بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

«المحرر الوجيز» لابن عطية

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى. وبعد ـ فقد قال ربنا جل شأنه (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] وقال سبحانه : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر : ٢٧ ، ٢٨].

وقال عز من قائل : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] وقال عز شأنه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] وقال عبد الله بن مسعود : من أراد العلم فليثوّر القرآن (١).

وفي رواية أخرى أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين.

وتثوير القرآن : مناقشته ومدارسته والبحث فيه. وهو ما يعرف به.

علم التفسير

وهو في اللغة : مصدر فسّر .. بمعنى الإيضاح والتبيين. قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٣] أي بيانا وتفصيلا.

والفسر : البيان وكشف المغطى.

قال أبو حيان : ويطلق التفسير أيضا على التعرية للانطلاق ، يقال : فسرت الفرس : عرّيته لينطلق ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.

أما في الاصطلاح

فقد عرف بعدة تعريفات منها :

هو : علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب ، وتتمات ذلك (٢).

__________________

(١) من رفعه وهم ، انظر مجمع الزوائد (٧ / ١٦٥).

(٢) هكذا عرفه أبو حيان في مقدمة البحر المحيط (١٠ / ١٣).


ـ وقال الزركشي (١) :

هو علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من : علم اللغة ، والنحو ، والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ.

ـ وقال السيوطي (٢) :

هو علم نزول الآيات وشؤونها ، وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها ، وهذا التعريف أتم في الدلالة من تعريفي أبي حيان والزركشي.

ـ وقيل (٣) :

هو : علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية.

ـ وقيل (٤) :

هو : اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. ومن عدّ التفسير علما تسامح (٥).

التأويل

وقد عرفنا معنى التفسير لغة واصطلاحا فما معنى التأويل؟

هو في اللغة : من الإيالة وهي السياسة ، فكأن المؤول يسوس الكلام ويضعه في موضعه.

وقيل : من الأول وهو الرجوع ، فكأن المؤول أرجع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني.

وأوّل الكلام وتأوّله : دبره وقدره. وأوله وتأوله : فسره (٦).

في الاصطلاح

أولا : في الاصطلاح :

عند السلف :

أ ـ تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أم خالفه. وعليه فيكون التأويل والتفسير مترادفين.

__________________

(١) البرهان ، (١ / ٣٣).

(٢) الإتقان. ٢ / ١٧٤.

(٣) منهج الفرقان / محمد سلامة ٢ / ٦.

(٤) الإمام الطاهر بن عاشور ـ في مقدمة تفسيره التحرير والتنوير ص ١١.

(٥) راجع المصدر السابق ص ١٢.

(٦) اللسان. أول ، وأساس البلاغة : الأول.


ب ـ نفس المراد بالكلام ؛ فإن كان الكلام طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب. وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به ، وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر (١) ..

ثانيا : عند الخلف : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به(٢).

الفرق بين التفسير والتأويل

اختلف العلماء في بيان الفرق بين التفسير والتأويل :

ـ فقد ذهب بعضهم إلى أن التفسير والتأويل بمعنى واحد. وهؤلاء يمثلهم أبو عبيدة وطائفة معه.

ـ وقيل : التفسير أعم من التأويل ، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ ، والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا. والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية. والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.

وقيل غير ذلك (٣).

والراجح : أن التفسير ما كان راجعا إلى الرواية ، والتأويل : ما كان راجعا إلى الدراية ، وذلك : لأن التفسير معناه : الكشف والبيان ، والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد بطريق مأثور.

والتأويل : ملحوظ فيه ترجيح أحد احتمالات اللفظ بالدليل ، والترجيح يعتمد على الاجتهاد(٤).

أقسام التفسير (٥)

أولا : التفسير بالمأثور .. أي المنقول ، ويشمل :

١ ـ تفسير القرآن بالقرآن.

٢ ـ تفسير الرسول للقرآن.

٣ ـ تفسير الصحابة للقرآن.

٤ ـ تفسير التابعين للقرآن.

ولنعرّف كلّ نوع من هذه الأنواع.

١ ـ تفسير القرآن بالقرآن

اشتمل القرآن الكريم على الإيجاز والإطناب ، وعلى الإجمال والتبيين ، وعلى الإطلاق والتقييد ، وعلى العموم والخصوص.

__________________

(١) راجع : التفسير والمفسرون ١ / ١٩ ، ورقائق التفسير لابن تيمية ١ / ١٤٤.

(٢) راجع التفسير والمفسرون ١ / ٢٠.

(٣) راجع : الإتقان ٢ / ١٧٣ ، رقائق التفسير ١ / ١٤١ وما بعدها ، تفسير البغوي ١ / ١٨ ، مقدمة التفسير للراغب ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣ ، التفسير والمفسرون ١ / ٢٠ وما بعدها.

(٤) التفسير والمفسرون (بتصرف وإيجاز) ص ٢٣.

(٥) ينقسم التفسير إلى أقسام متعددة باعتبارات مختلفة ... ولكننا نقصد هنا التقسيم من حيث الاتجاه العلمي ومصدر التفسير ..


وما أوجز في موضع بسط في موضع آخر.

وما أجمل في مكان بيّن في آخر.

وما جاء مطلقا في آية قد يلحقه التقييد في أخرى.

وما كان عاما في مكان قد يدخله التخصيص في مكان آخر.

من هنا : كان على من يفسر القرآن الكريم أن يرجع إلى القرآن أولا ، يبحث فيه عن تفسير ما يريد ، فيقابل الآيات بعضها ببعض ، ويستعين بما جاء مسهبا ليعرف به ما جاء موجزا ، وبالمبين ليفهم به المجمل ، ويحمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص.

ولا يجوز لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يتخطى هذا التفسير القرآني.

أمثلة لتفسير القرآن بالقرآن.

أ ـ حمل المجمل على المبين ليبين به :

ـ قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٢٧].

فسرتها آية الأعراف (٢٣) (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقال تعالى في سورة المائدة [آية : ١] : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ...) فسرتها [آية : ٣] من السورة نفسها : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) الآية.

ب ـ حمل المطلق على المقيد :

ـ وقد مثلوا لذلك بآية الوضوء والتيمم ، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ومطلقة في التيمم في قوله تعالى ـ في الآية نفسها ـ (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ...) فقيدت في التيمم بالمرافق أيضا.

ـ ومنه في كفارة الظهار (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ...) [المجادلة : ٣].

وفي كفارة القتل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فيحمل المطلق في الأولى على المقيد في الثانية.

ت ـ حمل العام على الخاص :

ـ ومنه : نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ...) [البقرة : ٢٥٤].

فقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].

ـ وقال تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ٢٣].


خصص بمثل قوله (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: ٣٠].

ث ـ ومن تفسير القرآن بالقرآن :

الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف لخلق آدم من تراب في بعض الآيات ، ومن طين في غيرها ، ومن حمأ مسنون في ثالثة ، ومن صلصال .... فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه.

ج ـ التفصيل بعد الإجمال :

كقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ...) الآيات فقد فصلت بقوله سبحانه : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ...). (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ... وَأَصْحابُ الشِّمالِ ...). وهناك غير ذلك كثير.

٢ ـ تفسير الرسول للقرآن

قال عز من قائل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

قال ابن عباس في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). تبيين حلاله وحرامه.

وقد ثبت أن جبريل كان ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان فيتدارسان القرآن ، وعند ما نزل عليه قوله سبحانه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). قال : ما هذا يا جبريل؟

قال : إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك.

وقال ربنا لرسوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤].

وعن المقدام بن معديكرب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان متكىء على أريكته ، يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، ولا كل ذي ناب من السباع ، ولا لقطة معاهد. إلا أن يستغني عنها صاحبها .... الحديث».

وروى ابن المبارك عن الصحابي الجليل عمران بن حصين أنه قال لرجل : إنك رجل أحمق ، أتجد الظهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال : أتجده في كتاب الله مفسرا؟ إن كتاب الله أبهم هذا ، وإن السنة تفسر هذا ..

وعلى ذلك : فإذا لم نجد تفسير ما نريد من الآيات في القرآن فعلينا أن نلجأ إلى السنة ففيها : ـ

أ ـ بيان المجمل وتفصيله :

مثل : ـ بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمواقيت الصلاة ، وعددها ، وعدد ركعاتها ، وكيفيتها.

ـ بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمقادير الزكاة ، وأوقاتها وأنواعها ، وبيان مناسك الحج.


إذ قال عليه الصلاة والسلام : «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقال «خذوا عني مناسككم».

ب ـ توضيح المشكل :

من ذلك تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...) فقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه : بياض النهار ، وسواد الليل.

ومنه : تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقوة الواردة في قوله سبحانه (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ..) فقد روى مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ـ وهو على المنبر ـ «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» ألا وإن القوة الرمي. ألا وإن القوة الرمي. ألا وإن القوة الرمي».

ت ـ تخصيص العام :

ـ ومن تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظلم في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ....) الآية حين فهم بعض الصحابة بأن المراد بالظلم العموم فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟.

فخصصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «ليس بذلك ، إنما هو الشرك» ـ ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

ـ ومنه تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المورّث بغير الأنبياء بقوله «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة» وفي حديث آخر «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذه بحظّ وافر ...».

ث ـ تقييد المطلق :

ـ كما في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) إذ قيدت باليمين. وقد جيء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسارق فأمر بقطع يمينه.

ـ وكما في حديث «سعد» في الوصية ـ مما جاء في الصحيحين وغيرهما ـ عن سعد بن أبي وقاص قال : «مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت ، فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله إن لي مالا كثيرا ، وليس يرثني إلا ابنتي ، أفأوصي بمالي كله؟ قال : لا. قلت : فثلثي مالي؟ قال : لا. قلت : فالشطر؟ قال : لا. قلت : فالثلث؟ قال : الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ... الحديث».

ج ـ تأكيد ما جاء في القرآن :

مثال ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» فهو موافق لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ...).


ح ـ بيان معنى لفظ أو متعلقه :

مثال ذلك تفسير (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضَّالِّينَ).

فقد أخرج أحمد والترمذي ـ وحسنه ـ وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين هم النصارى».

خ ـ بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن :

فقد أورد القرآن ـ مثلا ـ المحرمات في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ... حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ...) الآيات. فأثبتت الأحاديث زيادة على ذلك مثلا :

الجمع بين المرأة وعمتها ، والجمع بين المرأة وخالتها.

وهناك أنواع أخرى من تفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن.

يقول الطبري : «إن مما أنزل الله في القرآن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره ونهيه ، وندبه وإرشاده .... إلخ».

وقال أبو حيان : ـ في معرض حديثه عما يحتاج إليه المفسر :

الوجه الرابع : تعيين مبهم ، وتبيين مجمل ، وسبب نزول ، ونسخ ، ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من علم الحديث.

القدر الذي فسره الرسول

من القرآن

الرأي الأول : اختلف العلماء في ذلك ، فقال بعضهم : كله ، وقال بعضهم : بعضه. فمن الذين قالوا : كله ، ابن تيمية .. يقول ـ ومن ذهب مذهبه ـ : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن لأصحابه كل معاني القرآن الكريم ، كما بين لهم ألفاظه ، فلم يترك فيه جزءا يحتاج إلى بيان إلا بينه وفسره.

وقد استدلوا على ذلك بما يأتي

١ ـ قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فالبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن كله ، وبيان معاني ألفاظه.

٢ ـ ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود ـ وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.

وذكر الإمام مالك في الموطأ : أن ابن عمر أقام على حفظ سورة البقرة ثمان سنوات.


٣ ـ إن العادة تمنع قوما أن يقرؤوا كتابا ولا يستفسروه ، فكيف بالقرآن كتاب الله الذي به نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

٤ ـ ما أخرجه الإمام أحمد ـ في مسنده ـ وابن ماجة عن عمر من أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض قبل أن يفسر آية الربا ..

قالوا : فحوى ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفسر كل ما نزل من القرآن ولم يفسر هذه الآية.

وقد ردّ عليه بما يلي :

١ ـ إنه لا دليل في آية سورة النحل على أن الرسول فسر القرآن كله ، وإنما البيان والتبيين لا يكون إلا لما أشكل فهمه.

ثم إن الآية نفسها تبين أن المطلوب من المسلمين أن يتفكروا في آيات القرآن ..

٢ ـ ولا دليل في ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي ـ أيضا ـ لأنهم لم يحددوا الزمن الذي كانوا يحفظون فيه العشر آيات .. ثم إنهم كانوا يعلمون كثيرا منه مما لا يحتاج إلى بيان فهم أهل اللسان الأول ، والبيان والفصاحة.

٣ ـ استدلالهم بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي قبل تفسير آية الربا لا يدل على ما أرادوا ـ وإنما هو دليل على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبين لهم كل معاني القرآن.

ثم إن ابن تيمية نفسه يقول في أحسن طرق التفسير :

الأول : إن أصح الطرق تفسير القرآن بالقرآن.

الثاني : فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة.

الثالث : إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى الناس بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها.

الرابع : إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة ولا عند الصحابة ما نريد رجعنا إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ..... إلخ.

معنى ذلك أن الرسول لم يفسر القرآن الكريم كله.

الرأي الثاني : وهو للسيوطي وغيره ، الذين ذهبوا إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبين لأصحابه معاني القرآن كله ، وإنما بين القليل النادر ، واستدلوا على ذلك ب :

١ ـ حديث روي عن السيدة عائشة ـ رواه البزار : عن عائشة قالت : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد ، علمه إياهن جبريل.

٢ ـ بيان الرسول لكل معاني القرآن متعذر.

٣ ـ لو فسر الرسول القرآن كله ما دعا لابن عباس قائلا : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».


الرد عليهم :

١ ـ أما الحديث الذي استدلوا به فهو حديث منكر غريب ؛ لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيري ، وهو مطعون فيه.

٢ ـ وأما الدليل الثاني فلا بد أيضا على ندرة ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التفسير ، إذ إن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل ، وتعذره للكل غير مسلمة.

٣ ـ لو سلمنا أن الدليل الثالث يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر كل معاني القرآن ، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى.

التوفيق بين الرأيين

روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال (١) :

التفسير على أربعة أوجه :

ـ وجه تعرفه العرب من كلامها.

ـ وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.

ـ وتفسير يعلمه العلماء.

ـ وتفسير لا يعلمه إلا الله.

ولم يفسر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذي لا يعذر أحد بجهله ؛ لأنه لا يخفى على أحد ، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة ...

وإنما فسر لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم ... وفسر لهم أيضا كثيرا مما يندرج تحت القسم الثالث وهو ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم ، كبيان المجمل ، وتخصيص العام ، وتوضيح المشكل ، وما إلى ذلك مما خفي معناه ، والتبس به المراد (٢).

٣ ـ تفسير الصحابة للقرآن

إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة والأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجعنا في ذلك إلى ما صح وثبت عن الصحابة.

ذلك : أنهم أدرى منا بالقرآن ، فقد بين لهم الرسول معانيه ، وأزال مشكله ، وشرح مجمله. وهم أعلم بتفسيره منا لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي أحاطت بنزول القرآن الكريم ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، والقلب المستضيء ، والعقل الذكي ، ولا سيما كبراءهم وعلماءهم كالخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وأمثالهم.

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٢٥.

(٢) التفسير والمفسرون ١ / ٥٥.


عن عبد الله بن مسعود قال : «من كان منكم متأسيا فليتأسّ بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلّها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم».

وقال الإمام الشافعي عنهم : «هم فوقنا في كل علم واجتهاد ، وورع ، وعقل ، وأمر استدرك به علم ، واستنبط به ، وآراؤهم لنا أحمد ، وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا».

أدوات الاجتهاد في التفسير

عند الصحابة

أ ـ معرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها ، فإن ذلك يعين على فهم الآيات التي لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب.

«فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال : عليكم بديوانكم لا تضلوا ، قالوا وما ديواننا؟ قال : شعر العرب ، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم».

ب ـ معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ... في عصر التنزيل.

فذلك مما يعين على فهم القرآن ويبعد من الوقوع في الشّبه.

فمن عرف منهم أن خزاعة عبدت «الشعرى» ولم يعبد العرب كوكبا سواها عرف سر تخصيصها بالذكر في قوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى).

ت ـ معرفة أسباب النزول وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات فإنها قرائن تعين على الفهم.

يقول الواحدي (١) : لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها.

وفي جواب ابن عباس لعمر بن الخطاب ما يبين أهمية معرفة سبب النزول :

إذ سأله عمر بن الخطاب عن سر اختلاف الأمة ، فقال له : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا (٢).

ث ـ معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن ، إذ تعين على فهم الآيات التي تتحدث عنهم أو ترد عليهم.

ح ـ قوة الفهم وسعة الإدراك.

وبدهي أنهم قد تفاوتوا في ذلك ، وقد كان ابن عباس صاحب النصيب الأوفر في ذلك ، بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له.

__________________

(١) الإتقان ١ / ١٩.

(٢) الموافقات ٣ / ٣٤٨ ، أصول التشريع الإسلامي ٣٥.


أشهر مفسري القرآن

من الصحابة

اشتهر من الصحابة بتفسير القرآن الكريم : الخلفاء الأربعة ـ عبد الله بن مسعود ـ أبي بن كعب ـ زيد بن ثابت ـ الزبير بن العوام ـ عبد الله بن عباس.

علي بن أبي طالب :

ومعظم ما روي من التفسير عن الخلفاء الراشدين هو عن عليّ كرّم الله وجهه ، وذلك لبعده عن مهام الخلافة إلى نهاية خلافة عثمان.

ثم إنه نشأ في بيت النبوة ، وترعرع في كنف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهل من علمه ، ثم زوّجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته فاطمة الزهراء.

وقد دخل على تفسيره الشيء الكثير مما لم يقل به ولم يعلمه ، إنما نسبه إليه غلاة الشيعة. فإذا ما ثبت عنه قول صحيح النسبة إليه ـ كما يقول سعيد بن جبير. (... لم نعدل إلى غيره) وقد قال عليّ عن نفسه وهو يخطب (١) :

سلوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل.

وقال ـ فيما رواه ابن سعد ـ :

«والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت ، وأين نزلت ، وعلام نزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا ناطقا».

وقال أبو عبد الرحمن السلمي :

«ما رأيت ابن أنثى أقرأ لكتاب الله من علي».

عبد الله بن مسعود :

كان من أعلم الناس بالتفسير ـ يقول عن نفسه (٢) :

والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.

وقد زكّاه عليّ ـ كرم الله وجهه ـ وشهد له بسعة علمه وعلو كعبه في ذلك ، فقد قالوا لعلي : أخبرنا عن ابن مسعود ، قال :

«علم القرآن والسنة ثم انتهى ، وكفى بذلك علما».

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٢٣.

(٢) الإتقان ٢ / ١٨٧ ، مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية ٢٥ ـ ٢٦.


روى البخاري عن مسروق قال : ذكر عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن عمرو ـ يعني : ابن العاص ، فقال : لا أزال أحبه بعد ما سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب».

أبيّ بن كعب :

أحد المشهورين بحفظ القرآن ، العالمين بقراءته ، وأحد كتاب الوحي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال فيه عمر بن الخطاب : «أبيّ أقرؤنا». رواه البخاري.

قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...).

قال : وسماني؟ قال «نعم» فبكى.

وفي رواية أخرى : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إني أمرت أن أعرض عليك القرآن ، فقال أبيّ : بالله آمنت ، وعلى يدك أسلمت ، ومنك تعلمت ، قال : فرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القول ، فقال : يا رسول الله : وذكرت هناك؟ قال : نعم ، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى ، قال : فأقرأ إذن يا رسول الله.

وفرح أبيّ فرحة غامرة ، صرح بها حين سئل : وفرحت بذلك؟ فأجابه : وما يمنعني وهو يقول : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقرئوا القرآن من أربعة : عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب» (١).

يقول عبد الله بن عباس (٢) :

«كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار ، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما نزل من القرآن في ذلك ، وكنت لا آتي أحدا إلا سرّ بإتياني ؛ لقربي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما عما نزل من القرآن بالمدينة فقال : نزل بها سبع وعشرون سورة ، وسائرها بمكة».

زيد بن ثابت :

كان من كتاب الوحي ، ذا بصيرة نافذة ، وعقل واع ، وبديهة حاضرة ، ولذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتعلم السريانية والعبرانية حتى لا يزيدوا في رسائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال زيد : فتعلمت السريانية في خمسة عشر يوما ـ والعبرانية في خمسة عشر يوما (٣).

__________________

(١) طبقات القراء ٦ / ٦٢٩ ، عمدة القاري ٢ / ٢٤. باب القراء من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٧١.

(٣) وقيل سبعة عشر يوما من خلاصة تاريخ التشريع. عبد الوهاب خلاف ٢٩٤.


هو : أعلم الناس بالفرائض ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أفرض أمتي زيد بن ثابت» (١).

وقال سليمان بن يسار (٢) :

«ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء ، والفتوى ، والفرائض ، والقراءة». عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن :

هو أكثر الصحابة تفسيرا للقرآن ، سماه ابن مسعود : ترجمان القرآن ، وكان يقول : نعم ترجمان القرآن ابن عباس.

تردد ابن عباس كثيرا على بيت النبوة ، إذ فيه خالته «ميمونة» زوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكانت تؤنسه وتلاطفه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إليه نظرة إعجاب ، وتوسم فيه الخير الكثير ، ودعا له بقوله : اللهم آته الحكمة.

ودعا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.

ورآه جبريل عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأوصاه به وقال : إنه كائن حبر هذه الأمة فاستوص به خيرا وقد نهل من مأدبة الرسول العلمية والخلقية فهو الذي قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يا غلام : «إني أعلمك كلمات ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (٣).

ولما توفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصل ابن عباس رحلة العلم ، فتتلمذ على كبار الصحابة ، فكان كثيرا ما يجلس على باب أحدهم وهو قائل ـ أي وقت القيلولة ـ فيتوسد رداءه ، وتسفي عليه الريح التراب ، حتى يخرج الصحابي فيراه فيقول له :

يا ابن عم رسول الله : ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليّ فآتيك؟

فيجيب حبر الأمة : لا ، أنا أحق أن آتيك ، ثم يسأله عما يحتاج إليه من العلم.

وفي خلافة عمر بن الخطاب ظهر نبوغه الشديد فكان عمر يدنيه من مجلسه ، ويعده للمعضلات، وإذا أشكلت عليه قضية دعاه، فقال له : أنت لها ولأمثالها ، ثم يأخذ بقوله ، ولا يدعو لذلك أحدا(٤).

وأحب عمر فيه ـ مع علمه ـ جرأته رغم حداثة سنه. قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيمن ترون نزلت هذه الآية (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ...) الآية؟ قالوا : الله أعلم. فغضب عمر وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم.

__________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٢٣ ، صفة الصفوة ١ / ٢٩٥.

(٢) تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٢٢٥.

(٣) رواه الإمام أحمد والترمذي.

(٤) أسد الغابة ٣ / ١٩٣.


وهنا برزت جرأة ابن عباس فقال بكل أدب وتوقير لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في نفسي منها شيء. فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك.

قال : ضربت مثلا لعمل ، فقال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس : رجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (١).

قال عطاء : ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس : أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده.

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وحلم ، ونسب ، وتأويل ؛ وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ؛ ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ؛ ولا أفقه في رأي ، ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه. ولقد كان يجلس يوما ولا يذكر فيه إلا الفقه ، ويوما التأويل ، ويوما المغازي ، ويوما الشعر ، ويوما أيام العرب ، ولا رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له ، وما رأيت سائلا قط مسألة إلا وجد عنده علما.

وقيل لطاوس :

لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!! قال : إني رأيت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس.

قيمة تفسيره :

يقول علي كرم الله وجهه عن تفسيره : «كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق».

وقال ابن عمر : ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد.

وقال تلميذه مجاهد عنه : إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور.

قيمة التفسير المأثور عن الصحابة

قال العلماء :

ـ إن التفسير المأثور عن الصحابة له حكم المرفوع إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول وما ليس للصحابي فيه رأي.

ـ أما ما يكون للرأي فيه مجال فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) عمدة القاري ١٨ / ١٢٩.


ـ وما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقا ، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.

ـ وما حكم عليه بالوقف اختلف العلماء فيه :

ـ قال بعضهم : لا يجب الأخذ به ؛ لأن الصحابي مجتهد والمجتهد قد يخطىء وقد يصيب.

ـ وقال بعضهم : يجب الأخذ به لظن سماعهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنهم حتى مع تفسيرهم القرآن برأيهم فهم أصوب لدرايتهم بكتاب الله ، إذ هم أهل اللسان ، ولبركة صحبتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتخلق بأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ولا سيما علماؤهم الكبار كابن مسعود وابن عباس.

قال ابن كثير :

«... وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى الناس بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ...»

وقال الزركشي :

«اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد.

والأول : إما أن يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الصحابة ، أو رؤوس التابعين ، فالأول يبحث فيه عن صحة السند. والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده ، أو مما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه».

مدارس التفسير

١ ـ مدرسة مكة

قامت مدرسة التفسير في مكة على يدي عبد الله بن عباس ، فهو مؤسسها وأستاذها. فكان يجلس لأصحابه من التابعين يفسر لهم كتاب الله تعالى ، ويوضح لهم ما خفي من معانيه وقد كانت هذه المدرسة أهم المدارس نظرا ل :

ـ مركز مكة الروحي لدى المسلمين جميعا.

ـ لأن أستاذها ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.

يقول ابن تيمية : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح. وعكرمة مولى ابن عباس ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وأمثالهم.

وتتميز هذه المدرسة بنهج المنهج اللغوي في تفسير القرآن ، ولا عجب فأستاذها ابن عباس وهو من


هو في حفظ الشعر العربي ، ومسائل نافع بن الأزرق وأجوبة ابن عباس عليها تدل على مدى تبحره في ذلك ..

٢ ـ مدرسة المدينة

قامت هذه المدرسة على يدي أبي بن كعب رضي الله عنه ، ولأن المدينة كانت دار الإسلام وقطب رحاه في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة ، وكانت مقر الخلافة الراشدة ـ كانت لها مكانتها عند المسلمين ولا زالت ، ومن هنا كانت مركزا علميا مهما ـ ومن أشهر من تتلمذ على يدي أبيّ في هذه المدرسة : زيد بن أسلم ، أبو العالية ، محمد بن كعب القرظي ...

مدرسة العراق

وقد قامت هذه المدرسة على يدي الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، فهو أستاذها الأول ، ذلك أن عمر بن الخطاب لما ولّي عمار بن ياسر على الكوفة سيّر معه عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا.

ويمتاز أهل العراق بأنهم أهل الرأي. وهذه ظاهرة نجدها بكثرة في مسائل الخلاف. وأشهر رجال هذه المدرسة : علقمة بن قيس ، مسروق ، الأسود بن يزيد ، مرة الهمداني ، عامر الشعبي ، الحسن البصري ، قتادة.

وهؤلاء الذين تخرجوا في تلك المدارس هم مفسرو التابعين للقرآن الكريم.

من أهم كتب التفسير بالمأثور

١ ـ جامع البيان في تفسير القرآن للطبري.

٢ ـ بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي انظر الكلام مفصلا في تحقيقنا لدار الكتب العلمية.

٣ ـ معالم التنزيل للبغوي.

٤ ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية وهو الذي نحن بصدده.

٥ ـ تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.

٦ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.

ثانيا : التفسير بالرأي

والمراد بالرأي : الاجتهاد .. فالتفسير بالرأي : هو تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومفاهيمهم في القول ، ومعرفته للألفاظ ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر.


وقد اختلف العلماء في جواز التفسير بالرأي اختلافا كبيرا لا داعي للخوض فيه فعليك بمقدمه البحر المحيط واللباب في علوم الكتاب وبحر العلوم فقد فصلنا القول فيه وفي مذاهب أهل العلم في حكم التفسير بالرأي.

من أشهر كتب التفسير بالرأي

١ ـ مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي.

٢ ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي.

٣ ـ مدارك التنزيل وحقائق التأويل للتقي.

٤ ـ لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن ٥ ـ البحر المحيط لأبي حيان ..

منهج ابن عطية في التفسير

لقد سلك ابن عطية في تأليف كتابه «المحرر الوجيز» مسالك المفسرين فجاء كتابه جامعا بين المأثور والمعقول فمن أهم الأسس التي قام عليها منهجه في تفسيره :

١ ـ الجانب الأثري

يذكر ابن عطية دائما ما روي عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين في تفسير القرآن ولكن دون ذكر أسانيد المرويات وكثيرا لا يذكر تخريج الحديث ويكتفي أحيانا بذكر الصحابي الراوي للحديث وكان ينقل عن ابن جرير الطبري كثيرا ويناقش رأيه ويرد عليه أحيانا.

٢ ـ جانب الرأي عند ابن عطية

كان ابن عطية رحمه‌الله يكثر في تفسيره من ذكر وجوه الاحتمالات التي يمكن حمل الآية عليها ناقلا ذلك عن المفسرين وغيرهم فيقوم بتفسير الآية بعبارة عذبة سهلة ـ مناقشا ما ينقله من آراء وكان كثير الاستشهاد بالشعر العربي ، فعني بالشواهد الأدبية للعبارات كما أنه يحتكم إلى اللغة العربية عند ما يوجه بعض المعاني ، وهو كثير الاهتمام بالصناعة النحوية كما أنه يتعرض كثيرا للقراءات وتوجيهها في آيات الذكر الحكيم.

قال أبو حيان في مقدمة تفسيره في صدد المقارنة بين ابن عطية والزمخشري : «وكتاب ابن عطية أنقل ، وأجمع ، وأخلص ، وكتاب الزمخشري ألخص ، وأغوص».


مصادر ابن عطية

لا شك أن المصادر تعتبر النواة الأولى للمفسر سواء كانت هذه المصادر تلقى عن الشيوخ أو متمثلة في الكتب التي استفاد منها في كتابة التفسير فيمكن أن نقسم المصادر إلى نوعين : المصدر الأول وهو شيوخه وقد تقدم الكلام عليهم والمصدر الثاني وهو الكتب التي استفاد منها في كتابة التفسير فنقول ولله الحمد والمنة : فكان من أهم الكتب التي تأثر بها التفسير القيم المسمى ب :

١ ـ «جامع البيان في تفسير القرآن» :

وتفسير ابن جرير هو لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ولد سنة أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة عشر وثلاثمائة وكان حافظا لكتاب الله ومحيطا بالآيات ناسخها ومنسوخها وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها وبأحوال الصحابة ولذلك كان تفسيره من أجل التفاسير بالمأثور وأصحها وأجمعها.

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله (١).

ومع جلال قدر الإمام الطبري عند أهل العلم وخاصة الإمام ابن عطية الغرناطي لم يكن موقف ابن عطية موقف المتأثر (٢) دائما الذي ينقل أقوال الطبري ويوافقه في جميع ما ذهب إليه ، بل كان ابن عطية كثيرا ما يناقش الإمام الطبري فيما ذهب إليه وهنا تتضح شخصية الإمام ابن عطية في نظر الباحثين.

٢ ـ «شفاء الصدور» :

لأبي بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي المعروف بالنقاش المقرئ المفسر ، كان إمام أهل العراق في القراءات والتفسير قرأ القرآن على هارون بن موسى الأخفش ، وابن أبي مهران وجماعة وقرأ عليه خلائق وروى الحديث عن أبي مسلم الكجّي ومطين والحسن بن سفيان وآخرين ، وروى عنه الدارقطني وابن شاهين وأبو علي بن شاذان وجماعة.

ضعفه جماعة قال البرقاني : كل حديث النقاش منكر ، فقال الخطيب : في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة ، وقال الذهبي : ليس بثقة على جلالته ونبله (٣). ولضعف هذا الرجل كان نقل الإمام ابن عطية عنه على حذر وخيفة فكان ينظر إلى كلامه بعين الناقد البصير فإن كان ضعيفا نبه عليه وعبر عنه بأنه وهم.

٣ ـ «التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل» :

وهو لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي التميمي مقرىء أندلسي أصله من المهدية بالقيروان وكان

__________________

(١) طبقات المفسرين للداودي (٢ / ١٠٦) غاية النهاية (٢ / ١٠٦) ابن السبكي (٣ / ١٢٠) شذرات الذهب (٢ / ٢٦٠) طبقات القراء للذهبي (١ / ٢١٣) البداية والنهاية (١١ / ١٤٥) الوافي بالوفيات (٢ / ٢٨٤) وفيات الأعيان (٣ / ٣٣٢).

(٢) منهج ابن عطية ٩٥.

(٣) تذكرة الحفاظ (٣ / ٩٠٨) ميزان الاعتدال (٣ / ٥٢٠) طبقات المفسرين للداودي (٢ / ١٣١).


مقدما في القراءات والعربية ومات في حدود سنة ثلاثين وأربعمائة (١). والمهدوي : نسبة إلى المهدية ، بينها وبين القيروان مرحلتان بناها أحمد بن إسماعيل المهدي على ساحل البحر (٢).

يقول شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الوهاب فايد : وكان موقف ابن عطية من هذا المصدر أننا نجده أحيانا يستشهد بكلام المهدوي دون أن يعقب عليه وكأنه بذلك يشير إلى أن كلامه محتمل في معنى الآية وفي كثير من الأحيان ينقل كلام المهدوي في الآية ثم يردفه بالتعقيب عليه (٣).

٤ ـ «الهداية إلى بلوغ النهاية» :

هو لمكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار أبو محمد القيسي ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية.

وكان موقف ابن عطية من هذا التفسير مشابها إلى حد كبير تفسير الإمام المهدوي (٤).

مصادر ابن عطية في الحديث

السنة النبوية الشريفة تعتبر أصلا من أصول التشريع الإسلامي فهي شارحة للقرآن الكريم مفصلة لمجمله ، مقيدة لمطلقه مخصصة لعامه مبينة لمبهمه مظهرة لأسراره (٥) فكان ابن عطية ينهل من الكتاب الكريم فإن لم يجد أخذ من السنة الصحيحة فكان من أهم المصادر التي استفاد منها في كتابه أولا :

١ ـ صحيح البخاري المسمى بالجامع الصحيح.

وهو لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ ه‍ وقد خرج الإمام ابن عطية عنه كثيرا.

٢ ـ المسند الصحيح للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة ٢٦١ ه‍ (٦) وهو من المصادر الهامة لابن عطية قد خرج عنه كثيرا.

٣ ـ سنن أبي داود.

وهو سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر المتوفى سنة ٢٧٥ ه‍. (٧)

__________________

(١) غاية النهاية (١ / ٩٢) طبقات المفسرين للداودي (١ / ٥٦) إنباه الرواة (١ / ٩١) مفتاح السعادة (٢ / ٨٤).

(٢) انظر معجم البلدان (٤ / ٦٩٤).

(٣) منهج ابن عطية (١٠٥).

(٤) منهج ابن عطية (١٠٦).

(٥) انظر مقدمتنا على كتاب فتح العلام للشيخ زكريا الأنصاري.

(٦) الجرح والتعديل (٨ / ١٨٢) تاريخ بغداد (١٣ / ١٠٠) تذكرة الحفاظ (٢ / ٥٨٨).

(٧) الجرح والتعديل (٤ / ١٠١) تاريخ بغداد (٩ / ٥٥) وفيات الأعيان (٢ / ٤٠٤).


٤ ـ الجامع الصحيح المسمى بسنن الترمذي.

وهو للإمام أبي عيسى بن محمد بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي البوغي الترمذي الضرير ، توفي سنة ٢٧٩ ه‍ وقيل غير ذلك (١).

٥ ـ سنن النسائي للإمام أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الخراساني توفي في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة (٣٠٣) ه (٢).

وغير ذلك من المصادر التي ستقف عليها من خلال قراءتك في الكتاب.

مصادره في علم القراءات

١ ـ القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة ... والمقري : العالم بها رواها مشافهة ، فلو حفظ التيسير مثلا ليس له أن يقرىء ، بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا ، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة.

وكان تفسير ابن عطية مملوءا بالقراءات مستعملها وشاذها فكان اعتماده على مصادر كثيرة من أبرزها :

١ ـ «المحتسب»

وهو كتاب متداول بين أهل العلم مطبوع في مجلدين وهو لأبي الفتح عثمان بن جني ـ بسكون الياء معرب ـ من حذاق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف ، توفي سنة ٣٩٢ (٣).

قلت : وقد أكثر النقل عنه بخاصة في توجيه القراءات الشاذة.

٢ ـ «الحجة في علل القراءات السبع»

لأبي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان الإمام أبي علي الفارسي توفي ببغداد سنة ٣٧٧ ه‍ (٤).

يقول الأستاذ عبد الوهاب : «وقد لا حظت أن ابن عطية في بعض نقوله عن أبي علي الفارسي كانت له شخصيته الناقدة وعقليته الفاحصة ، حيث كان أحيانا يناقش الفارسي ويتعقبه في أقواله وآرائه» .. وذكر لذلك أمثلة ...

__________________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي (٢ / ١٨٧) ميزان الاعتدال (٣ / ١١٧) التهذيب (٩ / ٣٨٧).

(٢) وفيات الأعيان (١ / ٧٧) العبر (٢ / ١٢٣) الأسنوي (٢ / ٢٦٨).

(٣) دمية القصر (٢٩٧) بغية الوعاة (٢ / ١٣٢).

(٤) بغية الوعاة (١ / ٤٩٦).


٣ ـ التيسير

لأبي عمرو بن عثمان بن سعيد بن عثمان ، أبي عمرو الداني ويقال له ابن الصيرفي من موالي بني أمية : أحد حفاظ الحديث ، توفي سنة ٤٤٤ ه‍ (١).

وكان ابن عطية ينقل منه كثير وهذا يتضح لقارىء الكتاب.

مصادر ابن عطية في اللغة

والنحو والمعاني

١ ـ معاني القرآن للفراء

وهو لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء كان من أعلام أهل الكوفة بالنحو بعد أستاذه الكسائي وقال فيه أبو العباس ثعلب : لو لا الفراء ما كانت عربية ، لأنه خلصها وضبطها ، ولو لا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ، توفي سنة ٢١٧ ه‍ (٢).

٢ ـ معاني القرآن للزجاج

لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن السري الزجاج ، أحد أئمة أهل العربية وأقدم أصحاب المبرد توفي سنة ٣١١ ه‍.

٣ ـ «الاغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني»

وهو لأبي علي الفارسي.

٤ ـ مجاز القرآن

لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري.

كان من أعلم الناس بالعربية وأخبار العرب توفي سنة ٢٠٩ ه‍.

٥ ـ «الكتاب»

لسيبويه أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريين ويقال له أبو الحسن مولى بني الحارث بن كعب ولقب بسيبويه ومعناه رائحة التفاح توفي سنة ١٨٠ ه‍ وقيل غير ذلك (٣).

٦ ـ المقتضب

لأبي العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري أبي العباس المبرد إمام العربية في زمانه توفي سنة ٢٨٥ ه‍ (٤).

__________________

(١) النجوم الزاهرة (٥ / ٥٤) نفح الطيب (١ / ٣٩٢) غاية النهاية (١ / ٥٠٣) وهناك مصادر أخرى ونحن لم نرد حصرها والله الموفق.

(٢) طبقات النحويين واللغويين (١ / ١٣٢).

(٣) وغير ذلك كثير ولله الحمد والمنة.

(٤) البغية ٢ / ٢٦٩.


٧ ـ العين

للخليل بن أحمد الفراهيدي ، سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده ، والغاية في تصحيح القياس ، واستخراج مسائل النحو وتعليله ، توفي سنة ١٧٠ ه‍ (١).

٨ ـ إصلاح المنطق

ليعقوب بن إسحاق بن السكيت أبي يوسف من أكابر أهل اللغة قال المبرد عن كتابه : ما رأيت للبغداديين كتابا خيرا من كتاب يعقوب بن السكيت في المنطق ، توفي سنة ٢٤٤ ه‍ (٢).

٩ ـ الفصيح

لأبي العباس أحمد بن يحيى بن يسار الشيباني مولاهم البغدادي الإمام أبي العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة ، توفي سنة ٢٩١ ه‍ (٣).

١٠ ـ «المجمل في اللغة»

لأحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب أبي الحسين اللغوي القزويني ، توفي سنة ٣٩٥ بالريّ(٤).

١٠ ـ المخصص

لعلي بن أحمد بن سيده اللغوي النحوي الأندلسي أبي الحسن الضرير صاحب المحكم والمحيط توفي سنة ٤٥٨ ه‍ (٥).

مصادر ابن عطية في الفقه

والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية (٦) وعرفه ابن خلدون في مقدمته فقال : الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة وهي متلقاة من الكتاب وما نصه الشارع لمعرفته من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه.

فالفقه في تفسير ابن عطية متلقى من كتب المذاهب المختلفة خاصة المذهب المالكي حيث إنه السائد آنذاك فمن أهم المصادر :

__________________

(١) بغية الوعاة (١ / ٥٥٧).

(٢) بغية الوعاة (٢ / ٣٤٩).

(٣) البغية (١ / ٣٩٦).

(٤) بغية الوعاة (١ / ٣٥٢).

(٥) بغية الوعاة (٢ / ١٤٣).

(٦) المستصفى (١ / ٤) شرح الكوكب المنير (١ / ٤٠).


١ ـ الموطأ

وهو لإمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة ، توفي سنة ١٧٩ ه‍ ودفن بالبقيع (١).

٢ ـ المختصر

لعبد الله بن عبد الحكم بن أعين كان من أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله ، وأفضت إليه الرياسة بعد أشهب ، توفي سنة ٢١٤ ه‍ (٢).

٣ ـ المدونة

وهي أصل المذهب المالكي وعمدته قال سحنون : إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن تجزي في الصلاة عن غيرها ولا يجزي غيرها عنها.

وأصل المدونة أسئلة أسد بن الفرات علي بن عبد الرحمن بن القاسم بعد وفاة مالك فأجابه ابن القاسم بنص قول مالك مما سمعه منه أو بلغه عنه أو قاسه على قوله ورحل بها أسد إلى القيروان فكانت تسمى «الأسدية» و «كتاب أسد» و «مسائل ابن القاسم» ثم طلبها سحنون من أسد فمنعه إياها فتلطف به سحنون حتى وصلت إليه فرحل بها سحنون إلى ابن القاسم فسمعها منه وأصلح فيها أشياء كثيرة رجع ابن القاسم عنها ثم كتب ابن القاسم إلى أسد أن يعرض كتابه على سحنون ويصلحه منها فأنف عن ذلك فرتبها سحنون فأصبحت المدونة المشهورة بين الخلائق (٣).

٤ ـ الواضحة

لعبد الملك بن حبيب السلمي فقيه أهل الأندلس ، توفي سنة ١٨٣ ه‍ (٤).

٥ ـ التفريع

لأبي القاسم بن الجلاب المتوفى سنة ٣٧٨ ه‍ (٥).

٦ ـ «الإشراف على مذاهب أهل العلم»

لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة ٣٠٩ ه‍ (٦).

__________________

(١) الخلاصة (٣ / ٣).

(٢) المدارك (٢ / ٥٢٣) وفيات الأعيان ٢ / ٢٣٩).

(٣) انظر مواهب الجليل (١ / ٣٣) كارل بروكلمان (٣ / ٢٨١).

(٤) المدارك (٣ / ٣٠).

(٥) أما مصادره في علم التوحيد والتاريخ والسير فلم يكن يختص كتابا دون آخر بل كان ينقل عن أئمة هذا الشأن فمثلا في التوحيد ينقل عن إمام أهل السنة والجماعة «أبي الحسن الأشعري» وأبي الطيب الباقلاني وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني وغيرهم وكذلك الأمر في التاريخ والسير.


الترجمة

اسمه ومولده

القاضي أبو محمد : عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن عطية المحاربي الداخل (١).

ولد سنة ثمانين وأربعمائة واعتنى به والده ولحق به الكبار وطلب العلم وهو مراهق وكان يتوقد ذكاء.

شيوخه

١ ـ والده الحافظ الناقد المجود أبوبكر غالب بن عبد الرحمن. وكان والده يعتبر اللبنة الأولى له في تلقينه للعلوم والمعارف لا سيما وهو إمام جليل قال عنه ابن بشكوال كان حافظا للحديث وطرقه وعلله عارفا بالرجال ذاكرا لمتونه ومعانيه وكان أديبا شاعرا لغويا دينا فاضلا توفي سنة ثمان عشرة وخمسمائة من جمادى الآخرة وله سبع وسبعون سنة. (٢)

٢ ـ الحافظ الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي الغساني محدث الأندلس ، كان بصيرا بالعربية واللغة والشعر والأنساب وتصدر بجامع قرطبة وأخذ عنه الأعلام وكان مما أخذ عنه الإمام ابن عطية رحمهما‌الله. وتوفي سنة ٤٩٨ ه‍ (٣).

٣ ـ الحافظ أبو علي الحسين بن محمد بن سكرة الصدفي. كان عالما بالحديث وطرقه ، عارفا بالقراءات وله الباع الطويل في الرجال والعلل والأسماء والجرح والتعديل وكان حسن الخط جيد الضبط توفي سنة ٥١٤ (٤).

٤ ـ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري المعروف بابن الباذش كانت له الإمامة بالأندلس في صناعة العربية وإقراء القرآن توفي سنة ٥٢٨ (٥).

__________________

(١) انظر ترجمته في الصلة (٢ / ٣٨٦) معجم ابن الأبار (٢٦٩ ـ ٢٧٣) بغية الملتمس (٣٧٦) الديباج المذهب (٢ / ٥٧) بغية الوعاة (٢ / ٧٣) طبقات المفسرين (١٦ / ١٧) الداودي (١ / ٢٦٠) نفح الطيب (١ / ٦٧٩) سير أعلام النبلاء (١٩ / ٥٨٧) شجرة النور الزكية (١ / ١٢٩) هدية العارفين (٥٠٢) كشف الظنون (٤٣٩ ، ١٦١٣).

(٢) الفهرست لابن عطية (٤١) الصلة (٢ / ٤٥٧) سير أعلام النبلاء (١٩ / ٥٨٦).

(٣) تذكرة الحفاظ (٤ / ١٢٣٣) الصلة (١٤٢).

(٤) فهرست ابن عطية (٣١) تذكرة الحفاظ (٤ / ١٢٥٣).

(٥) المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي (٣١).


٥ ـ الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب القرطبي وصفه ابن بشكوال بقوله «آخر الشيوخ الجلة الأكابر بالأندلس في علو الإسناد وسعة الرواية» (١) توفي سنة ٥٢٠ ه‍.

٦ ـ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد العزيز بن حمدين التغلبي أجلّ رجال الأندلس وزعيمها في وقته ومقدمها جلالة ووجاهة وفهما ونباهة ، مع النظر الصحيح في الفقه والأدب البارع والتقدم في النثر والنظم توفي سنة ٥٠٨ ه‍ (٢).

٧ ـ الفقيه أبو بحر سفيان بن العاصي بن أحمد الأسدي من جلة العلماء وكبار الأدباء ضابطا لكتبه صدوقا في روايته من أهل الرواية والدراية توفي سنة ٥٢٠ ه‍ (٣).

تلاميذه

لقد فاق الإمام ابن عطية الغرناطي في كثير من العلوم والمعارف فكان من الطبيعي أن ينهل منه وينتفع به ويتتلمذ عليه فقد درس عليه كثير من رواد العلم فمن أشهرهم :

١ ـ الإمام الحافظ الثقة أبو بكر محمد بن خير بن عمر الإشبيلي المتوفى سنة ٥٧٥ ه‍.

٢ ـ الإمام الفقيه أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الملك بن أبي جمرة المرسي المتوفى سنة ٥٩٩ ه‍.

٣ ـ الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري المشهور بابن حبيش المتوفى سنة ٥٨٤ ه‍.

٤ ـ الإمام الفيلسوف أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي المتوفى سنة ٥٨١ ه‍.

٥ ـ الإمام العالم الثقة أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللخمي القرطبي توفي سنة ٥٩٢ ه‍.

__________________

(١) الصلة (٣٣٢).

(٢) مشيخة عياض (١٧) وانظر منهج ابن عطية (٤٦).

(٣) الصلة (٢٢٥) وبهذا القدر من الشيوخ نكتفي فإننا أوردنا هذا القدر على سبيل المثال لا الحصر.


مصنفاته

ساهم ابن عطية رحمه‌الله في إثراء المكتبة الإسلامية بالذخائر والنفائس فكان من أشهر هذه النفائس.

التفسير

وهو يعد من أشهر كتب التفسير بالمأثور فهو جليل الفائدة عظيم النفع ، وكان الباعث (١) على وضع هذا التفسير هو التقرب إلى الله تعالى فقال في مقدمة تفسيره إنه أراد أن يختار لنفسه وينظر في علم يعد أنواره لظلم رمسه ، فعلم أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم ووجد أن علم كتاب الله هو أمتن العلوم حبالا وأرسخها جبالا وأجملها آثارا وأسطعها أنوارا ، وأيقن أنه أعظم العلوم تقربا إلى الله تعالى وتخليصا للنيات ، ونهيا عن الباطل وحضا على الصالحات ورجا من وراء اشتغاله بهذا العلم ـ أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه ، ولسانا مرن على آياته ومثانيه ، ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه ، وجالت سوامها في ميادينه ومغانيه ومن أجل هذا كله ثنى إلى هذا العلم عنان النظر وأقطع جانب الفكر وجعله فائدة العمر.

هل وضع له اسما؟

يرى الدكتور عبد الوهاب فائد مع جمع من المؤرخين أن ابن عطية لم يضع لتفسيره اسما خاصا به فقد ذكره ابن عميرة الضبي (٢) فقال : ألف ابن عطية تفسيرا ضخما أربى فيه على كل متقدم وذكر أيضا لسان الدين بن الخطيب وهو من علماء القرن الثامن الهجري أنه ألف كتابا في التفسير يسمى بالوجيز فأحسن فيه وأبدع ـ وطار ـ لحسن نيته ـ كل مطار وأما من أطلق عليه اسمه المعروف الآن وهو المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. فهو ملا كاتب حلبي المتوفى سنة ١٠٦٧ ه‍ فهو الذي أطلق عليه ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذا الاسم لم يكن من وضع ابن عطية (٣).

الفهرست

وقد كتبه سنة (٥٣٣) وهو محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (٢٦٤٩١) ب.

__________________

(١) منهج ابن عطية (٨٣).

(٢) بغية الملتمس (٣٧٦).

(٣) منهج ابن عطية (٨٢).


ثناء العلماء عليه

قال الذهبي في السير (١) : الإمام العلامة شيخ المفسرين كان إماما في الفقه وفي التفسير وفي العربية قويّ المشاركة ، ذكيا فطنا مدركا من أوعية العلم.

وقال ابن الزبير : كان فقيها جليلا عارفا بالأحكام والحديث والتفسير ، نحويا لغويا أديبا ، بارعا شاعرا مفيدا ، ضابطا سنيا فاضلا من بيت علم وجلالة ، غاية في توقد الذهن وحسن الفهم وجلالة التصرف (٢).

وقال ابن فرحون (٣) : كان فقيها عالما بالتفسير ، والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب مقيدا حسن التقييد.

وقال الداودي كما قال ابن فرحون وبهذا نكون قد علمنا أن كتب التراجم والسير أجمعت على توثيقه وسعة علمه ، وتفسيره خير شاهد على ثقته وأمانته.

ولله الحمد والمنة

وفاته

في ليلة خامس عشر رمضان سنة اثنتين ـ وقيل إحدى ، وقيل ست ـ وأربعين وخمسمائة توفي هذا الإمام الجليل بلورقة عليه هواطل رحمة الغفور المنان.

__________________

(١) السير (١٩ / ٥٨٨).

(٢) بغية الوعاة (١ / ٧٣).

(٣) الديباج المذهب (٢ / ٥٧).





بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله الملك العظيم

وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وعلى آله

قال الشيخ الإمام ، الفقيه الأجل ، الحافظ الأكمل ، القاضي الأعدل ، أبو محمد عبد الحق ، ابن الفقيه الإمام الحافظ أبي بكر غالب ، بن عبد الرحمن ، بن غالب ، بن عبد الرؤوف ، بن تمام ، بن عبد الله ، بن تمام ، بن عطية ، بن خالد ، بن عطية ، وهو الداخل إلى الأندلس ، ابن خالد ، بن خفاف ، بن أسلم ، بن مكرم المحاربي من ولد زيد ، بن محارب ، بن خصفة ، بن قيس عيلان من أهل غرناطة ، رحمه‌الله ونفعه والمسلمين بما دون.

الحمد لله الذي برأ النسم ، وأفاض النعم ، ومنح القسم ، وسنى من توحيده وعبادته العصم ، ذي العزة القاهرة ، والقدرة الباهرة ، والآلاء المتظاهرة ، الذي أوجدنا بعد العدم ، وجعلنا الخيار الوسط من الأمم ، وخولنا عوارف لا تحصى ، وهدانا شرعة رمت بنا من رضوانه إلى الغرض الأقصى ، أنزل إلينا القرآن العزيز ، وعد فيه وبشر وأوعد وحذر ، ونهى وأمر ، وأكمل فيه الدين ، وجعله الوسيلة الناجحة والحبل المتين ، ويسره للذكر ، وخلده غابر الدهر ، عصمة للمعتصمين ، ونورا صادعا في مشكلات المختصمين ، وحجة قائمة على العالم ، ودعوة شاملة لفرق بني آدم ، كلامه الذي أعجز الفصحاء ، وأخرس البلغاء ، وشرف العلماء ، له الحمد دائبا ، والشكر واصبا ، لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، وأفضل الصلاة والتسليم ، على محمد رسوله الكريم ، صفوته من العباد ، وشفيع الخلائق في المعاد ، صاحب المقام المحمود ، والحوض المورود ، الناهض بأعباء الرسالة والتبليغ الأعصم ، والمخصوص بشرف السعاية في الصلاح الأعظم ، صلى الله عليه وعلى آله صلاة مستمرة الدوام ، جديدة على مر الليالي والأيام.

وبعد ، أرشدني الله وإياك ، فإني لما رأيت العلوم فنونا ، وحديث المعارف شجونا ، وسلكت فإذا هي أودية ، وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية ، رأيت أن الوجه لمن تشزن للتحصيل ، وعزم على الوصول ، أن يأخذ من كل علم طرفا خيارا ، ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارا ، ولن يرتقي هذا النجد ، ويبلغ هذا المجد ، حتى ينضي مطايا الاجتهاد ، ويصل التأويب بالإسئاد ، ويطعم الصبر ويكتحل بالسهاد ، فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقا ، وأدمنت حتى تفسخت أينا وتصببت عرقا ، إلى أن انتهج بفضل الله عملي ، وحزت من ذلك ما قسم لي ، ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى ، وتخير من العلوم واجتبى ، أن يعتمد على علم من علوم الشرع ، يستنفد فيه غاية الوسع ، يجوب آفاقه ، ويتتبع أعماقه ، ويضبط أصوله ، ويحكم فصوله ، ويلخص ما هو منه ، أو يؤول إليه ، ويعنى بدفع الاعتراضات عليه ، حتى يكون لأهل ذلك العلم


كالحصن المشيد ، والذخر العتيد ، يستندون فيه إلى أقواله ، ويحتذون على مثاله.

فلما أردت أن أختار لنفسي ، وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي ، سبرتها بالتنويع والتقسيم ، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالا ، وأرسخها جبالا ، وأجملها آثارا ، وأسطعها أنوارا ، علم كتاب الله جلت قدرته ، وتقدست أسماؤه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، الذي استقل بالسنة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض ، هو العلم الذي جعل للشرع قواما ، واستعمل سائر المعارف خداما منه تأخذ مبادئها ، وبه تعتبر نواشئها ، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع ، فهو عنصرها النمير ، وسراجها الوهاج ، وقمرها المنير.

وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى ، وتخليصا للنيات ، ونهيا عن الباطل ، وحضا على الصالحات ، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدا ، ويمشي في التلطف لها رويدا.

ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه ، ولسانا مرن على آياته ومثانيه ، ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه ، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه ، فثنيت إليه عنان النظر ، وأقطعته جانب الفكر ، وجعلته فائدة العمر ، وما ونيت ـ علم الله ـ إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب ، ويمس من لغوب ، أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.

فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا ، وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا ، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح ، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح ، وأنها قد أخذت بحظها من الثقل ، فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل.

قال الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

قال المفسرون : أي علم معانيه والعمل بها ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيدوا العلم بالكتاب» ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني ، وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا ، لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به ، وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز ، وأهل القول بعلم الباطن ، وغيرهم ، فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين ، نبهت عليه ، وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم ، أو نحو ، أو لغة ، أو معنى ، أو قراءة ، وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين ، ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي ـ رحمه‌الله ـ مفرق للنظر ، مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات : مستعملها وشاذها ، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ ، كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي ، وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول.

وأنا أسأل الله جلت قدرته ، أن يجعل ذلك كله لوجهه ، وأن يبارك فيه وينفع به ، وأنا وإن كنت من


المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرا من علم التفسير ، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير ، وعمرت به زمني ، واستفرغت فيه منني ، إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه ، وجعلته ثمرة وجودي ، ونخبة مجهودي ، فليستصوب للمرء اجتهاده ، وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولنقدم بين يدي القول في التفسير أشياء قد قدم أكثرها المفسرون ، وأشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم مجتمعة لذهنه.


باب ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الصحابة ،

وعن نبهاء العلماء ، في فضل القرآن المجيد

وصورة الاعتصام به

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم ، قيل : فما النجاة منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله تعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو فصل ليس بالهزل ، من تركه تجبرا قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، من علم علمه سبق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم».

قال أنس بن مالك في تفسير قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦ ، لقمان : ٢٢]. قال : هي القرآن.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن».

وقال عليه‌السلام : «اتلوا هذا القرآن ، فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات ، أما إني لا أقول «الم» حرف ، ولكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم حرف».

وروي عنه عليه‌السلام أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض : «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، إنه لن تعمى أبصاركم ، ولن تضل قلوبكم ، ولن تزل أقدامكم ، ولن تقصر أيديكم ، كتاب الله سبب بينكم وبينه ، طرفه بيده ، وطرفه بأيديكم ، فاعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، ألا وعترتي ، وأهل بيتي ، هو الثقل الآخر ، فلا تسبعوهم فتهلكوا».

وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم صار الشعر والخطب يمل ما أعيد منها ، والقرآن لا يمل؟ فقال: لأن القرآن حجة على أهل الدهر الثاني ، كما هو حجة على أهل الدهر الأول ، فكل طائفة تتلقاه غضا جديدا ولأن كل امرئ في نفسه متى أعاده وفكر فيه تلقى منه في كل مرة علوما غضة ، وليس هذا كله في الشعر والخطب.

وقيل لمحمد بن سعيد : ما هذا الترديد للقصص في القرآن؟ فقال : ليكون لمن قرأ ما تيسر منه حظ في الاعتبار.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله».


وقال عليه‌السلام : «ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن ، لا نبي ولا ملك».

وقال عليه‌السلام : «أفضل عبادة أمتي القرآن».

وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي : «من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه ، إلا أنه لا يوحى إليه».

وحدث أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ مائة آية كتب من القانتين ومن قرأ مائتي آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن».

وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أشراف أمتي حملة القرآن».

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢]. فقال : «سابقكم سابق ، ومقتصدكم ناج ، وظالمكم مغفور له».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن أصفر البيوت بيت صفر من كتاب الله».

وروى أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القرآن شافع ، مشفع ، وما حل مصدق من شفع له القرآن نجا ، ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله لوجهه في النار ، وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته ، وأولى من محل به من عدل عنه وضيعه».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الذي يتعاهد هذا القرآن ويشتد عليه له أجران ، والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة».

وقال ابن مسعود : مل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملة فقالوا : يا رسول الله حدثنا ، فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الآية [الزمر : ٢٣] ، ثم ملوا ملة أخرى ، فقالوا : قص علينا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣].

وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه».

وقال عبد الله بن مسعود : «إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه ، وإن أدب الله القرآن».

ومر أعرابي على عبد الله بن مسعود وعنده قوم يقرؤون القرآن ، فقال : ما يصنع هؤلاء؟ فقال له ابن مسعود : يقتسمون ميراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومرت امرأة على عيسى ابن مريم عليه‌السلام فقال : طوبى لبطن حملك ، ولثديين رضعت منهما ، فقال عيسى : طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبع ما فيه.

وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) [آل عمران : ١٩٣] قال : هو القرآن ، ليس كلهم رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) [يونس : ٥٨] قال : «الإسلام والقرآن».

وقيل لعبد الله بن مسعود : إنك لتقل الصوم؟ فقال : «إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إليّ منه».

وقال قوم من الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها أمثال المصابيح فقال لهم : فلعله قرأ سورة البقرة ، فسئل ثابت بن قيس ، فقال : نعم قرأت سورة البقرة». وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير في تنزل الملائكة في الظلة لصوته بقراءة سورة البقرة.

وذكر أبو عمرو الداني عن علي الأثرم قال : كنت أتكلم في الكسائي وأقع فيه ، فرأيته في النوم وعليه ثياب بيض ووجهه كالقمر فقلت : يا أبا الحسن ما فعل الله بك؟ فقال : «غفر لي بالقرآن».

وقال عقبة بن عامر : «عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فقال : عليكم بالقرآن».

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن من أشراط الساعة أن يبسط القول ويخزن الفعل ويرفع الأشرار ويوضع الأخيار وأن تقرأ المثناة على رؤوس الناس لا تغير ، قيل وما المثناة؟ قال : ما استكتب من غير كتاب الله ، قيل له : فكيف بما جاء من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ما أخذتموه عمن تأمنونه على نفسه ودينه فاعقلوه ، وعليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبناءكم فإنكم عنه تسألون وبه تجزون ، وكفى به واعظا لمن عقل.

وقال رجل لأبي الدرداء : إن إخوانا لك من أهل الكوفة يقرئونك السلام ويأمرونك أن توصيهم ، فقال : أقرئهم السلام ، ومرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة ، ويجنبهم الجور والحزونة.

وقال رجل لعبد الله بن مسعود : أوصني ، فقال : إذا سمعت الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.

وروى أبو هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أحسن الناس قراءة أو صوتا بالقرآن ، فقال : «الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى».

وقال عليه‌السلام : «اقرؤوا القرآن قبل أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح ويضيعون معانيه يتعجلون أجره ولا يتأجلونه».

ويروى أن أهل اليمن لما قدموا أيام أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر : «هكذا كنا ، ثم قست القلوب».

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) [الطور : ٧] فأنّ أنة عيد منها عشرين يوما.


وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل ، وجعلتم الليل جملا تركبونه ، فتقطعون به المراحل ، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربهم ، فكانوا يتدبرونها بالليل ، وينفذونها بالنهار.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : «أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا درسه عملا ، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به».

قال القاضي عبد الحق رضي الله عنه : قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). [القمر : ١٧ ـ ٢٢ ، ٣٢ ـ ٤٠].

وقال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] أي علم معانيه ، والعمل به ، والقيام بحقوقه ثقيل ، فمال الناس إلى الميسر ، وتركوا الثقيل ، وهو المطلوب منهم.

وقيل ليوسف بن أسباط : بأي شيء تدعو إذا ختمت القرآن؟ قال : «أستغفر الله من تلاوتي لأني إذا ختمته وتذكرت ما فيه من الأعمال خشيت المقت فأعدل إلى الاستغفار والتسبيح».

وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء ، قال : فلما ختمته أردت الرجوع من أوله فقال لي : اتخذت القراءة عليّ عملا اذهب فاقرأه على الله تعالى في ليلك وانظر ماذا يفهمك منه فاعمل به.


باب في فضل تفسير القرآن

والكلام على لغته والنظر في إعرابه ودقائق معانيه

روى ابن عباس أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أي علم القرآن أفضل؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عربيته فالتمسوها في الشعر».

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه فإن الله يحب أن يعرب».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : إعراب القرآن أصل في الشريعة ، لأن بذلك تقوم معانيه التي هي الشرع.

وقال أبو العالية في تفسير قوله عزوجل : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة: ٢٦٩] ، قال : «الحكمة» الفهم في القرآن ، وقال قتادة : «الحكمة» القرآن والفقه فيه ، وقال غيره : «الحكمة» تفسير القرآن.

وذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه جابر بن عبد الله فوصفه بالعلم ، فقال له رجل : جعلت فداك ، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ١٩٧].

وقال الشعبي : رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية ، فقيل له : إن الذي يفسرها رحل إلى الشام ، فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها.

وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة لا يدرون ما في الكتاب ، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب.

وقال ابن عباس : «الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ الشعر».

وقال مجاهد : «أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل».

وقال الحسن : «والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن أنزلت وما يعني بها».

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة».

وقال الحسن : «أهلكتهم العجمة ، يقرأ أحدهم الآية فيعيى بوجوهها حتى يفتري على الله فيها».

وكان ابن عباس يبدأ في مجلسه بالقرآن ثم بالتفسير ثم بالحديث.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «ما من شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن رأي الرجل يعجز عنه».


باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن ،

والجرأة عليه ، ومراتب المفسرين

روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسّر من كتاب الله إلّا آيا بعدد علّمه إياهنّ جبريل».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا الحديث : في مغيبات القرآن ، وتفسير مجمله ، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى ، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوه ، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه كعدد النفخات في الصور ، وكرتبة خلق السماوات والأرض. ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه ، دون نظر فيما قال العلماء ، أو اقتضته قوانين العلوم كالنحو ، والأصول ، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته ، والنحاة نحوه ، والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر ، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه. وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب ، وعامر الشعبي ، وغيرهما ، يعظمون تفسير القرآن ، ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم ، وتقدمهم ، وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرونه وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم.

فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويتلوه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما ، وهو تجرد للأمر وكمله وتتبعه ، وتبعه العلماء عليه ، كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقال ابن عباس : «ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب».

وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويحث على الأخذ عنه.

وكان عبد الله بن مسعود يقول : «نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس» ، وهو الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين» وحسبك بهذه الدعوة.

وقال عنه علي بن أبي طالب : «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق» ، ويتلوه عبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن متقدم.


ومن المبرزين في التابعين الحسن بن أبي الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعلقمة.

قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ، ويتلوهم عكرمة ، والضحاك بن مزاحم ، وإن كان لم يلق ابن عباس ، وإنما أخذ عن ابن جبير.

وأما السدي رحمه‌الله فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح ، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر ، ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف ، وألف الناس فيه كعبد الرزاق ، والمفضل ، وعلي بن أبي طلحة ، والبخاري ، وغيرهم.

ثم إن محمد بن جرير الطبري رحمه‌الله جمع على الناس أشتات التفسير ، وقرب البعيد وشفى في الإسناد.

ومن المبرزين في المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي فإن كلامهما منخول وأما أبو بكر النقاش ، وأبو جعفر النحاس ، فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ، وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأبو العباس المهدوي رحمه‌الله متقن التأليف ، وكلهم مجتهد مأجور رحمهم‌الله ، ونضر وجوههم.


(باب معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

«إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف

فاقرؤوا ما تيسر منه»

اختلف الناس في معنى هذا الحديث ، اختلافا شديدا ، فذهب فريق من العلماء إلى أن تلك الحروف السبعة هي فيما يتفق أن يقال على سبعة أوجه فما دونها ، كتعال ، وأقبل ، وإليّ ، ونحوي ، وقصدي ، واقرب ، وجىء ، وكاللغات التي في أف ، وكالحروف التي في كتاب الله فيها قراءات كثيرة ، وهذا قول ضعيف.

قال ابن شهاب في كتاب مسلم : «بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كلام محتمل.

وقال فريق من العلماء : «إن المراد بالسبعة الأحرف معاني كتاب الله تعالى ، وهي : أمر ، ونهي ، ووعد ، ووعيد ، وقصص ، ومجادلة ، وأمثال. وهذا أيضا ضعيف ، لأن هذه لا تسمى أحرفا ، وأيضا :

فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ، ولا في تحليل حرام ، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.

وحكى صاحب الدلائل عن بعض العلماء ، وقد حكى نحوه القاضي أبو بكر بن الطيب ، قال :

تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة ، منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته ، مثل : هن أطهر ، وأطهر. ومنها ما لا تتغير صورته ، ويتغير معناه بالإعراب ، مثل : ربنا باعد وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف ، مثل : نشرها ، وننشزها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه كقوله : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، وكالصوف المنفوش ، ومنها ما تتغير صورته ومعناه ، مثل : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩] وطلع منضود ، ومنها بالتقديم والتأخير كقوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) [ق : ١٩]. وسكرة الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان كقوله : «تسع وتسعون نعجة أنثى».

وذكر القاضي أبو بكر بن الطيب في معنى هذه السبعة الأحرف حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذا القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف ، نهي ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وائتمروا ، وانتهوا ، واعتبروا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه».

قال القاضي أبو محمد : فهذا تفسير منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأحرف السبعة ، ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها ، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة ، ومنه قوله تعالى :


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] أي على وجه وطريقة ، هي ريب وشك ، فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق ، من تحليل ، وتحريم ، وغير ذلك.

وذكر القاضي أيضا أن أبيّا رضي الله عنه روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا أبيّ إني أقرئت القرآن على حرف أو حرفين ثم زادني الملك حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف وكاف إن قلت غفور رحيم ، سميع عليم ، أو عليم حكيم ، وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة ، أو رحمة بعذاب».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وقد أسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه.

قال القاضي ابن الطيب : «وهذه أيضا سبعة غير السبعة التي هي وجوه وطرائق ، وغير السبعة التي هي قراءات ووسع فيها ، وإنما هي سبعة أوجه من أسماء الله تعالى».

وإذا ثبتت هذه الرواية حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه.

قال القاضي : «وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة فيها فإنها على سبعة أوجه ، وإلا بطل معنى الحديث».

قالوا : «وتعرف بعض الوجوه بمجيء الخبر به ، ولا نعرف بعضها ، إذا لم يأت به خبر».

قال : وقال قوم : ظاهر الحديث يوجب أن يوجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرءان على سبعة أوجه ، فإذا حصل ذلك تم معنى الحديث».

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : «وقد زعم قوم أن معنى الحديث أنه نزل على سبع لغات مختلفات وهذا باطل إلا أن يريد الوجوه المختلفة التي تستعمل في القصة الواحدة.

والدليل على ذلك أن لغة عمر بن الخطاب ، وأبي بن كعب ، وهشام بن حكيم ، وابن مسعود ، واحدة ، وقراءتهم مختلفة ، وخرجوا بها إلى المناكرة».

فأما الأحرف السبعة التي صوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القراءة بجميعها ـ وهي التي راجع فيها فزاده وسهل عليه لعلمه تعالى بما هم عليه من اختلافهم في اللغات ـ فلها سبعة أوجه ، وسبع قراءات مختلفات ، وطرائق يقرأ بها على اختلافها في جميع القرآن أو معظمه ، حسبما تقتضيه العبارة في قوله : «أنزل القرآن» فإنما يريد به الجميع أو المعظم ، فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها ويدل على ذلك قول الناس : حرف أبيّ وحرف ابن مسعود ، ونقول في الجملة إن القرآن منزل على سبعة أحرف من اللغات ، والإعراب ، وتغيير الأسماء والصور ، وإن ذلك مفترق في كتاب الله ليس بموجود في حرف واحد ، وسورة واحدة ، يقطع على اجتماع ذلك فيها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : انتهى ما جمعت من كلام القاضي أبي بكر رضي الله عنه ، وإطلاقه البطلان على القول الذي حكاه فيه نظر ، لأن المذهب الصحيح الذي قرره آخرا من قوله


«ونقول في الجملة» إنما صح وترتب من جهة اختلاف لغات العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، وهو اختلاف ليس بشديد التباين حتى يجهل بعضهم ما عند بعض في الأكثر ، وإنما هو أن قريشا استعملت في عباراتها شيئا ، واستعملت هذيل شيئا غيره في ذلك المعنى ، وسعد بن بكر غيره ، والجميع كلامهم في الجملة ولغتهم.

واستدلال القاضي رضي الله عنه بأن لغة عمر وأبيّ وهشام وابن مسعود واحدة فيه نظر ، لأن ما استعملته قريش في عبارتها ومنهم عمر وهشام ، وما استعملته الأنصار ومنهم أبيّ وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود ، قد يختلف ، ومن ذلك النحو من الاختلاف هو الاختلاف في كتاب الله سبحانه ، فليست لغتهم واحدة في كل شيء ، وأيضا فلو كانت لغتهم واحدة بأن نفرضهم جميعا من قبيلة واحدة ، لما كان اختلافهم حجة على من قال : إن القرآن أنزل على سبع لغات لأن مناكرتهم لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس في لغته فأنكره ، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعساه قد أقرأه ما ليس من لغته واستعمال قبيلته.

فكأن القاضي رحمه‌الله ، إنما أبطل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصد في قوله : على سبعة أحرف عد اللغات التي تختلف بجملتها وأن تكون سبعا متباينة لسبع قبائل تقرأ كل قبيلة القرآن كله بحرفها ولا تدخل عليها لغة غيرها ، بل قصد النبي عليه‌السلام ـ عنده ـ عد الوجوه والطرائق المختلفة في كتاب الله مرة من جهة لغة ، ومرة من جهة إعراب ، وغير ذلك ، ولا مرية أن هذه الوجوه والطرائق إنما اختلفت لاختلاف في العبارات بين الجملة التي نزل القرآن بلسانها وذلك يقال فيه اختلاف لغات.

وصحيح أن يقصد عليه‌السلام عد الأنحاء والوجوه التي اختلفت في القرآن ، بسبب اختلاف عبارات اللغات.

وصحيح أن يقصد عد الجماهير والرؤوس من الجملة التي نزل القرآن بلسانها ، وهي قبائل مضر فجعلها سبعة ، وهذا أكثر توسعة للنبي عليه‌السلام ، لأن الانحاء تبقى غير محصورة ، فعسى أن الملك أقرأه بأكثر من سبعة طرائق ووجوه.

قال القاضي في كلامه المتقدم : «فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها».

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والشرط الذي يصح به هذا القول هو أن تروى عن النبيعليه‌السلام ، ومال كثير من أهل العلم كأبي عبيد ، وغيره ، إلى أن معنى الحديث المذكور أنه أنزل على سبع لغات لسبع قبائل انبث فيه من كل لغة منها ، وهذا القول هو المتقرر من كلام القاضي رضي الله عنه وقد ذكر بعضهم قبائل من العرب روما منهم أن يعينوا السبع التي يحسن أن تكون مراده عليه‌السلام ، نظروا في ذلك بحسب القطر ومن جاور منشأ النبي عليه‌السلام. واختلفوا في التسمية وأكثروا ، وأنا ألخص الغرض جهدي بحول الله :

فأصل ذلك وقاعدته قريش ، ثم بنو سعد بن بكر ، لأن النبي عليه‌السلام قرشي ، واسترضع في بني سعد ، ونشأ فيهم ، ثم ترعرع وعقت تمائمه وهو يخالط في اللسان كنانة ، وهذيلا ، وثقيفا ، وخزاعة ،


وأسدا ، وضبة ، وألفافها لقربهم من مكة ، وتكرارهم عليها ، ثم بعد هذه تميما ، وقيسا ، ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب ، فلما بعثه الله تعالى ويسر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة ، وهي التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف ، وهي اختلافاتها في العبارات حسبما تقدم.

قال ثابت بن قاسم : «لو قلنا من هذه الأحرف لقريش ، ومنها لكنانة ، ومنها لأسد ، ومنها لهذيل ، ومنها لتميم ، ومنها لضبة وألفافها ، ومنها لقيس ، لكان قد أتى على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعي اللغات التي نزل بها القرآن».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا نحو ما ذكرناه ، وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة ، وسلمت لغاتها من الدخيل ويسرها الله لذلك ليظهر آية نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه ، وسبب سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز ونجد وتهامة فلم تطرقها الأمم ، فأما اليمن وهي جنوبي الجزيرة فأفسدت كلام عربه خلطة الحبشة والهنود ، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام ، وأبا العباس المبرد ، قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن كالعرم والفتاح. فأما ما انفردوا به كالزخيخ ، والقلوبي ، ونحوه ، فليس في كتاب الله منه شيء.

وأما ما والى العراق من جزيرة العرب ، وهي بلاد ربيعة ، وشرقي الجزيرة ، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس ، والنبط ، ونصارى الحيرة ، وغير ذلك.

وأما الذي يلي الشام وهو شمالي الجزيرة وهي بلاد آل جفنة ، وابن الرافلة ، وغيرهم. فأفسدها مخالطة الروم ، وكثير من بني إسرائيل.

وأما غربي الجزيرة فهي جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم وأكثرها غير معمور. فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم ، ويقوي هذا المنزع أنه لما اتسع نطاق الإسلام وداخلت الأمم العرب وتجرد أهل المصرين : البصرة ، والكوفة ، لحفظ لسان العرب ، وكتب لغتها لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة ، ومن كان معها ، وتجنبوا اليمن ، والعراق ، والشام ، فلم يكتب عنهم حرف واحد. وكذلك تجنبوا حواضر الحجاز مكة ، والمدينة ، والطائف. لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها فأفسدوا اللغة. وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سليمة لقلة المخالطة.

فمعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش ، ومرة بعبارة هذيل ، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة. ألا ترى أن فطر معناها عند غير قريش ابتدأ خلق الشيء وعمله فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما : «أنا فطرتها» قال ابن عباس : «ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١ ، الزمر : ٤٦].


وقال أيضا : «ما كنت أدري معنى قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف: ٨٩] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك».

وكذلك قال عمر بن الخطاب ، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) [النحل : ٤٧] فوقف به فتى فقال : «إن أبي يتخوفني حقي» فقال عمر : «الله أكبر ، أو يأخذهم على تخوف أي على تنقص لهم».

وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الصلاة : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) [ق : ١٠] ، ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر ، إلى غير هذا من الأمثلة.

فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف ، ولم تقع الإباحة في قوله عليه‌السلام : «فاقرؤوا ما تيسر منه» بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه. ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي عليه‌السلام ليوسع بها على أمته ، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما ، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا.

وفي صحيح البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرأني جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».

وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها ، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءة كل منهما ـ وقد اختلفتا ـ : هكذا أقرأني جبريل؟ هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة. وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [المزمل : ٦] ، فقيل له : إنما تقرأ وأقوم ، فقال أنس : «أصوب وأقوم وأهيأ واحد». فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قول الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وافترق الصحابة في البلدان ، وجاء الخلف وقرأ القرآن كثير من غير العرب ، وقع بين أهل الشام والعراق ما ذكر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، وذلك أنهم لما اجتمعوا في غزوة أرمينية ، فقرأت كل طائفة بما روي لها ، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض : «أنا كافر بما تقرأ به» فأشفق حذيفة مما رأى منهم. فلما قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاري وغيره دخل إلى عثمان بن عفان قبل أن يدخل بيته ، فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك ، قال : فيما ذا؟ قال : في كتاب الله ، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق ، ومن الشام ، ومن الحجاز ، فوصف له ما تقدم وقال : إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى ، قال عثمان رضي الله عنه : أفعل ، فتجرد للأمر ، واستناب الكفاة العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفصح


اللغات ، وقال لهم : «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش».

فمعنى هذا إذا اختلفتم فيما روي ، وإلا فمحال أن يحيلهم على اختلاف من قبلهم ، لأنه وضع قرآن فكتبوا في القرآن من كل اللغات السبع ، مرة من هذه ، ومرة من هذه ، وذلك مقيد بأن الجميع مما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء عليه ، واستمر الناس على هذا المصحف المتخير وترك ما خرج عنه مما كان كتب سدا للذريعة وتغليبا لمصلحة الألفة وهي المصاحف التي أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه أن تحرق أو تخرق.

فأما ابن مسعود فأبى أن يزال مصحفه فترك ، ولكن أبى العلماء قراءته سدا للذريعة ، ولأنه روي أنه كتب فيه أشياء على جهة التفسير فظنها قوم من التلاوة فتخلط الأمر فيه ولم يسقط فيما ترك معنى من معاني القرآن لأن المعنى جزء من الشريعة ، وإنما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الذي أثبت.

ثم إن القراء في الأمصار تتبعوا ما روي لهم من اختلافات لا سيما فيما وافق خط المصحف ، فقرؤوا بذلك حسب اجتهاداتهم ، فلذلك ترتب أمر القراء السبعة وغيرهم رحمهم‌الله ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة وبها يصلى لأنها ثبتت بالإجماع.

وأما شاذ القراءات فلا يصلى به ، وذلك لأنه لم يجمع الناس عليه. أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين لا يعتقد فيه إلا أنهم رووه.

وأما ما يؤثر عن أبي السمال ومن قاربه فلا يوثق به وإنما أذكره في هذا الكتاب لئلا يجهل والله المستعان.

وكان المصحف غير مشكول ولا منقوط ، وقد وقع لبعض الناس خلاف في بعض ما ذكرته في هذا الباب ومنازعات اختصرت ذلك كراهة التطويل وعولت على الأسلوب الواضح الصحيح ، والله المرشد للصواب برحمته.


(باب ذكر جمع القرآن وشكله

ونقطه وتحزيبه وتعشيره)

كان القرآن في مدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متفرقا في صدور الرجال ، وقد كتب الناس منه في صحف ، وفي جريد ، وظرر وفي لخاف وفي خزف وغير ذلك ، فلما استحرّ القتل بالقراء يوم اليمامة أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن ، مخافة أن يموت أشياخ القراءة كأبيّ وزيد وابن مسعود فيذهب ، فندبا إلى ذلك زيد بن ثابت فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد منه رضي الله عنه.

وروي أن في هذا الجمع سقطت الآية من آخر براءة حتى وجدها عند خزيمة بن ثابت. وحكى الطبري أنه إنما سقطت له في الجمع الأخير ، والأول أصح. وهو الذي حكى البخاري إلا أنه قال فيه مع أبي خزيمة الأنصاري ، وقال : إن في الجمع الثاني فقد زيد آية من سورة الأحزاب (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) [الأحزاب : ٣٣] فوجدها مع خزيمة بن ثابت ، وبقيت الصحف عند أبي بكر ، ثم عند عمر بن الخطاب بعده ، ثم عند حفصة بنته في خلافة عثمان ، وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة كمصحف ابن مسعود وما كتب عن الصحابة بالشام ومصحف أبيّ وغير ذلك ، وكان في ذلك اختلاف حسب السبعة الأحرف التي أنزل القرآن عليها.

فلما قدم حذيفة من غزوة أرمينية حسبما قد ذكرناه انتدب عثمان لجمع المصحف وأمر زيد بن ثابت بجمعه ، وقرن بزيد فيما ذكر البخاري ثلاثة من قريش : سعيد بن العاصي ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ، وكذلك ذكر الترمذي وغيرهما.

وقال الطبري فيما روي : إنه قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاصي وحده ، وهذا ضعيف.

وقال الطبري أيضا : إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير. وروي أن عثمان رضي الله عنه قال لهم : «إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش» ، فاختلفوا في التابوه والتابوت ، قرأه زيد بن ثابت بالهاء والقرشيون بالتاء ، فأثبته بالتاء ، وكتب المصحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ عثمان منه نسخا ووجه بها إلى الآفاق ، وأمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق ، وتروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى : ثم تدفن. ورواية الحاء غير منقوطة أحسن.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وترتيب السور اليوم هو من تلقاء زيد ومن كان معه مع مشاركة من عثمان رضي الله عنه في ذلك وقد ذكر ذلك مكي رحمه‌الله في تفسير سورة «براءة». وذكر أن ترتيب الآيات


في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.

هذا أحد ما قيل في براءة ، وذلك مستقصى في موضعه موفى إن شاء الله تعالى. وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتبا في زمن النبي عليه‌السلام ، وكان في السور ما لم يرتب ، فذلك هو الذي رتب وقت الكتب.

وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه وأمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك ، وألف إثر ذلك بواسط كتاب في القراءات ، جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات. وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر.

وذكر أبو الفرج أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود بنقط المصاحف.

وذكر الجاحظ في كتاب الأمصار أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف وكان يقال له نصر الحروف.

وأما وضع الأعشار فيه فمر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل إن الحجاج فعل ذلك.

وذكر أبو عمرو الداني عن قتادة أنه قال : بدؤوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا ، وهذا كالإنكار.


(باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله

وللغات العجم بها تعلق)

اختلف الناس في هذه المسألة ، فقال أبو عبيدة وغيره : إن في كتاب الله تعالى من كل لغة ، وذهب الطبري وغيره إلى أن القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة وأن الأمثلة والحروف التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغتان فتكلمت بها العرب والفرس أو الحبشة بلفظ واحد ، وذلك مثل قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) [المزمل : ٦] قال ابن عباس : نشأ بلغة الحبشة قام من الليل ، ومنه قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨].

قال أبو موسى الأشعري : كفلان ضعفان من الأجر بلسان الحبشة وكذلك قال ابن عباس في القسورة إنها الأسد بلغة الحبشة إلى غير هذا من الأمثلة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي أقوله إن القاعدة والعقيدة هي أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ، فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب فلا تفهمها إلا من لسان آخر ، فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش ، وكسفر مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس إلى الشام ، وسفر عمر بن الخطاب ، وكسفر عمرو بن العاصي وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة ، وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة ، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها ، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة ، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح ، ووقع بها البيان ، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن ، فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره ، كما لم يعرف ابن عباس معنى «فاطر» إلى غير ذلك فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية ، لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه ، وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد ، بل إحداهما أصل ، والأخرى فرع في الأكثر ، لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.


نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن

اختلف الناس في إعجاز القرآن بم هو؟ فقال قوم : «إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، وإن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق ، وفيه وقع عجزها».

وقال قوم : «إن التحدي وقع بما في كتاب الله تعالى من الأنباء الصادقة ، والغيوب المسرودة».

وهذان القولان إنما يرى العجز فيهما من قد تقررت الشريعة ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه. وأما من هو في ظلمة كفره فإنما يتحدى فيما يبين له بينه وبين نفسه عجزه عنه ، وأن البشر لا يأتي بمثله ويتحقق مجيئه من قبل المتحدي ، وكفار العرب لم يمكنهم قط أن ينكروا أن رصف القرآن ونظمه وفصاحته متلقى من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا تحديت إلى ذلك وعجزت فيه علم كل فصيح ضرورة أن هذا نبي يأتي بما ليس في قدرة البشر الإتيان به ، إلا أن يخص الله تعالى من يشاء من عباده.

وهذا هو القول الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه أن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه.

ووجه إعجازه أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا.

فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : «إن العرب كان من قدرتها أن تأتي بمثل القرآن فلما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه».

والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل ، كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.

ألا ترى ميز الجارية نفس الأعشى وميز الفرزدق نفس جرير من نفس ذي الرمة ونظر الأعرابي في قوله : «عز فحكم فقطع» إلى كثير من الأمثلة اكتفيت بالإشارة إليها اختصارا.


فصورة قيام الحجة بالقرآن على العرب أنه لما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به وقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] قال كل فصيح في نفسه : وما بال هذا الكلام حتى لا آتي بمثله؟ فلما تأمله وتدبره ، ميز منه ما ميز الوليد بن المغيرة حين قال : «والله ما هو بالشعر ولا هو بالكهانة ولا بالجنون» وعرف كل فصيح بينه وبين نفسه أنه لا يقدر بشر على مثله ، فصح عنده أنه من عند الله تعالى.

فمنهم من آمن وأذعن ، ومنهم من حسد كأبي جهل وغيره ففر إلى القتال ، ورضي بسفك الدم عجزا عن المعارضة ، حتى أظهر الله دينه ، ودخل جميعهم فيه ، ولم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الأرض قبيل من العرب يعلن كفره. وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة ، كما قامت الحجة في معجزة عيسى بالأطباء ، وفي معجزة موسى بالسحرة فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره ، فكأن السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته ، وكذلك الطب في زمن عيسى ، والفصاحة في مدة محمد عليهم الصلاة والسلام.


باب في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها

في تفسير كتاب الله تعالى

اعلم أن القصد إلى إيجاز العبارة قد يسوق المتكلم في التفسير إلى أن يقول : خاطب الله بهذه الآية المؤمنين وشرف الله بالذكر الرجل المؤمن من آل فرعون ، وحكى الله تعالى عن أم موسى أنها قالت :

«قصيه» ووقف الله ذرية آدم على ربوبيته بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ونحو هذا من إسناد أفعال إلى الله تعالى لم يأت إسنادها بتوقيف من الشرع.

وقد استعمل هذه الطريقة المفسرون والمحدثون والفقهاء ، واستعملها أبو المعالي في الإرشاد ، وذكر بعض الأصوليين أنه لا يجوز أن يقال : حكى الله ولا ما جرى مجراه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا على تقرير هذه الصفة له وثبوتها مستعملة كسائر أوصافه تبارك وتعالى ، وأما إذا استعمل ذلك في سياق الكلام والمراد منه حكت الآية أو اللفظ فذلك استعمال عربي شائع وعليه مشى الناس ، وأنا أتحفظ منه في هذا التعليق جهدي ، لكني قدمت هذا الباب لما عسى أن أقع فيه نادرا ، واعتذارا عما وقع فيه المفسرون من ذلك.

وقد استعملت العرب أشياء في ذكر الله تعالى تنحمل على مجاز كلامها ، فمن ذلك قول أبي عامر يرتجز بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاغفر فداء لك ما اقتفينا». وقول أم سلمة : فعزم الله لي في الحديث في موت أبي سلمة وإبدال الله لها منه رسول الله. ومن ذلك قولهم : الله يدري كذا وكذا والدراية إنما هي التأتي للعلم بالشيء حتى يتيسر ذلك.

قال أبو علي : «واحتج بعض أهل النظر على جواز هذا الإطلاق بقول الشاعر الجوهري : [الرجز].

لا همّ لا أدري وأنت الداري

قال أبو علي : «وهذا لا ثبت فيه لأنه يجوز أن يكون من غلط الاعراب».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وكذلك أقول إن الطريقة كلها عربية لا يثبت للنظر المنخول شيء منها. وقد أنشد بعض البغداديين : [الرجز].

لا همّ إن كنت الذي بعهدي

ولم تغيرك الأمور بعدي

وقد قال العجاج : فارتاح ربي وأراد رحمتي.

وقال الآخر : قد يصبح الله إمام الساري.


وقال الآخر :

يا فقعسيّ لم أكلته لمه

لو خافك الله عليه حرّمه

وقال أوس :

أبني لبينى لا أحبّكم

وجد الإله بكم كما أجد

وقال الآخر :

وإنّ الله ذاق عقول تيم

فلمّا راء خفّتها قلاها

ومن هذا الاستعمال الذي يبنى الباب عليه قول سعد بن معاذ : «عرّق الله وجهك في النار» يقول هذا للرامي الذي رماه ، وقال : «خذها وأنا ابن العرقة».

وفي هذه الأمثلة كفاية فيما نحوناه إذ النظير لذلك كثير موجود ، وإن خرج شيء من هذه على حذف مضاف فذلك متوجه في الاستعمال الذي قصدنا الاعتذار عنه والله المستعان.


باب في تفسير أسماء القرآن

وذكر السورة والآية

هو القرآن ، وهو الكتاب ، وهو الفرقان ، وهو الذكر ، فالقرآن مصدر من قولك : قرأ الرجل إذا تلا يقرأ قرآنا وقراءة ، وحكى أبو زيد الأنصاري : وقرءا. وقال قتادة : «القرآن معناه التأليف قرأ الرجل إذا جمع وألف قولا» وبهذا فسر قتادة قول الله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] أي تأليفه ، وهذا نحو قول الشاعر عمرو بن كلثوم : [الوافر]

ذراعي بكرة أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

أي لم تجمع في بطنها ولدا فهو أفره لها ، والقول الأول أقوى إن القرآن مصدر من قرأ إذا تلا ، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه : [البسيط].

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

أي قراءة.

وأما الكتاب فهو مصدر من كتب إذا جمع. ومنه قيل كتيبة لاجتماعها. ومنه قول الشاعر : «واكتبها بأسيار» أي اجمعها.

وأما الفرقان أيضا فهو مصدر لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر ، فرقا وفرقانا.

وأما الذكر فسمي به لأنه ذكر به الناس آخرتهم وإلههم وما كانوا في غفلة عنه فهو ذكر لهم ، وقيل سمي بذلك لأنه فيه ذكر الأمم الماضية والأنبياء ، وقيل : سمي بذلك لأنه ذكر وشرف لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه وسائر العلماء به.

وأما السورة فإن قريشا كلها ومن جاورها من قبائل العرب كهذيل ، وسعد بن بكر ، وكنانة ، يقولون : سورة بغير همز ، وتميم كلها وغيرهم أيضا يهمزون فيقولون : سؤر وسؤرة.

فأما من همز فهي عنده كالبقية من الشيء والقطعة منه التي هي سؤر وسؤرة من أسأر إذا أبقى. ومنه «سؤر الشراب» ومنه قول الأعشى ـ وهو ميمون بن قيس ـ : [المتقارب]

فبانت وقد أسأرت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا

أي أبقت فيه.

وأما من لا يهمز فمنهم من يراها من المعنى المتقدم إلا أنها سهلت همزتها. ومنهم من يراها مشبهة


بسورة البناء أي القطعة منه ، لأن كل بناء فإنما يبنى قطعة بعد قطعة ، وكل قطعة منها سورة ، وجمع سورة القرآن سور بفتح الواو ، وجمع سورة البناء سور بسكونها.

قال أبو عبيدة : «إنما اختلفا في هذا فكأن سور القرآن هي قطعة بعد قطعة حتى كمل منها القرآن». ويقال أيضا للرتبة الرفيعة من المجد والملك سورة. ومنه قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر : [الطويل].

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

فكأن الرتبة انبنت حتى كملت.

وأما الآية فهي العلامة في كلام العرب. ومنه قول الأسير الموصي إلى قومه باللّغز : «بآية ما أكلت معكم حيسا».

فلما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها وعلى عجز المتحدى بها سمّيت آية. هذا قول بعضهم ، وقيل سميت آية لما كانت جملة وجماعة كلام كما تقول العرب : «جئنا بآيتنا» أي بجماعتنا. وقيل : لما كانت علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها سميت آية. ووزن آية عند سيبويه فعلة بفتح العين أصلها أيية تحركت الياء الأولى وما قبلها مفتوح فجاءت آية.

وقال الكسائي : «أصل آية آيية على وزن فاعلة ، حذفت الياء الأولى مخافة أن يلتزم فيها من الإدغام ما لزم في دابة».

وقال مكي في تعليل هذا الوجه : «سكّنت الأولى وأدغمت فجاءت آية على وزن دابة ، ثم سهلت الياء المثقلة» ، وقيل : أصلها أية على وزن فعلة بسكون العين ، أبدلت الياء الساكنة ألفا استثقالا للتضعيف ، قاله الفراء ، وحكاه أبو علي عن سيبويه في ترجمة (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) [آل عمران: ١٤٦].

وقال بعض الكوفيين : «أصلها أيية على وزن فعلة بكسر العين أبدلت الياء الأولى ألفا لثقل الكسر عليها وانفتاح ما قبلها».


باب القول في الاستعاذة

قال الله عزوجل : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨].

معناه : إذا أردت أن تقرأ وشرعت فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته. وأجمع العلماء على أن قول القارئ : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب الله. وأجمعوا على استحسان ذلك والتزامه في كل قراءة في غير صلاة ، واختلفوا في التعوذ في الصلاة ، فابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وقوم ، يتعوذون في الصلاة في كل ركعة ، ويمتثلون أمر الله بالاستعاذة على العموم في كل قراءة ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ، ويريان أن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة. ومالك رحمه‌الله لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ، ويراه في قيام رمضان. ولم يحفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تعوذ في صلاة.

وحكى الزهري عن الحسن أنه قال : «نزلت الآية في الصلاة ، وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض».

قال غيره : «كانت فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، ثم تأسينا به».

وأما لفظ الاستعاذة فالذي عليه جمهور الناس هو لفظ كتاب الله تعالى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

وروي عن ابن عباس أنه قال : «أول ما نزل جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : قل يا محمد : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : بسم الله الرّحمن الرّحيم».

وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه‌الله : أن الاستعاذة «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرّحمن الرّحيم».

وأما المقرءون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى كقول بعضهم: «أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد». ونحو هذا مما لا أقول فيه نعمت البدعة ولا أقول إنه لا يجوز.

ومعنى الاستعاذة : الاستجارة ، والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه ، والكلام على المكتوبة يجيء في بسم الله فذلك الموضع أولى به.


وأما الشيطان فاختلف الناس في اشتقاقه ، فقال الحذاق : «هو فيعال من شطن إذا بعد لأنه بعد عن الخير ورحمة الله». ومن اللفظة قولهم : نوى شطون ، أي بعيدة.

قال الأعشى : [الوافر].

نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها رهين

ومنه قيل للحبل شطن ، لبعد طرفيه وامتداده ، وقال قوم : إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هاج وأحرق ونحوه ، إذ هذه أفعاله ، فهو فعلان.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل أفاعيل الشياطين ، فهذا بين أنه تفعيل من شطن ، ولو كان من شاط لقالوا تشيط. ويرد أيضا عليهم بيت أمية بن أبي الصلت : [الخفيف].

أيّما شاطن عصاه عكاه

ثمّ يلقى في السّجن والأكبال

فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.

وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول ، كقتيل وجريح ونحوه ، ومعناه أنه رجم باللعنة ، والمقت ، وعدم الرحمة.

قال المهدوي رحمه‌الله : «أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة الحمد إلا حمزة فإنه أسرها».

وروى المسيب عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة.


(القول في تفسير

بسم الله الرحمن الرحيم)

روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال : «البسملة تيجان السور».

وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعس الشيطان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقل ذلك ، فإنه يتعاظم عنده ، ولكن قل : «بسم الله الرحمن الرحيم» فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب».

وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٦] قال : «معناه إذا قلت : «بسم الله الرحمن الرحيم».

وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «كيف تفتتح الصلاة يا جابر؟ قلت : بالحمد لله رب العالمين. قال : قل : بسم الله الرحمن الرحيم».

وروى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد ، ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» ، قال : فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك ، فقال لي : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال : فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها.

ويرده الحديث الصحيح بقوله عزوجل : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين».

ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن أبي بكر ، ولا عن عمر ، ولا عثمان ، رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم : «بسم الله الرحمن الرحيم».

ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات ، إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات ، وهذا شاذ لا يعول عليه وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] آية ، فهي على عده ثماني آيات ، وهذا أيضا شاذ. وقول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر : ٨٧] هو الفصل في


ذلك. والشافعي ـ رحمه‌الله ـ يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية من الحمد ، وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧]. ومالك ـ رحمه‌الله ـ ، وأبو حنيفة ، وجمهور الفقهاء ، والقراء ، لا يعدون البسملة آية. والذي يحتمله عندي حديث جابر ، وأبي هريرة ـ إذا صحّا ـ أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية. وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم ، ولم يفعل ذلك مع أبيّ لأنها قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها ، فلم يدخل معها ما ليس منها ، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة ، والله أعلم.

وقال ابن المبارك : «إن البسملة آية في كل سورة» ، وهذا قول شاذ رد الناس عليه. وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكتب «باسمك اللهم» ، حتى أمر أن يكتب «بسم الله» فكتبها. فلما نزلت (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠] كتب : «بسم الله الرحمن». فلما نزلت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠] كتبها.

وروى عمرو بن شرحبيل : أن جبريل أول ما جاء النبي عليه‌السلام قال له : قل : «بسم الله الرحمن الرحيم».

وروي عن ابن عباس : أن أول ما نزل به جبريل : «بسم الله الرحمن الرحيم». وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ورقة ، أن جبريل قال للنبي عليهما‌السلام : قل : «بسم الله الرحمن الرحيم» فقالها : فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ... الحديث.

والبسملة تسعة عشر حرفا. فقال بعض الناس : إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم ، لكل حرف ملك ، وهم يقولون في كل أفعالهم : «بسم الله الرحمن الرحيم» فمن هنالك هي قوتهم ، وباسم الله استضلعوا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه من ملح التفسير ، وليست من متين العلم ، وهي نظير قولهم في ليلة القدر : «إنها ليلة سبع وعشرين» ، مراعاة للفظة هي في كلمات سورة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [القدر : ١] ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : «ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا ، قالوا : فلذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول». والباء في : بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتداء مستقر أو ثابت بسم الله وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم الله ، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين ، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين ، كذا أطلق القول قوم ، والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم ، وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة : في الدار من قولك زيد في الدار ، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها ، أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء فخصت بالخفض الذي


لا يكون إلا في الأسماء ، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى: [البسيط].

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل

وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال. واختلف النحاة إذا كتب «باسم الرحمن وباسم القاهر» فقال الكسائي وسعيد الأخفش : «يحذف الألف». وقال يحيى بن زياد : «لا تحذف إلا مع بسم الله فقط ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.

واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها ، وهو عند البصريين مشتق من السمو. يقال : سما يسمو ، فعلى هذا تضم السين في قولك سمو ويقال : سمي يسمى فعلى هذا تكسر ، وحذفت الواو من سمو ، وكسرت السين من سم ، كما قال الشاعر : [الرجز].

باسم الذي في كلّ سورة سمه

وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس ، وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير سمّي ، وفي الجمع أسماء ، وفي جمع الجمع أسامي.

وقال الكوفيون : أصل اسم وسم من السمة ، وهي العلامة. لأن الاسم علامة لمن وضع له ، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس ، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي. وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير وسيم ، وفي الجمع أوسام ، لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد؟

وقال الطبري رحمه‌الله : إنه ليس بموضع للمسألة ، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها ، ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها ، فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات ، كقولك زيد قائم والأسد شجاع ، وقد يراد به التسمية ذاتها ، كقولك أسد ثلاثة أحرف ، ففي الأول يقال الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى وفي الثاني لا يراد به المسمى. ومن الورود الأول قولك يا رحمن اغفر لي ، وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١] ومن الورود الثاني قولك : الرحمن وصف لله تعالى. وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم ، فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات. يقال : ذات ، ونفس ، واسم ، وعين ، بمعنى. وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٧٨]. وقوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [يوسف : ٤٠]. وعضدوا ذلك بقول لبيد : [الطويل].

إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر


وقالوا : إن لبيدا أراد التحية ، وقد يجري «اسم» في اللغة مجرى ذات العبارة ، وهو الأكثر من استعمالها ، فمنه قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] على أشهر التأويلات فيه. ومنه قول النبي عليه‌السلام : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» ، وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا : أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات ، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى ، وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها. ومر بي أن مالكا رحمه‌الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال : «ليس به ولا هو غيره» ، يريد دائما في كل موضع ، وهذا موافق لما قلناه ، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا ، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب ، وإنما تجيء الأخر أوصافا ، واختلف الناس في اشتقاقه ، فقالت فرقة من أهل العلم : «هو اسم مرتجل ، لا اشتقاق له من فعل ، وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى ، والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره ، بل هكذا وضع الاسم». وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد ، وتأله إذا تنسك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج : [الرجز]

لله در الغانيات المدّه

سبّحن واسترجعن من تألّهي

ومن ذلك قول الله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال : وعبادتك ، قالوا : فاسم الله مشتق من هذا الفعل ، لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده ، حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا.

واختلف كيف تعلل إله حتى جاء الله ، فقيل : حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه ، وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء اللاه ثم أدغمت اللام في اللام. وقيل إن أصل الكلمة لاه ، وعليه دخلت الألف واللام ، والأول أقوى.

وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة ، وقيل إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير ، لأنه ـ تعالى ـ تتحير الألباب في حقائق صفاته ، والفكر في المعرفة به ، وحذفت الألف الأخيرة من «الله» لئلا يشكل بخط اللات ، وقيل طرحت تخفيفا ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي : [الرجز]

أقبل سيل جاء من أمر الله

يحرد حرد الجنّة المغلّة

والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان ، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر ، وهي أبلغ من فعيل ، وفعيل أبلغ من فاعل ، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك ، والرحمن النهاية في الرحمة. وقال بعض الناس : «الرحمن الرحيم» بمعنى واحد ، كالندمان والنديم ، وزعم أنهما من فعل واحد ، ولكن أحدهما أبلغ من الآخر. وأما المفسرون فعبروا عن «الرحمن الرحيم» بعبارات ، فمنها أن العرزمي قال : «معناه : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم ، واللطف بهم» ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :


«الرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة».

وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣] وهذه كلها أقوال تتعاضد. وقال عطاء الخراساني : «كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله ـ سبحانه ـ لنفسه : «الرحمن الرحيم» فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى» وهذا قول ضعيف ، لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة. وأيضا فتسمي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت. وقال قوم : إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن ، ولا كانت في لغتها ، واستدلوا على ذلك بقول العرب : «وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا» وهذا القول ضعيف ، وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له ، لا على نفس اللفظة.

واختلف في وصل الرحيم بالحمد ، فروي عن أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرحيم الحمد تسكن الميم ويوقف عليها ويبتدأ بألف مقطوعة ، وقرأ به قوم من الكوفيين ، وقرأ جمهور الناس الرحيم الحمد يعرب الرحيم بالخفض ، وتوصل الألف من الحمد ، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ ، والأول أخصر.

وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ، ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت ، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى : (الم اللهُ).


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفاتحة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (٧)

قال ابن عباس ، وموسى بن جعفر عن أبيه ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، ومحمد بن يحيى بن حبان : إنها مكية ، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر : ٨٧] والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني ، والسبع الطّول نزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين.

وروي عن عطاء بن يسار ، وسوادة بن زياد ، والزهري محمد بن مسلم ، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية.

وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب ، لأن موضعها يعطي ذلك ، واختلف هل يقال لها أم الكتاب ، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال : «أم الكتاب والحلال والحرام». قال الله تعالى : (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧].

وقال ابن عباس وغيره : «يقال لها أم الكتاب».

وقال البخاري : سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة ، وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، واختلف هل يقال لها أم القرآن؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء.

قال يحيى بن يعمر : «أم القرى مكة ، وأم خراسان مرو ، وأم القرآن سورة الحمد».

وقال الحسن بن أبي الحسن : اسمها أم القرآن. وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها.


وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها». ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني ، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل ، وكذلك يجيء عدل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وعدل (زُلْزِلَتِ) [الزلزلة : ١].

وروى أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحمد لله رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام». وورد حديث آخر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة».

وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجرا طالب ثواب ، لأن قوله الحمد لله في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قول لا إله إلا الله توحيد فقط. فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة ومحلهما من رفع الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل ، والحاكم بذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله».

(الْحَمْدُ) معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، وشكره حمد ما ، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا ، فالحامد من الناس قسمان : الشاكر والمثني بالصفات.

وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، وذلك غير مرضي.

وحكي عن بعض الناس أنه قال : «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه ، والحمد ثناء بأوصافه».

قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكرا. وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمد لله».

وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمد لله» بفتح الدال وهذا على إضمار فعل.

وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي : «الحمد لله» ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني.

وروي عن ابن أبي عبلة : «الحمد لله» ، بضم الدال واللام ، على اتباع الثاني والأول.

قال الطبري : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال : «قولوا الحمد لله» وعلى هذا يجيء «قولوا إياك» قال : وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :

وأعلم أنني سأكون رمسا

إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم

فقال القائلون لهم وزير


المعنى المحفور له وزير ، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، وهذا كثير.

وقرأت طائفة «ربّ» بالنصب.

فقال بعضهم : «هو نصب على المدح».

وقال بعضهم : «هو على النداء ، وعليه يجيء (إِيَّاكَ).

والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، والملك ، ـ تأتي اللفظة لهذه المعاني ـ.

فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى] :

أربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثّعالب

ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم : رب العبيد والمماليك.

ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد :

وأهلكن يوما ربّ كندة وابنه

وربّ معدّ بين خبت وعرعر

ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة :

تخبّ إلى النعمان حتّى تناله

فدى لك من ربّ طريفي وتالدي

ومن معنى الإصلاح قولهم : أديم مربوب ، أي مصلح ، قال الشاعر الفرزدق : [البسيط].

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت

سلاءها في أديم غير مربوب

ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين : «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن».

ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان : «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم». ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة : [الطويل].

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي

ومن قبل ربتني فضعت ربوب

وهذه الاستعمالات قد تتداخل ، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى.

و (الْعالَمِينَ) جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجاج. وقد تقدم القول في «الرحمن الرحيم».


واختلف القراء في قوله تعالى : ملك يوم الدين.

فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين».

قال الفارسي : «وكذلك قرأها قتادة والأعمش».

قال مكي : «وروى الزهري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها كذلك بالألف ، وكذلك قرأها أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وطلحة ، والزبير ، رضي الله عنهم».

وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين» ، وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملك يوم الدين». هذه رواية عبد الوارث عنه.

وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي.

وقرأ أبو حيوة «ملك» بفتح الكاف وكسر اللام.

وقرأ ابن السميفع ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وأبو صالح السمان ، وأبو عبد الملك الشامي «مالك» بفتح الكاف. وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله (إِيَّاكَ).

ورد الطبري على هذا وقال : «إن معنى السورة : قولوا الحمد لله ، وعلى ذلك يجيء (إِيَّاكَ) و (اهْدِنَا).

وذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب ، وبالعكس ، كقول أبي كبير الهذلي : [الكامل].

يا ويح نفسي كان جلدة خالد

وبياض وجهك للتراب الأعفر

وكما قال لبيد : [البسيط].

قامت تشكّى إليّ النفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

وكقول الله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن ، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض.

وقرأ أبو هريرة «مليك» بالياء وكسر الكاف.

قال أبو علي : ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك» ، وذلك جائز ، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز ، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض ، و «الملك» و «الملك» بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط ، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى ، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم : [الطويل] :

ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها


وهذا يصف طعنة فأراد شددت ، ومن ذلك قول أوس بن حجر : [الطويل].

فملّك بالليط تحت قشرها

كغرقىء بيض كنّه القيض من عل

أراد شدد ، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس ، والذي مفعول وليس بصفة لليط ، ومن ذلك قولهم : إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح ، كما قالوا : عقدة النكاح ، إذ النكاح موضع شد وربط ، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له ، وكذلك الملك ، واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك» ، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا. والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة ، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والاحكام ، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم ، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها ، كما لكل أحد في ملكه ، ثم عنده زيادة التملك ، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد ، فهو مالكه وملكه ، والقراءتان حسنتان.

وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير ، والدراهم ، والطير ، والبهائم ، ولا يقال ملكها ، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها ، وقد قال الله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران : ٢٦].

قال أبو بكر : «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف ، وفيه أيضا أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.

قال أبو بكر : والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «الملك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة ، والملك أفخم وأدخل في المدح ، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه ، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم ، لا ملك لغيره.

قال : والوجه لمن قرأ «مالك» أن يقول : إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه.

قال أبو الحسن الأخفش : «يقال «ملك» بين الملك ، بضم الميم ، ومالك بين «الملك» و «الملك» بفتح الميم وكسرها ، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى ، وروى بعض البغداديين لي في هذا الوادي «ملك» و «ملك» و «ملك» بمعنى واحد».


قال أبو علي : «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب «ملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله (رب العالمين) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير».

قال أبو علي ولا حجة في هذا ، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة ، تقدم العام ثم ذكر الخاص ، كقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر : ٢٤] ف (الْخالِقُ) يعم وذكر (الْمُصَوِّرُ) لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ، وكما قال تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] بعد قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها ، والتنبيه على وجوب اعتقادها ، والرد على الكفرة الجاحدين لها ، وكما قال تعالى : «الرحمن الرحيم» فذكر الرحمن الذي هو عام ، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣].

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وأيضا : فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله : [الطويل]

(ومن قبل ربتني فضعت ربوب)

وغير ذلك من الشواهد ، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» والجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله ، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح ، والإضافة إلى (يَوْمِ الدِّينِ) في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار ، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد ، وليس هذا كإضافة قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] ، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة ، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها ، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين» أنه يملك مجيئه ووقوعه ، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة ، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة ، وليس ظرفا اتسع فيه.

قال أبو علي : ومن قرأ «مالك يوم الدين» فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام ، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] فنصب (الشَّهْرَ) على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر ، ولو كان الشهر مفعولا للزم الصوم للمسافر ، لأن شهادته للشهر كشهادة المقيم ، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر : [الطويل].

ويوما شهدناه سليما وعامرا

والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء ، منها الملة. قال الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى ، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته دينا ، فيقال فلان حسن الدين ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤياه في قميص


عمر الذي رآه يجره : «قيل : فما أولته يا رسول الله؟ قال : الدين» وقال علي بن أبي طالب : «محبة العلماء دين يدان به». ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة. فمنه قول العرب في الريح : «عادت هيف لأديانها». ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

كدينك من أمّ الحويرث قبلها

ومنه قول الشاعر : [المثقب العبدي] [الوافر] :

أهذا دينه أبدا وديني

إلى غير ذلك من الشواهد ، يقال دين ودينة أي عادة ، ومن أنحاء اللفظة : الدين سيرة الملك وملكته ، ومنه قول زهير : [البسيط].

لئن حللت بجوّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته ، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله ملك يوم الدين. ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء ، فمن ذلك قول الفند الزماني : [شهل بن شيبان] [الهزج].

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

أي جازيناهم. ومنه قول كعب بن جعيل : [المتقارب].

إذا ما رمونا رميناهم

ودناهم مثل ما يقرضونا

ومنه قول الآخر :

واعلم يقينا أنّ ملكك زائل

واعلم بأنّ كما تدين تدان

وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى : ملك يوم الدين أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها ، كذلك قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وقتادة وغيرهم.

قال أبو علي : يدل على ذلك قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧] ، و (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٨]. وحكى أهل اللغة : دنته بفعله دينا بفتح الدال ودينا بكسرها جزيته ، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم.

وقال مجاهد : ملك يوم الدين أي يوم الحساب ، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء. ومن أنحاء اللفظة الدين الذل ، والمدين العبد ، والمدينة الأمة ، ومنه قول الأخطل :

ربت وربا في حجرها ابن مدينة

تراه على مسحاته يتركّل

أي ابن أمة ، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن ، الميم أصيلة ، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره. وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب. ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة ، والديان السائس ، ومنه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث : [البسيط].

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

يوما ولا أنت دياني فتخزوني


ومن أنحاء اللفظة الدين الحال.

قال النضر بن شميل : «سألت أعرابيا عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك». ومن أنحاء اللفظة الدين الداء ، عن اللحياني وأنشد : [البسيط]

ما دين قلبك من سلمى وقد دينا

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو ، فلم يبق إلا قول اللحياني.

وقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله ، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك ، وقدم المفعول على الفعل اهتماما ، وشأن العرب تقديم الأهم.

ويذكر أن أعرابيا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له السابّ : «إياك أعني» فقال الآخر : «وعنك أعرض» فقدّما الأهم.

وقرأ الفضل الرقاشي : «أياك» بفتح الهمزة ، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد : «إياك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها ، وهذا كتخفيف «رب» و «إن» وقرأ أبو السوار الغنوي : «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين» بالهاء ، وهي لغة. واختلف النحويون في (إِيَّاكَ) فقال الخليل : إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف ، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب. وقال المبرد : إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ (إِيَّاكَ) بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره ، وحكي عن بعضهم أنه قال : الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر ، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات ، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا» عمادا لها. فيقال «إياك» و «إياه» و «إيّاي» ، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «ايا». وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب ، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم ، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيدا ما فعل.

و (نَعْبُدُ) معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة ، والطريق المذلل يقال له معبد ، وكذلك البعير. وقال طرفة : [الطويل].

تباري عتاق الناجيات وأتبعت

وظيفا وظيفا فوق مور معبد

وتكررت (إِيَّاكَ) بحسب اختلاف الفعلين ، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام.

و (نَسْتَعِينُ) معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا ، وهذا كله تبرؤ من الأصنام. وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي : «ونستعين» بكسر النون ، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل


بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحو علم وشرب ، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال ، فإنهم يقولون تخال وأخال.

و (نَسْتَعِينُ) أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، والمصدر استعانة أصله استعوانا نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفا ، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين ، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى ، فهي أولى بالبقاء ، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء ، ثم لزمت الهاء عوضا من المحذوف ، وقوله تعالى : (اهْدِنَا) رغبة لأنها من المربوب إلى الرب ، وهكذا صيغة الأمر كلها ، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر ، والهداية في اللغة الإرشاد ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد ، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد ، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس : ٢٥] وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥].

قال أبو المعالي : فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب ، وهو محض الإرشاد.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء ، من ذلك قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] أي داع وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد ، لأنه ابتداء إرشاد ، أجاب المدعو أو لم يجب ، وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام ، من ذلك قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥].

قال المفسرون : معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها». وهذا أيضا بين فيه معنى الإرشاد ، وقد جاء الهدى بمعنى البيان ، من ذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت : ١٧].

قال المفسرون : «معناه بينا لهم». قال أبو المعالي : معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [الليل : ١٢] أي علينا أن نبين ، وفي هذا كله معنى الإرشاد.

قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد: ٥] ومنه قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] معناه فاسلكوهم إليها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا ، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) على صحيح التأويل ، وذلك بين من لفظ (الصِّراطَ) ، والهدى لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : «هو مذكر» قال ابن سيده : «والهدى اسم من أسماء النهار» قال ابن مقبل : [البسيط].

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة

يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا


و (الصِّراطَ) في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير : [الوافر].

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم

ومنه قول الآخر : فصد عن نهج الصراط الواضح.

وحكى النقاش : «الصراط الطريق بلغة الروم».

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف جدا. واختلف القراء في (الصِّراطَ) فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء : «السراط» بالسين ، وهذا هو أصل اللفظة.

قال الفارسي : «ورويت عن ابن كثير بالصاد». وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع ، وحكاها سيبويه لغة.

قال أبو علي : روي عن أبي عمرو السين والصاد ، والمضارعة بين الصاد والزاي ، رواه عنه العريان بن أبي سفيان. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.

قال بعض اللغويين : «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه ، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا ، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا».

قال القاضي أبو محمد : وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي. وروي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة.

قال ابن مجاهد : «وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين ، وذلك أصعب على اللسان ، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم ، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع».

وقرأ الحسن والضحاك : «اهدنا صراطا مستقيما» دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق : «اهدنا صراط المستقيم» بالإضافة وقرأ ثابت البناني : «بصرنا الصراط». واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له (الصِّراطَ) في هذا الموضع وما المراد به ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) هنا القرآن» وقال جابر : «هو الإسلام» يعني الحنيفية. وقال : سعته ما بينالسماء والأرض. وقال محمد بن الحنفية : «هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره» وقال أبو العالية : «هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر». وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن ، فقال : صدق أبو العالية ونصح.

قال القاضي أبو محمد : ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين في معتقداته ، وفي التزامه لأحكام شرعه ، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام ، وهو حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه ، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال ، فمعنى قولهم (اهْدِنَا) فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام ، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه. وأقول إن كل داع به فإنما يريد (الصِّراطَ) بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته ، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد ب (اهْدِنَا) في


هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا ، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا ، وسائر وجوه الهداية يتجه ، و (الصِّراطَ) نصب على المفعول الثاني ، و (الْمُسْتَقِيمَ) الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح ، ودخول الجنة ، وإعلال مستقيم أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وصراط الذين بدل من الأول.

وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن الزبير : «صراط من أنعمت عليهم».

و (الَّذِينَ) جمع الذي ، وأصله «لذ» ، حذفت منه الياء للتنوين كما تحذف من عم ، وقاض ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء. و «الذي» اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد ، وهو مبني في إفراده وجمعه معرب في تثنيته. ومن العرب من يعرب جمعه ، فيقول في الرفع اللذون ، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفا لكثرة الاستعمال ، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم.

فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ، وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٦ ـ ٦٩] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم ، وهو المطلوب في آية الحمد.

وقال ابن عباس أيضا : «المنعم عليهم هم المؤمنون».

وقال الحسن بن أبي الحسن : «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهم مؤمنو بني إسرائيل ، بدليل قوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٤٠ ، ٤٧ ، ١٢٢].

وقال ابن عباس : «المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا».

قال القاضي أبو محمد : وهذا والذي قبله سواء.

وقال قتادة بن دعامة : «المنعم عليهم الأنبياء خاصة».

وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال : «المنعم عليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بذلك ، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا أقوى في المعنى ، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز ، واختلف القراء في الهاء من (عَلَيْهِمْ) ، فقرأ حمزة «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم ، وكذلك لديهم وإليهم. قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم.

فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها. وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم ، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان.


وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهم وو قلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو».

وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة ، إلا أن تلقى الميم ألفا أصلية فيلحق في اللفظ واوا مثل قوله: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦].

وكان أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، والكسائي ، يكسرون ، ويسكنون الميم ، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم ، وابن كثير ، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم ، مثل قوله تعالى: (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١ ، آل عمران : ١١٢] و (مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ) [القصص: ٢٣] وما أشبه ذلك ، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول : (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) و (إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) [يس : ١٤] وما أشبه ذلك.

وكان الكسائي يضم الهاء والميم معا ، فيقرأ (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) و (مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ).

قال أبو بكر أحمد بن موسى : وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم ، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى : منكم وأنتم.

قال القاضي أبو محمد : وحكى صاحب الدلائل قال : «قرأ بعضهم عليهم وبواو وضمتين ، وبعضهم بضمتين وألغى الواو ، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء ، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء ، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم».

قال : «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة».

قال ابن جني : «حكى أحمد بن موسى عليهم وو عليهم بضم الميم من غير إشباع إلى الواو ، وعليهم بسكون الميم».

وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي».

وقرىء «عليهم» بكسر الميم دون إشباع إلى الياء.

وقرأ الأعرج : «عليهم» بكسر الياء وضم الميم من غير إشباع.

وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات.

وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

اختلف القراء في الراء من غير ، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء ، وقرأ ابن كثير بالنصب ، وروي عنه الخفض.

قال أبو علي : «الخفض على ضربين : على البدل ، من (الَّذِينَ) ، أو على الصفة للنكرة ، كما تقول مررت برجل غيرك ، وإنما وقع هنا صفة ل (الَّذِينَ) لأن (الَّذِينَ) هنا ليس بمقصود قصدهم ، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه».


قال : «والنصب في الراء على ضربين : على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم ، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم ، ويجوز النصب على أعني». وحكي نحو هذا عن الخليل.

ومما يحتج به لمن ينصب أن (غَيْرِ) نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة ، والاختيار الذي لا خفاء به الكسر. وقد روي عن ابن كثير ، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار.

قال أبو بكر بن السراج : «والذي عندي أن (غَيْرِ) في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة ، وهذا شيء فيه نظر ولبس ، فليفهم عني ما أقول : اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره ، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة ، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ، ونفي ضده ، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة ، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون ، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه ، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه ، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أبقى أبو بكر (الَّذِينَ) على حد التعريف ، وجوز نعتها ب (غَيْرِ) لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع ، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير ، وذهب إلى تقريب (الَّذِينَ) من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين ، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة ، و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود ، والضالون النصارى. وهكذا قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد ، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بين من كتاب الله تعالى ، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١ ، آل عمران : ١١٢] ، وكقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة : ٦٠] فهؤلاء اليهود ، بدلالة قوله تعالى بعده: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] والغضب عليهم هو من الله تعالى ، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلة ونحو ذلك ، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه ، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ورد ضلوا ، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه‌السلام. وقد قال الله تعالى فيهم : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].

قال مكي رحمه‌الله حكاية : دخلت (لَا) في قوله (وَلَا الضَّالِّينَ) لئلا يتوهم أن (الضَّالِّينَ) عطف على (الَّذِينَ).

قال : «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير».

وحكى الطبري أن (لَا) زائدة ، وقال : هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز :

فما ألوم البيض ألا تسخرا ـ أراد أن تسخر ـ

وفي قول الأحوص : [الطويل]


ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل

وقال الطبري : يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف «لا» فيه متمكنة.

قال الطبري : ومنه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف ، ولأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام ، فسيق الكلام الآخر مناسبا للأول ، كما قال الشاعر :

ما كان يرضي رسول الله فعلهم

والطيبان أبو بكر ولا عمر

وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب : «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».

وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين.

قال الطبري : «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود ، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد؟ قيل : هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا غير شاف ، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم ، وتعنتهم ، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا ، فسمى تعالى ما أحل بهم غضبا ، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك ، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم ، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد ، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر ، وليس في العبارة ب (الضَّالِّينَ) تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما ، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم.

