة : اكفروا بمحمد وإثمكم علي ، فنزلت هذه الآية : أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه ، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد ، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة ، و (وِزْرَ) معناه حمل ، والوزر الثقل ، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته ، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي


عليه ، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت ، وسببه كما كانت العرب تفعل وقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) قالت فرقة هي الجمهور : هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار ، وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا والآخرة.

قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا المعنى : أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا ، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة ، ويؤيد هذا ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية ، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل ، كقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى) [الملك : ٨ ـ ٩] ، وظاهر (كُلَّما) [الملك: ٨] الحصر ، وكقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه‌السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه‌السلام بعد غرق الكفار ، وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا ، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم ، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف ، وقوله (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) الآية ، في مصحف أبي «بعثنا أكابر مجرميها» ، و «القرية» ، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وليست من قرأ الذي هو مهموز ، وإن كان فيها جمعا معنى الجمع ، وقرأ الجمهور «أمرنا» على صيغة الماضي من أمر ضد نهى ، وقرأ نافع ، وابن كثير في بعض ما روي عنهما ، «آمرنا» بمد الهمزة بمعنى كثرنا ، ورويت عن الحسن ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج ، وقرأ بها ابن إسحاق ، تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف : «أمّرنا» بتشديد الميم ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الطبري : القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير ، والثانية معناها كثرناهم ، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس ، قال القاضي أبو محمد : قال أبو علي الفارسي : الجيد في «آمرنا» أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم ، قال «وآمرنا» مبالغة في «أمرنا» بالهمزة ، و «أمّرنا» مبالغة فيه بالتضعيف ، ولا وجه لكون «أمّرنا» من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحدا بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم.

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة ، وسواهم تبع لهم وأما «أمّرنا» من الإمارة فمتوجه على وجهين ، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم ، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكا هو أميره ، ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

إذا كان هادي الفتى في البلاد

صدر القناة أطاع الأميرا


ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص ، إن علي أميرا لا أقطع أمرا دونه ، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره ، ومنه قول الآخر : [الكامل]

والناس يلحون الأمير إذ هم

خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

وأيضا فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى ، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفا ففسق ثم ولي مثله بعده ، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «أمرنا» بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس ، ولا أتحقق وجها لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه ، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا ، ومنه قول لبيد :

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا

يوما يصيروا للقل والنفد

ومنه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، ورد القراء هذه القراءة ، وقد حكي أمر متعديا عن أبي زيد الأنصاري ، و «المترف» الغني من المال المتنعم ، والترفه النعمة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها» ، وقوله (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم ، والتدمير الإهلاك ، مع طمس الآثار وهدم البناء ، ومنه قول الفرزدق : [المتقارب]

وكان لهم كبكر ثمود لمّا

رغا دهرا فدمرهم دمارا

وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا) الآية (كَمْ) في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا) وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله (مِنَ الْقُرُونِ) مثال لقريش ووعيد ، أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم ، واختلف الناس في القرن ، فقال ابن سيرين : عن النبي عليه‌السلام أربعون ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وقال عبد الله بن أبي أوفى القرن مائة وعشرون سنة ، وقالت طائفة القرن مائة سنة ، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله عليه‌السلام «خير الناس قرني» ، وروى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن بسر ، قال وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على رأسي ، وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قلت : كم القرن؟ قال مائة سنة ، قال محمد بن القاسم ، فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة ومات رحمه‌الله ، والباء في قوله (بِرَبِّكَ) زائدة التقدير وكفى بربك ، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وكأنها تعطي معنى اكتف بربك أي ما أكفاه في هذا ، وقد تجيء (كَفى) دون باء كقول الشاعر : [الطويل]

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وكقول الآخر : [الطويل]

ويخبرني عن غائب الأمر هديه

كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا

قوله عزوجل :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً


(١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا ، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ «نشاء» بالنون ، وقوله (لِمَنْ نُرِيدُ) شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه ، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته ، وقرأ الجمهور: «نشاء» بالنون ، وقرأ نافع أيضا «يشاء» بالياء ، و «المدحور» المهان المبعد المذلل المسخوط عليه ، وقوله (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) الآية ، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان وبها وبالله ورسالاته.

قال القاضي أبو محمد : وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه ، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملا ولا سعيا إلا أثاب عليه وغفر بسببه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فغفر له ، وقوله (كُلًّا نُمِدُّ) الآية نصب (كُلًّا) ب (نُمِدُّ) ، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه ، ومددته إذا زدت فيه من نوعه ، وقيل هما بمعنى واحد ، يقال مد وأمد. و (هؤُلاءِ) بدل من قوله (كُلًّا) فهو في موضع نصب ، وقوله (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس ، ويحتمل أن يريد ب «العطاء» رزق الدنيا ، وهذا هو تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة ، ويتناسب هذا المعنى مع قوله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر ، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه ، و «المحظور» الممنوع. وقوله (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق ، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه‌السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق ، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه‌السلام إن أعطى الله قوما الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار ، وهذا قول الطبري : وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عزوجل أن التفصيل الأكبر إنما يكون في الآخرة. وقوله (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد ، أي (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها ، وكذلك قوله (أَكْبَرُ تَفْضِيلاً).


قال القاضي أبو محمد : وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين ، وأسند الطبري في ذلك حديثا نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها.

قال القاضي أبو محمد : ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحدا ، ولا يتمنى ذلك بدلا ، وقوله (لا تَجْعَلْ) الآية ، الخطاب لمحمد عليه‌السلام ، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره ، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه ، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، و «الخذلان» في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر ، و «المخذول» الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. والخاذل من الظبا التي تترك ولدها ، ومن هذه اللفظة قول الراعي :

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

وسعى فلم أر مثله مخذولا

قوله عزوجل :

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)

(قَضى) في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى (وَقَضى رَبُّكَ) أمره (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكما ، والمقضي هنا هو الأمر ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك» وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنورا ، قال الله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ١٣] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا الطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في (تَعْبُدُوا) لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثا فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحا ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر.


قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون (قَضى) على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله (تَعْبُدُوا) للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) عطفا على «أن» الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مقطوعا من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و (إِمَّا) شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ» ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغن» بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله (أَحَدُهُما) فاعلا ، وقوله (أَوْ كِلاهُما) معطوفا عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله (أَحَدُهُما) بدلا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [الطويل]

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلّت

ويجوز أن يكون (أَحَدُهُما) فاعلا وقوله (أَوْ كِلاهُما) عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلا في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفّ» بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفّ» بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفّ» بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفّ» بضم الفاء ، وقرأ ابن عباس «أف» خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف» بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّا» بالنصب والتنوين «وأفي» بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفا» بألف بعد الفتحة ، «وأفّ» بسكون الفاء المشددة «وأف» مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفا» ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه».

قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالا لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الأف» وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله و (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما. وتقول (أُفٍ).

قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدّاج النجيبي : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ ، وقوله (وَاخْفِضْ لَهُما


جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر (الذُّلِ) هنا ولم يذكر في قوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥] وذلك بحسب عظم الحق هنا ، وقرأ الجمهور «الذّل» بضم الذال ، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذل» بكسر الذال ، ورويت عن عاصم بن أبي النجود ، و «الذل» في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول ، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله؟ قال : «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له». وقوله (مِنَ الرَّحْمَةِ) ، (مِنَ) هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا ، ويصح أن يكون لابتداء الغاية ، ثم أمر الله عباده بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقا لهما وحنانا عليهما ، وهذا كله في الأبوين المؤمنين ، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى ، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ ، وليس هذا موضع نسخ ، وقوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك ، ويجعلون ظاهر برهما رياء ، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله ، واختلفت عبارة الناس في «الأوابين» ، فقالت فرقة هم المصلحون ، وقال ابن عباس : هم المسبحون ، وقال أيضا : هم المطيعون المحسنون ، وقال ابن المنكدر : هم الذين يصلون العشاء والمغرب ، وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال : «تلك صلاة الأوابين» ، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه ، وقال عون العقيلي : هم الذين يصلون صلاة الضحى ، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع ، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبدا إلى طاعة الله تعالى ، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح ، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ، وفسر الجمهور «الأوابين» بالرجاعين إلى الخير ، وقال ابن جبير : أراد بقوله غفورا للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه ، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه ، وقالت فرقة «خفض الجناح» هو ألا يمتنع من شيء يريدانه.

قوله عزوجل :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

اختلف المتأولون في «ذي القربى» ، فقال الجمهور : الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم ، خوطب بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد الأمة ، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة


والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم ، وقال علي بن الحسين في هذه : هم قرابة النبي عليه‌السلام ، أمر النبي عليه‌السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال.

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، ويعضده العطف ب (الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). (وَابْنَ السَّبِيلِ) هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا ، «وابن السبيل» في آية الصدقة أخص ، و «التبذير» إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح ، وهو من البذر ، ويحتمل قوله تعالى : (الْمُبَذِّرِينَ) أن يكون اسم جنس ، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين ، وذكره النقاش ، وقوله تعالى : (إِخْوانَ) يعني أنهم في حكمهم ، إذ المبذر ساع في فساد والشيطان أبدا ساع في فساد ، و (إِخْوانَ) جمع أخ من غير النسب ، وقد يشذ ، ومنه قوله تعالى في سورة النور (أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) [النور : ٣١] والإخوة جمع أخ في النسب وقد يشذ ، ومنه قوله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] وقرأ الحسن والضحاك «إخوان الشيطان» على الإفراد ، وكذلك في مصحف أنس بن مالك ، ثم ذكر تعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعبا بينا ، وقوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَ) ، الضمير في (عَنْهُمُ) عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل ، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحد ، فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض تأدبا منه في أن لا يرده تصريحا ، وانتظار الرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه ، أن يكون يؤنسه بالقول الميسور ، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى والتأنيس بالميعاد الحسن والدعاء في توسعة الله تبارك وتعالى وعطائه ، وروي أنه عليه‌السلام كان يقول بعد نزول هذه الآية ، إذا لم يكن عنده ما يعطي : يرزقنا الله وإياكم من فضله ، ف «الرحمة» على هذا التأويل الرزق المنتظر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وقال ابن زيد «الرحمة» الأجر والثواب ، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم (قَوْلاً مَيْسُوراً) يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح.

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض أهل التأويل الأول ، نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه ، و «الميسور» مفعول من لفظة اليسر ، تقول يسرت لك كذا إذا أعددته ، وقوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) الآية ، روي عن قالون «كل البصط» بالصاد ، ورواه الأعشى عن أبي بكر ، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل «الغل إلى العنق» ، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل ، وكل هذا في إنفاق الخير ، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام ، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل البخيل والمتصدق» ، والحديث بكامله ، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي ، و «المسحور» المنفه الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

لهد الوجى لم كن عونا على السرى

ولا زال منها ظالع وحسير


ومنه البصر الحسير وهو الكال ، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية ، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق ، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه ، وقال قتادة : «التبذير» النفقة في معصية الله ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيرا ، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا فيه نظر ، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهي عنه. ولا يقال في المعصية ولا تبذر ، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام ، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا : التبذير الإنفاق وفي غير حق ، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح ، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالا ونحوه ، ومن كلام الحكمة : ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع ، وهذه من آيات فقه الحال ، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس ، وقوله (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ) الآية ، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة ، (وَيَقْدِرُ) معناه ويضيف ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى ، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري : إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر ، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت ، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم.

قوله عزوجل :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)(٣٣)

قرأ الأعمش وابن وثاب «ولا تقتّلوا» بتضعيف الفعل ، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله ، وهو قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) [التكوير : ٨] ، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغذو أحدهم كلبه ويقتل ولده ، و (خَشْيَةَ) نصب على المفعول من أجله ، و «الإملاق» الفقر وعدم الملك ، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود ، وقرأ الجمهور «خطئا» بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر ، وقرأ ابن عامر «خطئا» بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة ، وهي قراءة أبي جعفر ، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد ، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

الخطء فاحشة والبر نافلة

كعجوة غرست في الأرض تؤتبر

قال الزجاج يقال خطىء الرجل يخطأ خطأ مثل أثم إثما فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه ، وقال بعض العلماء خطىء معناه واقع الذنب عامدا ، ومنه قوله تعالى : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة : ٣٧] ، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ، وقال أبو علي


الفارسي : وقد يقع هذا موضع هذا ، وهذا موضع هذا ، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر : [الوافر]

عبادك يخطئون وأنت رب

كريم لا يليق بك الذموم

وخطىء بمعنى لم يتعمد في قول الآخر : [الكامل]

والناس يلحون الأمير إذا هم

خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

وقد روي عن ابن عامر «خطأ» بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة ، وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة ، وهي قراءة الأعرج بخلاف ، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه ، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجها ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو علي الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه ، فمنه قول الشاعر : [المتقارب]

تخاطأت النبل احشاءه

وخر يومي فلم أعجل

وقول الآخر في صفة كماة : [الطويل]

تخاطأه القنّاص حتى وجدته

وخرطومه في منقع الماء راسب

فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «خطاء» بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم : لا يعرف هذا في اللغة ، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم ، قال أبو الفتح : الخطاء من اخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت ، هو اسم بمعنى المصدر ، وقرأ الحسن بخلاف «خطا» بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز ، وقرأ أبو رجاء والزهري «خطا» بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها ، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء ، وقوله (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) تحريم. و (الزِّنى) يمد ويقصر فمن قصره الآية ، وهي لغة جميع كتاب الله ، ومن مده قول الفرزدق : [الطويل]

أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا

ويروى أبا خالد ، و «الفاحشة» ما يستتر به من المعاصي لقبحه ، و (سَبِيلاً) نصب على التمييز ، التقدير وساء سبيله سبيلا ، أي لأنه يؤدي إلى النار ، وقوله (وَلا تَقْتُلُوا) وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا) [الإسراء : ٢٣] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في (النَّفْسَ) هي للجنس ، و «الحق» الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : لا يحل دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى.

قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى :


(مَظْلُوماً) نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي» القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان» الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة : «السلطان» القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف» بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة ، رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بذحل الجاهلية ، أو قتل في حرم الله» ، وقالت فرقة : المراد بقوله (فَلا يُسْرِفْ) القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفسا فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل» بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه‌السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية ، «فلا يسرف» بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط.

قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا» ، والضمير في قوله (إِنَّهُ) عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبدا الظلم كقوله عليه‌السلام : «ونصر المظلوم وإبرار القسم» ، وكقوله «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية.

قوله عزوجل :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٣٦)

الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى ، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي ، و (الْيَتِيمِ) الفرد من الأبناء ، واليتم الانفراد ، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه ، قال ابن السكيت : اليتم في البشر من قبل الأب ، وفي البهائم من قبل الأم ، وفي كتاب الماوردي ، أن اليتم في


البشر من قبل الأم أيضا ، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد ، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة ، قال ابن سيده : وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم ، وأنشد في ذلك : [الطويل]

فبت أشوي ظبيتي وحليلتي

طربا وجرو الذيب يتمان جائع

ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان ، وفي الحديث «لا يتم بعد حلم» ، وقوله (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يريد إلا بأحسن الحالات.

قال القاضي أبو محمد : وذلك في الوصي الغني ، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئا على جهة الانتفاع به ، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة ، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه ، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يتسلف منه ، فإذا أيسر رد فيه ، وقال ابن المسيب ، لا يشرب الماء من مال اليتيم ، قيل له فما معنى (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦]؟ قال : إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه ، وقال مجاهد : لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه ، قال : وقوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [ذاته] معناه من مال نفسه ، وقال أبو يوسف : لعل قوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [ذاته] منسوخ بقوله (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] [النساء : ٢٩] وقال ابن عباس : يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه ، ويلط الحوض ويجد النخل ، وينشد الضالة فليأكل غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب ، وقال زيد بن أسلم : يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه.

قال القاضي أبو محمد : وهذه استعارة للتقلل ، وقال مالك رحمه‌الله وغيره : يأخذ منه أجرة بقدر تعبه ، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن ، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات ، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه ، فنزلت (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) غاية الإمساك عن مال اليتيم ، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى ، وما بعد هذه الغايات أبدا موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة ، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، وبعث بها ، فلم يحرم علي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ، و «الأشد» جمع شد عند سيبويه ، وقال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه ، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه ، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ ، ف «الأشد» في مذهب مالك أمران ، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك ، والرشد في المال ، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين ، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطا لماله ، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك ، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه.

قال القاضي أبو محمد : ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة ، وقال أبو إسحاق الزجاج «الأشد»


في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة ، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم ، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله ، وقوله (بِالْعَهْدِ) لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة ، وقوله (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي مطلوبا ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا؟

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) الآية ، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم ، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال وهذا الميزان.

قال القاضي أبو محمد : وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع ، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل ، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه ، و «القسطاس» قال الحسن هو القبان ، ويقال القفان وهو القلسطون ، ويقال القرسطون ، وقيل : «القسطاس» الميزان صغيرا كان أو كبيرا ، وقال مجاهد «القسطاس» العدل ، وكان يقول هي لغة رومية ، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «القسطاس» بضم القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «القسطاس» بكسر القاف ، وهما لغتان ، واللفظة منه للمبالغة من القسط ، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت ، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها ، وقرأت فرقة «القصطاس» بالصاد.

قال القاضي أبو محمد : وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة ، وكل ذلك أنها استعارات للعدل ، وقوله : في ميزان القيامة مردود ، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان.

وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولا مان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ جميل ، و «التأويل» في هذه الآية المآل. قاله قتادة ، ويحتمل أن يكون «التأويل» مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن ، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق ، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذا لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه ، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع ، وقوله (وَلا تَقْفُ) معناه ولا تقل ولا تتبع.

قال القاضي أبو محمد : لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا» ، ونقول فلان قفوتي أي موضع تهمتي ، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي أي ما رميت به ، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه ، وقد قال ابن عباس أيضا ومجاهد : (وَلا تَقْفُ) معناه ، ولا ترم ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :


ومثل الدمى شم العرانين ساكن

بهن الحياء لا يشعن التقافيا

وقال الكميت : [الوافر]

ولا أرم البرى بغير ذنب

ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر ، تقول قفوت الأثر ، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ، وتقول قفت الأثر ، ومن هذا : هو القائف ، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف ، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث ، فمعنى الآية ، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به ، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية ، وقرأ الجمهور «ولا تقف» ، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء ، وقرأ الجراح «والفآد» بفتح الفاء وهي لغة ، وأنكرها أبو حاتم وغيره ، وعبر عن (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) ب (أُولئِكَ) لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها ب (أُولئِكَ) ، وقد قال سيبويه رحمه‌الله في قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل ، عبر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك» ، وأنشد هو والطبري : [الكامل]

ذم المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام ، والضمير في (عَنْهُ) يعود على ما ليس للإنسان به علم ، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان ، وبصره ، وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ، ويحتمل أن يعود الضمير في (عَنْهُ) على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد ، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده ، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا ، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولا ، فهو على حذف مضاف.

قوله عزوجل :

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠)

قرأ الجمهور «مرحا» بفتح الراء مصدر من مرح يمرح إذا تسبب مسرورا بدنياه مقبلا على راحته،


فهذا هو المرح ، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه ، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك ، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولا ، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فقصرك نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق ، وخوطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم.

قال القاضي أبو محمد : وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزها دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية ، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة ، فليس ذلك بداخل في هذه الآية ، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب «مرحا» بكسر الراء على بناء اسم الفاعل ، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة ، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق ، وهو أن قوله (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك ، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى ، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح ، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته ، إذ المشي في الأرض لا يفارقه ، فلم ينه إلا عن يكون مرحا ، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحا فيترتب في «المرح» بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال ، وخرق الأرض قطعها ، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر : [المتقارب]

وخرق تجاوزت مجهوله

بوجناء خرق تشكى الكلالا

ويقال لثقب الأرض ، وليس هذا المعنى في الآية ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

وقرأ الجراح الأعرابي «تخرق» بضم الراء ، وقال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة ، وقوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وأبو جعفر والأعرج «سيئة» ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومسروق «سيئه» على إضافة سيىء إلى الضمير ، والإشارة على القراءة الأولى إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقول أف وقذف الناس والمرح وغير ذلك ، والإشارة على القراءة الثانية إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية ، ثم اختص ذكر السيّء منه بأنه مكروه عند الله تعالى ، فأما من قرأ «سيئه» بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين : وسيىء اسم (كانَ) و (مَكْرُوهاً) خبرها ، وأما من قرأ «سيئة» فهي الخبر ل (كانَ) ، واختلف الناس في إعراب قوله (مَكْرُوهاً) ، فقالت فرقة هو خبر ثان ل (كانَ) حمله على لفظ كل ، و «سيئة» محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل ، وقال بعضهم هو نعت ل (سَيِّئُهُ) لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر.

قال القاضي أبو محمد : وضعف أبو علي الفارسي هذا ، وقال إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه ، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى أن قول الشاعر : [المتقارب]


فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

مستقبح عندهم ، ولو قال قائل ، أبقل أرض لم يكن قبيحا ، قال أبو علي ولكن يجوز في قوله (مَكْرُوهاً) أن يكون بدلا من (سَيِّئُهُ) ، قال ويجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في قوله (عِنْدَ رَبِّكَ) ويكون قوله (عِنْدَ رَبِّكَ) في موضع الصفة ل (سَيِّئُهُ) ، وقرأ عبد الله بن مسعود «كان سيئاته» ، وروي عنه «كان سيئات» بغير هاء ، وروي عنه «كان خبيثة» ، وذهب الطبري إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولا : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] وليس ذلك بالبين ، قوله (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) الآية. الإشارة ب (ذلِكَ) إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق ، و (الْحِكْمَةِ) قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة ، ثم عطف قوله (وَلا تَجْعَلْ) على ما تقدم من النواهي ، والخطاب للنبي عليه‌السلام ، والمراد كل من سمع الآية من البشر ، و «المدحور» ، المهان المبعد ، وقوله (أَفَأَصْفاكُمْ) الآية ، خطاب للعرب التي كانت تقول الملائكة بنات الله ، فقررهم الله على هذه الحجة ، أي أنتم أيها البشر لكم الأعلى من النسل ولله الإناث؟ فلما ظهر هذا التباعد الذي في قولهم عظم الله عليهم فساد ما يقولونه وشنعته ، ومعناه عظيما في المنكر والوخامة ، و «أصفاكم» معناه جعلكم أصحاب الصفوة ، وحكى الطبري عن قتادة عن بعض أهل العلم أنه قال : نزلت هذه الآية في اليهود لأنهم قالوا هذه المقالة من أن الملائكة بنات الله.

قال القاضي أبو محمد : والأول هو الذي عليه جمهور المفسرين.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

قرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء على معنى صرّفنا فيه الحكم والمواعظ ، وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله ، وقال بعض من شدد الراء : إن قوله (فِي) زائد ، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن ، وهذا ضعيف ، وقرأ الجمهور «ليذّكّروا» وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» بسكون الذال وضم الكاف ، وهي قراءة طلحة ويحيى والأعمش ، وما في ضمن الآية من ترج وطماعية فهو في حق البشر وبحسب ظنهم فيمن يفعل الله معه هذا ، و «النفور» عبارة عن شدة الإعراض تشبيها بنفور الدابة ، وهو في هذه الآية مصدر لا غير ، وروي أن في الإنجيل في معنى هذه الآية : يا بني إسرائيل شوقناكم فلم تشتاقوا ونحنا لكم فلم تبكوا. وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) الآية إحبار بالحجة ، واختلف الناس في معنى قوله (لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) فحكى الطبري وغيره من المفسرين أن معناه لطلب هؤلاء الآلهة الزلفى إلى ذي العرش والقربة إليه بطاعته ، فيكون السبيل على هذا التأويل بمعناها في قوله (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩] ، وقال سعيد بن جبير وأبو علي


الفارسي والنقاش وقاله المتكلمون أبو منصور وغيره ، إن معنى الكلام ، لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته ، وعلى هذا التأويل تكون الآية بيانا للتمانع ، وجارية مع قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

قال القاضي أبو محمد : ونقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى غيره ، وذلك على ما قال أبو المعالي وغيره : إنا لو فرضناه لفرضنا أن يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه ، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان ، ومستحيل أن لا تنفذ جميعا ، فيكون الجسم لا متحركا ولا ساكنا ، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر فالذي لم تتم إرادته ليس بإله ، فإن قيل نفرضهما لا يختلفان ، قلنا اختلافهما جائز غير ممتنع عقلا ، والجائز في حكم الواقع ، ودليل آخر ، إنه لو كان الاثنان لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة ، وكذلك إلى ما لا نهاية ، ودليل آخر أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به إلا قدرة واحدة ، لا يصح فيها اشتراك ، والآخر كذلك دأبا ، فكل جزء إنما يخترعه واحد ، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول ، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بالياء من تحت ، وقرأ الجمهور «كما تقولون» ، و (سُبْحانَهُ) مصدر بفعل متروك إظهاره ، فهو بمعنى التنزيه ، موضعه هنا موضع تنزه ، فلذلك عطف الفعل عليه في قوله (وَتَعالى) ، والتعالي تفاعل أما في الشاهد والأجرام فهو من اثنين ، لأن الإنسان إذا صعد في منزله أو في جبل فكأن ذلك يعاليه ، وهو يعالي ويرتقي ، وأما في ذكر الله تعالى فالتعالي هو بالقدر لا بالإضافة إلى شيء آخر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «عما يقولون» بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي «تقولون» بالتاء من فوق. و (عُلُوًّا) ، مصدر على غير الفعل ، فهو كقوله (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وهذا كثير ، وقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ) الآية ، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم ، والاشتراك الذي أنتم بسبيله ، (السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح ، وقوله (مَنْ فِيهِنَ) يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها ، في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ينزه الله ويحمده ويمجده ، واختلف أهل العلم في التسبيح ، فقالت فرقة هو تجوز ، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر ، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) [ص : ١٨] وقالت فرقة (مِنْ شَيْءٍ) لفظ عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات البحتة ، فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح ، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام ، وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح ، فمذ صارت خوانا مدهونا أو نحوه صارت جمادا ، وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمرا مفقوها ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه.

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله (لا تَفْقَهُونَ) الكفار والغفلة ، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن : بلغني أن معنى هذه


الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات ، سبحت له الأرض ، سبح كذا ، سبح كذا ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : «يسبح له» بالياء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح» بالتاء ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات» ، وقوله (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فيه تنبيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة ، أي تقولون قولا ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات ، (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فلذلك أمهلكم.

قوله عزوجل :

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)(٤٧)

هذه الآية تحتمل معنيين : أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه ، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية ، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه‌السلام حجابا ، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها ، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين ، وقوله (مَسْتُوراً) أظهر ما فيه أن يكون نعتا للحجاب ، أي مستورا عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب ، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين ، وقيل التقدير مستورا به على حذف العائد وقال الأخفش (مَسْتُوراً) بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويأمن.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لغير داعية إليه ، تكلف ، وليس مثاله بمسلم ، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وهذا معترض بأن المبالغة أبدا إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول ، فلو قال حجابا حاجبا لكان التنظير صحيحا ، وقوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) الآية ، الأكنة جمع كنان ، وهو ما غطى الشيء ، ومنه كنانة النبل ، و «الوقر» الثقل في الأذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به ، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه ، وقوله (وَإِذا ذَكَرْتَ) الآية ، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرّ كفار مكة من سماع ذلك إنكارا له واستبشاعا ، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها ، وقال بعض العلماء : إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال «يا معشر قريش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم» ، فولوا ونفروا ، فنزلت الآية ، وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ ، وقوله (نُفُوراً) يصح أن يكون مصدرا في موضع الحال ، ويصح أن يكون جمع نافر كشاهد وشهود ، لأن فعولا من أبنية فاعل في


الصفات ، ونصبه على الحال ، أي نافرين ، وقوله (أَنْ يَفْقَهُوهُ أَنْ) نصب على المفعول أي «كراهة أن» ، أو «منع أن» ، والضمير في (يَفْقَهُوهُ) عائد على (الْقُرْآنِ) ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما عنى بقوله : (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن ، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ ، وهذا نظير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص». وقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) الآية ، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال ، أو بإعراض وتغافل واستخفاف ، فالضمير في (بِهِ) عائد على «ما» ، وهي بمعنى الذي ، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في (إِذْ) الأولى وفي المعطوفة عليها (يَسْتَمِعُونَ) الأول ، وقوله (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) وصفهم بالمصدر ، كما قالوا : قوم رضى وعدل ، وقيل المراد بقوله : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم ، وقوله (مَسْحُوراً) الظاهر فيه أن يكون من السحر ، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم ، وأقواله الوخيمة برأيهم ، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه ، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم (بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون : ٢٥] ونحو هذا ، وقال أبو عبيدة : (مَسْحُوراً) معناه ذا سحر ، وهي الرية يقال لها سحر وسحر بضم السين ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحري ونحري. ومنه قولهم للجبان : انتفخ سحره ، لأن الفازع تنتفخ ريته ، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية ، قال : ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر ، ومنه قول امرئ القيس :

[الوافر]

ونسحر بالطعام وبالشراب

وقول لبيد : [الطويل]

فإن تسألينا فيم نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحّر

ومنه السحور ، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر ، ويشبه أن يكون من السحر ، كالصبوح من الصباح ، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السّحر ، بكسر السين ، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له.

قوله عزوجل :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً)(٥١)

ضرب المثل له هو قولهم مسحور ، ساحر ، مجنون ، متكهن ، لأنه لم يكن عندهم متيقنا بأحد هذه ،


فإنما كانت منهم على جهة التشبيه ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر ، ثم حكم الله عليهم بالضلال ، وقوله (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) يحتمل معنيين : أحدهما لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، فتجري الآية مجرى قوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الإسراء : ٤٦] [الأنعام : ٢٥] ونحو هذا ، والآخر : لا يستطيعون سبيلا إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه ، وقوله (إِذا كُنَّا عِظاماً) الآية ، هذه الآية في إنكارهم البعث ، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد ، و «الرفات» من الأشياء : ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى ، وقربه من حالة التراب ، يقال : رفت رفتا فهو مرفوت ، وفعال : بناء لهذا المعنى ، كالحطام ، والفتات ، والرصاص ، والرضاض ، والدقاق ، ونحوه ، وقال ابن عباس : (رُفاتاً) غبارا ، وقال مجاهد : ترابا ، واختلف القراء في هذين الاستفهامين : فقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أيذا كنا ترابا أينا» جميعا بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ، ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة ، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ الثانية «إنا» مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة : «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما ، وقرأ ابن عامر «إذا كنا» ، مكسورة الألف من غير استفهام «ء إنا» يهمز ، ثم يمد ، ثم يهمز. ويروى عنه مثل قراءة حمزة ، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات ، و (جَدِيداً) صفة لما قرب حدوثه من الأشياء ، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث ، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة ، لغة ضعيفة ، كذا قال سيبويه ، وقوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) الآية ، المعنى : قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي ، لا بد من بعثكم ، وقوله (كُونُوا) هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم ، وفي هذا عندي نظر : وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب ، كقوله تعالى : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) [آل عمران : ١٦٨] ، ونحوه ، وأما هذه الآية ، فمعناها : كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا ، الذي فطركم كذلك ، هو يعيدكم ، وقال مجاهد أراد ب «الخلق» ، الذي يكبر في الصدور : السماوات والأرض والجبال ، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك : أراد الموت ، وقال قتادة ومجاهد : بل أحال على فكرتهم عموما ، ورجحه الطبري ، وهذا هو الأصح ، لأنه بدأ بشيء صلب ، ثم تدرج القول إلى أقوى منه ، ثم أحال على فكرهم ، إن شاؤوا في أشد من الحديد ، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء ، ثم احتج عليهم عزوجل في الإعادة بالفطرة الأولى ، من حيث خلقهم ، واخترعهم من تراب ، فكذلك يعيدهم إذا شاء ، لا رب غيره ، وقوله (فَسَيُنْغِضُونَ) معناه : يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب ، قال ابن عباس : والاستهزاء. قال الزجاج : تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنما أبصر شيئا أطمعا

ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة : [الطويل]

ظعائن لم يسكن أكناف قرية

بسيف ولم تنغض بهن القناطر


قال الطبري وابن سلام و (عَسى) من الله واجبة والمعنى : وهو قريب.