وقرأ أيوب السختياني : «الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهي لغة.

حكى أبو زيد قال : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن» فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة.

قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير [الطويل].

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرّت

وقول الآخر : [الطويل].

وللأرض أما سودها فتجللت

بياضا وأمّا بيضها فادهأمّت

وأجمع الناس على أنّ عدد آي سورة الحمد سبع آيات : (الْعالَمِينَ) آية ، (الرَّحِيمِ) آية ، (الدِّينِ) آية ، (نَسْتَعِينُ) آية ، (الْمُسْتَقِيمَ) آية ، (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، (وَلَا الضَّالِّينَ) آية. وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك.


القول في آمين

روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إذا قال الإمام : (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: ٧] فقولوا آمين. فإن الملائكة في السماء تقول آمين ، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.

وروي أن جبريل عليه‌السلام لما علم النبي عليه‌السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له : «قل آمين».

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «آمين خاتم رب العالمين ، يختم بها دعاء عبده المؤمن».

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يدعو فقال : «أوجب إن ختم. فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله؟ قال : «بآمين».

ومعنى «آمين» عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب ، أو أجب يا رب ، ونحو هذا. قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره ، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره.

وقال قوم : «هو اسم من أسماء الله تعالى» ، روي ذلك عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف ، وقد روي أن «آمين» اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان.

قال القاضي أبو محمد : فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داع ينبغي له في آخر دعائه أن يقول : «آمين» وكذلك كل قارئ للحمد في غير صلاة ، لكن ليس بجهر الترتيل. وأما في الصلاة فقال بعض العلماء : «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ ومأموم قرأها أو سمعها».

وقال مالك في المدونة : «لا يقول الإمام «آمين» ولكن يقولها من خلفه ويخفون ، ويقولها الفذ».

وقد روي عن مالك رضي الله عنه : أن الإمام يقولها أسرّ أم جهر.

وروي عنه : «الإمام لا يؤمن في الجهر».

وقال ابن حبيب : «يؤمن».

وقال ابن بكير : «هو مخير».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فهذا الخلاف إنما هو في الإمام ، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع. قال في كتاب ابن حارث : «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] ، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل».


وقال ابن عبدوس : «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين». وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين ، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات ، ومن العرب من يقول «آمين» فيمده ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتى أبلغها ألفين آمينا

ومن العرب من يقول «أمين» بالقصر ، ومنه قول الشاعر : [جبير بن الأضبط].

تباعد مني فطحل إذ رأيته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

واختلف الناس في معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل في الإجابة ، وقيل في خلوص النية ، وقيل في الوقت ، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية ، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم ، والإجابة تتبع حينئذ ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراط المستقيم.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البقرة

هذه السورة مدنية ، نزلت في مدد شتّى ، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨٠].

ويقال لسورة البقرة : «فسطاط القرآن» وذلك لعظمها وبهائها وما تضمنت من الأحكام والمواعظ. وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام ، وفيها خمسمائة حكم ، وخمسة عشر مثلا.

وروى الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أي القرآن أفضل؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «سورة البقرة» ثم قال : «وأيها أفضل؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «آية الكرسي».

ويقال إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى. وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش».

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرف ، أو غمامتان سوداوان ، أو كأنهما ظلة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما».

وفي البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».

وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان».

وروي عنه عليه‌السلام أنه قال : «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة ، فيها آية هي سيدة أي القرآن هي آية الكرسي».

وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية ، وقيل : ست وثمانون ، وقيل سبع وثمانون.

قوله تعالى :

(الم) (١)

اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين :


قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : «هي سرّ الله في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن يتكلم فيها ، ولكن يؤمن بها وتمرّ كما جاءت».

وقال الجمهور من العلماء : «بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها» واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولا :

فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها».

وقال ابن عباس أيضا : «هي أسماء الله أقسم بها».

وقال زيد بن أسلم : «هي أسماء للسور».

وقال قتادة : «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر».

وقال مجاهد : «هي فواتح للسور».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد : «بل» و «لا بل». نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش.

وقال قوم : «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب» وهو قول أبي العالية رفيع وغيره.

وقال قطرب وغيره : «هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم ، فقوله (الم) بمنزلة قولك أ ، ب ، ت ، ث ، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفا».

وقال قوم : «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول سور منه حروف مقطعة».

وقال ابن عباس : «هي حروف تدل على : أنا الله أعلم ، أنا الله أرى ، أنا الله أفصّل».

وقال ابن جبير عن ابن عباس : «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله ، وإما من نعمة من نعمه ، وإما من اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه».

وقال قوم : «هي تنبيه ك «يا» في النداء».

وقال قوم : «روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة».

قال القاضي أبو محمد : والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل ، لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر : [الوليد بن المغيرة] [الرجز].

قلنا لها قفي فقالت قاف


أراد قالت : وقفت. وكقول القائل : [زهير بن أبي سلمى] [الرجز].

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد : وإن شرّا فشر ، وأراد : إلا أن تشاء. والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها.

وموضع (الم) من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أو على أنه ابتداء ، أو نصب بإضمار فعل ، أو خفض بالقسم ، وهذا الإعراب يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف ، والنصب في بعض ، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

الاسم من (ذلِكَ) الذال والألف ، وقيل الذال وحدها ، والألف تقوية ، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد ، والكاف للخطاب ، وموضع (ذلِكَ) رفع كأنه خبر ابتداء ، أو ابتداء وخبره بعده ، واختلف في (ذلِكَ) هنا فقيل : هو بمعنى «هذا» ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن.

قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه قد يشار ب «ذلك» إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقرب. وقيل : هو على بابه إشارة إلى غائب ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : ما قد كان نزل من القرآن ، وقيل : التوراة والإنجيل ، وقيل : اللوح المحفوظ ؛ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل : إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ، فأشار إلى ذلك الوعد.

وقال الكسائي : «(ذلِكَ) إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد». وقيل : إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا ، فالإشارة إلى ذلك الوعد. وقيل : إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال (الم) حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.

ولفظ (الْكِتابُ) مأخوذ من «كتبت الشيء» إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ككتب الخرز بضم الكاف وفتح التاء وكتب الناقة.

ورفع (الْكِتابُ) يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان. و (لا رَيْبَ فِيهِ) معناه : لا شكّ فيه ولا ارتياب به ؛ والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريب للكفار.

وقال قوم : لفظ قوله (لا رَيْبَ) فيه لفظ الخبر ومعناه النهي.

وقال قوم : هو عموم يراد به الخصوص ؛ أي عند المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف.


وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير : «فيه» بضم الهاء ؛ وكذلك «إليه» و «عليه» و «به» و «نصله» ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن إسحاق : «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو.

و (هُدىً) معناه رشاد وبيان ، وموضعه ، من الإعراب رفع على أنه خبر (ذلِكَ) ، أو خبر ابتداء مضمر ، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله ، ويصح أن يكون موضعه نصبا على الحال من ذلك ، أو من الكتاب ، ويكون العامل فيه معنى الإشارة ، أو من الضمير في (فِيهِ) ، والعامل معنى الاستقرار ؛ وفي هذا القول ضعف.

وقوله (لِلْمُتَّقِينَ) اللفظ مأخوذ من وقى ، وفعله اتّقى ، على وزن افتعل ، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء ، وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء ، وأدغمت التاء في التاء فصار (لِلْمُتَّقِينَ). والمعنى : الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(يُؤْمِنُونَ) معناه يصدقون ويتعدى بالباء ، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) [آل عمران : ٧٣] وكما قال : (فَما آمَنَ لِمُوسى) [يونس : ٨٣] وبين التعديتين فرق ، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدّ بالباء يفهم من المعنى. واختلف القراء في همز (يُؤْمِنُونَ) فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون» وما أشبه ، مثل يأكلون ، ويأمرون ، ويؤتون ؛ وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم» و «يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف ، والباقون يقفون بالهمز.

وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة.

وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة ، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله. وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل ننسأها [البقرة : ١٠٥] (وَهَيِّئْ لَنا) [الكهف : ٨] وما أشبهه.

وقوله : (بِالْغَيْبِ) قالت طائفة : معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا ، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون : معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.

واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك ، فقالت فرقة : «الغيب في هذه الآية هو الله عزوجل» وقال آخرون : «القضاء والقدر» وقال آخرون : «القرآن وما فيه من الغيوب» وقال آخرون : «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار».

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال لا تتعارض ، بل يقع الغيب على جميعها ، والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر ، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.


وقوله : (يُقِيمُونَ) معناه يظهرونها ويثبتونها ، كما يقال : أقيمت السوق ، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء ، قعود أو غيره ، ومنه قول الشاعر : [الكامل].

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا

حتى تقيم الخيل سوق طعان

ومنه قول الشاعر : [المتقارب]

أقمنا لأهل العراقين سوق الطّ

طعان فخاموا وولّوا جميعا

وأصل (يُقِيمُونَ) يقومون ، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها. و (الصَّلاةَ) مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا ، كما قال الشاعر : [البسيط]

عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي

يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا

ومنه قول الآخر : [الطويل]

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها

وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما

فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم : هي مأخوذة من الصّلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل ، لأنه يأتي مع صلوي السابق ، فاشتقّت الصلاة منه ، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد صلواه.

قال القاضي أبو محمد : والقول إنها من الدعاء أحسن.

وقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) كتبت «مما» متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة ، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد ، وأيضا فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت في الخط. والرزق عند أهل السنة. ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما ، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق. و (يُنْفِقُونَ) معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك.

قال ابن عباس : (يُنْفِقُونَ) يؤتون الزكاة احتسابا لها».

قال غيره : «الآية في النفقة في الجهاد».

قال الضحاك : «هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عزوجل على قدر يسرهم».

قال ابن مسعود وابن عباس أيضا : «هي نفقة الرجل على أهله».

قال القاضي أبو محمد : والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها.


فقال قوم : «الآيتان جميعا في جميع المؤمنين».

وقال آخرون : «هما في مؤمني أهل الكتاب».

وقال آخرون : «الآية الأولى في مؤمني العرب ، والثانية في مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت».

قال القاضي أبو محمد : فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب (وَالَّذِينَ) خفض على العطف ، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف ، «أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين ، فإعراب «الذين» رفع على الابتداء ، وخبره (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ويحتمل أن يكون عطفا.

وقوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب. «بما أنزل ... وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى ، ويحتمل إلى جبريل ، والأول أظهر وألزم. (وَبِالْآخِرَةِ) قيل معناه بالدار الآخرة ، وقيل بالنشأة الآخرة.

و (يُوقِنُونَ) معناه يعلمون علما متمكنا في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم ، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه‌الله : «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك» تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب ، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين ، و «أولاء» جمع «ذا» ، وهو مبني على الكسر لأنه ضعف لإبهامه عن قوة الأسماء ، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين ، والكاف للخطاب ، و «الهدى» هنا الإرشاد. و (أُولئِكَ) الثاني ابتداء ، و (الْمُفْلِحُونَ) خبره ، و (هُمُ) فصل ، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون (هُمُ) ابتداء ، و (الْمُفْلِحُونَ) خبره ، والجملة خبر (أُولئِكَ) ، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد : [الرمل].

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي

ولقد أفلح من كان عقل

وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء ، كقوله : [الطويل]

ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

وقول الأضبط : [المنسرح]

لكلّ همّ من الهموم سعه

والصّبح والمسى لا فلاح معه

والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية ، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ


وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)

معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر ، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة : [الكامل]

في ليلة كفر النجوم غمامها

أي سترها ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر : [ثعلبة بن صغيرة] : [الكامل].

فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما

ألقت ذكاء يمينها في كافر

ومنه قيل للزراع كفار ، لأنهم يغطون الحب ، ف «كفر» في الدين معناه غطى قلبه بالرّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.

واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.

فقال قوم : «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد».

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب ، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظرائهم» وقال الربيع بن أنس : «نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا حكي هذا القول ، وهو خطأ ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم ، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب ، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه ، وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية. وقوله: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) معناه معتدل عندهم ، ومنه قول الشاعر : [أعشى قيس] : [الطويل]

وليل يقول الناس من ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها

قال أبو علي : في اللفظة أربع لغات : سوى بكسر السين ، وسواء بفتحها والمد ، وهاتان لغتان معروفتان ، ومن العرب من يكسر السين ويمد ، ومنهم من يضم أوله ويقصره ، وهاتان اللغتان أقل من تينك. ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا : «قي ، وقواء» ، و (سَواءٌ) رفع على خبر (إِنَ) ، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده ، والجملة خبر (إِنَ) ، ويصح أن يكون خبر (إِنَ لا يُؤْمِنُونَ).

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع : «آنذرتهم» بهمزة مطولة ، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن ، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف ، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير ، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفا ، وابن كثير لا يفعل ذلك. وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية. وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين ، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر : فبالهمزتين «أأنذرتهم» ، وما كان مثله في كل القرآن.

وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما.


وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم» بحذف الهمزة الأولى ، وتدل (أَمْ) على الألف المحذوفة ، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها ، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. والإنذار إعلام بتخويف ، هذا حده ، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين.

قال الله عزوجل : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] وقال: (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النساء : ٤٠] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه.

وقوله تعالى : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا سواء عليّ أقعدت أم ذهبت ، وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم قام ، فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم تكن كل تسوية استفهاما.

وقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ) مأخوذ من الختم وهو الطبع ، والخاتم الطابع ، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة ، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعا إصبعا.

وقال آخرون : ذلك على المجاز ، وإن ما اخترع له في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختما.

وقال آخرون ممن حمله على المجاز : «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده ، كما يقال أهلك المال فلانا وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه».

وقرأ الجمهور : (وَعَلى سَمْعِهِمْ).

وقرأ ابن أبي عبلة : «وعلى أسماعهم» ، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير ، وأيضا فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد ، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه.

والغشاوة الغطاء المغشي الساتر ، ومنه قول النابغة : [البسيط]

هلا سألت بني ذبيان ما حسبي

إذا الدخان تغشى الأشمط البرما

وقال الآخر : [الحارث بن خالد المخزومي] : [الطويل]

تبعتك إذ عيني عليها غشاوة

فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره.

وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة» بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة ، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع ، والغشوة على الأبصار ، والوقف على قوله (وَعَلى سَمْعِهِمْ).


وقرأ الباقون «غشاوة» بالرفع.

قال أبو علي : «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به» وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه (خَتَمَ) تقديره وجعل على أبصارهم ، فيجيء الكلام من باب : «متقلدا سيفا ورمحا» وقول الآخر : [الرجز] :

علفتها تبنا وماء باردا

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة».

قال : «ولم أسمع من الغشاوة فعلا مصرفا بالواو ، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء ، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة».

وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف في قوله (عَلى قُلُوبِهِمْ).

وقال آخرون : «الختم في الجميع ، والغشاوة هي الخاتم».

قال القاضي أبو محمد : وقد ذكرنا اعتراض أبي عليّ هذا القول.

وقرأ أبو حيوة «غشوة» ، بفتح الغين والرفع ، وهي قراءة الأعمش.

وقال الثوري : «كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غشية» بفتح الغين والياء والرفع».

وقرأ الحسن : «غشاوة» بضم الغين ، وقرئت «غشاوة» بفتح الغين ، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة والأشياء التي هي أبدا مشتملة ، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنانة والعصابة والربابة وغير ذلك.

وقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك ، و (عَظِيمٌ) معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)

كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين ، لكنها تفتح مع الألف واللام. ومن قال : استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه.


واختلف النحويون في لفظة (النَّاسِ) فقال قوم : «هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فقيل ناس ، ثم دخلت الألف واللام».

وقال آخرون : ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل ، دخلت عليه الألف واللام.

وقال آخرون : «أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس ، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج». وهذه الآية نزلت في المنافقين.

وقوله تعالى : (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ (مِنَ) ومعناها ، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد ، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز.

وسمى الله تعالى يوم القيامة (بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه لا ليل بعده ، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل ، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين ، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.

واختلف المتأولون في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ).

فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه».

وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك».

واختلف القراء في يخادعون الثاني.

فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون».

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون».

وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يخدعون» بضم الياء.

وقرأ قتادة ومورق العجلي : «يخدّعون» بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها. فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر : [عمرو بن كلثوم] : [الوافر].

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فجعل انتصاره جهلا ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وتتجه أيضا هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في


الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين. وقد قال الشاعر : [الكميت] [الطويل].

تذكر من أنّى ومن أين شربه

يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل

وأنشد ابن الأعرابي : [المنسرح]

لم تدر ما لا ولست قائلها

عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامر نفسيك ممتريا في

ها وفي أختها ولم تكد

وقال الآخر :

يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة

أيستوتغ الذوبان أم لا يطورها

وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [الطويل]

وكنت كذات الضنء لم تدر إذ بغت

تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني

ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلك الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل» بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خدع» بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد. فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم وفيها. ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أي من قومه وإما أن يكون «يخدعون» أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم ، ونحوه قول الله تعالى : (لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] ولا تقول رفثت إلى المرأة ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجد بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [الرجز].

كيف تراني قالبا مجني

قد قتل الله زيادا عنّي

لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف. ومنه قول الآخر : [نحيف العامري] : [الوافر]

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها

لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي.

وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها».

ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله.

قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة».


قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل.

وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني.

وقولهم : «ليت شعري» معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [المنخل الهذلي].

عقوا بسهم فلم يشعر به أحد

ثم استفاؤوا وقالوا حبّذا الوضح

واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له. فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار».

وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا».

قوله عزوجل :

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢)

المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكا ، وإما جحدا بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون ، وبنحو هذا فسر المتأولون.

وقال قوم : «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقرأ الأصمعي عن أبي عمر : «مرض» بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح : «وليس بتخفيف».

واختلف المتأولون في معنى قوله (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) فقيل هو دعاء عليهم ، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك ، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين ، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض.

وقرأ حمزة : «فزادهم» بكسر الزاي ، وكذلك ابن عامر. وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر ، وفتح الباقون. و (أَلِيمٌ) معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب : [الوافر].

أمن ريحانة الداعي السميع

بمعنى : مسمع.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يكذّبون» بضم الياء وتشديد الذال.

وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال. فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)


فهذا إخبار بأنهم يكذبون. والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم ، والتوعد بالعذاب الأليم ، متوجه على الكذب في مثل هذه النازلة ، إذ هو منطو على الكفر ، وقراءة التثقيل أرجح. و (إِذا) ظرف زمان ، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان ، لأنها تضمنت جثة ، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد» فإنما تضمنت المصدر ، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : «اليوم خمر ، وغدا أمر» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر ، والعامل في (إِذا) في هذه الآية (قالُوا). وأصل (قِيلَ) قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها.

وقرأ الكسائي : «قيل وغيض وسيء وسيئت وحيل وسيق وجيء» بضم أوائل ذلك كله. وروي مثل ذلك عن ابن عامر. وروي أيضا عنه أنه كسر «غيض وقيل وجيء» ، الغين والقاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين «سيء وسيئت» وكسر ما بقي. وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها ، والضمير في (لَهُمْ) هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل.

وقال بعض الناس : «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود».

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : لم يجىء هؤلاء بعد ومعنى قوله : لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان.

و (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) معناه بالكفر وموالاة الكفرة ، و (نَحْنُ) اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم ، إذ كان اسما قويا يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة ، فأعطي أسنى الحركات.

وأيضا فلما كان في الأغلب ضمير جماعة ، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو ، ولقول المنافقين : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ثلاث تأويلات :

أحدها : جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.

والثاني : أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل.

والثالث : أنهم مصلحون بين الكفار والمؤمنين ، فلذلك يداخلون الكفار. و (أَلا) استفتاح كلام ، و «إن» بكسر الألف استئناف ، و (هُمُ) الثاني رفع بالابتداء ، و (الْمُفْسِدُونَ) خبره والجملة خبر «إن» ، ويحتمل أن يكون فصلا ويسميه الكوفيون : «العماد» ويكون (الْمُفْسِدُونَ) خبر «إن» ، فعلى هذا لا موضع ل (هُمُ) من الإعراب ، ويحتمل أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم فموضعه نصب ، ودخلت الألف واللام في قوله : (الْمُفْسِدُونَ) لما تقدم ذكر اللفظة في قوله : (لا تُفْسِدُوا) فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون. قاله الجرجاني.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل ، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهدا ، و (لكِنْ) بجملته حرف استدراك ، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون ، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم ، وهذا مع أن يكون قولهم (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جحدا محضا للإفساد. والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) اعتقادا منهم أنه


صلاح في صلة القرابة ، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين.

قوله عزوجل :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤)

المعنى صدقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرعه ، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب ، قالوا : أنكون كالذين خفت عقولهم؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال «ثوب سفيه» إذا كان رقيقا مهلهل النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

مشين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مرّ الرياح النواسم

وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين ، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم ، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرّين الذي على قلوبهم.

وقال قوم : «الآية نزلت في منافقي اليهود ، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل».

قال القاضي أبو محمد : وهذا تخصيص لا دليل عليه.

و (لَقُوا) أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء. وقرأ ابن السميفع «لاقوا الذين». وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض ، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقررا يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما قال عليه‌السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» القصة : «دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق» فقال : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة. نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١]. قال قتادة : «معناه إذا هم أعلنوا النفاق».


قال مالك رحمه‌الله : «النفاق في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الزندقة فينا اليوم ، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه ، وإنما كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين».

قال القاضي إسماعيل : «لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده ، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه وحده ، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر.

قال الشافعي رحمه‌الله : «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه». وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم.

قال الشافعي وأصحابه : «وإنما منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين».

قال الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). [المنافقون : ١].

قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث : فالمعنى الموجب لكف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك هو الزنديق.

واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنفاق فقال : «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا بلى ولا شهادة له ، قال : أليس يصلي؟ قالوا بلى ولا صلاة له ، قال : أولئك الذين نهاني الله عنهم».

وذكر أيضا أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيهم : «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين».

قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد : «إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون ، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١].

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم


تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.

وقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وصلت (خَلَوْا) ب (إِلى) وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت (خَلَوْا) في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا ، إذ هو فعل معادل لقوله (لَقُوا) ، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق : [الرجز]

كيف تراني قالبا مجنّي

فقد قتل الله زيادا عني

لما أنزله منزلة صرف ورد.

قال مكي : «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالا عن الاشتراك في الباء».

وقال قوم : (إِلى) بمعنى مع ، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ). [آل عمران : ٥٢ ، الصف : ١٤].

وقال قوم : (إِلى) بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض. وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما.

واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله عنه : «هم رؤساء الكفر».

وقال ابن الكلبي وغيره : «هم شياطين الجن».

قال القاضي أبو محمد : وهذا في الموضع بعيد.

وقال جمع من المفسرين : «هم الكهان». ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره ، فمنهم الخالون ، ومنهم الشياطين.

و (مُسْتَهْزِؤُنَ) معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار الإيمان هزوا ونستخف بهم.

ومذهب سيبويه رحمه‌الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في (مُسْتَهْزِؤُنَ). وحكى عنه أبو علي أنها تخفف بين بين.

ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا فيقرأ «مستهزيون».

قال ابن جني : «حمل الياء الضمة تذكرا لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة».

وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه ، ويقال «هزىء واستهزأ» بمعنى ، فهو «كعجب واستعجب» ، ومنه قول الشاعر [أوس بن حجر] : [الطويل]

ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم


قوله عزوجل :

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦)

اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء : «هي تسمية العقوبة باسم الذنب». والعرب تستعمل ذلك كثيرا ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر].

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزو حسبما يروى أن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج ، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن ، وقال قوم : استهزاؤه بهم هو استدراجهم من حيث لا يعلمون ، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء.

(وَيَمُدُّهُمْ) معناه يزيدهم في الطغيان. وقال مجاهد : «معناه يملي لهم» ، قال يونس بن حبيب : «يقال مد في الشر وأمد في الخير» وقال غيره : «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه ، وأمدّه ما كان مغايرا له ، تقول : مدّ النهر ومدّه نهر آخر ، ويقال أمدّه».

قال اللحياني : «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّا ، وفي التنزيل : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧]. ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة».

قال ابن قتيبة وغيره : «مددت الدواة وأمددتها بمعنى».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن يكون «مددتها» جعلت إلى مدادها آخر ، و «أمددتها» جعلتها ذات مداد ، مثل «قبر ، وأقبر ، وحصر ، وأحصر» ، ومددنا القوم صرنا لهم أنصارا ، وأمددناهم بغيرنا. وحكى اللحياني أيضا أمدّ الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [الإسراء : ٦].

قال بعض اللغويين : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) يمهلهم ويلجهم.

قال القاضي أبو محمد : فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل ، كما فسر في : (عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة : ٩]. ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان ، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال : «طغا الماء وطغت النار». وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم.

و (يَعْمَهُونَ) يترددون حيرة ، والعمه الحيرة من جهة النظر ، والعامة الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم.

وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى المتقدم ذكرهم ، وهو رفع بالابتداء و (الَّذِينَ) خبره ، و (اشْتَرَوُا)


صلة ل (الَّذِينَ) ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فحذفت لالتقاء الساكنين ، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها ، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها ، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحن». ومنها أنها ضمت اتباعا لحركة الياء المحذوفة قبلها.

قال أبو على : «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو «أو» و «لو» إذ هذان يحركان بالكسر».

وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في : «اشتروا الضلالة».

وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو. والضلالة والضلال : التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد.

واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فقال قوم : «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى».

وقال آخرون : استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

وقال آخرون : الشراء هنا استعارة وتشبيه ، لما تركوا الهدى وهو معرض لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه.

وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه‌الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل.

وقال قوم : الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا.

وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء ، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا : «ليل قائم ونهار صائم». والمعنى فما ربحوا في تجارتهم.

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم» بالجمع.

وقوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) قيل المعنى في شرائهم هذا ، وقيل على الإطلاق ، وقيل في سابق علم الله ، وكل هذا يحتمله اللفظ.

قوله عزوجل :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)

«المثل والمثل والمثيل» واحد ، معناه الشبه ، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان ، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله ، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له ، فقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ


كَمَثَلِ) معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد ، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥ ، محمد : ١٥] وفي تفسير قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء ، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.

وقوله : (مَثَلُهُمْ) رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى : [البسيط].

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف على هذا حرف ، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن ، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين ، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه ، وجوز الأخفش حذف الفاعل ، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة ، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد ، و (الَّذِي) أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد ، بل إلى هذا الفعل : وقع من واحد أو من جماعة.

قال النحويون : الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. و (اسْتَوْقَدَ) قيل معناه أوقد ، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.

قال أبو علي : وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر ، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه ، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي] : [الطويل].

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ومستخلفات من بلاد تنوفة

لمصفرة الأشداق حمر الحواصل

ومنه قول الآخر : [الطويل]

سقاها فروّاها من الماء مخلف

ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد ، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل ، وذلك يقتضي حاجته إلى النار ، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في (أَضاءَتْ) فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المنسرح]

وأنت لما ولدت أشرقت ال

أرض وضاءت بنورك الطرق


وعلى هذا ، ف (ما) في قوله : (ما حَوْلَهُ) مفعولة ، وقيل (أضاءت) لا تتعدى ، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى ، ف (ما) زائدة ، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).

فقالت طائفة : هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق ، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت ، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.

وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله ، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم ، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».

وقالت فرقة : إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.

وقالت فرقة : إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه ، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة ، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.

وقالت فرقة منهم قتادة : نطقهم ب «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.

قال جمهور النحاة : جواب «لما» ذهب ، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي) ، ويصح شبه الآية بقول الشاعر : [الأشهب بن رميلة] : [الطويل].

وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.

وقال قوم : جواب «لما» مضمر ، وهو طفئت ، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) [الحديد : ١٣].

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول غير قوي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام ، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.

قال أبو الفتح : في ظلمات وكسرات ثلاث لغات : اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني ، وكل ذلك جائز حسن ، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات.

قال القاضي أبو محمد : وذهب قوم في «ظلمات» بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع ، والأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس ، وقيل الأبكم والأخرس واحد ،


ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته ، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك ، وإما على إضمار هم.

وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما ، بكما ، عميا» بالنصب ، ونصبه على الحال من الضمير في (مُهْتَدِينَ) ، وقيل هو نصب على الذم ، وفيه ضعف ، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في (تَرَكَهُمْ).

قال بعض المفسرين قوله تعالى (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.

قال القاضي أبو محمد : وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين ، وقال غيره : معناه (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وهذا هو الصحيح ، لأن الآية لم تعين ، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.

قوله عزوجل :

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

(أَوْ) للتخيير ، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) معطوف على (كَمَثَلِ الَّذِي). وقال الطبري : (أَوْ) بمعنى الواو.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة ، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [الطويل]

كأنهم : صابت عليهم سحابة

صواعقها لطيرهنّ دبيب

وقول الآخر : [الطويل]

فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنّزل من جوّ السماء يصوب

وأصل صيّب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعل في سيّد وميّت.

وقال بعض الكوفيين : أصل صيّب صويب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل ، فبهذا يضعف هذا القول.

وقوله تعالى : (ظُلُماتٌ) بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلما هول وغم للنفس ، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سارّ جميل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [المتقارب]


فما روضة من رياض القطا

كأنّ المصابيح حوذانها

بأحسن منها ولا مزنة

دلوح تكشّف أدجانها

واختلف العلماء في الرعد : فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم : هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه ، فهي (الصَّواعِقِ) ، واسم هذا الملك الرعد ، وقيل الرعد ملك ، وهذا الصوت تسبيحه ، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا هو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته : [المنسرح]

فجعني الرعد والصواعق بال

فارس يوم الكريهة النجد

وروي عن ابن عباس أنه قال : «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت». وقيل: «الرعد اصطكاك أجرام السحاب». وأكثر العلماء على أن الرعد ملك ، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.

واختلفوا في البرق :

فقال علي بن أبي طالب : «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب».

وقال ابن عباس : «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب».

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق ملك يتراءى ، وقال قوم : «البرق ماء» ، وهذا قول ضعيف.

والصاعقة : قال الخليل : «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحيانا نار ، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك ، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه».

وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين.

وقال النقاش : «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد».

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف. قال أبو عمرو : «وهي لغة تميم».

وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت» بكسر الحاء وبألف. واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.

فقال جمهور المفسرين : «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم. والعمى : هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم ، وفضح نفاقهم ، واشتهار كفرهم ، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله صحيح بين.

وروي عن ابن مسعود أنه قال : «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى


المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك ، فقالا : ليتنا أصبحنا فنأتي محمدا ونضع أيدينا في يده ، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما نزل بهما مثلا للمنافقين».

وقال أيضا ابن مسعود : «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن ، فضرب الله المثل لهم».

قال القاضي أبو محمد : وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه.

وقال قوم : «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده».

و (مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) معناه بعقابه وأخذه ، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة ، ومنه قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢] ففي الكلام حذف مضاف ، ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي ، فهنا لم يخطف البرق الأبصار ، والخطف الانتزاع بسرعة.

واختلفت القراءة في هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس : «يخطف أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون الخاء ، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب ، وهي القرشية.

وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب : «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خطف» بفتح الطاء ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم.

وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة : «يخطّف» بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء ، وهذه أصلها «يختطف» أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين.

وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يخطّف» بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة.

قال أبو الفتح : «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء».

وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضا ، أنه قرأ «يخطّف» بفتح الياء والخاء والطاء وشدها.

وروي أيضا عن الحسن والأعمش «يخطّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء منها. وهذه أيضا أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء اتباعا.

وقال عبد الوارث : «رأيتها في مصحف أبي بن كعب «يتخطّف» بالتاء بين الياء والخاء».

وقال الفراء : «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة».

قال أبو الفتح : «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام ، وذلك لا يجوز».

قال القاضي أبو محمد : لأنه جمع بين ساكنين دون عذر.

وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية.


ومعنى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم ، ومن جعل (الْبَرْقُ) في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم.

و (كُلَّما) ظرف ، والعامل فيه (مَشَوْا) وهو أيضا جواب (كُلَّما) ، و (أَضاءَ) صلة ما ، ومن جعل (أَضاءَ) يتعدى قدر له مفعولا ، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك.

وقرأ ابن أبي عبلة : «أضا لهم» بغير همز ، وهي لغة.

وفي مصحف أبي بن كعب : «مروا فيه».

وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه».

وقرأ الضحاك : «وإذا أظلم» بضم الهمزة وكسر اللام ، و (قامُوا) معناه ثبتوا ، لأنهم كانوا قياما ، ومنه قول الأعرابي : «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» يريد أثبت الدهر ، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.

وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية : كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك. وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم.

وقال قوم : معنى الآية : كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه ، فإذا افتضحوا عندكم قاموا ، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.

وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم.

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية. ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين عليهم ، وبكل مذهب من هذين قال قوم.

وقوله تعالى : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه و (قَدِيرٌ) بمعنى قادر ، وفيه مبالغة ، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة ، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢)

«يا» حرف نداء ، وفيه تنبيه ، و «أي» هو المنادى.


قال أبو علي : «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا فكان يجتمع تعريفان ، و «ها» تنبيه وإشارة إلى المقصود ، وهي بمنزلة ذا في الواحد ، و (النَّاسُ) نعت لازم لأي».

وقال مجاهد : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) حيث وقع في القرآن مكي ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مدني.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية ، وقد يجيء في المدني (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وأما قوله في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فصحيح.

وقوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) معناه وحدوه وخصوه بالعبادة ، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم.

و «لعل» في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى وليست من الله تعالى بمعنى ترجّ وتوقّع.

وقال سيبويه ورؤساء اللسان : هي على بابها ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر ، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى ، و (لَعَلَّكُمْ) متعلقة بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقّع له ورجا أن يكون متقيا. و (تَتَّقُونَ) مأخوذ من الوقاية ، وأصله «توتقيون» نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء.

وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ) نصب على إتباع الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعا على القطع. وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب (تَتَّقُونَ) فضعيف.

وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و (فِراشاً) معناه تفترشونها وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و (السَّماءَ) قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات» ، وقيل هو جمع واحده «سماوة» ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء فهو سماء ، والهواء نفسه علوا يقال له «سماء» ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا» ، واللفظة من السمو وتصاريفه.

وقوله تعالى : (بِناءً) تشبيه بما يفهم ، كما قال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧].

وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة».

وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزا لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [الوافر].

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

فتجوز أيضا في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشبا ، وأصل (ماءً) موه يدل على ذلك قولهم في


الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزق ، وواحد الأندادند ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلا أو خلافا أو ضدا ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما.

وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر.

واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين. فقوله على هذا : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم ، أن الله لا ند له.

وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين» ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله ندا ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤)

الريب الشك ، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذين تحدوا ، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا التعليق. وقرأ يزيد بن قطيب : «أنزلنا» بألف.

واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله (مِثْلِهِ) : فقال جمهور العلماء : هو عائد على القرآن ثم اختلفوا. فقال الأكثر من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خصّ به القرآن ، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر.

وقال بعضهم : (مِنْ مِثْلِهِ) في غيوبه وصدقه وقدمه ، فالتحدي عند هؤلاء وقع بالقدم ، والأول أبين و (مِنْ) على هذا القول زائدة ، أو لبيان الجنس ، وعلى القول الأول هي للتبعيض ، أو لبيان الجنس.

وقالت فرقة : الضمير في قوله (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختلفوا.

فقالت طائفة : من أمي صادق مثله.

وقالت طائفة : من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله. على زعمكم أيها المشركون.


وقالت طائفة : الضمير في (مِثْلِهِ) عائد على الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور.

وقوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) معناه دعاء استصراخ ، والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير ، قاله ابن عباس. وقيل عن مجاهد : إن المعنى دعاء استحضار.

والشهداء جمع شاهد ، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم ، وهذا قول ضعيف.

وقال الفراء : شهداؤهم يراد بهم آلهتهم.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فيما قلتم من الريب. هذا قول بعض المفسرين.

وقال غيره : فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة. ويؤيد هذا القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١].

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ، دخلت «إن» على (لَمْ) لأن (لَمْ تَفْعَلُوا) معناه تركتم الفعل ، ف «إن» لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و (تَفْعَلُوا) جزم ب (لَمْ) ، وجزمت ب (لَمْ) لأنها أشبهت «لا» في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.

وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) نصبت (لَنْ) ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [البسيط]

فلن أعرّض أبيت اللعن بالصفد

وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترع» هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : (لَنْ تَفْعَلُوا) إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ) ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة.

وقرأ الجمهور : «وقودها» بفتح الواو. وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها» بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعا في الحطب وقد حكيا في المصدر.

قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به «ولوعا» بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم».

وقوله : (النَّاسُ) عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها.

وروي عن ابن مسعود في (الْحِجارَةُ) أنها حجارة الكبريت وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت.


وفي قوله تعالى : (أُعِدَّتْ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة.

وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم.

وقرأ ابن أبي عبلة : «أعدّها الله للكافرين».

قوله عزوجل :

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥)

(بَشِّرِ) مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه ، والأغلب استعمال البشارة في الخير ، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصا على الشر المبشر به ، كما قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤] ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير ، وفي قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) رد على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات لأنه لو كان ذلك ما أعادها.

و (أَنَ) في موضع نصب ب (بَشِّرِ) وقيل في موضع خفض على تقدير باء الجر و (جَنَّاتٍ) جمع جنة ، وهي بستان الشجر والنخيل ، وبستان الكرم يقال له الفردوس ، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره ، ومنه المجن والجنن وجن الليل. و (مِنْ تَحْتِهَا) معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة وقيل قوله (مِنْ تَحْتِهَا) معناه بإزائها كما تقول داري تحت دار فلان وهذا ضعيف ، و (الْأَنْهارُ) المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، لأنها لفظة مأخوذة من أنهرت أي وسعت ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [الطويل].

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزا ، كما قال (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وكما قال الشاعر : [مهلهل أخو كليب] [الكامل]

نبّئت أن النار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك يا كليب المجلس

وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنما تجري على سطح أرض الجنة منضبطة. وقوله :


(كُلَّما) ظرف يقتضي الحصر وفي هذه الآية رد على من يقول : إن الرزق من شروطه التملك.

قال القاضي أبو محمد : ذكر هذا بعض الأصوليين وليس عندي ببين ، وقولهم (هذَا) إشارة إلى الجنس أي : هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل ، والكلام يحتمل أن يكون تعجبا وهو قول ابن عباس ، ويحتمل أن يكون خبرا من بعضهم لبعض ، قاله جماعة من المفسرين.

وقال الحسن ومجاهد : «يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا».

وقال ابن عباس : «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينة».

وقال بعض المتأولين : «المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا ، فيقولون : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا».

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن عباس الذي قبل هذا يرد على هذا القول بعض الرد.

وقال بعض المفسرين : «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز».

وقال قوم : إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه مثله فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني.

وقرأ جمهور الناس : «وأتوا» بضم الهمزة وضم التاء.

وقرأ هارون الأعور : «وأتوا» بفتح الهمزة والتاء والفاعل على هذه القراءة الولدان والخدام ، و «أتوا» على قراءة الجماعة أصله أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء ثم حذفت الياء للالتقاء.

وقوله تعالى : (مُتَشابِهاً) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : «معناه يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم».

وقال عكرمة : «معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل الصفات».

وقوله تعالى : (مُتَشابِهاً) معناه خيار لا رذل فيه ، كقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر: ٢٣].

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما ، وقيل (مُتَشابِهاً) أي مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم ، و (أَزْواجٌ) جمع زوج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة ويقال في المرأة زوجة ومنه قول الفرزدق : [الطويل]

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : «والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم». ذكر البخاري وغيره الحديث بطوله. و (مُطَهَّرَةٌ) أبلغ من طاهرة ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبزاق وسائر أقذار الآدميات ، وقيل من الآثام. والخلود الدوام في الحياة أو


الملك ونحوه وخلد بالمكان إذا استمرت إقامته فيه ، وقد يستعمل الخلود مجازا فيما يطول ، وأما هذا الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.

قوله عزوجل :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في هذه السورة قال الكفار : ما هذه الأمثال؟ الله عزوجل أجل من أن يضرب هذه أمثالا ، فنزلت الآية.

وقال ابن قتيبة : «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت».

وقال قوم : «هذه الآية مثل للدنيا».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى. و (يَسْتَحْيِي) أصله يستحيي ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.

وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه ، وابن محيصن وغيرهما «يستحي» بكسر الحاء ، وهي لغة لتميم ، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء.

واختلف المتأولون في معنى : (يَسْتَحْيِي) في هذه الآية. فرجح الطبري أن معناه يخشى. وقال غيره : معناه يترك وهذا هو الأولى. ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه. ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك ، رد الله بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) على القائلين كيف يضرب الله مثلا بالذباب ونحوه ، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول ، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع ، فليست مما يستحيى منه.

وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس ، وهذا غير مرضي.

وقوله تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ) ، (إِنَ) مع الفعل في موضع نصب ، كأنها مصدر في موضع المفعول ، ومعنى (يَضْرِبَ مَثَلاً) يبين ضربا من الأمثال أي نوعا ، كما تقول : هذا من ضرب هذا ، والضريب المثيل. ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث ، وضرب الذلة ، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل ، و (مَثَلاً) مفعول ، فقيل هو الأول ، وقيل هو الثاني ، قدم وهو في نية التأخير ، لأن «ضرب» في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين.

واختلفوا في قوله : (ما بَعُوضَةً) فقال قوم : (ما) صلة زائدة لا تفيد إلا شيئا من تأكيد. وقيل ما


نكرة في موضع نصب على البدل من قوله (مَثَلاً) ، و (بَعُوضَةً) نعت ل (ما) ، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن (أَنْ يَضْرِبَ) إنما يتعدى إلى مفعول واحد.

وقال بعض الكوفيين : نصب (بَعُوضَةً) على تقدير إسقاط حرف الجر. والمعنى أن يضرب مثلا ما من بعوضة.

وحكي عن العرب : «له عشرون ما ناقة فجملا» ، وأنكر أبو العباس هذا الوجه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يترجح أن (ما) صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصا وتقريبا ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [الخفيف]

سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

وبعوضة على هذا مفعول ثان.

وقال قوم : (ما) نكرة ، كأنه قال شيئا. والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت : [الكامل].

فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النبيّ محمد إيّانا

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم نظير هذا القول ، والشبه بالبيت غير صحيح عندي ، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم ، يقال بضع وبعض بمعنى ، وعلى هذا حملوا قول الشاعر : [الوافر].

لنعم البيت بيت أبي دثار

إذا ما خاف بعض القوم بعضا

وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج : «بعوضة» بالرفع.

قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي» ، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا ، فحذف العائد على الموصول ، وهو مبتدأ ، ومثله قراءة بعضهم : «تماما على الذي أحسن» أي على الذي هو أحسن.

وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي هو قائل.

وقوله تعالى : (فَما فَوْقَها) من جعل (ما) الأولى صلة زائدة ، ف «ما» الثانية عطف على بعوضة ، ومن جعل (ما) اسما ف «ما» الثانية عطف عليها.

وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : «المعنى فما فوقها في الصغر».

وقال قتادة وابن جريج وغيرهما : «المعنى في الكبر».

قال القاضي أبو محمد : والكل محتمل ، والضمير في (أَنَّهُ) ، عائد على المثل.

واختلف النحويون في (ما ذا) : فقيل هي بمنزلة اسم واحد ، بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل «ما»


اسم «وذا» اسم آخر بمعنى الذي ، ف «ما» في موضع رفع بالابتداء ، و «ذا» خبره ، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.

وقوله : (مَثَلاً) نصب على التمييز ، وقيل على الحال من «ذا» في (بِهذا) ، والعامل فيه الإشارة والتنبيه.

واختلف المتأولون في قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فقيل هو من قول الكافرين ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وقيل بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به ، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق. وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم : «إن الله لا يخلق الضلال» ولا خلاف أن قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) من قول الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) إلى آخر الآية ردا من الله تعالى على قول الكفار (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) والفسق الخروج عن الشيء. يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها ، والرطبة إذا خرجت من قشرها ، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عزوجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان ، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية : «يضل» بضم الياء فيهما.

وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يضل» بفتح الياء ، «كثير» بالرفع «ويهدي به كثير. وما يضل به إلا الفاسقون» بالرفع.

قال أبو عمرو الداني : «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين ومن أهل السنة ، ولا تصح هذه القراءة عنه ، مع أنها مخالفة خط المصحف».

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى : «يضل» بضم الياء وفي الثانية «وما يضل» بفتح الياء «به إلا الفاسقون».

قال القاضي أبو محمد : وهذه قراءة متجهة لو لا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩)

النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم ، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به.


واختلف في تفسير هذا العهد : فقال بعض المتأولين : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر.

وقال آخرون : بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.

وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وأن لا يعبدوا غيره.

وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن لا يكتموا أمره.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فالآية على هذا في أهل الكتاب ، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.

وقال قتادة : «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه‌السلام ثم كفر به فنقض العهد».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : لم ينسب الطبري شيئا من هذه الأقوال ، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية ، والضمير في (مِيثاقِهِ) يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى ، وميثاق مفعال من الوثاقة ، وهي الشد في العقد والربط ونحوه ، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن شييم : [الوافر].

أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا؟

أراد بعد إعطائك.

وقوله تعالى : (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ، (ما) في موضع نصب ب (يَقْطَعُونَ) واختلف الشيء الذي أمر بوصله؟

فقال قتادة : «الأرحام عامة في الناس» وقال غيره : «خاصة فيمن آمن بمحمد ، كان الكفار يقطعون أرحامهم». وقال جمهور أهل العلم : الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الحق ، والرحم جزء من هذا ، و (أَنْ) في موضع نصب بدل من (ما) ، أو مفعول من أجله. وقيل (أَنْ) في موضع خفض بدل من الضمير في (بِهِ) ، وهذا متجه.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره.

وقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) لفظه الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟ و (كَيْفَ) في موضع نصب على الحال والعامل فيها (تَكْفُرُونَ) ، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون؟ و (كَيْفَ) مبنية ، وخصت بالفتح لخفته ، ومن قال إن (كَيْفَ) تقرير


وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم ، والواو في قوله (وَكُنْتُمْ) واو الحال ، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين : فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : «فالمعنى كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين ، كما يقال للشيء الدارس ميت ، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة».

وقال آخرون : «كنتم أمواتا بكون آدم من طين ميتا قبل أن يحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم».

وقال قتادة : «كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم».

وقال غيره : «كنتم أمواتا في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم».

وقال ابن زيد : «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتا ، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم».

وقال ابن عباس وأبو صالح : «كنتم أمواتا بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور ، ثم أماتكم فيها ، ثم أحياكم للبعث».

وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال : «وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والقول الأول هو أولى هذه الأقوال ، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله أولا (كُنْتُمْ أَمْواتاً) وإسناده آخرا الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها ، والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه ، وقيل هو عائد على الاحياء ، والأول أظهر.

وقرأ جمهور الناس «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم.

وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان ويعقوب الحضرمي : «يرجع ويرجعون وترجعون» بفتح الياء والتاء حيث وقع.

و (خَلَقَ) معناه اخترع وأوجد بعد العدم ، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئا ، ومنه قول الشاعر :

[زهير بن أبي سلمى] [الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يفري

ومنه قول الآخر : [مجزوء الكامل]

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليله

و (لَكُمْ) : معناه للاعتبار ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء ، والإماتة ، والخلق ، والاستواء إلى السماء وتسويتها.


وقال قوم : بل معنى (لَكُمْ) إباحة الأشياء وتمليكها ، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية ، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر ، والقائلون بالوقف ، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة ، ويترجح الوقف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.

ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.

وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : «لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب». قال : «فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف» ، و (جَمِيعاً) نصب على الحال.

وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى) ، (ثُمَ) هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه ، و (اسْتَوى) : قال قوم : «معناه علا دون تكييف ولا تحديد» ، هذا اختيار الطبري ، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه.

وقال ابن كيسان : «معناه قصد إلى السماء».

قال القاضي أبو محمد : أي بخلقه واختراعه.

وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق.

وحكى الطبري عن قوم : أن المعنى أقبل ، وضعفه.

وحكي عن قوم «المستوي» هو الدخان.

وهذا أيضا يأباه رصف الكلام ، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر الأخطل : [الرجز]

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ، ويبقى استواء القدرة والسلطان.

(فَسَوَّاهُنَ) قيل المعنى جعلهن سواء ، وقيل سوى سطوحها بالإملاس ، و (سَبْعَ) نصب على البدل من الضمير ، أو على المفعول ب «سوّى» ، بتقدير حذف الجار من الضمير ، كأنه قال فسوّى منهن سبع ، وقيل نصب على الحال ، وقال سواهن إما على أن السماء جمع ، وإما على أنه مفرد اسم جنس ، فهو دال على الجمع.

وقوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر ، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء ، وذلك صحيح ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا تتفق معاني الآيات : هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات.


قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢)

قال معمر بن المثنى : «إذ زائدة ، والتقدير وقال ربك».

قال أبو إسحاق الزجاج : «هذا اجتراء من أبي عبيدة».

قال القاضي أبو محمد : وكذلك رد عليه جميع المفسرين.

وقال الجمهور : ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال ، وأيضا فقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية ، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة ، وإضافة رب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخاطبته بالكاف تشريف منه له ، وإظهار لاختصاصه به ، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل ، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة.

وقال قوم : أصل ملك مألك ، من ألك إذا أرسل ، ومنه قول عدي بن زيد : [الرمل]

أبلغ النعمان عني مألكا

أنه قد طال حبسي وانتظاري

واللغتان مسموعتان لأك وألك ، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل ، وجمعه ملائكة ، وزنه معافلة.

وقال ابن كيسان : «هو من ملك يملك ، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل ، فوزنه فعأل ، ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال : [الطويل]

فلست لأنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السماء يصوب

وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك ، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي ، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة ، والأول أبين.

وقال أبو عبيدة : «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان.

و (جاعِلٌ) في هذه الآية بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.

وقال الحسن وقتادة : «جاعل بمعنى فاعل».


وقال ابن سابط عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ، ولأنها مقرّ من هلك قومه من الأنبياء ، وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن».

و (خَلِيفَةً) معناه من يخلف.

قال ابن عباس : «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم وألحق فلّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال ، وجعل آدم وذريته خليفة».

وقال الحسن : «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله ، الجيل بعد الجيل».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ففي هذا القول ، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.

وقال ابن مسعود : «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري» يعني بذلك آدم عليه‌السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته.

وقرأ زيد بن علي «خليفة» بالقاف.

وقوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) الآية ، وقد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ، لأن قوله : «لا يسبقونه بالقول» خرج على جهة المدح لهم.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : «فهذه قرينة العموم ، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة».

قال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة.

قال القاضي أبو محمد : فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا ، الاستخلاف ، والعصيان.

وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره : إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها) الآية ، على جهة الاستفهام المحض ، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟

وقال آخرون : كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء ، فلما قال لهم بعد ذلك : (إِنِّي جاعِلٌ قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) الآية ، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟

والسفك صب الدم ، هذا عرفه ، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده.


وقراءة الجمهور بكسر الفاء.

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : ويسفك» بضم الفاء.

وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال : من يجمع أن يفسد وأن يسفك.

وقال المهدوي : هو نصب في جواب الاستفهام.

قال القاضي أبو محمد : والأول أحسن.

وقولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) قال بعض المتأولين : هو على جهة الاستفهام ، كأنهم أرادوا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) الآية ، أم نتغير عن هذه الحال.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : (أَتَجْعَلُ)؟.

وقال آخرون : معناه التمدح ووصف حالهم ، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه‌السلام : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥].

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم (أَتَجْعَلُ) وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

وقال قوم : معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم : (أَتَجْعَلُ).

ومعنى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.

وقال ابن عباس وابن مسعود : «تسبيح الملائكة صلاتهم لله».

وقال قتادة : «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة».

و (بِحَمْدِكَ) معناه : نخلط التسبيح بالحمد ونصله به ، ويحتمل أن يكون قوله (بِحَمْدِكَ) اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.

(وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال الضحاك وغيره : معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك ، والتقديس التطهير بلا خلاف ، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة ، ومنه بيت المقدس ، ومنه القدس الذي يتطهر به.

وقال آخرون : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) معناه ونقدسك أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.

وقال قوم : نقدس لك معناه نصلي لك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف.

وقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) الأظهر أن (أَعْلَمُ) فعل مستقبل ، و (ما) في موضع نصب به ،


وقيل (أَعْلَمُ) اسم ، و (ما) في موضع خفض بالإضافة ، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة ، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه.

واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى : (ما لا تَعْلَمُونَ) فقال ابن عباس : «كان إبليس ـ لعنه الله ـ قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه». وقيل : بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده ، قاله ابن عباس أيضا. واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب آدم عليه‌السلام.

قال : فلما قالت الملائكة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال الله لهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني ما في نفس إبليس.

وقال قتادة : لما قالت الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة ، قال لهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني أفعال الفضلاء من بني آدم.

وقوله تعالى : (وَعَلَّمَ) معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة.

وقال قوم : بل تعليم بقول ، فإما بواسطة ملك ، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض ، فلا يشارك موسى ـ عليه‌السلام ـ في خاصته.

وقرأ اليماني : «وعلّم» بضم العين على بناء الفعل للمفعول ، «آدم» مرفوعا.

قال أبو الفتح : «وهي قراءة يزيد البربري» ، و (آدَمَ) أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد ، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر ، ولا ينصرف بوجه ، وقيل (آدَمَ) وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض ، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم ، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه.

وقال الطبري : «آدم فعل رباعي سمي به» ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث».

واختلف المتأولون في قوله : (الْأَسْماءَ) فقال جمهور الأمة : «علمه التسميات» وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص».

قال القاضي أبو محمد : والأول أبين ، ولفظة ـ علمه ـ تعطي ذلك.

ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها».

وقال حميد الشامي : «علمه أسماء النجوم فقط».

وقال الربيع بن خثيم : «علمه أسماء الملائكة فقط».


وقال عبد الرحمن بن زيد «علمه أسماء ذريته فقط».

وقال الطبري : «علمه أسماء ذريته والملائكة» ، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).

وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.

وقال آخرون : «علمه أسماء الأجناس ، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك ، دون أن يعين ما سمته ذريته منها».

وقال ابن قتيبة : «علمه أسماء ما خلق في الأرض».

وقال قوم : علمه الأسماء بلغة واحدة ، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها.

وقال بعضهم : «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته» ، وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال : «علم الله تعالى آدم كل شيء ، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه» ، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات. وقال أكثر العلماء : «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح».

وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص عند التعليم».

وقال قوم : «بل وصفها له دون عرض أشخاص».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذه كلها احتمالات ، قال الناس بها.

وقرأ أبي بن كعب : «ثم عرضها».

وقرأ ابن مسعود : «ثم عرضهن» واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟ فقال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص.

وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء ، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعا نوعا ، ومن قال في الأسماء إنها التسميات استقام على قراءة أبيّ : «عرضها» ، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم» : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص ، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم.

و (أَنْبِئُونِي) معناه : أخبروني ، والنبأ الخبر ، ومنه النبيء.

وقال قوم : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق ، ويتقرر جوازه ، لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون.

وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.

وقوله تعالى : (هؤُلاءِ) ظاهره حضور أشخاص ، وذلك عند العرض على الملائكة.

وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي ، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصا استقام له مع لفظ (هؤُلاءِ) ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط


جعل الإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب ، وذلك أسماؤها ، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم ، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، و (هؤُلاءِ) لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد ، قال الأعشى : [الخفيف].

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي

ت نعالا محذوة بنعال

و (كُنْتُمْ) في موضع الجزم بالشرط ، والجواب عند سيبويه فيما قبله ، وعند المبرد محذوف ، والتقدير : إن كنتم صادقين فأنبئوني.

وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه‌السلام ، معنى الآية : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الخليفة يفسد ويسفك.

وقال آخرون : (صادِقِينَ) في أني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي.

وقال الحسن وقتادة : روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه ، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم.

وقال قوم : معنى الآية (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في جواب السؤال عالمين بالأسماء. (قالُوا) : ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا : (سُبْحانَكَ) حكاه النقاش. قال : ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له «كم لبثت؟» ولم يشترط عليه الإصابة. فقال ، ولم يصب فلم يعنف.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا كله محتمل.

وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال : معنى (إِنْ كُنْتُمْ) «إذ كنتم».

قال الطبري : وهذا خطأ. وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ) الآية ، قيل : هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب.

و (سُبْحانَكَ) معناه : تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته ، و (سُبْحانَكَ) نصب على المصدر.

وقال الكسائي : «نصبه على أنه منادى مضاف».

قال الزهراوي : موضع (ما) من قولهم (ما عَلَّمْتَنا) نصب ب (عَلَّمْتَنا) ، وخبر التبرئة في (لَنا) ، ويحتمل أن يكون موضع (ما) رفعا على أنه بدل من خبر التبرئة ، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في


الوجود إلا الله ، و (أَنْتَ) في موضع نصب تأكيد للضمير في (إِنَّكَ) ، أو في موضع رفع على الابتداء.

و (الْعَلِيمُ) خبره ، والجملة خبر «إن» ، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب. و (الْعَلِيمُ) معناه : العالم ، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عزوجل.

و (الْحَكِيمُ) معناه الحاكم ، وبينهما مزية المبالغة ، وقيل : معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب : [الوافر].

أمن ريحانة الداعي السميع

أي المسمع ، ويجيء (الْحَكِيمُ) على هذا من صفات الفعل.

وقال قوم : (الْحَكِيمُ) المانع من الفساد ، ومنه حكمة الفرس مانعته ، ومنه قول جرير : [الكامل].

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا

قوله عزوجل :

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤)

(أَنْبِئْهُمْ) معناه أخبرهم ، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحيانا ، تقول نبئت زيدا.

قال سيبويه : معناه نبئت عن زيد. والضمير في (أَنْبِئْهُمْ) عائد على الملائكة بإجماع ، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم.

قال أبو علي : «كلهم قرأ «أنبئهم» بالهمز وضم الهاء ، إلا ما روي عن ابن عامر ، «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء ، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير ، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء ، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به».

قال أبو عمرو الداني : «وقرأ الحسن والأعرج : «أنبيهم» بغير همز».

قال ابن جني : «وقرأ الحسن «أنبهم» ، على وزن «أعطهم» ، وقد روي عنه ، «أنبيهم» بغير همز».

قال أبو عمرو : «وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس».

قال أبو الفتح : أما قراءة الحسن ، «أنبهم» «كأعطهم» ، فعلى إبدال الهمزة ياء ، على أنك تقول «أنبيت» كأعطيت ، وهذا ضعيف في اللغة ، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر.

قال بعض العلماء : إن في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) نبوة لآدم عليه‌السلام ، إذ أمره الله أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عزوجل.


ويجوز فتح الياء من «إني» وتسكينها.

قال الكسائي : «رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزة فتحوها».

قال أبو علي : «كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة ، إذا كانت متصلة باسم ، أو بفعل ، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها ، نحو قوله تعالى : (وَلا تَفْتِنِّي أَلا) [التوبة : ٤٩] وقوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] ، والذي يخف : (إِنِّي أَرى) [الأنفال : ٤٨ ، يوسف : ٤٣ ، الصافات : ١٠٢] و (أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [يونس : ٧٢ ، هود : ٢٩ ، سبأ : ٤٧].

وقوله تعالى : (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معناه : ما غاب عنكم ، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته وما في موضع نصب «بأعلم».

قال المهدوي : ويجوز أن يكون قوله (أَعْلَمُ) اسما بمعنى التفضيل في العلم ، فتكون (ما) في موضع خفض بالإضافة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإذا قدر الأول اسما فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب (غَيْبَ) ، تقديره إني أعلم من كل أعلم غيب ، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ.

واختلف المفسرون في قوله تعالى : (ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فقالت طائفة : ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.

وحكى مكي أن المراد بقول (ما تُبْدُونَ) قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) الآية.

وحكى المهدوي أن (ما تُبْدُونَ) قولهم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه ، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه.

وقال الزهراوي : «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم».

واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود : المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر ، ويتوجه قوله (تَكْتُمُونَ) للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها ، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم : أنتم فعلتم كذا ، أي منكم فاعله.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤] وإنما ناداه منهم عيينة ، وقيل الأقرع ، وقال قتادة : المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم : ليخلق ربنا ما شاء ، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه ، ـ (وَإِذْ) من قوله : (وَإِذْ قُلْنا) معطوف على (إِذْ) المتقدمة.

وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل ، بشرط وجودهم وفهمهم ، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته و (قُلْنا) كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع ، وقوله للملائكة عموم فيهم.


وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «للملائكة اسجدوا» برفع تاء للملائكة اتباعا لضمة ثالث المستقبل.

قال أبو علي : «وهذا خطأ».

وقال الزجاج : «أبو جعفر من رؤساء القراءة ولكنه غلط في هذا».

قال أبو الفتح : لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفا ساكنا صحيحا ، نحو قوله تعالى : (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) [يوسف : ٣١] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل ، ومنه قول الشاعر [زيد الخيل]: [الطويل]

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر

وغايته وضع الوجه بالأرض ، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع ، ذكره النقاش وغيره ، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود.

وقوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقع.

واختلف في حال السجود لآدم ، فقال ابن عباس : «تعبدهم الله بالسجود لآدم ، والعبادة في ذلك لله».

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس : «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسفعليه‌السلام ، لا سجود عبادة».

وقال الشعبي : «إنما كان آدم كالقبلة ، ومعنى لآدم إلى آدم».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه‌السلام.

وحكى النقاش عن مقاتل : «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه».

قال : «والقرآن يرد على هذا القول».

وقال قوم : سجود الملائكة كان مرتين ، والإجماع يرد هذا.

وقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ) نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه من الملائكة على قول الجمهور ، وهو ظاهر الآية ، وكان خازنا وملكا على سماء الدنيا والأرض ، واسمه عزازيل ، قاله ابن عباس.

وقال ابن زيد والحسن : «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكا».

وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا ، قال : «واسمه الحارث».

وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا ، وتعبد وخوطب معها ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذه الأقوال منقطع ، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

ورجح الطبري قول من قال : «إن إبليس كان من الملائكة». وقال : «ليس في خلقه من نار ولا في


تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة».

وقوله عزوجل : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا ، أو على أن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، قال تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً). [الصافات : ١٥٨]

وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه‌السلام : [الطويل]

وسخّر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ ، لما كان خازنا عليها ، و (إِبْلِيسَ) لا ينصرف لأنه اسم أعجميّ معرف.

قال الزجاج : «ووزنه فعليل».

وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم : هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير ، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه ، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله ، وأيوب من آب يؤوب ، مثل قيوم من قام يقوم ، ولما لم تصرف هذه ـ ولها وجه من الاشتقاق ـ كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج : [الرجز].

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر : [الرجز]

وفي الوجوه صفرة وإبلاس

ومنه قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون ـ و (أَبى) معناه امتنع من فعل ما أمر به ، و (اسْتَكْبَرَ) دخل في الكبرياء ، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه ، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده.

وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح ، حسد إبليس آدم وتكبر ، وشح آدم في أكله من شجرة قد نهي عن قربها.

حكى المهدوي عن فرقة أن معنى (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) : وصار من الكافرين.

وقال ابن فورك : «وهذا خطأ ترده الأصول».

وقالت فرقة : «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم ، لما فعل في الكفر فعلهم».

وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول : «وكان من الكافرين معناه : من العاصين».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت.


وروي أن الله تعالى خلق خلقا وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار ، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم ، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والإسناد في مثل هذا غير وثيق.

وقال جمهور المتأولين : معنى (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي في علم الله تعالى أنه سيكفر ، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.

وذهب الطبري : إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. واختلف هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره ، فمن قال إنه كفر جهلا قال : «إنه سلب العلم عند كفره». ومن قال كفر عنادا قال : «كفر ومعه علمه» ، قال : والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء. ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن.

قوله عزوجل :

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦)

(اسْكُنْ) معناه لازم الإقامة ، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن ، و (أَنْتَ) تأكيد للضمير الذي في (اسْكُنْ) ، (وَزَوْجُكَ) عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة ، وقد تقدم ، و (الْجَنَّةَ) البستان عليه حظيرة ، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم ، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها ، وهذا لا يمتنع ، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها ، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.

واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه‌السلام؟ فقال ابن عباس «حين أنبأ الملائكة بالأسماء واسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء ، فاستيقظ وهي إلى جانبه» فقال فيما يزعمون : لحمي ودمي ، وسكن إليها ، فذهبت الملائكة لتجرب علمه ، فقالوا له يا آدم ما اسمها؟ قال : حواء. قالوا : ولم؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي ، ثم قال الله له : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى ، ليسكن إليها ويستأنس بها ، فلما انتبه رآها ، فقال : من أنت؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وحذفت النون من (كُلا) للأمر ، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ ، ولفظ هذا الأمر ب (كُلا) معناه الإباحة ، بقرينة قوله : (حَيْثُ شِئْتُما) والضمير في (مِنْها) عائد على (الْجَنَّةَ).


وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغدا» بسكون الغين ، والجمهور على فتحها ، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه ، ومنه قول امرئ القيس : [الرمل].

بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد

و (رَغَداً) منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل : هو نصب على المصدر في موضع الحال ، و (حَيْثُ) مبنية على الضم ، ومن العرب من يبنيها على الفتح ، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض ، كقوله سبحانه : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٨٢ ، القلم : ٤٤] ومن العرب من يقول «حوث» ، و (شِئْتُما) أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما ، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.

قال القاضي أبو محمد : هذا تعليل المبرد ، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء ، نقلت حركة الياء إلى الشين ، وحذفت الياء بعد.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) معناه لا تقرباها بأكل ، لأن الإباحة فيه وقعت.

قال بعض الحذاق : «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مثال بين في سد الذرائع.

وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل ، والهاء في هذه بدل من الياء ، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه ، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة ، أو إلى جنس.

وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشّجرة» بكسر الشين و «الشجر» كل ما قام من النبات على ساق.

واختلف في هذه (الشَّجَرَةَ) التي نهى عنها ما هي؟

فقال ابن مسعود وابن عباس : «هي الكرم ولذلك حرمت علينا الخمر».

وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : «هي شجرة التين».

وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وعطية وقتادة : «هي السنبلة وحبها ككلى البقر ، أحلى من العسل ، وألين من الزبد».

وروي عن ابن عباس أيضا : «أنها شجرة العلم ، فيها ثمر كل شيء».

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.

وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة : «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد».

قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضا ضعيف.


قال : «واليهود تزعم أنها الحنظلة ، وتقول : إنها كانت حلوة ومرّت من حينئذ».

قال القاضي أبو محمد : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها ، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ، ولا يؤمر ولا ينهى.

وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز ، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض.

وقوله (فَتَكُونا) في موضع جزم على العطف على (لا تَقْرَبا) ، ويجوز فيه النصب على الجواب ، والناصب عند الخليل وسيبويه «أن المضمرة» ، وعند الجرمي الفاء ، والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه ، ومنه قولهم : «من أشبه أباه فما ظلم» ، ومنه «المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته ، ومنه قول عمرو بن قمئة : [الكامل]

ظلم البطاح بها انهلال حريصة

فصفا النطاف له بعيد المقلع

والظلم في أحكام الشرع على مراتب ، أعلاها الشرك ، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب ، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله : (وَلا تَقْرَبا) على جهة الوجوب ، لا على الندب ، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالما ، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي ، و «أزلهما» مأخوذ من الزلل ، وهو في الآية مجاز ، لأنه في الرأي والنظر ، وإنما حقيقة الزلل في القدم.

قال أبو علي : (فَأَزَلَّهُمَا) يحتمل تأويلين ، أحدهما ، كسبهما الزلة ، والآخر أن يكون من زل إذا عثر».

وقرأ حمزة : «فأزالهما» ، مأخوذ من الزوال ، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤديا إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء ، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في الكيفية ، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَقاسَمَهُما) والمقاسمة ظاهرها المشافهة.

وقال بعضهم : إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله ، فقال : يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلدا كان ، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه ، فقال : هل أدلك على شجرة الخلد؟.

وقال بعضهم : دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية ، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية ، فخرج إلى حواء وأخذ شيئا من الشجرة ، وقال : انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت ، ثم أغوى آدم ، وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما ، وحصلا في حكم الذنب ، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر ، وكذلك تحملين كرها ، وتضعين كرها ، تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش : «وتكونين سفيهة ، وقد كنت حليمة».


وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها ، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والضمير في (عَنْها) عائد على (الشَّجَرَةَ) في قراءة من قرأ «أزلهما» ، ويحتمل أن يعود على (الْجَنَّةَ) فأما من قرأ أزالهما فإنه يعود على (الْجَنَّةَ) فقط ، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر ، تقديره فأكلا من الشجرة.

وقال قوم : «أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها».

وقال آخرون : «تأولا النهي على الندب».

وقال ابن المسيب : «إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله».

وقوله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) يحتمل وجوها ، فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية.

وقيل : من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا. وقيل : من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يتقارب.

وقرأ أبو حيوة : «اهبطوا» بضم الباء. «ويفعل» كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدّ. والهبوط النزول من علو إلى أسفل.

واختلف من المخاطب بالهبوط ، فقال السدي وغيره : «آدم وحواء وإبليس والحية».

وقال الحسن : «آدم وحواء والوسوسة».

قال غيره : «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته».

و (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جملة في موضع الحال ، وإفراد لفظ (عَدُوٌّ) من حيث لفظ بعض ، وبعض وكل تجري مجرى الواحد ، ومن حيث لفظة (عَدُوٌّ) تقع للواحد والجمع ، قال الله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد.

وقال السدي : «المراد الاستقرار في القبور ، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة ، وحديث ، وأنس ، وغير ذلك». وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه: [الطويل]

وقفت على قبر غريب بقفرة

متاع قليل من حبيب مفارق

واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة : إلى الموت ، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا ، وقالت فرقة : (إِلى حِينٍ) إلى يوم القيامة ، وهذا قول من يقول : المستقر هو في القبور. ويترتب أيضا على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله : (وَلَكُمْ) ، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة ، والحين المدة الطويلة من الدهر ، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة.

قال الله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [إبراهيم : ٢٥] وقد قيل : أقصرها ستة أشهر ، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر ، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن.


وفي قوله تعالى : (إِلى حِينٍ) فائدة لآدم عليه‌السلام ، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها ، وهي لغير آدم دالة على المعاد.

وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة ، وأن الحية نزلت بأصبهان ، وقيل بميسان ، وأن إبليس نزل على الأبلة.

قوله عزوجل :

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩)

المعنى : فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك ، و (آدَمُ) رفع ب «تلقى» ، و (كَلِماتٍ) نصب بها ، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم.

وحكى مكي قولا : أنه ألهمها فانتفع بها.

وقرأ ابن كثير : «آدم» بالنصب. «من ربه كلمات» بالرفع ، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.

واختلف المتأولون في الكلمات ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هي قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية [الأعراف : ٢٣].

وقال مجاهد : «هي أن آدم قال : سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم».

وقال ابن عباس : «هي أن آدم قال : أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى ، قال : أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى ، قال : أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى. قال : أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم».

قال عبيد بن عمير : «إن آدم قال : أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته علي أم شيء ابتدعته؟ قال : بل شيء كتبته عليك. قال : أي رب كما كتبته علي فاغفر لي».

وقال قتادة : «الكلمات هي أن آدم قال : أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال : إذا أدخلك الجنة».

وقالت طائفة : إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه ، رسول الله «فتشفع بذلك ، فهي الكلمات».

وقالت طائفة : «إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه ، وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها


صادرة عن كلمات ، وهي كن في كل واحدة منهن ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود.

وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب ، فقال : يقول ما قال أبواه ، (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا). وما قال موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). [القصص : ١٦]. وما قال يونس : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). [الأنبياء : ٨٧].

و «تاب عليه» معناه رجع به ، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق ، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة ، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) فلذلك كملت القصة بذكره وحده ، وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١].

وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.

وكنية آدم أبو محمد ، وقيل أبو البشر.

وقرأ الجمهور : «إنه» بكسر الألف على القطع.

وقرأ ابن أبي عقرب : «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه ، وبنية (التَّوَّابُ) للمبالغة والتكثير ، وفي قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله ، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب ، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه ، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر ، فعلق بالأول العداوة ، وعلق بالثاني إتيان الهدى. وقيل : كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده ، كما تقول لرجل قم قم.

وحكى النقاش : أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء ، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض ، وهو الآخر في الوقوع ، فليس في الأمر تكرار على هذا ، و (جَمِيعاً) حال من الضمير في (اهْبِطُوا) ، وليس بمصدر ولا اسم فاعل ، ولكنه عوض منهما دال عليهما ، كأنه قال هبوطا جميعا ، أو هابطين جميعا ، واختلف في المقصود بهذا الخطاب ، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم ، وقيل ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء ، لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفا لهما ، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع ، و «إن» في قوله (فَإِمَّا) هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون ، وفي قوله تعالى: (مِنِّي) إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى. واختلف في معنى قوله (هُدىً) ، فقيل : بيان وإرشاد.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والصواب أن يقال : بيان ودعاء.

وقالت فرقة : الهدى الرسل ، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر : هو فمن بعده.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) شرط جوابه فلا خوف عليهم.


قال سيبويه : الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ).

وحكي عن الكسائي أن قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جواب الشرطين جميعا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : حكي هذا وفيه نظر ، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا ، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة : ٨٩]. فيقول سيبويه : «جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله : (فروح) عليه» ويقول الكوفيون: «فروح جواب الشرطين».

قال القاضي أبو محمد : وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون (فَلا خَوْفٌ) جوابا للشرطين.

وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق : (هُدىً) وهي لغة هذيل.

قال أبو ذؤيب يرثي بنيه : [الكامل].

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ، ولكل جنب مصرع

وكذلك يقولون عصى وما أشبهه ، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها ، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.

وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي : «فلا خوف عليهم» نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف ، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم (يَحْزَنُونَ) على مرفوع ، «ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.

وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوف» بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا» عمل ليس ، لكنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال ، ويحتمل قوله تعالى : «لا خوف عليهم» أي فيما بين أيديهم من الدنيا ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم منها ، ويحتمل أن «لا خوف عليهم» يوم القيامة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فيه ، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة ، وقال (وَكَذَّبُوا) وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفروا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي ، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك ، بقوله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة ، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية ، و (أُولئِكَ) رفع بالابتداء و (أَصْحابُ) خبره ، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما ، في زمن ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة ، وهكذا هي صحبة أهل النار لها ، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة ، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن ، وأكثرها الخلطة والملازمة ، و (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، ابتداء وخبر في موضع الحال.

قوله عزوجل :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)


وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١)

(يا) حرف نداء مضمن معنى التنبيه.

قال الخليل : «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول : أريد أو أدعو».

وقال أبو علي الفارسي : العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل المضمر فقوي فعمل ، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء ، و (بَنِي) منادى مضاف و (إِسْرائِيلَ) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وهو اسم أعجمي يقال فيه إسراءل وإسرائيل وإسرائيل ، وتميم تقول إسرائين ، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله.

وحكى المهدوي أن ـ إسرا ـ مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته.

وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل ، والذكر في كلام العرب على أنحاء ، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان ، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع ، وتحركت الياء من (نِعْمَتِيَ) لأنها لقيت الألف واللام ، ويجوز تسكينها ، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى ، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.

فقال الطبري : «بعثة الرسل منهم وإنزال المن والسلوى ، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون ، وتفجير الحجر».

وقال غيره : «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقال آخرون : «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذه أقوال على جهة المثال ، والعموم في اللفظة هو الحسن.

وحكى مكي : أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.

وقال ابن عباس وجمهور العلماء : بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه‌السلام ، مؤمنهم وكافرهم ، والضمير في (عَلَيْكُمْ) يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت بين الآباء والأجداد ، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقام الضمير في (عَلَيْكُمْ) ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أمر وجوابه.

فقال الخليل : «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط ، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل».


وقرأ الزهري : «أوفّ» بفتح الواو وشد الفاء للتكثير.

واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، وقيل العهد قوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: ٦٣ ، ٩٣] ، وقال ابن جريج : العهد قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة : ١٢] ، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة ، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم ، لا علة له ، لأن العلة لا تتقدم المعلول.

وقوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الاسم ايا والياء ضمير ككاف المخاطب ، وقيل (إِيَّايَ) بجملته هو الاسم ، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر ، تقديره : وإياي ارهبوا فارهبون ، وامتنع أن يتقدر مقدما لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف ، فكان يجيء وارهبون ، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية.

وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء ، (وَآمِنُوا) معناه صدقوا ، و (مُصَدِّقاً) نصب على الحال من الضمير في (أَنْزَلْتُ) ، وقيل من «ما» ، والعامل فيه (آمِنُوا) وما أنزلت كناية عن القرآن ، و (لِما مَعَكُمْ) يعني من التوراة وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) هذا من مفهوم الخطاب الذي : المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد ، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي ، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به ، ونصب أول على خبر كان.

قال سيبويه : (أَوَّلَ) أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه» قال غير سيبويه : «هو أوأل من وأل إذا نجا ، خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت».

وقيل : إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل ، وسهل وأبدل وأدغم ، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم ، والمراد به الجماعة.

قال الشاعر : [الكامل]

وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به وقيل معناه : ولا تكونوا أول فريق كافر به.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد كان كفر قبلهم كفار قريش ، فإنما معناه من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا ، لأنهم حجة مظنون بهم علم ، واختلف في الضمير في (بِهِ) على من يعود ، فقيل على محمد عليه‌السلام ، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله : (لِما مَعَكُمْ).

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وعلى هذا القول يجيء (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) مستقيما على ظاهره في الأولية ، وقيل الضمير في (بِهِ) عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله (بِما أَنْزَلْتُ).

واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات ، فقالت طائفة : إن الأحبار كانوا يعلمون


دينهم بالأجرة ، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم : علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة.

وقال قوم : كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.

وقال قوم : إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه‌السلام في التوراة ، ففي ذلك قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١ ، المائدة : ٤٤].

وقال قوم : معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيّ وآياتي ثمنا قليلا ، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له ، وقد تقدم نظير قوله (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وبين «اتقون» و «ارهبون» فرق ، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.

قوله عزوجل :

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦)

المعنى ولا تخلطوا ، يقال «لبست الأمر» بفتح الباء ألبسه ، إذا خلطته ومزجت بينه بمشكله وحقه بباطله.

وأما قول الشاعر :

وكتيبة لبّستها بكتيبة

فالظاهر أنه من هذا المعنى ، ويحتمل أن يكون المعنى من اللباس ، واختلف أهل التأويل في المراد بقوله : (الْحَقَّ بِالْباطِلِ).

فقال أبو العالية : «قالت اليهود : محمد نبي مبعوث ، لكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل».

وقال الطبري : «كان من اليهود منافقون فما أظهروا من الإيمان حق ، وما أبطنوا من الكفر باطل».

وقال مجاهد : «معناه لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام».

وقال ابن زيد : المراد ب (الْحَقَ) التوراة ، و «الباطل» ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه‌السلام ، و (تَلْبِسُوا) جزم بالنهي ، (وَتَكْتُمُوا) عطف عليه في موضع جزم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار «أن» ، وإذا قدرت «أن» كانت مع (تَكْتُمُوا) بتأويل المصدر ، وكانت الواو عاطفة على مصدر مقدر من (تَلْبِسُوا) ، كأن الكلام ولا يكن لبسكم الحق بالباطل وكتمانكم الحق.

وقال الكوفيون : (تَكْتُمُوا) نصب بواو الصرف ، و (الْحَقَ) يعني به أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».


وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في موضع الحال ولم يشهد لهم تعالى بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ، ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه‌السلام ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال ، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من واقعه على علم ، وأنه أعصى من الجاهل.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معناه : أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها ، وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا

حتى تقيم الخيل سوق طعان

وقد تقدم القول في الصلاة ، و (الزَّكاةَ) في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها ، و (الزَّكاةَ) مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد ، وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل (الزَّكاةَ) مأخوذة من التطهير ، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال ، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ، ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس.

وقوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قال قوم : جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها.

وقال قوم : إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.

وقالت فرقة : إنما قال (مَعَ) لأن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة ، فأمرهم بقوله (مَعَ) بشهود الجماعة ، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص.

قال لبيد : [الطويل]

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدبّ كأني كلما قمت راكع

ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة ، قال الأضبط بن قريع : [الخفيف]

لا تعاد الضعيف علك أن تر

كع يوما والدهر قد رفعه

وقوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ ، و «البر» يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، (وَتَنْسَوْنَ) بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه.


وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي». وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ) معناه : تدرسون وتقرءون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و (الْكِتابَ) التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة.

وقوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) معناه : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع.

وقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال مقاتل : «معناه على طلب الآخرة».

وقال غيره : المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله ، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب ، وعلى مصائب الدهر أيضا ، ومنه الحديث : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة ، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم ، وهو في سفر ، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته ، وهو يقرأ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع. ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة.

وقال قوم : «الصبر» على بابه ، (وَالصَّلاةِ) الدعاء ، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ) [الأنفال : ٤٥] لأن الثبات هو الصبر ، وذكر الله هو الدعاء.

واختلف المتأولون في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) على أي شيء يعود الضمير؟ فقيل على (الصَّلاةِ) ، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله (وَاسْتَعِينُوا) ، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.

وقالت فرقة : على إجابة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفي هذا ضعف ، لأنه لا دليل له من الآية عليه.

وقيل : يعود الضمير على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا أضعف من الذي قبله.

و «كبيرة» معناه ثقيلة شاقة ، والخاشعون المتواضعون المخبتون ، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.

و (يَظُنُّونَ) في هذه الآية قال الجمهور : معناه يوقنون.

وحكى المهدوي وغيره : أن الظن هنا يصح أن يكون على بابه ، ويضمر في الكلام بذنوبهم ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين.


قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا تعسف ، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه ، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس ، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسن بعد ، كهذه الآية ، وكقوله تعالى : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) [الكهف : ٥٣] وكقول دريد بن الصمة : [الطويل]

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم بالفارسي المسرد

وقوله تعالى : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن ، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب ، ففي الكلام حذف مضاف ، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة ، وورد بها متواتر الحديث.

وحكى المهدوي : أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد ، مثل عافاك الله.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا قول ضعيف ، لأن لقي يتضمن معنى لاقى ، وليست كذلك الأفعال كلها ، بل فعل خلاف فاعل في المعنى.

و (مُلاقُوا) أصله ملاقون ، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفا ، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء ، وهي إضافة غير محضة ، لأنها لا تعرف.

وقال الكوفيون : ما في اسم الفاعل الذي هو بمعنى المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله ، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة.

و (راجِعُونَ) قيل : معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض ، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨ ، الحج : ٦٦ ، الروم : ٤٠] والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على الرب تعالى ، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه (مُلاقُوا).

قوله عزوجل :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩)

قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة ، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين ، ويصح أن يكون للكافرين منهم ، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين ، بدلالة ما بعده ، وأيضا فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم ، وفي الكلام اتساع.


قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم : المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك ، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنتم خير أمة أخرجت للناس».

وقوله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً) نصب يوما «باتقوا» على السعة ، والتقدير عذاب يوم ، أو هول يوم ، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه ، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى ، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل ، ولكن معناه : جيئوا متقين يوما. و (لا تَجْزِي) معناه : لا تغني.

وقال السدي : معناه لا تقضي ، ويقويه قوله (شَيْئاً) وقيل المعنى : لا تكافئ ، ويقال : جزى وأجزأ بمعنى واحد ، وقد فرق بينهما قوم ، فقالوا : جزى بمعنى : قضى وكافأ ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.

وقرأ أبو السمال «تجزىء» بضم التاء والهمز ، وفي الكلام حذف.

وقال البصريون : التقدير لا تجزي فيه ، ثم حذف فيه.

وقال غيرهم : حذف ضمير متصل ب (تَجْزِي) تقديره لا تجزيه ، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر ، وإنما يحسن في الصلة.

وقال بعض البصريين : التقدير لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر واتصل الضمير ، ثم حذف الضمير بتدريج.

وقوله تعالى : ولا تقبل منها شفاعة قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالتاء ، وقرأ الباقون : بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي ، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع ، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم.

وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة ، و (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) ، وهذا إنما هو في الكافرين ، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين.

وقوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ، قال أبو العالية : «العدل الفدية».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه ، «والعدل» بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه.

وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية ، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير ، والضمير في قوله (وَلا هُمْ) عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية ، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما ، لأن اثنين جمع ، أو لأن النفس للجنس وهو جمع ، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا ، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى.

وقوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي خلصناكم ، و (آلِ) أصله أهل ، قلبت الهاء ألفا كما عمل في ماء ، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل ، فقيل أهيل ، مويه ، وقد قيل في (آلِ) إنه اسم غير أهل ، أصله أول وتصغيره أويل ، وإنما نسب الفعل إلى (آلِ فِرْعَوْنَ) وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم.


وقال الطبري رحمه‌الله : «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به ، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه».

ومنه قول أراكة الثقفي : [الطويل]

فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه

عليّ وعباس وآل أبي بكر

يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأشهر في (آلِ) أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد ، وقد يقال آل مكة ، وآل المدينة ، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر ، وفرعون موسى قيل اسمه مصعب بن الريان.

وقال ابن إسحاق : «اسمه الوليد بن مصعب».

وروي أنه كان من أهل إصطخر ، ورد مصر فاتفق له فيها الملك ، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما‌السلام.

و (يَسُومُونَكُمْ) معناه : يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة ، وسامه خطة خسف و (يَسُومُونَكُمْ) إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال ، أي سائمين لكم سوء العذاب ، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال ، ويكون وصف حال ماضية ، و (سُوءَ الْعَذابِ) أشده وأصعبه.

قال السدي : «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء ، ويستحيي النساء».

وقال غيره : صرفهم على الأعمال : الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، وكان قومه جندا ملوكا ، وقرأ الجمهور «يذبّحون» بشد الباء المكسورة على المبالغة ، وقرأ ابن محيصن : «يذبحون» بالتخفيف ، والأول أرجح إذ الذبح متكرر. كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ، فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه.

وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما : إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون : قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك.

وقال ابن عباس أيضا : إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل ، ووكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من يحمل منهن.

وقيل : «وكل بذلك القوابل».

وقالت طائفة : معنى (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك ، واستدل هذا القائل بقوله تعالى : (نِساءَكُمْ).

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور ، والنساء هم الأطفال الإناث ، وعبر عنهن باسم النساء بالمئال ، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنّ ،


ونفس الاستحياء ليس بعذاب ، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء ، و (يُذَبِّحُونَ) بدل من «يسومون».

وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ) إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر ، و (بَلاءٌ) معناه امتحان واختبار ، ويكون (الْبَلاءُ) في الخير والشر.

وقال قوم : الإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى التنجية من بني إسرائيل ، فيكون (الْبَلاءُ) على هذا في الخير ، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم.

وقال جمهور الناس : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، و (الْبَلاءُ) هنا في الشر ، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.

وحكى الطبري وغيره في كيفية نجاتهم : أن موسى عليه‌السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط ، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل ، فسرى بهم موسى من أول الليل ، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة ، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح ، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين ، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه ، وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف ، وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف.

وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته ، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين ، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض يوشع فرسه فيه حتى بلغ الغمر ، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت؟ فو الله ما كذبت ولا كذبت ، فأشار إلى البحر ، وأوحى الله تعالى إليه : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء : ٦٣]. وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك ، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر ، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٥٣)

(فَرَقْنا) معناه : جعلناه فرقا ، وقرأ الزهري «فرّقنا» بتشديد الراء ، ومعنى (بِكُمُ) بسببكم ، وقيل لما كانوا بين الفرق وقت جوازهم فكأنه بهم فرق ، وقيل معناه لكم ، والباء عوض اللام وهذا ضعيف ، و (الْبَحْرَ) هو بحر القلزم ، ولم يفرق البحر عرضا جزعا من ضفة إلى ضفة ، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة ، وكان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة.

وذكر العامري أن موضع خروجهم من البحر كان قريبا من برية فلسطين وهي كانت طريقهم.


وقيل انفلق البحر عرضا وانفرق البحر على اثني عشر طريقا ، طريق لكل سبط فلما دخلوها قالت كل طائفة غرق أصحابنا وجزعوا ، فقال موسى : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة ، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر ، فأدارها فصار في الماء فتوح كالطاق يرى بعضهم بعضا ، وجازوا ، وجبريلصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ساقتهم على ماذيانة يحث بني إسرائيل ويقول لآل فرعون : مهلا حتى يلحق آخركم أولكم ، فلما وصل فرعون إلى البحر أراد الدخول فنفر فرسه فتعرض له جبريل بالرمكة فاتبعها الفرس ، ودخل آل فرعون وميكائيل يحثهم ، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم على الضفة وحده انطبق البحر عليهم فغرقوا.

و (تَنْظُرُونَ) قيل معناه بأبصاركم ، لقرب بعضهم من بعض.

وقيل معناه ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار.

وقيل : إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم.

وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر ، كما تقول : هذا الأمر منك بمرأى ومسمع ، أي بحال تراه وتسمعه إن شئت.

قال الطبري رحمه‌الله : وفي إخبار القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل ، دليل واضح عند بني إسرائيل وقائم عليهم بنبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الجمهور «واعدنا».

وقرأ أبو عمرو. «وعدنا» ، ورجحه أبو عبيد ، وقال : إن المواعدة لا تكون إلا من البشر.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وليس هذا بصحيح ، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة ، و (مُوسى) اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف ، والقبط على ما يروى يقولون للماء «مو» ، وللشجر «سا» ، فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمّي «موسى».

قال ابن إسحاق : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، ونصب أربعين على المفعول الثاني ، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع ، وهي فيما روي ذو القعدة وعشر ذي الحجة ، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة ، ولذلك وقع بها التاريخ.

قال النقاش : «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم ، لأنه لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه‌السلام واصل أربعين ليلة بأيامها».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه‌الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه ، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول : أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم : «آتنا غداءنا»؟ وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد.


وقال بعض البصريين : وعده رأس الأربعين ليلة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف : وقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ). قرأ أكثر السبعة بالإدغام.

وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه بإظهار الذال و (ثُمَ) للمهلة ، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة ، واتخذ وزنه افتعل من الأخذ.

قال أبو علي : «هو من تخذ لا من أخذ» وأنشد [المخرق العبدي] : [الطويل]

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرق

ونصب (الْعِجْلَ) ب (اتَّخَذْتُمُ) ، والمفعول الثاني محذوف ، تقديره اتخذتم العجل إلها ، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٢٧] وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في المعنى كقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) [المجادلة : ١٦ ، المنافقون : ٢] ، وكهذه الآية وغيرها. والضمير في (بَعْدِهِ) يعود على موسى.

وقيل : على انطلاقه للتكليم ، إذ المواعدة تقتضيه.

وقيل : على الوعد ، وقصص هذه الآية أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج ببني إسرائيل من مصر ، قال لهم : إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته ، وروي أنهم استعاروه برأيهم ، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم ، وقال لهم موسى عن الله تعالى : إنه ينزل عليّ كتابا فيه التحليل والتحريم والهدى لكم ، فلما جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب ، فخرج لميعاد ربه وحده ، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة ، فعدوا عشرين يوما بعشرين ليلة ، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر ، وقد أخلفنا الموعد ، وبدا تعنتهم وخلافهم.

وكان السامري رجلا من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر ، وقيل لم يكن من بني إسرائيل بل كان غريبا فيهم ، وكان قد عرف جبريل عليه‌السلام وقت عبرهم البحر ، فقالت طائفة : أنكر هيئته فعرف أنه ملك.

وقال طائفة : كانت أم السامري ولدته عام الذبح فجعلته في غار وأطبقت عليه ، فكان جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغذوه بأصابع نفسه فيجد في إصبع لبنا ، وفي إصبع عسلا ، وفي إصبع سمنا ، فلما رآه وقت جواز البحر عرفه ، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب ، وألقي في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان ، فلما خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل : إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم ، فجيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين.

وقيل : بل أوقد لهم نارا وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها ، فجعلوا يطرحون.

وقيل : بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى ، وجاء السامري فطرح القبضة ، وقال كن عجلا.


وقيل : إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر ، وكان يعجبه ذلك.

وقيل : بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر ف (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة يفتنون ، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل ، وظلت منهم طائفة يعبدونه ، فاعتزلهم هارون بمن تبعه ، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله.

ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم ، ففعلت بنو إسرائيل ذلك ، فروي أنهم لبسوا السلاح ، من عبد منهم ومن لم يعبد وألقى الله عليهم الظلام ، فقتل بعضهم بعضا يقتل الأب ابنه والأخ أخاه ، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيدا ، وتاب على البقية ، فذلك قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ).

وقال بعض المفسرين : وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.

وقالت طائفة : جلس الذين عبدوا بالأفنية ، وخرج يوشع بن نون ينادي : ملعون من حل حبوته ، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم ، وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم ، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا العجل ، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده ، و (أَنْتُمْ ظالِمُونَ) مبتدأ وخبر في موضع الحال ، وقد تقدم تفسير الظلم ، والعفو تغطية الأثر وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو غيره ، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب وعفا عنهم عزوجل أي عمن بقي منهم لم يقتل ، و (لَعَلَّكُمْ) ترج لهم في حقهم وتوقع منهم لا في حق الله عزوجل ، لأنه كان يعلم ما يكون منهم.

وقوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، (إِذْ) عطف على ما ذكر من النعم ، و (الْكِتابَ) هو التوراة بإجماع من المتأولين.

واختلف في (الْفُرْقانَ) هنا فقال الزجاج وغيره هو التوراة أيضا كرر المعنى لاختلاف اللفظ ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل ، ولفظة الكتاب لا تعطي ذلك.

وقال آخرون : (الْكِتابَ) التوراة ، و (الْفُرْقانَ) سائر الآيات التي أوتي موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنها فرقت بين الحق والباطل.

وقال آخرون : (الْفُرْقانَ) : النصر الذي فرق بين حالهم وحال آل فرعون بالنجاة والغرق.

وقال ابن زيد : «الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا».

وقال الفراء وقطرب : معنى هذه الآية : آتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا ضعيف.

و (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ترج وتوقع مثل الأول.


قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥)

هذا القول من موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي» لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم» في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، و «العجل» لفظة عربية ، اسم لولد البقرة.

وقال قوم : سمي عجلا لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه‌السلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وليس هذا القول بشيء.

واختلف هل بقي العجل من ذهب؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحما ودما ، والأول أصح.

و «توبوا» : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة.

وقرأ الجمهور : «بارئكم» بإظهار الهمزة وكسرها.

وقرأ أبو عمرو : «بارئكم» بإسكان الهمزة.

وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات.

وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقراءة أبي عمرو «بارئكم» لحن.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [الرجز]

إذا اعوججن قلت صاحب قوم

وقال امرؤ القيس : [السريع]

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

وقال آخر : [الرجز]

قالت سليمى اشتر لنا سويقا

وقال الآخر : [السريع]

وقد بدا هنك من المئزر


وقال جرير :

ونهر تيري فما تعرفكم العرب

وقال وضاح اليمن : [الرجز]

إنما شعري شهد قد خلط بجلجلان

ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.

قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات.

وقرأ الزهري «باريكم» بكسر الياء من غير همز ، ورويت عن نافع.

وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم» : وقال : «هي من الاستقالة».

قال أبو الفتح : «اقتال» هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واوا كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس» والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه‌الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده.

وقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبله محذوف تقديره ففعلتم.

وقوله (عَلَيْكُمْ) معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم.

قال بعض الناس : (فَاقْتُلُوا) في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب ، واحتج بقوله عليه‌السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخا ، وبقول حسان :

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) يريد السبعين الذين اختارهم موسى ، واختلف في وقت اختيارهم.

فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل ، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل.

وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد ، والأول أصح ، وقصة السبعين أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من تكليم الله ووجد العجل قد عبد قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل : نحن لم نكفر ونحن أصحابك ، ولكن أسمعنا كلام ربك ، فأوحى الله إليه أن اختر منهم سبعين شيخا ، فلم يجد إلّا ستين ، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة ، ففعل ، فأصبحوا شيوخا ، وكان قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين ، فتشاحوا فيمن يتأخر ، فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من مضى ، فتأخر يوشع بن نون وطالوت بن يوقنا وذهب موسى عليه‌السلام بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثا ويغتسلوا في اليوم الثالث ، واستخلف هارون على قومه ، ومضى حتى أتى الجبل ، فألقي عليهم الغمام.


قال النقاش وغيره : غشيتهم سحابة وحيل بينهم وبين موسى بالنور فوقعوا سجودا.

قال السدي وغيره : وسمعوا كلام الله يأمر وينهى ، فلم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم ، ففعل ، فلما فرغ وخرجوا بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله فذلك قوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) [البقرة : ٧٥] ، واضطرب إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ولم يطلبوا من الرؤية محالا ، أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع ، فأخذتهم حينئذ الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير.

وقال قتادة : «ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم ، فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل موسى يناشد ربه فيهم ويقول : أي رب ، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم فيهلكون ولا يؤمنون بي أبدا ، وقد خرجوا معي وهم الأخيار».

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : يعني وهم بحال الخير وقت الخروج.

وقال قوم : بل ظن موسى عليه‌السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل ، فذلك قوله (أَتُهْلِكُنا) يعني السبعين (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] يعني عبدة العجل.

وقال ابن فورك : يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه ، بقولهم لموسى «أرنا» وليس ذلك من مقدور موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (جَهْرَةً) مصدر في موضع الحال ، والأظهر أنها من الضمير في (نَرَى) ، وقيل من الضمير في (نُؤْمِنَ) ، وقيل من الضمير في (قُلْتُمْ) ، والجهرة العلانية ، ومنه الجهر ضد السر ، وجهر الرجل الأمر كشفه.

وقرأ سهل بن شعيب وحميد بن قيس : «جهرة» بفتح الهاء ، وهي لغة مسموعة عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكنا قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون (جَهْرَةً) جمع جاهر ، أي حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر.

وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما : «فأخذتكم الصعقة» ، ومضى في صدر السورة معنى (الصَّاعِقَةُ) ، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند الصاعقة.

وتنظرون معناه إلى حالكم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : حتى أحالهم العذاب وأزال نظرهم.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(٥٧) وَإِذْ


قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨)

أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه‌السلام وأحياهم من ذلك الهمود أو الموت ، ليستوفوا آجالهم ، وتاب عليهم ، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢].

وقال قوم : إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه‌السلام أن يجعلهم الله أنبياء ، فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أنبياء (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي على هذه النعمة ، والترجي إنما هو في حق البشر ، ونزلت الألواح بالتوراة على موسى في تلك المدة ، وهذا قول جماعة ، وقال آخرون : إن الألواح نزلت في ذهابه الأول وحده.

وذكر المفسرون في تظليل الغمام : أن بني إسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه بين مصر والشام ، فأمروا بقتال الجبارين فعصوا وقالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] فدعا موسى عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس ، فندم موسى عليه‌السلام على دعائه عليهم ، فقيل له : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٦].

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه ، ونشأ بنوهم على خير طاعة ، فهم الذين خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين ، وإذ كان جميعهم في التيه قالوا لموسى : من لنا بالطعام؟ قال : الله ، فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، قالوا : من لنا من حر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام ، قالوا : بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم ، وذكر مكي : عمود نار. فقالوا : من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر ، قالوا : من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان.

ومعنى (ظَلَّلْنا) جعلناه ظللا ، و (الْغَمامَ) السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره.

وقال مجاهد : «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه. وقيل (الْغَمامَ) ما ابيض من السحاب.

و (الْمَنَّ) صمغة حلوة ، هذا قول فرقة ، وقيل : هو عسل ، وقيل : شراب حلو ، وقيل : الذي ينزل اليوم على الشجر ، وقيل : (الْمَنَّ) خبز الرقاق مثل النقي. وقيل : هو الترنجبين وقيل الزنجبيل ، وفي بعض هذه الأقوال بعد. وقيل : (الْمَنَّ) مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملا.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب مسلم : الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.


فقيل : أراد عليه‌السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل.

وقيل : أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد ، فهي منة دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف.

وروي أن (الْمَنَّ) كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه ، فإن ادخر فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم ، لأن يوم السبت يوم عبادة ، و (الْمَنَّ) هنا اسم جمع لا واحد له من لفظه ، (وَالسَّلْوى) طير بإجماع من المفسرين ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.

قيل : هو السمانى بعينه. وقيل : طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى ، وقيل : طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.

قال الأخفش : «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد». قال الخليل : (السَّلْوى) جمع واحدته سلواة.

قال الكسائي : (السَّلْوى) واحدة جمعها سلاوى ، (وَالسَّلْوى) اسم مقصور لا يظهر فيه الإعراب ، لأن آخره ألف ، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفا آخر ، وقد غلط الهذلي فقال : [الطويل]

وقاسمها بالله عهدا لأنتم

ألذّ من السلوى إذا ما نشورها

ظن السلوى العسل.

وقوله تعالى : (كُلُوا) الآية ، معناه وقلنا كلوا ، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه ، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.

وقوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) يقدر قبله : فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب.

وقال بعض المفسرين : (ما ظَلَمُونا) ما نقصونا ، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه ، و (الْقَرْيَةَ) المدينة تسمى بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته ، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور. وقيل إلى أريحا ، وهي قريب من بيت المقدس.

قال عمر بن شبة : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه أمروا بدخول القرية المشار إليها ، وأما الشيوخ فماتوا فيه ، وروي أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات في التيه ، وكذلك هارونعليه‌السلام.

وحكى الزجاج عن بعضهم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه لأنه عذاب ، والأول أكثر ، و (كُلُوا) إباحة ، وقد تقدم معنى الرغد ، وهي أرض مباركة عظيمة الغلة ، فلذلك قال (رَغَداً).

و (الْبابَ) قال مجاهد : هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطة ، وقيل هو باب


القبة التي كان يصلي إليها موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي عن مجاهد أيضا : أنه باب في الجبل الذي كلم عليه موسى كالفرضة.

و (سُجَّداً) قال ابن عباس رضي الله عنه : معناه ركوعا ، وقيل متواضعين خضوعا لا على هيئة معينة ، والسجود يعم هذا كله لأنه التواضع ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر

وروي أن الباب خفض لهم ليقصر ويدخلوا عليه متواضعين ، و (حِطَّةٌ) فعلة من حط يحط ، ورفعه على خبر ابتداء ، كأنهم قالوا سؤالنا حطة لذنوبنا ، هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن.

وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقيل أمروا أن يقولوا مرفوعة على هذا اللفظ.

وقال عكرمة وغيره : أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لتحط بها ذنوبهم.

وقال ابن عباس : قيل لهم استغفروا وقولوا ما يحط ذنوبكم.

وقال آخرون : قيل لهم أن يقولوا هذا الأمر حق كما أعلمنا. وهذه الأقوال الثلاثة تقتضي النصب.

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : «حطة» بالنصب.

وحكي عن ابن مسعود وغيره : أنهم أمروا بالسجود وأن يقولوا (حِطَّةٌ) فدخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون حنطة حبة حمراء في شعرة ، ويروى غير هذا من الألفاظ.

وقرأ نافع : «يغفر» بالياء من تحت مضمومة.

وقرأ ابن عامر : «تغفر» بالتاء من فوق مضمومة.

وقرأ أبو بكر عن عاصم : «يغفر» بفتح الياء على معنى يغفر الله.

وقرأ الباقون : «نغفر» بالنون.

وقرأت طائفة «تغفر» كأن الحطة تكون سبب الغفران ، والقراء السبعة على (خَطاياكُمْ) ، غير أن الكسائي كان يميلها.

وقرأ الجحدري : «تغفر لكم خطيئتكم» بضم التاء من فوق وبرفع الخطيئة.

وقرأ الأعمش : «يغفر» بالياء من أسفل مفتوحة «خطيئتكم» نصبا.

وقرأ قتادة مثل الجحدري ، وروي عنه أنه قرأ بالياء من أسفل مضمومة خطيئتكم رفعا.

وقرأ الحسن البصري : «يغفر لكم خطيئاتكم» أي يغفر الله.

وقرأ أبو حيوة : «تغفر» بالتاء من فوق مرفوعة «خطيئاتكم» بالجمع ورفع التاء.

وحكى الأهوازي : أنه قرىء «خطأياكم» بهمز الألف الأولى وسكون الآخرة. وحكي أيضا أنه قرىء بسكون الأولى وهمز الآخرة.


قال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همز كهدية وهدايا ، وركية وركايا.

وقال الخليل : هو جمع خطيئة بالهمز ، وأصله خطايىء قدمت الهمزة على الياء فجاء خطائي أبدلت الياء ألفا بدلا لازما فانفتحت الهمزة التي قبلها فجاء خطاء ، همزة بين ألفين ، وهي من قبيلهما فكأنها ثلاث ألفات ، فقلبت الهمزة ياء فجاء خطايا.

قال سيبويه : «أصله خطايىء همزت الياء كما فعل في مدائن وكتائب فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء ، ثم أعلت على ما تقدم».

وقوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) عدة ، المعنى إذا غفرت الخطايا بدخولكم وقولكم زيد بعد ذلك لمن أحسن ، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر وقال لا إله إلا الله فقيل هم المراد ب (الْمُحْسِنِينَ) هنا.

قوله عزوجل :

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠)

روي أنهم لما جاؤوا الباب دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى ، وفي الحديث أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم ، وبدلوا فقالوا حبة في شعرة ، وقيل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعرة وقيل شعيرة.

وحكى الطبري أنهم قالوا حطي شمقاثا أزبة ، وتفسيره ما تقدم.

والرجز العذاب ، وقال ابن زيد ومقاتل وغيرهما : «إن الله تعالى بعث على الذين بدلوا ودخلوا على غير ما أمروا الطاعون فأذهب منهم سبعين ألفا» ، وقال ابن عباس : «أمات الله منهم في ساعة واحدة نيفا على عشرين ألفا».

وقرأ ابن محيصن «رجزا» بعضهم الراء ، وهي لغة في العذاب ، والرجز أيضا اسم صنم مشهور.

والباء في قوله (بِما) متعلقة ب (فَأَنْزَلْنا) ، وهي باء السبب.

و (يَفْسُقُونَ) معناه يخرجون عن طاعة الله ، وقرأ النخعي وابن وثاب «يفسقون» بكسر السين ، يقال فسق يفسق ويفسق بضم السين وكسرها.

(وَإِذِ) متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر ، و (اسْتَسْقى) معناه طلب السقيا ، وعرف استفعل طلب الشيء ، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] بمعنى غني ، وقولهم : استعجب بمعنى عجب ، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم استنسر البغاث ، واستنوق الجمل ، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال ، وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه ، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية


منه ، وكان الحجر من جبل الطور ، على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وضربه موسى عليه‌السلام ، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا أعظم في الآية ، ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون ، وفي الكلام حذف تقديره فضربه (فَانْفَجَرَتْ) ، والانفجار انصداع شيء عن شيء ، ومنه الفجر ، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.

و (اثْنَتا) معربة دون أخواتها لصحة معنى التثنية ، وإنما يبنى واحد مع واحد ، وهذه إنما هي اثنان مع واحد ، فلو بنيت لرد ثلاثة واحدا ، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله (اثْنَتا عَشْرَةَ) لبعد العلامة من العلامة ، ولأنهما في شيئين ، وإنما منع ذلك في شيء واحد ، نحو مسلمات وغيره.

وقرأ ابن وثاب وابن أبي ليلى وغيرهما : «عشرة» بكسر الشين ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، والأشهر عنه الإسكان ، وهي لغة تميم ، وهو نادر ، لأنهم يخففون كثيرا ، وثقلوا في هذه ، وقرأ الأعمش «عشرة» بفتح الشين وهي لغة ضعيفة ، وروي عنه كسرها وتسكينها ، والإسكان لغة الحجاز.

و (عَيْناً) نصب على التمييز ، والعين اسم مشترك ، وهي هنا منبع الماء.

و (أُناسٍ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومعناه هنا كل سبط ، لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب ، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه‌السلام.

والمشرب المفعل موضع الشرب ، كالمشرع موضع الشروع في الماء ، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها ، وفي الكلام محذوف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المنفجر من الحجر المنفصل ، وبهذه الأحوال حسنت إضافة الرزق إلى الله تعالى ، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد.

(وَلا تَعْثَوْا) معناه ولا تفرطوا في الفساد ، يقال عثى الرجل يعثي وعثي يعثى عثيا إذا أفسد أشد فساد ، والأولى هي لغة القرآن والثانية شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثوا ولم يقرأ بهذه اللغة لأنها توجب ضم الثاء من (تَعْثَوْا) ، وتقول العرب عاث يعيث إذا أفسد ، وعث يعث كذلك ، ومنه عثة الصوف ، وهي السوسة التي تلحسه.

و (مُفْسِدِينَ) حال ، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ ، وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها ، والتقدم في المعاصي والنهي عنها.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ


اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١)

كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى ب (طَعامٍ واحِدٍ) ، وهما طعامان ، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد ، ولتكرارهما سواء أبدا قيل لهما (طَعامٍ واحِدٍ) ، ولغة بني عامر «فادع» بكسر العين.

و (يُخْرِجْ) : جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء ، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولا مما تنبت الأرض ، وقال الأخفش : «من» في قوله: (مِمَّا) زائدة «وما» مفعولة ، وأبى سيبويه أن تكون «من» ملغاة في غير النفي ، كقولهم : ما رأيت من أحد ، و (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَقْلِها) لبيان الجنس ، و (بَقْلِها) بدل بإعادة الحرف ، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم ، والقثاء جمع قثأة.

وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب : «قثائها» ، بضم القاف.

وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : «الفوم الحنطة».

وقال مجاهد : «الفوم الخبز».

وقال عطاء وقتادة : «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه».

وقال الضحاك : «الفوم الثوم» ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا ، مغاثير ومغافير ، وجدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، على أن البدل لا يقاس عليه ، والأول أصح : أنها الحنطة ، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح : [الطويل]

قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا

ورد المدينة عن زراعة فوم

يعني حنطة.

قال ابن دريد : «الفوم الزرع أو الحنطة» ، وأزد السراة يسمون السنبل فوما» ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر ، و (أَدْنى) مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة.

وقال علي بن سليمان : «هو مهموز من الدنيء البين الدناءة ، بمعنى الأخس ، إلا أنه خففت همزته».

وقال غيره : «هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وقلبت الواو ألفا لتطرفها».

وقرأ زهير للكسائي : «أدنأ» ، ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه ،


يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة ، لأن هذه البقول لا خطر لها ، وهذا قول الزجاج ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوا عار من هذه الخصال ، فكأن أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به ، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه ، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، فهو (أَدْنى) في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، فهي (أَدْنى) في هذا الوجه.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه ، فقال لهم : (اهْبِطُوا) ، وتقدم ذكر معنى الهبوط ، وكأن القادم على قطر منصب عليه ، فهو من نحو الهبوط ، وجمهور الناس يقرؤون «مصرا» بالتنوين وهو خط المصحف ، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه.

وقال مجاهد وغيره ممن صرفها : «أراد مصرا من الأمصار غير معين» ، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه.

وقالت طائفة ممن صرفها : أراد مصر فرعون بعينها ، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها.

قال الأخفش : «لخفتها وشبهها بهند ودعد». وسيبويه لا يجيز هذا.

وقال غير الأخفش : «أراد المكان فصرف».

وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما : «اهبطوا مصر» بترك الصرف ، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا : «هي مصر فرعون».

قال الأعمش : «هي مصر التي عليها صالح بن علي».

وقال أشهب : «قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون».

وقوله تعالى : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم.

وقرأ النخعي وابن وثاب «سألتم» بكسر السين وهي لغة ، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) معناه ألزموها وقضي عليهم بها ، كما يقال ضرب الأمير البعث ، وكما قالت العرب ضربة لازب ، أي إلزام ملزوم أو لازم ، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى ، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد ، أي حجر وألزم ، ومنه ضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، و (الذِّلَّةُ) فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال ، (وَالْمَسْكَنَةُ) من المسكين ، قال الزجاج : «هي مأخوذة من السكون وهي هنا : زي الفقر وخضوعه ، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته».


قال الحسن وقتادة : «المسكنة الخراج أي الجزية».

وقال أبو العالية : «المسكنة الفاقة والحاجة».

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) معناه : مروا متحملين له ، تقول : بؤت بكذا إذا تحملته ، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : «بؤ بشسع نعل كليب».

والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات ، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل ، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده ، والباء في (بِأَنَّهُمْ) باء السبب.

وقال المهدوي : «إن الباء بمعنى اللام» والمعنى : لأنهم ، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة ، وهو علامة لصدق الآية به ، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن.

وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وتقتلون» بالتاء على الرجوع إلى خطابهم ، وروي عنه أيضا بالياء.

وقرأ نافع : بهمز «النبيئين» ، وكذلك حيث وقع في القرآن ، إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُ) [الأحزاب : ٥٠] بلا مد ولا همز ، و (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا) [الأحزاب : ٥٣] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون ، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ» إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء ، بمعنى منبىء ، كما قيل : سميع بمعنى مسمع ، واستدلوا بما جاء من جمعه على نباء. قال الشاعر : [الطويل]

يا خاتم النبآء إنك مرسل

بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا

فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف» وظرفاء وشبهه.

قال أبو علي : «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة : كان مسيلمة نبوته نبيئة سوء ، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة ، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة» ، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء ، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز ، ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبوا إذا ظهر ، فالنبي الطريق الظاهر ، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة ، وقال الشاعر : [البسيط].

لما وردنا نبيا واستتبّ بنا

مسحنفر كخطوط السيح منسحل

واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل ، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء ، وحكى الزهراوي أنه يقال نبوء إذا ظهر فهو نبيء ، والطريق الظاهر نبيء بالهمز ، وروي أن رجلا قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز ، فقال له النبي عليه‌السلام : لست بنبيء الله ، وهمز ، ولكني نبيّ الله ، ولم يهمز.

قال أبو علي : «ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار ، والجمع كالواحد».


وقوله تعالى : (بِغَيْرِ الْحَقِ) تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها ، فصرح قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله ، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه ، كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، قال ابن عباس وغيره : «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر».

وقوله تعالى : (ذلِكَ) رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه ، والباء في (بِما) باء السبب ، و (يَعْتَدُونَ) معناه : يتجاوزون الحدود ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء ، وعرفه في الظلم والمعاصي.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤)

اختلف المتأولون في المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) في هذه الآية ، فقال سفيان الثوري : هم المنافقون في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) في ظاهر أمرهم ، وقرنهم باليهود (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم ، فمعنى قوله (مَنْ آمَنَ) في المؤمنين المذكورين : من حقق وأخلص ، وفي سائر الفرق المذكورة : من دخل في الإيمان. وقالت فرقة : (الَّذِينَ آمَنُوا) هم المؤمنون حقا بمحمد صلى الله عليه وقوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام ، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، (وَالَّذِينَ هادُوا) كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا من كفر بعيسى عليه‌السلام ، (وَالنَّصارى) كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَالصَّابِئِينَ) كذلك ، قال : إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، وذكر له الطبري قصة طويلة ، وحكاها أيضا ابن إسحاق ، مقتضاها أنه صحب عبادا من النصارى فقال له آخرهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به ، ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلم ذكر له خبرهم ، وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية.

وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام ، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره ، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


(وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود ، وسموا بذلك لقولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي تبنا ، فاسمهم على هذا من هاد يهود ، وقال الشاعر : [السريع]

إني امرؤ من مدحتي هائد

أي تائب ، وقيل : نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ، فلما عرب الاسم لحقه التغيير كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها ، وحكى الزهراوي أن التهويد النطق في سكون ووقار ولين ، وأنشد :

وخود من اللائي تسمعن بالضحى

قريض الردافى بالغناء المهود

قال : ومن هذا سميت اليهود ، وقرأ أبو السمال «هادوا» بفتح الدال.

(وَالنَّصارى) لفظة مشتقة من النصر ، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة ، ويقال نصريا ويقال نصرتا ، وإما لأنهم تناصروا ، وإما لقول عيسى عليه‌السلام (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٢ ، الصف : ٤] قال سيبويه : واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى ، وأنشد : [أبو الأخرز الحماني] : [الطويل]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنّف

وأنشد الطبري : [الطويل]

يظل إذا دار العشيّ محنّفا

ويضحي لديها وهو نصران شامس

قال سيبوية : إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلّا بياء نسب ، قال الخليل : واحد (النَّصارى) نصريّ كمهريّ ومهارى.

والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبا ، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيها بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله ، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت ، قال أبو علي : يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت ، فالصابىء التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره ، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها ، وبالهمز قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه ، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال ، أو يجعله على قلب الهمزة ياء ، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.

وأما المشار إليهم في قوله تعالى : (وَالصَّابِئِينَ) فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، ليسوا بيهود ولا نصارى ، وقال ابن أبي نجيح : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم ، وقال ابن زيد : هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بجزيرة الموصل ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.


و (مَنْ) في قوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في موضع نصب بدل من (الَّذِينَ) ، والفاء في قولهم (فَلَهُمْ) داخلة بسبب الإبهام الذي في (مَنْ) و «لهم أجرهم» ابتداء وخبر في موضع خبر (إِنَ) ، ويحتمل ويحسن أن تكون (مَنْ) في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والفاء في قوله (فَلَهُمْ) موطئة أن تكون الجملة جوابها ، و «لهم أجرهم» خبر (مَنْ) ، والجملة كلها خبر (إِنَ) ، والعائد على (الَّذِينَ) محذوف لا بد من تقديره ، وتقديره «من آمن منهم بالله».

وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب ، ومنه يتفهم ، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى ، وجمع الضمير في قوله تعالى «لهم أجرهم» بعد أن وحد في (آمَنَ) لأن (مَنْ) تقع على الواحد والتثنية والجمع ، فجائز أن يخرج ما بعدها مفردا على لفظها ، أو مثنى أو مجموعا على معناها ، كما قال عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] فجمع على المعنى ، وكقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) [النساء : ١٣] ثم قال (خالِدِينَ فِيها) [النساء : ١٣] فجمع على المعنى ، وقال الفرزدق : [الطويل]

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فثنى على المعنى ، وإذا جرى ما بعد (مَنْ) على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام.

وقرأ الحسن «ولا خوف» ، نصب على التبرية ، وأما الرفع فعلى الابتداء ، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ، (إِذْ) معطوفة على التي قبلها ، والميثاق مفعال من وثق يثق ، مثل ميزان من وزن يزن ، و (الطُّورَ) اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم : (الطُّورَ) اسم لكل جبل ، ويستدل على ذلك بقول العجاج : [الرجز]

دانى جناحيه من الطور فمر

تقضّي البازي إذا البازي كسر

وقال ابن عباس أيضا : (الطُّورَ) كل جبل ينبت ، وكل جبل لا ينبت فليس بطور ، قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا كله على أن اللفظة عربية ، وقال أبو العالية ومجاهد : هي سريانية اسم لكل جبل.

وقصص هذه الآية أن موسى عليه‌السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة ، قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ، ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا ، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين ، طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم نارا بين أيديهم ، فأحاط بهم غضبه ، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وقال الطبري رحمه‌الله عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق ، وكانت سجدتهم على شق ، لأنهم كانوا يرقبون


الجبل خوفا ، فلما رحمهم‌الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم ، لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة ، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية ، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين.

وقوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) في الكلام حذف تقديره : وقلنا خذوا ، و (آتَيْناكُمْ) معناه أعطيناكم ، و (بِقُوَّةٍ) : قال ابن عباس : معناه بجد واجتهاد ، وقيل : بكثرة درس ، وقال ابن زيد : معناه بتصديق وتحقيق ، وقال الربيع. معناه بطاعة الله.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه وتضيعوه ، والضمير عائد على (ما آتَيْناكُمْ) ويعني التوراة ، وتقدير صلة (ما) : واذكروا ما استقر فيه ، و (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ترج في حق البشر.

وقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الآية. تولّى تفعّل ، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا ، و (فَضْلُ اللهِ) رفع بالابتداء ، والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه ، تقديره فلو لا فضل الله عليكم تدارككم ، (وَرَحْمَتُهُ) عطف على فضل ، قال قتادة : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن. قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا على أن المخاطب بقوله : (عَلَيْكُمْ) لفظا ومعنى من كان في مدة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف ، و (لَكُنْتُمْ) جواب «لو لا» ، و (مِنَ الْخاسِرِينَ) خبر «كان». والخسران النقصان ، وتوليهم من بعد ذلك : إما بالمعاصي ، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها ، وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن ، أو يكون المراد من لحق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال ذلك قوم ، وعليه يتجه قول قتادة : إن الفضل الإسلام ، والرحمة القرآن ، ويتجه أيضا أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧)

(عَلِمْتُمُ) معناه : عرفتم ، كما تقول : علمت زيدا بمعنى عرفته ، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد ، و (اعْتَدَوْا) معناه تجاوزوا الحد ، مصرف من الاعتداء ، و (فِي السَّبْتِ) معناه في يوم السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت ، و (السَّبْتِ) مأخوذ إما : من السبوت الذي هو الراحة والدعة ، وإما من


السبت وهو : القطع ، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.

وقصة اعتدائهم فيه ، أن الله عزوجل أمر موسى عليه‌السلام بيوم الجمعة ، وعرفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر موسى عليه‌السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه ، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك ، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان ، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى ، أو بأمر لا يعلل ، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك ، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة ، يقضي بذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من الساعة» ، وحمام مكة قد فهم الأمنة ، إما أنها متصلة بقرب فهمها.

وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر ، فبقوا على ذلك زمانا حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتا بخزمة ، وضرب له وتدا بالساحل ، فلما ذهب السبت جاء وأخذه ، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير ، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه ، ففعل قوم مثل فعله ، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية ، وباعوه في الأسواق ، فكان هذا من أعظم الاعتداء ، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة ، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه ، فقيل نجت مع الناهين ، وقيل هلكت مع العاصين.

و (كُونُوا) لفظة أمر ، وهو أمر التكوين ، كقوله تعالى لكل شيء : (كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠ ، مريم : ٣٥ ، يس : ٨٢ ، غافر : ٦٨] ، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.

و (خاسِئِينَ) معناه مبعدين أذلاء صاغرين ، كما يقال للكلب وللمطرود اخسأ. تقول خسأته فخسأ ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.

وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين (قِرَدَةً) بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحدا من الهالكين ، فقالوا إن للناس لشأنا ، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم (قِرَدَةً) يعرفون الرجل والمرأة ، وقيل : إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار ، تبريا منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة ، يثب بعضهم على بعض.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبت عنه أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ؛ ووقع في كتاب مسلم عنه عليه‌السلام أن أمة من الأمم فقدت ، وأراها الفأر ، وظاهر


هذا أن الممسوخ ينسل ، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه‌السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل ، ونظير ما قلناه نزوله عليه‌السلام على مياه بدر ، وأمره باطراح تذكير النخل ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».

وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة ، والأول أقوى ، والضمير في «جعلناها» : يحتمل العود على المسخة والعقوبة ، ويحتمل على الأمة التي مسخت ، ويحتمل على القردة ، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها ، وقيل يعود على الحيتان ، وفي هذا القول بعد.