قال القاضي أبو محمد : وهذه إنما هي من النبي عليه‌السلام ، ولكنها بأمر الله ، فيقربها ذلك من الوجوب ، وكذلك قال عليه‌السلام «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وفي ضمن اللفظ توعد لهم.

قوله عزوجل :

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)(٥٥)

(يَوْمَ) : بدل من قوله (قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] ، ويظهر أن يكون المعنى : هو يوم ، جوابا لقولهم : (مَتى هُوَ) [ذاته] ويريد : يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور ، ليقام الساعة ، وقوله (فَتَسْتَجِيبُونَ) أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة ، وقوله : (بِحَمْدِهِ) ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه : بأمره ، وكذلك قال ابن جريج ، وقال قتادة معناه : بطاعته ومعرفته ، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جميع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى (بِحَمْدِهِ) : إما أن جميع العالمين ، كما قال ابن جبير ، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته ، وإما أن قوله (بِحَمْدِهِ) هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله ، فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهم في هذه الآيات : عسى ، أن الساعة قريبة ، يوم تدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري ، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه ، وقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) يحتمل معنيين : أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة ، وتصرف الأجساد ، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلا لمغيب علم مقدار الزمن عنهم ، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا ، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين ، وعلى هذا التأويل عول الطبري ، واحتج بقوله تعالى : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٣] ، والآخر : أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم : يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله ، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلا ، من حيث هو منقض منحصر ، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها : متاع قليل ، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق هاهنا لأنه في شيء قد وقع ، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود ، وفي الكلام تقوية للبعث ، كأنه يقول : أنت أيها المكذب بالحشر ، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبدا ، لا بد أن تدعى للبعث ، فتقوم ، وترى أنك إنما لبثت قليلا منقضيا منصرما ، وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلا. وقوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي) الآية اختلف النحويون في قوله (يَقُولُوا) فمذهب سيبويه ، أنه جواب شرط مقدر تقديره : وقل لعبادي : إنك إن تقل لهم يقولوا ، وهذا على أصله ، في أن الأمر لا يجاب ، وإنما يجاب معه شرط مقدر ، ومذهب الأخفش : أن الأمر


يجاب ، وأن قوله هاهنا (يَقُولُوا) إنما هو جواب (قُلْ).

قال القاضي أبو محمد : ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل (قُلْ) مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي : قولوا التي هي أحسن ؛ وإنما يصح بأن يكون (قُلْ) أمرا بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ ، كأنه قال بين لعبادي ، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد : أن (يَقُولُوا) جواب لأمر محذوف ، تقديره : وقل لعبادي «قولوا التي هي أحسن» يقولوا فحذف وطوي الكلام ، ومذهب الزجاج : أن (يَقُولُوا) جزم بالأمر ، بتقدير (قُلْ لِعِبادِي) ليقولوا ، فحذفت اللام لتقدم الأمر ، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه : أن مذهب أبي عثمان المازني في (يَقُولُوا) أنه فعل مبني ، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر ؛ لأن المعنى (قُلْ لِعِبادِي) قولوا ، واختلف الناس في (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فقالت فرقة : هي لا إله إلا الله ، ويلزم على هذا أن يكون قوله (لِعِبادِي) يريد به جميع الخلق ، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله. ويجيء قوله بعد ذلك (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) غير مناسب للمعنى ، إلا على تكره ، بأن يجعل (بَيْنَهُمْ) بمعنى خلالهم ، وأثناءهم ، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال ، وقال الجمهور : (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن : يقول : يغفر الله لك ، يرحمك الله ، وقوله (لِعِبادِي) خاص بالمؤمنين ، فكأن الآية بمعنى قوله عليه‌السلام ، «وكونوا عباد الله إخوانا» ثم اختلفوا ، فقالت فرقة : أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب ، وخفض الجناح ، وإلانة القول ، واطراح نزغات الشيطان ، وقالت فرقة : إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بإلانة القول للمشركين بمكة ، أيام المهادنة ، وسبب الآية : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله ، فكاد أن يثير فتنة ، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وقرأ الجمهور : «ينزغ» بفتح الزاي ، وقرأ طلحة بن مصرف : «ينزغ» ، بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم : لعلها لغة ، والقراءة بالفتح ، ومعنى النزغ : حركة الشيطان بسرعة ليوجب فسادا ، ومنه قول النبي عليه‌السلام «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده» فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة ، و «عداوة الشيطان البينة» هي قصته مع آدم عليه‌السلام فما بعد ، وقوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) الآية ، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) هي لكفار مكة بدليل قوله (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) فكأن الله عزوجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم ، ورجاهم وخوفهم ، ومعنى (يَرْحَمْكُمْ) بالتوبة عليكم من الكفر ، قاله ابن جريج وغيره ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنما عليك البلاغ ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد ، فتتناسب الآيات بهذا التأويل ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه‌السلام (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم ، فهذه إشارة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشرا ، المعنى : لا تنكروا أمر محمد عليه‌السلام ، وإن أوتي قرآنا ، فقد فضل النبيون ، وأوتي داود زبورا ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وتفضيل بعض الرسل ، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد


أفضل البشر ، وقد نهى عليه‌السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس ، وإما أن يكون التفضيل مقسما فيهم : أعطي هذا التكليم ، وأعطيت هذه الخلفة ، ومحمد الخمس ، وعيسى الإحياء ، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق ، وقوله (بِمَنْ فِي السَّماواتِ) ، الباء متعلقة بفعل تقديره : علم بمن في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب (أَعْلَمُ) لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب (أَعْلَمُ) ولا يلتفت لدليل الخطاب وقرأ الجمهور : «زبورا» بفتح الزاي ، وهو فعول بمعنى مفعول ، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب ، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زبورا» بضم الزاي ، وله وجهان : أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد ، كما قالوا في جمع ظريف ، ظروف ، والآخر ، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود ، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر ، سمي بمصدر زبر يزبر ، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور ، فكأنه قال : آتينا داود كتبا ، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر ، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيرا ، ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في آخر كتاب مسلم : «وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له» ، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام.

قوله عزوجل :

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً)(٥٩)

الذين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم في هذه الآية ، ليسوا عبدة الأصنام ، وإنما هم عبدة من يعقل ، واختلف في ذلك. فقال ابن عباس : هي في عبدة العزيز والمسيح وأمه ونحوهم ، وقال ابن عباس أيضا ، وابن مسعود : هي في عبدة الملائكة ، وقال ابن مسعود أيضا : هي في عبدة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلم أولئك الشياطين ، وعبدتهم بقوا يعبدونهم فنزلت الآية في ذلك.

وقال ابن عباس أيضا : هي في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزيز والمسيح وأمه ، وأي ذلك كان ، فمعنى الآية : قل لهؤلاء الكفرة (ادْعُوا) عند الشدائد ، و (الضُّرِّ) هؤلاء المعبودين ، فإنهم لا يملكون كشفه ولا تحويله عنكم ، ثم أخبرهم على قراءة ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء ، أو أخبر النبي عليه‌السلام على قراءة الجمهور ، «يدعون» بالياء من تحت ، أن هؤلاء المعبودين ، يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم ، وقرأ ابن مسعود «إلى ربك» ، والضمير في (رَبِّهِمُ) للمتبعين أو


للجميع ، و (الْوَسِيلَةَ) ، هي القربة ، وسبب الوصول إلى البغية ، وتوسل الرجل : إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما ، وقال عنترة :

إن الرجال لهم إليك وسيلة

ومنه قول النبي عليه‌السلام : «من سأل الله لي الوسيلة» الحديث. و (أَيُّهُمْ) ابتداء ، و (أَقْرَبُ) خبر ، و (أُولئِكَ) يراد به المعبودون وهو : ابتداء خبره (يَبْتَغُونَ) والضمير في (يَدْعُونَ) للكفار ، وفي (يَبْتَغُونَ) للمعبودين ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب وهذا كما قال عمر بن الخطاب في حديث الراية بخيبر : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها أي يتبارون في طلب القرب ، وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله ، وقال ابن فورك وغيره : إن الكلام من قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ) راجع إلى النبيين المتقدم ذكرهم ، ف (يَدْعُونَ) على هذا من الدعاء ، بمعنى الطلبة إلى الله ، والضمائر لهم في (يَدْعُونَ) وفي (يَبْتَغُونَ) وباقي الآية بين. وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية : أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء ، هذا مع السلامة وأخذها جزءا أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة و (مِنْ) لبيان الجنس ، وقيل المراد الخصوص (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ظالمة ، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم ، وذكر لهلاك كل قطر منها صفة ، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه ، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها ، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك ، والمعلوم أن كل قرية تهلك ، إما من جهة القحوط والخسف غرقا ، وإما من الفتن ، أو منهما ، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزوجل ، فأما ما هلك بالفتنة ، فعن ظلم ولا بد ، إما في كفر أو معاص ، أو تقصير في دفاع ، وحزامة ، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء ، وكذلك الخسف. وقوله (مُهْلِكُوها) الضمير لها ، وفي ضمن ذلك الأهل ، وقوله (مُعَذِّبُوها) هو على حذف مضاف ، فإنه لا يعذب إلا الأهل ، وقوله (فِي الْكِتابِ) يريد في سابق القضاء ، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ ، و «المسطور» المكتوب إسطارا ، وقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ) الآية ، هذه العبارة في معناها هي على ظاهر ما تفهم العرب ، فسمى سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعا ، وأن الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع ، والتقدير : وما منعنا الإرسال إلا التكذيب ، وسبب هذه الآية أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض ، فأوحى الله إلى محمد عليه‌السلام ، إن شئت أن أفعل ذلك لهم ، فإن تأخروا عن الإيمان عاجلتهم العقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم ، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل تستأني بهم يا رب» ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستيناء ، إذ قد سلفت عادته بمعاجلة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا ، قال الزجاج : أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة ، بقوله (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر: ٤٦] ، فهذه الآية تنظر إلى ذلك ، ثم ذكر أمر ثمرد ، احتجاجا إن قال منهم قائل نحن كنا نؤمن لو جاءتنا آية اقترحناها ولا نكفر بوجه ، فذكر الله تعالى ثمود ، بمعنى : لا تؤمنون إن تظلموا بالآية كما ظلمت ثمود بالناقة ، وقرأ الجمهور : «ثمود» بغير


تنوين ، قال هارون : أهل الكوفة ينونون «ثمودا» في كل وجه ، قال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن «ثمود» في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ، ونحن نقرؤها بغير ألف ، وقوله (مُبْصِرَةً) على جهة النسب أي معها إبصار ، كما قال : (آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] أي معها إبصار ممن ينظر ، وهذا عبارة عن بيان أمرها ، ووضوح إعجازها ، وقرأ قوم «مبصرة» بضم الميم وفتح الصاد ، حكاه الزجاج ، ومعناه متبينة ، وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد ، وهي مفعلة من البصر ومثله قول عنترة : [الكامل].

الكفر مخبثة لنفس المنعم

وقوله (فَظَلَمُوا بِها) أي وضعوا الفعل غير موضعه ، أي بعقرها ، وقيل بالكفر في أمرها ، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يرسل (بِالْآياتِ) غير المقترحة (تَخْوِيفاً) للعباد ، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة ، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك ، قال الحسن والموت الذريع ، وروي أن الكوفة رجفت في مدة عبد الله بن مسعود. فقال : أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه ، ومن هذا قول النبي عليه‌السلام في الكسوف : «فافزعوا إلى الصلاة» الحديث ، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام : فقسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية ، وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد غبا كالرعد والكسوف ونحوه ، وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوءة ، وإنما يعتبر به توهما لما سلف منه.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً)(٦٠)

قال الطبري : معنى قوله : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة ، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم ، أي فالتبليغ رسالة ربك ، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين ، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي ، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده ، توطئة له ، فأقول : اختلف الناس في (الرُّؤْيَا) ، فقال الجمهور : هي رؤيا عين ويقظة ، وهي ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة الإسراء ، قالوا : فلما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب ، قال الكفار إن هذا لعجيب تحث الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا ، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين ، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا ، يحسن أن يكون معنى قوله (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي : في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما


خلق له ، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ، ولا تحزن عليهم ، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم ، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل «رؤيا» ، إذ هما مصدران من رأى ، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك. وقالت عائشة (الرُّؤْيَا) في الإسراء رؤيا منام ، وهذا قول الجمهور على خلافه ، وهذه الآية تقتضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها ، وقد ذكر هذا مستوعبا في صدر السورة ، وقال ابن عباس : (الرُّؤْيَا) التي في هذه الآية ، هي رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يدخل مكة ، فعجل في سنة الحديبية فرد ، فافتتن المسلمون بذلك ، فنزلت الآيات ، وقال سهل بن سعد : إنما هذه «الرؤيا» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر ، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا ، ويجيء قوله (أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي بأقداره ، وأن كل ما قدره نافذ ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي ، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [الأنبياء : ١١١] ، وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه «الرؤيا» عثمان بن عفان ، ولا عمر بن عبد العزيز ، ولا معاوية ، وقوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) : معطوفة على قوله (الرُّؤْيَا) ، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة (وَالشَّجَرَةَ) هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم ، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنها تنبت الشجر ، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له ، فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه تزقموا ، فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء ، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ، ويصدق من سبق له الإيمان ، كما روي أن أبا بكر الصديق ، قيل له ، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق ، فقيل له : أتصدقه قبل أن تسمع منه ، قال : أين عقولكم ، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير. وقالت فرقة : (وَالشَّجَرَةَ) : إشارة إلى القوم المذكورين قبل في (الرُّؤْيَا).

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف محدث ، وليس هذا عن سهل بن سعد ، ولا مثله ، وقال الطبري عن ابن عباس : إن (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) يريد الملعون آكلها ، لأنها لم يجر لها ذكر.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد (الْمَلْعُونَةَ) ، هنا فأكد الأمر بقوله (فِي الْقُرْآنِ) وقالت فرقة : (الْمَلْعُونَةَ) ، المبعدة المكروهة ، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف ، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله ، وأيضا فما ينبت في أصل الجحيم ، فهو في نهاية البعد من رحمة الله ، وقوله (وَنُخَوِّفُهُمْ) يريد : إما كفار مكة ، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا عضوضا» والأول منها أصوب كما قلنا قبل ، وقوله (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم ، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت ، وفي نحوه وقرأ الأعمش «ويخوفهم» وقرأ الجمهور و «ونخوفهم» بالنون.


قوله عزوجل :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَوَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥)

المعنى : واذكر إذ قلنا ، وكذلك (إِذْ) [الإسراء : ٦٠] في الآية المتقدمة : هي منصوبة بفعل مضمر ، وقد تقدم في غير موضع ذكر خلق آدم وأمر السجود ، واختلف في قوله (إِلَّا إِبْلِيسَ) فقيل هو استثناء منقطع ، لأن (إِبْلِيسَ) لم يكن من الملائكة ، وقيل هو متصل لأن إبليس من الملائكة ، وقوله (طِيناً) يصح أن يكون تمييزا ، ويصح أن يكون حالا ، وقاس (إِبْلِيسَ) في هذه النازلة فأخطأ ، وذلك أنه رأى الفضيلة لنفسه ، من حيث رأى النار أفضل من الطين ، وجهل أن الفضائل في الأشياء ، إنما تكون حيث خصصها الله تعالى ، ولا ينظر إلى أصولها. وذكر الطبري عن ابن عباس أن إبليس هو الذي أمره الله فأخذ من الأرض طينة آدم ، والمشهور أنه ملك الموت ، وكفر إبليس في أن جهل صفة العدل من الله تعالى ، حين لحقته الأنفة ، والكبر ، وكان أصل ذلك الحسد ، ولذلك قيل : إن أول ما عصي الله بالحسد ، وظهر ذلك من إبليس ، من قوله (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١١] حسبما ذكر الله في آية أخرى. فهذا هو النص بأن فعلك غير مستقيم ، والكاف في قوله (أَرَأَيْتَكَ) هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه ، لا موضع لها من الإعراب ، فهي زائدة ، ومعنى أرأيت : أتأملت ونحوه ، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد ، وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ، ومثل بقوله أرأيتك زيدا أبو من هو؟ وقاله الزجاج : في (آياتِنا) [طه : ٥٦] ولم يمثل ، وقول سيبويه : صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية ، فهي كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه رحمه‌الله ، وقرأ ابن كثير «أخرتني» بياء في الوصل والوقف ، وهذا هو الأصل ، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف ، كمثل قول الأعشى : [المتقارب]

فهل يمنعني ارتياد البلاد

من حذر الموت أن يأتين

وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «أخرتن» بحذف الياء في الوصل والوقوف ، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه ، لكونها ياء متطرفة قبلها كسرة ، ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥] وقوله (لَأَحْتَنِكَنَ) معناه : لأميلن


ولأجرن ، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد ، وألسنة تحتنك المال ، أي تجتره ، ومنه قول الشاعر :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت

ومن هذا الشعر ، قال الطبري (لَأَحْتَنِكَنَ) معناه : لاستأصلن ، وعبر ابن عباس في ذلك ب «لأستولين» ، وقال ابن زيد لأضلن ، وهذا بدل اللفظ لا تفسير ، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم ، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ، كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل ، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله ، وقوله : (اذْهَبْ) وما بعده من الأوامر ، هو صيغة افعل من التهديد ، كقوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] و (تَبِعَكَ) معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه ، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله (جَزاءً) مصدر في موضع الحال ، و «الموفور» المكمل (وَاسْتَفْزِزْ) معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك ، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده ، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير :

كما استغاث بسيىء فز غيطلة

خاف العيون فلم ينظر به الحشك

و «الصوت» هنا : قيل هو الغناء والمزامير والملاهي ، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي ، فهي مضافة إلى (الشَّيْطانُ) ، قاله مجاهد ، وقيل معناه : بدعائك إياهم إلى طاعتك ، قال ابن عباس : صوته ، كل داع إلى معصية الله ، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك. وقوله (وَأَجْلِبْ) أي هول ؛ والجلبة : الصوت الكثير المختلط الهائل ، وقرأ الحسن : «واجلب» بوصل الألف وضم اللام. وقوله (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قيل هذا مجاز واستعارة ، بمعنى : اسع سعيك ، وابلغ جهدك ، وقيل معناه : أن له من الجن خيلا ورجلا ، قاله قتادة ، وقيل المراد : فرسان الناس ورجالتهم ، المتصرفون في الباطل ، ، فإنهم كلهم أعوان لإبليس على غيرهم ، قاله مجاهد وقرأ الجمهور «ورجلك» بسكون الجيم ، وهو جمع راجل ، كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وشارب وشرب ، وقرأ حفص عن عاصم : «ورجلك» بكسر الجيم على وزن فعل ، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه ، وهي صفة ؛ تقول فلان يمشي رجلا ، غير راكب ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

أنا أقاتل عن ديني على فرسي

ولا كذا رجلا إلا بأصحابي

وقرأ قتادة وعكرمة : «ورجالك». (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) عام : لكل معصية يصنعها الناس بالمال ، فإن ذلك المصرف في المعصية ، هو خط إبليس ، فمن ذلك البحائر وشبهها ، ومن ذلك مهر البغي ، وثمن الخمر ، وحلوان الكاهن ، والربا ، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأبا. وقوله (وَالْأَوْلادِ) عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا ، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس ، وعبد الجدي ، وأبا الكويفر ، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله ، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر ،


وغير هذا ، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله. وقوله (وَعِدْهُمْ) أي منّهم بما لا يتم لهم ، وبأنهم غير مبعوثين ، فهذه مشاركة في النفوس ، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم (غُرُوراً) منه ، لأنه لا يغني عنهم شيئا ، وقوله (إِنَّ عِبادِي) الآية ، قول من الله تعالى لإبليس ، وقوله (عِبادِي) يريد المؤمنين في الكفر ، والمتقين في المعاصي ، وخصهم باسم العباد ، وإن كان اسما عاما لجميع الخلق ، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم ، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب : هذا ابني ، على معنى التنبيه منه والتشريف له ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن أبي وقاص : «هذا خالي فليرني امرؤ خاله» ، و «السلطان» الملكة والتغلب ، وتفسيره هنا بالحجة قلق ، ثم قال تعالى لنبيه عليه‌السلام : (وَكَفى بِرَبِّكَ) يا محمد حافظا للمؤمنين ، وقيما على هدايتهم.

قوله عزوجل :

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً(٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩)

«الإزجاء» : سوق الثقيل السير ، إما لضعف أو ثقل حمل أو غيره ، فالإبل الضعاف تزجى ، ومنه قول الفرزدق : [البسيط]

على زواحف تزجيها محاسير

والسحاب تزجى ومنه قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] والبضاعة المزجاة هي التي تحتاج لاختلالها أن تساق بشفاعة وتدفع بمعاون إلى الذي يقبضها ، وإزجاء (الْفُلْكَ) سوقه بالريح اللينة والمجاديف ، و (الْفُلْكَ) و (الْبَحْرِ) الماء الكثير عذبا كان أو ملحا ، وقد غلب الاسم على هذا المشهور ، و (الْفُلْكَ) تجري فيها. وقوله (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لفظ يعم البصر ، وطلب الأجر ، في حج أو غزو ونحوه ، ولا خلاف في جواز ركوبه للحج والجهاد والمعاش ، واختلف في وجوبه للحج ، أعني الكثير منه ، واختلف في كراهيته للثروة وتزيد المال ، وقد روي عنه أنه قال «البحر لا أركبه أبدا» ، وهذا حديث يحتمل أنه رأي رآه لنفسه ، ويحتمل أنه أوحي إليه ذلك ، وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده. و (الضُّرُّ) لفظ يعم خوف الغرق ، والامتساك في المشي ، وأهول حالاته : اضطرابه وتموجه. وقوله (ضَلَ) معناه تلف وفقد ، وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلها من دون الله ، والمعنى في هذه الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة ، وأن لها فضلا ، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام ، فوفقهم الله من ذلك على حالة البحر. وقوله


(أَعْرَضْتُمْ) أي لم تفكروا في صنع الله وقت حاجتكم إليه ، وقوله (كَفُوراً) أي بالنعم. و (الْإِنْسانُ) هنا للجنس ، وكل أحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب ، وقال الزجاج (الْإِنْسانُ) يراد به الكفار ، وهذا غير بارع. وقوله (أَفَأَمِنْتُمْ) الآية ، المعنى (أَفَأَمِنْتُمْ) أيها المعرضون الناسون الشدة ، حين صرتم إلى الرخاء «أن يخسف الله بكم مكانكم من البر» إذا أنتم في قبضة القدرة في البحر والبر. و «الحاصب» العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

مستقبلين شمال الشام تضربنا

بحاصب كنديف القطن منثور

ومنه قول الأخطل : [الكامل]

ترمي العصاة بحاصب من ثلجها

حتى يبيت على العضاه جمالا

ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط ، والحصب : الرمي بالحصباء ، وهي الحجارة الصغار ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يخسف» بالياء على معنى يخسف الله ، وكذلك «يرسل» و «يعيد» و «يرسل» و «يغرق» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ذلك كله بالنون ، وقرأ أبو جعفر ومجاهد «تغرقكم» بالتاء أي الريح ، وقرأ حميد «نغرقكم» بالنون حقيقة وأدغم القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن وقرأ الحسن وأبو رجاء «يغرّقكم» بشد الراء. و «الوكيل» القائم بالأمور ، و «القاصف» الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه ، و (تارَةً) ، جمعها تارات وتير ، معناه : مرة أخرى ، وقرأ أبو جعفر : «من الرياح» بالجمع. و «التبيع» الذي يطلب ثأرا أو دينا ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

غدوا وغدت غزلانهم فكأنها

ضوامن عزم لزهن تبيع

ومن هذه اللفظة قول النبي عليه‌السلام : «إذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع» فالمعنى لا تحدون من يتبع فعلنا بكم ويطلب نصرتكم.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥)

(كَرَّمْنا) تضعيف كرم ، فالمعنى : جعلنا لهم كرما ، أي شرفا وفضلا ، وهذا هو كرم نفي النقصان ، لا كرم المال ؛ وإنما هو كما تقول : ثوب كريم ، أي جمة محاسنه.


قال القاضي أبو محمد : رضي الله عنه : وهذه الآية ، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان ، والحيوان والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، وحملهم (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) جميعا ، والرزق (مِنَ الطَّيِّباتِ) ، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ، ويأكلون المركبات من الأطعمة ، وغاية كل حيوان أن يأكل لحما نيا ، أو طعاما غير مركب ، و «الرزق» ، كل ما صح الانتفاع به ، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا : «التفضيل» هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم ، وقال غيره : وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان ، ويمشي قائما ، ونحو هذا من التفضيل ، وهذا كله غير محذق وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم ، كجري الفرس ، وسمعه ، وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد وكرم الديك ، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله ، وبه يعرف الله عزوجل ، ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه ، وقالت فرقة : هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس ، من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، [النساء : ١٧٢] وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل التساوي ، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع ، وقوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا) الآية ، يحتمل قوله (يَوْمَ) أن يكون منصوبا على الظرف ، والعامل فيه : فعل مضمر تقديره أنكر ، أو فعل يدل عليه ، قوله (وَلا يُظْلَمُونَ) تقديره «ولا يظلمون يوم ندعو». ثم فسره (يُظْلَمُونَ) الأخير ، ويصح أن يعمل فيه (وَفَضَّلْناهُمْ) ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن ، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر ، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر ؛ يا ليتني كنت ترابا ، ولا يعمل فيه (نَدْعُوا) لأنه مضاف إليه ، ويحتمل أن يكون (يَوْمَ) منصوبا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعا بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله (فَمَنْ أُوتِيَ) إلى قوله (وَمَنْ كانَ). وقرأ الجمهور «ندعو» بنون العظمة ، وقرأ مجاهد «يدعو» ، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم. وقرأ الحسن «يدعو» بضم الياء وسكون الواو ، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب ، يقلبون هذه الألف واوا ، فيقولون افعو حبلو ، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن : «كل» بالرفع ، على معنى يدعى كل ، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن ، أنه قرأ «يدعى كل» و (أُناسٍ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله (بِإِمامِهِمْ) يحتمل أن يريد باسم إمامهم ، ويحتمل أن يريد مع إمامهم ، فعلى التأويل الأول : يقال يا أمة محمد ، ويا أتباع فرعون ، ونحو هذا ، وعلى التأويل الثاني : تجيء كل أمة معها إمامها ، من هاد أو مضل ، واختلف المفسرون في «الإمام» ، فقال مجاهد وقتادة : نبيهم ، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم ، وقال ابن عباس والحسن : كتابهم الذي فيه أعمالهم ، وقالت فرقة : متبعهم ، من هاد أو مضل ، ولفظة «الإمام» تعم هذا كله ، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدى به في المقصد ، ومنه قيل لخيط البناء إمام ، قال الشاعر يصف قدحا : [الطويل]

وقومته حتى إذا تم واستوى

كمخة ساق أو كمتن إمام

ومنه قيل للطريق إمام ، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ


بِيَمِينِهِ) حقيقة في أن في يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان ، وفي الشمائل لأهل الكفر ، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد ، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار ، وقوله (يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها ، وقوله (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا أقل ولا أكثر ، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور. كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، [الإسراء : ٢٣] وكقوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] وهذا كثير ومعنى الآية : أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئا ، و «الفتيل» هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر ، وقوله (وَمَنْ كانَ) ، الآية ، قال محمد بن أبي موسى : الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها ، فهو في أمور الآخرة وشأنها (أَعْمى).

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل (أَعْمى) الثاني أن يكون بمنزلة الأول ، على أنه تشبيه بأعمى البصر ، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل ، أي أشد عمى ، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني ، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد : الإشارة بهذه إلى الدنيا ، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى ؛ إما أن يكون على حذف مضاف ، أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون : فهو في يوم القيامة أعمى ، على معنى أنه حيران ، لا يتوجه له صواب ، ولا يلوح له نجح ، قال مجاهد «فهو في الآخرة أعمى» عن حجته.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن الإشارة ب (هذِهِ) إلى الدنيا ، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله ، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى ، لأنه قد باشر الخيبة ، ورأى مخايل العذاب ، وبهذا التأويل ، تكون معادلة للتي قبلها ، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه ، وإذا جعلنا قوله (فِي الْآخِرَةِ) بمعنى في شأن الآخرة ، لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «أعمى» في الموضعين ، بغير إمالة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة ، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني ، وتأوله بمعنى أشد عمى ، ولذلك لم يمله ، قال أبو علي : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و (أَعْمى) ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا ، فليس يتم إلا في قولنا من كذا ، فهو إذا ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل قوله عطفا عليه (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فإنما عطف (أَضَلُ) الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به ، وإنما جعله في الآخرة (أَضَلُّ سَبِيلاً) ، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو ، وهو في الآخرة ، لا يمكنه ذلك ، فهو (أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وأشد حيرة ، وأقرب إلى العذاب ، وقول سيبويه رحمه‌الله : لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه ، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه ، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ، وذكر مكي في هذه الآية ، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال ، والله المعين. وقوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) الآية ، (إِنْ) هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة ، واللام في قوله (لَيَفْتِنُونَكَ) لام تأكيد ، و (إِنْ) هذه عند الفراء بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله (كادُوا) قيل هو لقريش وقيل لثقيف ، فأما لقريش ، فقال ابن جبير ومجاهد : نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا


ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أيضا أوثاننا على معنى التشرع بذلك ، قال الطبري وغيره : فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر لهم ذلك ، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه «وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي» ، وقال ابن إسحاق وغيره ، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه ، وقالوا له : أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك ، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩]. وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه ، وأما لثقيف ، فقال ابن عباس وغيره : لأنهم طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات ، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا ، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب ، فقل : أوحى الله ذلك إلي ، فنزلت الآية في ذلك ، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية ، وقد روي ذلك ، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية.