والنكال : الزجر بالعقاب ، والنكل والأنكال : قيود الحديد ، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل ، قال السدي : ما بين يدي المسخة : ما قبلها من ذنوب القوم ، (وَما خَلْفَها) : لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب ، وهذا قول جيد ، وقال غيره : «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين ، (وَما خَلْفَها) أي لمن يجيء بعدها ، وقال ابن عباس : (لِما بَيْنَ يَدَيْها) : أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي ، (وَما خَلْفَها) : لمن بقي منهم عبرة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه ، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول ، وقال ابن عباس أيضا : (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) ، أي من القرى ، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.

(وَمَوْعِظَةً) مفعلة من الاتعاظ والازدجار ، و (لِلْمُتَّقِينَ) معناه للذين نهوا ونجوا ، وقالت فرقة : معناه لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية : (إِذْ) عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمركم» بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم».

وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلا من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلا ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه‌السلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، فكان جوابهم أن قالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) قرأ الجحدري «أيتخذنا» بالياء ، على معنى أيتخذنا الله ، وقرأ حمزة : «هزؤا» بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضا : دون همز «هزوا» ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاي والهمزة


بين بين ، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي «هزّا» ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله ، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته ، وقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجب تكفيره ، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة غنائم حنين : «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله» ، وكما قال له الآخر : «اعدل يا محمد» ، وكلّ محتمل ، والله أعلم.

وقول موسى عليه‌السلام : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، يحتمل معنيين : أحدهما الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا ، والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) لمن يخبرهم عن الله تعالى.

قوله عزوجل :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) (٧٠)

هذا تعنت منهم وقلة طواعية ، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر «ادع» بكسر العين ، و (ما) استفهام رفع بالابتداء ، وهي خبره ، ورفع (فارِضٌ) على النعت للبقرة على مذهب الأخفش ، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض ، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم ، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي ، فروضا ، ويقال فرضت بضم العين ، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض ، وقال الشاعر [العجاج] : [الرجز]

يا رب ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر ، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولدا واحدا ، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل ، والبكر من الأولاد الأول ، ومن الحاجات الأولى ، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة ، قاله مجاهد ، وحكاه أهل اللغة ، ومنه قول العرب : العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان : قد قوتل فيها مرتين فما زاد ، ورفعت (عَوانٌ) على خبر ابتداء مضمر ، تقديره هي عوان ، وجمعها عون بسكون الواو ، وسمع عون بتحريكها بالضم.

و (بَيْنَ) ، بابها أن تضاف إلى اثنتين ، وأضيفت هنا إلى (ذلِكَ) ، إذ ذلك يشار به إلى المجملات ، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر ، فهي إشارة إلى مفرد على بابه ، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضا (بَيْنَ) على بابها.


وقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت ، فما تركوه ، و (ما) رفع بالابتداء ، و (لَوْنُها) خبره ، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله (صَفْراءُ) ، إنها كانت كلها صفراء ، قال مكي رحمه‌الله عن بعضهم : حتى القرن والظلف ، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير : كانت صفراء القرن والظلف فقط ، وقال الحسن أيضا : (صَفْراءُ) معناه سوداء ، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل ، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس : [الخفيف]

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزبيب

والفقوع : نعت مختص بالصفرة ، كما خص أحمر بقانئ ، وأسود بحالك ، وأبيض بناصع ، وأخضر بناضر ، و (لَوْنُها) فاعل ب (فاقِعٌ).

و (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قال وهب بن منبه : كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، فمعناه تعجب الناظرين ، ولهذا قال ابن عباس وغيره : الصفرة تسر النفس ، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر ، حكاه عنه النقاش ، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهمّ ، وقال أبو العالية والسدي : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) معناه في سمنها ومنظرها كله ، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية ، و (الْبَقَرَ) جمع بقرة ، وتجمع أيضا على باقر ، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة ، وتجمع على بقير وبيقور ، ولم يقرأ بهما فيما علمت ، وقرأ السبعة : «تشابه» فعل ماض ، وقرأ الحسن «تشّابه» بشد الشين وضم الهاء ، أصله تتشابه ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ، فأدغم ، وقرأ أيضا «تشابه» بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية ، وقرأ ابن مسعود «يشابه» بالياء وإدغام التاء ، وحكى المهدي عن المعيطي «يشّبّه» بتشديد الشين والباء دون ألف ، وحكى أبو عمرو الداني قراءة «متشبه» اسم فاعل من تشبّه ، وحكي أيضا «يتشابه».

وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو لا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا» ، والضمير في (إِنَّا) ، هو اسم (إِنَ) ، و «مهتدون» الخبر ، واللام للتأكيد ، والاستثناء اعتراض ، قدم على ذكر الاهتداء ، تهمما به.

قوله عزوجل :

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

(ذَلُولٌ) : مذللة بالعمل والرياضة ، تقول بقرة مذللة بيّنة الذّل بكسر الذال ، ورجل ذلول بين الذّل بضم الذال ، و (ذَلُولٌ) نعت ل (بَقَرَةٌ) ، أو على إضمار هي ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «لا ذلول» بنصب اللام.

و (تُثِيرُ الْأَرْضَ) ، معناه بالحراثة ، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة ، أي لا ذلول


مثيرة ، وقال قوم (تُثِيرُ) فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها من نكرة ، و (تَسْقِي الْحَرْثَ) معناه بالسانية أو غيرها من الآلات ، و (الْحَرْثَ) ما حرث وزرع.

و (مُسَلَّمَةٌ) بناء مبالغة من السلامة ، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية : معناه من العيوب ، وقال مجاهد : معناه من الشيات والألوان ، وقال قوم : معناه من العمل.

و (لا شِيَةَ فِيها) : أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره ، والموشي المختلط الألوان ، ومنه وشي الثوب ، تزيينه بالألوان ، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول ، والثور الأشيه الذي فيه بلقة ، يقال فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه ، كل ذلك بمعنى البلقة.

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم‌السلام مذموم.

وقصة وجود هذه البقرة على ما روي ، أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة ، فأرسلها في غيضة ، وقال : اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي ، ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه : إن أباك قد استودع الله عجلة لك ، فأذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ، وكانت مستوحشة ، فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها ، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل برا بأبيه فنام أبوه يوما وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما ، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفا ، فقال له ابن النائم : اصبر حتى ينتبه أبي ، وأنا آخذه منك بسبعين ألفا ، فقال له صاحب الجوهر : نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفا ، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف ، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفا ، فقال له ابن النائم : والله لا اشتريته منك بشيء برا بأبيه ، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده ، وقال قوم : وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم ، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها ، هذا معناه ، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها ، فاشتط عليهم ، وكانت قيمتها ـ على ما روي عن عكرمة ـ ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه‌السلام ، وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة السلماني ، وقيل بوزنها مرتين ، وقال السدي : بوزنها عشر مرات ، وقال مجاهد : كانت لرجل يبر أمه ، وأخذت منه بملء جلدها دنانير ، وحكى مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض ، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية.

و (الْآنَ) مبني على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام ، ألا ترى أنها لا تفارقة في الاستعمال ، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف ، ولأنه واقع موقع المبهم ، إذ معناه هذا الوقت ، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل ، وقرىء «قالوا الآن» بسكون اللام وهمزة بعدها ، «وقالوا الان» بمدة على الواو وفتح اللام دون همز ، «وقالوا الآن» بحذف الواو من اللفظ دون همز ، «وقالوا الآن» بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل ، كما تقول «يا الله».


و (جِئْتَ بِالْحَقِ) معناه ـ عند من جعلهم عصاة ـ بينت لنا غاية البيان ، و (جِئْتَ بِالْحَقِ) الذي طلبناه ، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق ، ومعناه عند ابن زيد ـ الذي حمل محاورتهم على الكفر ـ : الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة ، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف ، وقالوا : هذه بقرة فلان ، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر ، وإن نحر أجزأت.

وقوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) عبارة عن تثبطهم في ذبحها ، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى ، وقال محمد بن كعب القرظي : كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها ، وقال غيره : كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل ، وقيل : كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء ، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.

و «ادارأتم» أصله : تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم ، فجلبت ألف الوصل ، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض ، قال الشاعر : [الرجز]

صادف درء السّيل درءا يدفعه

وقال الآخر [الخفيف] :

مدرأ يدرأ الخصوم بقول

مثل حدّ الصّمصامة الهندواني

والضمير في قوله : (فِيها) عائد على النفس وقيل على القتلة ، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي «وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم» ، وقرأت فرقة «فتدارأتم» على الأصل ، وموضع (ما) نصب بمخرج ، والمكتوم هو أمر المقتول.

وقوله : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) آية من الله تعالى على يدي موسى عليه‌السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله ، فقيل : ضربوه ، وقيل : ضربوا قبره ، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر ، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة ، وقال القرظي : لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد ، وقال السدي : ضرب باللحمة التي بين الكتفين ، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني : ضرب بالفخذ ، وقيل : ضرب باللسان ، وقيل : بالذنب ، وقال أبو العالية : بعظم من عظامها.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) الآية ، الإشارة ب (كَذلِكَ) إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية ، إذ في الكلام حذف ، تقديره : فضربوه فحيي ، وفي هذه الآية حض على العبرة ، ودلالة على البعث في الآخرة. وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل ، حينئذ حكي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة ، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنها مقطوعة من قوله تعالى : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان ، واستدل مالك رحمه‌الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ


الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥)

(قَسَتْ) أي صلبت وجفت ، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى ، وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي قال : إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى ، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم ، قال عبيدة السلماني : ولم يرث قاتل من حينئذ.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبمثله جاء شرعنا ، وحكى مالك رحمه‌الله في الموطأ ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا أن لا يرث قاتل ، ثم ثبت ذلك الإسلام ، كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية ، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما : إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.

وقوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) الآية ، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي» ، تقديره : فهي مثل الحجارة (أَوْ أَشَدُّ) مرتفع بالعطف على الكاف ، (أَوْ) على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي ، و (قَسْوَةً) نصب على التمييز ، والعرف في (أَوْ) أنها للشك ، وذلك لا يصح في هذه الآية ، واختلف في معنى (أَوْ) هنا ، فقالت طائفة : هي بمعنى الواو ، كما قال تعالى : (آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] أي وكفورا ، وكما قال الشاعر [جرير] : [البسيط]

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] المعنى بل يزيدون ، وقالت طائفة : معناها التخيير ، أي : شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا ، وقالت فرقة : هي على بابها في الشك. ومعناه : عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم ، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة : هي على جهة الإبهام على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :

أحب محمّدا حبا شديدا

وعباسا وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود ، وإنما قصد الإبهام على السامع ، وقد عورض أبو الأسود في هذا ، فاحتجّ بقول الله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] ، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود ، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو» ، وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر ، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد ، ومثل هذا قولك : أطعمتك الحلو أو الحامض ، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين ، وقالت فرقة : إنما أراد عزوجل أنها كانت كالحجارة


يترجى لها الرجوع والإنابة ، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة ، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته ، فصارت أشد من الحجارة ، فلم تخل أن كانت كالحجارة طورا أو أشد طورا ، وقرأ أبو حيوة : «قساوة» ، والمعنى واحد.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) الآية ، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة ، وقال قتادة : عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم ، وقرأ قتادة : «وإن» مخففة من الثقيلة ، وكذلك في الثانية والثالثة ، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد ، في (لَما) ، وما في موضع نصب اسم ل (إِنَ) ، ودخلت اللام على اسم (إِنَ) لمّا حال بينهما المجرور ، ولو اتصل الاسم ب (إِنَ) لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين ، وقرأ مالك بن دينار : «ينفجر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم ، ووحد الضمير في (مِنْهُ) حملا على لفظ «ما» ، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار» ، حملا على الحجارة ، و (الْأَنْهارُ) جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد ، وقرأ طلحة بن مصرف : «لمّا» بتشديد الميم في الموضعين ، وهي قراءة غير متجهة ، و (يَشَّقَّقُ) أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا ، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح ، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون ، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها ، وقيل المراد : الجبل الذي جعله الله دكا ، وقيل : إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعا ، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحياة الجذع الذي أنّ لفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة أي : تبعث من يراها على شرائها ، وقال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، نزل بذلك القرآن ، وقال مثله ابن جريج ، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] ، وكما قال زيد الخيل : [الطويل]

بجمع تضل البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وكما قال جرير : والجبال الخشع ، أي من رأى الحجر هابطا تخيل فيه الخشية.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا قول ضعيف : لأن براعة معنى الآية تختل به ، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة ، و (بِغافِلٍ) في موضع نصب خبر (مَا) ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية ، وقرأ ابن كثير «يعملون» بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية ، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم ، ومعنى هذا الخطاب : التقرير على أمر فيه بعد ، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء ، وهؤلاء على ذلك السنن ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب ، وقال مجاهد والسدي : عني بالفريق هنا الأحبار


الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها ، وقال ابن إسحاق والربيع : عني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بدلوا بعد ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفي هذا القول ضعف ، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه‌السلام واختصاصه بالتكليم ، وقرأ الأعمش : «كلم الله» ، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال ، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باق ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه.

قوله عزوجل :

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (٧٨)

المعنى : وهم أيضا إذا لقوا يفعلون هذا ، فكيف يطمع في إيمانهم؟ ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا مقطوعا من معنى الطمع ، فيه كشف سرائرهم.

وورد في التفسير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن» ، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما : اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم ، فنزلت هذه الآية فيهم ، وقال ابن عباس : نزلت في منافقين من اليهود ، وروي عنه أيضا أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا ، وإنما هو إليكم خاصة ، فلما خلوا قال بعضهم : لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه ، وأصل (خَلا) «خلو» تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، وقال أبو العالية وقتادة : إن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم كفرة الأحبار : أتحدثون (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي عرفكم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به؟ ، وقال السدي : إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم ، فقال بعض الأحبار : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من العذاب ، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟ ، وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم ، وقال مجاهد : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبني قريظة : يا إخوة الخنازير والقردة ، فقال الأحبار لأتباعهم : ما عرف هذا إلا من عندكم ، أتحدثونهم؟ وقال ابن زيد : كانوا إذا سئلوا عن شيء ، قالوا في التوراة كذا وكذا ، فكرهت الأحبار ذلك ، ونهوا في الخلوة عنه ، ففيه نزلت الآية.

والفتح في اللغة ينقسم أقساما تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام ، وإلى هذا يرجع الحكم


وغيره ، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن ، و «يحاجوكم» من الحجة ، وأصله من حج إذا قصد ، لأن المتحاجّين كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر ، و (عِنْدَ رَبِّكُمْ) معناه في الآخرة ، وقيل عند بمعنى في ربكم ، أي فيكونون أحق به ، وقيل : المعنى عند ذكر ربكم.

وقوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قيل : هو من قول الأحبار للأتباع ، وقيل : هو خطاب من الله للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية

وقرأ الجمهور «أولا يعلمون» بالياء من أسفل ، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» بالتاء خطابا للمؤمنين ، والذي أسروه كفرهم ، والذي أعلنوه قولهم آمنا ، هذا في سائر اليهود ، والذي أسره الأحبار صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعرفة به ، والذي أعلنوه الجحد به ، ولفظ الآية يعم الجميع.

و (أُمِّيُّونَ) هنا عبارة عن جهلة بالتوراة ، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما : المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال ، وقيل : المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين ، وقال عكرمة والضحاك: هم في الآية نصارى العرب ، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال : هم المجوس. والضمير في (مِنْهُمْ) على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين ، قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون» بتخفيف الميم ، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، نسب إلى الأم : إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه ، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب ، قاله الطبري ، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها ، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة ، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك ، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف ، فإنها لا تقرأ ولا تكتب ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العرب : «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب» ، الحديث : والألف واللام في (الْكِتابَ) للعهد ، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد. والأماني جمع أمنية ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه «أماني» بتخفيف الياء ، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة ، ويجمع هذا الوزن على أفاعل ، وعلى هذا يجب تخفيف الياء ، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني».

واختلف في معنى (أَمانِيَ) ، فقالت طائفة : هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى ، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئا سمعه ، فيتمنى أنه من الكتاب ، وقال آخرون : هي من تمنى إذا تلا ، ومنه قوله تعالى (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] ومنه قول الشاعر [كعب بن مالك] : [الطويل]

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته ، وقال الطبري : هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب ، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت».


فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب ، وإن نافية بمعنى ما ، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين.

قوله عزوجل :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢)

الذين في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء ، قال الخليل : الويل شدة الشر ، وقال الأصمعي :

الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له ، ويجمع على ويلات ، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع ، لأنه يقتضي الوقوع ، ويصح النصب على معنى الدعاء أي ألزمه الله ويلا ، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى ، وقد فرق بينها قوم ، وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية : واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا ، وقال أبو عياض : إنه صهريج في جهنم ، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جبل من جبال النار. وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم ، والذين (يَكْتُبُونَ) : هم الأحبار الذين بدلوا التوراة.

وقوله تعالى : (بِأَيْدِيهِمْ) بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله ، وفرق بين من كتب وبين من أمر ، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله ، وإن كان رأيا له ، وقال ابن السراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم ، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم ، والذي بدلوا هو صفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم ، وقال ابن إسحاق : كانت صفته في التوراة أسمر ربعة ، فردوه آدم طويلا ، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله ، وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم.

والثمن قيل عرض الدنيا ، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراما ، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها ، و (يَكْسِبُونَ) معناه من المعاصي والخطايا ، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.

وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) الآية ، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لليهود : من أهل النار؟ فقالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال لهم : كذبتم لقد علمتم أنا لا


نخلفكم ، فنزلت هذه الآية ، ويقال إن السبب أن اليهود قالت : إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقالت طائفة : قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وابن جريج : إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما.

و (أَتَّخَذْتُمْ) أصله «ايتخذتم» ، وزنه افتعلتم من الأخذ ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفا في ياتخذوا وواوا في «موتخذ» فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت ، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل ، ومذهب أبي علي أن (أَتَّخَذْتُمْ) من «تخذ» لا من «أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك.

وقال أهل التفسير : العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد ، وقال ابن عباس وغيره : معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟ ، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى التأويل الثاني يجيء : هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟ ، وقوله (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) اعتراض أثناء الكلام.

و (بَلى) رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب ، وقال الكوفيون : أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها ، وقال سيبويه : هي حرف مثل بل وغيره ، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان ، و (مَنْ) شرط في موضع رفع بالابتداء ، و «أولئك» ابتداء ثان ، و (أَصْحابُ) خبره ، والجملة خبر الأول ، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.

وقالت طائفة : السيئة الشرك كقوله تعالى (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] ، والخطيئات كبائر الذنوب ، وقال قوم : «خطيئته» بالإفراد ، وقال قوم : السيئة هنا الكبائر ، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس ، كقوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] ، والخطيئة الكفر ، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء ، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم : معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها ، وقال الربيع أيضا : المعنى مات على كفره ، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي : المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة ، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين ، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه ، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. يدل هذا التقسيم على أن قوله (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) الآية في الكفار لا في العصاة ، ويدل على ذلك أيضا قوله : (أَحاطَتْ) لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته ، ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة فهم المراد بالخلود ، والله أعلم.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى


وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٨٤)

المعنى : «واذكروا إذ أخذنا» ، وقال مكي رحمه‌الله : «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر» ، وهذا ضعيف ، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه‌السلام وغيره من أنبيائهم عليهم‌السلام ، وأخذ الميثاق قول ، فالمعنى قلنا لهم (لا تَعْبُدُونَ) ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، حكاية ما قيل لهم ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي. قال سيبوية : (لا تَعْبُدُونَ) متعلق لقسم ، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون ، وقالت طائفة : تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله ، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها ، ف (لا تَعْبُدُونَ) على هذا معمول لحرف النصب ، وحكي عن قطرب أن (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين ، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير ، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة ، وقال قوم (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) نهي في صيغة خبر ، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا.

والباء في قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ) قيل هي متعلقة بالميثاق عطفا على الباء المقدرة أولا على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا ، وقيل : تتعلق بقوله و (إِحْساناً) والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله ، وأحسنوا إحسانا بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له ، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهذا قول حسن ، وقدم اللفظ (بِالْوالِدَيْنِ) تهمما فهو نحو قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها ، (وَذِي الْقُرْبى) عطف على الوالدين ، و (الْقُرْبى) بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم ، (وَالْيَتامى) : جمع يتيم كنديم وندامى ، واليتم في بني آدم فقد الأب ، وفي البهائم فقد الأم ، وقال عليه‌السلام : «لا يتم بعد بلوغ» ، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم ، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم ، (وَالْمَساكِينِ) : جمع مسكين وهو الذي لا شيء له ، لأنه مشتق من السكون وقد قيل : إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش ، وهو على هذا مشتق من السكن ، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.

وقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، أمر عطف على ما تضمنه (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وما بعده من معنى الأمر والنهي ، أو على أحسنوا المقدر في قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ) ، وقرأ حمزة والكسائي «حسنا» بفتح الحاء والسين ، قال الأخفش : هما بمعنى واحد كالبخل والبخل ، قال الزجاج وغيره : بل المعنى في القراءتين وقولوا قولا حسنا بفتح السين أو قولا ذا «حسن» بضم الحاء ، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى ، ورده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو


وجه القراءة بها ، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حسنا» بضم الحاء والسين ، وقال ابن عباس : معنى الكلام قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها ، وقال ابن جريج : قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال سفيان الثوري : معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ، وقال أبو العالية : معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به ، وهذا حض على مكارم الأخلاق ، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : منسوخ بآية السيف.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة ، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص».

وقوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) الآية خطاب لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، و (ثُمَ) مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف ، وضمت التاء الأخيرة من (تَوَلَّيْتُمْ) لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم ، و (قَلِيلاً) نصب على الاستثناء قال سيبويه : المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به ، قال المبرد : هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا ، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم وحديثا كابن سلام وغيره ، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص ، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى ، وقرأ قوم «إلا قليل» برفع القليل ، ورويت عن أبي عمرو ، وهذا على بدل قليل من الضمير في (تَوَلَّيْتُمْ) ، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن (تَوَلَّيْتُمْ) معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل ، والسفك صب الدم وسرد الكلام ، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفكون» بضم الفاء ، وقرأ أبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها ، وإعراب (لا تَسْفِكُونَ) كما تقدم في (لا تَعْبُدُونَ) ، ودِماءَكُمْ) جمع دم ، وهو اسم منقوص أصله دمي ، وتثنيته دميان ، وقيل أصله دمي بسكون الميم ، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.

وقوله تعالى (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) معناه ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي ، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد ، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها ، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول ، وقيل (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا ، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره ، وهذا تأويل فيه تكلف ، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.


وقوله تعالى (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء ، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله ، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما.

وقوله (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار ، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥)

(هؤُلاءِ) دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف ، قيل : تقدير الكلام يا هؤلاء ، فحذف حرف النداء ، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات ، لا تقول هذا أقبل ، وقيل تقديره أعني هؤلاء ، وقيل (هؤُلاءِ) بمعنى الذين ، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون ، ف (تَقْتُلُونَ) صلة لهؤلاء ، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري.

عدس ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق

وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه : (هؤُلاءِ) رفع بالابتداء و (أَنْتُمْ) خبر مقدم ، و (تَقْتُلُونَ) حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه ، كما تقول هذا زيد منطلقا ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.

وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع ، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس ، وبني قينقاع حالفت الخزرج ، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تقتّلون» بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة ، والديار مباني الإقامة ، وقال الخليل : محلة القوم دارهم ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون ، وقرأ بقية السبعة «تظّاهرون» بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء ، وقرأ أبو حيوة «تظهرون» بضم التاء وكسر الهاء ، وقرأ مجاهد وقتادة «تظّهرّون» بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف ، ورويت هذه عن أبي


عمرو ، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون ، وهو مأخوذ من الظهر ، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه ، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي ، والمعنى بمكتسبات الإثم ، (وَالْعُدْوانِ) تجاوز الحدود والظلم ، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم» ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم» ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم» ، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم». و (أُسارى) جمع أسير ، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد ، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقا ، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد ، وأسير فعيل بمعنى مفعول ، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى ، والأقيس فيه أسرى ، لأن فعيلا بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى ، كقتلى وجرحى ، والأصل في فعلان أن يجمع على «فعالى» بفتح الفاء و «فعالى» بضمها كسكران وكسلان وسكارى وكسالى ، قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسلى ، شبّهوه بأسرى كما قالوا (أُسارى) شبهوه بكسالى ، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما يدخل الكسل ، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.

و (تُفادُوهُمْ) معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا ، قاله أبو علي ، قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا ، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي ، ومنه قول العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلا ، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ، تقول : فديت زيدا بمال وفاديته بمال ، وقال قوم : هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى ، قال أبو علي : كل واحد من الفريقين فعل ، الأسر دفع الأسير ، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره ، والمفعول الثاني محذوف.

وقوله تعالى : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ) قيل في (هُوَ) إنه ضمير الأمر ، تقديره والأمر محرم عليكم ، و (إِخْراجُهُمْ) في هذا القول بدل من (هُوَ) ، وقيل (هُوَ) فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و (مُحَرَّمٌ) على هذا ابتداء ، و (إِخْراجُهُمْ) خبره ، وقيل هو الضمير المقدر في (مُحَرَّمٌ) قدم وأظهر ، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم.

وقوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) يعني التوراة ، والذي آمنوا به فداء الأسارى ، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم ، وهذا توبيخ لهم ، وبيان لقبح فعلهم.

وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه ، فقال له ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.

ثم توعدهم عزوجل. والخزي : الفضيحة والعقوبة ، يقال : خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة ، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا. واختلف ما المراد بالخزي هاهنا فقيل : القصاص فيمن قتل ، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر ، وقيل قتل قريظة ، وإجلاء النضير ، وقيل : الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو. والدنيا مأخوذة من دنا يدنو ، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات. وأشد العذاب الخلود في جهنم ، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون» بتاء.


وقوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) الآية ، قرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص ، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون لأمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد ، يريد : وبما يجري مجراه.

قوله عزوجل :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨)

جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا. وهذه النزعة صرفها مالك رحمه‌الله في فقه البيوع ، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده ، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها ، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة ، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة ، و (الْكِتابَ) التوراة ، ونصبه على المفعول الثاني ل (آتَيْنا) ، (وَقَفَّيْنا) مأخوذ من القفا ، تقول قفيت فلانا بفلان إذا جئت به من قبل قفاه ، ومنه قفا يقفو إذا اتبع. وهذه الآية مثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ١٤٤] ، وكل رسول جاء بعد موسى عليه‌السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه‌السلام ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسل» ساكنة السين ، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم ، و (الْبَيِّناتِ) الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير ، وقيل هي الإنجيل ، والآية تعم جميع ذلك ، و (أَيَّدْناهُ) معناه قويناه ، والأيد القوة ، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه». وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدس» بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال ، وفيه لغة فتحهما ، وقرأ أبو حيوة «بروح القدس» بواو ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى» ، وقال ابن زيد : «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا» ، وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة : «روح القدس جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : «اهج قريشا وروح القدس معك» ، ومرة قال له «وجبريل معك» ، وقال الربيع ومجاهد : (الْقُدُسِ) اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس ، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك ، وتوجهت لما كان جبريل عليه‌السلام من عباد الله تعالى ، وقيل (الْقُدُسِ) الطهارة ، وقيل (الْقُدُسِ) البركة.

وكلما ظرف ، والعامل فيه (اسْتَكْبَرْتُمْ) ، وظاهر الكلام الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقرير ، ويتضمن أيضا الخبر عنهم ، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل.


ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار ، وروي سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار ، وفي (تَهْوى) ضمير من صلة ما لطول اللفظ ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق ، وهذه الآية من ذلك ، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات ، وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : «فهوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت» ، و (اسْتَكْبَرْتُمْ) من الكبر ، (وَفَرِيقاً) مفعول مقدم.

وقرأ جمهور القراء «غلف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمر» و «صفر» ، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوات فهي لا تفقه ، قاله ابن عباس ، وقال قتادة : «المعنى عليها طابع» ، وقالت طائفة : غلف بسكون اللام جمع غلاف ، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام جمع غلاف ، ورويت عن أبي عمرو ، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم ، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ، و (بَلْ) في هذه الآية نقض للأول ، وإضراب عنه ، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه ، واللعن الإبعاد والطرد ، وقليلا نعت لمصدر محذوف تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون ، والضمير في (يُؤْمِنُونَ) لحاضري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتجه قلة هذا الإيمان : إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال ، قال هذا المعنى قتادة ، وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل ، إذ قد كفروا بعد ذلك ، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه ، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة ، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك ، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيمانا قليلا ، وعلى الذي قبله فوقتا قليلا ، وعلى الذي قبله فعددا من الرجال قليلا ، و (ما) في قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) زائدة مؤكدة ، و «قليلا» نصب ب (يُؤْمِنُونَ).

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١)

الكتاب القرآن ، و (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) يعني التوراة ، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقا» بالنصب.


و (يَسْتَفْتِحُونَ) معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته ، وظنوا أنه منهم ، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم : لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و (يَسْتَفْتِحُونَ) معناه يستنصرون ، وفي الحديث : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين» ، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب ، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به ، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث ، وما عرفوا أنه محمد عليه‌السلام وشرعه ، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم ، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة ، «ولعنة الله» : معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.

واختلفت النحاة في جواب (لَمَّا) و (لَمَّا) الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد : جوابهما في قوله : (كَفَرُوا) ، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقريرا للذنب ، وتأكيدا له ، وقال الزجاج : (لَمَّا) الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأنه محذوف ، وقال الفراء : جواب (لَمَّا) الأولى في الفاء وما بعدها ، وجواب لما الثانية (كَفَرُوا).

«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها ، ويقال في «بئس» «بيس» اتباعا للكسرة ، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح ، واختلف النحويون في (بِئْسَمَا) في هذا الموضع ، فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة ببئس ، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام ، فالتقدير على هذا القول : بيس الذي (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا) ، كقولك : بيس الرجل زيد ، و «ما» في هذا القول موصولة ، وقال الأخفش : «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلا زيد» ، فالتقدير «بيس شيئا أن يكفروا» ، و (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) في هذا القول صفة «ما» ، وقال الفراء «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا» ، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل ، و «ما» إنما تكف أبدا حروفا ، وقال الكسائي : «ما» ، و (اشْتَرَوْا) بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا ، وهذا أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير ، وقال الكسائي أيضا : إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة ، فالتقدير بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم ، و (أَنْ يَكْفُرُوا) في هذا القول بدل من «ما» المضمرة ، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون (أَنْ يَكْفُرُوا) في موضع خفض بدلا من الضمير في (بِهِ) ، وأما في القولين الأولين ف (أَنْ يَكْفُرُوا) ابتداء وخبره فيما قبله ، و (اشْتَرَوْا) بمعنى باعوا ، يقال : شرى واشترى بمعنى باع ، وبمعنى ابتاع ، و (بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعني به القرآن ، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما‌السلام فقد كفروا بالتوراة ، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن ، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل ، و (بَغْياً) مفعول من أجله ، وقيل نصب على المصدر ، و (أَنْ يُنَزِّلَ) نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.


وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل» بالتخفيف في النون والزاي ، و (مِنْ فَضْلِهِ) يعني من النبوة والرسالة. و (مَنْ يَشاءُ) يعني به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب. ويدخل في المعنى عيسى عليه‌السلام لأنهم قد كفروا به بغيا ، والله قد تفضل عليه ، و «باؤوا» معناه : مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به ، و (بِغَضَبٍ) معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم ، قيل لعبادتهم العجل ، وقيل لقولهم عزير ابن الله ، وقيل لكفرهم بعيسىعليه‌السلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.

وقال قوم : المراد بقوله (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين ، و (مُهِينٌ) مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني : اليهود أنهم إذا قيل لهم : آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنون التوراة وما وراءه. قال قتادة : أي ما بعده ، وقال الفراء : أي ما سواه ويعني به القرآن ، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلا فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء ، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق ، و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة عند سيبويه ، وهي غير منتقلة ، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد ، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة. [البسيط] :

أنا ابن دارة معروفا بها حسبي

وهل لدارة يا للنّاس من عار

و (لِما مَعَهُمْ) يريد به التوراة.

وقوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ) الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم ، وتكذيب منه لهم في ذلك ، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على (فَلِمَ) لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء ، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء (تَقْتُلُونَ) بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله (مِنْ قَبْلُ) وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ مضمر].

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه

أن الوليد أحق بالعذر

وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل ، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع.

وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، و (إِنْ كُنْتُمْ) شرط والجواب متقدم ، وقالت فرقة : (إِنْ) نافية بمعنى ما.


قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٩٥)

البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه‌السلام وقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ) تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم في دينهم (١) ، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل ، والضمير في قوله (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على موسى عليه‌السلام ، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة ، ويحتمل أن يعود الضمير في (بَعْدِهِ) على المجيء. وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل ، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور.

وقوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) يعني التوراة والشرع ، و (بِقُوَّةٍ) أي بعزم ونشاط وجد. (وَاسْمَعُوا) معناه هنا : وأطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط.

وقالت طائفة من المفسرين : إنهم قالوا (سَمِعْنا وَعَصَيْنا). ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية. وقالت طائفة : ذلك مجاز ولم ينطقوا ب (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، ولكن فعلهم اقتضاه ، كما قال الشاعر [الرجز] :

امتلأ الحوض وقال قطني

وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] ، وقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) التقدير حب العجل ، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه ، وهذا تشبيه ومجاز ، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم ، وقال قوم : إن معنى قوله (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل ، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء ، وقيل لبني إسرائيل : اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم ، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا قول يرده قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمُ) ، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن ، وقوله تعالى (بِكُفْرِهِمْ) يحتمل أن تكون باء السبب ، ويحتمل أن تكون بمعنى مع ، وقوله تعالى : (قُلْ بِئْسَما) الآية أمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] ،

__________________

(١) في نسخة : وذلك أعظم لذنبهم في دينهم.


و «ما» في موضع رفع والتقدير : بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ، و (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط. وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه‌السلام : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦] ، وقد علم عيسى عليه‌السلام أنه لم يقله ، وكذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن ، وقال قوم (إِنْ) هنا نافية بمنزلة «ما» كالتي تقدمت ، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : «يأمركم بهو إيمانكم» برفع الهاء.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الآية أمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخهم ، والمعنى :

إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ، و (الدَّارُ) اسم (كانَتْ) ، و (خالِصَةً) خبرها ، ويجوز أن يكون نصب (خالِصَةً) على الحال ، و (عِنْدَ اللهِ) خبر كان ، و (مِنْ دُونِ النَّاسِ) : يحتمل أن يراد ب (النَّاسِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تبعه ، ويحتمل أن يراد العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من «تمنوا» للالتقاء ، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت» بفتح الواو ، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع ، وقراءة الجماعة بضم الواو. وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن اليهود قالت : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وشبه ذلك من القول ، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات ، ففعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه ، فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وحرصا منهم على الحياة.

وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه ، لتظهر الآية لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد بقوله «تمنوا» أريدوه بقلوبكم واسألوه ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وقال ابن عباس: المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب ، وقال أيضا هو وغيره : إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم ، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتفعت بموته. والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، وقالت فرقة : إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم ، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله.

ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه ، و (أَبَداً) ظرف زمان وإذا كانت «ما» بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته ، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير ، هذا قول سيبويه ، والأخفش يرى الضمير في المصدرية ، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه ، فحمل جميع الأشياء على ذلك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد ، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم ، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.


قوله عزوجل :

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ) (٩٩)

«وجد» في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس ، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر :

تلفّت نحو الحيّ حتّى وجدتني

وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الضب : «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» ، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا ، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا ، ألا ترى إلى قول امرئ القيس [الطويل] :

تمتّع من الدنيا فإنك فان

والضمير في (أَحَدُهُمْ) يعود في هذا القول على اليهود ، وقيل إن الكلام تم في قوله (حَياةٍ) ، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) وهي المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عش ألف سنة» فكأن الكلام : ومن المشركين قوم (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ، وفي هذا القول تشبيه بني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين ، وقصد «الألف» بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب.

وقوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) : اختلف النحاة في (هُوَ) ، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر ، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور ، و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل بمزحزح ، وقالت فرقة هو ضمير التعمير ، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور ، و (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل من التعمير في هذا القول ، وقالت فرقة (هُوَ) ضمير الأمر والشأن ، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر ، وقد جوز أبو علي ذلك في بعض مسائله الحلبيات ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد ، وقيل (ما) عاملة حجازية و (هُوَ) اسمها والخبر في (بِمُزَحْزِحِهِ) ، والزحزحة الإبعاد والتنحية.

وفي قوله (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وعيد ، والجمهور على قراءة «يعملون» بالياء من أسفل ، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب «تعملون» بالتاء من فوق ، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل.


وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية. نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات ، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت : جبريل عدونا ، واختلف في كيفية ذلك ، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك ، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه ، فقال : لحوم الإبل وألبانها ، وسألوه عن الشبه في الولد ، فقال : أي ماء علا كان الشبه له ، وسألوه عن نومه ، فقال : تنام عيني ولا ينام قلبي ، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة ، فقال : جبريل ، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا ، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب ، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفهم يوما بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمدا نبي؟ قالوا نعم ، قال : فلم تهلكون في تكذيبه ، قالوا : صاحبه جبريل وهو عدونا ، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله ، فنزلت هذه الآية لقولهم.

وفي جبريل لغات : «جبريل» بكسر الجيم والراء من غير همز ، وبها قرأ نافع ، و «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز ، وبها قرأ ابن كثير ، وروي عنه أنه قال : «رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك» ، وجبريل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم ، و «جبرءيل» بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام ، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم ، «وجبرائل» بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة ، و «جبرائيل» بزيادة ياء بعد الهمزة ، و «جبراييل» بياءين وبها قرأ الأعمش ، و «جبرئل» بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة ، وبها قرأ يحيى بن يعمر ، و «جبرال» لغة فيه ، و «جبرين» بكسر الجيم والراء وياء ونون ، قال الطبري : «هي لغة بني أسد» ولم يقرأ بها ، و «جبريل» اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات ، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب ، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل ، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه.

وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر» و «ميك» و «سراف» هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك ، وإيل اسم الله تعالى ، ويقال فيه إلّ ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إلّ.

وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) الضمير في (فَإِنَّهُ) عائد على الله عزوجل ، والضمير في (نَزَّلَهُ) عائد على جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي ، وقيل : الضمير في «إنه» عائد على جبريل وفي (نَزَّلَهُ) على القرآن ، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف ، وجاءت المخاطبة بالكاف في (قَلْبِكَ) اتساعا في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الكاف ، وإنما يجيء قوله : فإنه نزله على قلبي ، لكن حسن هذا إذ يحسن في كلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له ، كما تقول لرجل : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هي الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق [الطويل]

ألم تر أنّي يوم جو سويقة

بكيت فنادتني هنيدة ما ليا


فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «مالك» ، و (بِإِذْنِ اللهِ) معناه : بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، و (مُصَدِّقاً) حال من ضمير القرآن في (نَزَّلَهُ) و «ما بين يديه» : ما تقدمه من كتب الله تعالى ، (هُدىً) إرشاد ، والبشرى : أكثر استعمالها في الخير ، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به ، ومقصد هذه الآية : تشريف جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذم معاديه.

وقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) الآية وعيد وذم لمعادي جبريل عليه‌السلام ، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم ، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه ، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه ، وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفا لهما ، وقيل خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما ، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته ، وقرأ نافع «ميكائل» بهمزة دون ياء ، وقرأ بها ابن كثير في بعض ما روي عنه ، وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضا وحمزة والكسائي ، «ميكائيل» بياء بعد الهمزة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم «ميكال» ، ورويت عن ابن كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا ، وقرأ ابن محيصن «ميكئل» بهمزة دون ألف ، وقرأ الأعمش «ميكاييل» بياءين ، وظهر الاسم في قوله : (فَإِنَّ اللهَ) لئلا يشكل عود الضمير ، وجاءت العبارة بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم ، ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله للمآل.

وروي أن رجلا من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له : أرأيت جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا ، فقال له عمر رضي الله عنه : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) إلى آخر الآية ، فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا الخبر يضعف من جهة معناه.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ما جئت بآية بينة؟ فنزلت هذه الآية. و (الْفاسِقُونَ) هنا الخارجون عن الإيمان ، فهو فسق الكفر ، والتقدير : (ما يَكْفُرُ بِها) أحد (إِلَّا الْفاسِقُونَ) ، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي.

قوله عزوجل :

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)

قال سيبويه : الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام ، وقال الأخفش : هي زائدة ، وقال


الكسائي : هي «أو» وفتحت تسهيلا ، وقرأها قوم «أو» ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل ، وكما يقول القائل : لأضربنك فيقول المجيب : أو يكفي الله.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله متكلف ، واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم ، والصحيح قول سيبويه وقرىء «عهدوا عهدا» وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» و (عَهْداً) مصدر ، وقيل : مفعول بمعنى أعطوا عهدا ، والنبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه النبيذ والمنبوذ ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ويقع على اليسير والكثير من الجمع ، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) لما احتمل الفريق أن يكون الأقل ، و (لا يُؤْمِنُونَ) في هذا التأويل حال من الضمير في (أَكْثَرُهُمْ) ، ويحتمل الضمير العود على الفريق ، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل وهو أذم لهم ، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود «نقضه فريق».

وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، يعني به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما (مَعَهُمْ) هو التوراة ، و (مُصَدِّقٌ) نعت ل (رَسُولٌ) ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب ، و (لَمَّا) يجب بها الشيء لوجوب غيره ، وهي ظرف زمان ، وجوابها (نَبَذَ) الذي يجيء ، و (الْكِتابَ) الذي أوتوه : التوراة ، و (كِتابَ اللهِ) مفعول ب (نَبَذَ) ، والمراد القرآن ، لأن التكذيب به نبذ ، وقيل المراد التوراة ، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ ، و (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة ، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق:

تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي

بظهر فلا يعيى عليّ جوابها

و (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تشبيه بمن لا يعلم ، إذ فعلوا فعل الجاهل ، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.

وقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) الآية ، يعني اليهود ، قال ابن زيد والسدي : المراد من كان في عهد سليمان ، وقال ابن عباس : المراد من كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل الجميع ، و (تَتْلُوا) قال عطاء : معناه تقرأ من التلاوة ، وقال ابن عباس : (تَتْلُوا) تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا ، وتتلو بمعنى تلت ، فالمستقبل وضع موضع الماضي ، وقال الكوفيون : المعنى ما كانت تتلو ، وقرأ الحسن والضحاك : «الشياطون» بالواو.

وقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي على عهد ملك سليمان ، وقيل المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره ، وقال الطبري : (اتَّبَعُوا) بمعنى فضلوا ، و (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي على شرعه ونبوته وحاله ، والذي تلته الشياطين : قيل إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم ، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه ، فلما مات قالت الشياطين : إن ذلك كان علم سليمان ، وقيل : بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليما فجمعه سليمان عليه‌السلام كما تقدم ، وقيل إن سليمان ، عليه‌السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه ، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان ، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن


يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته ، وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه ، وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما ، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها ، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل : هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح ، هو هذا السحر ، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم ، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا.

وقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تبرئة من الله تعالى لسليمان ، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر ، والسحر والعمل به كفر ، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفرا ، ولا يستتاب كالزنديق ، وقال الشافعي : يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه فإن تاب وإلا قتل ، وقال مالك : فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ولا يقتل ، واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل : يقتل ، وقال مالك : لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه ، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطين» ، قال بعض الكوفيين : التشديد أحب إليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل ، وبل لا تدخل عليها الواو ، وقال أبو علي : ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد ، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت ، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر ، وإما بعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، وكل ذلك كان ، والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل ، و (السِّحْرَ) مفعول ثان ب (يُعَلِّمُونَ) ، وموضع (يُعَلِّمُونَ) نصب على الحال ، أو رفع على خبر ثان.

وقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) : (ما) عطف على (السِّحْرَ) فهي مفعولة ، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتبعه ويؤمن من تركه ، أو على قول مجاهد وغيره : إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر ، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه ، وقيل إن (ما) عطف على (ما) في قوله : (ما تَتْلُوا) ، وقيل : (ما) نافية ، رد على قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك ، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملكين» بكسر اللام ، وقال ابن أبزى : هما داود وسليمان ، وعلى هذا القول أيضا ف (ما) نافية ، وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، ف (ما) على هذا القول غير نافية ، وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي ، وقال : هما (هارُوتَ وَمارُوتَ) ، فهذا كقول الحسن.

و «بابل» لا ينصرف للتأنيث والتعريف ، وهي قطر من الأرض ، واختلف أين هي؟ فقال قوم: هي


بالعراق وما والاه ، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل ، وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين ، وقال قوم : هي بالمغرب.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا ضعيف ، وقال قوم : هي جبل دماوند ، و (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل من (الْمَلَكَيْنِ) على قول من قال : هما ملكان ، ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل ، جعل (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدلا من (الشَّياطِينُ) في قوله (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) ، وقال هما شيطانان ، ويجيء (يُعَلِّمُونَ) : إما على أن الاثنين جمع ، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس ، ومن قال كانا علجين قال : (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل من قوله (الْمَلَكَيْنِ) ، وقيل هما بدل من (النَّاسَ) في قوله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) ، وقرأ الزهري (هارُوتَ وَمارُوتَ) بالرفع ، ووجهه البدل من (الشَّياطِينُ) في قوله (تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أو من (الشَّياطِينُ) الثاني على قراءة من خفف «لكن» ورفع ، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره هما (هارُوتَ وَمارُوتَ).

وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة ، فقال الله لهم : اختاروا ملكين يحكمان بين الناس ، فاختاروا هاروت وماروت ، فكانا يحكمان ، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها ، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا ، ففعلا ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه ، فتكلمت به فعرجت ، فمسخت كوكبا فهي الزهرة ، وكان ابن عمر يلعنها.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن عمر رضي الله عنهما ، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر ، فأطلع الله عزوجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت ، فتعجبوا ، وبقيا في الأرض لأنهما خيّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا ، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما ، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك ، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض ، ولا يقطع منه بشيء ، فلذلك اختصرته.

ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن (يُعَلِّمانِ) بمعنى يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير [الطويل].

تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد

وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه ، وقال الجمهور : بل التعليم على عرفه ، و «لا تكفر» قالت فرقة : بتعلم السحر ، وقالت فرقة : باستعماله ، وحكى المهدوي أن قولهما : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَحَدٍ) زائدة بعد النفي.


قوله عزوجل :

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

وقوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ) : قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، وقيل هو معطوف على قوله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) ، ومنعه الزجاج ، وقيل : هو معطوف على موضع (وَما يُعَلِّمانِ) لأن قوله (وَما يُعَلِّمانِ) وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم ، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون ، واختاره الزجاج ، والضمير في (يُعَلِّمانِ) هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم ، والضمير في (مِنْهُما) قيل : هو عائد عليهما ، وقيل : على (السِّحْرَ) وعلى الذي أنزل على الملكين ، و (يُفَرِّقُونَ) معناه فرقة العصمة ، وقيل معناه : يؤخّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضا فرقة.

وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المرء» براء مكسورة خفيفة ، وروي عن الزهري تشديد الراء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل ، وقرأ الأشهب العقيلي «المرء» بكسر الميم وهمزة ، ورويت عن الحسن ، وقرأ جمهور الناس «المرء» بفتح الميم وهمزة ، والزوج هنا امرأة الرجل ، وكل واحد منهما زوج الآخر ، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق. [الطويل]

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقرأ الجمهور «بضارين به» ، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد» فقيل : حذفت النون تخفيفا ، وقيل : حذفت للإضافة إلى (أَحَدٍ) وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور ، و (بِإِذْنِ اللهِ) معناه بعلمه وتمكينه ، و (يَضُرُّهُمْ) معناه في الآخرة (وَلا يَنْفَعُهُمْ) فيها أيضا ، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة ، والضمير في (عَلِمُوا) عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة ، وقيل : على (الشَّياطِينُ) ، وقيل على (الْمَلَكَيْنِ) وهما جمع ، وقال (اشْتَراهُ) لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا ، والخلاق النصيب والحظ ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر ، واللام في قوله (لَمَنِ) المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط ، وتقدم القول في «بئسما» ، و (شَرَوْا) معناه باعوا ، وقد تقدم مثله ، والضمير في (يُعَلِّمُونَ) عائد على بني إسرائيل باتفاق ، ومن قال إن الضمير في (عَلِمُوا) عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز ، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون ، ومن قال إن الضمير في (عَلِمُوا) عائد على (الشَّياطِينُ) أو على (الْمَلَكَيْنِ) قال : إن أولئك علموا أن لا خلاق


لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة ، وقال مكي : الضمير في (عَلِمُوا) لعلماء أهل الكتاب ، وفي قوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) للمتعلمين منهم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) : موضع «أن» رفع ، المعنى لو وقع إيمانهم ، ويعني الذين اشتروا السحر ، (وَلَوْ) تقتضي جوابا ، فقالت فرقة جوابها (لَمَثُوبَةٌ) ، لأنها مصدر يقع للمضي والاستقبال ، وجواب (لَوْ) لا يكون إلا ماضيا أو بمعناه ، وقال الأخفش : لا جواب ل (لَوْ) في هذه الآية مظهرا ولكنه مقدر ، أي لو آمنوا لأثيبوا.

وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، وهو مصدر أيضا كمشورة ومشورة ، ومثوبة رفع بالابتداء و (خَيْرٌ) خبره والجملة خبر ان ، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر ، وهذا هو الصحيح ، وقال قوم : معناه لرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع ، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها ، وهذه لا غنى عنها ، وقوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يحتمل نفي العلم عنهم ، ويحتمل أن يراد : لو كانوا يعلمون علما ينفع.

وقرأ جمهور الناس «راعنا» من المراعاة بمعنى فاعلنا أي أرعنا نرعك ، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه ، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره ، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة ، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على هذا التأويل ، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت طائفة : هي لغة كانت الأنصار تقولها ، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليّا بلسانه وطعنا كما كان يقول : اسمع غير مسمع ، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير ، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة ، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل ، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحا ؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعنا» بالتنوين ، وهذه من معنى الجهل ، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور ، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ، وهي شاذة ، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تخاطب الجماعة ، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا من الرعونة.

و (انْظُرْنا) مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا ، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر ، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المعنيين ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى (راعِنا) ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود ، وقرأ الأعمش وغيره «أنظرنا» بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.

ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر ، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة ، واعلم أن


لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما ، وهو المؤلم ، (وَاسْمَعُوا) معطوف على (قُولُوا) لا على معمولها.

قوله عزوجل :

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦)

التقدير ولا من المشركين. وعم الذين كفروا ثم بيّن أجناسهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ليبين في الألف واللام في (الَّذِينَ) أنها ليست للعهد يراد بها معين ، ومعنى الآية أن ما أمرناكم به من أن تعظموا نبيكم خير من الله منحكم إياه ، وذلك لا يودّه الكفار. ثم يتناول اللفظ كل خير غير هذا ، و (أَنْ) مع الفعل بتأويل المصدر ، و (مِنْ) زائدة في قول بعضهم. ولما كان ود نزول الخير منتفيا ، قام ذلك مقام الجحد الذي يلزم أن يتقدم (مِنْ) الزائدة على قول سيبويه والخليل. وأما الأخفش فيجيز زيادتها في الواجب ، وقال قوم : (مِنْ) للتبعيض ؛ لأنهم يريدون أن لا ينزل على المؤمنين من الخير قليل ولا كثير ، ولو زال معنى التبعيض لساغ لقائل أن يقول : نريد أن لا ينزل خير كامل ولا نكره أن ينزل بعض ، فإذا نفي ود نزول البعض فذلك أحرى في نزول خير كامل ، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا ، وقال قوم : الرحمة هي القرآن ، وقال قوم : نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية.

وقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) الآية ، النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر ، والثاني الإزالة ، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية ، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩] ، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسم في اللغة على ضربين : أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل ، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر» ، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين ، والناسخ حقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا إذ به يقع النسخ ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة : الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت ، بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

والنسخ جائز على الله تعالى عقلا لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى ، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت ، ولا النسخ لطروّ علم ، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني. والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكون إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة ، وذلك محال في جهة الله تعالى ، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدا ، ولذلك لم يجوزوه فضلّوا.

والمنسوخ عند أئمتنا : الحكم الثابت نفسه ، لا ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أنه مثل الحكم الثابت


فيما يستقبل ، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله تعالى حسن ، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة ، وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية.

والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به ، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت قطعا تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا. والنسخ لا يجوز في الإخبار ، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، وردّ بعض المعترضين الأمر خبرا بأن قال : أليس معناه :

«واجب عليكم أن تفعلوا كذا»؟ فهذا خبر ، والجواب أن يقال : إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه ، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء.

وصور النسخ تختلف ، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين ، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان ، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة ، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى ، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم ، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى ، وكقوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) [الممتحنة : ١١] ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.

وينسخ القرآن بالقرآن ، والسنة بالسنة ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي ، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد ، وهذا كله متفق عليه ، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة ، وذلك موجود في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث» ، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه‌الله ، وأبى ذلك الشافعي رحمه‌الله ، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة. فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن ، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله ، وفي قوله تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) [الممتحنة : ١٠] ، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش ، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا ، واختلفوا هل وقع شرعا ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة ، وأبى ذلك قوم ، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصا ، وهذا كله في مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت الأمة أنه لا نسخ. ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن.

وقال بعض المتكلمين : «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه» ، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح.


وقرأ جمهور الناس «ما ننسخ» بفتح النون ، من نسخ ، وقرأت طائفة «ننسخ» ، بضم النون من «أنسخ» ، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة ، قال أبو علي الفارسي : ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي لتعدية لأن المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محمودا أو بخيلا ، قال أبو علي : وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : وقد خرج قرأة هذه القراءة المعنى على وجهين أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في (مِنْها) و (مِثْلِها) عائدين على الضمير في (نُنْسِها) ، والمعنى الآخر أن يكون (نَنْسَخْ) من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخا ، و (ما) شرطية وهي مفعولة ب (نَنْسَخْ) ، و (نَنْسَخْ) جزم بالشرط.

واختلف القراء في قراءة قوله (نُنْسِها) ، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «ننسها» بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة ، وهذه من أنسى المنقول من نسي ، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته ، وقرأت طائفة «أو ننسها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين ، وهذه بمعنى الترك ، ذكرها مكي ولم ينسبها ، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وقرأ سعد بن أبي وقاص «أو تنسها» على مخاطبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين ، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني ، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، وتلا (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] ، (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] ، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضا «أو تنسها» بضم التاء أولا وفتح السين وسكون النون بينهما ، وهذه من النسيان ، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «ننسّها» بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة ، وهذه أيضا من النسيان.

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة ، وهذه من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسأ أي أخرتها ، وكذلك يقال : أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد ، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولا على مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولا ، وقرأ أبي بن كعب «أو ننسك» بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين


مكسورة وكاف مخاطبة ، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها» مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية.

وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها» ، وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير ، أو تكون من النسيان.

والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر ، وقد يجيء بمعنى الترك ، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات ، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.

فمعنى الآية : ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان :

أحدها : ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقا بكم خيرا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.

والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.

والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضا على هذا رفع التلاوة والحكم.

والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة ، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه ، ويجيء الضميران في (مِنْها أَوْ مِثْلِها) عائدين على المنسوخة فقط ، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك ، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله ، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته ، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه ، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه ، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك ، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض ، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل ، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصا وإما إشارة فكملناها.

وقال الزجاج : إن القراءة «أو ننسها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك ، وقال أبو علي وغيره : ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها ، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نسي قرآنا ، وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة ، واحتج الزجاج بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، أي لم نفعل ، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.


قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : على معنى إزالة النعمة كما توعد ، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج ، ورد عليه ، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.

فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه ، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : أفي القوم أبيّ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلم لم تذكرني؟ قال : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها.

ولفظة خير في الآية صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية ، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و «من» لابتداء الغاية.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : ويقلق هذا القول لقوله تعالى (أَوْ مِثْلِها) إلا أن يعطف المثل على الضمير في (مِنْها) دون إعادة حرف الجر ، وذلك معترض.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَ) ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير ، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة (أَمْ تُرِيدُونَ) [البقرة : ١٨] ، وقال قوم (أَمْ) هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي.

ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء ، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء ، وهذا لإنكار اليهود النسخ.

وقوله تعالى (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) لفظ عموم معناه الخصوص ، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء ، والشيء في كلام العرب الموجود ، و (قَدِيرٌ) اسم فاعل على المبالغة من «قدر» بفتح العين «يقدر» بكسرها. ومن العرب من يقول قدر بكسر العين يقدر بفتحها.

قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٩)

الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة ، وجمع الضمير في (لَكُمْ) دال على أن المراد بخطاب النبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب أمته ، و «الولي» فعيل من ولي إذا جاور ولحق ، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما ، و «النصير» فعيل من النصر ، وهو أشد مبالغة من ناصر.

وقوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ) : قالت فرقة : (أَمْ) رد على الاستفهام الأول ، فهي معادلته.

وقالت فرقة (أَمْ) استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون ، وهذا موجود في كلام العرب.

وقالت فرقة : (أَمْ) هنا بمعنى بل وألف الاستفهام ، قال مكي وغيره : وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى بل إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده.

قال القاضي أبو محمد : وليس كما قال مكي رحمه‌الله ، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه ، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى ، ونعم ما قال سيبويه : بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.

وقال أبو العالية : إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل. وتلا : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً). [النساء : ١١٠].

قال القاضي أبو محمد : فتجيء إضافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفجير عيون وغير ذلك ، وقيل : إن كفار قريش سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بالله جهرة ، وقيل : سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلا ، وقال مجاهد : سألوه أن يرد الصفا ذهبا ، فقال لهم : خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم ، و (كَما سُئِلَ مُوسى) عليه‌السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سيل» بكسر السين وياء وهي لغة ، يقال : سلت أسال ، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء ، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين ، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل ، وقال أبو العالية : «الكفر هنا الشدة ، والإيمان الرخاء».

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، إلا أن يريدهما مستعارتين ، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم ، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به ، و (ضَلَ) أخطأ الطريق ، و «السواء» من كل شيء الوسط والمعظم ، ومنه قوله تعالى (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥].


وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سوائي ، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره [الكامل] :

يا ويح أنصار النبيّ ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد

وقال أبو عبيد : هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه ، و (السَّبِيلِ) عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده ، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها.

وقوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ، (كَثِيرٌ) مرتفع ب (وَدَّ) ، وهو نعت لنكرة ، وحذف الموصوف النكرة قلق ، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق ، قال الزهري عنى ب (كَثِيرٌ) واحد ، وهو كعب بن الأشرف ، وهذا تحامل ، وقوله تعالى (يَرُدُّونَكُمْ) يرد عليه ، وقال ابن عباس : المراد ابنا أخطب ، حيي وأبو ياسر.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي الضمن الاتباع ، فتجيء العبارة متمكنة ، و (الْكِتابِ) هنا التوراة ، و (لَوْ) هنا بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب ، وقيل يتقدر جوابها في (وَدَّ) ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.

قال القاضي أبو محمد : ف «ود» دالة على الجواب ، لأن من شرطه أن يكون متأخرا عن (لَوْ) ، و (كُفَّاراً) مفعول ثان ، ويحتمل أن يكون حالا ، و (حَسَداً) مفعول له ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال.

واختلف في تعلق قوله (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) : فقيل يتعلق ب (وَدَّ) لأنه بمعنى ودوا ، وقيل : يتعلق بقوله (حَسَداً) فالوقف على قوله (كُفَّاراً) ، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم ، ولفظة الحسد تعطي هذا ، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما ، كما قال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] ، و (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، وقيل يتعلق بقوله (يَرُدُّونَكُمْ) ، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.

واختلف في سبب هذه الآية ، فقيل : إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس ، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم ، فثبتا عليه ونزلت الآية ، وقيل : إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] وغيره ، وأنهم لا يودون أن ينزل خير ، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.

و (الْحَقُ) : المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحة ما المسلمون عليه ، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا ، واختلف أهل السنة في جواز ذلك ، والصحيح عندي جوازه غفلا وبعده وقوعا ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد ، والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار» ، والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.

وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [التوبة : ٢٩] إلى قوله (صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، وقيل : بقوله «اقتلوا المشركين» ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.


قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير ، وأمر من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه الآية بعينها ، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها ، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة ، وقيل : مجيء الأمر هو فرض القتال ، وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير ، وقال أبو عبيدة في هذه الآية : إنها منسوخة بالقتال ، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.

قال القاضي أبو محمد : وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف ، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين.

قوله عزوجل :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ)

قالت فرقة من الفقهاء : إن قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عموم ، وقالت فرقة : هو من مجمل القرآن ، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه ، فعموم من حيث الصلاة الدعاء ، فحمله على مقتضاه ممكن ، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال ، ومجمل من حيث الأوقات ، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير ، وهذا كله في (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وأما الزكاة فمجملة لا غير.

قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ، لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنين بما يحطه ، والخير المقدم منقض لأنه فعل ، فمعنى (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه وجزاءه ، وذلك بمنزلة وجوده.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد.

وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) معناه قال اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقال النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فجمع قولهم ، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم ، وهذا هو الإيجاز واللف ، وهود جمع هائد ، مثل عائد وعود ، ومعناه التائب الراجع ، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور ، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا ، وقال الفراء : أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس.