قال القاضي أبو محمد : وجميع ما أريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه ، إما في معجز وإما في غير معجز ، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع. وقوله (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم ، وقوله (لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) الآية ، تعديد نعمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين». و «الركون» شد الظهر إلى الأمر أو الحزم على جهة السكون إليه ، كما يفعل الإنسان بالركن من الجدران ومنه قوله تعالى حكاية. (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠] ، وقرأ الجمهور «تركن» بفتح الكاف ، وقرأ ابن مصرف وقتادة وعبد الله بن أبي إسحاق «تركن» بضم الكاف ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يركن ، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعا منه في استئلافهم ، وذهب ابن الأنباري إلى أن معناه لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت ، ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم بذلك عن النبي عليه‌السلام ، فحمل اللفظ ما لا يحتمل ، وقوله (شَيْئاً قَلِيلاً) يبطل ذلك ، وهذا الهم من النبي عليه‌السلام إنما كانت خطرة مما لا يمكن دفعه ، ولذلك قيل (كِدْتَ) ، وهي تعطي أنه لم يقع ركون ، ثم قيل (شَيْئاً قَلِيلاً) إذ كانت المقاربة التي تتضمنها (كِدْتَ) قليلة خطرة لم تتأكد في النفس ، وهذا الهمّ هو كهمّ يوسف عليه‌السلام ، والقول فيهما واحد وقوله (إِذاً لَأَذَقْناكَ) الآية ، يبطل أيضا ما ذهب إليه ابن الأنباري ، وقوله (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.

قال القاضي أبو محمد : على معنى أن ما يستحقه هذا المذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه لك ، وهذا التضعيف شائع مع النبي عليه‌السلام في أجره ، وفي ألمه وعقاب أزواجه ، وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً


(٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٧٩)

قال حضرمي الضمير في (كادُوا) ليهود المدينة وناحيتها ، كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا له : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء بالشام ، ولكنك تخاف الروم ، فإن كنت نبيا ، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء ، فنزلت الآية في ذلك ، وأخبر الله عزوجل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو خرج لم يلبثهم بعده (إِلَّا قَلِيلاً) ، وحكى النقاش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج بسبب قولهم ، وعسكر بذي الحليفة ، وأقام ينتظر أصحابه ، فنزلت الآية عليه ، فرجع ، وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة ، وقالت فرقة الضمير في (كادُوا) هو لقريش ، وحكى الزجاج أن «استفزازهم» هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله ، و (الْأَرْضِ) على هذا عامة في الدنيا ، كأنه قال (لِيُخْرِجُوكَ) من الدنيا ، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة ، إما مكة وإما المدينة ، كما قال تعالى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة : ٣٣]. فإنما معناه من الأرض التي فيها تصرفهم وتمعسهم ، وقال ابن عباس وقتادة : واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية ، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك ، ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه (إِلَّا قَلِيلاً) يوم بدر ، وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها ، لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وأن لا يستأصلها ، أذن لرسوله بالهجرة ، فخرج من الأرض بإذن الله لا يقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم ، قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا ، فذهب مجاهد رحمه‌الله إلى أن الضمير في (يَلْبَثُونَ) عام في جميعهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون ، وإعمال (إِذاً) ، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام وشد الباء ، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء ، وقرأ عطاء «بعدك إلا قليلا» ، وقرأ الجمهور «خلفك» ، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم «خلافك» ، والمعنى واحد ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

عقب الرذاذ خلافها فكأنما

بسط الشواطب بينهن حصيرا

ومنه قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ٨١] ، على بعض تأويلاته أي بعد خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف لأن التقدير في آياتنا خلاف خروجك ، وفي بيت الشاعر خلاف انبساط الشمس أو نحوه ، قال أبو علي : أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليست أحداثا فلم يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النصب ، كقوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا


الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] ، وقوله (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ٣] ، وقوله (سُنَّةَ) نصب على المصدر ، وقال الفراء نصبه على حذف الخافض ، لأن المعنى كسنة ، فحذفت الكاف ونصب ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله (قَلِيلاً) ، ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها الهلاك فلم تلبث بعده إلا قليلا ، وقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية ، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة ، فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : «دلوك الشمس» زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر ، و (غَسَقِ اللَّيْلِ) أشير به إلى المغرب والعشاء ، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) حين زالت فصلى بي الظهر» ، وروى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ، وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : «دلوك الشمس» غروبها ، والإشارة بذلك إلى المغرب ، و (غَسَقِ اللَّيْلِ) اجتماع ظلمته ، فالإشارة إلى العتمة ، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر ، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات ، وهما من جهة اللغة حسنان ، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال ، وآخره هو الغروب ، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا ، لأنها في حالة ميل ، فذكر الله الصلوات التي في حالة «الدلوك» وعنده ، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في (غَسَقِ اللَّيْلِ) ، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن أيدالك الرجل امرأته يريد أيميل بها إلى المطل في دينها فقال له الحسن نعم إذا كان ملفجا ، أي عديما ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

مصابيح ليست باللواتي تقودها

نجوم ولا بالآفلات الدوالك

ومن ذلك قول الشاعر : [الرجز]

هذا مكان قدمي رباح

غدوة حتى دلكت براح

يروى براح بكسر الباء ، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبدا لينظر كيف ميلها وما بقي لها ، وهذا نحو قول الحجاج : [الرجز]

والشمس قد كادت تكون دنفا

دفعها بالراح كي تزحلقا

وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال : دلكت براح يعني براح مكانا. قال : فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم ، وإن كان من كلام راو فأهل الغريب أعلم بذلك ، ويروى أن البيت الأول : «غدوة حتى هلكت براح» ، بفتح الباء على وزن قطام وحذام ، وهو اسم من أسماء الشمس ، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته ، وقال الشاعر : [المديد]

آب هذا الليل إذ غسقا


وقال ابن عباس : (غَسَقِ اللَّيْلِ) بدؤه ، ونصب قوله (وَقُرْآنَ) بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن ، ويصح أن ينصب عطفا على الصلاة ، أي «وأقم قرآن الفجر» ، وعبر عن صلاة الصبح خاصة ب «القرآن» لأن القرآن هو عظمها ، إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، ويصح أن ينصب قوله (وَقُرْآنَ) على الإغراء وقوله (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه‌السلام : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» ، الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره ، وعلى القول بذلك مضى الجمهور ، وذكر الطبري حديثا عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء ، في قوله (كانَ مَشْهُوداً) قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته ، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل ، ونحو هذا مما ليس بالقوي ، وقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ مِنَ) للتبعيض ، التقدير ووقتا من الليل أي وقم وقتا ، والضمير في (بِهِ) عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على «القرآن» وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق ، لكن جرى مضافا إلى الفجر ، و (فَتَهَجَّدْ) معناه : فاطرح الهجود عنك ، والهجود النوم ، يقال هجد يهجد بضم الجيم هجودا إذا نام ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

ألا طرقتنا والرفاق هجود

فباتت بعلات النوال تجود

ومنه قول الحطيئة : [الطويل]

فحياك ود ما هداك لفتية

وخوص بأعلى ذي طوالة هجد

وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث ، ومثله (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] معناه تندمون ، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي انبساط النفس وسرورها ، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك ، فالمعنى وقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة ، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود : «التهجد» بعد نومة ، وقال الحجاج بن عمرو إنما «التهجد» بعد رقدة ، وقال الحسن : التهجد» ما كان بعد العشاء الآخرة ، وقوله (نافِلَةً لَكَ) قال ابن عباس وغيره : معناه زيادة لك في الفرض ، قالوا : وكان قيام الليل فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل ، ويكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله «أقم الصلوات» الآية. وقال مجاهد : إنما هي (نافِلَةً) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم ، وبين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقربا أشرف من نوافل أمته ، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث ، وإما أن تحط بها خطاياهم ، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة ، كنصراني يسلم وصبي يحتلم ، وضعف الطبري قول مجاهد. وقوله (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) عزة من الله عزوجل لرسوله ، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه‌السلام ، والحديث بطوله في البخاري ومسلم ، فلذلك اختصرناه ، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال : «أنا سيد ، ولد آدم


ولا فخر». و (عَسى) من الله واجبة ، و (مَقاماً) نصب على الظرف ، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى ، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف ، فيذهب لذلك ، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار ، فمعناه الاقتضاب والاختصار. لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف ، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار ، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء ، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».

قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها ، أو يقال إن كل مقام منها محمود ، قال النقاش : لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث شفاعات ، شفاعة العامة ، وشفاعة السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر ، والمشهور أنهما شفاعتان فقط ، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : «المقام المحمود» هو أن الله عزوجل يجلس محمدا معه على عرشه ، وروت في ذلك حديثا ، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول ، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ، ولا ينكر مع ذلك أن يروى ، والعلم يتأوله ، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا.

قال القاضي أبو محمد : من أنكر جوازه على تأويله.

قوله عزوجل :

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً(٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٨٤)

ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة ، فهي على أتم عموم ، معناه (رَبِ) أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري ، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص ، ثم اختلفوا في تعيينه ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : أراد (أَدْخِلْنِي) المدينة (وَأَخْرِجْنِي) من مكة ، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع ، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم ، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم ، وقال أبو صالح ومجاهد : (أَدْخِلْنِي) في أمر تبليغ الشرع (وَأَخْرِجْنِي) منه بالأداء التام ، وقال ابن عباس : الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث ، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله ، أصوب ، وقرأ الجمهور «مدخل» «ومخرج» بضم الميم ، فهو جرى على (أَدْخِلْنِي


وَأَخْرِجْنِي) وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد ، «مدخل» «ومخرج» بفتح الميم ، فليس بجار على (أَدْخِلْنِي) ولكن التقدير «أدخلني فأدخل مدخل» ، لأنه إنما يجري على دخل ، و «الصدق» هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح ، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن ، وقوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قال مجاهد وغيره : حجة ، يريد تنصرني ببيانها على الكفار ، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفا ينصر دين الله ، فطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين ، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته ، وقوله (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) الآية ، قال قتادة : (الْحَقُ) القرآن ، و (الْباطِلُ) الشيطان ، وقالت فرقة : (الْحَقُ) الإيمان ، و (الْباطِلُ) الكفر ، وقال ابن جريج : (الْحَقُ) الجهاد ، و (الْباطِلُ) الشرك ، وقيل غير ذلك ، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة ، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه ، (وَزَهَقَ) الكفر بجميع ما انطوى فيه ، و (الْباطِلُ) كل ما لا تنال به غاية نافعة. وقوله (كانَ زَهُوقاً) ليست (كانَ) إشارة إلى زمن مضى ، بل المعنى كان وهو يكون ، وهذا كقولك كان الله عليما قادرا ونحو هذا ، وهذه الآية نزلت بمكة ، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها ، وقرأ الجمهور «وننزل» بالنون ، وقرأ مجاهد «وينزل» بالياء خفيفة ، ورواها المروزي عن حفص ، وقوله (مِنَ الْقُرْآنِ) يصح أن تكون (مِنَ) لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال وننزل ما فيه شفاء (مِنَ الْقُرْآنِ) وأنكر بعض المتأولين أن يكون (مِنَ) للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه.

قال القاضي أبو محمد : وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض ، فكأنه قال (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) شيئا شيئا ما فيه كله (شِفاءٌ) ، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه ، ويحتمل أن يراد ب «الشفاء» نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه ، وكونه رحمته ظاهر ، وقوله (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) معنى أنه عليهم عمى ، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن. وقوله (وَإِذا أَنْعَمْنا) الآية ، (الْإِنْسانِ) في هذه الآية لا يراد به العموم ، وإنما يراد به بعضه وهم الكفرة ، وهذا كما تقول عند غضب : لا خير في الأصدقاء ولا أمانة في الناس ، فأنت تعم مبالغة ، ومرادك البعض ، وهذا بحسب ذكر الظالمين ، و «الخسار» في الآية قبل فاتصل ذكر الكفرة ، ويحتمل أن يكون (الْإِنْسانِ) في هذه الآية عاما للجنس ، على معنى أن هذا الخلق الذميم في سجيته ، فالكافر يبالغ في الإعراض والعاصي يأخذ بحظه منه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مؤمن : «فأعرض فأعرض الله عنه» ، ومعنى (أَعْرَضَ) ولانا عرضه ، ونأى أي بعد ، وهذه استعارة ، وذلك أنه يفعل أفعال المعرض النائي في تركه الإيمان بالله وشكر نعمه عليه ، وقرأ ابن عامر وحده «وناء» ، ومعناه نهض أي متباعدا ، هذا قول طائفة ، وقالت أخرى هو قلب الهمزة بعد الألف من (نَأى) بعينه وهي لغة كرأى وراء ، ومن هذه اللفظة ، قول الشاعر في صفة رام : [الرجز]

حتى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شق الشمال كاهله


أي نهض متوركا على شماله ، والذي عندي أن «ناء ونأى» فعلان متباينان ، وناء بجانبه عبارة عن التحيز والاستبداد ، ونأى عبارة عن البعد والفراق ، ثم وصف الكفرة بأنهم إذا مسهم شر من مرض أو مصيبة في مال أو غير ذلك يئسوا من حيث لا يؤمنون بالله ولا يرجون تصرف أقداره ، ثم قال عزوجل (قُلْ) يا محمد (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي على طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه وهو شكله ومثل له ، وهذه الآية تدل دلالة ما على أن (الْإِنْسانِ) أولا لم يرد به العموم ، أي إن الكفار بهذه الصفات ، والمؤمنون بخلافها ، وكل منهم يعمل على ما يليق به ، والرب تعالى أعلم بالمهتدي ، وقال مجاهد : (عَلى شاكِلَتِهِ) معناه على طبيعته ، وقال أيضا معناه على حدته ، وقال ابن عباس : معناه على ناحيته ، وقال قتادة : معناه على ناحيته وعلى ما ينوي ، وقال ابن زيد : معناه على دينه ، وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة وفي قوله (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) توعد بين.

قوله عزوجل :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٨٨)

الضمير في (يَسْئَلُونَكَ) قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحدا من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي فيه بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوكئا على عسيب ، فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية ، وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم «غدا أخبركم به» ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوما ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية ، واختلف الناس في (الرُّوحِ) المسئول عنه أي روح هو؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي؟ ف (الرُّوحِ) اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة : (الرُّوحِ) المسئول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : «ملك له سبعون ألف وجه في كل


وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة» ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة (الرُّوحِ) القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون «الأمر» اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدرا من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمرا بالكون فكان. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا» ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ الجمهور «وما أوتيتم» ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له (قُلِ الرُّوحُ) إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضا أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عزوجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جدا ، كما قال الخضر عليه‌السلام لموسى عليه‌السلام ، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر» ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئا من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فعارضهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فعارضهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله في بعض الأحاديث «كلّا» يعني أن المراد ب (أُوتِيتُمْ) جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أم قومك؟ فقال «كلّا» ، وفي هذا المعنى نزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧] ، حكى ذلك الطبري رحمه‌الله ، وقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا) الآية فيها شدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي عتاب على قوله غدا أعلمكم ، فأمر بأن يقول إن الروح من أمر ربه فيذعن بالتسليم لله في أنه يعلم بما شاء ، ويمسك عن عباده ما شاء ، ثم قيل له (وَما أُوتِيتُمْ) أنت يا محمد وجميع الخلائق (مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، فالله يعلم من علمه بما شاء ويدع ما شاء ، ولئن شاء لذهب بالوحي الذي أتاك ، ثم لا ناصر لك منه ، أي فليس بعظيم أن لا تجيء بتفسير في الروح الذي أردت أن تفسره للناس ووعدتهم بذلك ، وروى ابن مسعود أنه ستخرج ريح حمراء من قبل الشام فتزيل القرآن من المصاحف ومن الصدور وتذهب به ، ثم يتلو هذه الآية. أراد ابن مسعود بتلاوة الآية أن يبدي أن الأمر جائز الوقوع ليظهر مصداق خبره من كتاب الله تعالى. و «الوكيل» القائم بالأمر في الانتصار أو المخاصمة ونحو ذلك من وجود النفع ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً) استثناء منقطع ، أي لكن رحمة من ربك تمسك ذلك عليك ، وهذا الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصا ما ، وليس كالمتصل ، لأن المتصل يخصص من الجنس أو الجملة ، والمنقطع


يخصص أجنبيا من ذلك ، ولا ينكر وقوع المنقطع في القرآن إلا أعجمي ، وقد حكي ذلك عن ابن خويز منداد ، ثم عدد عليه عزوجل كبر فضله في اختصاصه بالنبوة وحمايته من المشركين إلى غير ذلك مما لا يحصى. وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) الآية ، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنسا وجنا على ذلك لم يقدروا عليه ، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عزوجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى ، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان ، وقوله (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) في موضع رفع ، و (لا) متلقية قسما ، واللام في قوله (لَئِنِ) مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحيانا ، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط ، ويجيء الفعل المنفي مجزوما ، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش : [البسيط]

لئن منيت بنا عن غر معركة

لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل

و «الظهير» المعين ، ومنه قوله عزوجل (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) [التحريم : ٤] الآية : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ، ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة ، وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا ، ولكل حصل علم قطعي ، لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر ، فحصل للجميع القطع ، لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله : يعد الناسبون إلى تميم.

الأبيات كلها ، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق في قول الفرزدق : على م تلفتين ، وفي قوله : تلفت أنها تحت ابن قين.

وألا ترى إلى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) [التكاثر : ٢] فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت ، ومنه قول الأعرابي للأصمعي : من أحوج الكريم إلى أن يقسم؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر ، وأمثلة ذلك محفوظة ، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة ، وكونهم فيها النهاية ، كما كان السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى ، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ المحاد منهم إلى السيف ، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم ، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة ، وكذلك التحدي بالعشر السور ، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة ، وقيد العشر بالافتراء لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى ، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ، ولم يذكر


الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل ، بل قال (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) [البقرة : ٢٣] على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف ، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق ، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات ، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٩٢)

هذه الآية تنبه على فضل الله في القرآن على العالم ، وتوبيخ للكفار منهم على قبيح فعلهم ، وتصريف القول هو ترديد البيان عن المعنى ، وقرأ الجمهور «صرّفنا» بتشديد الراء ، وقرأ الحسن «صرفنا» بفتح الراء خفيفة ، وقوله (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يجوز أن تكون (مِنْ) لابتداء الغاية ، ويكون المفعول ب (صَرَّفْنا) مقدرا تقديره «ولقد صرفنا في هذا القرآن التنبيه والعبر من كل مثل ضربناه» ، ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة ، التقدير «ولقد صرفنا كل مثل» ، وهذا كقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥]. وقوله (فَأَبى) عبارة عن تكسب الكفار الكفر وإعراضهم عن الإيمان ، وفي العبارة يأبى تغليظ ، والكفر بالخلق والاختراع هو من فعل الله تعالى ، وبالتكسب والدؤوب هو من الإنسان ، و (كُفُوراً) مصدر كالخروج. وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «حتى تفجّر» ، وقرأ عاصم وحمزة الكسائي حتى «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم ، وفي القرآن (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] ، وانفجر مطاوع فجر فهذا مما يقوي القراءة الثانية ، وأما الأولى فتقتضي المبالغة في التفجير. و «الينبوع» الماء النابع ، وهي صفة مبالغة إنما تقع للماء الكثير ، وطلبت قريش هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وإياها عنوا ب (الْأَرْضِ) ، وإنما يراد بإطلاق لفظة (الْأَرْضِ) هنا الأرض التي يكون فيها المعنى المتكلم فيه ، كقوله (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة : ٣٣] فإنما يريد من أرض تصرفهم وقطعهم السبل ومعاشهم ، وكذلك أيضا اقتراحهم الجنة إنما هو بمكة لامتناع ذلك فيها ، وإلا ففي سائر البلاد كان ذلك يمكنه وإنما طلبوه بأمر إلهي في ذلك الموضع الجدب ، وقرأ الجمهور «جنة» ، وقرأ «حبة» المهدوي ، وقوله (فَتُفَجِّرَ). تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، كغلقت الأبواب ، و (خِلالَها) ظرف ، ومعناه أثناءها وفي داخلها ، وروي في قول هذه المقالة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث طويل ، مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وعبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها ، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك ، أو يجمعوا له كثيرا من المال إن أراد الغنى ، أو يطبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك


إلى الله ، وقال «إنما جئتكم عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم ، فإن سمعتم وأطعتم فحسن ، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء» ، فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعمه حقا ففجر ينبوعا ونؤمن لك ، ولتكن لك جنة إلى غير ذلك مما كلفوه ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا كله إلى الله ، ولا يلزمني هذا ولا غيره ، وإنما أنا مستسلم لأمر الله» ، هذا هو معنى الحديث. وفي الألفاظ اختلاف وروايات متشعبة يطول سوق جميعها ، فاختصرت لذلك. وقوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ) الآية ، قرأ الجمهور «أو تسقط» بضم التاء ، «السماء» نصب ، وقرأ مجاهد «أو تسقط السماء» برفع «السماء» وإسناد الفعل إليها ، وقوله (كَما زَعَمْتَ) إشارة إلى ما تلي عليهم قبل ذلك في قوله عزوجل (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ : ٩] ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «كسفا» بسكون السين إلا في الروم ، فإنهم حركوها ، ومعناه قطعا واحدا ، قال مجاهد : السماء جميعا وتقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، ف «الكسف» بفتح السين المصدر ، والكسف الشيء المقطوع ، قال الزجاج : المعنى أو تسقط السماء علينا قطعا ، واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته.

قال القاضي أبو محمد : وليس بمعروف في دواوين اللغة كسف بمعنى غطى ، وإنما هو بمعنى قطع ، وكأن كسوف الشمس والقمر قطع منهما ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «كسفا» بفتح السين أي قطعا جمع كسفه ، وقوله (قَبِيلاً) قيل معناه مقابلة وعيانا ، وقيل معناه ضامنا وزعيما بتصديقك ، ومنه القبالة وهي الضمان والقبيل ، والمتقبل الضامن ، وقيل معناه نوعا وجنسا لا نظير له عندنا ، وقرأ الأعرج «قبلا» وقيل بمعنى المقابلة.

قوله عزوجل :

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٩٥)

قال المفسرون : «الزخرف» الذهب في هذا الموضع ، والزخرف ما تزين به ، كان بذهب أو غيره ، ومنه (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) [يونس : ٢٤] وفي قراءة عبد الله بن مسعود «أو يكون لك بيت من ذهب» ، قال مجاهد ما كنا نعرف الزخرف حتى قرأنا في حرف عبد الله «من ذهب» ، وقوله (فِي السَّماءِ) يريد في الهواء علوا ، والعرب تسمي الهواء علوا سماء لأنه في حيز السمو. ويحتمل أن يريدوا السماء المعروفة ، وهو أظهر لأنه أعلمهم أن إله الخلق فيها وأنه تأتيه خبرها ، و (تَرْقى) معناه تصعد ، والرقي الصعود ، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية ، فإنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا لا أؤمن لك حتى تأتي بكتاب أراك هابطا به فيه من الله عزوجل إلى عبد الله بن أبي أمية ، وروي أن جماعتهم طلبت هذا النحو منه ، فأمره الله عزوجل أن يقول (سُبْحانَ رَبِّي) أي تنزيها له من الإتيان مع


الملائكة قبيلا ، ومن أن يخاطبكم بكتاب كما أردتم ، ومن أن اقترح أنا عليه هذه الأشياء ، وهل أنا إلا بشر منكم ، أرسلت إليكم بالشريعة ، فإنما علي التبليغ فقط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» على معنى الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سبح عند قولهم ، وقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه‌السلام والبشر ، كأنه يقول متعجبا منهم ما شاء الله كان ، ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يستند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلا غير بدع ولا غريب ، فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) يسكنونها (مُطْمَئِنِّينَ) ، أي وادعين فيها مقيمين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طباعهم من رؤيته ، ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما أراد الله جري أحوالهم على معتادها.

قوله عزوجل :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(٩٨)

روى البخاري أن الملأ من قريش الذين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقالات التي تقدم ذكرها من عرض الملك عليه والغنى وغير ذلك ، قالوا له في آخر قولهم : فلتجىء معك طائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوتك ، قال المهدوي : روي أنهم قالوا له : فمن يشهد لك؟.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى أقوالهم إنما هو طلب شهادة دون أن يذكروها ، ففي ذلك نزلت الآية ، أي الله يشهد بيني وبينكم الذي له الخبر والبصر لجميعنا صادقنا وكاذبنا ، ثم رد الأمر إلى خلق الله تعالى واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر ، أي ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ ، وفي قوله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) وعيد ، ثم أخبر عزوجل أنهم يحشرون على الوجوه (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) ، وهذا قد اختلف فيه ، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة ، وقيل هي حقيقة كلها ، وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم ، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك ، ويقال للمنصرف عن أمر خائفا مهموما : انصرف على وجهه ، ويقال للبعير المتفه كأنما يمشي على وجهه ، ومن قال ذلك في الآية حقيقة ، قال : أقدرهم الله على النقلة على الوجوه ، كما أقدر في الدنيا على النقلة على الأقدام ، وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله : كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا أن يمشيه في


الآخرة على وجهه»؟ قال قتادة : بلى وعزة ربنا ، وقوله (كُلَّما خَبَتْ) أي كلما فرغت من إحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ، ثم تثور ، فتلك «زيادة السعير» قاله ابن عباس ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور ، وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله ، وخمدت معناه سكن الجمر وضعف ، وهمدت معناه طفيت جملة ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [الهزج]

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو

إذا ما خبت يلقى عليها المندل الرطب

ومنه قول عدي بن زيد : [الخفيف]

وسطة كاليراع أو سرج المج

دل طورا تخبو وطورا تثير

ومنه قول القطامي :

فتخبو ساعة وتهب ساعا

وقوله (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) الآية ، الإشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم ، وقوله (بِآياتِنا) يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد عليه‌السلام ، ويعم آيات القرآن وما تضمن من خبر وأمر ونهي ، ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث ، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن ، ووجه تخصيصه التعظيم له والتنبيه على خطارة الكفر في إنكاره ، وقد تقدم اختلاف القراء في الاستفهامين في غير هذا الموضع ، و «الرفات» بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب ، و «البعث» تحريك الشيء الساكن ، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للحال بزعمهم.

قوله عزوجل :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً)(١٠١)

هذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من البعث ، وذلك أنهم قرروا على خلق الله تعالى واختراعه لهذه الجملة التي البشر جزء منها ، فهم لا ينكرون ذلك ، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلقه للكل وإخراجه من خمول العدم وينكرون إعادته للبعض؟ فحصل الأمر في حيز الجواز ، وأخبر الصادق الذي قامت دلائل معجزاته بوقوع ذلك الجائز ، و «الرؤية» في هذه الآية رؤية القلب ، و «الأجل» هنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت ، و «الأجل» على هذا التأويل اسم جنس لأنه وضعه موضع الآجال ، ومقصد هذا الكلام بيان قدرة الله عزوجل وملكه لخلقه ، وبتقرير ذلك يقوى جواز بعثه لهم حين يشاء لا إله إلا هو ، وقوله (فَأَبَى) عبارة عن تكسبهم وجنوحهم ، وقد مضى تفسير هذه الآيات آنفا ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ


تَمْلِكُونَ) الآية حكم لو أن يليها الفعل إما مظهرا وإما مضمرا يفسره الظاهر بعد ذلك ، فالتقدير هنا ، قل لو تملكون خزائن ، ف (أَنْتُمْ) رفع على تبع الضمير ، و «الرحمة» في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق ، ومن هذا سميت (رَحْمَةِ) ، و (الْإِنْفاقِ) المعروف ذهاب المال وهو مؤد إلى الفقر ، فكأن المعنى خشية عاقبة الإنفاق ، وقال بعض اللغويين أنفق الرجل معناه افتقر كما تقول أترب وأقتر ، وقوله «وكان الإنسان قتورا» أي ممسكا ، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى ، فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر ، وكذلك يظن أن قدرة الله تعالى تقف دون البعث ، والأمر ليس كذلك ، بل قدرته لا تتناهى ، فهو مخترع من الخلق ما يشاء ، ويخترع من الرحمة الأرزاق ، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته ، وبهذا النظر تتلبس هذه الآية بما قبلها ، والله ولي التوفيق برحمته ، ومن الإقتار قول أبي داود : [الخفيف]

لا أعد الإقتار عدما ولكن

فقد من قد رزئته الإعدام

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع ، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، واختلفوا في الأربع ، فقال ابن عباس : هي يده ولسانه حين انحلت عقدته ، وعصاه والبحر ، وقال محمد بن كعب القرطبي : هي البحر والعصا والطمسة والحجر ، وقال سألني عن ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبرته ، فقال لي : وما الطمسة؟ فقلت دعا موسى وآمن هارون فطمس الله أموالهم وردها حجارة ، فقال عمر : وهل يكون الفقه إلا هكذا؟ ثم دعا بخريطة فيها غرائب كانت لعبد العزيز بن مروان ، جمعها بمصر ، فاستخرج منها الحوزة والبيضة والعدسة وهي كلها حجر كانت من بقايا أموال آل فرعون ، وقال الضحاك : هي إلقاء العصا مرتين ، واليد ، وعقدة لسانه ، وقال عكرمة ومطر الوراق ، والشعبي : هي العصا واليد والسنون ونقص الثمرات ، وقال الحسن : هي العصا في كونها ثعبانا وتلقف العصا ما يأفكون ، وقال ابن عباس : هي السنون في بواديهم ، ونقص الثمرات في قراهم ، واليد ، والعصا ، وروى مطرف عن مالك أنها العصا ، واليد ، والجبل إذ نتق ، والبحر ، وروى ابن وهب عنه مكان البحر الحجر ، والذي يلزم من الآية أن الله تعالى خص من آيات موسى إذ هي كثيرة جدا تنيف على أربع وعشرين ، تسعا بالذكر ووصفها بالبيان ولم يعينها ، واختلف العلماء في تعيينها بحسب اجتهادهم في بيانها أو روايتهم التوقيف في ذلك ، وقالت فرقة آيات موسى إنما أريد بها آيات التوراة التي هي أوامر ونواه ، روى في هذا صفوان بن عسال ، أن يهود المدينة قال لآخر : سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى ، فقال له الآخر : لا تقل إنه نبي ، فإنه لو سمعك صار له أربع أعين ، قال : فسارا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه ، فقال «هن أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تفروا يوم الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت» ، وقرأ الجمهور «فاسأل بني إسرائيل» وروي عن الكسائي «فسل» على لغة من قال سأل يسأل ، وهذا كله على معنى الأمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي اسأل معاصريك عما أعلمناك به من غيب القصة ، ثم قال (إِذْ جاءَهُمْ) يريد آباءهم ، وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم ، ويحتمل أن يريد (فَسْئَلْ


بَنِي إِسْرائِيلَ) الأولين الذين جاءهم موسى وتكون إحالته إياه على سؤالهم بطلب إخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم نحو قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] وهذا كما تقول لمن تعظه : سل الأمم الخالية هل بقي منها مخلد؟ ونحو هذا مما يجعل النظر فيه مكان السؤال ، قال الحسن : سؤالك نظرك في القرآن وقرأ ابن عباس «فسأل بني إسرائيل» أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب ، وقوله (مَسْحُوراً) اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة هو مفعول على بابه ، أي إنك قد سحرت ، فكلامك مختل ، وما تأتي به غير مستقيم ، وقال الطبري : هو مفعول بمعنى فاعل كما قال (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] وكما قالوا مشؤوم وميمون وإنما هو شايم ويأمن.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يتخرج إلا على النسب أي ذا سحر ملكته وعلمته ، فأنت تأتي بهذه الغرائب لذلك ، وهذه مخاطبة تنقص ، فيستقيم أن يكون (مَسْحُوراً) مفعولا على ظاهره ، وعلى أن يكون بمعنى ساحر يعارضنا ما حكي عنهم أنهم قالوا له على جهة المدح (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [الزخرف : ٤٩] فإما أن يكون القائلون هنالك ليس فيهم فرعون وإما أن يكون فيهم لكنه تنقل من تنقصه إلى تعظيمه ، وفي هذا نظر.

قوله عزوجل :

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١٠٤)

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنه قرأ «علمت» بتاء المتكلم مضمومة ، وقال ما علم عدو الله قط ، وإنما علم موسى ، وتتقوى هذه القراءة لمن تأول (مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] على بابه ، فلما رماه فرعون بأنه قد سحر ففسد نظره وعقله وكلامه ، رد هو عليه بأنه يعلم آيات الله ، وأنه ليس بمسحور ، بل محرر لما يأتي به ، وهي قراءة الكسائي ، وقرأ الجمهور «لقد علمت» بتاء المخاطب مفتوحة ، فكأن موسى عليه‌السلام رماه بأنه يكفر عنادا ، ومن قال بوقوع الكفر عنادا فله تعلق بهذه الآية ، وجعلها كقوله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] ، وقد حكى الطبري ذلك عن ابن عباس ، ونحا إلى ذلك الزجاج ، وهي معرضة للاحتمال على أن يكون قول موسى عليه‌السلام إبلاغا على فرعون في التوبيخ ، أي أنت بحال من يعلم هذا ، وهي من الوضوح بحيث تعلمها ، ولم يكن ذلك على جهة الخبر عن علم فرعون ، ومن يريد من الآية وقوع الكفر عنادا فإنما يجعل هذا خبرا من موسى عن علم فرعون ، والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى التسع الآيات ، وقوله (بَصائِرَ) جمع بصيرة ، وهي الطريقة أي طرائق يهتدى بها ، وكذلك غلب على البصيرة أنها تستعمل في طريقة النفس في نظرها واعتقادها ، ونصب (بَصائِرَ) على الحال ، و «المثبور» المهلك ، قاله مجاهد ، وقال ابن عباس والضحاك هو المغلوب ، وقال ابن زيد هو المخبول ، وروي عن ابن عباس أنه فسره بالملعون ، وقال بعض العلماء : كان موسى عليه


السلام في أول أمره يجزع ، ويؤمر بالقول اللين ، ويطلب الوزير ، فلما تقوت نفسه بقوى النبوءة ، تجلد وقابل فرعون بأكثر مما أمره به بحسب اجتهاده الجائر له ، قال ابن زيد : اجترأ موسى أن يقول له فوق ما أمره الله به ، وقالت فرقة بل «المثبور» المغلوب المختدع ، وما كان موسى عليه‌السلام ليكون لعانا ، ومن اللفظة قول عبد الله بن الزبعرى : [الخفيف]

إذا جاري الشيطان في سنن الغ

ي ومن مال ميله مثبورا

وقوله عزوجل (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) الآية ، (يَسْتَفِزَّهُمْ) معناه يستخفهم ويقلعهم ، إما بقتل أو بإجلاء ، و (الْأَرْضِ) أرض مصر ، وقد تقدم أنه متى ذكرت الأرض عموما فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها ، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.

قال القاضي أبو محمد : واقتضبت هذه الآية قصص موسى مع فرعون وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره ، وذلك طرفاه ، أراد فرعون غلبتهم وقتلهم وهذا كان بدء الأمر «فأغرقه» الله وأغرق جنوده وهذا كان نهاية الأمر ، ثم ذكر تعالى أمر «بني إسرائيل» بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام ، و (وَعْدُ الْآخِرَةِ) هو يوم القيامة ، و «اللفيف» الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض ، فليس ثم قبائل ولا انحياز ، قال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع ولا واحد له من لفظه ، وقال الطبري هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفا و (لَفِيفاً) وفي هذا نظر فتأمله.

قوله عزوجل :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (١٠٨)

الضمير في قوله (أَنْزَلْناهُ) عائد على القرآن المذكور ، وفي قوله (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الإسراء : ٨٩] ويجوز أن يكون الكلام آنفا. وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته ، كما قال (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢].

وهذا كثير ، قال الزهراوي : معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس (بِالْحَقِ) في نفسه ، وقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ، يريد (بِالْحَقِ) في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول ، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد ، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل ، وقوله (وَقُرْآناً) مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد ، أي «وفرقنا قرآنا» ، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في (أَرْسَلْناكَ) من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا لمعنى واحد ، وقرأ جمهور من الناس «فرقناه» بتخفيف الراء ، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا ، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف ، وحميد وعمرو بن فائد «فرّقناه» بتشديد الراء ، إلا أن


في قراءة ابن مسعود وأبيّ «فرقناه عليه لتقرأه» أي أنزلناه شيئا بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة ، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل : في خمس وعشرين سنة ، وقال ابن عباس : في ثلاث وعشرين سنة ، وقال قتادة في عشرين سنة ، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين ، وتم بموته ، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال : نزل القرآن في ثمان عشرة سنة ، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم ، وتأولت فرقة قوله عزوجل (عَلى مُكْثٍ) أي على ترسل في التلاوة ، وهو ترتيل ، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد ، والتأويل الآخر أي (عَلى مُكْثٍ) وتطاول في المدة شيئا بعد شيء ، وقوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية ، وأجمع القراء على ضم الميم من (مُكْثٍ) ، ويقال مكث ومكث بفتح الميم ومكث بكسرها ، وقوله (قُلْ آمِنُوا بِهِ) الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد ، والمعنى أنكم لستم بحجة ، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم ، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة ، واختلف الناس في المراد ب (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) ، فقالت فرقة : هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة : هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.

وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه ، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله ، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة ، وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح ، فنزلت الآية فيهم ، وقالت فرقة : المراد ب (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في (قَبْلِهِ) عائد على القرآن حسب الضمير في (بِهِ) ، ويبين ذلك قوله (إِذا يُتْلى) ، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله (إِذا يُتْلى) ، وقوله (لِلْأَذْقانِ) أي لناحيتها ، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما ، وعليهما قال ابن عباس : المعنى للوجوه ، وقال الحسن : المعنى للحى ، و «الأذقان» أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان ، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض ، لا سيما عند سجوده ، وقال الشاعر: [الطويل]

فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطير العوادي وتنتف

و (إِنْ) في قوله (إِنْ كانَ) هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة ، واللام بعدها لام التوكيد ، وهي عند الفراء النافية ، واللام بمعنى إلّا ، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) مخلصا للوعيد دون التحقير ، والمعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب ، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر ، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة ، (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.

قوله عزوجل :

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ


الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة ، وحكى الطبري عن التميمي أنه قال : إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ، لأن الله تعالى نعت العلماء ، ثم تلا هذه الآية كلها ، وقوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو «يا الله يا الرحمن» ، فقالواكان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين ، قاله ابن عباس ، وقال مكحول : تهجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة ، فقال في دعائه «يا رحمن يا رحيم» ، فسمعه رجل من المشركين ، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن ، فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة ، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرف «أيّا ما تدعوا فله الأسماء» ، أي وله سائر الأسماء الحسنى ، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف ، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث ، وقد روي أن لله تسعة وتسعين اسما ؛ الحديث ، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند ، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن «لا يجهر» بصلاته وأن «لا يخافت بها» ، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به ، هذه هي حقيقته ، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه ، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة : هي الدعاء ، وقال ابن عباس أيضا : هي قراءة القرآن في الصلاة ، فهذا على حذف مضاف ، التقدير (وَلا تَجْهَرْ) بقراءة صلاتك ، قال : والسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوسط ، ليسمع أصحابه المصلون معه ، ويذهب عنه أذى المشركين ، قال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم ، فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته ، وكان عمر يجهر بها ، فقيل لهما في ذلك ، فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي ، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت هذه الآية ، قيل لأبي بكر : ارفع أنت قليلا ، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا ، وقالت عائشة أيضا : «الصلاة» يراد بها في هذه الآية التشهد ، وقال ابن عباس والحسن : المراد والمعنى : ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر ، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حالة ، وقال ابن زيد : معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه ، ويخفض أحيانا فيسكت من خلفه ، وقال ابن عباس في الآية : إن معناها (وَلا تَجْهَرْ) بصلاة النهار (وَلا تُخافِتْ) بصلاة الليل ، واتبع سبيلا من امتثال الأمر كما رسم لك ، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي ، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه ، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلا يرد هذا ، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة ، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك ، وقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية ، هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا : عزير وعيسى


والملائكة ذرية لله سبحانه وتعالى عن أقوالهم ، ورادة على العرب في قولهم لو لا أولياء الله لذل وقيد لفظ الآية نفي الولاية لله عزوجل بطريق الذل وعلى جهة الانتصار ، إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالحي عباده ، قال مجاهد : المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد ، وقوله (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، ثم أكدها بالمصدر تحقيقا لها وإبلاغا في معناها ، وروى مطرف عن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة.

نجز تفسير سورة سبحان والحمد لله رب العالمين


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الكهف

هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين ، وروي عن فرقة أن أول السور نزل بالمدينة إلى قوله (جُرُزاً) [الكهف : ٨] والأول أصح ، وهي من أفضل سور القرآن ، وروي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا : أي سورة هي يا رسول الله؟ قال : سورة الكهف ، من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ، في رواية أنس ، ومن قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر.

قوله عزوجل :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(٥)

كان حفص عن عاصم يسكت عند قوله (عِوَجاً) سكتة خفيفة ، وعند (مَرْقَدِنا) [ص: ٥٢] في سورة يس ، وسبب هذه البدأة في هذه السورة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث ، الروح ، والكهف ، وذي القرنين ، حسبما أمرتهم بهن يهود ، قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدا أخبركم ، بجواب سؤالكم ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه الله عزوجل بأن استمسك الوحي عنه خمسة عشر يوما ، فأرجف به كفار قريش ، وقالوا : إن محمدا قد تركه ربه الذي كان يأتيه من الجن ، وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه إلى غير ذلك ، فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغ منه ، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله تعالى عتاب محمد إليه ، جاءه الوحي من الله بجواب الأسئلة وغير ذلك ، فافتتح الوحي بحمد الله (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) أي بزعمكم أنتم يا قريش ، وهذا كما تقول لرجل يحب مساءتك فلا يرى إلا نعمتك الحمد لله الذي أنعم علي وفعل بي كذا على جهة النقمة عليه ، و (الْكِتابَ) هو القرآن ، وقوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي لم يزله عن طريق الاستقامة ، و «العوج» فقد الاستقامة ، وهو بكسر العين في الأمور والطرق وما لا يحس متنصبا شخصا ، و «العوج» بفتح العين في الأشخاص كالعصا والحائط ونحوه ، وقال ابن عباس : معناه ولم يجعله مخلوقا ، وقوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ


عِوَجاً) يعم هذا وجميع ما ذكره الناس من أنه لا تناقض فيه ومن أنه لا خلل ولا اختلاف فيه. وقوله (قَيِّماً) نصب على الحال من (الْكِتابَ) ، فهو بمعنى التقديم ، مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب قيما ، واعترض بين الحال وذي الحال قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وذكر الطبري هذا التأويل عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله (قَيِّماً) ، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكن جعله قيما» قاله قتادة ، ومعنى «قيم» مستقيم ، هذا قول ابن عباس والضحاك ، وقيل معناه أنه قيم على سائر الكتب بتصديقها ، ذكره المهدوي ، وهذا محتمل وليس من الاستقامة ويصح أن يكون معنى «قيم» قيامه بأمر الله عزوجل على العالم ، وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عما العالم. و «البأس الشديد» عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها ، ونصبه على المفعول الثاني ، والمعنى لينذر العالم ، وقوله (مِنْ لَدُنْهُ) أي من عنده ومن قبله ، والضمير في (لَدُنْهُ) عائد على الله تعالى ، وقرأ الجمهور من «لدنه» بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «من لدنه» بسكون الدال وإشمام الضم فيها وكسر النون والهاء ، وفي «لدن» لغات ، يقال «لدن» مثل سبع ، «ولدن» بسكون الدال «ولدن» بضم اللام ، «ولدن» بفتح اللام والدال وهي لفظة مبنية على السكون ، ويلحقها حذف النون مع الإضافة ، وقرأ عبد الله وطلحة «ويبشر» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقوله (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً) تقديره بأن لهم أجرا ، والأجر الحسن نعيم الجنة ، ويتقدمه خير الدنيا ، و ، (ماكِثِينَ) حال من الضمير في (لَهُمْ) و (أَبَداً) ظرف لأنه دال على زمن غير متناه.

قال القاضي أبو محمد : وقد أشرت في تفسير هذه الآية إلى أمر اليهود قريشا بسؤال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسائل الثلاث ، وينبغي أن تنص كيف كان ذلك.

ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس بسند ، أنه قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح. فأقبل النضر وعقبة إلى مكة وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وكان الأمر ما ذكرناه ، وقوله (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ) الآية ، أهل هذه المقالة هم بعض اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، وبعض العرب في الملائكة ، والضمير في (بِهِ) يحتمل أن يعود على القول الذي يتضمنه (قالُوا) المتقدم ، وتكون جملة قوله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) في موضع الحال ، أي قالوا جاهلين ، ويحتمل أن يعود على «الولد» الذي ادعوه ، فتكون الجملة صفة للولد ، قاله المهدوي ، وهو معترض لأنه لا يصفه إلا القائل ، وهم ليس في قصدهم أن يصفوه ، والصواب عندي أنه نفي مؤتنف أخبر الله تعالى بجهلهم في ذلك ، فلا موضع للجملة من الإعراب ، ويحتمل أن يعود على الله عزوجل ، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى بالجهل التام عليهم ، وهو قول الطبري. وقوله (وَلا لِآبائِهِمْ) يريد الذين أخذ هؤلاء هذه المقالة عنهم،


وقرأ الجمهور «كبرت كلمة» بنصب الكلمة ، كما تقول نعم رجلا زيد ، وفسر «الكلمة» ووصفها بالخروج من أفواههم ، وقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٢٩] وقالت فرقة نصبها على الحال ، والتقدير (كَبُرَتْ) فريتهم أو نحو هذا (كَلِمَةً) ، وسميت هذه الكلمات (كَلِمَةً) من حيث هي مقالة واحدة ، كما يقولون للقصيدة كلمة ، وهذه المقالة قائمة في النفس معنى واحدا ، فيحسن أن تسمى كلمة ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير «كبرت كلمة» برفع الكلمة على أنها فاعلة ب (كَبُرَتْ) ، وقوله (إِنْ يَقُولُونَ) أي ما يقولون.

قوله عزوجل :

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩)

هذه الآية تسلية للنبي عليه‌السلام ، وقوله (فَلَعَلَّكَ) تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كلذلك ، و «الباخع نفسه» هو مهلكها وجدا وحزنا على أمر ما ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادر

يريد نحته فخفف وقوله (عَلى آثارِهِمْ) ، استعارة فصيحة ، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم ، وقوله (بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بالقرآن الذي يحدثك به ، و (أَسَفاً) نصب على المصدر ، قال الزجاج : و «الأسف» المبالغة في حزن أو غضب.

قال القاضي أبو محمد : و «الأسف» في هذا الموضع الحزن ، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضبا ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا) [الزخرف : ٥٥] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد ، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة : هنا (أَسَفاً) غضبا ، قال مجاهد (أَسَفاً) جزعا وقال قتادة أيضا : حزنا ، ومن هذه اللفظة قول الأعشى : [الطويل]

أرى رجلا منكم أسيفا كأنما

يضم إلى كشحيه كفّا مخضبا

يريد حزينا كأنه مقطوع اليد ، وقوله (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً) ، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه ، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا وخبرة ، واختلف في المراد ب (ما) ، فقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد الرجال وقاله مجاهد ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء ، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ، ونحو هذا مما فيه زينة ، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكل ما لا زين فيه كالحيات والعقارب ، وقالت


فرقة : أراد كل ما على الأرض عموما وليس شيء إلا وفيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وفي معنى هذه الآية ، قول النبي عليه‌السلام : «الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء». و (زِينَةً) مفعول ثان أو مفعول من أجله بحسب معنى «جعل». وقوله (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما ، قال سفيان الثوري : «أحسنهم عملا» أزهدهم فيها ، وقال أبو عاصم العسقلاني : أحسن عملا : أترك لها.

قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رضي الله عنه يقول : أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم ، والإكثار من المندوب إليه. وقوله (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) ، أي يرجع كل ذلك ترابا غير متزين بنبات ونحوه ، و «الجرز» الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة ، فهي البلقع ، وهذه حالة الأرض العامرة الخالية بالدين لا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة ، يقال : جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع ، وأرضون أجراز ، قال الزجاج : والجرز الأرض التي لا تنبت.

قال القاضي أبو محمد : وإنما ينبغي أن يقول : التي لم تنبت ، و «الصعيد» وجه الأرض وقيل «الصعيد» التراب خاصة ، وقيل «الصعيد» الأرض الطيبة وقيل ، «الصعيد» الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة ، وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ) الآية ، مذهب سيبويه في (أَمْ) إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه قال : بل أحسبت إضرابا عن الحديث الأول واستفهاما عن الثاني وقال بعض النحويين : هي بمنزلة ألف الاستفهام ، وأما معنى الكلام فقال الطبري : هو تقرير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا بمعنى إنكار ذلك عليه أي لا تعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشنع ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق ، وذكر الزهراوي : أن الآية تحتمل معنى آخر وهو أن تكون استفهاما له هل علم أصحاب الكهف عجبا ، بمعنى إثبات أنهم عجب وتكون فائدة تقريره جمع نفسه للام لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته فيقال له : وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظه حسبت فتأمله ، و (الْكَهْفِ) النقب المتسع في الجبل وما لم يتسع منها فهو غار ، وحكى النحاس عن أنس بن مالك أنه قال : (الْكَهْفِ) الجبل وهذا غير شهير في اللغة ، واختلف الناس في (الرَّقِيمِ) ، فقال كعب ، (الرَّقِيمِ) القرية التي كانت بإزاء (الْكَهْفِ) ، وقال ابن عباس وقتادة: (الرَّقِيمِ) الوادي الذي كان بإزائه وهو واد بين عصبان وأيلة دون فلسطين ، وقال ابن عباس أيضا هو الجبل الذي فيه (الْكَهْفِ) ، وقال السدي : (الرَّقِيمِ) الصخرة التي كانت على (الْكَهْفِ) ، وقال ابن عباس (الرَّقِيمِ) كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى ، وقيل من دين قبل عيسى ، وقال ابن زيد : كتاب عمى الله علينا أمره ولم يشرح لنا قصته ، وقالت فرقة : (الرَّقِيمِ) كتاب في لوح نحاس ، وقال ابن عباس : في لوح رصاص كتب فيه القوم الكفار الذين فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ذكروا وقت فقدهم وكم كانوا وبني من كانوا ، وقال سعيد بن جبير: (الرَّقِيمِ) لوح من حجارة كتبوا فيه قصة (أَصْحابَ الْكَهْفِ) ووضعوه على باب الكهف ، ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث وذلك من


قبل المملكة وهو أمر مفيد ، وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ومنه كتاب مرقوم ، ومنه الأرقم لتخطيطه ، ومنه رقمة الوادي أي مكان جري الماء وانعطافه يقال عليك بالرقمة وخل الضفة وقال النقاش عن قتادة : (الرَّقِيمِ) دراهمهم ، وقال أنس بن مالك والشعبي (الرَّقِيمِ) الكلب ، وقال عكرمة (الرَّقِيمِ) الدواة ، وقالت فرقة : (الرَّقِيمِ) كان لفتية آخرين في السراة جرى لهم ما جرى ل (أَصْحابَ الْكَهْفِ) ، وروي عن ابن عباس أنه قال ما أدري ما (الرَّقِيمِ) أكتاب أم بنيان ، وروي أنه قال : كل بالقرآن أعلمه إلا الحنان والأواه والرقيم.

قوله عزوجل :

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١٢)

(الْفِتْيَةُ) فيما روي ، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقليوس ، ويقال دقينوس ، وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى ، وقيل كانوا قبل عيسى ، وأما أسماؤهم فهي أعجمية ، والسند في معرفتها واه ، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه ، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، مرطوس وكشوطونس ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس ، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف؟ وأكثر المؤرخون في ذلك ، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه ، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله ، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه ، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ، فرفع أمرهم إلى الملك ، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ، فقالوا له فيما روي (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف : ١٤] إلى قوله (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) [الكهف : ١٦] ، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم ، بل أستأني ، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفا في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه ، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا ، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم ، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك ، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان


أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها ، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم ، فزايلوا الناس ، وذهبوا إلى الكهف ، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حواريا لعيسى ابن مريم ، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة ، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى ، فآمنوا واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ، فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله ، ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف ، وقال عبيد بن عمير : إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذا ، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر ، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم ، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة ، فخرج ثان ، فلما رأى الجالس جلس إليه ، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة ، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد ، فتساءلوا ، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا ، ثم تراضوا برجلين منهم ، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه ، فإن اتفقتما كنا معكما ، فنهضا بعيدا وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف ، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم ، وذهب الكلب معهم ، واسم الكلب حمران ، وقيل قطير ، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عزوجل «ضرب على آذانهم» عند ذلك لما أراده من سترهم ، وخفي على أهل المملكة مكانهم ، وعجب الناس من غرابة فقدهم ، فأرخوا ذلك ورقموه في لو حين من رصاص أو نحاس ، وجعلوه على باب المدينة فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم ، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا ، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة ، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما : وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار ، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار ، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم ، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار ، فعرف الملك ، فركب في جنده حتى وقف عليه ، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك ، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم ، قال نعم ، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش ، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه ، ففعل ، وقد «ضرب الله على آذانهم» قبل ذلك لما أراد من تأمينهم ، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين ، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف ، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس ، واسم الآخر روناس ، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه ، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم ، يقتلهم ويعلقهم أشخاصا ورؤوسا على أسوار مدينته ، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر ، دين عيسى ، وكان هو وقومه من الروم ، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام ، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة ، وهي الرزق فيما ذكر


المفسرون ، وأن يهيىء لهم من أمرهم (رَشَداً) أي خلاصا جميلا ، وقرأ الجمهور «رشدا» بفتح الراء والشين ، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وسكون الشين ، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم ، وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط ، فإنها كافية ، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص ، ولم أغفل من مهمه شيئا بحسب اجتهادي ، والله المعين برحمته ، وقوله (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم ، ويعبر عن هذا ونحوه ب «الضرب» لتبين قوة المباشرة وشدة اللصوق في الأمر المتكلم فيه والإلزام ، ومنه ضرب الذلة والمسكنة ، ومنه ضرب الجزية ، ومنه ضرب البعث. ومنه قول الفرزدق : [الكامل]

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل

فهذا يستعمل في اللزوم البليغ ، وأما تخصيص «الآذان» بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلّما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع ، ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه» أشار عليه‌السلام إلى رجل طويل النوم لا يقوم بالليل ، وقوله (عَدَداً) نعت للسنين ، والقصد به العبارة عن التكثير ، أي تحتاج إلى عدد وهي ذات عدد ، قال الزجاج : ويجوز أن يكون نصب (عَدَداً) على المصدر ، و «البعث» التحريك بعد سكون ، وهذا مطرد مع لفظة البعث حيث وقعت ، وقد يكون السكون في الشخص أو عن الأمر المبعوث فيه وإن كان الشخص متحركا ، وقوله (لِنَعْلَمَ) عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجودا ، وإلا فقد كان الله تعالى علم (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أحصى الأمد وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء ، و «الحزبان» الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية ، إذ ظنوا لبثهم قليلا ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين ، وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين اختلفا في مدة أصحاب الكهف ، وقالت فرقة : هما حزبان من المؤمنين ، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية ، وأما قوله (أَحْصى) فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض ، و (أَمَداً) منصوب به على المفعول ، و «الأمد» الغاية ، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة ، وقال الزجاج : (أَحْصى) هو أفعل ، و (أَمَداً) على هذا نصب على التفسير ، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، و (أَحْصى) فعل رباعي ، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر ، كقولك ما أعطاه للمال ، وآتاه للخير ، وقال النبي عليه‌السلام في صفه جهنم : «هي أسود من القار» وقال في صفة حوضه عليه‌السلام «ماؤه أبيض من اللبن» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فهو لما سواها أضيع» وهذه كلها أفعل من الرباعي ، وقال مجاهد : (أَمَداً) معناه عددا ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب ، وقال الطبري : نصب (أَمَداً) ب (لَبِثُوا) ، وهذا غير متجه.

قوله عزوجل :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى


قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

لما اقتضى قوله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] اختلافا وقع في أمر الفتية ، عقب بالخبر عن أنه عزوجل يعلم من أمرهم (بِالْحَقِ) الذي وقع ، وفي مجموع هذه الآيات جواب قريش عن سؤالهم الذي أمرتهم به بنو إسرائيل. و «القص» الإخبار بأمر يسرد ، لا بكلام يروى شيئا شيئا ، لأن تلك المخاطبة ليست بقصص ، وقوله (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عزوجل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادات على الإيمان. وقوله (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم ، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال ، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها ، ومنه الربط على قلب أم موسى ، وقوله (إِذْ قامُوا فَقالُوا) يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر ، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس ، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد ، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول ، وقرأ الأعمش «إذ قاموا قياما فقالوا» ، وقولهم : (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي لو دعونا من دون ربنا إلها ، والشطط الجور ، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر ، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها ، ومنه شطوط النوى والبعد ، ومن اللفظة قول الشاعر : [الطويل]

ألا يا لقوم قد اشتط عواذلي

ويزعمن أن أودى بحقي باطلي

وقولهم : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) مقالة تصلح أن تكون مما قالوا في مقامهم بين يدي الملك ، وتصلح أن تكون من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه ، وقولهم : (لَوْ لا يَأْتُونَ) تحضيض بمعنى التعجيز ، لأنه تحضيض على ما لا يمكن ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن تلفت دعواهم ، و «السلطان» الحجة ، وقال قتادة : المعنى بعذر بين ، وهذه عبارة محلقة ، ثم عظموا جرم الداعين مع الله آلهة وظلمهم بقوله على جهة التقرير (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وقولهم (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) الآية أن القيام في قوله (إِذْ قامُوا) عزما كما تضمن التأويل الواحد وكان القول منهم فيما بينهم فهذه المقالة يصح أن تكون من قولهم الذي قالوه عند قيامهم ، وإن كان القيام المذكور مقامهم بين يدي الملك فهذه المقالة لا يترتب أن تكون من مقالهم بين يدي الملك ، بل يكون في الكلام حذف تقديره وقال بعضهم لبعض ، وبهذا يترجح أن قوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا) إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم ، وقوله (إِلَّا اللهَ) إن فرضنا


الكفار الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ولا علم لهم به ، وإنما يعتقدون الألوهية في أصنامهم فقط ، فهو استثناء منقطع ليس من الأول ، وإن فرضناهم يعرفون الله ويعظمونه كما كانت تفعل العرب لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ، لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله تعالى ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» ، قال قتادة هذا تفسيرها ، قال هارون وفي بعض مصاحفه «وما يعبدون من دوننا» ، فعلى ما قال قتادة تكون (إِلَّا) بمنزلة غير ، و (ما) من قوله (وَما يَعْبُدُونَ) في موضع نصب عطفا على الضمير في قوله (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) ، ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض إذ فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها علينا ويهيىء لنا من أمرنا (مِرْفَقاً) ، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة من الله كانوا في أمر آخرتهم ، وقرأ نافع وابن عامر «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو مصدر كالرفق فيما حكى أبو زيد ، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق «مرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء ، ويقالان جميعا في الأمر وفي الجارحة ، حكاه الزجاج ، وذكر مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون «المرفق» من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم ، وقال «المرفق» بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما بعد لغتان.

قوله عزوجل :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)

بين هاتين الآيتين اقتضاب يبينه ما تقدم من الآيات ، تقديره فآووا وضرب الله على آذانهم ومكثوا كذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تزّاور» بتشديد الزاي وإدغام التاء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تزاور» بتخفيفها بتقدير تتزاور فحذفت إحدى التاءين ، وقرأ ابن عامر وابن أبي إسحاق وقتادة «تزور» في وزن تحمر ، وقرأ الجحدري وأبو رجاء «تزوار» بألف بعد الواو ، ومعنى اللفظة على كل هذا التصريف تعدل وتروغ وتميل ، وهذه عبارات المفسرين ، أما أن الأخفش قال «تزور» معناه تنتقض والزور الميل ، والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين كقول ابن أبي ربيعة:

وجنبي خيفة القوم أزور

ومن اللفظة قول عنترة : [الكامل]

فازور من وقع القنا بلبانه

ومنه قول بشر بن أبي حازم : [الوافر]


تؤم بها الحداة مياه نخل

وفيها عن أبانين ازورار

وفي حديث غزوة مؤتة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة ، وقرأ الجمهور «تقرضهم» بالتاء ، وفرقة «يقرضهم» بالياء ، أي الكهف كأنه من القرض وهو القطع ، أي يقتطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس ، وجمهور من قرأ بالتاء ، فالمعنى أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة وهو قول ابن عباس ، فيتأولون «تقرضهم» بمعنى تتركهم ، أي كأنها عنده تقطع كلّ ما لا تناله عن نفسها ، وفرقة ممن قرأ بالتاء تأول أنها كانت بالعشي تنالهم ، فكأنها «تقرضهم» أي تقتطعهم مما لا تناله ، وقالوا كان في مسها لهم بالعشي صلاح لأجسامهم ، وحكى الطبري أن العرب تقول : قرضت موضع كذا أي قطعته ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف

شمالا وعن أيمانهن الفوارس

ومنه أقرضني درهما أي اقطعه لي من مالك ، وهذه الصفة مع (الشَّمْسَ) تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته ، وحكى الزجاج وغيره قال : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وقاله عبد الله بن مسلم وهذا نحو ما قلناه ، غير أن الكهف كان مستور الأعلى من المطر ، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك ، وقوله (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) يحتمل أن يريد ذات يمين الكهف بأن نقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين ، وآخره عن شمال ، ويحتمل أن يريد ذات يمين الشمس وذات شمالها ، بأن نقدر الشعاع الممتد منها إلى الكهف بمثابة وجه إنسان ، والوجه الأول أصح و «الفجوة» المتسع وجمعها فجى ، قال قتادة : في فضاء منه ، ومنه الحديث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير العنف فإذا وجد فجوة نص ، وقال ابن جبير : (فِي فَجْوَةٍ) في مكان داخل ، وقوله (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الإشارة إلى الأمر بجملته ، وعلى قول الزجاج إن الشمس كانت تزاور وتقرض دون حجاب تكون الإشارة إلى هذا المعنى خاصة ثم تابع بتعظيم الله عزوجل والتسليم له وما يقتضي صرف الآمال إليه ، وقوله (وَتَحْسَبُهُمْ) الآية ، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزا واتساعا و (أَيْقاظاً) جمع يقظ كعضد وأعضاد ، وهو المنتبه قال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فلذلك كان الرائي يحسبهم (أَيْقاظاً).