وقرأ أبي بن كعب «إلا من كان يهوديا» ، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية ، وقد قطعوا قبل بقوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [البقرة : ٩٤ ، الجمعة : ٦] ، وأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان ، وقيل : إن الهاء في (هاتُوا) أصلية من هاتا يهاتي ، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل : هي عوض من همزة آتى ، وقيل : ها تنبيه ، وألزمت همزة آتى الحذف ، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين ، قال الطبري : طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه ، وقول اليهود (لَنْ) نفي حسنت بعده (بَلى) ، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي ، حرف مرتجل لذلك ، وقيل : هي «بل» زيدت عليها الياء لتزيلها على حد النسق الذي في «بل» ، و (أَسْلَمَ) معناه استسلم وخضع ودان ، ومنه قول زيد ابن عمرو بن نفيل : [المتقارب].

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس وفيه يظهر العز والذل ، ولذلك يقال وجه الأمر أي معظمه وأشرفه ، قال الأعشى : [السريع] :

وأول الحكم على وجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر

ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جملة في موضع الحال ، وعاد الضمير في «له» على لفظ (مَنْ) ، وكذلك في قوله (أَجْرُهُ) ، وعاد في (عَلَيْهِمْ) على المعنى ، وكذلك في (يَحْزَنُونَ) ، وقرأ ابن محيصن «فلا خوف» دون تنوين في الفاء المرفوعة ، فقيل : ذلك تخفيف ، وقيل : المراد فلا الخوف فحذفت الألف واللام ، والخوف هو لما يتوقع ، والحزن هو لما قد وقع.

وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) الآية ، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر.

وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتسابوا ، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل ، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها ، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة ، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته ، وكلاهما تضمن صدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعنفهم الله تعالى على كذبهم ، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.

وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) تنبيه لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده ، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب ، وكان وقافا عند كتاب الله ، و (الْكِتابَ) الذي يتلونه قيل : التوراة والإنجيل ، فالألف واللام للجنس ، وقيل : التوراة لأن النصارى تمتثلها ، فالألف واللام للعهد.

قوله عزوجل :

(كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن


يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥)

اختلف من المراد بقوله (لا يَعْلَمُونَ) ، فقال الجمهور : عنى بذلك كفار العرب ، لأنهم لا كتاب لهم ، وقال عطاء : المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأخبر تعالى بأنه (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء ، أي شيء حق ، ويعاقب من كان على غير شيء ، وقال الزجاج : المعنى يريهم عيانا من يدخل الجنة ومن يدخل النار و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) سمي بقيام الناس من القبور ، إذ ذلك مبد لجميع مبدأ في اليوم وفي الاستمرار بعده ، وقوله (كانُوا) بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم ، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم ، بل في الدنيا.

وقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية ، (مَنْ) رفع بالابتداء ، و (أَظْلَمُ) خبره ، والمعنى لا أحد أظلم.

واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم ، فقال ابن عباس وغيره : المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلي ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار ، وقال قتادة والسدي : المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه‌السلام ، وقيل : المعنّي بختنصر ، وقال ابن زيد : المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام ، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة ، والمشهور مسجد بكسر الجيم ، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها ، و (أَنْ يُذْكَرَ) في موضع نصب : إما على تقدير حذف «من» وتسلط الفعل ، وإما على البدل من المساجد ، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل فيه أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ، ويجوز أن تكون (أَنْ) في موضع خفض على إسقاط حرف الجر ، ذكره سيبويه ، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود ، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خرابا ، إذ هو داع إليه ، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضربا ، قاله قتادة والسدي ، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يحج مشرك ، و (خائِفِينَ) نصب على الحال ، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد ، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.

ومن جعل الآية في النصارى قال : الخزي قتل الحربي وجزية الذمي ، وقيل : الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة وغير ذلك ، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا ، و (خِزْيٌ) رفع بالابتداء وخبره في المجرور.

و (الْمَشْرِقُ) موضع الشروق ، (وَالْمَغْرِبُ) موضع الغروب ، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات


والمخلوقات ، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك ، و «أينما» شرط ، و (تُوَلُّوا) جزم به ، والجواب في قوله (فَثَمَ) ، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه ، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية ، تقول وليت عن كذا وإلى كذا ، وقرأ الحسن «تولوا» بفتح التاء واللام ، وثمّ مبنية على الفتح ، وهي في موضع نصب على الظرف ، و (وَجْهُ اللهِ) معناه الذي وجهنا إليه ، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا.

واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافا إلى الله تعالى في مواضع من القرآن ، فقال الحذاق : ذلك راجع إلى الوجود ، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب ، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا ، وقال بعض الأئمة : تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى ، وضعف أبو المعالي هذا القول ، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه ، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى ، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال ، وقال أبو منصور في المقنع : يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه ، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم ، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته.

واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال قتادة : أباح الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا ، فاختار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس حينئذ ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة ، وقال مجاهد والضحاك : معناه إشارة إلى الكعبة ، أي حيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس ، وقال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت القدس ، وقالوا : ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم؟ فنزلت (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، وقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته ، وقال النخعي : الآية عامة أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة ، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال : «كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر في ليلة مظلمة ، فتحرى قوم القبلة وأعلموا علامات ، فلما أصبحوا رأوا أنهم قد أخطؤوها ، فعرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فنزلت هذه الآية» ، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مع القوم في السفر ، وذلك خطأ ، وقال قتادة أيضا : نزلت هذه الآية في النجاشي ، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه ، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلّ إلى القبلة قط؟ ، فنزلت هذه الآية ، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغه التوجه إلى القبلة ، وقال ابن جبير : نزلت الآية في الدعاء لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] ، قال المسلمون : إلى أين ندعو ، فنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، وقال المهدوي : وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها ، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات ، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) موجود حيث توليتم.


وقال أيضا : وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت ، و (واسِعٌ) معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها ، وقيل (واسِعٌ) معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر ، (عَلِيمٌ) بالنيات التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها.

قوله عزوجل :

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨)

قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا» بواو تربط الجملة بالجملة ، أو تعطف على (سَعى) [البقرة : ١١٤] ، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا» بغير واو ، وقال أبو علي : وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، وحذف منه الواو يتجه من وجهين ، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو ، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم ، واختلف على من يعود الضمير في (قالُوا) ، فقيل : على النصارى ، لأنهم قالوا المسيح ابن الله.

قال القاضي أبو محمد : وذكرهم أشبه بسياق الآية ، وقيل : على اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله ، وقيل : على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله ، و (سُبْحانَهُ) مصدر معناه تنزيها له وتبرئة مما قالوا ، و (ما) رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور ، أو في الاستقرار المقدر ، أي كل ذلك له ملك ، والذي (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) داخل في جملة (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات.

والقنوت في اللغة الطاعة ، والقنوت طول القيام في عبادة ، ومنه القنوت في الصلاة ، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع ، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم ، وقيل : الكافر يسجد ظله وهو كاره.

و (بَدِيعُ) مصروف من مبدع كبصير من مبصر ، ومثله قول عمرو بن معديكرب : [الوافر] :

أمن ريحانة الداعي السميع

يريد المسمع ، والمبدع المخترع المنشئ ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان : «نعمت البدعة هذه».

وخص (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا ، و (قَضى) ، معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان ، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل


وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.

والأمر واحد الأمور ، وليس هنا بمصدر أمر يأمر ، ويكون رفع على الاستئناف ، قال سيبويه : «معناه فهو يكون» ، قال غيره : «يكون» عطف على «يقول» ، واختاره الطبري وقرره ، وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود ، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية.

وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب ، وضعفه أبو علي ، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر : «هذا لحن».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيهما معنى الشرط ، تقول أكرم زيدا فيكرمك ، والمعنى إن تكرم زيدا يكرمك ، وفي هذه الآية لا يتجه هذا ، لأنه يجيء تقديره : إن تكن يكن ، ولا معنى لهذا ، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان فالأول أكرم زيدا فيكرمك والثاني أكرم زيدا فتسود.

وتلخيص المعتقد في هذه الآية ، أن الله عزوجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخر المقدورات ، عالما مع تأخر وقوع المعلومات ، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل ، ومن جعل من المفسرين (قَضى) بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد ، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها (كُنْ) ، إذ التأمل يقتضي ذلك ، على نحو قول الشاعر [أبو النجم العجلي] : [الرجز]

وقالت الأقراب للبطن الحق

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يجري مع قول المعتزلة ، والمعنى الذي تقتضيه عبارة (كُنْ) هو قديم قائم بالذات ، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية ، قال الربيع والسدي : هم كفار العرب.

قال القاضي أبو محمد : وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو هذا ، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع نبوة ، وقال مجاهد : هم النصارى لأنهم المذكورون في الآية أولا ، ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس : المراد من كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسمعنا كلام الله ، وقيل : الإشارة بقوله (لا يَعْلَمُونَ) إلى جميع هذه الوظائف ، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها ، ويكون (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، و (لَوْ لا) تحضيض بمعنى هلا ، كما قال الأشهب بن رميلة (١) : [الطويل]

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنعا

وليست هذه (لَوْ لا) التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره ، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها

__________________

(١) نسبة البيت للأشهب خطأ والصحيح أنه لجرير.


إلا الفعل مظهرا أو مقدرا ، وعلى بابها في المنع للوجوب يليها الابتداء ، وجرت العادة بحذف الخبر ، والآية هنا العلامة الدالة ، وقد تقدم القول في لفظها ، و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) اليهود والنصارى في قول من جعل (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كفار العرب ، وهم الأمم السالفة في قول من جعل (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كفار العرب والنصارى واليهود ، وهم اليهود في قول من جعل (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) النصارى ، والكاف الأولى من (كَذلِكَ) نعت لمصدر مقدر ، و (مِثْلَ) نعت لمصدر محذوف ، ويصح أن يعمل فيه ، (قالَ) : وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تشّابهت» بشد الشين ، قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه فعل ماض.

وقوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك بذكر الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة ، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين ، فلذلك خصهم بالذكر ، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى ، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا ، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة ، وقوله تعالى (بَيَّنَّا) قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم ، وقرينة أخرى ، وهي أن الكلام مدح لهم ، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم ، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده ، ومثال ذلك تيقن المقادة ثبوت الصانع ، ومنه قول مالك ـ رحمه‌الله ـ في «الموطأ» في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه والشيء في نفسه على غير ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.

قوله عزوجل :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١)

المعنى (بَشِيراً) لمن آمن ، (وَنَذِيراً) لمن كفر ، وقرأ نافع وحده «ولا تسأل» بالجزم على النهي ، وفي ذلك معنيان : أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب ، كما تقول : فلان لا تسأل عنه ، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر ، والمعنى الثاني روي فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت (وَلا تُسْئَلُ).

وحكى المهدوي رحمه‌الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليت شعري أي أبوي أحدث موتا» ، فنزلت.


قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه ، وقيل وهو ابن شهر ، وقيل ابن شهرين ، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله ، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ باقي السبعة «ولا تسأل» بضم التاء واللام ، وقرأ قوم «ولا تسأل» بفتح التاء وضم اللام ، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان : أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم ، أو لا يسأل هو عنهم ، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال : وغير مسؤول أو غير سائل عنهم ، عطفا على قوله (بَشِيراً وَنَذِيراً) ، وقرأ أبي بن كعب «وما تسأل» ، وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل» ، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما ، و (الْجَحِيمِ) إحدى طبقات النار.

ويقال : رضي يرضى رضى ورضا ورضوانا ، وحكي رضاء ممدودا ، وقال : (مِلَّتَهُمْ) وهما مختلفتان بمعنى لن ترضى اليهود حتى تتبع ملتهم ولن ترضى النصارى حتى تتبع ملتهم ، فجمعهم إيجازا ، لأن ذلك مفهوم ، والملة الطريقة ، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين ، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه.

وروي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدنة ، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم ، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم ، وأطلعه على سر خداعهم.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي ، لا ما يدعيه هؤلاء.

ثم قال تعالى لنبيه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) الآية ، فهذا شرط خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته معه داخلة فيه ، و «أهواء» جمع هوى ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على إفراد الملة لقيل هواهم ، والولي الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة ، و (نَصِيرٍ) بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الآية ، (الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، و (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) صلة ، وقال قتادة : المراد ب (الَّذِينَ) في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْكِتابَ) على هذا التأويل القرآن ، وقال ابن زيد : المراد من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل ، و (الْكِتابَ) على هذا التأويل التوراة ، و (آتَيْناهُمُ) معناه أعطيناهم ، وقال قوم : هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة ، فأثنى الله عليهم ، ويحتمل أن يراد ب (الَّذِينَ) العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب ، ويكون (الْكِتابَ) اسم الجنس ، و (يَتْلُونَهُ) معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي ، وقيل (يَتْلُونَهُ) يقرؤونه حق قراءته ، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال ، و (يَتْلُونَهُ) إذا أريد ب (الَّذِينَ) الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون (يَتْلُونَهُ) في موضع الحال والخبر (أُولئِكَ) ، وإذا أريد ب (الَّذِينَ) العموم لم يكن الخبر إلا (أُولئِكَ) ، و (يَتْلُونَهُ) حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة ، لأنه لو كان الخبر في (يَتْلُونَهُ) لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب (حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، و (حَقَ) مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى أفعل ، ولا يجوز إضافته إلى واحد


معرف ، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة ، ونسيج وحده ، والضمير في (بِهِ) عائد على (الْكِتابَ) ، وقيل : يعود على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أن يعود الضمير على (الْهُدى) الذي تقدم ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول الآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن (هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) الذي أعطاه وبعثه به ، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره ، والضمير في (يَكْفُرْ بِهِ) يحتمل من العود ما ذكر في الأول ، و (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ابتداء وعماد وخبر ، أو ابتداء وابتداء وخبر ، والثاني وخبره خبر الأول ، والخسران نقصان الحظ.

قوله عزوجل :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤)

قرأ الحسن وغيره «نعمتي» بتسكين الياء تخفيفا ، لأن أصلها التحريك كتحريك الضمائر لك وبك ، ثم حذفها الحسن للالتقاء ، وفي السبعة من يحرك الياء ، ومنهم من يسكنها ، وإن قدرنا فضيلة بني إسرائيل مخصوصة في كثرة الأنبياء وغير ذلك فالعالمون عموم مطلق ، وإن قدرنا تفضيلهم على الإطلاق فالعالمون عالمو زمانهم ، لأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهم بالنص ، وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله : (يُنْصَرُونَ) ومعنى (لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) أي ليست ثم ، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد ، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا ، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم ، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي بعد أن أخذ العقاب حقه ، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء.

والعامل في (إِذِ) فعل ، تقديره : واذكر إذ ، و (ابْتَلى) معناه اختبر ، و (إِبْراهِيمَ) يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم ، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام» ، وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب مبتليا معلوم ، فإنما يهتم السامع بمن (ابْتَلى) ، وكون ضمير المفعول متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام.

واختلف أهل التأويل في الكلمات ، فقال ابن عباس : هي ثلاثون سهما ، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملا إلا إبراهيم صلوات الله عليه ، عشرة منها في براءة (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢] ، وعشرة في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] ، وعشرة في (سَأَلَ سائِلٌ) [المعارج : ١] ، وقال ابن عباس أيضا وقتادة : الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس ، وقيل بدل فرق الراس : إعفاء اللحية ، وخمس في الجسد تقليم الظفر ،


وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء ، والاختتان ، وقال ابن عباس أيضا : هي عشرة خصال ، ست في البدن وأربع في الحج : الختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : هي الخلال الست التي امتحن بها ، الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان ، وقيل بدل الهجرة : الذبح ، وقالت طائفة : هي مناسك الحج خاصة ، وروي أن الله عزوجل أوحى إليه أن تطهر ، فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.

قال القاضي أبو محمد : وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم.

وقال الراوي : فأوحى الله إليه (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية ، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه‌السلام هو الذي أتم.

وقال مجاهد وغيره : إن الكلمات هي أن الله عزوجل قال لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم : تجعلني للناس إماما ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل البيت مثابة ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم وأمنا ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل هذا البلد آمنا ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترزق أهله من الثمرات ، قال الله : نعم.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم ، وقد طول المفسرون في هذا ، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها ، وإنما سميت هذه الخصال كلمات ، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات ، وروي أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار ، فذلك قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧].

والإمام القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وهو هنا اسم مفرد ، وقيل في غير هذا الموضع : هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم ، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام.

وجعل الله تعالى إبراهيم إماما لأهل طاعته ، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه ، وأعلم الله تعالى أنه كان حنيفا ، وقول إبراهيم عليه‌السلام : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله ، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل ، وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ ، وهي أفعال تتقارب معانيها ، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى.

وقوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي) ، أي قال الله ، والعهد فيما قال مجاهد : الإمامة ، وقال السدي :


النبوءة ، وقال قتادة : الأمان من عذاب الله ، وقال الربيع والضحاك : العهد الدين : دين الله تعالى.

وقال ابن عباس : معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه ، ونصب (الظَّالِمِينَ) لأن العهد ينال كما ينال ، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون» بالرفع ، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر ، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر ، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦)

قوله (وَإِذْ) عطف على (إِذْ) المتقدمة و (الْبَيْتَ) الكعبة ، و (مَثابَةً) يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون ، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك ، قال الأخفش : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع ، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا ، فهي كنسابة وعلامة ، وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر ، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها ، وقيل : هو على تأنيث البقعة ، كما يقال : مقام ومقامة ، وقرأ الأعمش «مثابات» على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة (١) : [الطويل] :

مثاب لأفناء القبائل كلّها

تخبّ إليها اليعملات الطلائح

و (أَمْناً) معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك ، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش ، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق ، على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخذوا» بكسر الخاء على جهة الأمر ، فقال أنس بن مالك وغيره :

معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، في الحجاب ، وفي (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥] ، وقلت يا رسول الله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

قال القاضي أبو محمد : فهذا أمر لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال المهدوي : وقيل ذلك عطف على قوله (اذْكُرُوا) فهذا أمر لبني إسرائيل ، وقال الربيع بن أنس : ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه ، فهي من الكلمات ، كأنه قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] (وَاتَّخِذُوا) ، وذكر المهدوي رحمه‌الله أن ذلك عطف على الأمر الذي يتضمنه قوله : (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) ، لأن المعنى : توبوا ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا»

__________________

(١) جاء في لسان العرب أن البيت لأبي طالب.


بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا) ، كأنه قال : وإذ اتخذوا ، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ ، فهي جملة واحدة ، وعلى تقدير إذ فهي جملتان.

واختلف في (مَقامِ إِبْراهِيمَ) ، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وخرجه البخاري : إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه.

وقال الربيع بن أنس : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب ، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، وقال فريق من العلماء : المقام المسجد الحرام ، وقال عطاء بن أبي رباح : المقام عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : مقامه مواقف الحج كلها ، وقال مجاهد : مقامه الحرم كله.

و (مُصَلًّى) موضع صلاة ، هذا على قول من قال : المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال (مُصَلًّى) مدعى ، على أصل الصلاة.

وقوله تعالى : (وَعَهِدْنا) العهد في اللغة على أقسام ، هذا منها الوصية بمعنى الأمر ، و (أَنْ) في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض ، قال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، و (طَهِّرا) قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة ، فيجيء مثل قوله : (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) [التوبة : ١٠٨] وقال مجاهد : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان ، وقيل : من الفرث والدم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار ، وقيل : من الشرك ، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفا للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك ، و (لِلطَّائِفِين) ظاهره أهل الطواف ، وقاله عطاء وغيره ، وقال ابن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، و (الْعاكِفِينَ) قال ابن جبير : هم أهل البلد المقيمون ، وقال عطاء : هم المجاورون بمكة ، وقال ابن عباس : المصلون ، وقال غيره : المعتكفون.

قال القاضي أبو محمد : والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه ، كما قال الشاعر [العجاج] : [الرجز]

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم ، و (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) المصلون ، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى ، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث ، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الآية ، دعا إبراهيم عليه‌السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد


العيش ، و (اجْعَلْ) لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء ، و (آمِناً) معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلاث التي تحل بالبلاد.

وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، ونبتت فيها أنواع الثمرات.

وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين ، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعا وأنزلها بوجّ ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف.

واختلف في تحريم مكة متى كان؟ فقالت فرقة : جعلها الله حراما يوم خلق السموات والأرض ، وقالت فرقة : حرمها إبراهيم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح ، والثاني قاله أيضا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي الصحيح عنه : «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام» ، ولا تعارض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان ، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور ، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه ، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالا لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه ، و (مِنَ) بدل من قوله (أَهْلَهُ) ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هذا القول من الله عزوجل لإبراهيم ، وقرؤوا «فأمتّعه» بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء ، «ثم اضطرّه» بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر ، فإنه قرأ «فأمتعه» بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء ، (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) بقطع الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه» كما قرأ ابن عامر «ثم اضطره» بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال ، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه» «ثم نضطره» ، و (مِنَ) شرط والجواب في (فَأُمَتِّعُهُ) ، وموضع (مِنَ) رفع على الابتداء والخبر ، ويصح أن يكون موضعها نصبا على تقدير وأرزق من كفر ، فلا تكون شرطا.

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا القول هو من إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرؤوا «فأمتعه» بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره» بوصل الألف وفتح الراء ، وقرئت بالكسر ، ويجوز فيها الضم ، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره» بإدغام الضاد في الطاء ، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطره» بضم الطاء.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن إبراهيم عليه‌السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين.

و (قَلِيلاً) معناه مدة العمر ، لأن متاع الدنيا قليل ، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال : متاعا قليلا ، وإما


لزمان ، كأنه قال : وقتا قليلا أو زمنا قليلا ، و (الْمَصِيرُ) مفعل كموضع من صار يصير ، و «بيس» أصلها بئس ، وقد تقدمت في «بئسما» ، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلا ، لأنه فان منقض ، وأصل المتاع الزاد ، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله ، قال الشاعر [سليمان بن عبد الملك] : [الطويل]

وقفت على قبر غريب بقفرة

متاع قليل من حبيب مفارق

ومنه تمتيع الزوجات ، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

المعنى : واذكر إذ ، و (الْقَواعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساس ، وقال الفراء : «هي الجدر».

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تجوز ، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد ، وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه ، هذا قول بعض النحاة ، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر ، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب.

و (الْبَيْتِ) هنا الكعبة بإجماع ، واختلف بعض رواة القصص : فقيل إن آدم أمر ببنائه ، فبناه ، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده ، وقيل : إن آدم هبط به من الجنة ، وقيل : إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة ، وقيل : كالياقوتة ، وقيل : إن البيت كان ربوة حمراء ، وقيل بيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض ، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده.

والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت ، وجائز قدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء ، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر ، وقال عبيد بن عمير : رفعها إبراهيم وإسماعيل معا ، وقال ابن عباس : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وقال علي بن أبي طالب : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل طفل صغير.

قال القاضي أبو محمد : ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه ، لأن الآية والآثار ترده ، (وَإِسْماعِيلُ) عطف على (إِبْراهِيمُ) ، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد ، قال الماوردي : (إِسْماعِيلُ) أصله اسمع يا إيل.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وتقدير الكلام : يقولان ربنا تقبل ، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان» ، وقالت فرقة : التقدير وإسماعيل يقول ربنا ، وحذف لدلالة الظاهر عليه ، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلا في ذلك الوقت ، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما ، أي (السَّمِيعُ) لدعائنا و (الْعَلِيمُ) بنياتنا.

وقولهما (اجْعَلْنا) بمعنى صيرنا تتعدى إلى مفعولين ، و (مُسْلِمَيْنِ) هو المفعول الثاني ، وكذلك كانا ، فإنما أرادا التثبيت والدوام ، والإسلام في هذا الموضع الإيمان والأعمال جميعا ، وقرأ ابن عباس وعوف : «مسلمين» على الجمع ، و (مِنْ) في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) للتبعيض ، وخص من الذرية بعضا لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين ، والأمة الجماعة ، وحكى الطبري أنه أراد بذلك العرب خاصة.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهو ضعيف ، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي ، «أرنا» بكسر الراء ، وقرأ ابن كثير «أرنا» بإسكان الراء ، وقرأ أبو عمرو بين الإسكان والكسر اختلاسا ، والأصل أرئينا حذفت الياء للجزم ونقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت تخفيفا ، واستثقل بعد من سكن الراء الكسرة كما استثقلت في فخذ ، وهنا من الإجحاف ما ليس في فخذ ، وقالت طائفة : (أَرِنا) من رؤية البصر ، وقالت طائفة : من رؤية القلب ، وهو الأصح ، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى.

قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر : [الطويل]

أريني جوادا مات هزلا لأنني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

وقال قتادة : المناسك معالم الحج ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة بعث الله إليه جبريل فحج به ، وقال ابن جريج : المناسك المذابح أي مواضع الذبح ، وقال فريق من العلماء : المناسك العبادات كلها ، ومنه الناسك أي العابد ، وفي قراءة ابن مسعود «وأرهم مناسكهم» كأنه يريد الذرية ، والتوبة الرجوع ، وعرفه شرعا من الشر إلى الخير وتوبة الله على العبد رجوعه به وهدايته له.

واختلف في معنى طلبهم التوبة وهم أنبياء معصومون ، فقالت طائفة : طلبا التثبيت والدوام ، وقيل : أرادا من بعدهما من الذرية كما تقول برني فلان وأكرمني وأنت تريد في ولدك وذريتك ، وقيل وهو الأحسن عندي : إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري : إنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن تكون أحسن مما هي.

وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر ، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع ، وأن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة» إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد


علومه واطلاعه على أمر الله ، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى ، والتوبة هنا لغوية.

وقوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية ، هذا هو الذي أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى» ، ومعنى (مِنْهُمْ) أن يعرفوه ويتحققوا فضله ويشفق عليهم ويحرص ، و (يَتْلُوا) في موضع نصب نعت لرسول أي تاليا عليهم ، ويصح أن يكون في موضع الحال ، والآيات آيات القرآن ، و (الْكِتابَ) القرآن ، ونسب التعليم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طرق النظر بما يلقيه الله إليه ويوحيه ، وقال قتادة : (الْحِكْمَةَ) السنة وبيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشرائع ، وروى ابن وهب عن مالك : أن الحكمة الفقه في الدين والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى ، و (يُزَكِّيهِمْ) معناه يطهرهم وينميهم بالخير ، ومعنى الزكاة لا يخرج عن التطهير أو التنمية ، و (الْعَزِيزُ) الذي يغلب ويتم مراده ولا يرد ، و (الْحَكِيمُ) المصيب مواقع الفعل المحكم لها.

قوله عزوجل :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢)

(مَنْ) استفهام في موضع رفع بالابتداء ، و (يَرْغَبُ) خبره ، والمعنى يزهد فيها ويربأ بنفسه عنها ، والملة الشريعة والطريقة ، و (سَفِهَ) من السفه الذي معناه الرقة والخفة ، واختلف في نصب (نَفْسَهُ) ، فقال الزجاج : (سَفِهَ) بمعنى جهل وعداه بالمعنى ، وقال غيره : (سَفِهَ) بمعنى أهلك ، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها ، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة ، وقال الفراء نصبها على التمييز.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق ، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في (مَنْ) ، فكأن الكلام : إلا من سفه نفسا ، وقال البصريون : لا يجوز التمييز مع هذا التعريف ، وإنما النصب على تقدير حذف «في» ، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل ، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن ، وحكى مكي أن التقدير (إِلَّا مَنْ سَفِهَ) قوله (نَفْسَهُ) على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياسا على النعت والمنعوت.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متحامل ، و «اصطفى» «افتعل» من الصفوة معناه تخير الأصفى ، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق ، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلا ، و (فِي الْآخِرَةِ) متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح ، ولا يصلح تعلقه ب (الصَّالِحِينَ) لأن الصلة لا تتقدم الموصول ، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي ، وقال بعضهم : الألف واللام هنا للتعريف


ويستقيم الكلام ، وقيل : المعنى أنه في عمل الآخرة (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، فالكلام على حذف مضاف.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) ، العامل في (إِذْ اصْطَفَيْناهُ) ، وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. والإسلام هنا على أتم وجوهه ، وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى» ، وقرأ الباقون (وَوَصَّى) ، والمعنى واحد ، إلا أن وصى يقتضي التكثير ، والضمير في (بِها) عائد على كلمته التي هي (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقيل : على الملة المتقدمة ، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور ، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوب» بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى ، واختلف في إعراب رفعه ، فقال قوم من النحاة : التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضا ، فهو عطف على (إِبْراهِيمُ) ، وقال بعضهم : هو مقطوع منفرد بقوله (يا بَنِيَ) ، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني ، و (اصْطَفى) هنا معناه تخير صفوة الأديان ، والألف واللام في (الدِّينَ) للعهد ، لأنهم قد كانوا عرفوه ، وكسرت (إِنَ) بعد (وَصَّى) لأنها بمعنى القول ، ولذلك سقطت «إن» التي تقتضيها «وصى» في قوله «أن يا بني» ، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني» بثبوت أن.

وقوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) إيجاز بليغ ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه ، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى؟ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه ، فقد توجه من وقت الأمر دائبا لازما ، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قولهم : لا أرينك هاهنا ، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه ، فإنما المقصود : اذهب وزل عن هاهنا ، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية ، و (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ابتداء وخبر في موضع الحال.

قوله عزوجل :

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥)

هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية ، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم ، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية والإسلام ، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم؟ ، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون ، و (أَمْ) تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية ، وحكى الطبري أن (أَمْ) يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه ، ومنه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [يونس : ٣٨ ، هود : ١٣ ، ٣٥ ، السجدة : ٣ ، الأحقاف : ٨] ، وقال قوم : (أَمْ) بمعنى بل ، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به ، ولكنكم كفرتم جحدا ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عنادا ، والأظهر أنها التي


بمعنى بل وألف الاستفهام معا ، و «شهداء» جمع شاهد أي حاضر ، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت ، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا ، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم ، والعامل في (إِذْ) : (شُهَداءَ) ، و (إِذْ قالَ) بدل من (إِذْ) الأولى ، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم ، وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه ، و (مِنْ بَعْدِي) أي من بعد موتي ، وحكي أن يعقوب عليه‌السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت ، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيّ وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ) الآية ، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى ، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمّ.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العباس : «ردوا علي أبي ، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود».

وقال عنه في موطن آخر : «هذا بقية آبائي» ، ومنه قوله عليه‌السلام : «أنا ابن الذبيحين» على القول الشهير في أن إسحاق هو الذبيح.

وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك» ، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده ، وقال بعضهم : هو جمع سلامة ، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين. قال الشاعر : [زياد بن واصل السلمي] : [المتقارب] :

فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا

وقال ابن زيد : يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق ، و (إِلهاً) بدل من (إِلهَكَ) ، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية ، وقيل (إِلهاً) حال ، وهذا قول حسن ، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية ، (نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ابتداء وخبر ، أي كذلك كنا نحن ونكون ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل (نَعْبُدُ) ، والتأويل الأول أمدح.

وقوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ) في موضع رفع نعت لأمة ، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض ، ويعني بالأمة الأنبياء المذكورون ، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى ، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية ، ذلك لا ينفعكم ، لأن كل نفس (لَها ما كَسَبَتْ) من خير وشر ، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شرا ، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد ، (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فتنحلوهم دينا.

وقولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) نظير قولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، ونصب (مِلَّةَ) بإضمار فعل ، أي بل نتبع ملة ، وقيل نصبت على الإغراء ، وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة «بل ملة» بالرفع والتقدير بل الهدى ملة ، و (حَنِيفاً) حال ، وقيل نصب بإضمار فعل ، لأن الحال تعلق من المضاف إليه ، والحنف الميل ، ومنه الأحنف لمن مالت إحدى قدميه إلى الأخرى ، والحنيف في الدين الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق ، وقال قوم : الحنف الاستقامة ، وسمي المعوج القدمين أحنف تفاؤلا كما قيل سليم ومفازة ، ويجيء الحنيف في الدين المستقيم على جميع طاعات الله عزوجل ، وقد


خصص بعض المفسرين ، فقال قوم : الحنيف الحاج ، وقال آخرون : المختتن ، وهذه أجزاء الحنف.

ونفى عنه الإشراك فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم عزير ابن الله ، والنصرانية لقولهم المسيح ابن الله.

قوله عزوجل :

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨)

هذا الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علمهم الله الإيمان ، و (ما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعني به القرآن ، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه ، و (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) يجمعان براهيم وسماعيل ، هذا هو اختيار سيبويه والخليل ، وقال قوم «براهم» ، وقال الكوفيون : «براهمة وسماعلة» ، وقال المبرد : «أباره وأسامع» ، وأجاز ثعلب «براه» كما يقال في التصغير «بريه» ، (وَالْأَسْباطِ) هم ولد يعقوب ، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا ، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو ، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل ، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط ، و (ما أُوتِيَ مُوسى) هو التوراة وآياته ، و «ما أوتي عيسى» هو الإنجيل وآياته ، فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالايمان بالله ، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع ، و (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون ، وفي الكلام حذف تقديره : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر لفهم السامع ، والضمير في (لَهُ) عائد على اسم الله عزوجل.

وقوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) الآية ، خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

والمعنى إن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين ، هذا قول بعض المتأولين ، وقيل الباء زائدة مؤكدة ، والتقدير آمنوا مثل ، والضمير في (بِهِ) عائد كالضمير في (لَهُ) ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به ، ويظهر عود الضمير على (ما) ، وقيل «مثل» زائدة كما هي في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت ، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، هذا قول ابن عباس ، وقد حكاه عنه الطبري قراءة ، ثم أسند إليه أنه قال : «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإنه لا مثل لله تعالى ، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على جهة التفسير ، أي هكذا فليتأول ،


وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس فالله أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا ، يعني به اليهود والنصارى ، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة ، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق ، وقيل : شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه ، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم ويغلبه عليهم ، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير.

وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (السَّمِيعُ) لقول كل قائل ، (الْعَلِيمُ) بما يجب أن ينفذ في عباده.

و (صِبْغَةَ اللهِ) شريعته وسنته وفطرته ، قال كثير من المفسرين : وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم ، فهذا ينظر إلى ذلك : وقيل : سمي الدين (صِبْغَةَ) استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره ، ونصب الصبغة على الإغراء ، وقيل بدل من ملة ، وقيل نصب على المصدر المؤكد لأن ما قبله من قوله (فَقَدِ اهْتَدَوْا) هو في معنى يلبسون أو يتجللون صبغة الله ، وقيل : التقدير ونحن له مسلمون صبغة الله ، فهي متصلة بالآية المتقدمة ، وقال الطبري من قرأ برفع «ملة» قرأ برفع «صبغة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد ذكرتها عن الأعرج وابن أبي عبلة. و (نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ابتداء وخبر.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١)

معنى الآية : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم أديانهم وكتبهم : (أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ)؟ أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم ، والرب تعالى واحد وكل مجازى بعمله ، فأي تأثير لقدم الدين؟ ، ثم وبخوا بقوله (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي ولم تخلصوا أنتم ، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم؟.

وقرأ ابن محيصن «أتحاجونا» بإدغام النون في النون ، وخف الجمع بين ساكنين لأن الأول حرف مد ولين ، فالمد كالحركة ، ومن هذا الباب دابة وشابة ، و (فِي اللهِ) معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه.

وقوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ) عطف على ألف الاستفهام المتقدمة ، وهذه القراءة بالتاء من فوق قرأها


ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم «أم يقولون» بالياء من أسفل ، و (أَمْ) على هذه القراءة مقطوعة ، ذكره الطبري ، وحكي عن بعض النحاة أنها ليست بمقطوعة لأنك إذا قلت أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى أيكون هذا أم هذا؟.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا المثال غير جيد ، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران ، وإنما تتجه معادلة (أَمْ) للألف على الحكم المعنوي كأن معنى (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أي أيحاجون يا محمد أم يقولون ، وقيل إن (أَمْ) في هذا الموضع غير معادلة على القراءتين ، وحجة ذلك اختلاف معنى الآيتين وإنهما ليسا قسمين ، بل المحاجة موجودة في دعواهم الأنبياء عليهم‌السلام ، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة ، لأنهم إن قالوا إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية كذبوا ، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم ، وإن قالوا لم يكونوا على اليهودية والنصرانية قيل لهم فهلموا إلى دينهم إذ تقرون بالحق.

وقوله تعالى : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) تقرير على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم ، و (مَنْ أَظْلَمُ) لفظه الاستفهام والمعنى لا أحد أظلم منهم ، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة.

واختلف في الشهادة هنا ما هي؟ فقال مجاهد والحسن والربيع : هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم ، وقال قتادة وابن زيد : هي ما عندهم من الأمر بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه ، والأول أشبه بسياق معنى الآية ، واستودعهم الله تعالى هذه الشهادة ولذلك قال : (مِنَ اللهِ) ، ف (مَنْ) على هذا متعلقة ب (عِنْدَهُ) ، كأن المعنى شهادة تحصلت له من الله ، ويحتمل أن تتعلق (مَنْ) ب (كَتَمَ) ، أي كتمها من الله.

وقوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وعيد وإعلام أنه لا يترك أمرهم سدى ، وأن أعمالهم تحصل ويجازون عليها ، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه ، مأخوذ من الأرض الغفل ، وهي التي لا معلم بها.

وقوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ) الآية ، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف ، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى ، فوجب التأكيد ، فلذلك كررها ، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول.

قوله عزوجل :

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ


إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة : (ما وَلَّاهُمْ)؟ و (السُّفَهاءُ) هم الخفاف الأحكام والعقول ، والسفه الخفة والهلهلة ، ثوب سفيه أي غير متقن النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

مشين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مرّ الرياح النواسم

أي استخفتها ، وخص بقوله (مِنَ النَّاسِ) ، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات ، والمراد ب (السُّفَهاءُ) هنا جميع من قال (ما وَلَّاهُمْ) ، وقالها فرق.

واختلف في تعيينهم ، فقال ابن عباس : «قالها الأحبار منهم» ، وذلك أنهم جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها ونؤمن بك ، يريدون فتنته ، وقال السدي : قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء ، وذلك أنهم قالوا : اشتاق الرجل إلى وطنه ، وقالت طائفة : قالها كفار قريش ، لأنهم قالوا : ما ولاه عن قبلته؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله ، و (وَلَّاهُمْ) معناه صرفهم ، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء ، فهي كالقعدة والإزرة ، وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله (سَيَقُولُ) دلالة على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول ، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم.

وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) إقامة حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، ويهدي من يشاء ، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والصراط : الطريق.

واختلف العلماء هل كانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو؟ ، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال الجمهور : بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو ، وقال الربيع : خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس ، ليستألف بها أهل الكتاب ، ومن قال كان بوحي غير متلو قال : كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب ، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره.

واختلف كم صلى إلى بيت المقدس ، ففي البخاري : ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وروي عن أنس بن مالك : تسعة أو عشرة أشهر ، وروي عن غيره : ثلاثة عشر شهرا ، وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره ، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ففرضت الخمس ، وأمّ فيها جبريل عليه‌السلام ، وكانت أول صلاة الظهر ، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس ، ثم هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة في ربيع الأول ، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين ، وقيل إلى جمادى ، وقيل إلى نصف شعبان.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله (يَهْدِي مَنْ


يَشاءُ) ، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة وسطا ، و (أُمَّةً) مفعول ثان ، و (وَسَطاً) نعت ، والأمة القرون من الناس ، و (وَسَطاً) معناه عدولا ، روي ذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتظاهرت به عبارة المفسرين ، والوسط الخيار والأعلى من الشيء ، كما تقول وسط القوم ، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها ، والأمير وسط الجيش ، وكقوله تعالى (قالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم : ٢٨] ، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح ، وقد جاء متمكنا في بعض الروايات في بيت الفرزدق :

فجاءت بملجوم كأن جبينه

صلاءة ورس وسطها قد تفلقا

برفع الطاء والضمير عائد على الصلاءة ، وروي بفتح الطاء والضمير عائد على الجائية ، فإذا قلت حفرت وسط الدار أو وسط الدار فالمعنى مختلف.

قال بعض العلماء : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود ، ولا افترت كالنصارى ، فهي متوسطة ، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الأمور أوساطها» أي خيارها ، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه ، وأما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة و (شُهَداءَ) جمع شاهد في هذا الموضع.

واختلف المفسرون في المراد ب (النَّاسِ) في هذا الموضع ، فقالت فرقة : هم جميع الجنس ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ ، وذلك أن نوحا تناكره أمته في التبليغ ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك ، فيشهدون ، فيقول الله لهم : كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟ ، فيقولون : أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به ، فيقول الله تعالى : صدقتم ، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه ، وقال مجاهد : معنى الآية تشهدون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس.

وقالت طائفة : معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير ، فقال : وجبت ، ثم مر بأخرى ، فأثني عليها بشرّ ، فقال : وجبت ، يعني الجنة والنار ، فسئل عن ذلك ، فقال : «أنتم شهداء الله في الأرض» ، وروي في بعض الطرق أنه قرأ (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) قيل : معناه بأعمالكم يوم القيامة ، وقيل : عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان ، وقيل : أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) الآية ، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم : القبلة هنا بيت المقدس. والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة ، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء ، فإن صليت إليه اتبعناك ، فأمره الله بالصلاة إليه امتحانا لهم فلم يؤمنوا ، وقال


بعض من ذكر : القبلة بيت المقدس ، والمعنى : وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقال ابن عباس : القبلة في الآية الكعبة ، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] بمعنى أنتم ، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة ، وروي في ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية ، وقال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام ، ومعنى قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ) أي ليعلم رسولي والمؤمنون به ، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته ، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول : فتح عمر العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه ، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل ، ووجه آخر : وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك ، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، فأراد بقوله (لِنَعْلَمَ) ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب ، فليس معنى (لِنَعْلَمَ) لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا ، وحكى ابن فورك أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنثيب ، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب ، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه ، وحكى ابن فورك أيضا أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنميز ، وذكره الطبري عن ابن عباس ، وحكى الطبري أيضا أن معنى (لِنَعْلَمَ) لنرى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله متقارب ، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن ، وقرأ الزهري ليعلم على ما لم يسم فاعله.

و (يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك ، والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته ، فلذلك شبه المرتد في الدين به ، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر ، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه ، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) الآية ، الضمير في (كانَتْ) راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس ، أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة ، وقال ابن زيد : «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس» ، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية ، و «كبيرة» هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور ، و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة ، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية ، وإذا ظهر التثقيل في (إِنْ) فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم ، وقال الفراء : (إِنْ) بمعنى ما واللام بمنزلة إلا.

ولما حولت القبلة كان من قول اليهود : يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل ، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة ، فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، وخاطب الحاضرين والمراد من


حضر ومن مات ، لأن الحاضر يغلب ، كما تقول العرب : ألم نقتلكم في موطن كذا؟ ، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره ، وقرأ الضحاك (لِيُضِيعَ) بفتح الضاد وشد الياء ، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم : الإيمان هنا الصلاة. وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل ، ولما كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال وكان ثابتا في حال التوجه هنا وهنا ذكره ، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي ، ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر ، وأيضا فسميت إيمانا إذ هي من شعب الإيمان ، والرأفة أعلى منازل الرحمة ، وقرأ قوم (لَرَؤُفٌ) على وزن فعل ، ومنه قول الوليد بن عقبة : [الطالبان] : [الوافر]

وشرّ الطالبين فلا تكنه

بقاتل عمّه الرّؤوف الرحيم

تقول العرب : رؤف ورؤوف ورئف كحذر ورأف وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع لرووف بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ساكنة كانت أو متحركة.

قوله عزوجل :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)

المقصد تقلب البصر ، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب ، تقول :

بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

رجعت بما أبغي ووجهي بمائه

وأيضا فالوجه يتقلب بتقلب البصر ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة ، وقيل كان يقلب ليؤذن له في الدعاء ، ومعنى التقلب نحو السماء أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة كالمطر والأنوار والوحي فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، و (تَرْضاها) معناه تحبها وتقر بها عينك.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس لوجوه ثلاثة رويت ، فقال مجاهد : لقول اليهود ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، وقال ابن عباس : وليصيب قبلة إبراهيم عليه‌السلام ، وقال الربيع والسدي : وليستألف العرب لمحبتها في الكعبة ، وقال عبد الله بن عمر : إنما وجه


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته حيال ميزاب الكعبة ، وقال ابن عباس وغيره : بل وجه إلى البيت كله.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهنالك قبلة أهل الأندلس بلا ريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ) الآية ، أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام ، وقيل : نزل ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة ، وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الصلاة ، وقيل : إنما نزلت هذه الآية في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر ، و (شَطْرَ) نصب على الظرف ويشبه المفعول به لوقوع الفعل عليه ومعناه نحو وتلقاء ، قال ابن أحمر : [البسيط]

تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة

قد كارب العقد من إيفادها الحقبا

وقال غيره : [الوافر]

أقول لأمّ زنباع أقيمي

صدور العيس شطر بني تميم

وقال لقيط : [البسيط]

وقد أظلّكم من شطر ثغركم

هول له ظلم تغشاكم قطعا

وقال غيره [خفاف بن عمير] : [الوافر]

ألا من مبلغ عمرا رسولا

وما تغني الرّسالة شطر عمرو

و (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا) أمر للأمة ناسخ ، وقال داود بن أبي هند : إن في حرف ابن مسعود : فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وقال محمد بن طلحة : إن فيه : فولوا وجوهكم قبله ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فولوا وجوهكم تلقاءه» ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى ، وقال السدي : المراد اليهود.

قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر ، والمعنى أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم إمام الأمم ، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يجدونه في كتبهم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون» بتاء على المخاطبة ، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل العباد ولا يغفل عنها ، وضمنه الوعيد ، وقرأ الباقون بالياء من تحت.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ) الآية ، أعلم الله تعالى نبيه حين قالت له اليهود : راجع بيت المقدس ونؤمن بك مخادعة منهم أنهم لا يتبعون له قبلة ، يعني جملتهم لأن البعض قد اتبع كعبد الله بن سلام وغيره وأنهم لا يدينون بدينه ، أي فلا تصغ إليهم ، والآية هنا : العلامة ، وجاء جواب (لَئِنْ) كجواب «لو» وهي ضدها في أن «لو» تطلب المضي والوقوع و «إن» تطلب الاستقبال لأنهما جميعا يترتب قبلهما معنى القسم ، فالجواب إنما هو للقسم ، لا أن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، هذا قول سيبويه.


وقوله تعالى جلت قدرته (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) لفظ خبر يتضمن الأمر ، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك ، وقوله تعالى : (وَما بَعْضُهُمْ) الآية ، قال السدي وابن زيد : المعنى ليست اليهود متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود ، فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم ، وقال غيرهما : معنى الآية : وما من أسلم معك منهم بمتبع قبلة من لم يسلم ، ولا من لم يسلم بمتبع قبلة من أسلم.

قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر في الأبعاض ، وقبلة النصارى مشرق الشمس وقبلة اليهود بيت المقدس.

وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) الآية ، خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلما متوقعا فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه فإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه ، وخوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما للأمر.

والأهواء جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، على أنهم قد قالوا : ندى وأندية. قال الشاعر : [مرة بن محكان] : [البسيط]

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا

وهوى النفس إنما يستعمل في الأكثر : فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير مقيدا به ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسرى بدر : فهوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ، و «إذا» حرف معناه أن تقرر ما ذكر.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٩)

(الَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء ، والخبر (يَعْرِفُونَهُ) ، ويصح أن يكون في موضع خفض نعتا للظالمين و (يَعْرِفُونَهُ) في موضع الحال.

وخص الأبناء دون الأنفس وهي ألصق ، لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه ، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه ، والمراد هنا معرفة الوجه وميزه لا معرفة حقيقة النسب ، ولعبد الله بن سلام رضي الله عنه في هذا الموضع كلام معترض يأتي موضعه إن شاء الله ، والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) عائد على الحق في القبلة والتحول بأمر الله إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والربيع ، وقال قتادة أيضا


ومجاهد وغيرهما : هو عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي يعرفون صدقه ونبوته ، والفريق الجماعة ، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم ، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير (يَعْرِفُونَهُ) ، فعم الحق مبالغة في ذمهم ، و (هُمْ يَعْلَمُونَ) ظاهر في صحة الكفر عنادا.

وقوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، (الْحَقُ) رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق ، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه (الْحَقُ) بالنصب ، على أن العامل فيه (يَعْلَمُونَ) ، ويصح نصبه على تقدير : الزم الحق.

وقوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، وامترى في الشيء إذا شك فيه ، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا ، وأنشد الطبري ـ شاهدا على أن الممترين الشاكون ـ قول الأعشى : [المتقارب]

تدر على اسؤق الممترين

ركضا إذا ما السراب ارجحن

ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها ، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري.

وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) الآية ، الوجهة : فعلة من المواجهة كالقبلة ، وقوله : (هُوَ) عائد على اللفظ المفرد في «كل» ، والمراد به الجماعات.

المعنى : لكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه ، قاله الربيع وعطاء وابن عباس ، وقرأ ابن عباس وابن عامر وحده من السبعة هو مولاها ، وقالت طائفة : الضمير في (هُوَ / ١٤٨) عائد على الله تعالى ، والمعنى : الله موليها إياهم ، وقالت فرقة : المعنى في الآية أن للكل دينا وشرعا وهو دين الله وملة محمد وهو موليها إياهم اتبعها من اتبعها وتركها من تركها ، وقال قتادة : المراد بالآية أن الصلاة إلى الشام ثم الصلاة إلى الكعبة لكل واحدة منهما وجهة الله موليها إياهم ، وحكى الطبري أن قوما قرؤوا (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) بإضافة كل إلى وجهة ، وخطأها الطبري.

قال القاضي أبو محمد : وهي متجهة ، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع ، وقدم قوله : (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ) على الأمر في قوله : (فَاسْتَبِقُوا) للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول ، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه وسلمت الواو في وجهة ولم تجر كعدة وزنة لأن (وِجْهَةٌ) ظرف وتلك مصادر فسلمت للفرق ، وأيضا فليكمل بناء الهيئة كالجلسة ، قال أبو علي : ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم ، ومال قوم إلى أنه اسم ليس بمصدر.

قال غير أبي علي : وإذا أردت المصدر قلت جهة.

قال القاضي أبو محمد : وقد يقال الجهة في الظرف ، وحكى الطبري عن منصور أنه قال : نحن نقرؤها «ولكلّ جعلنا قبلة يرضونها».


ثم أمر تعالى عباده باستباق الخيرات والبدار إلى سبيل النجاة ، ثم وعظهم بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيدا وتحذيرا.

وقوله : (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يعني به البعث من القبور ، ثم اتصف الله تعالى بالقدرة على كل شيء مقدور عليه لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإتيان بهم.

وقوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، معناه حيث كنت وأنّى توجهت من مشارق الأرض ومغاربها ، ثم تكررت هذه الآية تأكيدا من الله تعالى ، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا فأكد الأمر ليرى الناس التهمم به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.

قوله عزوجل :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١)

قوله تعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) هو فرض استقبال القبلة على المصلين ، وفرض المصلي ما دام يرى الكعبة أن يصادفها باستقباله ، فإذا غابت عنه ففرضه الاجتهاد في مصادفتها ، فإن اجتهد ثم كشف الغيب أنه أخطأ فلا شيء عليه عند كثير من العلماء ، ورأى مالك رحمه‌الله أن يعيد في الوقت إحرازا لفضيلة القبلة.

وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية ، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة ، وقرأ الباقون (لِئَلَّا) بالهمز ، والمعنى : عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك (لِئَلَّا) ، وقوله : (لِلنَّاسِ) عموم في اليهود والعرب وغيرهم ، وقيل : المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب.

قال القاضي أبو محمد : وقوله (مِنْهُمْ) يرد هذا التأويل ، وقالت فرقة (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء متصل ، وهذا مع عموم لفظة الناس ، والمعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا ، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم (ما وَلَّاهُمْ) استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق ، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة ، وقالت طائفة (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء منقطع وهذا مع كون الناس اليهود فقط ، وقد ذكرنا ضعف هذا القول ، والمعنى : لكن الذين ظلموا يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله ، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد : «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح لكلام ، فيكون (الَّذِينَ) ابتداء ، أو على معنى الإغراء بهم فيكون (الَّذِينَ) نصبا بفعل مقدر.


وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) الآية ، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره ، وقوله (وَلِأُتِمَ) عطف على قوله (لِئَلَّا) ، وقيل : هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك ، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه. و (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ترجّ في حق البشر.

والكاف في قوله (كَما) رد على قوله (لِأُتِمَ) أي إتماما كما ، وهذا أحسن الأقوال ، أي لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه‌السلام (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) إجابة لدعوته في قوله (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية ، وقيل : الكاف من (كَما) رد على (تَهْتَدُونَ) ، أي اهتداء كما ، وقيل ، هو في موضع نصب على الحال ، وقيل : هو في معنى التأخير متعلق بقوله (فَاذْكُرُونِي) ، وهذه الآية خطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المعنيّ بقوله (رَسُولاً مِنْكُمْ) ، و (يَتْلُوا) في موضع نصب على الصفة ، والآيات : القرآن ، و (يُزَكِّيكُمْ) يطهركم من الكفر وينميكم بالطاعة ، و (الْكِتابَ) القرآن ، و (الْحِكْمَةَ) ما يتلقى عنه عليه‌السلام من سنة وفقه في دين ، و (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) قصص من سلف وقصص ما يأتي من الغيوب.

قوله عزوجل :

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧)

قال سعيد بن جبير : معنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة.

قال القاضي أبو محمد : أي اذكروني عند كل أموركم فيحملكم خوفي على الطاعة فأذكركم حينئذ بالثواب ، وقال الربيع والسدي : المعنى اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه.

وفي الحديث : إن الله تعالى يقول : «ابن آدم اذكرني في الرخاء أذكرك في الشدة» ، وفي حديث آخر : إن الله تعالى يقول : «وإذ ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» وروي أن الكافر إذا ذكر الله ذكره الله باللعنة والخلود في النار ، وكذلك العصاة يأخذون بحظ من هذا المعنى ، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام «قل للعاصين لا يذكروني».

و (اشْكُرُوا لِي) واشكروني بمعنى واحد ، و (لِي) أشهر وأفصح مع الشكر ، ومعناه نعمي وأياديّ ، وكذلك إذا قلت شكرتك فالمعنى شكرت صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر ذكر اليد وذكر مسديها معا ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، و (تَكْفُرُونِ) أي نعمي


وأياديّ ، وانحذفت نون الجماعة للجزم ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياء التي بعدها تخفيفا لأنها رأس آية ، ولو كان نهيا عن الكفر ضد الإيمان لكان : ولا تكفروا ، بغير النون.

و (يا) حرف نداء و «أيّ» منادى و «ها» تنبيه ، وتجلب «أي» فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا ما ، فلو لم تجلب «أي» لاجتمع تعريفان ، وقال قوم : «الصبر» : الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وتقدم معنى الاستعانة بالصبر والصلاة ، واختصاره أنهما رادعان عن المعاصي.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين) معناه بمعونته وإنجاده ، فهو على حذف مضاف ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : «اهجهم وروح القدس معك» ، وكما قال : «ارموا وأنا مع بني فلان» ، الحديث.

وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) الآية ، سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد مات فلان ومات فلان ، فكره الله أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، وأيضا : فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم ، تعظم منزلة الشهداء ، وتخبر عن حقيقة حالهم ، فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم ، ويبين ذلك من حديث أم حارثة في السير ، والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق ، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، وروي أنهم في قبة خضراء ، وروي أنهم في قناديل من ذهب ، إلى كثير من هذا ، ولا محالة أنها أحوال لطوائف أو للجميع في أوقات متغايرة ، وجمهور العلماء على أنهم في الجنة ، ويؤيده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حارثة : إنه في الفردوس ، وقال مجاهد : هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها ، و (أَمْواتٌ) رفع بإضمار الابتداء والتقدير هم أموات ، ولا يجوز إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب كما يصح في قولك قلت كلاما وحجة.

وقوله (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي قبل أن نشعركم.

وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الآية ، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين ، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة ، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن ، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة ، ثم وعد الصابرين أجرا ، وقال عطاء والجمهور : إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول أظهر ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ) معناه لنمتحننكم ، وحركت الواو لالتقاء الساكنين ، وقيل : الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر ، و (الْخَوْفِ) يعني من الأعداء في الحروب ، و (الْجُوعِ) الجدب والسنة ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث ، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعا ، ونقص الأموال : بالجوائح والمصائب ،


(وَالْأَنْفُسِ) : بالموت والقتل ، (وَالثَّمَراتِ) : بالعاهات ونزع البركة ، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول إيجازا ولذلك وحد ، وقرأ الضحاك بأشياء على الجمع ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، وقال بعض العلماء : إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد.

ثم وصف تعالى الصابرين الذين بشرهم بقوله (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) الآية ، وجعل هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة ، وذلك توحيد الله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له ، وقال سعيد بن جبير : لم يعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفا على يوسف.

وروي أن مصباح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطفأ ذات ليلة فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله؟ ، فقال : «نعم كل ما آذى المؤمن فهي مصيبة».

وقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الآية ، نعم من الله على الصابرين المسترجعين ، وصلوات الله على عبده : عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة ، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا ، وهي من أعظم أجزاء الصلاة منه تعالى ، وشهد لهم بالاهتداء.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية : «نعم العدلان ونعم العلاوة» أراد بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الاهتداء.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ(١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٦٠)

(الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) : جبيلان بمكة ، و (الصَّفا) جمع صفاة ، وقيل : هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء ، وهي الصخرة العظيمة ، قال الراجز : [الرجز]

مواقع الطّير على الصّفى

وقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، و (الْمَرْوَةَ) واحدة المرو ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين ، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة «فذكيتها بمروة» ، ومنه قيل الأمين : «اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة ، وصمصامة قطعت صمصامة» ، وقد قيل في المرو : إنها الصلاب. قال الشاعر : [الوافر]


وتولّى الأرض خفّا ذابلا

فإذا ما صادف المرو رضخ

والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته ، وفي هذا يقال المرو أكثر ، وقد يقال في الصليب ، وتأمل قول أبي ذؤيب : [الكامل]

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشقر كل يوم تقرع

وجبيل (الصَّفا) بمكة صليب ، وجبيل (الْمَرْوَةَ) إلى اللين ماهق ، فبذلك سميا ، قال قوم : ذكر (الصَّفا) لأن آدم وقف عليه ، ووقفت حواء على المروة فانثت لذلك.

وقال الشعبي : «كان على الصفا صنم يدعى إسافا ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة» ، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر ، و (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) معناه من معالمه ومواضع عبادته ، وهي جمع شعيرة أو شعارة ، وقال مجاهد : ذلك راجع إلى القول ، أي مما أشعركم الله بفضله ، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست ، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ومن هذه اللفظة هو الشاعر ، و (حَجَ) معناه قصد وتكرر ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وأشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا

ومنه قول الآخر : [البسيط]

يحج مأمومة في قعرها لجف

و (اعْتَمَرَ) زار وتكرر مأخوذ من عمرت الموضع ، وال (جُناحَ) الإثم والميل عن الحق والطاعة ، ومن اللفظة الجناح لأنه في شق ، ومنه قيل للخبا جناح لتمايله وكونه كذي أجنحة ، ومنه : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] ، و (يَطَّوَّفَ) أصله يتطوف سكنت التاء وأدغمت في الطاء.

وقرأ أبو السمال «أن يطاف» وأصله يطتوف تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فجاء يطتاف أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول ، كما جاء في مدكر ، ومن لم يجز ذلك قال قلبت التاء طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء ، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف.

وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب أنهم قرؤوا «أن لا يتطوف» ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب «أن لا يطوف» ، وقيل : «أن لا يطوف» بضم الطاء وسكون الواو.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما.

وقوله (فَلا جُناحَ) ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء ، لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم ، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج ، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب ، واختلف في كيفية ذلك فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية


فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك ، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالا لتلك ، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية ، وروي عن الشعبي أن العرب التي كانت تطوف هنالك كانت تعتقد ذلك السعي إجلالا لإساف ونائلة ، وكان الساعي يتمسح بإساف فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه ، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين.

واختلف العلماء في السعى بين الصفا والمروة فمذهب مالك والشافعي أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة ، ومذهب الثوري وأصحاب الرأي أن الدم يجزىء تاركه وإن عاد فحسن ، فهو عندهم ندب ، وروي عن أبي حنيفة : إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم ، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين ، وقال عطاء ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره ، واحتج عطاء بما في مصحف ابن مسعود «أن لا يطوف بهما» وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام ، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها في قولها لعروة حين قال لها «أرأيت قول الله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ فما نرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما» قالت : «يا عروة كلا لو كان ذلك لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وأيضا فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف وتكون «لا» زائدة صلة في الكلام ، كقوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ، وكقول الشاعر : [البسيط]

ما كان يرضى رسول الله فعلهم

والطّيبان أبو بكر ولا عمر

أي وعمر وكقول الآخر : [الرجز]

وما ألوم البيض أن لا تسخرا

ومذهب مالك وأصحابه في العمرة أنها سنة إلا ابن حبيب فإنه قال بوجوبها ، وقرأ قوم من السبعة وغيرهم «ومن يطوع» بالياء من تحت على الاستقبال والشرط ، والجواب في قوله (فَإِنَ) ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «تطوع» على بابه في المضي ، ف (مِنْ) على هذه القراءة بمعنى الذي ، ودخلت الفاء في قوله (فَإِنَ) للإبهام الذي في (مِنْ) ، حكاه مكي ، وقال أبو علي : يحتمل «تطوع» أن يكون في موضع جزم و (مِنْ) شرطية ، ويحتمل أن تكون (مِنْ) بمعنى الذي والفعل صلة لا موضع له من الإعراب ، والفاء مؤذنة أن الثاني وجب لوجوب الأول ، ومن قال بوجوب السعي قال : معنى (تَطَوَّعَ) أي زاد برا بعد الواجب ، فجعله عاما في الأعمال ، وقال بعضهم : معناه من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة ، ومن لم يوجب السعي قال : المعنى من تطوع بالسعي بينهما ، وفي قراءة ابن مسعود «فمن تطوع بخير» ، ومعنى (شاكِرٌ) أي يبذل الثواب والجزاء ، (عَلِيمٌ) بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل بر ولا غيره عمل.


وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) الآية ، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الطبري : «وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت ، وتتناول الآية بعد كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه.

وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله «لو لا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا» ، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال «حفظت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم».

وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله : «لأحدثنكم حديثا لو لا آية في كتاب الله ما حدثتكموه» ، ومن روى في كلام عثمان «لو لا أنه في كتاب الله» فالمعنى غير هذا.

و (الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) : أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير ، وقرأ طلحة بن صرف «من بعد ما بينه» على الإفراد ، و (فِي الْكِتابِ) يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية ، وقد تقدم معنى اللعنة.

واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع : الملائكة والمؤمنون ، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام ، وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.

قال القاضي أبو محمد : وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، وقال البراء بن عازب (اللَّاعِنُونَ) كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع» ، وقال ابن مسعود : المراد بها ما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود».

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال الثلاثة لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر ، ثم استثنى الله تعالى التائبين وقد تقدم معنى التوبة ، و (أَصْلَحُوا) أي في أعمالهم وأقوالهم ، و (بَيَّنُوا) قال من فسر الآية على العموم : معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه ، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال : المعنى بينوا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى ، وقد تقدم معنى توبة الله على عبده وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة.

قوله جلت قدرته :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ


الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، محكمة في الذين وافوا على كفرهم ، واختلف في معنى قوله (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهم لا يلعنون أنفسهم ، فقال قتادة والربيع : المراد ب (النَّاسِ) المؤمنون خاصة ، وقال أبو العالية : معنى ذلك في الآخرة ، وذلك أن الكفرة يلعنون أنفسهم يوم القيامة ، وقالت فرقة : معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا : لعن الله الكافرين ، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «والملائكة والناس أجمعون» بالرفع على تقدير أولئك يلعنهم الله ، واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب ، فلذلك قال (خالِدِينَ فِيها) ، والضمير عائد على اللعنة ، وقيل على النار وإن كان لم يجر لها ذكر ، لثبوتها في المعنى.

ثم اعلم تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية ، و (يُنْظَرُونَ) معناه يؤخرون عن العذاب ، ويحتمل أن يكون من النظر ، نحو قوله تعالى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧] ، والأول أظهر ، لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذا في الشعر.

وقوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية ، إعلام بالوحدانية ، و (واحِدٌ) في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند ، وقال أبو المعالي : هو نفي التبعيض والانقسام ، وقال عطاء : لما نزلت هذه الآية بالمدينة قال كفار قريش بمكة : ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟ وقال سعيد بن المسيب : قالوا : إن كان هذا يا محمد فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق ، حتى قالوا : اجعل لنا الصفا ذهبا ، فقيل لهم : ذلك لكم ، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم ، فأشفق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : دعني أدعهم يوما بيوم ، فنزل عند ذلك قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الآية ، ومعنى (فِي خَلْقِ السَّماواتِ) في اختراعها وإنشائها ، وقيل : المعنى أن في خلقه أي هيئة السموات والأرض ، و (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) معناه أن هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما خلفة ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ، وكما قال زهير : [الطويل]

بها العين والأرآم يمسين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم

وقال الآخر : [المديد]

ولها بالماطرون إذا

أكل النّمل الذي جمعا

خلفة حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

ويحتمل أيضا الاختلاف في هذه الآية أن يراد به اختلاف الأوصاف ، و (اللَّيْلِ) جمع ليلة وتجمع


ليالي ، وزيدت فيها الياء كما زيدت في كراهية وفراهية ، و (النَّهارِ) يجمع نهرا وأنهرة ، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، يقضي بذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم «إنما هو بياض النهار وسواد الليل» ، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها ، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال : [الطويل]

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

وقال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس قال : وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحكم ، و (الْفُلْكِ) السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، وليست الحركات تلك بأعيانها ، بل كأنه بني الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم فلكان ، والفلك المفرد مذكر ، قال الله تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الشعراء : ١١٩].

و «ما ينفع الناس» هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج ، والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها ، فلذلك خص ذكر الانتفاع إذ قد تجري بما يضر ، و (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، و (بَثَ) معناه فرق وبسط ، و (دَابَّةٍ) تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب ، وهذا مردود ، وقال الأعشى : [الطويل]

دبيب قطا البطحاء في كلّ منهل

وقال علقمة بن عبدة : [الطويل]

صواعقها لطيرهنّ دبيب

و (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) إرسالها عقيما ومقحة وصرا ونصرا وهلاكا ، ومنه إرسالها جنوبا وشمالا وغير ذلك ، و (الرِّياحِ) جمع ريح ، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله تعالى (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] ، وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هبت الريح يقول : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح وهو معنى «نشرا» ، وأفردت مع الفلك لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة ، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، وهي لفظة من ذوات الواو ، يقال ريح وأرواح ، ولا يقال أرياح ، وإنما قيل رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها ، وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، فاستعمل الأرياح في شعره ولحن في ذلك ، وقال له أبو حاتم : إن الأرياح لا تجوز ، فقال : أما تسمع قولهم رياح؟ ، فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال : صدقت ورجع ، وأما القراء السبعة فاختلفوا فقرأ نافع (الرِّياحِ) في اثني عشر موضعا : هنا


وفي الأعراف (يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الآية : ٥٧] ، وفي إبراهيم اشتدت به الرياح [الآية : ٨] ، وفي الحجر (الرِّياحَ لَواقِحَ) [الآية : ٢٢] ، وفي الكهف (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ، وفي الفرقان (أَرْسَلَ الرِّياحَ) [الآية : ٢٢] ، وفي النمل (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الآية : ٦٣] ، وفي الروم [الآيتان: ٤٦ ، ٤٨] في موضعين ، وفي فاطر [الآية : ٩] وفي الجاثية [الآية : ٥] وفي حم عسق يسكن الرياح [الآية : ٣٣] ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد : في إبراهيم وفي حم عسق ، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع ، وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع : هنا وفي الحجر وفي الكهف وفي الروم الحرف الأول وفي الجاثية (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) وباقي ما في القرآن بالإفراد ، وقرأ حمزة بالجمع في موضعين : في الفرقان وفي الروم الحرف الأول وأفرد سائر ما في القرآن ، وقرأ الكسائي كحمزة وزاد عليه في الحجر (الرِّياحَ لَواقِحَ) [الآية : ٢٢] ، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام ، و (السَّحابِ) جمع سحابة ، سمي بذلك لأنه ينسحب ، كما قالوا حبا لأنه يحبو ، قاله أبو علي الفارسي ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر ، فهذه آيات أن الصانع موجود. والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحدا لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧)

ذكر الله تعالى الوحدانية ثم الآيات الدالة على الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا ، ثم ذكر في هذه الآية الجاحدين الضالين معجبا من سوء ضلالهم مع الآيات ، لأن المعنى أن في هذه الأمور لآيات بينة ، ومن الناس مع ذلك البيان من يتخذ ، وخرج (يَتَّخِذُ) موحدا على لفظ (مِنَ) والمعنى جمعه ، و (مِنْ دُونِ) لفظ يعطي غيبة ما تضاف إليه (دُونِ) عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير (دُونِ) بسوى أو بغير لا يطرد ، والند النظير والمقاوم والموازي كان ضدا أو خلافا أو مثلا ، إذا قاوم من جهة فهو منها ند ، وقال مجاهد وقتادة : المراد بالأنداد الأوثان ، وجاء ضميرها في (يُحِبُّونَهُمْ) ضمير من يعقل لما أنزلت بالعبادة منزلة من يعقل ، وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون يطيعونهم في معاصي الله تعالى ، و (يُحِبُّونَهُمْ) في موضع نصب نعت للأنداد ، أو على الحال من المضمر في (يَتَّخِذُ) ، أو يكون في موضع رفع نعت ل (مِنَ) وهذا على أن تكون (مِنَ) نكرة والكاف من (كَحُبِ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، و «حب» مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ وهو على التقدير مضاف إلى


الفاعل المضمر ، تقديره كحبكم الله أو كحبهم الله حسبما قدر كل وجه منها فرقة ، ومعنى كحبهم أي يسوون بين محبة الله ومحبة الأوثان.

ثم أخبر أن المؤمنين (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لإخلاصهم وتيقنهم الحق.

وقوله تعالى : ولو ترى الذين ظلموا قرأ نافع وابن عامر «ترى» بالتاء من فوق ، و «أن» بفتح الألف ، و «أن» الأخرى كذلك عطف على الأولى ، وتقدير ذلك : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله ، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في «أن» ، وتقدير آخر : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا ، وتقدير ثالث : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم ، فاللام مضمرة قبل «أن» ، فهي مفعول من أجله ، والجواب محذوف مقدر بعد ذلك ، وقد حذف جواب (لَوْ) مبالغة ، لأنك تدع السامع يسمو به تخيله ، ولو شرحت له لوطنت نفسه إلى ما شرحت ، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة وأبو جعفر ترى بالتاء من فوق وكسر الهمزة من «إن» ، وتأويل ذلك : ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لاستعظمت ما حل بهم ، ثم ابتدأ الخبر بقوله «إن القوة لله» ، وتأويل آخر : ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله جميعا لاستعظمت حالهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن كثير «يرى» بالياء من أسفل ، وفتح الألف من «أن» ، تأويله : ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة إذ يرون العذاب لعلموا أن القوة لله جميعا ، وتأويل آخر روي عن المبرد والأخفش : ولو يرى بمعنى يعلم الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا لاستعظموا ما حل بهم ، ف «يرى» عامل في «أن» وسدت مسد المفعولين.

وقال أبو علي : «الرؤية في هذه الآية رؤية البصر» ، والتقدير في قراءة الياء : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا ، وحذف جواب (لَوْ) للمبالغة ، ويعمل في «أن» الفعل الظاهر وهو أرجح من أن يكون العامل فيها مقدرا ، ودخلت (إِذْ) وهي لما مضى في أثناء هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه ، كما يقع الماضي موقع المستقبل في قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠] ، و (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، ومنه قول الأشتر النخعي : [الكامل]

بقيت وفري وانحرفت عن العلا

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

وقرأت طائفة «يرى» بالياء من أسفل وكسر الألف من «إن» ، وذلك إما على حذف الجواب وابتداء الخبر ، وإما على تقدير لقالوا إن القوة لله جميعا ، وقرأ ابن عامر وحده «يرون» بضم الياء والباقون بفتحها.

وثبتت بنص هذه الآية القوة لله بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة ، وقالت


طائفة : (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) : كل من عبد من دون الله ، وقال قتادة : هم الشياطين المضلون ، وقال الربيع وعطاء : هم رؤساؤهم.

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم هذا كله ، و (إِذْ) يحتمل أن تكون متعلقة ب (شَدِيدُ الْعَذابِ) ، ويحتمل أن يكون العامل فيها : اذكر ، و (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بفتح الباء هم العبدة لغير الله ، والضالون المقلدون لرؤسائهم أو للشياطين ، وتبريرهم هو بأن قالوا إنّا لم نضل هؤلاء بل كفروا بإرادتهم ، وتعلق العقاب على المتبعين بكفرهم ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على المضلين ، وقرأ مجاهد بتقديم الفعل المسند إلى المتبعين للرؤساء وتأخير المسند إلى المتبعين.

والسبب في اللغة : الحبل الرابط الموصل ، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين شيئين ، وقال ابن عباس : (الْأَسْبابُ) هنا الأرحام ، وقال مجاهد : هي العهود ، وقيل : المودات ، وقيل : المنازل التي كانت لهم في الدنيا ، وقال ابن زيد والسدي : هي الأعمال ، إذ أعمال المؤمنين كالسبب في تنعيمهم فتقطعت بالظالمين أعمالهم.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية ، المعنى وقال الأتباع الذين تبرئ منهم : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم ، والكرة : العودة إلى حال قد كانت ، ومنه قول جرير : [الكامل]

ولقد عطفن على فزارة عطفة

كر المنيح وجلن ثم مجالا

والمنيح هنا : أحد الأغفال من سهام الميسر ، وذلك أنه إذا خرج من الربابة رد لفوره لأنه لا فرض فيه ولا حكم عنه ، والكاف من قوله (كَما) في موضع نصب على النعت إما لمصدر أو لحال تقديرها متبرئين كما ، والكاف من قوله (كَذلِكَ يُرِيهِمُ) قيل : هي في موضع رفع على خبر ابتداء تقديره الأمر كذلك ، وقيل : هي كاف تشبيه مجردة ، والإشارة بذلك إلى حالهم وقت تمنيهم الكرة.

والرؤية في الآية هي من رؤية البصر ، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب ، و (أَعْمالَهُمْ) قال الربيع وابن زيد المعنى : الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار ، وقال ابن مسعود والسدي المعنى : الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة ، ورويت في هذا القول أحاديث ، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها ، و (حَسَراتٍ) حال على أن تكون الرؤية بصرية ، ومفعول على أن تكون قلبية ، والحسرة أعلى درجات الندامة والهم بما فات ، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر ، وقيل هي من حسر إذا كشف ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحسر الفرات عن جبل من ذهب».

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا


ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١)

الخطاب عام و «ما» بمعنى الذي ، و (حَلالاً) حال من الضمير العائد على «ما» ، وقال مكي : نعت لمفعول محذوف تقديره شيئا حلالا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يبعد ، وكذلك مقصد الكلام لا يعطي أن يكون (حَلالاً) مفعولا ب (كُلُوا) وتأمل ، و (طَيِّباً) نعت ، ويصح أن يكون (طَيِّباً) حالا من الضمير في (كُلُوا) تقديره مستطيبين ، والطيب عند مالك : الحلال ، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ ، وهو عند الشافعي : المستلذ ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث ، و (خُطُواتِ) جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي ، فالمعنى النهي عن اتباع الشيطان وسلوك سبله وطرائقه ، قال ابن عباس : خطواته أعماله ، قال غيره : آثاره ، قال مجاهد : خطاياه ، قال أبو مجلز : هي النذور والمعاصي ، قال الحسن : نزلت فيما سنوه من البحيرة والسائبة ونحوه ، قال النقاش : نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب.

وقرأ ابن عامر والكسائي «خطوات» بضم الخاء والطاء ، ورويت عن عاصم وابن كثير بخلاف ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، فإما أرادوا ضم الخاء والطاء وخففوها إذ هو الباب في جمع فعلة كغرفة وغرفات ، وإما أنهم تركوها في الجمع على سكونها في المفرد ، وقرأ أبو السمال «خطوات» بفتح الخاء والطاء وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعمش وسلام «خطؤات» بضم الخاء والطاء وهمزة على الواو ، وذهب بهذه القراءة إلى أنها جمع خطأة من الخطأ لا من الخطو. وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان ، و (عَدُوٌّ) يقع للمفرد والتثنية والجمع.

وقوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) الآية ، (إِنَّما) تصلح للحصر ، وقد تجيء غير حاصرة بل للمبالغة كقولك «إنما الشجاع عنترة» ، كأنك تحاول الحصر أو توهمه ، فإنما يعرف معنى (إِنَّما) بقرينة الكلام الذي هي فيه ، فهي في هذه الآية حاصرة ، وأمر الشيطان إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور ، وإما بوسوسته ، فإذا أطيع نفذ أمره.

و «السوء» مصدر من ساء يسوء فهي المعاصي وما تسوء عاقبته ، و (الْفَحْشاءِ) قال السدي : هي الزنا ، وقيل : كل ما بلغ حدا من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ ، وقيل : ما تفاحش ذكره ، وأصل الفحش قبح المنظر كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل

ثم استعملت اللفظة فيما يستقبح من المعاني ، والشرع هو الذي يحسن ويقبح ، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء ، و (ما لا تَعْلَمُونَ) : قال الطبري : يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها وجعلوه شرعا.


وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) يعني كفار العرب ، وقال ابن عباس : نزلت في اليهود ، وقال الطبري : الضمير في (لَهُمُ) عائد على الناس من قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا) ، وقيل : هو عائد على (مِنَ) في قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) [البقرة : ١٦٥] ، و (اتَّبِعُوا) معناه بالعمل والقبول ، و (ما أَنْزَلَ اللهُ) هو القرآن والشرع ، و (أَلْفَيْنا) معناه وجدنا ، قال الشاعر: [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

والألف في قوله (أَوَلَوْ) للاستفهام ، والواو لعطف جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم.

وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد.

وقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول ، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه.

قال القاضي أبو محمد : فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض ، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز.

والنعيق زجر الغنم والصياح بها ، قال الأخطل : [الكامل]

انعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا

وقال قوم : إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان ، فهي تحمق راعيها ، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين ، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله» ، وقال الشاعر : [البسيط]

أصبحت هزءا لراعي الضّأن يهزأ بي

ماذا يريبك منّي راعي الضّأن

فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحا يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه ، وقال ابن زيد : المعنى في الآية : ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئا إلا دويا غير مفيد ، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال ، ووجه الطبري في الآية معنى آخر ، وهو أن المراد : ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه ، فإنما شبه في هذين التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به ، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

أصم عمّا ساءه ، سميع

ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم (لا يَعْقِلُونَ) إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره : علوم


ضرورية تعطيها هذه الحواس ، أو لا بد في كسبها من الحواس ، وتأمل.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤)

الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ ، والآية تشير بتبعيض (مِنْ) إلى الحرام رزق ، وحض تعالى على الشكر والمعنى في كل حالة ، و (إِنْ) شرط ، والمراد بهذا الشرط التثبيت وهز النفس ، كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا.

وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ إِنَّما) هنا حاصرة ، و (الْمَيْتَةَ) نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة» بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت» و «ميت» لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميت» بالتخفيف.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر : [الخفيف]

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر : [الوافر]

إذا ما مات ميت من تميم

فسرّك أن يعيش فجىء بزاد

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتة» بالرفع على أن تكون (ما) بمعنى الذي و (إِنَ) عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حرّم» على ما لم يسمّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت (ما) كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر.

ولفظ (الْمَيْتَةَ) عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم ، و (الْمَيْتَةَ) : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه كقطع الرؤوس


والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل.

و (الدَّمَ) يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه ، وفي خنزير الماء كراهية ، أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيرا. وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية.

و (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و (أُهِلَ) معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أهلّ به لغير الله فتركها الناس ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فذبحت جزورا ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة.

واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ) الآية ، ضمت النون للالتقاء اتباعا للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال (فَمَنِ اضْطُرَّ) بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء إلى الطاء ، وقرأ ابن محيصن «فمن اطّر» بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى (اضْطُرَّ) : ضمه عدم وغرث ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات ، و (غَيْرَ باغٍ) في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي (غَيْرَ باغٍ) أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، (وَلا عادٍ) أي متزود ، وقال مالك رحمه‌الله : «يأكل المضطر شبعه» ، وفي الموطأ ـ وهو لكثير من العلماء : أنه يترود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في (عادٍ) أن معناه عايد ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسرة على


الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزا ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل.

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْكِتابِ) : التوراة والإنجيل ، والضمير في (بِهِ) عائد على (الْكِتابِ) ، ويحتمل أن يعود على (ما) وهو جزء من الكتاب ، فيه أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب ، ويحتمل أن يعود على الكتمان ، والثمن القليل : الدنيا والمكاسب ، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك لسبب دنيا يصيبها.

وذكرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالة على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطن أيضا تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم ، وقال الربيع وغيره : سمي مأكولهم نارا لأنه يؤول بهم إلى النار ، وقيل : معنى الآية : أن الله تعالى يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، وقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) قيل : هي عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضى عنهم ، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين ، كقوله (اخْسَؤُا فِيها) [المؤمنون : ١٠٨] ، ونحوه ، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك : «فلان لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه» وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه ، وقال الطبري وغيره : المعنى ولا يكلمهم بما يحبون ، وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ، (وَلا يُزَكِّيهِمْ) معناه : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء ، و (أَلِيمٌ) اسم فاعل بمعنى مؤلم.

قوله عزوجل :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا


عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧)

لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ولازموا الضلالة وتكسبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر كان ذلك كبيع وشراء ، وقد تقدم إيعاب هذا المعنى ، ولما كان العذاب تابعا للضلالة التي اشتروها وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه أدخلا في تجوز الشراء.

وقوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ، قال جمهور المفسرين : «ما» تعجب ، وهو في حيز المخاطبين ، أي هم أهل أن تعجبوا منهم ، ومما يطول مكثهم في النار ، وفي التنزيل : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] ، و (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : ٣٨] ، وبهذا المعنى صدر أبو علي ، وقال قتادة والحسن وابن جبير والربيع : أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها ، وتقديره : ما أجرأهم على النار إذ يعملون عملا يودي إليها ، وقيل : «ما» استفهام معناه أي شيء أصبرهم على النار ، ذهب إلى ذلك معمر بن المثنى ، والأول أظهر ، ومعنى (أَصْبَرَهُمْ) في اللغة أمرهم بالصبر ، ومعناه أيضا جعلهم ذوي صبر ، وكلا المعنيين متجه في الآية على القول بالاستفهام ، وذهب المبرد في باب التعجب من المقتضب إلى أن هذه الآية تقرير واستفهام لا تعجب ، وأن لفظة «أصبر» بمعنى اضطر وحبس ، كما تقول أصبرت زيدا على القتل ، ومنه نهي النبي عليه‌السلام أن يصبر الروح ، قال : ومثله قول الشاعر : [السريع]

قلت لها أصبرها دائبا

أمثال بسطام بن قيس قليل

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : الضبط عند المبرد بضم الهمزة وكسر الباء ، ورد عليه في ذلك كله بأنه لا يعرف في اللغة أصبر بمعنى صبر وإنما البيت أصبرها بفتح الهمزة وضم الباء ماضيه صبر ، ومنه المصبورة ، وإنما يرد قول أبي العباس على معنى اجعلها ذات صبر.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآية ، المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به ، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم ، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك ، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك ، ويكون (الْكِتابَ) جملة القرآن على هذه التقديرات : وقيل : إن الإشارة ب (الْكِتابَ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] ، أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر به ، والإشارة بذلك على هذا إلى اشترائهم الضلالة بالهدى ، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به ، و «الحق» معناه بالواجب ، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق : أي الصادقة.

و (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) ، قال السدي : «هم اليهود والنصارى لأن هؤلاء في شق وهؤلاء في شق».

قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن الشقاق سميت به المشارّة والمقاتلة ونحوه ، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقّه ، وقيل : إن المراد ب (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) كفار العرب لقول بعضهم هو سحر ، وبعضهم هو أساطير ، وبعضهم هو مفترى ، إلى غير ذلك ، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله ، و (بَعِيدٍ) هنا معناه من الحق والاستقامة.


وقوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ) الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرّ» اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن (لَيْسَ) حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرّ» بنصب الراء ، جعل (أَنْ تُوَلُّوا) بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسما يخبر عنه ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ليس البرّ بأن تولوا ، وقال الأعمش : إن في مصحف عبد الله : لا تحسبن البر ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، فقيل لهم ليس البر ما أنتم فيه ولكن البر من آمن بالله. قرأ قوم «ولكنّ البرّ» بشد النون ونصب البر ، وقرأ الجمهور «ولكن البر» والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : (الْبِرَّ) بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى.

والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.

وقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر ، وقيل هي الزكاة ، و (آتَى) معناه أعطى ، والضمير في (حُبِّهِ) عائد على (الْمالَ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله (عَلى حُبِّهِ) اعتراضا بليغا أثناء القول ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، وفإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود الضمير على اسم الله تعالى من قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في (آتَى) أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل ، و (ذَوِي الْقُرْبى) يراد به قرابة النسب.

واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : (ابْنَ السَّبِيلِ) المسافر لملازمته السبيل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : (ابْنَ السَّبِيلِ) الضيف ، والأول أعم ، و (فِي الرِّقابِ) : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ، و (أَقامَ الصَّلاةَ) أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس


بالزكاة المفروضة ، و (الْمُوفُونَ) عطف على (مَنْ) في قوله : (مَنْ آمَنَ) ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و (الصَّابِرِينَ) نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين» على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن (وَالْمُوفُونَ) «والصابرون» ، وقرأ الجحدري بعهودهم ، و (الْبَأْساءِ) الفقر والفاقة ، و (الضَّرَّاءِ) المرض ومصائب البدن ، و (حِينَ الْبَأْسِ) وقت شدة القتال.

هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع.

ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق ، وتحتمل اللفظة أيضا صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

(كُتِبَ) معناه فرض وأثبت ، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرا ، وقيل إن (كُتِبَ) في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله ، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود ، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء ، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح ، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح ، و (الْقِصاصُ) مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، و (الْقَتْلى) جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرها فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى.

واختلف في سبب هذه الآية ، فقال الشعبي : إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا ، وإذا قتلت امرأة قتلوا بها ذكرا ، فنزلت الآية في ذلك ليعلم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية ، وحكي أن قوما من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم : نقتل بعبيدنا أحرارا ، فنزلت الآية ،


وقيل : نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار ، وقيل : من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالا وعبيدا ونساء ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس.

قال القاضي أبو محمد : هكذا روي ، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل ، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم ، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة ، وأن قوله هنا (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) يعم الرجال والنساء ، وقاله مجاهد.

وقال مالك رحمه‌الله : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء ، وأعيد ذكر (الْأُنْثى) تأكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا ، وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة ، وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن ، وقد أنكر ذلك عنهما أيضا ، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات ، قال مالك والشافعي : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس ، وقال أبو حنيفة : لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف : يقتل الحر بالعبد ، وقال مالك رحمه‌الله وجمهور من العلماء : لا يقتل الحر بالعبد ، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس ، فالنفس مقيسة على ذلك ، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد ، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولا واحدا في مذهب مالك ، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل وتغلظ الدية.

وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فيه أربع تأويلات :

أحدها أن (مِنْ) يراد بها القاتل و (عُفِيَ) يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول ، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل ، وهي أخوة الإسلام ، و (شَيْءٌ) هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء ، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على (مِنْ) في كل تأويل.


والتأويل الثاني وهو قول مالك : ان (مِنْ) يراد بها الولي ، و (عُفِيَ) بمعنى يسر لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، و (شَيْءٌ) هي الدية ، والأخوة على هذا أخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه ، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام ، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه‌الله : إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر ، وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه ، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.

والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا ، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون (عُفِيَ) بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.

والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، و (عُفِيَ) في هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل ، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت ، و (شَيْءٌ) في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله ، وجاز ذلك و (عُفِيَ) لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر (شَيْءٌ) تقدير المصدر ، كأن الكلام : عفي له من أخيه عفو ، و (شَيْءٌ) اسم عام لهذا وغيره ، أو من حيث تقدر (عُفِيَ) بمعنى ترك فتعمل عملها ، والأول أجود ، وله نظائر في كتاب الله ، منها قوله تعالى : (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) [هود : ٥٧] ، قال الأخفش : التقدير لا تضرونه ضرا ، ومن ذلك قول أبي خراش : [الطويل]

فعاديت شيئا والدّريس كأنّما

يزعزعه ورد من الموم مردم

وقوله تعالى : (فَاتِّباعٌ) رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع ، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٢٩] ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] ، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي ، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.

وقوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية ، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط ، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه : فقال فريق من العلماء منهم مالك : هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل ، وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) نحوه قول العرب في مثل : القتل أوقى للقتل ، ويروى :


أبقى ، بباء وقاف ، ويروى أنفى بنون وفاء ، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا ، وهذا الترتيب مما سبق لهما في الأزل ، وأيضا فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة ، وخص (أُولِي الْأَلْبابِ) بالذكر تنبيها عليهم ، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي ، وغيرهم تبع لهم ، و (تَتَّقُونَ) معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص» أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه ، ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص ، أي إنه قص أثر القاتل قصصا فقتل كما قتل.

وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) الآية ، كأن الآية متصلة بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فلذلك سقطت واو العطف ، و (كُتِبَ) معناه فرض وأثبت ، وقال بعض أهل العلم : الوصية فرض ، وقال قوم : كانت فرضا ونسخت ، وقال فريق : هي مندوب إليها ، و (كُتِبَ) عامل في رفع (الْوَصِيَّةُ) على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات ، وسقطت علامة التأنيث من (كُتِبَ) لطول الكلام فحسن سقوطها ، وقد حكى سيبوية : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل (الْوَصِيَّةُ) في (إِذا) لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو (الْوَصِيَّةُ) ، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة ، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون (كُتِبَ) هو العامل في (إِذا) والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب ب (كُتِبَ) لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، و (الْوَصِيَّةُ) مفعول لم يسم فاعله ب (كُتِبَ) وجواب الشرطين (إِذا) و (إِنْ) مقدّر ، يدل عليه ما تقدم من قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا ، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير : كتب عليكم الإيصاء ، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في (إِذا) ، وترتفع (الْوَصِيَّةُ) بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه : [البسيط]

من يفعل الصّالحات الله يحفظها

أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير : فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قيل : فالوصية للوالدين ، ويتجه في إعرابها أن تكون (الْوَصِيَّةُ) مرتفعة ب (كُتِبَ) على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وتكون (الْوَصِيَّةُ) هي العامل في (إِذا) ، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية ، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول ، وذلك كالألف واللام حيث توصل ، أو كالمصدر ، وهذا في الآية مصدر وهو (الْوَصِيَّةُ) ، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفا فإن في الظرف يسهل الاتساع ، و (إِذا) ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر : [الطويل]

تقول وصكّت وجهها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس


فإنه يرى أن «بالرحا» متعلق بقوله المتقاعس ، كأنه قال : أبعلي هذا المتقاعس بالرحا ، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول ، وفي قوله تعالى (إِذا حَضَرَ) مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته ، والخير في هذه الآية المال.

واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه ، فقال الزهري وغيره : تجب فيما قل وفيما كثر ، وقال النخعي : تجب في خمسمائة درهم فصاعدا ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة : في ألف فصاعدا.

واختلف العلماء في هذه الآية ، فقال فريق : محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الوارثة ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض ، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون ، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة ، لهذا الحديث المتواتر : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».

وقال ابن عمر وابن عباس أيضا وابن زيد : الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا ، ونحو هذا قول مالك رحمه‌الله ، وقال الربيع بن خثيم وغيره : لا وصية لوارث ، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم : أوص لي بمصحفك ، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأحزاب : ٦] ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.

وقال بعض أهل العلم : إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل ، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].

وقال قوم من العلماء : الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.

وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.

وقال الشعبي : «لم يكن ذلك له ولا كرامة».

وقال طاوس : «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله» وقاله جابر بن زيد.

وقال الحسن وجابر بن زيد أيضا وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها ويرد ثلثاها إلى قرابته.

وقال مالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء : الوصية ماضية حيث جعلها الميت ، والأقربون : جمع أقرب ، و (بِالْمَعْرُوفِ) معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية ، و (حَقًّا) مصدر مؤكد ، وخص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبادر الناس إليها.

قوله عزوجل :

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً


أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤)

الضمير في (بَدَّلَهُ) عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في (سَمِعَهُ) ، ويحتمل أن يعود الذي في (سَمِعَهُ) على أمر الله تعالى في هذه الآية ، والقول الأول أسبق للناظر ، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالما بالنهي عامدا لخلافه ، والضمير في (إِثْمُهُ) عائد على التبديل ، و (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «من موصّ» بفتح الواو وتشديد الصاد ، وقرأ الباقون بسكون الواو ، والجنف الميل ، وقال الأعشى : [الطويل]

تجانف عن حجر اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [الوافر]

هم المولى وقد جنفوا علينا

وإنّا من عدواتهم لزور

ومعنى الآية على ما قال مجاهد : من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى : من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية (رَحِيمٌ) به.

وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع : معنى الآية : من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، لكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «فلإثم عليه» بحذف الألف ، و (كُتِبَ) : معناه فرض.

والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، ومنه قول النابغة : [البسيط]

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما

أي خيل ثابتة ممسكة ، ومنه قول الله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] أي إمساكا عن الكلام ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها

أي في موضع ثبوتها وامتساكها ، ومنه قوله : [الطويل]


فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة

ذمول إذا صام النّهار وهجّرا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت ، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك ، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق ، والكاف من قوله (كَما) في موضع نصب على النعت ، تقديره كتبا كما ، أو صوما كما ، أو على الحال كأن الكلام : كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب على الذين من قبلكم.

وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته ب (كَما) إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول.

واختلف المتأولون في موضع التشبيه ، فقال الشعبي وغيره : المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى ، قال : «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي».

قال النقاش : «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي» ، وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.

وقال السدي والربيع : التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولا ، وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك.

وقال عطاء : «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر ـ قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي بعض الطرق : ويوم عاشوراء ـ كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان».

وقالت فرقة : التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق ، أي قد تقدم في شرع غيركم ، ف (الَّذِينَ) عام في النصارى وغيرهم ، و (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حقهم ، و (تَتَّقُونَ) قال السدي : معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك ، وقيل : تتقون على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه‌السلام : «جنة» ووجاء وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات.

و (أَيَّاماً) مفعول ثان ب (كُتِبَ) ، قاله الفراء ، وقيل : هي نصب على الظرف ، وقيل : نصبها ب (الصِّيامُ) ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من (كَما) على قول من قدر : صوما كما ، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره ، وذلك إذا كان العامل في الكاف (كُتِبَ) ، وجوز بعضهم أن يكون (أَيَّاماً) ظرفا يعمل فيه (الصِّيامُ) ، و (مَعْدُوداتٍ) ، قيل : رمضان ، وقيل : الثلاثة الأيام.


وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، التقدير : فأفطر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب.

واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر : فقال قوم : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياسا على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة ، وقاله ابن سيرين.

وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر ، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه‌الله ، وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.

وقال الحسن : «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر».

وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر ، وهذا قول الشافعي رحمه‌الله.

واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه : الصوم أفضل لمن قوي ، وجل مذهب مالك التخيير.

وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما : الفطر أفضل.

وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما ، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.

وقال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر ، وهو مذهب عمر رضي الله عنه ، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه. وتقصير الصلاة حسن ، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام ، والصواب المبادرة بالأعمال. وقال ابن عباس رضي الله عنه : «الفطر في السفر عزمة» ، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، ونغدو إلى جوع ، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح ، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة ، واختلف في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلا ، وروي عنه: يومان ، وروي عنه في العتبية : خمسة وأربعون ميلا ، وفي المبسوط : أربعون ميلا ، وفي المذهب : ستة وثلاثون ميلا ، وفيه : ثلاثون.

وقال ابن عمر وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، وفي غير المذهب : يقصر في ثلاثة أميال فصاعدا.

وقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ) مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح أن يرتفع


على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له ، ويصح فعليه عدة ، واختلف في وجوب تتابعها على قولين ، و (أُخَرَ) لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة ، وجاء في الآية (أُخَرَ) ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة ، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] ، إلى غير ذلك.

وقرأ جمهور الناس «يطيقونه» بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه» نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد «يطوقونه» وذلك على الأصل ، والقياس الإعلال.

وقرأ ابن عباس «يطوقونه» بمعنى يكلفونه.

وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يطوقونه» بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة.

وقرأت فرقة «يطيّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وشد الياء المفتوحة.

وقرأ ابن عباس «يطيّقونه» بفتح الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه ، وحكاها النقاش عن عكرمة ، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف.

وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فدية طعام مساكين» بإضافة الفدية.

وقرأ هاشم عن ابن عامر «فدية طعام مساكين» بتنوين الفدية.

وقرأ الباقون «فدية» بالتنوين «طعام مسكين» بالإفراد ، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم ، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية.

قال أبو علي : «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكينا ، ونظير هذا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون.

واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب : كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥].

وقالت فرقة : و (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي على الشيوخ والعجّز ، الذين يطيقون ، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر ، وهي محكمة عند قائلي هذا القول. وعلى هذا التأويل تجيء قراءة يطوقونه و «يطوقونه».

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم».


وقال السدي : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشّيخ فلا يستطيعون الصوم» ، وهي عنده محكمة ، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا ، ونحوه عن ابن عباس.

وقال مالك : «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، وتستحب لمن قدر عليها» ، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.

وقال الشافعي وأبو حنيفة : على الشيخ العاجز الإطعام.

وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يطّيّقونه» فأفطر ، ومذهب مالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين.

وقال قوم : قوت يوم ، وقال قوم : عشاء وسحور.

وقال سفيان الثوري : نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب ، والضمير في (يُطِيقُونَهُ) عائد على (الصِّيامُ) ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف.

واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس : تفدي وتفطر ولا قضاء عليها.

وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك : تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها.

وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد : تقضي وتفدي إذا أفطرت ، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي ، هذا هو المشهور عنه ، وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) الآية ، قال ابن عباس وطاوس وعطاء والسدي : المراد من أطعم مسكينين فصاعدا.

وقال ابن شهاب : «من زاد الإطعام على الصوم» وقال مجاهد : «من زاد في الإطعام على المد» ، و (خَيْرٌ) الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث ، و (خَيْرٌ) الأول قد نزل منزلة مالا أو نفعا ، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم» بدل (وَأَنْ تَصُومُوا).

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا.

قوله عزوجل :

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى


ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦)

الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده ، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر ، وكان اسمه قبل ذلك ناثرا ، كما سمي ربيع من مدة الربيع ، وجمادى من مدة الجمود ، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال (شَهْرُ رَمَضانَ) كما قال الله تعالى ، وقال : لعل رمضان اسم من أسماء الله عزوجل.

وقرأ جمهور الناس «شهر» بالرفع ، ووجهه خبر ابتداء أي ذلكم شهر ، وقيل : بدل من الصيام ، [البقرة : ١٨٣] وقيل : على الابتداء وخبره (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، وقيل : ابتداء وخبره (فَمَنْ شَهِدَ) ، و (الَّذِي أُنْزِلَ) نعت له ، فمن قال إن (الصِّيامُ) في قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء ، ومن قال : إن (الصِّيامُ) هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام ، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب «شهر» بالنصب ، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو ، وهي على الإغراء ، وقيل : نصب ب (تَصُومُوا) [البقرة : ١٨٤] وقيل : نصب على الظرف ، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.

واختلف في إنزال القرآن فيه : فقال الضحاك : أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه ، وقيل : بدىء بنزوله فيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس فيما يؤثر : أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر والنواهي والأسباب ، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين».

وترك ابن كثير همزة (الْقُرْآنُ) مع التعريف والتنكير حيث وقع ، وقد قيل : إن اشتقاقه على هذه القراءة من قرن ، وذلك ضعيف ، و (هُدىً) في موضع نصب على الحال من (الْقُرْآنُ) ، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله ، فالألف واللام في (الْهُدى) للعهد والمراد الأول ، و (الْفُرْقانِ) المفرق بين الحق والباطل ، و (شَهِدَ) بمعنى حضر ، و (الشَّهْرَ) نصب على الظرف ، والتقدير : من حضر المصر في الشهر ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة «فليصمه» بتحريك اللام ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر ، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني : من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ، وقال جمهور الأمة : من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه ، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم


يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام ، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه ، ونصب (الشَّهْرَ) على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب (شَهِدَ) ، وقوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) بمنزلة أو مسافرا فلذلك عطف على اسم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر «اليسر» و «العسر» بضم السين ، والجمهور : بسكونه ، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم : اليسر الفطر في السفر و (الْعُسْرَ) الصوم في السفر ، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين ، وقد فسر ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دين الله يسر».

وقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو في بعض ما روي عنه «ولتكمّلوا» بتشديد الميم ، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة ، وهذه اللام متعلقة إما ب (يُرِيدُ) فهي اللام الداخلة على المفعول ، كالذي في قولك ضربت لزيد ، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن ، كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا ، هذا قول البصريين ، ونحوه قول قيس كثير بن صخر : [الطويل]

أريد لأنسى ذكرها

وإما بفعل مضمر بعد ، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، وهذا قول بعض الكوفيين ، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.

وقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) حض على التكبير في آخر رمضان ، واختلف الناس في حده ، فقال ابن عباس : «يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره» ، وقال قوم : يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة ، وقال سفيان : «هو التكبير يوم الفطر» ، وقال مالك : «هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام» ، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء : «الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر» ، ثلاثا ، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : «الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا». وقد قيل غير هذا ، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.

و (هَداكُمْ) ، وقيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم ، وتعميم الهدى جيد ، و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ترجّ في حق البشر ، أي على نعمة الله في الهدى.

وقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) الآية ، قال الحسن بن أبي الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت ، وقال عطاء : لما نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قال قوم في أي ساعة ندعو؟ فنزلت (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ، وقال مجاهد : بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية ، وقال قتادة بل قالوا : كيف ندعو؟ فنزلت (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي) ، روي أن المشركين قالوا لما نزل (فَإِنِّي قَرِيبٌ) : كيف يكون قريبا وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أي فإني قريب بالإجابة والقدرة ، وقال قوم : المعنى أجيب إن شئت ، وقال قوم :


إن الله تعالى يجيب كل الدعاء : فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة ، وهذا بحسب حديث الموطأ : «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث» ، الحديث ، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء ، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع ، قال الله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف : ٥٥] قال المفسرون : أي في الدعاء.

والوصف بمجاب الدعوة : وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء ، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور. وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم ، الحديث ، فمنعها ، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك.

وقوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) قال أبو رجاء الخراساني : «معناه فليدعوا لي».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل ، أي طلب الشيء ، إلا ما شذ ، مثل. استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي بالطاعة والعمل ، ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه ، وقوله تعالى : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ، قال أبو رجاء : في أني أجيب دعاءهم ، وقال غيره : بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته. وقرأ الجمهور (يَرْشُدُونَ) بفتح الياء وضم الشين. وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين. وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القراءة والتي قبلها.

قوله عزوجل :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧)

لفظة (أُحِلَ) تقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ، و (لَيْلَةَ) نصب على الظرف ، وهي اسم جنس فلذلك أفردت ، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [الوافر]

هم المولى وقد جنفوا علينا

وإنّا من عداوتهم لزور

و (الرَّفَثُ) كناية عن الجماع ، لأن الله تعالى كريم يكني ، قاله ابن عباس والسدي ، وقرأ ابن


مسعود «الرفوث» ، و (الرَّفَثُ) في غير هذا ما فحش من القول ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

عن اللّغا ورفث التّكلّم.

وقال أبو إسحاق : «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أو كلام في هذه المعاني ، ومنه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه».

وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم ، أو بعد صلاة العشاء ، على الخلاف ، منهم عمر بن الخطاب ، جاء إلى امرأته فأرادها ، فقالت له : قد نمت ، فظن أنها تعتل ، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت ، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا ، وقال السدي : جرى له هذا في جارية له ، قالوا : فذهب عمر فاعتذر عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري ، فنزل صدر الآية فيهم ، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم ، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه ، وروي أن صرمة بن قيس ، ويقال صرمة بن مالك ، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة ، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل ، فنزل فيه من قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك ، كما قال النابغة الجعدي : [المتقارب]

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تداعت فكانت عليه لباسا

وقال النابغة أيضا : [المتقارب]

لبست أناسا فأفنيتهم

وأفنيت بعد أناس أناسا

فشبه خلطته لهم باللباس ، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره ، وقال مجاهد والسدي :

(لِباسٌ) : سكن ، أي يسكن بعضهم إلى بعض ، وإنما سميت هذه الأفعال اختيانا لعاقبة المعصية وجزائها ، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها ، و (فَتابَ عَلَيْكُمْ) معناه من المعصية التي واقعتموها ، و (عَفا عَنْكُمْ) يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيدا ، وتأنيسا بزيادة على التوبة ، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف ، بمعنى تركه لكم ، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك.

قال ابن عباس وغيره : (بَاشِرُوهُنَ) كناية عن الجماع ، مأخوذ من البشرة ، وقد ذكرنا لفظة «الآن» في ماضي قصة البقرة. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه ابتغوا الولد.

وروي أيضا عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى ابتغوا الرخصة


والتوسعة ، قاله قتادة ، وهو قول حسن ، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا» من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح (ابْتَغُوا) من الابتغاء.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) نزلت بسبب صرمة بن قيس ، و (حَتَّى) غاية للتبين ، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، و (الْخَيْطُ) استعارة وتشبيه لرقة البياض أولا ورقة السواد الحاف به ، ومن ذلك قول أبي داود :

فلمّا بصرن به غدوة

ولاح من الفجر خيط أنارا

ويروى فنارا ، وقال بعض المفسرين : (الْخَيْطُ) اللون ، وهذا لا يطرد لغة ، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل ، وهو نص قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور ، و (مِنَ) الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، و (الْفَجْرِ) مأخوذ من تفجر الماء ، لأنه يتفجر شيئا بعد شيء ، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله (مِنَ الْفَجْرِ) فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود ، فنزل قوله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام.

قال القاضي أبو محمد : من رمضان إلى رمضان ، تأخر البيان إلى وقت الحاجة ، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «إن وسادك لعريض» ، وروي أنه قال له : «إنك لعريض القفا» ، ولهذه الألفاظ تأويلان ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك : فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح : ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة ، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب ، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال ، وذكر عن حذيفة أنه قال : «تسحرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو النهار ، إلا أنّ الشمس لم تطلع» ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود».

قال الطبري : «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها ، فكذلك أوله طلوعها».

وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر ، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] ، قال القاضي أبو محمد : والقول في نفسه صحيح ، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [البقرة : ١٦٤ ، آل عمران : ١٩٠ ، الجاثية : ٥] ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر ، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء.


وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أمر يقتضي الوجوب ، و (إِلى) غاية ، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته ، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد (إِلى) ، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله (إِلَى اللَّيْلِ) يقتضي النهي عن الوصال ، وقد واصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهى الناس عن الوصال ، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم ، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم ، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس ، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة.

وفي ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياسا على الشك في الفجر ، وهو قول جماعة من العلماء.

وقال إسحاق والحسن : لا قضاء عليه كالناسي.

وقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ، قالت فرقة : المعنى لا تجامعوهن.

وقال الجمهور : ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء ، و (عاكِفُونَ) ملازمون ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه ، قال الراجز : [الرجز]

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال الشاعر : [الطويل]

وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا

عكوف البواكي بينهنّ صريع

وقال أبو عمرو وأبو حاتم : قرأ قتادة «عكفون» بغير ألف ، والاعتكاف سنة ، وقرأ الأعمش «في المسجد» بالإفراد ، وقال : «وهو المسجد الحرام».

قال مالك رحمه‌الله وجماعة معه : لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات ، وروي عن مالك أيضا أن ذلك في كل مسجد ، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله.

وقال قوم : لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك.

وقالت فرقة لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.

وقال مالك : «لا يعتكف أقل من يوم وليلة ، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر».

وقال سحنون : «من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء».

وقالت طائفة : أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر.

وقال مالك : «لا اعتكاف إلا بصوم».

وقال غيره : يعتكف بغير صوم ، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد.

و (تِلْكَ) إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز بين الإباحة والحظر ، ومنه قيل


للبواب حداد لأنه يمنع ، ومنه الجاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق ، و (لَعَلَّهُمْ) ترّج في حقهم ، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.

قوله عزوجل :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠)

الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهيا عنه ، وكما قال (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك ، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبه.

وقال قوم : المراد بالآية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة ، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.

وقوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِها) الآية ، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء.

قال قوم : معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم ، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة ، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله ، فالباء في (بِها) باء السبب ، وقيل : معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد ، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضا فإن اللفظتين متناسبتان ، (تُدْلُوا) من أرسل الدلو والرشوة من الرشا ، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة ، و (تُدْلُوا) في موضع جزم عطفا على (تَأْكُلُوا) ، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا» بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم (تُدْلُوا) في قراءة الجماعة ، وقيل : (تُدْلُوا) في موضع نصب على الظرف ، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن» مضمرة ، والفريق : القطعة والجزء ، و (بِالْإِثْمِ) معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله ، و (أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إنكم مبطلون آثمون ، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة.


وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟ ، وجمع (الْأَهِلَّةِ) وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا في شهر غير كونه هلالا في الآخر ، فإنما جمع أحواله من الهلالية ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر ، وقيل ثلاث.

وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع.

وقوله : (مَواقِيتُ) معناه لمحل الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد ، ومواقيت الحج أيضا يعرف بها وقته وأشهره ، و (مَواقِيتُ) لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحج» بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت» في آل عمران.

قال سيبوية : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم.

وقوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) الآية ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحا يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه.

وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز».

وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابا ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية.

وروى الربيع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية.

وقال أبو عبيدة : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه.

وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب».

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدّ ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري


من أن الآية مثل في جماع النساء فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البيوت» بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنّ البرّ» بتشديد نون «لكنّ» ونصب «البرّ» ، وقد تقدم القول على (مَنْ) في قوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ، (وَاتَّقُوا) معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.

قال ابن زيد والربيع : معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم ، ولا تعتدوا في قتال من لم يقاتلوكم ، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة ، وبقوله : (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦].

وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد : معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم ، فهي محكمة على هذا القول ، وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر.

قوله عزوجل :

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤)

قال ابن إسحاق وغيره : نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد ، وهي سرية عبد الله بن جحش ، و (ثَقِفْتُمُوهُمْ) معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم ، يقال رجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور ، (وَأَخْرِجُوهُمْ).

قال الطبري : «الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : بل الخطاب لجميع المؤمنين ، ويقال (أَخْرَجُوكُمْ) إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدرا وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرون ، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل.

قال مجاهد : «أي من أن يقتل المؤمن ، فالقتل أخف عليه من الفتنة».

قال غيره : بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم ، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.


وقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية ، قال الجمهور : كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع.

قال الربيع : نسخه (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

وقال قتادة : نسخه قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

وقال مجاهد : «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل».

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم» بالقتل في الأربعة ، ولا خلاف في الأخيرة أنها (فَاقْتُلُوهُمْ) ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون ، وذلك كقوله تعالى : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا) [آل عمران : ١٤٦] أي فما وهن الباقون ، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام ، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة ، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) ، والأول أظهر ، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار ، دليل ذلك قوله (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، والفتنة هنا : الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي ، و (الدِّينُ) هنا الطاعة والشرع. وقال الأعشى ميمون بن قيس : [الخفيف]

هو دان الرباب إذ كرهوا الذي

ن دراكا بغزوة وصيال

والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام ، ويصح أن يكون أداء الجزية ، وسمى ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع ، والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال ، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة.

وقوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية ، وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية سنة ست ، فصده كفار قريش عن البيت ، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم ، فدخله سنة سبع ، فنزلت الآية في ذلك ، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه ، ومعنى (الْحُرُماتُ قِصاصٌ) على هذا التأويل : أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد والشهر والقطان حين دخلتم.

وقال الحسن بن أبي الحسن : نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع


فيه ، فنزلت : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين ، فأية سلكوا فاسلكوا ، و (الْحُرُماتُ) على هذا جمع حرمة عموما : النفس والمال والعرض وغير ذلك ، فأباح الله بالآية مدافعتهم. والقول الأول أكثر.

وقالت فرقة : قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) مقطوع مما قبله ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال.

وقالت طائفة : ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي ذلك له ، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك.

وقالت طائفة منهم مالك : ليس ذلك له ، وأمور القصاص وقف على الحكام ، والأموال يتناولها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك».

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرمات» بسكون الراء.

وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية ، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم ، وسمي الجزاء على العدوان عدوانا كما قال (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] إلى غير ذلك ، (وَاتَّقُوا اللهَ) ، قيل : معناه في أن لا تعتدوا ، وقيل : في أن لا تزيدوا على المثل.

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزّ ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار».

وقال مجاهد : «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهي من التدريج في الأمر بالقتال».

قوله عزوجل :

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)

(سَبِيلِ اللهِ) هنا الجهاد ، واللفظ يتناول بعد جميع سبله.

وقال أبو عبيدة وقوم : الباء في قوله (بِأَيْدِيكُمْ) زائدة ، التقدير تلقوا أيديكم.

وقال الجمهور : ذلك ضرب مثل ، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده ، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : «والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز».


وقال قوم : التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما تقول لا تفسد حالك برأيك ، و «التهلكة» بضم اللام مصدر من هلك ، وقرأ الخليل (التَّهْلُكَةِ) بكسر اللام ، وهي تفعلة من «هلّك» بشد اللام.

وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه كان على القسطنطينية ، فحمل رجل على عسكر العدو ، فقال قوم ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم ، وأما هذا فهو الذي قال الله فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧].

وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة ، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفق.

وقال قوم : المعنى لا تقنطوا من التوبة.

وقال البراء بن عازب وعبيدة السلماني : الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة فينهمك بعد ذلك ، وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون عالة على الناس ، وقوله (وَأَحْسِنُوا) ، قيل : معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات ، وروي ذلك عن بعض الصحابة ، وقيل : المعنى وأحسنوا في الإنفاق في سبيل الله وفي الصدقات ، قاله زيد بن أسلم.

وقال عكرمة : المعنى وأحسنوا الظن بالله.

وقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما : إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين.

وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : (لِلَّهِ).

وقال قتادة والقاسم بن محمد : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص ، وهو قول مالك وجماعة من العلماء. وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة ، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل ، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أفضل الحج؟ فقال : العج والثج ، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع.

وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن ، وهذا على أن الإفراد أفضل.

وقالت فرقة : القرآن أفضل ، وذلك هو الإتمام عندهم.


وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم : إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء.

وفروض الحج : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي ، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافا لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة على قول ابن الماجشون ، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام ، وطواف ، وسعي.

واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه‌الله : هي سنة واجبة لا ينبغي أن تترك كالوتر ، وهي عندنا مرة واحدة في العام ، وهذا قول جمهور أصحابه ، وحكى ابن المنذر في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة ، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج ، وبأنها سنة.

قال ابن مسعود وجمهور من العلماء ، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين : أنها واجبة كالفرض ، وقاله ابن الجهم من المالكيين.

وقال مسروق : «الحج والعمرة فرض ، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة» ، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرة لله» برفع العمرة على القطع والابتداء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحج» بكسر الحاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله» ، وروي عنه : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» ، وروي غير هذا مما هو كالتفسير.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو.

وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك ، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو.

وقال الفراء : «هما بمعنى واحد في المرض والعدو».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض ، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر كأقبر وأحمى وغير ذلك ، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصرا لا حاصرا ، ألا ترى أن العدو كان محصرا في عام الحديبية ، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل ، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه.

وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالا ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام.

وقال ابن الماجشون : «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر».

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا وجه له.


وقال أشهب : «يهدي المحصر بعدو هديا من أجل الحصر».

وقال ابن القاسم : «لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي فأراد نحره» ، ذكره ابن أبي زيد.

وقال عطاء وغيره : المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو.

وقال مالك رحمه‌الله وجمهور من العلماء : المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، وإن أقام سنين ، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة ، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي ، وقيل : إن الهدي يجب في وقت الحصر أولا ، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلا في هذه الآية ، وقال : إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس ، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه ، قال : وإنما قال الله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية.

و «ما» في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا ، و (فَمَا اسْتَيْسَرَ) عند جمهور أهل العلم : شاة.

وقال ابن عمر وعروة بن الزبير «ما استيسر» جمل دون جمل وبقرة دون بقرة.

وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأخسّه شاة ، و (الْهَدْيِ) جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى ، ويحتمل أن يكون (الْهَدْيِ) مصدرا سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع.

وقال أبو عمرو بن العلاء : «لا أعرف لهذه اللفظة نظيرا».

وقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) الآية ، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، ومحل الهدي حيث يحل نحره ، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعدو حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله ، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله.

والترتيب أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة ، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم.

وقال قوم : لا حرج في الحج ولكن يهرق دما.

وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا : «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد ، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولا واحدا في المذهب».

قال ابن المواز عن مالك : ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي ، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه.

وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهديّ» بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية ، ورويت هذه القراءة عن عاصم.


وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) الآية ، المعنى فحلق لإزالة الأذى (فَفِدْيَةٌ) ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأسه يتناثر قملا ، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة ، و «فدية» رفع على خبر الابتداء ، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك : ثلاثة أيام ، والصدقة : ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنسك : شاة بإجماع ، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل.

وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة : الصيام عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين.

وقرأ الزهري «أو نسك» بسكون السين.

وقال سعيد بن جبير ومجاهد : النسك شاة ، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين ، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوما.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ذلك كله حيث شاء ، وفاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، فإنه قال : لا يكون النسك إلا بمكة.

وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي : النسك بمكة ، والصيام والإطعام حيث شاء.

وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضا ومجاهد والشافعي : النسك والإطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء ، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير.

وقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ، قال علقمة وعروة : المعنى إذا برأتم من مرضكم. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر ، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) الآية ، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم ، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه.

وقال ابن عباس وجماعة من العلماء : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله ، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط : أن يكون معتمرا في أشهر الحج ، وهو من غير حاضري المسجد الحرام ، ويحل وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعدا. هذا قول مالك وأصحابه ، واختلف لم سمي متمتعا ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج ، وقال غيره : سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن


حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفرا ، والمكي لا يقتضي حاله سفرا في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئا لأنه لم يسقط شيئا ، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) المكي وغيره على السواء في القياس ، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هديا ، ولا يفعل ذلك بالمكي ، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين ، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له : إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له ، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرما وقرن الرخصة بالهدي.

قال القاضي أبو محمد : فهذه شدة على أهل مكة ، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم ، لكنه قول شاذ لا يعول عليه ، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه ، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه ، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال : إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم ، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا ثم يحرم بعمرة.

قال القاضي أبو محمد : فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج ، وقال السدي : المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة ، وذلك لا يجوز عند مالك ، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال: قلت يا رسول الله : فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد؟ فقال : «بل لأبد أبد ، بل لأبد أبد».

قال القاضي أبو محمد : وإنما شرط في التمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرما فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج ، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى ، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال طاوس : «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع».

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فهو متمتع» ، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء ، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي.

قوله عزوجل :

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ


أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨)

قوله : (لَمْ يَجِدْ) إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان ، و (فِي الْحَجِ) قال عكرمة وعطاء : له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج.

وقال ابن عباس ومالك بن أنس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج.

وقال عطاء أيضا ومجاهد : لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة.

وقال ابن عمر والحسن والحكم : يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، وكلهم يقول: لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم : من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج.

وقال قوم : له ابتداء تأخيرها إلى أيام التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر.

وقوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قال مجاهد وعطاء وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق.

وقال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلا أن يتشدد أحدكما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ، وقرأ زيد بن علي «وسبعة» بالنصب ، أي وصوموا سبعة ، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) قال الحسن بن أبي الحسن : المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى ، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع ، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر فيه الدماء أخلص وأفضل خلافا لأبي حنيفة ، وقيل : (كامِلَةٌ) توكيد كما تقول كتبت بيدي ، وكقوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٦] ، وقيل : لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها.

وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد : المعنى تلك كاملة ، وكرر الموصوف تأكيدا كما تقول زيد رجل عاقل.

وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ) الآية ، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه ، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج ، فكان الكلام ذلك الترخيص ، ويتأيد هذا بقوله (لِمَنْ) ، لأن اللام أبدا إنما تجيء مع الرخص ، تقول لك إن تفعل كذا ، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك ، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفرا فالإشارة بذلك ـ على قوله ـ هي إلى الهدي ، أي ذلك الاشتداد والإلزام.


واختلف الناس في (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها ، وقال الطبري : بعد الإجماع على أهل الحرم ، وليس كما قال : فقال بعض العلماء : من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي.

قال القاضي أبو محمد : فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة ، وقال بعضهم : من كان بحيث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد ، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب ، وقال عطاء بن أبي رباح : مكة وضجنان وذو طوى وما أشبهها حاضر والمسجد الحرام.

وقال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم كله حاضر والمسجد الحرام ، وقال مكحول وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة حاضر والمسجد الحرام.

وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم ، وحذر من شديد عقابه.

وقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، في الكلام حذف تقديره : أشهر الحج أشهر ، أو : وقت الحج أشهر ، أو : وقت عمل الحج أشهر ، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه ، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات ، ومن قدر الكلام : الحج في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد.

وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري : أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو لحجة كله.

وقال ابن عباس والشعبي والسدي وإبراهيم : هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، والقولان لمالك رحمه‌الله ، حكى الأخير ابن حبيب ، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان وبعض الثالث كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث ، وكما قال امرؤ القيس : [الطويل]

ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال

فمن قال إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج ، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك.

وقوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أي من ألزمه نفسه ، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، فكأن من التزم شيئا وأثبته على نفسه قد فرضه ، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام ، والتلبية تبع لذلك ، و (مِنْ) رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والخبر قوله (فَرَضَ) لأن (مِنْ) ليست بموصولة فكأنه قال فرجل فرض ، وقوله (فَلا رَفَثَ) يحتمل أن يكون الخبر ، وتكون (فَرَضَ) صفة.

وقوله تعالى : (فِيهِنَ) ولم يجىء الكلام فرض فيها : فقال قوم : هما سواء في الاستعمال.

وقال أبو عثمان المازني : «الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك ،


تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت» ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) [التوبة : ٣٦] ، ثم قال : (مِنْها) ، وقرأ نافع (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) بنصب الجميع ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال» بالرفع في الاثنين ونصب الجدال ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، و (لا) بمعنى ليس في قراءة الرفع وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، و (فِي الْحَجِ) خبر (لا جِدالَ) ، وحذف الخبر هنا هو مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك ، بل (فِي الْحَجِ) هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن (لا) إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء ، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و (فِي الْحَجِ) هو الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب ، والتحرير أن (فِي الْحَجِ) في موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج ، ولا فرق بين الآية وبين قولك زيد في الدار.

وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم : الرفث الجماع.

وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإعراب والتعريب ، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند النساء خاصة ، وهذا قول ابن عباس أيضا ، وأنشد وهو محرم :

وهنّ يمشين بنا هميسا

إن تصدق الطّير ننك لميسا

فقيل له : ترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء وقال قوم : الرفث الإفحاش بذكر النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا ، وقد قال ابن عمر للحادي : «لا تذكر النساء».

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه ، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج.