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظانا وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم» بنون العظمة ، وقرأ الحسن «وتقلّبهم» بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء ، وهو مصدر مرتفع بالابتداء ، قاله أبو حاتم ، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء ، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم ، وأبو حاتم أثبت ، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم (أَيْقاظاً) وهذا وإن كان التقلب


لمن صادف رؤيته دليلا على ذلك ، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبرا مستأنفا ، وقال أبو عياض : كان هذا التقليب مرتين في السنة ، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة ، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا ، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظا من الأرض ، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولو لا التقليب لأكلتهم الأرض.

قال القاضي أبو محمد : وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب. وتتأمل بعد ، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيرا من النوام ، لأن القوم لم يكونوا موتى. وقوله (وَكَلْبُهُمْ) أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي ، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب.

قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله ، وقيل كان أنمر ، وقيل أحمر ، وقالت فرقة كان رجلا طباخا لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله ، وقالت فرقة : كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم.

قال القاضي أبو محمد : فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا لأنه منها كالكلب من الإنسان ، ويقال له كلب الحيار : أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين ، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه‌السلام : «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب» ، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرىء «وكالبهم باسط ذراعيه» فيحتمل أن يريد ب «الكالب» هذا الرجل ، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة ، المستخفي بنفسه ، ويحتمل أن يريد ب «الكالب» الكلب ، وقوله (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال ، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب ، و «الوصيد» العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست. وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد» الفناء ، وقال ابن عباس أيضا «الوصيد» الباب ، وقال ابن جبير أيضا «الوصيد» التراب ، والقول الأول أصح ، والباب الموصد هو المغلق ، أي قد وقف على وصيده ، ثم ذكر الله عزوجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة ، وقرأ «لو اطلعت» بكسر الواو جمهور القراء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لو اطلعت» بضمها. وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت» بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت ، وقرأ الباقون «لملئت» بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة ، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي : [الطويل]

وإذ فتك النعمان بالناس محرما

فملىء من كعب بن عوف سلاسله

وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم ، ذكره المهدوي والزجاج ، وهذا قول بعيد ، ولو كانت حالهم هكذا ، لم يقولوا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] وإنما الصحيح في


أمرهم ، أن الله عزوجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ، ولا تغيرت صفة ، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم ، ولروي ذلك ، وقرأ الجمهور «رعبا» بسكون العين ، وقرأ «رعبا» بضمها أبو جعفر وعيسى ، قال أبو حاتم : هما لغتان.

قوله عزوجل :

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)

الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم ، والعبرة التي فعلها فيهم ، و «البعث» التحريك عن سكون ، واللام في قوله (لِيَتَساءَلُوا) لام الصيرورة ، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم ، وقول القائل (كَمْ لَبِثْتُمْ) يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم ، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني ، لا تباين التي ناموا فيها ، وأما أن يجدد الأمر جدا فبعيد ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم «بورقكم» بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم «بورقكم» بسكون الراء وهما لغتان ، وحكى الزجاج قراءة «بورقكم» بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، وإنما هو إخفاء ، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر ، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم : وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء ، وقرأ علي بن أبي طالب «بوارقكم» ، اسم جمع كالحامل والباقر ، وقرأ أبو رجاء ، «بورقكم» بكسر الواو والراء والإدغام ، ويروى أنهم انتبهوا جياعا ، وأن المبعوث هو تلميخا ، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة ، وبعثوا تلميخا في صبيحتها ، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين ، وروي أن راعيا هدمه ليدخل فيه غنمه ، فأخذ تلميخا ثيابا رثة منكرة ولبسها ، وخرج من الكهف ، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه ، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير ، وهو في ذلك لا يشعر شعورا تاما ، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة ، فرأى على بابها أمارة الإسلام ، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس ، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا ، فنهض إلى باب آخر فرأى نحوا من ذلك ، حتى مشى الأبواب كلها ، فزادت حيرته ، ولم يميز بشرا ، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى ، فاستراب بنفسه وظن أنه جن ، أو انفسد عقله ، فبقي حيران يدعو الله تعالى ، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق ، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع فيما ذكر ، فعجب لها البياع ، ودفعها إلى آخر بعجبه ، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك ، من أين أنت ، وكيف وجدت هذا الكنز؟ فجعل يبهت ويعجب ، وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته ، فقال : ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس


من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون ، اذهبوا به إلى الملك ، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك ، فلما لم يردقيوس الكافر تأنس ، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس ، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي ، لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه ، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال : هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك ، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة ، فسار الملك إليهم ، وسار الناس معه ، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا : أدخل عليهم لئلا يرعبوا ، فدخل عليهم ، فأعلمهم بالأمر ، وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سرّوا وخرجوا إلى الملك ، وعظموه وعظمهم ، ثم رجعوا إلى كهفهم ، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا ، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم ، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل ، ثم أقدموا فوجدوهم موتى ، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه ، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف ، فاختصرته ، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية ، واعتمدت الأصح ، والله المعين برحمته ، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها ، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهم ، وقرأ الجمهور «فلينظر» بسكون لام الأمر ، وقرأ الحسن «فلينظر» بكسرها ، و (أَزْكى) معناه أكثر فيما ذكر عكرمة ، وقال قتادة معناه خير ، وقال مقاتل : المراد أطيب ، وقال ابن جبير : المراد أحل.

قال القاضي أبو محمد : وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب ، وقيل بل شراء تمر ، وقوله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي في اختفائه وتحيله ، وقرأ الحسن «وليتلطف» بكسر اللام ، والضمير في (إِنَّهُمْ) عائد على الكفار ، آل دقيوس ، و (يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) معناه يثقفوكم بعلوهم وغلبتهم ، وقولهم (يَرْجُمُوكُمْ) قال الزجاج معناه بالحجارة.

قال القاضي أبو محمد : وهو الأصح ، لأنه كان عازما على قتلهم لو ظفر بهم ، و «الرجم» فيما سلف هي كانت على ما ذكر قتلة مخالف دين الناس ، إذ هي أشفى لحملة ذلك الدين ، ولهم فيها مشاركة ، وقال حجاج ، (يَرْجُمُوكُمْ) معناه بالقول ، وباقي الآية بين.

قوله عزوجل :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(٢١)

الإشارة بذلك في قوله (وَكَذلِكَ) إلى (بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا) [الكهف : ١٩] أي كما بعثناهم (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) ، و «أعثر» تعدية عثر بالهمزة ، وأصل العثار في القدم ، فلما كان العاثر في الشيء منتبها له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه ، والضمير في قوله (لِيَعْلَمُوا) يحتمل أن يعود على الأمة


المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وذلك أنهم ، فيما روي ، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه ، وقالوا إنما تحشر الأرواح ، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى الله في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فلما بعثهم الله ، وتبين الناس أمرهم ، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) على هذا التأويل ، ويحتمل أن يعمل في (أَنَ) على هذا التأويل ، (أَعْثَرْنا) ، ويحتمل أن يعمل فيه (لِيَعْلَمُوا) ، والضمير في قوله (لِيَعْلَمُوا) يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف ، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور ، وقوله (إِذْ يَتَنازَعُونَ) على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والعامل في (إِذْ) ، فعل مضمر تقديره واذكر ، ويحتمل أن يعمل فيه (فَقالُوا إِذْ يَتَنازَعُونَ ابْنُوا عَلَيْهِمْ). والتنازع على هذا التأويل ، إنما هو في أمر البناء أو المسجد ، لا في أمر القيامة ، و «الريب» : الشك ، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها ، وإن كان الشك قد وقع لناس ، فذلك لا يلحقها منه شيء ، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات ، وبعض هم أحياء ، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم ، وتركهم فيه مغيبين ، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر : لنتخذن عليهم مسجدا ، فاتخذوه ، وقال قتادة (الَّذِينَ غَلَبُوا) هم الولاة ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : «غلبوا» بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولا تريد أن لا يبنى عليهم شيء ، وأن لا يعرض لموضعهم ، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولا بد طمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد ، قالت يكون مسجدا ، فكان ، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان ، إنما كانت كافرة ، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم ، فمانعهم المؤمنون ، وقالوا (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم ، وحجبهم عنهم ، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.

قوله عزوجل :

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)(٢٤)

الضمير في قوله (سَيَقُولُونَ) يراد به أهل التوراة ، من معاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص ، وقرأ الجمهور «ثلاثة» ، وقرأ ابن محيصن «ثلاث» بإدغام التاء في الثاء ، وقرأ شبل عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم اتباعا لعشرة ، وقرأ ابن محيصن «خمسة» بكسر الخاء والميم ، وقوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) معناه ظنا ، وهو مستعار من الرجم ، كأن الإنسان


يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة ، يرجمه به عسى أن يصيب ، ومن هذا هو الترجمان وترجمة الكتاب ، ومنه قول زهير : [الطويل]

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

والواو في قوله (وَثامِنُهُمْ) طريق النحويين فيها أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم ، لتفصل أمرهم ، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل ، ولو سقطت لصح الكلام. وتقول فرقة منها ابن خالويه : هي واو الثمانية ، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية تسعة ، فتدخل الواو في الثمانية.

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم شرحها ، وهي في القرآن في قوله (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] وفي قوله (وَفُتِحَتِ) [النبأ : ١٩] ، وأما قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] ، وقوله (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [الحاقة : ٧] فتوهم في هذين الموضعين أنها واو الثمانية وليست بها بل هي لازمة لا يستغني الكلام عنها ، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام في هذه الآية أن يرد علم «عدتهم» إليه عزوجل ، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل ، والمراد به قوم من أهل الكتاب ، وكان ابن عباس يقول : أنا من ذلك القليل ، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، ويستدل على هذا من الآية : بأن القرآن لما حكى قول من قال «ثلاثة وخمسة» قرن بالقول أنه رجم بالغيب فقدح ذلك فيها ، ثم حكى هذه المقالة ولم يقدح فيها بشيء ، بل تركها مسجلة ، وأيضا فيقوي ذلك على القول بواو الثمانية لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح ، وقوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) معناه على بعض الأقوال ، أي بظاهر ما أوحيناه إليك ، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى ، وقيل معنى «الظاهر» أن يقول ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك فإن ذلك يكون مراء في باطن من الأمر ، وقال التبريزي : (ظاهِراً) معناه ذاهبا ، وأنشد :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.

ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ، ولكن قوله (إِلَّا مِراءً) استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب ، سميت مراجعته لهم (مِراءً) ، ثم قيد بأنه ظاهر ، ففارق المراء الحقيقي المذموم. و «المراء» مشتق من المرية ، وهو الشك ، فكأنه المشاككة ، والضمير في قوله (فِيهِمْ) عائد على أهل الكهف ، وفي قوله (مِنْهُمْ) عائد على أهل الكتاب المعاصرين ، وقوله (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) يعني في عدتهم ، وحذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها ، وقوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) الآية ، عاتب الله تعالى فيها نبيه عليه‌السلام على قوله للكفار غدا أخبركم يجواب أسئلتكم ، ولم يستثن في ذلك ، فاحتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه ، وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة ، وأمر في هذه الآية أن يقول في أمر من الأمور : إني أفعل غدا كذا وكذا إلا وأن يعلق ذلك بمشيئة الله عزوجل ، واللام في قوله (لِشَيْءٍ) بمنزلة في أو كأنه قال لأجل شيء ، وقوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسنه الإيجاز ، تقديره : إلا ان تقول إلا أن يشاء الله ، أو إلا أن تقول إن شاء الله ، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله ، فليس (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) من القول الذي نهي عنه وقالت فرقة : قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من قوله (وَلا


تَقُولَنَ) وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه ، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى ، وقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قال ابن عباس والحسن معناه ، والإشارة به إلى الاستثناء أي ولتستثن بعد مدة ، إذا نسيت الاستثناء أولا لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله ، وقال عكرمة : المعنى واذكر ربك إذا غضبت ، وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، والآية ليست في الأيمان ، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين ، ولكن من حيث تكلم الناس فيها ، ينبغي أن نذكر شيئا من ذلك ، أما مالك رحمه‌الله وجميع أصحابه ، فيما علمت ، وكثير من العلماء ، فيقولون لا ينفع الاستثناء ويسقط الكفّارة إلا أن يكون متصلا باليمين ، وقال عطاء له أن يستثني في قدر حلب الناقة الغزيرة ، وقال قتادة إن استثنى قبل أن يقول أو يتكلم فله ثنياه ، وقال ابن حنبل له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر ، وقاله ابن راهويه ، وقال طاوس والحسن ينفع الاستثناء ما دام الحالف في مجلسه ، وقال ابن جبير ينفع الاستثناء بعد أربعة أشهر فقط ، وقال ابن عباس ينفع الاستثناء ولو بعد سنة ، وقال مجاهد بعد سنتين ، وقال أبو العالية ينفع أبدا ، واختلف الناس في التأويل على ابن عباس ، فقال الطبري وغيره إنما أراد ابن عباس أنه ينفع في أن يحصل الحالف في رتبة المستثنين بعد سنة من حلفه ، وأما الكفارة فلا تسقط عنه ، قال الطبري ولا أعلم أحدا يقول ينفع الاستثناء بعد مدة ، يقول بسقوط الكفارة ، قال ويرد ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر وليأت الذي هو خير». فلو كان الاستثناء يسقط الكفارة لكان أخف على الأمة ، ولم يكن لذكر الكفارة فائدة ، وقال الزهراوي : إنما تكلم ابن عباس في أن الاستثناء بعد سنة لمن قال أنا أفعل كذا ... لا لحالف أراد حل يمينه ، وذهبت فرقة من الفقهاء إلى أن مذهب ابن عباس سقوط الكفارة وألزموا كل من يقول ينفع الاستثناء بعد مدة ، إسقاط الكفارة ، وردوا على القول بعد إلزامه ، وليس الاستثناء إلا في اليمين بالله ، لا يكون في طلاق ونحوه ، ولا في مشي إلى مكة ، هذا قول مالك وجماعة ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وطاوس وحماد الاستثناء في ذلك جائز ، وليس في اليمين الغموس استثناء ينفع ، ولا يكون الاستثناء بالقول ، وإنما يكون قولا ونطقا ، وقوله (وَقُلْ عَسى) الآية ، قال محمد الكوفي المفسر : إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن ، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء ، وقال الجمهور هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص ، وقرأ الجمهور «يهديني» بإثبات الياء ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقرأ طلحة من مصرف دون ياء في الوصل ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء. وقال الزجاج المعنى عسى أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف.

قال القاضي أبو محمد : وما قدمته أصوب ، أي عسى أن يرشدني فيما استقبل من أمري وهذه الآية مخاطبة للنبي عليه‌السلام ، وهي بعد تعم جميع أمته ، لأنه حكم يتردد الناس بكثرة وقوعه والله الموفق.

قوله عزوجل :

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ


أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٧)

قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك ، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود ، وفي مصحفه : «وقالوا لبثوا في كهفهم» ، وذلك عند قتادة ، على غير قراءة عبد الله ، عطف على (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) [الكهف : ٢٢] ، ذكره الزهراوي ، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه ردا على مقالهم وتقييدا له ، قال الطبري : وقال بعضهم : لو كان ذلك خبرا من الله ، لم يكن لقوله (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) وجه مفهوم.

قال القاضي أبو محمد : أين ذهب بهذا القائل ، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبرا عن لبثهم ، ثم قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون ، وقال المحققون : بل قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم ، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) فقال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر ، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل (لَبِثُوا) الأول ، يريد في نوم الكهف ، و (لَبِثُوا) الثاني : يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه‌السلام ، إلى وقت عدمهم بالبلى ، على الاختلاف الذي سنذكره بعد ، وقال بعضها إنه لما قال : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) لم يدر الناس أهي ساعات ، أم أيام ، أم جمع ، أم شهور ، أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمره الله برد العلم إليه ، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة ، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير ، وقد بقيت من الحواريين بقية ، وحكى النقاش ما معناه : أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم ، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين ، وقرأ الجمهور «ثلاثمائة سنين» بتنوين مائة ونصب «سنين» على البدل من «ثلاثمائة» ، وعطف البيان ، وقيل على التفسير والتمييز وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة» إلى «سنين» ، وترك التنوين ، وكأنهم جعلوا «سنين» بمنزلة سنة ، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي : إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب ، قد تضاف إلى الجموع ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «ثلاثمائة سنة» ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» ، بالواو ، وقرأ أبو عمرو بخلاف : «تسعا» بفتح التاء ، وقرأ الجمهور «تسعا» بكسر التاء ، وقوله (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، وهذه عبارات عن الإدراك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور. وأسمع به العالم ، فتكون أمرين ، لا على وجه التعجب ، وقوله (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) يحتمل أن يعود الضمير في (لَهُمْ) على أصحاب الكهف ، أي هذه قدرته وحده ، لم


يوالهم غيره بتلطف لهم ، ولا اشترك معه أحد في هذا الحكم ، ويحتمل أن يعود الضمير في (لَهُمْ) على معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضا بتهديد ، وقرأ الجمهور «ولا يشرك في حكمه أحدا» بالياء من تحت على معنى الخبر عن الله تعالى ، وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري «ولا تشرك» بالتاء من فوق ، على جهة النهي للنبي عليه‌السلام ، ويكون قوله «ولا تشرك» عطفا على (أَبْصِرْ وَأَسْمِعْ) ، وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء من تحت وبالجزم ، قال يعقوب لا أعرف وجهه ، وحكى الطبري عن الضحاك بن مزاحم أنه قال : نزلت هذه الآية : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ) فقط ، فقال الناس هي أشهر أم أيام أم أعوام؟ فنزلت (سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) وأما هل دام أهل الكهف وبقيت أشخاصهم محفوظة بعد الموت؟ فاختلفت الروايات في ذلك ، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته ، مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس إليه ، فوجدوا عظاما ، فقالوا هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة فسمعه راهب ، فقال ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا ، فقيل له هذا ابن عم نبينا فسكت ، وروت فرقة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف ، فإنهم لم يحجوا بعد.

قال القاضي أبو محمد : وبالشام على ما سمعت من ناس كثير ، كهف كان فيه موتى ، يزعم محاويه أنهم أصحاب الكهف ، وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ، ومعهم كلب رمة ، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة ، كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه ، وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إشارة ، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر محلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب في قبور ونحوها.

قال القاضي أبو محمد : وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عزوجل ، وقوله (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) الآية ، من قرأ «ولا تشرك» بالنهي ، عطف قوله (وَاتْلُ) عليه ، ومن قرأ «ولا يشرك» ، جعل هذا أمرا بدىء به كلام آخر ليس من الأول ، وكأن هذه الآية ، في معنى الإعتاب للنبي عليه‌السلام ، عقب العتاب الذي كان تركه الاستثناء ، كأنه يقول هذه أجوبة الأسئلة فاتل وحي الله إليك ، أي اتبع في أعمالك ، وقيل اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك ، لا نقض في قوله ، و (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ، وليس لك سواه جانب تميل إليه ، وتستند ، و «الملتحد» : الجانب الذي يمال إليه ، ومعنى اللحد كأنه الميل في أحد شقي القبر ، ومنه الإلحاد في الحق ، وهو الميل عن الحق ، ولا يفسر قوله (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أمر النسخ لأن المعنى : إما أن يكون لا مبدل سواه فتبقى الكلمات على الإطلاق ، وإما أن يكون أراد من «الكلمات» الخبر ونحوه ، مما لا يدخله نسخ ، والإجماع أن الذي لا يتبدل هو الكلام القائم بالذات الذي بحسبه يجري القدر. فأما الكتب المنزلة فمذهب ابن عباس أنها لا تبدل إلا بالتأويل.


قوله عزوجل :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)

سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة ، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب ، لأن السورة مكية ، قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه ، وقالوا إن ريح جباتهم تؤذينا ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه ، وروي أنه قال لهم رحبا بالذي عاتبني فيهم ربي ، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم ، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذويهم ، قالوا ما ذكر ، فنزلت الآية في ذلك.

قال القاضي أبو محمد : فالآية على هذا مدنية ، ويشبه أن تكون الآية مكية ، وفعل المؤلفة قريش فرد بالآية عليهم ، (وَاصْبِرْ) معناه احبس ، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث : نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صبر الحيوان ، أي حبسه للرمي ونحوه ، وقرأ الجمهور «بالغداة» ، وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وهي قراءة نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبي عبد الرحمن والحسن ، وهي في الخط على القراءتين بالواو ، فمن يقرأها «بالغداة» يكتبها «بالغدوة» كما تكتب «الصلاة والزكوة» ، وفي قراءة من قرأ «بالغدوة» ضعف لأن «غدوة» اسم معروف فحقه أن لا تدخل عليه الألف واللام ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضربا من التنكير إذ قالوا حيث غدوة يريدون الغدوات فحسن دخول الألف واللام كقولهم الفينة وفينة اسم معرف ، والإشارة بقوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إلى الصلوات الخمس. قاله ابن عمر ومجاهد وإبراهيم ، وقال قتادة المراد صلاة الفجر ، وصلاة العصر.

قال القاضي أبو محمد : ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة ، ومن يجتمع لمذاكرة علم ، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ، ومن إعطاء المال سحا» ، وقرأ أبو عبد الرحمن «بالغدو» دون هاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات» «والعشيات» على الجمع ، وقوله (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار ، وقرأ الحسن «ولا تعدّ عينيك» بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة ، أي لا تجاوزها أنت عنهم ، وروي عنه «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين ، وقوله (مَنْ أَغْفَلْنا) قيل إنه أراد بذلك معينا وهو عيينة بن حصن ، والأقرع قاله خباب ، وقيل إنما أراد من هذه صفته ، وإنما المراد أولا كفار قريش ، لأن الآية مكية ، وقرأ الجمهور «أغفلنا قلبه» بنصب الباء على معنى جعلناه غافلا ، وقرأ عمرو بن


فائد وموسى الأسواري «أغفلنا قلبه» على معنى أهمل ذكرنا وتركه ، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه ، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد و «الفرط» يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلتزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف ، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله ، وقد فسره المتأولون بالعبارتين : أعني التضييع والإسراف ، وعبر خباب عنه بالهلاك ، وداود بالندامة ، وابن زيد بالخلاف للحق ، وهذا كله تفسير بالمعنى ، وقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُ) الآية ، المعنى وقل لهم يا محمد هذا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي هذا القرآن ، أو هذا الإعراض عنكم ، وترك الطاعة لكم ، وصبر النفس مع المؤمنين ، وقرأ قعنب وأبو السمال «وقل» بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية ، وقوله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) الآية توعد وتهديد ، أي فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عزوجل ، وتأولت فرقة (فَمَنْ شاءَ) الله إيمانه (فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ) الله كفره (فَلْيَكْفُرْ) ، وهو متوجه ، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر ، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر الزما وتحريضا ، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» «وليكفر» بكسر اللامين و (أَعْتَدْنا) مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و «السرادق» وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط ، وقد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه ، ومنه قول رؤبة : [الرجز]

يا حكم بن المنذر بن الجارود

سرادق والمجد عليك ممدود

ومنه قول سلامة بن جندل : [الطويل]

هو المولج النعمان بيتا سماؤه

صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال الزجاج «السرادق» كل ما أحاط بشيء.

قال القاضي أبو محمد : وهو عندي أخص مما قال الزجاج ، واختلف في «سرادق» النار فقال ابن عباس (سُرادِقُها) حائط من نار وقالت فرقة (سُرادِقُها) دخان يحيط بالكفار ، وقوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [المرسلات : ٣٠] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا ، والسرادق البحر ، وروي هذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق يعلى بن أمية ، فيجيء قوله تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ) أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البحر هي جهنم» وتلا هذه الآية : ثم قال «والله لا أدخله أبدا أو ما دمت حيا» ، وروي عنه أيضا عليه‌السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال «سرادق النار أربعة جدور ، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة» ، وقوله عزوجل (يُغاثُوا) أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر : [الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

أي القائم مقام التحية و «المهل» قال أبو سعيد عن النبي عليه‌السلام هو دردي الزيت إذا انتهى حده ، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره ، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع ، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألوانا ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة ، فقال ما رأيت في الدنيا


شيئا أدنى شبها «بالمهل» من هذا ، يريد أدنى شبها بشراب أهل النار ، وقالت فرقة «المهل» : الصديد والدم إذا اختلطا ، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن : «إنما هو للمهلة» ، يريد لما يسيل من الميت في قبره ، ويقوى هذا بقوله (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٦] الآية. وقوله (يَشْوِي الْوُجُوهَ) روي في معناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال تقرب الشربة من الكافر ، فإذا دنت منه تكرهها ، فإذا دنت أكثر شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة وجهه ، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه. و «المرتفق» ، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه ، و «المرتفق» الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية ، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق ، على أن الطبري قد فسر الآية به ، والأظهر عندي أن يكون «المرتفق» بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره ، وقال مجاهد «المرتفق» المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة ، ومنه الرفقة ، وهذا كله راجع إلى الرفق ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، والقول بين الوجه ، والله المعين.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)

قوله عزوجل : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) اعتراض مؤكد للمعنى ، مذكر بأفضال الله ، منبه على حسن جزائه بين قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقوله (أُولئِكَ) ، فقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) ابتداء وخبر جملة ، هي خبر (إِنَ) الأولى ، ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر : [البسيط]

إن الخليفة إن الله ألبسه

سربال ملك به ترجى الخواتيم

قال الزجاج : ويجوز أن يكون خبر إن في قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) لأن المحسنين هم المؤمنون فكأن المعنى : لا يضيع أجرهم.

قال القاضي أبو محمد : ومذهب سيبويه أن الخبر في قوله (لا نُضِيعُ) على حذف العائد تقديره ، (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) منهم ، و «العدن» : الإقامة ، ومنه المعدن ، لأن حجره مقيم فيه ثابت ، وقوله (مِنْ تَحْتِهِمُ) يريد من تحت غرفهم ، ومبانيهم ، وقرأ الجمهور «من أساور» وروى أبان عن عاصم «أسورة» من غير ألف ، وبزيادة هاء. وواحد الأساور إسوار ، حذفت الياء من الجمع لأن الباب أساوير ، وهي ما كان من الحلي في الذراع. وقيل (أَساوِرَ) جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، وإنما الإسوار بالفارسية القائد ونحوه ويقال في حلي الذراع أسوار ، ذكره أبو عبيدة معمر ومنه قول الشاعر: [الرجز]

والله لو لا صبية صغار

كأنما وجوهم أقمار

تضمهم من العتيك دار

أخاف أن يصيبهم إقتار


أو لاضم ليس له أسوار

لما رآني ملك جبار

ببابه ما وضح النهار

أنشده أبو بكر بن الأنباري حاشية في كتاب أبي عبيدة ، و «السندس» : رقيق الديباج ، و «الإستبرق» ما غلظ منه ، وقال بعض الناس هي لفظة أعجمية عربت ، وأصلها استبره ، وقال بعضهم بل هو الفعل العربي ، سمي به فهو إستبرق من الريق فغير حين سمي به بقطع الألف ، ويقوي هذا القول أن ابن محيصن قرأ «من سندس وإستبرق» فجاء موصول الهمزة حيث وقع ولا يجزمه ، بل بفتح القاف ، ذكره الأهوازي ، وذكره أبو الفتح ، وقال هذا سهو أو كالسهو و (الْأَرائِكِ) جمع أريكة هي السرير في المجال ، والضمير في قوله (وَحَسُنَتْ) للجنات وحكى النقاش عن أبي عمران الجوني أنه قال : «الإستبرق» الحرير المنسوج بالذهب ، وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثا مضمنه أن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، سأل أعرابي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الآي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأعرابي : أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة ، وهم حضور.

قوله عزوجل :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤)

الضمير في (لَهُمْ) عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي عليه‌السلام أن يطرد فقراء المؤمنين (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨] وعلى أولئك الداعين أيضا ، فالمثل مضروب للطائفتين ، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبر في قريش أو بني تميم على الخلاف المذكور أولا ، والرجل المؤمن المقر بالربوبية ، هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم (وَحَفَفْناهُما) بمعنى وجعلنا ذلك لها من كل جهة ، تقول حفك الله بخير : أي عمك به من جهاتك ، و «الحفاف» الجانب من السرير والفدان ونحوه ، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجودا ، وعلى ذلك فسره أكثر أهل هذا التأويل ، ويحتمل أن يكون مضروبا بمن هذه صفته وإن لم يقع ذلك في وجود قط ، والأول أظهر ، وروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل ، ورثا أربعة آلاف دينار فصنع أحدهما بماله ما ذكر واشترى عبيدا وتزوج وأثرى ؛ وأنفق الآخر ماله في طاعات الله عزوجل حتى افتقر ، والتقيا ففخر الغني ووبخ المؤمن ، فجرت بينهما هذه المحاورة ، وروي أنهما كانا شريكين حدادين ، كسبا مالا كثيرا وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين ، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه ، وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد ، أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين ، وكانتا لأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر ، وأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة ، قال : فغرقها الله في ليلة وإياها عنى بهذه الآية ،


وفي بسط قصصهما طول فاختصرته واقتصرت على معناه لقلة صحته ، ولأن في هذا ما يفي بفهم الآية ، وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله ، فإن المرء لا يكاد يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس : جنتا عنب أحاط بهما نخل ، بينهما فسحة ، هي مزدرع لجميع الحبوب ، والماء الغيل يسقى جميع ذلك من النهر الذي قد جمل هذا المنظر ، وعظم النفع ، وقرب الكد ، وأغنى عن النواضح وغيرها. وقرأ الجمهور «كلتا» ، وفي مصحف عبد الله «كلا» ، والتاء في «كلتا» منقلبة من واو عند سيبويه وهو بالتاء أو بغير التاء اسم مفرد واقع على الشيء المثنى ، وليس باسم مثنى ، ومعناه كل واحدة منهما و «الأكل» ثمرها الذي يؤكل منها ، قال الفراء : وفي قراءة ابن مسعود «كل الجنتين آتى أكله» ، وقوله (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص عن العرف الأتم الذي يشبه فيها ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

تظلمني مالي كذا ولوى يدي

لوى يده الله الذي هو غالبه

وقرأ الجمهور «وفجّرنا» بشد الجيم ، وقرأ سلام ، ويعقوب وعيسى بن عمر. «وفجرنا» بفتح الجيم دون شد ، وقرأ الجمهور «نهرا» بفتح الهاء. وقرأ أبو السمال ، والفياض بن غزوان ، وطلحة بن سليمان : «نهرا» بسكون الهاء ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن عباس ومجاهد وجماعة قراء المدينة ومكة «ثمر» و «بثمره» [الكهف : ٤٢] بضم الثاء والميم ، جمع ثمار وقرأ أبو عمرو والأعمش وأبو رجاء بسكون الميم فيهما تخفيفا ، وهي في المعنى كالأولى ، ويتجه أن يكون جمع ثمرة كبدنة وبدن ، وقرأ عاصم «ثمر» وبثمره يفتح الميم والثاء فيهما ، وهي قراءة أبي جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج ، واختلف المتأولون في «الثمر» بضم الثاء والميم ، فقال ابن عباس وقتادة : «الثّمر» جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك ، ويستشهد لهذا القول ببيت النابغة الذبياني : البسيط]

وما أثمّر من مال ومن ولد

وقال مجاهد يراد بها الذهب والفضة خاصة ، وقال ابن زيد «الثمر» هي الأصول التي فيها الثمر.

قال القاضي أبو محمد : كأنها ثمار وثمر ككتاب وكتب ، وأما من قرأ بفتح الثاء والميم ، فلا إشكال في أن المعنى ما في رؤوس الشجر من الأكل ، ولكن فصاحة الكلام تقتضي أن يعبر إيجازا عن هلاك الثمر والأصول بهلاك الثمر فقط ، فخصصها بالذكر إذ هي مقصود المستغل ، وإذ هلاك الأصول إنما يسوء منه هلاك الثمر الذي كان يرجى في المستقبل كما يقتضي قوله إن له «ثمرا» ، إن له أصولا كذلك تقتضي الإحاطة المطلقة بالثمر ، ان الأصول قد هلكت ، وفي مصحف أبي «وآتيناه ثمرا كثيرا» وقرأ أبو رجاء «وكان له ثمر» بفتح الثاء وسكون الميم ، والمحاورة مراجعة القول ، وهو من حار يحور. واستدل بعض الناس من قوله (وَأَعَزُّ نَفَراً) على أنه لم يكن أخاه ، وقال المناقض أراد ب «النفر» العبيد والخول ، إذ هم الذين ينفرون في رغائبه ، وفي هذا الكلام من الكبر والزهو والاغترار ما بيانه يغني عن القول فيه ، وهذه المقالة بإزاء قول عيينة والأقرع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر ، فنح عنا سلمان وقرناءه.

قوله عزوجل :

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً


وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)(٣٩)

أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك ، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد ، و «ظلمه لنفسه» : كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث ، فقد نص على ذلك قتادة وابن زيد ، وفي شكه في حديث العالم إن كانت إشارته ب (هذِهِ) إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات ، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط ، فإنما في الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل ، وكأنه من شدة العجب بل والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا ، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه ، قال : فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا ، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه ، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وابن الزبير ، وثبت في مصاحف المدينة «منهما» يريد الجنتين المذكورتين أولا ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والعامة ، وكذلك هو مصحف أهل البصرة «منها» يريد الجنة المدخولة ، وقوله (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه على جهة التوبيخ على كفر بالله تعالى ، وقرأ أبي بن كعب : «وهو يخاصمه» ، وقرأ ثابت البناني ، «ويلك أكفرت» ، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور ، وقوله (مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى آدم عليه‌السلام ، وقوله (سَوَّاكَ رَجُلاً) كما تقول سواك شخصا أو حيا ، أو نحو هذا من التأكيدات ، وقد يحتمل أن قصد تخصيص الرجولة ، على وجه تعديد النعمة ، في أن لم يكن أنثى ولا خنثى ، وذكر الطبري نحو هذا ، واختلفت القراءة في قوله (لكِنَّا) فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي «لكنا» في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «لكن» في الوصل و «لكنا» في الوقف ، ورجحها الطبري ، وهي رواية ورش وقالون عن نافع ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن «لكن أنا هو الله ربي» ، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف «لكن هو الله ربي» فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن ، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة ، من قرأ «لكننا» ، على حذف الهمزة وتخفيف النونين ، وفي هذا نظر ، وأما من قرأ «لكننا» ، فأصله عنده لكن أنا : حذفت الهمزة على غير قياس ، وأدغمت النون في النون ، وقد قال بعض النحويين : نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا ، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء «لكنا» ، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة ، فمنهم من حذفها في الوصل ، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف ، ليدل على أصل الكلمة ، ويتوجه في (لكِنَّا) أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في «خرجنا وضربنا» ، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ، ثم وجد في (رَبِّي) على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي ، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل ، والوقف ، ويتوجه في (لكِنَّا) أن تكون المشهورة من أخوات إن ، المعنى : لكن قولي : هو (اللهُ رَبِّي) ، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلا ووقفا ، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه ، وروى هارون عن أبي


عمرو «ولكنه هو الله ربي» بضمير لحق «لكن» وباقي الآية بين ، وقوله (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) الآية : وصية من المؤمن للكافر ، (وَلَوْ لا) تحضيض ، بمعنى هلا و (ما) يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، بتقدير الذي إن شاء الله كائن ، وفي (شاءَ) ضمير عائد ، ويحتمل أن تكون شرطية ، بتقدير ما شاء الله كان ، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله ، أو الأمر ما شاء الله ، وقوله (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) تسليم وضد لقول الكافر (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبي هريرة «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟» قال بلى يا رسول الله ، قال (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) إذا قالها العبد قال الله عزوجل أسلم عبدي واستسلم» ، وفي حديث أبي موسى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال افعل يا رسول الله ، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ، واختلفت القراءة في حذف الياء من (تَرَنِ) وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلا ووقفا ، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما ، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط ، وقرأ الجمهور «أقلّ» بالنصب على المفعول الثاني ، وقوله (أَنَا) فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر : «أقلّ» بالرفع ، على أن يكون (أَنَا) مبتدأ و «أقل» خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والرؤية ، رؤية القلب في هذه الآية.

قوله عزوجل :

(فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)(٤٤)

هذا الترجي ب «عسى» يحتمل أن يريد به في الدنيا ، ويحتمل أن يريد به في الآخرة ، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعا ، وأذهب مع الخير والصلاح ، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب ، وأشد إيلاما لنفسه ، و «الحسبان» العذاب كالبرد والصر ونحوه ، واحد الحسبان : حسبانة ، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة ، وهي أيضا سهام ترمى دفعة بآلة لذلك ، و «الصعيد» وجه الأرض و «الزلق» الذي لا تثبت فيه قدم ، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته ، ويبقى أرضا قد ذهبت منافعها ، حتى منفعة المشي فيها ، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم ، و «الغور» مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة ، كقولك رجل عدل وامرأة عدل ونحوه ، ومعناه ذاهبا في الأرض لا يستطاع تناوله وقرأت فرقة «غورا» ، وقرأت فرقة «غورا» ، بضم الغين ، وقرأت فرقة «غؤرا» ، بضم الغين وهمز الواو ، و «غور» مثل نوح ، يوصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث ، ومنه قول الشاعر : [الوافر].

تظل جيادها نوحا عليه

مقلدة أعنتها صفونا

وهذا كثير ، وباقي الآية بين ، وقوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية ، هذا خبر من الله عن إحاطة


العذاب بحال هذا المثل به ، وقد تقدم القول في الثمر ، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد، و (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى ، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت وخسارة ونحوها ، ومن عبر بيصفق فلم يتقن ، وقوله (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) يريد أن السقوف وقعت ، وهي العروش ، ثم تهدمت الحيطان عليها ، فهي خاوية ، والحيطان على العروش (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) قال بعض المفسرين : هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة ، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم ، لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة : «ولم تكن» بالتاء على لفظة الفئة ، وقرأ حمزة والكسائي ومجاهد وابن وثاب «ولم يكن» بالياء على المعنى ، «الفئة» الجماعة التي يلجأ إلى نصرها ، قال مجاهد هي العشيرة.

قال القاضي أبو محمد : وهي عندي من فاء يفيء وزنها فئة ، حذفت العين تخفيفا ، وقد قال أبو علي وغيره : هي من فاوت وليست من فاء ، وهذا الذي قالوه أدخل في التصريف ، والأول أحكم في المعنى ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فئة تنصره» ، وقوله (هُنالِكَ) يحتمل أن يكون ظرفا لقوله (مُنْتَصِراً) ويحتمل أن تكون (الْوَلايَةُ) مبتدأ ، و (هُنالِكَ) خبره ، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «الولاية» بكسر الواو ، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه ، وقرأ الباقون «الولاية» بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه ، ويحكى عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن ، لأن فعالة ، إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدا ، وليس هنا تولي أمر الموالاة ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع على جهة النعت ل (الْوَلايَةُ) ، وقرأ الباقون «الحقّ» بالخفض على النعت (لِلَّهِ) عزوجل ، وقرأ أبو حيوة «لله الحقّ» بالنصب وقرأ الجمهور «عقبا» بضم العين والقاف وقرأ عاصم وحمزة والحسن «عقبا» بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء ، وقرأ عاصم أيضا «عقبى» بياء التأنيث ، والعقب والعقب بمعنى العاقبة.

قوله عزوجل :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)(٤٨)

قوله (الْحَياةِ الدُّنْيا) يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه ، وقوله (كَماءٍ) يريد هي كماء ، وقوله (فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، فالباء في (بِهِ) باء السبب ، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك ، لا أنه أراد اختصاصا بوقت الصباح ، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع : [المنسرح]


أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

و «الهشيم» المتفتت من يابس العشب ، ومنه قوله تعالى (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر : ٣١] ومنه هشم الثريد ، و (تَذْرُوهُ) ، بمعنى تفرقه ، وقرأ ابن عباس : «تذريه» ، والمعنى : تقلعه وترمي به ، وقرأ الحسن «تذروه الريح» بالإفراد ، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله : (وَكانَ اللهُ) عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان ، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله ، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح وقال الحسن (كانَ) : إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات ، أي إن القدرة كانت ، وهذا أيضا حسن ، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل ، ثم يعود بعد ذلك (هَشِيماً) ويصير إلى عدم ، فمن كان له عمل صالح ، يبقى في الآخرة فهو الفائز ، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة ، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ، ونحوه. وقوله (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) لفظ الخبر ، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل ، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه ، فكأنه يقول في هذه : إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة ، فلا تتبعوها نفوسكم ، وقوله (زِينَةُ) مصدر ، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف ، وتقديره : مقر زينة الحياة الدنيا ، وإما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة ، واختلف الناس في (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل : هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، روي في هذا حديث : «أكثروا من الباقيات الصالحات» ، وقاله أيضا ابن عباس ، وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات ، وقال ابن عباس أيضا (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم ، وقوله (خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) الآية التقدير : واذكر يوم ، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا ، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن «نسير» بنون العظمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى : «تسيّر» بالتاء ، وفتح الياء المشددة «الجبال» رفع ، وقرأ الحسن : «يسيّر» بياء مضمونة ، والثانية مفتوحة مشددة ، «الجبال» رفعا ، وقرأ ابن محيصن «تسير» : بتاء مفتوحة وسين مكسورة ، أسند الفعل إلى «الجبال» ، وقرأ أبي بن كعب «ويوم سيرت الجبال». وقوله (بارِزَةً) إما أن يريد أن الأرض ، لذهاب الجبال والظراب والشجر ، برزت وانكشفت ، وإما أن يريد : بروز أهلها ، والمحشورين من سكان بطنها (وَحَشَرْناهُمْ) أي أقمناهم من قبورهم ، وجعلناهم لعرضة القيامة ، وقرأ الجمهور «نغادر» بنون العظمة ، وقرأ قتادة : «تغادر» على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض ، وروى أبان بن يزيد عن عاصم : «يغادر» بياء وفتح الدال «أحد» بالرفع ، وقرأ الضحاك «فلم نغدر» بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين ، والمغادرة : الترك ، ومنه غدير الماء ، وهو ما تركه السيل ، وقوله (صَفًّا) إفراد نزل منزلة الجمع ، أي صفوفا ، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفدهم البصر ،


الحديث بطوله ، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا ، أنتم منها ثمانون صفا» ، وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث ، ومضمنها التقريع والتوبيخ ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة ، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره : يقال للكفرة منهم ، (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يفسره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤].

قوله عزوجل :

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(٥٠)

(الْكِتابُ) اسم جنس ، يراد به كتب الناس التي أحصاها الحفظة لواحد واحد ، ويحتمل أن يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا ، و «إشفاق المجرمين» : فزعهم من كشفه لهم وفضحه فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء لا من ظلم ولا حيف ، وقدم الصغيرة اهتماما بها ، لينبه منها ، ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت ، فالكبيرة أحرى بذلك ، والعرب أبدا تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين ، ونحو هذا هو قولهم : القمران والعمران ، سموا باسم الأقل تنبيها منهم ، وقال ابن عباس : «الصغيرة» الضحك ، وهذا مثال ، وباقي الآية بين ، وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) الآية ، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم ، صغيرها وكبيرها ، وتقدير الكلام : واذكر إذ قلنا وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة ، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادىء الأمور ، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف ، ووضع الوجه بالأرض ، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم ، فهذا كالصلاة للكعبة ، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض ، وذلك يسمى سجودا لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وهذا جائز أن يكلفه قوم ، فمنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قوموا إلى سيدكم» ، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ذكره سعيد بن منصور في مصنفه ، وقوله (إِلَّا إِبْلِيسَ) قالت فرقة هو استثناء منقطع ، لأن (إِبْلِيسَ) ليس من الملائكة ، بل هو من الجن ، وهم الشياطين المخلوقون من مارج من نار ، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور ، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن ، وهو أولهم ، وبدءتهم ، كآدم من الإنس ، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله


جنا ، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته ، فهو كنوح في الإنس ، احتجوا بهذه الآية ، وتعنيف (إِبْلِيسَ) على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة ، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل ، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار ، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون ، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين ، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض ، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى ، إذ كان متصرفا بالأمر والنهي ، مرسلا ، والملك مشتق من المالكة ، وهي الرسالة ، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول (اسْجُدُوا) وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور ، وقوله (فَفَسَقَ) معناه فخرج وانتزح ، وقال رؤبة : [الرجز]

تهوين في نجد وغورا غائرا

فواسقا عن قصدها جوائرا

ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة ، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة ، إنما هو في فساد ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم إنما هن مفسدات» وقوله (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه ، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد ، أي منه ، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها ، و (عَنْ) قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة ، كقولك أطعمتني عن جوع ، ونحوه ، فكأن المعنى : فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر» ، إذ هي أحد الأمور ، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك ، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية : كان إبليس من أشرف صنف ، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض ، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون ، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه ، كآدم ، وإذا كانت من الكبر ، فلا ترجه ، كإبليس ، ثم وقف عزوجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) يريد أفتتخذون إبليس ، وقوله (وَذُرِّيَّتَهُ) ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل ، وذكر الطبري أن مجاهدا قال : ذرية إبليس الشيطان ، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق ، يضع رايته في كل سوق ، وتبن صاحب المصائب ، والأعور صاحب الربا ، ومسوط صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلا ، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته ، وقد طول النقاش في هذا المعنى ، وجلب حكايات تبعد من الصحة ، فتركتها إيجازا ، ولم يمر بي في هذا صحيح ، إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطانا يسمى خنزت ، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره ، وقوله (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي أعداء ، فهو اسم جنس ، وقوله (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي بدل ولاية لله عزوجل بولاية إبليس وذريته ، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل ، وهذا هو نفس الظلم ، لأنه وضع الشيء في غير موضعه.


قوله عزوجل :

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً(٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً(٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٥٤)

الضمير في (أَشْهَدْتُهُمْ) عائد على الكفار ، وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين ، وأهل الطبائع ، والمتحكمين من الأطباء ، وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء.

قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاد المهدوي بالمهدية ، يقول سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ويتأول هذا التأويل في هذه الآية ، وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين ، وقيل الضمير في (أَشْهَدْتُهُمْ) عائد على ذرية إبليس ، فهذه الآية ، على هذا تتضمن تحقيرهم ، والقول الأول أعظم فائدة ، وأقول : إن الغرض المقصود أولا بالآية ، هم إبليس وذريته ، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي ، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته ، وهم أضلوا الجميع ، فهم المراد الأول ب (الْمُضِلِّينَ) ، وتندرج هذه الطوائف في معناهم ، وقرأ الجمهور ، «وما كنت» وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف «وما كنت» ، والصفة ب (الْمُضِلِّينَ) ، تترتب في الطوائف المذكورة ، وفي ذرية إبليس لعنه الله ، و «العضد» استعارة للمعين المؤازر ، وهو تشبيه بالعضد للإنسان الذي يستعين به ، وقرأ الجمهور «عضدا» بفتح العين وضم الضاد ، وقرأ أبو عمرو والحسن بضمهما ، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد ، وقرأ عكرمة «عضدا» بضم العين وسكون الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «عضدا» بفتح العين والضاد ، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها ، وقوله (وَيَوْمَ يَقُولُ) الآية وعيد ، المعنى واذكر يوم ، وقرأ طلحة ويحيى والأعمش وحمزة «نقول» بنون العظمة ، وقرأ الجمهور بالياء أي «يقول» الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه : (نادُوا شُرَكائِيَ) أي على وجه الاستغاثة بهم ، وقوله (شُرَكائِيَ) أي على دعواكم أيها المشركون وقد بين هذا بقوله (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) وقرأ ابن كثير وأهل مكة «شركائي» بياء مفتوحة ، وقرأ الجمهور : «شركائي» بهمزة. فمنهم من حققها ، ومنهم من خففها ، و «الزعم» إنما هو مستعمل أبدا في غير اليقين ، بل أغلبه في الكذب ، ومنه هذه الآية ، وأرفع موضعه أن يستعمل «زعم» بمعنى أخبر ، حيث تبقى عهدة الخبر على المخبر ، كما يقول سيبويهرحمه‌الله : زعم الخليل. وقوله (فَدَعَوْهُمْ) فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة ، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات ، لا تغني شيئا ولا تنفع ، هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة ، والأول أبين ، واختلف المتأولون في قوله (مَوْبِقاً) قال عبد الله ابن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد : هو واد في جهنم يجري بدم وصديد ، قال أنس : يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين ، فقوله على هذا (بَيْنَهُمْ) ظرف ، وقال الحسن (مَوْبِقاً) معناه عداوة و (بَيْنَهُمْ) على هذا


ظرف ، وبعض هذه الفرقة ، يرى أن الضمير في قوله (بَيْنَهُمْ) يعود على المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم ، وقال ابن عباس (مَوْبِقاً) معناه مهلكا بمنزلة موضع وهو من قولك وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه ، فقوله (بَيْنَهُمْ) على هذا التأويل ، يصح أن يكون ظرفا ، والأظهر فيه أن يكون اسما ، بمعنى جعلنا تواصلهم أمرا مهلكا لهم ، ويكون (بَيْنَهُمْ) مفعولا أولا ل (جَعَلْنا) ، وعبر بعضهم عن الموبق بالموعد وهذا ضعيف ، ثم أخبر عزوجل عن رؤية المجرمين النار ، ومعاينتهم لها ، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها ، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين ، ولو قال بدل (فَظَنُّوا) وأيقنوا لكان الكلام متسقا ، على مبالغة فيه ، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد قاله الحسن ، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق ، لكنه لم يقع ذلك المظنون ، وإلا ، فقد يقع ويحسن ، لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن وتأمل هذه الآية ، وتأمل قول دريد :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

وقرأ الأعمش «فظنوا أنهم ملاقوها» ، وكذلك في مصحف ابن مسعود ، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة ، أنه قرأ : «ملافوها» بالفاء مشددة من لففت ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. و «المصرف» المعدل ، والمرغ ، ومنه قول أبي كبير الهذلي : [الكامل]

أزهير هل عن شيبة بن مصرف

أم لا خلود لباذل متكلف

وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) الآية ، المعنى : ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان ، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان ، وقوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم ، وهو الهداية ، وقوله (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) خبر مقتضب في ضمنه ، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال ، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل وقوله (الْإِنْسانُ) يريد الجنس ، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث ، وقيل ابن الزبعرى. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل ، فأيقظه ، فقال له علي إنما نفسي بيد الله ، ونحو هذا ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يضرب خده بيده ويقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس ، و «الجدل» الخصام والمدافعة بالقول ، فالإنسان أكثر جدلا من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض وفي قوله (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) تعليم تفجع ما على الناس ، ويبين فيما بعد.

قوله عزوجل :

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا


بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)(٥٧)

هذه آية : تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم ، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون ، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا ، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم ، و (النَّاسَ) يراد به كفار عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها ، و (الْهُدى) هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «الاستغفار» هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفرا وغيره ، و (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي مقابلة عيانا ، والمعنى عذابا غير المعهود ، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر ، وقال مجاهد : (قُبُلاً) معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء ، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج «قبلا» بضم القاف والباء ، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل ، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، والآخر أن يكون جمع قبيل ، أي يجيئهم العذاب أنواعا وألوانا ، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضا : «قبلا» بضم القاف وسكون الباء ، وقوله (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) الآية ، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار ، قال : وليس الأمر كما يظنوا ، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا ، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات ، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار ، و «يدحضوا» معناه يزهقوا ، و «الدحض» الطين الذي يزهق فيه ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه

وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقوله (وَاتَّخَذُوا) إلى آخر الآية توعيد ، و «الآيات» تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) يريد من العذاب الآخرة ، والتقدير وما أنذروه فحذف الضمير و «الهزاء» : السخر والاستخفاف ، كقولهم أساطير الأولين ، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام بمعنى التقرير ، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه ، فالمعنى لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنْ) هذه صفته ، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير ، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال ، ونسب السيئات إلى اليدين ، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية ، فجعلت كذلك في المعاني ، استعارة ، ثم أخبر الله عزوجل عنهم وعن فعله بهم ، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح ، فإنه تعالى : جعل (عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) وهي جمع كنان ، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه ، هل هو حقيقة أو مجاز ، والحقيقة في هذا غير مستحيلة ، والتجوز أيضا فصيح ، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في


الأجسام وحاملة ، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير ، وأما «الوقر» في الآذان ، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعا تاما ، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر ، فلا يسمع ، شبهوا به ، وكذلك العمى والصم والبكم ، كلها استعارات ، وإنما الخلاف في أوصاف القلب ، هل هي حقيقة أو مجاز ، و «الوقر» : الثقل في السمع ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبدا ، وهذا يخرج على أحد تأويلين : أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص ، ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن ولا يهتدي أبدا ، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال ، والآخر أن يريد : وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يؤمنوا جميعا أبدا ، أي إنهم ربما آمن منهم الأفراد ، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين ، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)(٦٠)

لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم ، أنهم لا يهتدون أبدا ، عقب ذلك بأنه للمؤمنين ، (الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) ، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة ، ترك المعاجلة ، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم ، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي ، قالت فرقة هو أجل الموت ، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة ، وقال الطبري هو يوم بدر ، والحشر و «الموئل» المنجى يقال : وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر :

لا وألت نفسك خيلتها

للعامريين ولم تكلم

ومنه قول الأعشى : [البسيط]

وقد أخالس رب البيت غفلته

وقد يحاذر مني ثم ما يئل

ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله ، وفي قوله (وَتِلْكَ الْقُرى) حذف مضاف تقديره (وَتِلْكَ) أهل (الْقُرى) يدل على ذلك قوله (أَهْلَكْناهُمْ) فرد الضمير على أهل القرى ، و (الْقُرى) : المدن ، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. (وَتِلْكَ) ابتداء ، و (الْقُرى) صفته ، و (أَهْلَكْناهُمْ) خبر ، ويصح أن يكون (تِلْكَ) منصوبا بفعل يدل عليه (أَهْلَكْناهُمْ). وقرأ الجمهور «لمهلكهم» بضم الميم وفتح اللام ، من أهلك ، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء ، ولمكانه ، ويكون مصدرا فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «لمهلكهم» بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص «لمهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام ، وهو مصدر من هلك ، وهو في مشهور اللغة غير متعد ، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل ، لأنه بمعنى : وجعلنا لأن هلكوا موعدا ،


وقالت فرقة إن هلك يتعدى ، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد ، وأنشد أبو علي في ذلك : [الرجز]

ومهمه هالك من تعرجا

فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافا إلى المفعول ، وقوله (وَإِذْ قالَ مُوسى) الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول ، المعنى : اذكر واتل ، و (مُوسى) هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن ، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد ، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه ، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران ، وهو موسى بن مشنى ، ويقال ابن منسى ، وأما «فتاه» فعلى قول من قال موسى بن عمران ، فهو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف بن يعقوب ، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون ، ولكنه قول غير صحيح ، رده ابن عباس وغيره و «الفتي» في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا ، قيل للخادم فتى ، على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» ، فهذا ندب إلى التواضع ، و «الفتى» في الآية هو الخادم ، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه‌السلام ، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل ، وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك قال لا ، فأوحى الله إليه بلى : عبدنا خضر ، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك ، وأمر أن يتزود حوتا ، ويرتقب زواله عنه ، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة (لا أَبْرَحُ) أسير ، أي لا أزال ، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر ، ومن هذا قول الفرزدق : [الطويل]

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم

ببطحاء ذي قار عياب اللطائم

وذكر الطبري عن ابن عباس : قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوما ، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وما مر بي قط أن موسى عليه‌السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام ، وما أراه يصح ، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم ، والتواضع للعالم ، وقرأ الجمهور «مجمع» بفتح الميمين ، وقرأ الضحاك «مجمع» بكسر الميم الثانية ، واختلف الناس في (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أين هو؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم.

قال القاضي أبو محمد : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام ، هو (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا. وروي عن أبي بن كعب أنه قال (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) بإفريقية ، وهذا يقرب من الذي قبله ، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط ، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيرا ، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) يريد بحرا ملحا وبحرا عذبا ، فعلى هذا إنما كان


الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر ، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر ، لأنهما بحرا علم ، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر ، وقوله (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) معناه أو أمضي على وجهي زمانا ، واختلف القراء ، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقبا» بسكون القاف ، وقرأ الجمهور «حقبا» بضمه ، وهو تثقيل حقب ، وجمع الحقب أحقاب ، واختلف في الحقب ، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة ، وقال مجاهد سبعون ، وقال الفراء «الحقب» سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب» جمع حقبة ، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥)

الضمير في قوله (بَيْنِهِما) للبحرين ، قاله مجاهد ، وقيل هو لموسى والخضر ، والأول أصوب ، وقرأ عبيد الله بن مسلم «مجمع» بكسر الميم الثانية ، وقال (نَسِيا) وإنما كان النسيان من الفتى وحده ، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله من حيث كان لهما زادا ، وكانا بسبب منه فنسب فعل الواحد فيه إليهما ، وهذا كما تقول فعل بنو فلان لأمر إنما فعله منهم بعض ، وروي في الحديث أن يوشع رأى الحوت قد حش من المكتل إلى البحر فرآه قد اتخذ السرب ، وكان موسى نائما فأشفق أن يوقظه ، وقال أؤخر حتى يستيقظ ، فلما استيقظ نسي يوشع أن يعلمه ، ورحلا حتى جاوزا «والسبيل» : المسلك ، و «السرب» : المسلك في جوف الأرض ، فشبه به مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده ، بل بقي موضع كالطاق وهذا الذي ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقاله جمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا ، وقال قتادة ، صار موضع سلوكه حجرا صلدا. وقال ابن زيد إنما اتخذ (سَبِيلَهُ سَرَباً) في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة.

قال القاضي أبو محمد : وهؤلاء يتأولون (سَرَباً) بمعنى تصرفا وجولانا من قولهم فحل سارب ، أي مهمل يرعى حيث شاء ، ومنه قوله تعالى : (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] ، أي متصرف وقالت فرقة اتخذ (سَرَباً) في التراب من المكتل إلى البحر ، وصادف في طريقه حجرا فثقبه ، وظاهر الأمر أن السرب ، إنما كان في الماء ، ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي ، ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجرا طريقا ، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى ذلك


الطريق إلى الجزيرة في البحر وفيها وجد الخضر ، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر ، يدل على ذلك قوله تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) وروي في قوله (فَلَمَّا جاوَزا) أن موسى عليه‌السلام نزل عند صخرة عظيمة في ضفة البحر ، فنسي يوشع الحوت هنالك ، ثم استيقظ موسى ورحلا مرحلة بقية الليل وصدر يومهما ، فجاع موسى ولحقه تعب الطريق ، فاستدعى الغداء ، قال أبي رضي الله عنه سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم ، و «النصب» التعب والمشقة ، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نصبا» بضم النون والصاد ، ويشبه أن يكون جمع نصب وهو تخفيف نصب وقوله (أَرَأَيْتَ) الآية حكى الطبري عن فرقة أنها قالت الصخرة هي الشام عند نهر الذيب ، وقد تقدم ذكر الخلاف في موضع هذه القصة ، وقوله (نَسِيتُ الْحُوتَ) يريد نسيت ذكر ما جرى فيه لك ، وأما الكسائي وحده «أنسانيه» ، وقرأت فرقة «أنسانيه» وقرأ ابن كثير في الوصل «أنسانيهي» بياء بعد الهاء ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وما أنسانيه أن أذكركه إلا الشيطان». وقوله (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من (الْحُوتَ) بدل اشتمال ، وقوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ، ويحتمل أن يكون قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) تام الخبر ، فاستأنف التعجب فقال من قبل نفسه : (عَجَباً) لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك ، قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته ، أتيت به فإذا هو شقة حوت ، وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء.

قال القاضي أبو محمد : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيء عليه قشرة رقيقة يشق تحتها شوكة وشقه الآخر ، ويحتمل أن يكون قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) الآية إخبار من الله تعالى ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البرح عجبا أي تعجب منه ، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس ، وقرأ أبو حيوة «واتخاذ سبيله» فهذا مصدر معطوف على الضمير في (أَذْكُرَهُ) ، وقوله تعالى : (قالَ ذلِكَ) الآية ، المعنى قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا له ثم ، فرجعا يقصان أثرهما لئلا يخطئان طريقهما ، وقرأ الجمهور «نبغي» بثبوت الياء ، وقرأ عاصم وقوم «نبغ» دون ياء ، وكان الحسن يثبتها إذا وصل ويحذفها إذا وقف ، و «قص الأثر» اتباعه وتطلبه في موضع خفائه ، و «العبد» هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث ، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس ، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر ، والخضر نبي عند الجمهور ، وقيل هو عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله ، وروي في الحديث أن موسى عليه‌السلام وجد الخضر مسجى في ثوبه مستلقيا على الأرض فقال له السلام عليك ، فرفع الخضر رأسه وقال وأنى بأرضك السلام؟ ثم قال له من أنت؟ قال أنا موسى ، قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم ، قال له ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال بلى ، ولكني أحببت لقاءك ، وأن أتعلم منك ، قال له إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا.

قال القاضي أبو محمد : كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها. وكان علم موسى عليه‌السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم. وروي أن موسى


وجد الخضر قاعدا على تيح البحر ، وسمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة يابسة فاهتزت تحته خضراء ، روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «الرحمة» في هذه الآية النبوءة ، وقد ذكرنا الحديث المضمن أن سبب هذه القصة أن موسى عليه‌السلام ، قيل له تعلم أحدا أعلم منك ، قال : لا ، وحكى الطبري حديثا آخر ، مضمنه : أن موسى عليه‌السلام قال : من قبل نفسه : أي رب ، أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة خير تهديه ، قال رب فهل في الأرض أحد؟ قال نعم فسأل السبيل إلى لقيه ، والحديث الأول في صحيح البخاري ، وقرأ الجمهور «من لدنّا» بتشديد النون وقرأ أبو عمرو من «لدنا» بضم الدال وتخفيف النون ، قال أبو حاتم هما لغتان.

قوله عزوجل :

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)(٧٣)

هذه مخاطبة المستنزل المبالغ في حسن الأدب ، المعنى : هل يتفق لك ويخف عليك ، وهذا كما في الحديث «هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ» وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) [المائدة : ١١٢] وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم «رشدا» بضم الراء والشين ، وقرأ أبو عمرو «رشدا» بفتح الراء والشين ، ونصبه على وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا ب (تُعَلِّمَنِ) والآخر أن يكون حالا من الضمير في قوله (أَتَّبِعُكَ) ثم قال الخضر ، (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي إنك يا موسى ، لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي ، لأن الظواهر التي علمك لا تعطيه ، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى) ما تراه خطأ ، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ولا طريق الصواب ، فقرب له موسى الأمر بوعده أنه سيجده ، ثم استثنى حين حكم على نفسه بأمر فقوى الخضر وصاته وأمره بالإمساك عن السؤال والإكنان لما يراه حتى يبتدئه الخضر لشرح ما يجب شرحه ، وقرأ نافع فلا «تسألنّي» بفتح اللام ، وتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه حذف الباء فقال «تسألنّ» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «تسألني» بسكون اللام وثبوت الياء ، وقرأ الجمهور «خبرا» بسكون الباء ، وقرأ الأعرج «خبرا» بضمها ، وقوله (فَانْطَلَقا) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة ، فعرف الخضر فحملا بغير قول إلى مقصد أمه الخضر ، وعرفت (السَّفِينَةِ) بالألف واللام تعريف الجنس لا لعهد عينها ، فلما ركبا عمد الخضر إلى وتد فجعل يضرب في جنب السفينة حتى قلع به ، فيما روي لوحين من ألواحها فذلك هو معنى (خَرَقَها) فلما


رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلا يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة ، فوقفه بقوله (أَخَرَقْتَها) وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها» بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغرّق» بشد الراء وفتح الغين ، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» برفع الأهل ، وإسناد الفعل إليهم و «الإمر» الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه ، ومنه أمر أمر ابن أبي كبشة ومنه أمر القوم إذا كثروا ، وقال مجاهد «الإمر» المنكر.

قال القاضي أبو محمد : والأمر أخص من المنكر ، فقال الخضر مجاوبا لموسى : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فتنبه موسى لما أتى معه ، فاعتذر بالنسيان ، وذلك أنه نسي العهد الذي كان بينهما ، هذا قول الجمهور ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا» ، وفيه عن مجاهد أنه قال «كانت الأولى نسيانا» ، والثانية شرطا ، والثالثة عمدا ، وهذا كلام معترض لأن الجميع شرط ولأن العمد يبعد على موسى عليه‌السلام ، وإنما هو التأويل إذ جنب صيغة السؤال أو النسيان ، وروى الطبري عن أبي بن كعب أنه قال : إن موسى عليه‌السلام لم ينس ، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام ، ومعنى هذا القول صحيح ، والطبري لم يبينه ، ووجهه عندي أن موسى عليه‌السلام إنما رأى العهد في أن يسأل ولم ير إنكار هذا الفعل الشنيع سؤالا بل رآه واجبا ، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والمعارضة والإنكار وكل اعتراض إذ السؤال أخف من هذه كلها أخذ معه في باب المعاريض ، التي هي مندوحة عن الكذب ، فقال له (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) ولم يقل له : إني نسيت العهد ، بل قال لفظا يعطي للمتأول أنه نسي العهد ، ويستقيم أيضا تأويله وطلبه ، مع أنه لم ينس العهد لأن قوله (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) كلام جيد طلبه ، وليس فيه للعهد ذكر هل نسيه أم لا ، وفيه تعريض أنه نسي العهد ، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق وما يخل بهذا القول إلا أن الذي قاله وهو أبي بن كعب روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا» و (تُرْهِقْنِي) معناه تكلفني وتضيف علي ومما قص من أمرهما ، أنهما لما ركبا السفينة وجرت ، نزل عصفور على جنب السفينة ، فنقر في الماء نقرة ، فقال الخضر لموسى ، ماذا ترى هذا العصفور نقص من ماء البحر؟ فقال موسى قليلا ، فقال : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من ماء البحر.

قال القاضي أبو محمد : فقيل معنى هذا الكلام وضع العلم موضع المعلومات ، وإلا فعلم الله تعالى يشبه بمتناه إذ لا يتناهى ، والبحر لو فرضت له عصافير على عدد نقطه لانتهى ، وعندي أن الاعتراض باق لأن تناهي معلومات الله محال ، إذ يتناهى العلم بتناهي المعلومات ، وقيل فرارا عن هذا الاعتراض ، يحتمل أن يريد من علم الله الذي أعطاه العلماء قبلهما ، وبعدهما إلى يوم القيامة ، فتجيء نسبة علمهما إلى البشر نسبة تلك النقطة إلى البحر ، وهذا قول حسن لولا أن في بعض طرق الحديث «ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كنقرة هذا العصفور» ، فلم يبق مع هذا إلا أن يكون التشبيه بتجوز ، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر ، فكأنها لا شيء إذ لا يوجد لها إلى البحر نسبة معلومة ، ولم يعن الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى.


قوله عزوجل :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً(٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٧٨)

(فَانْطَلَقا) في موضع نزولهما من السفينة ، فمرا بغلمان يلعبون ، فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء ، فاقتلع رأسه ، ويقال رضه بحجر ، ويقال ذبحه وقال بعض الناس كان الغلام لم يبلغ الحلم ، ولذلك قال موسى (زَكِيَّةً) أي لم تذنب ، وقالت فرقة بل كان بالغا شابا ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية : [الطويل]

غلام إذا هز القناة سقاها

وهذا في صفة الحجاج ، وفي الخبر أن هذا الغلام ، كان يفسد في الأرض ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه ، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر ونافع والجمهور «زاكية» ، وقرأ الحسن وعاصم والجحدري «زكية» والمعنى واحد ، وقد ذهب القوم إلى الفرق وليس ببين ، وقوله (بِغَيْرِ نَفْسٍ) يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، ولا بغير نفس وقرأ الجمهور «نكرا» وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وشيبة «نكرا» بضم الكاف واختلف عن نافع ، ومعناه : شيئا ينكر ، واختلف الناس أيهما أبلغ قوله (إِمْراً) [الكهف : ٧١] أو قوله (نُكْراً) فقالت فرقة هذا قتل بين ، وهناك مترقب ف (نُكْراً) أبلغ وقالت فرقة هذا قتل واحد ، وذلك قتل جماعة ف (إِمْراً) [الكهف : ٧١] أبلغ وعندي أنهما المعنيين ، قوله (إِمْراً) [الكهف : ٧١] أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، و (نُكْراً) أبين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ونصف القرآن بعد الحروف انتهى إلى النون من قوله (نُكْراً) وقوله (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) زجر وإغلاظ ليس في قوله أولا (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) وقوله بعد هذا (يُرِيدُ) بعدها القصة ، فأعاد الضمير عليها وإن كانت لم يتقدم لها ذكر صريح ، من حيث كانت في ضمن القول ، وقرأ الجمهور «فلا تصاحبني» ورواها أبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني» ، وقرأ عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو ، والمعنى فلا تصحبني علمك ، وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» : بفتح التاء والباء وشد النون ، وقوله (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد أعذرت إلي ، وبلغت إلى العذر من قبلي ، ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة ، وأيام التلوم ثلاثة فتأمله ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من


«لدنّي» بفتح اللام وضم الدال وشد النون. وهي «لدن» اتصلت بها نون الكناية التي في ضربني ونحوه ، فوقع الإدغام ، وهي قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ نافع وعاصم «لدني» كالأولى إلا أن النون مخففة ، فهي «لدن» اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لدني» بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وهي تخفيف «لدني» التي ذكرناها قبل هذه وروي عن عاصم «لدني» بضم اللام وسكون الدال قال ابن مجاهد وهي غلط قال أبو علي هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية فأما على قياس العربية فهي صحيحة ، وقرأ الحسن «لدني» بفتح اللام وسكون الدال ، وقرأ الجمهور «عذرا» وقرأ أبو عمرو وعيسى «عذرا» بضم الدال ، وحكى الداني أن أبي روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عذري» بكسر الراء وياء بعدها وأسند الطبري ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوما رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال (فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) وفي البخاري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر ، حتى يقص علينا من أمرهما ، وروي في تفسير هذه الآية أن الله جعل هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر ، حجة على موسى وعجبا له ، وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة ، نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم ، فلما أنكر أمر الغلام ، قيل له أين إنكارك هذا من وكرك للقبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك حجر البير لبنات شعيب دون أجر؟ وقوله : (فَانْطَلَقا) يريد انطلق الخضر وموسى يمشيان لارتياد الخضر أمرا ينفذ فيه ما عنده من علم الله فمرا بقرية فطلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا ، وفي حديث : أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ، وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله ، واختلف الناس في «القرية» : فقال محمد بن سيرين هي الأبلة. وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء ، وقالت فرقة هي أنطاكية ، وقالت فرقة هي برقة ، وقالت فرقة هي بجزيرة الأندلس ، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره ، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة هي أبو حوران ، وهي بناحية أذربيجان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك ، وقرأ الجمهور «يضيّفوهما» بفتح الضاد وشد الياء ، وقرأ أبو رجاء «يضيفوهما» ، بكسر الضاد وسكون الياء وهي قراءة ابن محيصن ، وابن الزبير ، والحسن وأبي رزين ، والضيف مأخوذ من ضاف إلى المكان إذا مال إليه ، ومنه الإضافة ، وهي إمالة شيء إلى شيء ، وقرأ الأعمش «فأبوا أن يطعموهما» ، وقوله في الجدار (يُرِيدُ) استعارة ، وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكان الجماد إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، فمن ذلك قول الأعشى : [البسيط]

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فأسند النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الشاعر : [الوافر]

يريد الرمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل


ومنه قول عنترة : [الكامل]

وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وقد فسر هذا المعنى بقوله لو كان يدري ما المحاورة البيت ، ومنه قول الناس : داري تنظر إلى دار فلان ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تتراءى نارهما ، وهذا كثير جدا وقرأ الجمهور «ينقض» أي يسقط ، وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روي عنه «أن ينقض» بضم الميم وتخفيف الضاد وهي قراءة أبي ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة «أن يناقص» ، بالصاد غير منقوطة بمعنى ينشق طولا ، يقال انقاص الجدار وطي البير ، وانقاصت السن ، إذا انشقت طولا ، وقيل إذا تصدعت كيف كان ، ومنه قول أبي ذؤيب : [الطويل]

فراق كقيص السن فالصبر انه

لكل أناس عبرة وحبور

ويروى عثرة وجبور بالثاء والجيم ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «يريد لينقض» واختلف المفسرون في قوله (فَأَقامَهُ) فقالت فرقة هدمه وقعد يبنيه ، ووقع هذا في مصحف ابن مسعود ، ويؤيد هذا التأويل قول ، (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لأنه فعل يستحق أجرا ، وقال سعيد بن جبير مسحه بيده وأقامه فقام.

قال القاضي أبو محمد : وروي في هذا حديث وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم‌السلام فقال موسى للخضر : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي طعاما تأكله ، وقرأ الجمهور «لتخذت» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتخذت» وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة وأدغم بعض القراء الذال في التاء ، ولم يدغمها بعضهم ، ومن قولهم تخذ قول الشاعر [المزق] : [الطويل]

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيقا كأفحوص القطاة المطرق

وفي حرف أبي بن كعب : «لو شئت لأوتيت عليه أجرا» ، ثم قال الخضر لموسى بحسب شرطهما (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) واشترط الخضر ، وأعطاه موسى أن لا يقع سؤال عن شيء ، والسؤال أقل وجوه الاعتراضات ، فالإنكار والتخطئة أعظم منه ، وقوله (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) وإن لم يكن سؤالا ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر ، وفي ذلك تخطئة ترك الأجر ، والبين الصلاح ، الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ، ويستعمل استعمال الأسماء ، وأما فصله ، وتكريره (بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وعدوله عن بيننا ، فلمعنى التأكيد ، والسين في قوله (سَأُنَبِّئُكَ) مفرقة بين المحاورتين والصحبتين ، ومؤذنة بأن الأولى قد انقطعت ، ثم أخبره في مجلسه ذلك وفي مقامه (بِتَأْوِيلِ) تلك القصص والتأويل هنا المآل.

قوله عزوجل :

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٧٩)

قرأ الجمهور «لمساكين» بتخفيف السين ، جمع مسكين ، واختلف في صفتهم ، فقالت فرقة كانت


لقوم تجار ، ولكنهم من حيث هم مسافرون على قلة ، وفي لجة بحر ، وبحال ضعف عن مدافعة غصب جائر ، عبر عنهم ب «مساكين» ، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما تقول لرجل غني إذا وقع في وهدة وخطب مسكين وقالت فرقة: كانوا عشرة إخوة : أهل عاهات خمسة منهم : عاملون بالسفينة لا قدرة بهم على العمل ، وقرأت فرقة «لمساكين» بتشديد السين. واختلف في تأويل ذلك فقالت فرقة أراد ب «المساكين» ملاحي السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل المركب وكل الخدمة يصلح لإمساكه ، فسمي الجميع «مساكين» ، وقالت فرقة : أراد «المسّاكين» دبغة المسوك ، وهي الجلود واحدها مسك.

قال القاضي أبو محمد : والأظهر في ذلك القراءة الأولى وأن معناها أن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق لهم ، واحتج الناس بهذه الآية في أن المسكين الذي له البلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالا من الفقير ، واحتج من يرى خلاف هذا بقول الشاعر : [البسيط]

أما الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

وتحرير هذا عندي أنهما لفظان يدلان على ضعف الحال جدا ، ومع المسكنة انكشاف وذل وسؤال ، ولذلك جعلها الله صنفين ، في قسم الصدقات ، فأما حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو : «ليس المسكين بهذا الطواف». فجعل المساكين في اللغة أهل الحاجة الذين قد كشفوا وجوههم ، وأما قول الله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) [البقرة : ٢٧٣]. فجعل الفقراء أهل الحاجة الذين لم يكشفوا وجوههم ، وقد تقدم القول في هذه المسألة بأوعب من هذا. وقوله (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) قال قوم معناه أمامهم ، وقالوا وراء من الأضداد ، وقرأ ابن جبير وابن عباس : «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة» صحيحة وقرأ عثمان بن عفان «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة».

قال القاضي أبو محمد : وقوله (وَراءَهُمْ) هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعا بها الزمن ، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الإمام ، وبين اليد : لما يأتي بعده في الزمن ، والذي يأتي بعد : هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر ببادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها : أن هؤلاء وعملهم ، وسعيهم ، يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ «أمامهم» ، أراد في المكان ، أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده ، وقوله تعالى في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلنا في الزمن ، وقوله (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠] مطرد كما قلنا مراعاة الزمن وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصلاة أمامك» يريد في المكان ، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) قال قتادة أمامهم ، ألا ترى أنه يقول (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠] وهي بين أيديهم. وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج ويجوز إن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب ، فكان وراءهم حقيقة ، وقيل اسم هذا الغاصب هدد بن بدد ، وقيل اسمه الجلندا ، وهذا كله غير ثابت ، وقوله (كُلَّ سَفِينَةٍ) عموم


معناه الخصوص في الجياد منها الصحاح المارة به.

قوله عزوجل :

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢)

تقدم القول في (الْغُلامُ) ، والخلاف في بلوغه أو صغره ، وفي الحديث : أن ذلك الغلام طبع يوم طبع كافرا ، وهذا يؤيد ظاهره أنه كان غير بالغ ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه ، مع كونه بالغا. وقيل اسم الغلام جيسور بالراء ، وقيل جيسون بالنون ، وهذا أمر كله غير ثابت ، وقرأ أبي بن كعب : «فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين» ، وقرأ أبو سعيد الخدري «فكان أبواه مؤمنان» فجعلها كان التي فيها الأمر والشأن ، وقوله (فَخَشِينا) قيل هو في جملة الخضر ، فهذا متخلص. والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه ، وقيل هو في جهة الله تعالى ، وعنه عبر الخضر قال الطبري معناه فعلمنا وقال غيره معناه فكرهنا والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل ، وإن كان اللفظ يدافعه ، أنها استعارة ، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين ، لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين ، وقرأ ابن مسعود «فخاف ربك» وهذا بين في الاستعارة وهذا نظير ما يقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى. فإن جميع ما في هذا كله ، من ترج وتوقع ، وخوف ، وخشية ، إنما هو بحبكم أيها المخاطبون ، و (يُرْهِقَهُما) معناه يحثهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه ، وقرأ الجمهور «أن يبدّلهما» بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم «يبدلهما» بسكون الباء وتخفيف الدال ، و «الزكاة» : شرف الخلق ، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية ، و «الرحم» الرحمة ، والمراد عند فرقة أي يرحمهما ، وقيل أي يرحمانه ، ومنه قول رؤبة بن العجاج : [الرجز]

يا منزل الرحم على إدريسا

ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر «رحما» بضم الحاء ، وقرأ الباقون «رحما» بسكونها ، واختلف عن أبي عمرو ، وقرأ ابن عباس «ربهما أزكى منه» و (أَقْرَبَ رُحْماً) وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاما مسلما ، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية ، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبيا ، وذكره المهدوي عن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل ، وهذه المرأة لم تكن فيهم ، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم ، وقوله (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ) هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يتم بعد بلوغ». هذا


الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز» : فقال عكرمة وقتادة كان مالا جسيما ، وقال ابن عباس كان علما في صحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة كان لوحا من ذهب قد كتب فيه عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنيّة ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته» ، وجاء في أنباء الخضر عليه‌السلام في أول قصة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] وفي الثانية (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) وفي الثالثة (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا) وإنما انفرد أولا في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه‌السلام في قوله (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى لنفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيرا ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ) [الصف : ٥] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة : ١١٨] ، وإنما قال الخضر في الثانية (فَأَرَدْنا) لأنه أمل قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى. لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضا ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد» كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه‌السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع» ، وقرأ الجمهور «تسطع» قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع» المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف : ٥٨] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله.

قوله عزوجل :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ


كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)(٨٦)

اختلف فيمن سأله عن هذه القصة ، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب ، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثا ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش ، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك ، و «ذو القرنين» : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني ، وقد تشدد قافه ، فيقال المقدوني ، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني ، وقال وهب بن منبه هو رومي ، وذكر الطبري حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن ذا القرنين شاب من الروم» وهو حديث واهي السند ، فيه عن شيخين من تجيب ، واختلف الناس في وجه تسميته ب (ذِي الْقَرْنَيْنِ) ، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه ، فسمي بهما ، ذكره المهدوي وغيره ، والضفائر قرون الرأس ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النزيف لبرد ماء الحشرج

ومنه حديث في غسل بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت أم عطية : فضفرنا رأسها ثلاثة قرون ، وكثيرا تجيء تسمية النواصي قرونا ، وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس ، ويمسك قرنين لها بيديه ، فقص ذلك ، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه ، وسمي «ذا القرنين» ، وقالت فرقة سمي «ذا القرنين» لأنه بلغ المغرب والمشرق ، فكأنه حاز قرني الدنيا ، وقالت فرقة إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها ، فسمي بذلك ، أو قرني الشيطان بها ، وقال وهب بن منبه : سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس ، وقال وهب بن منبه أيضا كان له قرنان تحت عمامته.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بعيد ، وقال علي بن أبي طالب : إنما سمي «ذا القرنين» لأنه ضرب على قرن رأسه فمات. ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات ، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك ، وهذا قريب ، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا ، ودانت له الملوك كلها ، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان وكافران ، والمؤمنان : سليمان بن داود ، والإسكندر ، والكافران نمرود وبخت نصر ، وقوله (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) معناه علما في كل أمر ، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء ، وقوله (كُلِّ شَيْءٍ) عموم ، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه ، وثم لا محالة أشياء لم يؤت منها سببا يعلمها به ، واختلف في (ذِي الْقَرْنَيْنِ) فقيل هو نبي ، وهذا ضعيف. وقيل هو ملك بفتح اللام ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلا يدعو آخر يا ذا القرنين ، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عنه فقال «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب». وقيل هو عبد ملك بكسر اللام صالح ، نصح لله فأيده ، قاله علي بن أبي طالب ، وقال فيكم اليوم مثله ، وعنى بذلك نفسه ، والله أعلم. وقوله (فَأَتْبَعَ سَبَباً) الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فاتّبع»


بشد التاء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «فأتبع» بسكون التاء على وزن أفعل ، قال بعض اللغويين هما بمعنى واحد ، وكذلك تبع ، وقالت فرقة «أتبع» بقطع الألف : هي عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب ، و «اتبع» إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن ، قاله أبو زيد وغيره.

قال القاضي أبو محمد : واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن كقوله عزوجل (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] ، وكقوله (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ) [يونس : ٩٠] [طه : ٧٨] ، وكقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ١٧٥] ، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب ، وإذا تأملت «اتّبع» بشد التاء لم تربط لك هذا المعنى ولا بد. و «السبب» في هذه الآية ، الطريق المسلوكة ، لأنها سبب الوصول إلى المقصد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «في عين حمئة» ، على وزن فعلة ، أي ذات حماة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، والباقون في «عين حامية» ، أي حارة ، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس «حمئة» ، وقال معاوية «حامية» ، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة ، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني ، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط ، والثاط الطين. فلما انفصلا قال رجل لابن عباس : لوددت أني حضرت يا أبا العباس ، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين : [الكامل]

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

ملكا تدين له الملوك ويحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغار الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثاط حرمد

فالخلب : الطين ، والثاط : الحمأة ، الحرمد : الأسد ، ومن قرأ «حامئة» ، وجهها إلى الحرارة ، وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال «في نار الله الحامية ، لو لا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض» ، وروى أبو ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟ قلت لا ، قال «إنها تغرب في عين حامية» ، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة ، و «حامية» هي قراءة طلحة بن عبيد الله ، وعمرو بن العاص وابنه ، وابن عمر ، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين : فيقال يحتمل أن تكون العين حارة ، ذات حمأة فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها ، وذهب بعض البغداديين إلى أن (فِي) بمنزلة عند ، كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي ل (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وقال بعضهم : قوله (فِي عَيْنٍ) إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها ، أي هي آخر الأرض.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم ، قال أبو حاتم : وقد يمكن أن تكون «حاميئة» مهموزة ، بمعنى ذات حمأة ، فتكون القراءتان بمعنى واحد ، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي ، بقوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ومن قال إنه ليس بنبي ، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام ، و (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالقتل على الكفر (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أي بالإجمال على الإيمان ، واتباع الهدى ، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين : إما أن تكفر فتعذبها ، وإما أن تؤمن فتحسن


إليها ، وذهب الطبري إلى أن اتخاذ الحسن هو الأسر مع كفرهم ، فالمعنى ، على هذا ، أنهم كفروا ولا بد فخيره الله بين قتلهم أو أسرهم ، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية.

قال القاضي أبو محمد : ولكن تقسيم (ذِي الْقَرْنَيْنِ) بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان ، يريد هذا القول بعض الرد ، فتأمله.

قوله عزوجل :

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً)(٩١)

(ظَلَمَ) في هذه الآية بمعنى كفر ، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله ، وعقب لهم بذكر عذاب الله ، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم ، المحسوس لهم ، الأقرب نكاية فلما جاء إلى وعد المؤمنين ، قدم تنعيم الله تعالى الذي هو اللاحق عن المؤمنين ، والآخر بإزائه حقير ، ثم عبر أخيرا بذكر إحسانه في قول اليسر ، وجعله قولا ، إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى ، فكأنه سلمها ، ولم يراع تكسبه ، وقرأت فرقة «نكرا» بضم الكاف ، وفرقة «نكرا» بسكون الكاف ، ومعناه المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر : (جَزاءً الْحُسْنى) بإضافة الجزاء إلى (الْحُسْنى) ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يريد ب (الْحُسْنى) الجنة ، والجنة هي الجزاء ، فأضاف ذلك كما قال «دار الآخرة» والدار هي الآخرة ، والثاني أن يريد ب (الْحُسْنى) أعمالهم الصالحة في إيمانهم ، فوعدهم بجزاء الأعمال الصالحة ، وقرأ حمزة الكسائي وحفص عن عاصم «جزاء الحسنى» بنصب الجزاء على المصدر في موضع الحال ، و «الحسنى» : ابتداء خبره في المجرور ، ويراد بها الجنة ، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق «جزاء» بالرفع والتنوين (الْحُسْنى) وقرأ ابن عباس ومسروق : «جزاء» نصب بغير التنوين (الْحُسْنى) بالإضافة ، قال المهدوي : ويجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، ووعدهم بذلك بأنه ييسر عليهم أمور دنياهم ، وقرأ ابن القعقاع : «يسرا» بضم السين ، وقوله (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) المعنى : ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده ، فيجيء سبب الوصول ، وكان ذو القرنين ، على ما وقع في كتب التواريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال ، والسيرة الحميدة ، والإعداد الموفي ، والحزم المستيقظ المتقد ، والتأييد المتواصل ، وتقوى الله عزوجل ، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له ، ودخلت في طاعته ، وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره ، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب. كرهت التطويل بها لأنها علم تاريخ. وقرأ الجمهور «مطلع» بكسر اللام ، وقرأ الحسن بخلاف وابن كثير وأهل مكة «مطلع الشمس» بفتح اللام ، و «القوم» : الزنج ، قاله قتادة وهم الهنود وما وراءهم ، وقال النقاش في قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) معناه : أنه ليس لهم بنيان ، إذ لا تحمل أرضهم البناء ، وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب ، وقيل يدخلون في ماء البحر ، قاله الحسن وقتادة


وابن جريج ، وكثر النقاش في غيره في هذا المعنى ، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها ، لقدرة الله تعالى فيهم ، ونيلها منهم ، ولو كان لهم أسراب تغني لكان سترا كثيفا ، وإنما هم في قبضة القدرة ، سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن ، ألا ترى أن الستر ، عندنا نحن ، إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهوى ، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا ، فسبحان المنفرد بالقدرة التامة ، وقوله (كَذلِكَ) معناه : فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب ، فأوجز بقوله (كَذلِكَ) ثم أخبر الله تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين ، وما تصرف من أفعاله ويحتمل أن يكون (كَذلِكَ) استئناف قول ، ولا يكون راجعا على الطائفة الأولى ، فتأمله ، والأول أصوب.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً)(٩٥)

قرأت فرقة «اتّبع» بشد التاء ، وقرأت فرقة «أتبع» بتخفيفها ، وقد تقدم ذكره وهذه الآية تقتضي أنه لما بلغ مطلع الشمس ، أي أدنى الأرض من مطلع الشمس ، (أَتْبَعَ) بعد ذلك (سَبَباً) ، أي طريقا آخر ، فهو ، والله أعلم ، إما يمنة وإما يسرة من مطلع الشمس ، و «السدان» فيما ذكر أهل التفسير ، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض ، وبين طرفي الجبلين فتح ، هو موضع الردم ، قال ابن عباس : الجبلان اللذان بينهما السد : أرمينية وأذربيجان ، وقالت فرقة : هما من وراء بلاد الترك ، ذكره المهدوي.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله غير متحقق ، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ ، أنه إلى ناحية الشمال ، وأما تعيين موضع فيضعف ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم : «السّدين» بضم السين ، وكذلك «سدا» حيث وقع ، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن ، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي ، وقرأ ابن كثير «السّدين» بفتح السين وضم «سدا» في يس ، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه : الضم هو الاسم والفتح هو المصدر ، وقال الكسائي : الضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح.

قال القاضي أبو محمد : ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ «بين السّدين» بالضم وبعد ذلك «سدا» بالفتح ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة ، وقال ابن أبي إسحاق : وما رأته عيناك فهو «سد» بالضم ، وما لا يرى فهو «سد» بالفتح ، والضمير في (دُونِهِما) عائد على الجبلين ، أي : وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب ، واختلف في القوم ، فقيل : هم بشر ، وقيل جن ، والأول أصح من وجوه ، وقوله (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس ، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها ، وقرأ حمزة والكسائي «يفقهون» من أفقه ، وقرأ


الباقون «يفقهون» من فقه ، والضمير في (قالُوا) : للقوم الذين من دون السدين ، و (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعا كثيرة ، اختلف الناس في عددها ، فاختصرت ذكره لعدم الصحة ، وفي خلقهم تشويه : منهم المفرط الطول ، ومنهم مفرط القصر ، على قدر الشبر ، وأقل ، وأكثر ، ومنهم صنف : عظام الآذان ، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعرى يصيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه ، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده «يأجوج ومأجوج» بالهمز وقرأ الباقون : «يأجوج وماجوج» بغير همزة فأما من همز ، فاختلف : فقالت فرقة : هو أعجمي علتاه في منع الصرف : العجمة والتأنيث ، وقالت فرقة : هو معرب من أجج وأج ، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث ، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين ، وإما أن يسهل من الهمز ، وقرأ رؤبة بن العجاج : «آجوج ومأجوج» بهمزة بدل الياء ، واختلف الناس في «إفسادهم» الذي وصفوهم به ، فقال سعيد بن عبد العزيز : «إفسادهم» : أكل بني آدم ، وقالت فرقة «إفسادهم» إنما عندهم توقعا ، أي سيفسدون ، فطلبوا وجه التحرز منهم ، وقالت فرقة : «إفسادهم» هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، وهذا أظهر الأقوال ، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها ، وقولهم (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) استفهام على جهة حسن الأدب ، و «الخرج» : المجبي ، وهو الخراج ، وقال فوم : الخرج : المال يخرج مرة ، والخراج المجبي المتكرر ، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالا يقيم بها أمر السد ، قال ابن عباس (خَرْجاً) : أجرا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «خرجا» وقرأ حمزة والكسائي «خراجا» وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها ، ونحو هذا مما لم يصح ، وروي أيضا أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف ، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف ، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا ، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم ، وأخبارهم تضيق بها الصحف ، فاختصرتها لضعف صحتها وقوله (قالَ ما مَكَّنِّي) الآية ، المعنى قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله لي من القدرة والملك ، خير من خرجكم وأموالكم ، ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، وبعمل منكم بالأيدي ، وقرأ ابن كثير «ما مكنني» بنونين ، وقرأ الباقون «ما مكني» بإدغام النون الأولى في الثانية ، وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين ، فإنه «تهدا؟؟؟» في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه ، فإن القوم ، لو جمعوا له خرجا لم يمنعه منهم أحد ، ولوكلوه إلى البنيان ، ومعونتهم بالقوة أجمل به ، وأمر يطاول مدة العمل ، وربما أربى على المخرج ، و «الردم» أبلغ من السد ، إذ السد كل ما سد به ، و «الردم» وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ، ومنه ردم ثوبه : إذا رقعه برقاع متكاثفة ، بعضها فوق بعض ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

هل غادر الشعراء من متردم

أي من قول يركب بعضه على بعض.

قوله عزوجل :

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ


قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)(١٠٠)

قرأ عاصم وحمزة «ايتوني» بمعنى جيئوني ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي «آتوني» بمعني أعطوني ، وهذا كله إنما هو استدعاء إلى المناولة ، لا استدعاء العطية والهبة ، لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخرج ، فلم يبق الاستدعاء المناولة ، وإعمال القوة ، و «ايتوني» : أشبه بقوله : فأعينوني بقوة ، ونصب «الزبر» به على نحو قول الشاعر : أمرتك الخير ، حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور «زبر» بفتح الباء ، وقرأ الحسن بضمها ، وكل ذلك جمع زبرة ، وهي القطعة العظيمة منه ، والمعنى : فرصفه وبناه ، حتى إذا ساوى بين الصدفين ، فاختصر ذلك لدلالة الظاهر عليه ، وقرأ الجمهور «ساوى» وقرأ قتادة «سوى» ، و «الصدفان» : الجبلان المتناوحان ، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان لاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الصّدفين» بفتح الصاد وشدها وفتح الدال ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «الصّدفين» بضم الصاد والدال ، وهي قراءة مجاهد والحسن ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال ، وهي قراءة أبي رجاء وأبي عبد الرحمن وقرأ الماجشون : بفتح الصاد وضم الدال ، وقراءة قتادة «بين الصّدفين» ، بفتح الصاد وسكون الدال ، وكل ذلك بمعنى واحد : هما الجبلان المتناوحان ، وقيل «الصدفان» : السطحان الأعليان من الجبلين ، وهذا نحو من الأول ، وقوله (قالَ انْفُخُوا) إلى آخر الآية معناه أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ، ثم يوقد عليها ، حتى تحمى ، ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو الرصاص أو بالحديد ، بحسب الخلاف في القطر ، فيفرغه ، على تلك الطاقة المنضدة ، فإذا التأم واشتد استأنف وصف طاقة أخرى ، إلى أن استوى العمل ، وقرأ بعض الصحابة : «بقطر أفرغ عليه» ، وقال أكثر المفسرين : «القطر» : النحاس المذاب ، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال كيف رأيته؟ قال رأيته كالبرد المحبر : طريقة صفراء ، وطريقة حمراء ، وطريقة سوداء. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد رأيته ، وقالت فرقة «القطر» : الرصاص المذاب ، وقالت فرقة الحديد المذاب ، وهو مشتق من قطر يقطر ، والضمير في قوله (اسْتَطاعُوا) ل (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) [الكهف : ٩٤] ، وقرأت فرقة «فما اسطاعوا» بسكون السين وتخفيف الطاء ، وقرأت فرقة بشد الطاء ، وفيها تكلف الجمع بين ساكنين و (يَظْهَرُوهُ) معناه : يعلونه بصعود فيه ، ومنه في الموطأ : والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، (وَمَا) اسطاعوا (لَهُ نَقْباً) لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين إما ارتقاء وإما نقب ، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ ، وفي عرضه خمسين فرسخا ، وروى غير هذا مما لا ثبوت له، فاختصرناه ، إذ لا غاية للتخرص ، وقوله في هذه الآية (انْفُخُوا) يريد بالأكيار ، وقوله (اسْطاعُوا) بتخفيف الطاء ، على قراءة الجمهور قيل هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه ، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء ، فقالوا : (اسْطاعُوا) ، وحذف بعضهم منه الطاء


فقال : «استاع» يستيع بمعنى استطاع يستطيع ، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده «فما اسطّاعوا» بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه ، قال أبو علي : هي غير جائزة ، وقرأ الأعمش : «فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا» بالتاء في الموضعين ، وقوله (هذا رَحْمَةٌ) الآية القائل : ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به ، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة» ، و «الوعد» : يحتمل أن يريد به يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «دكا» مصدر دك يدك إذا هدم ورض ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «دكاء» بالمد ، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء ، وأما النصب في «دكا» فيحتمل أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعل» ، ويحتمل أن يكون «جعل» بمعنى خلق ، وينصب «دكا» على الحال ، وكذلك أيضا النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين ، والضمير في (تَرَكْنا) لله عزوجل ، وقوله (يَوْمَئِذٍ) يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره ، فالضمير في قوله (بَعْضَهُمْ) على ذلك لجميع الناس ، ويحتمل أن يريد بقوله (يَوْمَئِذٍ) يوم كمال السد ، فالضمير في قوله (بَعْضَهُمْ) على ذلك (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) [الكهف : ٩٤] ، واستعارة «الموج» لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه ، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض ، وقوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إلى آخر الآية معني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره ، فمن تأول الآية كلها في يوم القيامة ، اتسق تأويله ، ومن تأول الآية إلى قوله (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) في أمر يأجوج ومأجوج ، تأول القول وتركناهم يموجون دأبا على مر الدهر وتناسل القرون منهم فنائهم ، ثم (نُفِخَ فِي الصُّورِ) فيجتمعون ، و (الصُّورِ) : في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح ، هو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر» ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «قولوا حسبنا الله وعلى الله توكلنا ، ولو اجتمع أهل منى ما أقلوا ذلك القرن» ، وأما «النفخات» ، فأسند الطبري إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الصور» قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين» ، وقال بعض الناس «النفخات» اثنتان : نفخة الفزع ، وهي نفخة الصعق ، ثم الأخرى التي هي للقيام ، وملك الصور هو إسرافيل ، وقالت فرقة (الصُّورِ) جمع صورة ، فكأنه أراد صور البشر والحيوان نفخ فيها الروح ، والأول أبين وأكثر في الشريعة ، وقوله (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) معناه : أبرزناها لهم لتجمعهم وتحطمهم ، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال ، وروى الطبري في هذا حديثا مضمنه أن النار ترفع لليهود والنصارى كأنها السراب ، فيقال هل لكم في الماء حاجة؟ فيقولون نعم ، وهذا مما لا صحة له.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ


فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)(١٠٦)

قوله (أَعْيُنُهُمْ) كناية عن البصائر ، لأن عين الجارحة لا نسبة بينها وبين الذكر ، والمعنى : الذين فكرهم بينها وبين (ذِكْرِي) والنظر في شرعي حجاب ، وعليها (غِطاءٍ) ثم قال إنهم (كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) يريد لإعراضهم ونفارهم عن دعوة الحق ، وقرأ جمهور الناس : «أفحسب الذين» بكسر السين بمعنى : أظنوا ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وابن يعمر ومجاهد وابن كثير بخلاف عنه : «أفحسب» بسكون السين وضم الباء بمعنى أكافيهم ومنتهى غرضهم ، وفي مصحف ابن مسعود «أفظن الذين كفروا» ، وهذه حجة لقراءة الجمهور ، وقال جمهور المفسرين يريد كل من عبد من دون الله كالملائكة وعزير وعيسى ، فيدخل في (الَّذِينَ كَفَرُوا) بعض العرب واليهود والنصارى ، والمعنى أن ذلك ليس كظنهم ، بل ليس من ولاية هؤلاء المذكورين شيء ، ولا يجدون عندهم منتفعا و (أَعْتَدْنا) معناه : يسرنا ، و «النزل» موضع النزول ، و «النزل» أيضا ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله ، ويحتمل أن يراد بالآية هذا المعنى أن المعد لهم بدل النزول جهنم ، كما قال الشاعر : [الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

ثم قال تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) الآية المعنى : قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ : هل نخبركم بالذين خسروا عملهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعونه فإذا طلبوا ذلك ، فقل لهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) ، وقرأ ابن وثاب «قل سننبئكم» ، وهذه صفة المخاطبين من كفار العرب المكذبين ، بالبعث ، و «حبطت» معناه : بطلت ، و (أَعْمالُهُمْ) : يريد ما كان لهم من عمل خير ، وقوله (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) يحتمل أن يريد أنه لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ، ومن لا حسنة له فهو في النار لا محالة ، ويحتمل أن يريد المجاز والاستعارة ، كأنه قال فلا قدر لهم عندنا يومئذ ، فهذا معنى الآية عندي ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يؤتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن بعوضة» ثم قرأ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) وقالت فرقة : إن الاستفهام تم في قوله (أَعْمالاً) ثم قال : هم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فقال سعد بن أبي وقاص هم عباد اليهود والنصارى ، وأهل الصوامع والديارات ، وقال علي بن أبي طالب هم الخوارج ، وهذا إن صح عنه ، فهو على جهة مثال فيمن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن وروي أن ابن الكواء سأله عن (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) فقال له أنت وأصحابك ، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) وليس من هذه الطوائف من يكفر بلقاء الله ، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان ، فاتجه بهذا ما قلناه أولا وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من صدر الآية ، وقوله (أَعْمالاً) نصب على التمييز ، وقرأ الجمهور «فحبطت» بكسر الباء ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «فحبطت» بفتح الباء ، وقرأ كعب بن عجرة والحسن وأبو عمرو ونافع والناس «فلا نقيم لهم» بنون العظمة ، وقرأ مجاهد «فلا يقيم» ، بياء الغائب ، يريد


فلا يقيم الله عزوجل ، وقرأ عبيد بن عمير : «فلا يقوم» ويلزمه أن يقرأ «وزن» ، وكذلك قول مجاهد «يقول لهم يوم القيامة» ، وقوله (ذلِكَ) إشارة إلى ترك إقامة الوزن و (جَزاؤُهُمْ) خبر الابتداء في قوله (ذلِكَ) ، وقوله (جَهَنَّمُ) بدل منه ، و «ما» في قوله (بِما كَفَرُوا) مصدرية و «الهزء» الاستخفاف والسخرية.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(١١٠)

لما فرغ من ذكر الكفرة والأخسرين أعمالا الضالين ، عقب بذكر حالة المؤمنين ليظهر التباين ، وفي هذا بعث النفوس على اتباع الحسن القويم ، واختلف المفسرون في (الْفِرْدَوْسِ) فقال قتادة إنه أعلى الجنة وربوتها ، وقال أبو هريرة إنه جبل تنفجر منه أنهار الجنة ، وقال أبو أمامة : إنه سرة الجنة ، ووسطها ، وروى أبو سعيد الخدري أنه تنفجر منه أنهار الجنة ، وقال عبد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكرم والأعناب خاصة من الثمار ، وقاله كعب الأحبار ، واستشهد قوم لذلك بقول أمية بن أبي الصلت : [البسيط]

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل

وقال الزجاج قيل إن (الْفِرْدَوْسِ) سريانية ، وقيل رومية ، ولم يسمع ب (الْفِرْدَوْسِ) في كلام العرب إلا في بيت حسان : [الطويل]

وإن ثواب الله كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» ، وقالت فرقة (الْفِرْدَوْسِ) البستان بالرومية ، وهذا اقتضاب القول في (الْفِرْدَوْسِ) وعيون ما قيل ، وقوله (نُزُلاً) يحتمل الوجهين اللذين قدمناهما قبل ، و «الحلول» بمعنى التحول ، قال مجاهد : متحولا ، ومنه قول شصار : [مجزوء الرجز]

لكل دولة أجل ثم يتاح لها حول

وكأنه اسم جمع ، وكأن واحده حوالة ، وفي هذا نظر ، وقال الزجاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف متكلف ، وأما قوله (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ) إلى آخر الآية ، فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي عليه‌السلام كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ، ومبعوث إليها ، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم ، وأنت مقصر ، قد سئلت في الروح ولم تجب فيه ، ونحو هذا من


القول ، فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله عزوجل ، وأنها غير متناهية ، وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكير ، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه ، وهو قوله (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) و «الكلمات» : هي المعاني القائمة بالنفس ، وهي المعلومات ، ومعلومات الله سبحانه لا تناهى ، و (الْبَحْرُ) متناه ، ضرورة ، وقرأ الجمهور : «تنفد» بالتاء من فوق ، وقرأ عمرو بن عبيد «ينفد» بالياء وقرأ ابن مسعود وطلحة : قبل أن تقضي كلمات ربي ، وقوله (مِداداً) أي زيادة ، وقرأ الجمهور: «مدادا» وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد والأعرج «مدادا» ، فالمعنى لو كان البحر (مِداداً) تكتب به معلومات الله عزوجل ، لنفد قبل أن يستوفيها ، وكذلك إلى ما شئت من العدد ، و (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لم أعط إلا ما أوحي إلي وكشف لي ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : «ينفد» بالياء من تحت ، وقرأ الباقون بالتاء ، وقوله (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) المعنى : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) ينتهي علمي إلى حيث (يُوحى إِلَيَ) ومهم ما يوحى إلي ، أنما إلهكم إله واحد ، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه ، ثم أخذ في الموعظة ، والوصاة البينة الرشد ، و (يَرْجُوا) على بابها ، وقالت فرقة : (يَرْجُوا) بمعنى يخاف ، وقد تقدم القول في هذا المقصد ، فمن كان يؤمن بلقاء ربه وكل موقن بلقاء ربه ، فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء ، فلو عبر بالخوف لكان المعنى تاما على جهة التخويف والتحذير ، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله تعالى ، أي (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا) النعيم المؤبد من ربه (فَلْيَعْمَلْ) وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى ، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله وقد روي حديث أنها نزلت في الرياء ، حين سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن يجاهد ويحب أن يحمده الناس ، وقال معاوية بن أبي سفيان هذه آخر آية نزلت من القرآن.


فهرس المحتويات

تفسير سورة التوبة

الآيات : ٥٧ ـ ٥٩

٤٦

الآيات : ١ ـ ٣

٤

الآية : ٦٠

٤٧

الآيتان : ٤ ، ٥

٧

الآيات : ٦١ ـ ٦٣

٥٢

الآيتان : ٦ ، ٧

٨

الآيات : ٦٤ ـ ٦٦

٥٤

الآيات : ٨ ـ ١٠

٩

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩

٥٦

الآيتان : ١١ ، ١٢

١١

الآيات : ٧٠ ـ ٧٢

٥٧

الآيات : ١٣ ـ ١٥

١٣

الآيتان : ٧٣ ، ٧٤

٥٩

الآيتان : ١٦ ، ١٧

١٤

الآيات : ٧٥ ـ ٧٨

٦١

الآيتان : ١٨ ، ١٩

١٥

الآيتان : ٧٩ ، ٨٠

٦٣

الآيات : ٢٠ ـ ٢٣

١٧

الآيات : ٨١ ـ ٨٣

٦٥

الآية : ٢٤

١٨

الآيات : ٨٤ ـ ٨٧

٦٧

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧

١٩

الآيات : ٨٨ ـ ٩٠

٦٩

الآية : ٢٨

٢٠

الآيتان : ٩١ ، ٩٢

٧٠

الآية : ٢٩

٢١

الآيتان : ٩٣ ، ٩٤

٧١

الآية : ٣٠

٢٣

الآيات : ٩٥ ـ ٩٧

٧٢

الآيات : ٣١ ـ ٣٣

٢٥

الآيتان : ٩٨ ، ٩٩

٧٣

الآيتان : ٣٤ ، ٣٥

٢٧

الآيتان : ١٠٠ ، ١٠١

٧٥

الآية : ٣٦

٢٩

الآيتان : ١٠٢ ، ١٠٣

٧٧

الآية : ٣٧

٣١

الآيتان : ١٠٤ ، ١٠٥

٧٩

الآيتان : ٣٨ ، ٣٩

٣٤

الآيتان : ١٠٦ ، ١٠٧

٨٠

الآية : ٤٠

٣٥

الآيتان : ١٠٨ ، ١٠٩

٨٢

الآيتان : ٤١ ، ٤٢

٣٦

الآيتان : ١١٠ ، ١١١

٨٦

الآيتان : ٤٣ ، ٤٤

٣٨

الآيتان : ١١٢ ، ١١٣

٨٨

الآيات : ٤٥ ـ ٤٧

٣٩

الآيات : ١١٤ ـ ١١٦

٩١

الآيات : ٤٨ ـ ٥١

٤١

الآيات : ١١٧ ـ ١١٩

٩٢

الآيتان : ٥٢ ، ٥٣

٤٣

الآيتان : ١٢٠ ، ١٢١

٩٥

الآيات : ٥٤ ـ ٥٦

٤٤

الآيتان : ١٢٢ ، ١٢٣

٩٦


الآيات : ١٢٤ ـ ١٢٦

٩٨

الآيات : ٨٧ ـ ٨٩

١٣٨

الآيات : ١٢٧ ـ ١٢٩

٩٩

الآيات : ٩٠ ـ ٩٢

١٤٠

تفسير سورة يونس

الآيات : ٩٣ ـ ٩٥

١٤٢

الآيتان : ١ ، ٢

١٠٢

الآيات : ٩٦ ـ ٩٨

١٤٣

الآيتان : ٣ ، ٤

١٠٤

الآيات : ٩٩ ـ ١٠١

١٤٥

الآيتان : ٥ ، ٦

١٠٥

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤

١٤٦

الآيات : ٧ ـ ١٠

١٠٦

الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٧

١٤٦

الآيتان : ١١ ، ١٢

١٠٨

الآيتان : ١٠٨ ، ١٠٩

١٤٧

الآيات : ١٣ ـ ١٥

١٠٩

تفسير سورة هود

الآيات : ١٦ ـ ١٨

١١٠

الآيات : ١ ـ ٤

١٤٨

الآيات : ١٩ ـ ٢١

١١١

الآيتان : ٥ ، ٦

١٥٠

الآيات : ١٩ ـ ٢١

١١١

الآيتان : ٧ ، ٨

١٥٢

الآية : ٢٢

١١٢

الآيات : ٩ ـ ١١

١٥٣

الآية : ٢٣

١١٣

الآيتان : ١٢ ، ١٣

١٥٤

الآية : ٢٤

١١٤

الآيات : ١٤ ـ ١٦

١٥٥

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧

١١٥

الآية : ١٧

١٥٧

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠

١١٦

الآيات : ١٨ ـ ٢٠

١٥٩

الآيات : ٣١ ـ ٣٣

١١٧

الآيات : ٢١ ـ ٢٤

١٦١

الآيات : ٣٤ ـ ٣٦

١١٨

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧

١٦٢

الآيتان : ٣٧ ، ٣٨

١١٩

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠

١٦٤

الآيات : ٣٩ ـ ٤٣

١٢١

الآيتان : ٣١ ، ٣٢

١٦٥

الآيات : ٤٤ ـ ٤٦

١٢٢

الآيات : ٣٣ ـ ٣٥

١٦٦

الآيات : ٤٧ ـ ٤٩

١٢٣

الآيتان : ٣٦ ، ٣٧

١٦٨

الآيات : ٥٠ ـ ٥٣

١٢٤

الآيات : ٣٨ ـ ٤٠

١٧٠

الآيات : ٥٤ ـ ٥٦

١٢٥

الآيتان : ٤١ ، ٤٢

١٧٢

الآيتان : ٥٧ ، ٥٨

١٢٦

الآيتان : ٤٣ ، ٤٤

١٧٤

الآيات : ٥٩ ـ ٦٣

١٢٧

الآيتان : ٤٥ ، ٤٦

١٧٦

الآيات : ٦٤ ـ ٦٦

١٢٩

الآيات : ٤٧ ـ ٤٩

١٧٨

الآيات : ٦٧ ـ ٧٠

١٣٠

الآيات : ٥٠ ـ ٥٢

١٧٩

الآية : ٧١

١٣١

الآيات : ٥٣ ـ ٥٦

١٨١

الآيتان : ٧٢ ، ٧٣

١٣٢

الآيات : ٥٧ ـ ٦٠

١٨٢

الآيتان : ٧٤ ، ٧٥

١٣٣

الآيتان : ٦١ ، ٦٢

١٨٣

الآيات : ٧٦ ـ ٧٨

١٤٣

الآيات : ٦٣ ـ ٦٥

١٨٤

الآيات : ٧٩ ـ ٨٢

١٣٥

الآيات : ٦٦ ـ ٦٨

١٨٦

الآيات : ٨٣ ـ ٨٦

١٣٦


الآيات : ٦٩ ـ ٧١

١٨٧

الآيات : ٤٣ ـ ٤٥

٢٤٧

الآيتان : ٧٢ ، ٧٣

١٩٠

الآيات : ٤٦ ـ ٤٩

٢٤٩

الآيات : ٧٤ ـ ٧٦

١٩٢

الآية : ٥٠

٢٥١

الآيات : ٧٧ ـ ٨٠

١٩٣

الآيات : ٥١ ـ ٥٣

٢٥٣

الآية : ٨١

١٩٥

الآيات : ٥٤ ـ ٥٧

٢٥٤

الآيتان : ٨٢ ، ٨٣

١٩٧

الآيات : ٥٨ ـ ٦٠

٢٥٧

الآيات : ٨٤ ـ ٨٦

١٩٨

الآيات : ٦١ ـ ٦٣

٢٥٨

الآيتان : ٨٧ ، ٨٨

٢٠٠

الآيتان : ٦٤ ، ٦٥

٢٥٩

الآيات : ٨٩ ـ ٩٢

٢٠١

الآيتان : ٦٦ ، ٦٧

٢٦١

الآيات : ٩٣ ـ ٩٥

٢٠٣

الآيتان : ٦٨ ، ٦٩

٢٦٢

الآيات : ٩٦ ـ ١٠٠

٢٠٤

الآيات : ٧٠ ـ ٧٥

٢٦٣

الآيات : ١٠١ ـ ١٠٥

٢٠٦

الآية : ٧٦

٢٦٥

الآيات : ١٠٦ ـ ١٠٨

٢٠٧

الآية : ٧٧

٢٦٦

الآيات : ١٠٩ ـ ١١١

٢٠٩

الآيات : ٧٨ ـ ٨٠

٢٦٨

الآيات : ١١٢ ـ ١١٥

٢١١

الآيات : ٨١ ـ ٨٣

٢٧٠

الآيتان : ١١٦ ، ١١٧

٢١٤

الآيات : ٨٤ ـ ٨٦

٢٧١

الآيتان : ١١٨ ، ١١٩

٢١٥

الآيتان : ٨٧ ، ٨٨

٢٧٤

الآيات : ١٢٠ ـ ١٢٣

٢١٦

الآيات : ٨٩ ـ ٩٢

٢٧٦

تفسير سورة يوسف

الآيات : ٩٣ ـ ٩٥

٢٧٨

الآيات : ١ ـ ٣

٢١٨

الآيات : ٩٦ ـ ٩٩

٢٨٠

الآية : ٤

٢١٩

الآية : ١٠٠

٢٨٢

الآيتان : ٥ ، ٦

٢٢٠

الآيتان : ١٠١ ، ١٠٢

٢٨٣

الآيات : ٧ ـ ١٠

٢٢١

الآيات : ١٠٣ ـ ١٠٨

٢٨٤

الآيات : ١١ ـ ١٥

٢٢٣

الآيتان : ١٠٩ ، ١١٠

٢٨٦

الآيات : ١٦ ـ ١٨

٢٢٦

الآية : ١١١

٢٨٩

الآيتان : ١٩ ، ٢٠

٢٢٨

تفسير سورة الرعد

الآيتان : ٢١ ، ٢٢

٢٣٠

الآيتان : ١ ، ٢

٢٩٠

الآيات : ٢٣ ـ ٢٥

٢٣٢

الآيتان : ٣ ، ٤

٢٩٣

الآيات : ٢٦ ـ ٢٩

٢٣٦

الآيات : ٥ ـ ٧

٢٩٥

الآيتان : ٣٠ ، ٣١

٢٣٧

الآيات : ٨ ـ ١٠

٢٩٧

الآيات : ٣٢ ـ ٣٤

٢٤١

الآيات : ١١ ـ ١٣

٣٠٠

الآيتان : ٣٥ ، ٣٦

٢٤٢

الآيات : ١٤ ـ ١٦

٣٠٥

الآيتان : ٣٧ ، ٣٨

٢٤٤

الآية : ١٧

٣٠٧

الآيات : ٣٩ ـ ٤٢

٢٤٥

الآيات : ١٨ ـ ٢١

٣٠٨


الآيات : ٢٢ ـ ٢٤

٣٠٩

الآيات : ٥٧ ـ ٦٥

٣٦٦

الآيات : ٢٥ ـ ٢٩

٣١٠

الآيات : ٦٦ ـ ٧٧

٣٦٨

الآيات : ٣٠ ـ ٣٢

٣١٢

الآيات : ٧٨ ـ ٨٦

٣٧١

الآيات : ٣٣ ـ ٣٥

٣١٤

الآيات : ٨٧ ـ ٩٣

٣٧٣

الآيات : ٣٦ ـ ٣٩

٣١٥

الآيات : ٩٤ ـ ٩٩

٣٧٥

الآيات : ٤٠ ـ ٤٣

٣١٨

تفسير سورة النحل

تفسير سورة إبراهيم

الآيات : ١ ـ ٤

٣٧٧

الآيات : ١ ـ ٣

٣٢١

الآيات : ٥ ـ ٩

٣٧٩

الآيتان : ٤ ، ٥

٣٢٣

الآيات : ١٠ ـ ١٢

٣٨١

الآيات : ٦ ـ ٩

٣٢٥

الآيات : ١٣ ـ ١٥

٣٨٣

الآية : ١٠

٣٢٧

الآيات : ١٦ ـ ٢١

٣٨٤

الآيتان : ١١ ، ١٢

٣٢٨

الآيات : ٢٢ ـ ٢٥

٣٨٦

الآيات : ١٣ ـ ١٧

٣٢٩

الآيتان : ٢٦ ، ٢٧

٣٨٨

الآيات : ١٨ ـ ٢٠

٣٣١

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠

٣٨٩

الآية : ٢١

٣٣٢

الآيتان : ٣١ ـ ٣٢

٣٩٠

الآيتان : ٢٢ ، ٢٣

٣٣٣

الآيات : ٣٣ ـ ٣٥

٣٩١

الآيات : ٢٤ ـ ٢٦

٣٣٤

الآيات : ٣٦ ـ ٣٨

٣٩٢

الآيات : ٢٧ ـ ٣٠

٣٣٧

الآيتان : ٣٩ ، ٤٠

٣٩٣

الآيات : ٣١ ـ ٣٤

٣٣٨

الآيات : ٤١ ـ ٤٤

٣٩٤

الآيات : ٣٥ ـ ٣٧

٣٤٠

الآيات : ٤٥ ـ ٤٨

٣٩٦

الآيات : ٣٨ ـ ٤١

٣٤٢

الآيات : ٤٩ ـ ٥٥

٣٩٩

الآيات : ٤٢ ـ ٤٤

٣٤٣

الآيات : ٥٦ ـ ٥٩

٤٠١

الآيات : ٤٥ ـ ٤٨

٣٤٥

الآيات : ٦٠ ـ ٦٢

٤٠٢

الآيات : ٤٩ ـ ٥٢

٣٤٧

الآيات : ٦٣ ـ ٦٦

٤٠٤

تفسير سورة الحجر

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩

٤٠٥

الآيات : ١ ـ ٥

٣٤٩

الآيات : ٧٠ ـ ٧٢

٤٠٧

الآيات : ٦ ـ ١١

٣٥١

الآيات : ٧٣ ـ ٧٥

٤٠٩

الآيات : ١٢ ـ ١٥

٣٥٢

الآيات : ٧٦ ـ ٧٩

٤١٠

الآيات : ١٦ ـ ٢١

٣٥٤

الآيتان : ٨٠ ، ٨١

٤١٢

الآيات : ٢٢ ـ ٢٧

٣٥٦

الآيات : ٨٢ ـ ٨٥

٤١٣

الآيات : ٢٨ ـ ٣٣

٣٥٩

الآيات : ٨٦ ـ ٨٩

٤١٤

الآيات : ٣٤ ـ ٤٤

٣٦١

الآيتان : ٩٠ ، ٩١

٤١٥

الآيات : ٤٥ ـ ٥٠

٣٦٣

الآيتان : ٩٢ ، ٩٣

٤١٧

الآيات : ٥١ ـ ٥٦

٣٦٤

الآيات : ٩٤ ـ ٩٧

٤١٩


الآيات : ٩٨ ـ ١٠٣

٤٢٠

الآيات : ٩٦ ـ ٩٨

٤٨٦

الآيات : ١٠٤ ـ ١٠٦

٤٢٢

الآيات : ٩٩ ـ ١٠١

٤٨٧

الآيات : ١٠٧ ـ ١١١

٤٢٤

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤

٤٨٩

الآيات : ١١٢ ـ ١١٤

٤٢٦

الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٨

٤٩٠

الآية : ١١٥

٤٢٧

الآيات : ١٠٩ ـ ١١١

٤٩٢

الآيات : ١١٦ ـ ١١٩

٤٢٩

تفسير سورة الكهف

الآيات : ١٢٠ ـ ١٢٤

٤٣٠

الآيات : ١ ـ ٥

٤٩٤

الآيات : ١٢٥ ـ ١٢٨

٤٣٢

الآيات : ٦ ـ ٩

٤٩٦

تفسير سورة الإسراء

الآيات : ١٠ ـ ١٢

٤٩٨

الآية : ١

٤٣٤

الآيات : ١٣ ـ ١٦

٥٠١

الآيات : ٢ ـ ٤

٤٣٦

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٥٠٢

الآيات : ٥ ـ ٧

٤٣٨

الآيتان : ١٩ ، ٢٠

٥٠٥

الآيات : ٨ ـ ١١

٤٤٠

الآية : ٢١

٥٠٦

الآيات : ١٢ ـ ١٤

٤٤٢

الآيات : ٢٢ ـ ٢٤

٥٠٧

الآيات : ١٥ ـ ١٧

٤٤٣

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧

٥٠٩

الآيات : ١٨ ـ ٢٢

٤٤٦

الآيتان : ٢٨ ، ٢٩

٥١٢

الآيات : ٢٣ ـ ٢٥

٤٤٧

الآيتان : ٣٠ ، ٣١

٥١٤

الآيات : ٢٦ ـ ٣٠

٤٤٩

الآيات : ٣٢ ـ ٣٤

٥١٥

الآيات : ٣١ ـ ٣٣

٤٥١

الآيتان : ٣٥ ـ ٣٩

٥١٧

الآيات : ٣٤ ـ ٣٦

٤٥٣

الآيات : ٤٠ ـ ٤٤

٥١٨

الآيات : ٣٧ ـ ٤٠

٤٥٦

الآيات : ٤٥ ـ ٤٨

٥١٩

الآيات : ٤١ ـ ٤٤

٤٥٨

الآيتان : ٤٩ ـ ٥٠

٥٢١

الآيات : ٤٥ ـ ٤٧

٤٦٠

الآيات : ٥١ ـ ٥٤

٥٢٣

الآيات : ٤٨ ـ ٥١

٤٦١

الآيات : ٥٥ ـ ٥٧

٥٢٥

الآيات : ٥٢ ـ ٥٥

٤٦٣

الآيات : ٥٨ ـ ٦٠

٥٢٥

الآيات : ٥٦ ـ ٥٩

٤٦٥

الآيات : ٦١ ـ ٦٥

٥٢٨

الآية : ٦٠

٤٦٧

الآيات : ٦٦ ـ ٧٣

٥٣٠

الآيات : ٦١ ـ ٦٥

٤٦٩

الآيات : ٧٤ ـ ٧٨

٥٣٢

الآيات : ٦٦ ـ ٦٩

٤٧١

الآية : ٧٩

٥٣٤

الآيات : ٧٠ ـ ٧٥

٤٧٢

الآيات : ٨٠ ـ ٨٢

٥٣٦

الآيات : ٧٦ ـ ٧٩

٤٧٦

الآيات : ٨٣ ـ ٨٦

٥٣٨

الآيات : ٨٠ ـ ٨٤

٤٧٩

الآيات : ٨٧ ـ ٩١

٥٤٠

الآيات : ٨٥ ـ ٨٨

٤٨١

الآيات : ٩٢ ـ ٩٥

٥٤١

الآيات : ٨٩ ـ ٩٢

٤٨٤

الآيات : ٩٦ ـ ١٠٠

٥٤٣

الآيات : ٩٣ ـ ٩٥

٤٨٥

الآيات : ١٠١ ـ ١٠٦

٥٤٥

الآيات : ١٠٧ ـ ١١٠

٥٤٦

المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ٣

المؤلف:
الصفحات: 552