وقال أبو عبيدة : «الرفث اللغا من الكلام» ، وأنشد :

وربّ أسراب حجيج كظم

عن اللّغا ورفث التّكلّم

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في البيت ، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث».

وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم : الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء.

وقال ابن عمر وجماعة معه : الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره.

وقال ابن زيد ومالك : الفسوق الذبح للأصنام ، ومنه قول الله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥].

وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ، ومنه قول الله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) [الحجرات : ١١].


وقال ابن عمر أيضا ومجاهد وعطاء وإبراهيم : الفسوق السباب ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».

قال القاضي أبو محمد : وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال.

وقال قتادة وغيره : الجدال هنا السباب.

وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد : الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه.

وقال مالك وابن زيد : الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه‌السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك.

وقال محمد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك.

وقالت فرقة : الجدال هنا أن تقول طائفة : الحج اليوم وتقول طائفة بل الحج غدا ، وقيل : الجدال كان في الفخر بالآباء.

وقال مجاهد وجماعة معه : الجدال أن تنسىء العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه ، فقرر الشرع وقت الحج وبينه ، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه ، وهذا أصح الأقوال وأظهرها ، والجدال مأخوذ من الجدل وهو الفتل ، كأن كل مجادل يفاتل صاحبه في الكلام. وأما ما كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسئ كان يحل المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها ، ويحرم صفر ، وربما سموه المحرم ، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على الحقيقة ، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول ، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور ، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة ، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر ، قال : فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة ثم حج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة ، وحينئذ قال : «إن الزمان قد استدار» الحديث ، ونزلت (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبدا.

وقوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) المعنى فيثيب عليه ، وفي هذا تخصيص على فعل الخير.

وقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا) الآية ، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم : نحن المتوكلون ، ويقول بعضهم : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا ، فكانوا يبقون عالة على الناس ، فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود.

وقال بعض الناس : المعنى تزودوا الرفيق الصالح ، وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة ، وفي قوله تعالى : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) حض على التقوى ، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم


قابلو أوامره والناهضون بها ، وهذا على أن اللب لب التجارب وجودة النظر ، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب (أُولِي الْأَلْبابِ) عام لجميع المكلفين ، واللب العقل ، تقول العرب لببت بضم الباء الأولى ألب بضم اللام ، حكاه سيبويه ، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين فيهما غير هذه الكلمة.

وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية ، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر ، و (تَبْتَغُوا) معناه تطلبون بمحاولتكم.

وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة ، فأباح الله تعالى ذلك ، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح.

وقال مجاهد : «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون ، فنزلت الآية في إباحة ذلك».

وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج : «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء» ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير : «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج».

وقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس ، فإنه قال : «لا بد أن يأخذ من الليل شيئا ، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه» وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة ، ومنه أفاض الرجل في الكلام ، ومنه فاض الإناء ، وأفضته ، ومنه المفيض في القداح ، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل للنون ، فإذا سميت به شخصا ترك ، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به ، فإن كان (عَرَفاتٍ) اسما لتلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه ، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به ، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفات» دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف ، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيها بتاء فاطمة وطلحة ، وسميت تلك البقعة (عَرَفاتٍ) لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له ، قاله السدي.

وقال ابن عباس : «سميت بذلك لأن جبريل عليه‌السلام كان يقول لإبراهيم عليه‌السلام : هذا موضع كذا ، فيقول قد عرفت» ، وقيل : سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك ، وفيها يقول الشاعر :

تزودت من نعمان عود أراكة

لهند ولكن من يبلغه هندا؟

و (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) جمع كله ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة ، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد ، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر ، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، بفتح الراء وضمها ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، والمزدلفة كلها مشعر ، إلا وارتفعوا عن بطن محسر» وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته ، وفي


المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه ، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم.

وقال مالك : «من مر به ولم ينزل فعليه دم» ،

وقال الشافعي : «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم ، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه»؟

وقال الشعبي والنخعي : من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج.

وقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) تعديد للنعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام ، والكاف في (كَما) نعت لمصدر محذوف ، و (أَنْ) مخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، هذا قول سيبويه.

وقال الفراء : «هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلّا» ، والضمير في (قَبْلِهِ) عائد على الهدي.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)

قال ابن عباس وعائشة وعطاء وغيرهم : المخاطب بهذه الآية قريش ومن ولدت وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن قطين الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئا من الحل ، فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك ، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه ، ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم أن يفيضوا مع الجملة ، و (ثُمَ) ليست في هذه الآية للترتيب ، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحمس ، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة ، هداية من الله.

وقال الضحاك : «المخاطب بالآية جملة الأمة» ، والمراد ب (النَّاسُ) إبراهيم عليه‌السلام كما قال: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] وهو يريد واحدا ، ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة فتجيء (ثُمَ) على هذا الاحتمال على


بابها ، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري ، وقرأ سعيد بن جبير «الناسي» وتأوله آدم عليه‌السلام ، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ومظان القبول ومساقط الرحمة ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب عشية عرفة فقال : «أيها الناس ، إن الله عزوجل قد تطاول عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم ، أفيضوا على اسم الله» ، فلما كان غداة جمع ، خطب فقال : «أيها الناس إن الله تطاول عليكم فعوض التبعات من عنده».

وقالت فرقة : المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة.

وقوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) الآية ، قال مجاهد : «المناسك الذبائح وهراقة الدماء» ، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه ، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد ، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق : هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك ، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية ، هذا قول جمهور المفسرين.

وقال ابن عباس وعطاء : معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم ، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم.

وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دينه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم ، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم» أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه ، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول ، و (أَشَدَّ) في موضع خفض عطفا على «ذكركم» ويجوز أن يكون في موضع نصب ، التقدير أو اذكروه أشد ذكرا.

وقوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) الآية ، قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، والخلاق : النصيب والحظ ، و (مَنْ) زائدة لأنها بعد النفي ، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ.

وقال قتادة : «حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال».

وقال الحسن بن أبي الحسن : «حسنة الدنيا العلم والعبادة».


وقال السدي : «حسنة الدنيا المال» ، وقيل : حسنة الدنيا المرأة الحسناء ، واللفظة تقتضي هذا كله وجميع محابّ الدنيا ، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع ، و (قِنا عَذابَ النَّارِ) دعاء في أن لا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة ، ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة ، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين ، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا إنما أقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ» ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حولها ندندن».

وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) الآية ، وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، والرب تعالى سريع الحساب لأنه لا يحتاج إلى عقد ولا إلى إعمال فكر ، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف يحاسب الله الخلائق في يوم؟ فقال «كما يرزقهم في يوم» ، وقيل : الحساب هنا المجازاة ، كأن المجازي يعد أجزاء العمل ثم يجازي بمثلها ، وقيل معنى الآية سريع مجيء يوم الحساب ، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة ، وأمر الله تعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات ، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر ، وهي أيام التشريق ، وليس يوم النحر من المعدودات ، ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر وهو ثاني يوم النحر ، فإن يوم النحر من المعلومات ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات ، وحكى مكي والمهدوي عن ابن عباس أنه قال : «المعدودات هي أيام العشر» ، وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بعد ، والأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده لإجماعهم على أنه لا ينحر أحد في اليوم الثالث ، والذكر في المعلومات إنما هو على ما رزق الله من بهيمة الأنعام.

وقال ابن زيد : «المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق» ، وفي هذا القول بعد ، وجعل الله الأيام المعدودات أيام ذكر الله ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي أيام أكل وشرب وذكر لله».

ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات ، واختلف في طرفي مدة التكبير : فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس : يكبر من صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.

وقال ابن مسعود وأبو حنيفة : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر.

وقال يحيى بن سعيد : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر يوم التشريق.

وقال مالك : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وبه قال الشافعي.

وقال ابن شهاب : «يكبر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق».

وقال سعيد بن جبير : «يكبر من الظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق».

وقال الحسن بن أبي الحسن : «يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول».


وقال أبو وائل : «يكبر من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر».

ومشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات ، وفي المذهب رواية أنه يقال بعد التكبيرات الثلاث : لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد : المعنى من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه ، فمعنى الآية كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك ، ومن العلماء من رأى أن التعجل إنما أبيح لمن بعد قطره لا للمكي والقريب ، إلا أن يكون له عذر ، قاله مالك وغيره ، ومنهم من رأى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك ، قاله عطاء وغيره.

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم : معنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له ، واحتجوا بقوله عليه‌السلام : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه» ، فقوله تعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) نفي عام وتبرئة مطلقة ، وقال مجاهد أيضا : معنى الآية من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل ، وأسند في هذا القول أثر.

وقال أبو العالية : المعنى في الآية لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره ، والحاج مغفور له البتة.

وقال أبو صالح وغيره : معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد وما يجب عليه تجنبه في الحج ، وقال أيضا : لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا ، واللام في قوله (لِمَنِ اتَّقى) متعلقة إما بالغفران على بعض التأويلات ، أو بارتفاع الإثم في الحج على بعضها ، وقيل : بالذكر الذي دل عليه قوله (وَاذْكُرُوا) ، أي الذكر لمن اتقى ، ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل.

وقال ابن أبي زمنين : «يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل».

قال ابن المواز : «يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر.

قال ابن المواز : «ويسقط رمي اليوم الثالث».

وقرأ سالم بن عبد الله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بوصل الألف ، ثم أمر تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف بين يديه.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)


وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٠٨)

قال السدي : «نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبيّ ، والأخنس لقب ، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأظهر الإسلام ، وقال : الله يعلم أني صادق ، ثم هرب بعد ذلك ، فمر بقوم من المسلمين ، فأحرق لهم زرعا ، وقتل حمرا ، فنزلت فيه هذه الآيات».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.

وقال ابن عباس : نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا : ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم ، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين. ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الآية ، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك ، فهي عامة ، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى : «أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، يقول الله تعالى : أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران». ومعنى (وَيُشْهِدُ اللهَ) أي يقول : الله يعلم أني أقول حقا ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهد الله» بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة ، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال ، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه ، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه ، و (ما فِي قَلْبِهِ) مختلف بحسب القراءتين ، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر ، أي هو في قلبه بزعمه ، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن ، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه» ، وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قلبه» ، والألد : الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب ، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي ، ومنه لديد الفم ، واللدود ، ويقال منه : لددت بكسر العين ألد ، وهو ذم ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» ، ويقال : لددته بفتح العين ألده بضمها إذا غلبته في الخصام ، ومن اللفظة قول الشاعر : [الخفيف]

إنّ تحت الأحجار حزما وعزما

وخصيما ألدّ ذا معلاق

و (الْخِصامِ) في الآية مصدر خاصم ، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب ، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم.


و (تَوَلَّى) و (سَعى) تحتمل جميعا معنيين : أحدهما أن تكون فعل قلب فيجيء (تَوَلَّى) بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيله وإرادته الدوائر على الإسلام ، ومن هذا السعي قول الله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، ومنه (وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩]. ومنه قول الشاعر :

[الرجز]

أسعى على حيّ بني مالك

كل امرئ في شأنه ساع

ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره ، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء (تَوَلَّى) بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد ، و (سَعى) يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها ، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره ، وكلا السعيين فساد.

وقوله تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ).

قال الطبري : «المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر».

وقال مجاهد : «المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل» ، وقيل : المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون».

وقال الزجّاج : «يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن».

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد ، إذ كل فساد في أمور الدنيا ، فعلى هذين الفصلين يدور ، وأكثر القراء على (يُهْلِكَ) بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفا على (لِيُفْسِدَ) ، وفي مصحف أبي بن كعب «وليهلك» ، وقرأ قوم «ويهلك» بضم الكاف ، إما عطفا على (يُعْجِبُكَ) وإما على (سَعى) ، لأنها بمعنى الاستقبال ، وإما على القطع والاستئناف ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن «ويهلك» بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع «الحرث» و «النسل» ، وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو «ويهلك» بضم الياء والكاف «الحرث» بالنصب ، وقرأ قوم «ويهلك» بفتح الياء واللام ورفع «الحرث» وهي لغة هلك يهلك ، تلحق بالشواذ كركن يركن ، و (الْحَرْثَ) في اللغة شق الأرض للزراعة ، ويسمى الزرع حرثا للمجاورة والتناسب ، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملا على الزرع ، ومنه قول عزوجل (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٧٨] ، وهو كرم على ما ورد في التفاسير ، وسمي النساء حرثا على التشبيه ، و (النَّسْلَ) مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعا ، ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه ، ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء : ٩٦] ، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

و (لا يُحِبُ) معناه لا يحبه من أهل الصلاح ، أي لا يحبه دينا ، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه ، والفساد واقع ، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة.


قال القاضي أبو محمد : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك ، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) الآية ، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهوا ، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا.

وقال بعض العلماء : كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له : عليك نفسك ، مثلك يوصيني؟. والعزة هنا المنعة وشدة النفس ، أي اعتز في نفسه وانتخى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته أباه ، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم ، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين ، و «حسبه» أي كافيه معاقبة وجزاء ، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك ، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به ، و (الْمِهادُ) ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش ، ومن هذا الباب قول الشاعر: [الوافر]

تحيّة بينهم ضرب وجيع

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر ، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذا على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية ، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال : هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع ، ومن قال تلك في الأخنس قال : هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان.

وقال عكرمة وغيره : هذه في طائفة من المهاجرين ، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعته قريش لترده ، فنثر كنانته ، وقال لهم : تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلا ، والله لأرمينّكم ما بقي لي سهم ، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فقالوا له : لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا ، ولكن دلنا على مالك ونتركك ، فدلهم على ماله وتركوه ، فهاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآه قال له : «ربح البيع أبا يحيى» ، فنزلت فيه هذه الآية ، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم ، و (يَشْرِي) معناه يبيع ، ومنه (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري : [مجزوء الكامل]

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه

وقال الآخر : [الكامل]

يعطى بها ثمنا فيمنعها

ويقول صاحبه ألا تشري

ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى ، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى ، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب ، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها ، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع.

وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري


المنكر ، ولذلك قال علي وابن عباس : اقتتل الرجلان ، أي قال المغير للمفسد : اتق الله ، فأبى المفسد وأخذته العزة ، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا.

وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شبابا من القراءة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغير هما فيقرؤون بين يديه ومعه ، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول : اقتتل الرجلان ، حين قرأ هذه الآية ، فسأله عما قال ، ففسر له هذا التفسير ، فقال له عمر : «لله تلادك يا ابن عباس».

وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، ليس كما قالوا ، بل هذا قول الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية.

و (ابْتِغاءَ) مفعول من أجله ، ووقف حمزة على (مَرْضاتِ) بالتاء والباقون بالهاء. قال أبو علي : «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد.

وقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية.

ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يقعان للإسلام وللمسالمة.

وقال أبو عمرو بن العلاء : «السّلم بكسر السين الإسلام ، وبالفتح المسالمة» ، وأنكر المبرد هذه التفرقة ، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة ، وإنما قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها ، وأما أن يبتدىء بها فلا.

واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده ، ويستغرق (كَافَّةً) حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع ، فتكون الحال من شيئين ، وذلك جائز ، نحو قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٢٧] ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقال عكرمة : «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره». وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوراة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم ، ف (كَافَّةً) على هذا لإجزاء الشرع فقط.

وقال ابن عباس : «نزلت الآية في أهل الكتاب» ، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة ، ف (كَافَّةً) على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام ، ومن


يراها المسالمة يقول : أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية ، و (كَافَّةً) معناه جميعا ، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفها ، وقيل : إن (كَافَّةً) نعت لمصدر محذوف ، كأن الكلام : دخله كافة ، فلما حذف المنعوت بقي النعت حالا ، وتقدم القول في (خُطُواتِ) ، والألف واللام في (الشَّيْطانِ) للجنس ، و (عَدُوٌّ) يقع على الواحد والاثنين والجميع ، و (مُبِينٌ) يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو ، لأن العرب تقول : بان الأمر وأبان بمعنى واحد.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

قرأ جمهور الناس «زللتم» بفتح اللام ، وقرأ أبو السمال «زللتم» بكسرها ، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك ، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق ، و (الْبَيِّناتُ) محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولا لجماعة المؤمنين ، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين ، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعريف به ، و (عَزِيزٌ) صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه ، ولا تمتنعون منه ، و (حَكِيمٌ) أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم.

وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن ، فأقرأه الذي كان يعلمه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فقال كعب : إني لأستنكر أن يكون هكذا ، ومر بهما رجل ، فقال كعب : كيف تقرأ هذه الآية؟ ، فقرأ الرجل : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فقال كعب : هكذا ينبغي.

وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) الآية ، الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (هَلْ) من حروف الابتداء كأما ، و (يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون. والمراد هؤلاء الذين يزلون ، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق ، وقرأ قتادة والضحاك «في ظلال» ، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا ، وفي الحرفين في الزمر. وقال عكرمة : (ظُلَلٍ) طاقات ، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة «والملائكة» بالخفض عطفا على (الْغَمامِ) ، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفا على (اللهُ) ، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم ، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا.

وقال قوم : بل هو توعد بيوم القيامة ، وقال قوم : قوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) وعيد بيوم القيامة ، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت ، و (الْغَمامِ) أرق السحاب وأصفاه وأحسنه ، وهو الذي ظلل به بنو اسرائيل.


وقال النقاش : «هو ضباب أبيض» ، وفي قراءة ابن مسعود «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام» ، و (قُضِيَ الْأَمْرُ) معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقرأ معاذ بن جبل «وقضاء الأمر» ، وقرأ يحيى بن يعمر «وقضى الأمور» بالجمع ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الباقون «ترجع» على بنائه للمفعول ، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد ، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.

وقوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته ، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه «اسأل» على الأصل ، وقرأ قوم «أسل» على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر ، ومن قرأ «سل» فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها. و (كَمْ) في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها لأن لها صدر الكلام ، تقديره كم آتينا آتيناهم ، وإما ب (آتَيْناهُمْ). وقوله : (مِنْ آيَةٍ) هو على التقدير الأول مفعول ثان ل (آتَيْناهُمْ) ، وعلى الثاني في موضع التمييز. ويصح أن تكون (كَمْ) في موضع رفع بالابتداء والخبر في (آتَيْناهُمْ). ويصير فيه عائد على (كَمْ) تقديره كم آتيناهموه ، والمراد بالآية : كم جاءهم في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آية معرفة به دالة عليه ، و (نِعْمَةَ اللهِ) لفظ عام لجميع أنعامه ، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى : ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله ، ثم جاء اللفظ منسحبا على كل مبدل نعمة لله تعالى.

وقال الطبري : «النعمة هنا الإسلام» ، وهذا قريب من الأول ، ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم ، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا ، والتوراة أيضا نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم ، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر يقتضي ويتضمن الوعيد ، و (الْعِقابِ) مأخوذ من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر.

وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زين» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الحياة» ، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت» بإظهار العلامة ، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي ، وخص الذين كفروا الذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها ، والتزيين من الله تعالى واقع للكل ، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها ، وقد قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا».

وقوله تعالى : (وَيَسْخَرُونَ) إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم ، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة


والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب ، كما قال تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] ، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخرة في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم ، وكذلك خير مستقرا من هؤلاء في نعمة الدنيا ، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك ، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين ، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ، فإنهم كانوا يقولون : وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل ، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق ، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب ، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب ، حيث هو دائم لا يتناهى ، فهو لا ينفد ، ويحتمل أن يكون (بِغَيْرِ حِسابٍ) صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف ، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد ، ففضله كله بغير حساب ، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب هذا الذي يشاؤه الله ، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال تعالى : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٣] ، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى : (عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦] ، فالمعنى في ذلك محسبا ، وأيضا فلو كان عدا لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادة وغير الحساب في التفضل والإنعام.

قوله عزوجل :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

قال أبي بن كعب وابن زيد : المراد ب (النَّاسُ) بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم ، أي كانوا على الفطرة.


وقال مجاهد : «الناس آدم وحده».

وقال قوم : «آدم وحواء».

وقال ابن عباس وقتادة : (النَّاسُ) القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحا فمن بعده.

وقال قوم : الناس نوح ومن في سفينته ، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا.

وقال ابن عباس أيضا : كان الناس أمة واحدة كفارا ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله ، و (كانَ) على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي ، وتحتمل الآية معنى سابعا وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق. لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم ، ف (كانَ) على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط ، وذلك كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦ ـ ٩٩ ـ ١٠٠ ـ ١٥٢ ، الفرقان : ٧٠ ، الأحزاب : ٥ ـ ٥٩ ، الفتح : ١٤] ، والأمة الجماعة على المقصد الواحد ، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفردا بمقصد ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قس بن ساعدة : «يحشر يوم القيامة أمة وحده» ، وقرأ أبي بن كعب «كان البشر أمة واحدة» ، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث» ، وكل من قدر (النَّاسُ) في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا ، وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة (النَّبِيِّينَ) إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح ، لأن الناس يقولون له: أنت أول الرسل ، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان ، و (مُبَشِّرِينَ) معناه بالثواب على الطاعة ، و (مُنْذِرِينَ) معناه من العقاب على المعاصي ، ونصب اللفظتين على الحال ، و (الْكِتابَ) اسم الجنس ، والمعنى جميع الكتب.

وقال الطبري : «الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوراة» ، و (لِيَحْكُمَ) مسند إلى الكتاب في قول الجمهور.

وقال قوم : المعنى ليحكم الله ، وقرأ الجحدري «ليحكم» على بناء الفعل للمفعول ، وحكى عنه مكي «لنحكم».

قال القاضي أبو محمد : وأظنه تصحيفا لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس ، والضمير في (فِيهِ) عائد على (مَا) من قوله : (فِيمَا) ، والضمير في (فِيهِ) الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله ، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيها منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه. و (الْبَيِّناتُ) الدلالات والحجج ، و (بَغْياً) منصوب على المفعول له ، والبغي التعدي بالباطل ، و «هدى» معناه أرشد ، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم ، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد ، والمراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا). من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقالت طائفة : معنى الآية : أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها.


وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم : إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا.

وقال ابن زيد : من قبلتهم ، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فلليهود غد ، وللنصارى بعد غد» ، ومن صيامهم وجميع ما اختلفوا فيه.

وقال الفراء : في الكلام قلب ، واختاره الطبري ، قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه. ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء.

قال القاضي أبو محمد : وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه ، لأن قوله (فَهَدَى) يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله (فِيهِ) ، وتبين بقوله (مِنَ الْحَقِ) جنس ما وقع الخلاف فيه.

قال المهدوي : «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماما ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق» أي عن الإسلام.

و (بِإِذْنِهِ) قال الزجّاج : معناه بعلمه ، وقيل : بأمره ، والإذن هو العلم والتمكين ، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية ، وفي قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه.

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ) الآية ، (أَمْ) قد تجيء لابتداء كلام بعد كلام وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ألف استفهام ، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام يبتدأ بها ، و (حَسِبْتُمْ) تطلب مفعولين ، فقال النحاة (أَنْ تَدْخُلُوا) تسد مسد المفعولين لأن الجملة التي بعد (أَنْ) مستوفاة المعنى ، ويصح أن يكون المفعول الثاني محذوفا ، تقديره أحسبتم دخولكم الجنة واقعا ، و (لَمَّا) ، ولا يظهر أن يتقدر المفعول الثاني في قوله (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) بتقدير أحسبتم دخولكم الجنة خلوا من أن يصيبكم ما أصاب من قبلكم ، لأن (خَلَوْا) حال ، والحال هنا إنما تأتي بعد توفية المفعولين ، والمفعولان هما الابتداء والخبر قبل دخول حسب ، و (الْبَأْساءُ) : في المال ، و (الضَّرَّاءُ) : في البدن ، و (خَلَوْا) معناه انقرضوا ، أي صاروا في خلاء من الأرض. وهذه الآية نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في المدينة ، هذا قول قتادة والسدي وأكثر المفسرين.

وقالت فرقة : نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم وفتنوا هم قبل ذلك ، و (مَثَلُ) معناه شبه ، فالتقدير شبه آتى الذين (خَلَوْا) ، والزلزلة شدة التحريك ، تكون في الأشخاص وفي الأحوال ، ومذهب سيبوية أن «زلزل» رباعي ك «دحرج».


وقال الزجّاج : «هو تضعيف في زل» فيجيء التضعيف على هذا في الفاء ، وقرأ الأعمش «وزلزلوا ويقول الرسول» بالواو بدل حتى ، وفي مصحف ابن مسعود «وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول» ، وقرأ نافع «يقول» بالرفع ، وقرأ الباقون «يقول» بالنصب ، ف (حَتَّى) غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير إلى أن ، وعلى قراءة نافع كأنها اقترن بها تسبيب فهي حرف ابتداء ترفع الفعل ، وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك ولا ارتياب ، و (الرَّسُولُ) اسم الجنس ، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول ، وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم ، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر ، ويحتمل أن يكون (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.

قوله عزوجل :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧)

السائلون هم المؤمنون ، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها وأين يضعون ما لزم إنفاقه ، و «ما» يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء ، و «ذا» خبرها ، فهي بمعنى الذي ، و (يُنْفِقُونَ) صلة ، وفيه عائد على «ذا» تقديره ينفقونه ، ويصح أن تكون (ما ذا) اسما واحدا مركبا في موضع نصب ب (يُنْفِقُونَ) ، فيعرى من الضمير ، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب لا ما جاء من قول الشاعر : [الطويل].

وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا

سوى أن يقولوا إنّني لك عاشق

فإن عسى لا تعمل ، فماذا في موضع رفع وهو مركب إذ لا صلة لذا.

قال قوم : هذه الآية في الزكاة المفروضة ، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين.

وقال السدي : «نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ، ثم نسختها الزكاة المفروضة» ، ووهم المهدوي على السدي في هذا فنسب إليه أنه قال إن الآية في الزكاة المفروضة ، ثم نسخ منها الوالدان ، وقال ابن


جريج وغيره : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها ، واليتم فقد الأب قبل البلوغ ، وتقدم القول في المسكين و (ابْنِ السَّبِيلِ) ، و (ما تَفْعَلُوا) جزم بالشرط ، والجواب في الفاء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «يفعلوا» بالياء على ذكر الغائب ، وظاهر الآية الخبر ، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة ، و (كُتِبَ) معناه فرض ، وقد تقدم مثله ، وهذا هو فرض الجهاد ، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل».

وقال عطاء بن أبي رباح : «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد ، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية» ، وقال جمهور الأمة : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام ، فهو حينئذ فرض عين ، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوع. وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد. فقيل له : ذلك تطوع وال (كُرْهٌ) بضم الكاف الاسم ، وفتحها المصدر.

وقال قوم «الكره» بفتح الكاف ما أكره المرء عليه ، و «الكره» ما كرهه هو.

وقال قوم : هما بمعنى واحد.

وقوله تعالى (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) الآية ، قال قوم (عَسى) من الله واجبة ، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون ، ومن مات مات شهيدا ، (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا) الدعة وترك القتال (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم ، وفي قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ) الآية قوة أمر.

وقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى ، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق ، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره. والأول أشهر ، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى ، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه ، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم ، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم ، وفر نوفل فأعجزهم ، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم ، فقالت قريش : محمد قد استحل الأشهر الحرم ، وعيروا بذلك ، وتوقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم ، فنزلت هذه الآية.

وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت ، وهذا تخليط من المهدوي. وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة ، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن


جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت ، لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين ، و (قِتالٍ) بدل عند سيبويه ، وهو بدل الاشتمال.

وقال الفراء : هو خفض بتقدير عن.

وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار» ، وقوله هذا خطأ ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن ، وكذلك قرأها الربيع والأعمش ، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما ، و (الشَّهْرِ) في الآية اسم الجنس ، وكانت العرب قد جعل الله لها (الشَّهْرِ الْحَرامِ) قواما تعتدل عنده ، فكانت لا تسفك دما ولا تغير في الأشهر الحرم ، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى ، فذلك قوله تعالى (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ، و (صَدٌّ) مبتدأ مقطوع مما قبله ، والخبر (أَكْبَرُ) ، و (الْمَسْجِدِ) معطوف على (سَبِيلِ اللهِ) ، وهذا هو الصحيح.

وقال الفراء : (صَدٌّ) عطف على (كَبِيرٌ) ، وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف أيضا على (كَبِيرٌ) ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ومعنى الآية على قول الجمهور : إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله.

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما : قوله (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) منسوخ بقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وبقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥].

وقال عطاء : «لم تنسخ ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم» ، وهذا ضعيف.

وقوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) المعنى عند جمهور المفسرين ، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام ، وقيل : المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا.

وقال مجاهد وغيره : (الْفِتْنَةُ) هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك.

قوله عزوجل :

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ


كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي ألدُّنْيَا وَاألأَخِرَةَ)

قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ) ابتداء خبر من الله ـ عزوجل ـ وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة ، و (يَرُدُّوكُمْ) نصب ب (حَتَّى) لأنها غاية مجردة ، وقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ) [أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ، قالت طائفة من العلماء : يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.

وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن ـ على خلاف عنه ـ والشافعي في أحد قوليه : يقتل دون أن يستتاب ، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.

قال القاضي أبو محمد : ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين : راجع ، فإن أبى ذلك قتل ، وقال عطاء ابن أبي رباح : «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب» ، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين ، واختلف القائلون بالاستتابة : فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.

وقال الزهري : «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».

وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله ، وقال النخعي والثوري : يستتاب محبوسا أبدا ، قال ابن المنذر : واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب.

قال القاضي أبو محمد : كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة ، وحبط العمل إذا انفسد في آخر فبطل ، وقرأ أبو السمال «حبطت» بفتح الباء في جميع القرآن.

وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه : ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور : ميراثه في بيت المال ، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا ، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما : لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين ، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم ، فتلافاهم الله عزوجل بهذه الآية في الشهر الحرام ، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عزوجل ، وهاجر الرجل إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للثاني ، وهي مفاعلة من هجر ، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب ، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله ، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد ، (وَيَرْجُونَ)


معناه يطمعون ويستقربون ، والرجاء تنعم ، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد ، كما أن الخوف معه رجاء ، وقد يتجوز أحيانا ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف ، كما قال الهذلي : [الطويل]

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عوامل

وقال الأصمعي : «إذا اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف» ، كهذا البيت ، وكقوله عزوجل : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [سورة يونس : الآيات : ٧ ـ ١١ ـ ١٥ ، سورة الفرقان : الآية ٢١] ، المعنى لا يخافون ، وقد قيل : إن الرجاء في الآية على بابه ، أي لا يرجون الثواب في لقائنا ، وبإزاء ذلك خوف العقاب ، وقال قوم : اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين ، وليس هذا بجيد ، وقال الجاحظ في كتاب البلدان : «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله ، فهو يصبر عليه» ، وباقي الآية وعد.

وقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، السائلون هم المؤمنون ، و (الْخَمْرِ) مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمروا الإناء» ، ومنه خمار المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، ومنه قول الشاعر :

ألا يا زيد والضحاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، ومنه قول العجاج :

في لامع العقبان لا يمشي الخمر

يصف جيشا جاء برايات غير مستخف ، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم ، أي هو بمكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك ، والخمر ماء العنب الذي غلي ولم يطبخ أو طبخ طبخا لم يكف غليانه ، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في حكمه. قال أبو حنيفة : قد تكون الخمر من الحبوب ، قال ابن سيده : وأظنه تسفحا منه ، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : العنب والنخلة» ، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح ، ولم تكن عندهم خمر عنب ، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها ، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير ، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره. والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فما لا يسكر منه حلال ، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده النظر ، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه ، وروي أن النبي عليه‌السلام قال : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام» ، قال ابن المنذر في الإشراف : «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج» ، وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر ، ثم بعده (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ، ثم قوله


تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، [المائدة : ٩١] ، ثم قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت الخمر» ، ولم يحفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين ، خرجه مسلم وأبو داود ، وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ضرب فيها ضربا مشاعا ، وحزره أبوبكر أربعين سوطا ، وعمل بذلك هو ثم عمر ، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي بالأربعين ، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة من العلماء لا يبدو إبط الضارب ، وقال مالك : «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح» ، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع ، وقالت طائفة : هذه الآية منسوخة بقوله : (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] ، يريد ما في قوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من الإباحة والإشارة إلى الترخيص.

و (الْمَيْسِرِ) مأخوذ من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر ، ومنه قول الشاعر :

فلم يزل بك واشيهم ومكرهم

حتّى أشاطوا بغيب لحم من يسروا

ومنه قول الآخر :

أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني

ألم تيأسوا إنّي ابن فارس زهدم؟

والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسرا لأنه موضع اليسر ، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة. وقال الطبري : «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى» ، ونسب القول إلى مجاهد ، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله ، بل أراد مجاهد الجزر ، واليسر : الذي يدخل في الضرب بالقداح ، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر ، كحارس وحرس وأحراس ، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، ولا فروض فيها ، وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى ، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد ، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا ، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام ، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسما ، وليس كذلك. ثم يضرب على العشرة الأقسام ، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى : [السريع]

المطعمو الضيف إذا ما شتا

والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر : [الطويل]

بأيديهم مقرومة ومغالق

يعود بأرزاق العفاة منيحها

والمنيح في هذا البيت المستمنح ، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه ، فذلك


المنيح الممدوح ، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال ، فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد جرير بقوله : [الكامل]

ولقد عطفن على فزارة عطفة

كرّ المنيح وجلن ثمّ مجالا

ومن الميسر قول لبيد :

[الطويل]

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم

فواحش ينعى ذكرها بالمصائف

فهذا كله هو نفع الميسر ، إلا أنه أكل المال بالباطل ، ففيه إثم كبير ، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم : كل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز.

وقوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : «المنفعة بها كسب أثمانها» ، ثم أعلم الله عزوجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير» بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضا فاتفاقهم على (أَكْبَرُ) حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما في مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر» بالثاء مثلثة في الحرفين ، وقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ) يحتمل مقصدين ، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي ، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما ، وقال سعيد بن جبير : لما نزلت (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حرمت الخمر.

ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] قال : «انتهينا ، انتهينا» ، قال الفارسي : وقال بعض أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثما ، فهي حرام.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ليس هذا النظر بجيد لأن الإثم الذي فيها هو


الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها.

وقوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قال قيس بن سعد : «هذه الزكاة المفروضة». وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع. وقال بعضهم : نسخت بالزكاة. وقال آخرون : هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة. و (الْعَفْوَ) : هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله. ونحو هذا هي عبارة المفسرين ، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «من كان له فضل فلينفقه على نفسه ، ثم على من يعول ، فإن فضل شيء فليتصدق به» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى» ، وفي حديث آخر : «ما كان عن ظهر غنى».

وقرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده «العفو» بالرفع ، واختلف عن ابن كثير ، وهذا متركب على (ما ذا) ، فمن جعل «ما» ابتداء و «ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في (يُنْفِقُونَ) ه عائدا قرأ «العفو» بالرفع ، لتصح مناسبة الجمل ، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم ، أو الذي تنفقون العفو ، ومن جعل (ما ذا) اسما واحدا مفعولا ب (يُنْفِقُونَ) ، قرأ «قل العفو» بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع «العفو» مع نصب «ما» جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق ، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته ، وقال مكي : «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات ، فقوله (فِي الدُّنْيا) متعلق على هذا التأويل ب (الْآياتِ) ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق (فِي الدُّنْيا) ب (تَتَفَكَّرُونَ).

قوله عزوجل :

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١)

قوله قبل (فِي الدُّنْيا) ابتداء آية ، وقد تقدم تعلقه ، وكون (تَتَفَكَّرُونَ) موقفا يقوي تعلق (فِي الدُّنْيا) ب (الْآياتِ) ، وقرأ طاوس «قل أصلح لهم خير» ، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء ، فكانت تلك مشقة عليهم ، فسألوا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب : سببها أن المسلمين لما


نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الأنعام : ١٥٢] الآية ونزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ، فنزلت (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) الآية ، وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة ، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير ، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج ، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه ، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم ، مثال ذلك أن يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر ، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد ، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح ، وقوله تعالى : (فَإِخْوانُكُمْ) خبر ابتداء محذوف ، وقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) تحذير ، والعنت المشقة ، منه عنت العزبة ، وعقبة عنوت أي شاقة ، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر ، فالمعنى : لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى ، ولكنه خفف عنكم ، وقال ابن عباس : المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى ، و (عَزِيزٌ) مقتضاه لا يرد أمره ، و (حَكِيمٌ) أي محكم ما ينفذه.

وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) الآية ، قرأ جمهور الناس «تنكحوا» بفتح التاء ، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسه ، ونكح أصله الجماع ، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا ، وقالت طائفة : (الْمُشْرِكاتِ) هنا من يشرك مع الله إلها آخر ، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية ، ولا في معناها ، وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة ، وقال قتادة وسعيد بن جبير : لفظ الآية العموم في كل كافرة ، والمراد بها الخصوص في الكتابيات ، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول قط الكتابيات ، وقال ابن عباس والحسن: تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات ، وهذا مذهب مالك رحمه‌الله ، ذكره ابن حبيب وقال : «ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم» ، وكره مالك رحمه‌الله تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير ، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري والشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة ، ومنه مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق نكاح المجوسية ، وقال ابن حنبل : لا يعجبني ، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية ، وقال ابن الفصار : «قال بعض أصحابنا : يجب ـ على أحد القولين أن لهم كتابا ـ أن تجوز مناكحتهم». وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من كان على غير الإسلام حرام».

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة ، وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ : «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة : ربها عيسى» ، وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يستند جيدا ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا


المومسات منهن ، وروي عن ابن عباس نحو هذا ، وقوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك ، هذا قول الطبري وغيره ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ، ثم ندم فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، وقال : هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه مؤمنة. فقال ابن رواحة : لأعتقنّها ولأتزوجنّها ، ففعل ، فطعن عليه ناس فنزلت الآية فيه ، ومالك رحمه‌الله لا يجوز عنده نكاح الأمة الكتابية ، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية : إنه لا يفرق بينهما ، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين ، وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات.

وقوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) الآية ، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام ، والقراء على ضم التاء من (تَنْكِحُوا) ، وقال بعض العلماء : إن الولاية في النكاح نص في لفظ هذه الآية.

(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) مملوك (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) حسيب ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم ، وليس التفضيل هنا بلفظة (خَيْرٌ) من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان ، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء ، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة «أفعل» التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك. كقولك «الثلج أبرد من النار» ، والنور أضوأ من الظلمة» ، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين : تصح لفظة «أفعل» حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك ، وحكى مكي عن نفطويه أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ونفيا عن الثاني.

قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله ، وكما قال تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٣٠] ، فكأن الكلام في هذه الآية : ولامرأة ولرجل.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ) الإشارة إلى المشركات والمشركين ، أي أنّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل ، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة من أن يدعو إلى دينه نصا من لفظه ، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والمغفرة» بالرفع على الابتداء ، والإذن العلم والتمكين ، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن ، لأنك إذا قلت «أذنت كذا» فليس يلزمك أنك أمرت ، و (لَعَلَّهُمْ) ترجّ في حق البشر ، ومن تذكر عمل حسب التذكر فنجا.

قوله عزوجل :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ


حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٤)

ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح ، وقال قتادة وغيره : إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ، فنزلت هذه الآية ، وقال مجاهد : «كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك» ، والمحيض مصدر كالحيض ، ومثله المقيل من قال يقيل. قال الراعي : [الكامل].

بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة

لا يستطيع بها القراد مقيلا

وقال الطبري : (الْمَحِيضِ) اسم الحيض ، ومنه قول رؤبة في المعيش : [الرجز].

إليك أشكو شدّة المعيش

ومرّ أعوام نتفن ريشي

و (أَذىً) لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن ومن سبيل البول ، وهذه عبارة المفسرين للفظة ، وقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا) يريد جماعهن بما فسر من ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها ، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر ، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء ، وروي عن مجاهد أنه قال : «الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده» ، وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة ، وروي أيضا عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، وهذا قول شاذ ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما ، وقالت له : أرغبة عن سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه : «يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطهّرن» بتشديد الطاء والهاء وفتحهما ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله حتى يتطهرن ، وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن ، واعتزلوهن حتى يتطهرن» ، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال : هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الاختلاف في الطهر ما هو؟ فقال قوم : هو الاغتسال بالماء. وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم : هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة. ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي.

قال القاضي أبو محمد : وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم : أمر غير لازم ، وكذلك ادعاؤه الإجماع ، أما إنه لا خلاف في كراهية الوطء قبل


الاغتسال بالماء ، وقال ابن عباس والأوزاعي : من فعله تصدق بنصف دينار ، ومن وطئ في الدم تصدق بدينار ، وأسند أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : «يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، وقال ابن عباس : «الدينار في الدم ، والنصف عند انقضائه» ، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار ، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال ، وذهب مالك رحمه‌الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب ، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره ، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي : إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ. و (حَتَّى) غاية لا غير ، و (تَقْرَبُوهُنَ) يريد بجماع ، وهذا من سد الذرائع ، وقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) الآية ، القراءة (تَطَهَّرْنَ) بتاء مفتوحة وهاء مشددة ، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم. ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا : إنه أريد الغسل بالماء ، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحا ، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل ، و (فَأْتُوهُنَ) إباحة ، والمعنى (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين. أو جميع الجسد ، حسبما تقدم. هذا كله قول واحد ، وقال ابن عباس وأبو رزين : المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض ، وقاله الضحاك. وقال محمد بن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا ، وقيل : المعنى من قبل حال الإباحة ، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك. والتوابون : الراجعون ، وعرفه من الشر إلى الخير ، والمتطهرون : قال عطاء وغيره : المعنى بالماء ، وقال مجاهد وغيره : المعنى من الذنوب ، وقال أيضا مجاهد : المعنى من إتيان النساء في أدبارهن.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف : ٨٢] ، وقرأ طلحة بن مصرف «المطّهّرين» بشد الطاء والهاء.

وقوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية ، قال جابر بن عبد الله والربيع : سببها أن اليهود قالت : إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، وعابت على العرب ذلك ، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم ، وقالت أم سلمة وغيرها : سببها أن قريشا كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة ، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك ، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتشر كلام الناس في ذلك ، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث ، و (حَرْثٌ) تشبيه ، لأنهنّ مزدرع الذرية ، فلفظة «الحرث» تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة ، إذ هو المزدرع ، وقوله (أَنَّى شِئْتُمْ) معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة : من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ، و (أَنَّى) إنما تجيء سؤالا أو إخبارا عن أمر له جهات ، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى ، هذا هو الاستعمال العربي ، وقد فسر الناس (أَنَّى) في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبويه ب «كيف» ومن أين باجتماعهما ، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين» إلى أن الوطء في الدبر جائز ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر ، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله ، وهذا هو اللائق به ، ورويت الإباحة أيضا


عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر ، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر ، وروي عن مالك شيء في نحوه ، وهو الذي وقع في العتبية ، وقد كذب ذلك على مالك ، وروى بعضهم أن رجلا فعل ذلك في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكلم الناس فيه ، فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال : «إتيان النساء في أدبارهن حرام» ، وورد عنه فيه أنه قال : «ملعون من أتى امرأة في دبرها» ، وورد عنه أنه قال : «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وهذا هو الحق المتبع ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، والله المرشد لا رب غيره.

وقال السدي : معنى قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به ، وقال ابن عباس : «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع» ، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره» ، وقيل : معنى (قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) طلب الولد ، (وَاتَّقُوا اللهَ) تحذير ، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.

وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) الآية ، (عُرْضَةً) فعلة بناء للمفعول ، أي كثيرا ما يتعرض بما ذكر ، تقول «جمل عرضة للركوب» و «فرس عرضة للجري» ، ومنه قول كعب بن زهير : [البسيط].

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الاعلام مجهول

ومقصد الآية : ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به ، ولا تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار ، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى ، ثم اختلف المتأولون : فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم : المعنى فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح. قال الطبري : «التقدير لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا» ، وقدره المهدوي : كراهة أن تبروا ، وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح ، فلا يحتاج إلى تقدير «لا» بعد «أن» ، ويحتمل أن يكون هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس ، فيحلف حانثا ليكمل غرضه ، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا» ، فالمعنى : إذا أردتم لأنفسكم البر وقال الزجاج وغيره : معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى ، فقال عليّ يمين ، وهو لم يحلف ، و (أَنْ تَبَرُّوا) مفعول من أجله ، والبر جميع وجوه الخير. «بر الرجل» إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك. وهو مضاد للإثم ، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي. و (سَمِيعٌ) أي لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بنياتهم ، وهو مجاز على الجميع.


وأما سبب الآية فقال ابن جريج : «نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك» ، وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام ، وقيل : نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه ، واليمين الحلف ، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.

قوله عزوجل :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧)

«اللغو» سقط الكلام الذي لا حكم له ، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الأيمان ، تشبيها بالسقط من القول ، يقال منه لغا يلغو لغوا ولغى يلغي لغيا ، ولغة القرآن بالواو ، والمؤاخذة هي التناول بالعقوبة ، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو ، فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد : لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة : لا والله ، وبلى والله ، دون قصد لليمين ، وروي أن قوما تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحلف أحدهم : لقد أصبت وأخطأت يا فلان ، فإذا الأمر بخلافه ، فقال رجل : حنث يا رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيمان الرماة لغو لا إثم فيها ولا كفارة» ، وقال أبو هريرة وابن عباس أيضا والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء : لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزا ، قال مالك : «مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك ، فيحلف ، ثم يجيء غير المحلوف عليه» ، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير : لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم ، فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه ، وقال سعيد بن جبير مثله ، إلا أنه قال : يكفر ، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغوا ، وقال ابن عباس أيضا وطاوس : لغو اليمين الحلف في حال الغضب ، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يمين في غضب» ، وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء : لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، أو الحلال عليّ حرام ، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه ، وقال زيد بن أسلم وابنه : لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغيّة إن فعل كذا ، وقال ابن عباس أيضا والضحاك : لغو اليمين هو المكفرة ، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغوا ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير ، وقال إبراهيم النخعي : «لغو اليمين ما حنث فيه الرجل ناسيا» ، وحكى ابن عبد البر قولا إن اللغو أيمان المكره.


قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب ، ويحكم موقعهما في اللغة ، فكسب المرء ما قصده ونواه ، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط ، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها ، وقد رفع الله عزوجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو ، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة ، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة ، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة ، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة ، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة ، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها ، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) قال ابن عباس والنخعي وغيرهما : ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس ، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة ، والكفارة إنما هي فيما يكون لغوا إذا كفر ، وقال مالك وجماعة من العلماء : الغموس لا تكفر ، هي أعظم ذنبا من ذلك ، وقال الشافعي وقتادة وعطاء والربيع : اليمين الغموس تكفر ، والكفارة مؤاخذة ، والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وكذلك اليمين المصبورة : المعنى فيهما واحد ، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم ، والمصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي ، وقال زيد بن أسلم : قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) هو في الرجل يقول هو مشرك إن فعل ، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويسكبه ، و (غَفُورٌ حَلِيمٌ) صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة ، إذا هو باب رفق وتوسعة.

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) الآية ، قرأ أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون» ، و (يُؤْلُونَ) معناه يحلفون ، يقال آلى الرجل يولي إيلاء ، والألية اليمين ، ويقال فيها أيضا ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها ، والتربّص التأنّي والتأخر ، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته ، يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها ، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء ، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة الأشهر ، واختلف من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء فقال مالك رحمه‌الله : «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم ، أن لا يطأها ، ضررا منه ، أكثر من أربعة أشهر ، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه» ، وقال به عطاء وغيره ، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي الحسن : هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة ، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أولم يكن ، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء. وقال ابن عباس : «لا إيلاء إلا بغضب» ، وقال ابن سيرين : «سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء». وقاله ابن مسعود والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق ، إلا أن مالكا قال : ما لم يرد إصلاح ولد. وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب : كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء ، وقال ابن المسيب منهم : إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء ، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء.

قال القاضي أبو محمد : وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء ، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري ، وقال ابن عباس أيضا : لا يسمى موليا إلا الذي


يحلف أن لا يطأ أبدا ، حكاه ابن المنذر ، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور : لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر ، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي : الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا ، وقال قتادة والنخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى : من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول. قال ابن المنذر : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقوله تعالى (مِنْ نِسائِهِمْ) يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن ، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : أجله أربعة أشهر ، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق : أجله شهران ، وقال الحسن : أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران ، وقاله النخعي ، وقال الشعبي : «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة» ، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم : المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما ، وقال الزهري وعطاء والثوري : لا إيلاء إلا بعد الدخول ، قال مالك : «ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها» ، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف : فإما فاء ، وإما طلق ، وإلا طلق عليه ، وقال ابن مسعود وابن عباس وعثمان وعلي أيضا وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن ومسروق بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت ، واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي ، فقال عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم : هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها ، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري ومالك : هي رجعية ، و (فاؤُ) معناه رجعوا ، ومنه (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ، والفيء الظل الراجع عشيا ، وقال الحسن وإبراهيم : إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه ، لقوله تعالى (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية ، وترك وطء الزوجة معصية ، وقال الجمهور : إذا فاء كفر ، والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع ، وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له ولا فيء بقول ، وقال مالك رحمه‌الله : «لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب والمسجون» ، قال ابن القاسم في المدونة : «إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث ، فإن القول يكفيه ما دام معذورا» ، واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التفكير وإلا فلا فيء ، وقال الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم : الفيء من غير المعذور الجماع ولا بد ، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه ، وقال النخعي أيضا : يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء. أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟

وقال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر ، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها».

وقوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) الآية ، قال القائلون إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق : عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر ، وقال القائلون لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر :


العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم ، واستدل من قال بالتوقيف بقوله (سَمِيعٌ) ، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات ، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا السراح».

قوله عزوجل :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول ، اللام همزة ، وروي عن نافع شد الواو دون همز ، وقرأ الحسن «ثلاثة قرو» بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة ، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة ، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها. بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة ، و (الْمُطَلَّقاتُ) لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن ، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد ، وقال قوم : تناولهن العموم ثم نسخن ، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض ، وهو عرف النساء وعليه معظمهن ، فأغنى ذلك عن النص عليه ، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها ، ومنه قول الراجز : [الرجز]

يا رب ذي ضغن على فارض

له قروء كقروء الحائض

أراد وقت غضبه ، فالحيض على هذا يسمى قرءا ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتركي الصلاة أيام أقرائك» ، أي أيام حيضك ، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءا ، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض ، ومنه قول الأعشى :

أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الحي رفعة

بما ضاع فيها من قروء نسائكا

أي من أطهارهن ، وقال قوم : القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض ، وهو جمعه ، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر ، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة ، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم : المراد الحيض ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة ، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل ، هذا قول سعيد بن جبير وغيره ، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك : المراد الاطهار ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من


العدة ، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء ، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقول ابن القاسم ومالك : إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة. وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره ، وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض ، واختلف المتأولون في المراد بقوله (ما خَلَقَ) فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك هو الحيض والحبل جميعا ، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع ، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فأضرت به ، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه ، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع ، وقال قتادة : «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية» ، وقال السدي : «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها ، فأمرهن الله بالصدق في ذلك». وقال إبراهيم النخعي وعكرمة : المراد ب (ما خَلَقَ) الحيض ، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحبل ، والعموم راجح ، وفي قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَ) ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر ، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم ، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهن» بضم الهاء ، وقوله (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق ، وهذا كما تقول : إن كنت حرا فانتصر ، وأنت تخاطب حرا ، وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) ، البعل : الزوج ، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس. لكن هو المسموع. وقال قوم : الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة ، وقيل : هي هاء تأنيث دخلت على بعول. وبعول لا شذوذ فيه. وقرأ ابن مسعود «بردتهن» بزيادة تاء ، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهن» بضم الهاء ، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة ، والإشارة ب (ذلِكَ) هي إلى المدة ، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة ، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن ، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح ، فإن قصد أحد بعد هذا إفسادا أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر ، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل.

وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي : إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها ، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق ، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن.

وقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، قال ابن عباس : «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة» ، وقال الضحاك وابن زيد : ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه ، والآية تعم جميع حقوق الزوجية ، وقوله (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) قال مجاهد وقتادة : ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه ، وقال زيد بن أسلم وابنه : ذلك في الطاعة ، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها ، وقال عامر الشعبي : «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل ، وأنه يلاعن إن قذف وتحد


إن قذفت» ، فقال ابن عباس : «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق» ، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ، وهذا قول حسن بارع ، وقال ابن إسحاق : «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها» ، وقال ابن زيد : «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده» ، وقال حميد : «الدرجة اللحية».

وقال القاضي أبو محمد : وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها ، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل ، و (عَزِيزٌ) لا يعجزه أحد ، و (حَكِيمٌ) فيما ينفذه من الأحكام والأمور.

قوله عزوجل :

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم : نزلت هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية ، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أؤويك ولا أدعك تحلين ، قالت : وكيف؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك ، فشكت ذلك ، فنزلت الآية. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم : المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق ، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها وإما أمسكها محسنا عشرتها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والآية تتضمن هذين المعنيين ، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين : أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها ، وهذا قول السدي والضحاك ، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك ، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما ، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه : أولها أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرىء وإن عزموا السراح [البقرة : ٢٢٧] ، والوجه الثالث أن فعّل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل ، و «إمساك» مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن ، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك ، وقوله (بِإِحْسانٍ) معناه أن لا يظلمها شيئا من حقها ولا يتعدى في قول. وقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) الآية خطاب للأزواج ، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة ، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر ، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم ؛ لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده ، هذا وكدهم في الأغلب ؛ فلذلك خص


بالذكر. وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا» بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل ، فهذا باب خاف في التعدي إلى مفعول واحد وهو (أَنْ) ، وقرأ حمزة وحده «يخافا» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول ، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين ، أحدهما أسند الفعل إليه ، والآخر (أَنْ) بتقدير حرف جر محذوف ، فموضع (أَنْ) : خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي ، ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني ، مثل استغفر الله ذنبا ، وأمرتك الخير ، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا» بالياء وواو الجمع ، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس. وحرم الله ـ تعالى ـ على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما ، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد ، وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر : «روينا معنى ذلك عن ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور» ، وقال مالك ـ رحمه‌الله ـ والشعبي وجماعة معهما : فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى ذلك أن يكون الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي ، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية ، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع ، ولا يرد ما أخذ» ، قال ابن المنذر : «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله ، وخلاف سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو قيل لأحد : اجهد نفسك في طلب الخطأ ، ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه» ، و (حُدُودَ اللهِ) في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.

ونازلة حبيبة بنت سهل ـ وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول أصح ـ مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه ، وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما ، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه ، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه : إذا قالت له : لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما ، حل الخلع ، وقال الشعبي : (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) : معناه أن لا يطيعا الله ، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة» ، وقال عطاء بن أبي رباح : «يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبّك ونحو هذا».

وقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) إباحة للفدية ، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة ، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي ، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق ، وقال ابن عمر والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم : مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه ، وقضى


بذلك عمر بن الخطاب ، وقال طاوس والزهري وعطاء وعمر بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق : لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها. وبه قال الربيع ، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة «منه» ، يعني مما آتيتموهن وهو المهر. وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة ، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب : «لا أرى أن يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئا». وقال بكر بن عبد الله المزني : «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا» ؛ قال : «وهذه الآية منسوخة بقوله عزوجل : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠].

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية ، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.

وقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الآية ، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها ، ثم توعد ـ تعالى ـ على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه ، والظلم معاقب صاحبه ، وهو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة».

قوله عزوجل :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)

قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي : هذا ابتداء الطلقة الثالثة.

قال القاضي أبو محمد : فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية ، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه : «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق» ، واحتج من هذه الآية بذكر الله ـ تعالى ـ الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به ، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن عكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم ، وقال مجاهد : «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح ، والتسريح هو الطلقة الثالثة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ) يحتمل الوجهين : إما تركها تتم العدة ، وإما إرداف الثالثة. ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد ، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة. و (تَنْكِحَ) في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد ، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت سموأل امرأة رفاعة حين تزوجها


عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها ثلاثا ، فقالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن ، ما معه إلا مثل الهدبة» ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة ، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» ، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء ، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال : «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة» ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى واحد ، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول ، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح ، ويتأول على سعيد ـ رحمه‌الله ـ أن الحديث لم يبلغه ، ولما رأى العقد عاملا في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة.

قال القاضي أبو محمد : وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى ، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث. والذي يحل عند مالك ـ رحمه‌الله ـ النكاح الصحيح والوطء المباح ، والمحلل إذا وافق المرأة : فلم تنكح زوجا ، ولا يحل ذلك ، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافا ، وقال عثمان بن عفان : «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل ، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها». ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج. وقال الحسن بن أبي الحسن : «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول» ، وهذا شاذ ، وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان.

وقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الآية ، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه ، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين ، وقال أبو عبيدة : «المعنى أيقنا» ، وقوله في ذلك ضعيف ، و (حُدُودَ اللهِ) الأمور التي أمر أن لا تتعدى ، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا لهم ، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين. أي نصب للعبرة من قول أو صنعة ، وأما إن أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء ، وقرأ السبعة «يبينها» بالياء ، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون.

وقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية خطاب للرجال لا يختص بحكمه إلا الأزواج ، وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على المرأة مضارّة منه لها ، بأن يرتجع قرب انقضائها ثم يطلق بعد ذلك ، قاله الضحاك وغيره ، ولا خلاف فيه ، ومعنى «بلغن أجلهن» قاربن ، لأن المعنى يضطر إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، ومعنى «أمسكوهن» راجعوهن ، و (بِمَعْرُوفٍ) قيل هو الإشهاد ، و (لا تُمْسِكُوهُنَ) أي لا تراجعوهن ضرارا ، وباقي الآية بيّن.

قوله عزوجل :

(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا


تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢)

المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وقال الحسن : «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازلا أو راجع كذلك» ، وقالته عائشة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة». ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام ابن المسيب ، النكاح والطلاق والعتق ، ثم ذكر الله عباده بإنعامه عليهم بالقرآن والسنة ، و (الْحِكْمَةِ) هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب ، والوصف ب (عَلِيمٌ) يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي ظاهرها خلاف النية فيها ، كالمحلل والمرتجع مضارة.

وقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) قوله عزوجل : الآية خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في (تَعْضُلُوهُنَ) ، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه ، لأن المعنى يقتضي ذلك ، وقد قال بعض الناس في هذا الموضع : إن المراد ب (تَعْضُلُوهُنَ) ، الأزواج ، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير ، فقوله (أَزْواجَهُنَ) على هذا يعني به الرجال ، إذ منهم الأزواج ، وعلى أن المراد ب (تَعْضُلُوهُنَ) الأولياء فالأزواج هم الذين كنّ في عصمتهم ، والعضل المنع من الزواج ، وهو من معنى التضييق والتعسير ، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها ، والداء العضال العسير البرء ، وقيل : نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته ، وقيل : في جابر بن عبد الله ، وذلك أن رجلا طلق أخته ، وقيل بنته ، وتركها حتى تمت عدتها ، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر ، وقال : «تركتها وأنت أملك بها ، لا زوجتكها أبدا» ، فنزلت الآية ، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته ، وأن النكاح يفتقر إلى ولي ، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط النكاح ، وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) معناه المهر والإشهاد.

وقوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثم رجوع إلى خطاب الجماعة ، والإشارة في (ذلِكُمْ أَزْكى) إلى ترك العضل ، و (أَزْكى) و (أَطْهَرُ) معناه أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين ، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج ، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي ، والله ـ تعالى ـ يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر.

قوله عزوجل :

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)

والوالدات يرضعن أولدهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) خبر ، معناه : الأمر على الوجوب لبعض الوالدات ، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن ، فأما المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع ، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط ، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في


المدونة أن الرضاع لازم للأم ، بخلاف النفقة ، وفي كتاب ابن الجلاب : رضاعه في بيت المال ، وقال عبد الوهاب : هو من فقراء المسلمين ، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها ، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي ، فهي أحق به بأجرة المثل. هذا مع يسر الزوج ، فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع ، ولها أجر مثلها في يسر الزوج ، وكل ما يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم ، فإن كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. وهذه الآية هي في المطلقات ، قاله السدي والضحاك وغيرهما ، جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، وقال جمهور المفسرين : إن هذين الحولين لكل واحد ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا».

قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] ، لأن ذلك حكم على الإنسان عموما ، وسمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب ، ووصفهما ب (كامِلَيْنِ) إذ مما قد اعتيد تجوزا أن يقال في حول وبعض آخر حولين ، وفي يوم وبعض آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين. وقوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) مبني على أن الحولين ليسا بفرض لا يتجاوز ، وقرأ السبعة «أن يتم الرضاعة» بضم الياء ونصب الرضاعة ، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء «تتم الرضاعة» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة كالحضارة والحضارة ، وغير ذلك. وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة» على وزن الفعلة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة» بالياء المضمومة ، وانتزع مالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين ، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة ، وروي عن قتادة أنه قال : «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله : (لِمَنْ أَرادَ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متداع.

قول عزوجل :

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ)

(الْمَوْلُودِ لَهُ) اسم جنس وصنف من الرجال ، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي ، وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن الاقتضاء من المرأة ، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ، وقرأ جمهور الناس:


«تكلف» بضم التاء «نفس» على ما لم يسمّ فاعله ، وقرأ أبو رجاء «تكلّف» بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفس» فاعله ، وروى عنه أبو الأشهب «لا نكلّف» بالنون «نفسا» بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضار والدة» بالرفع في الراء ، وهو خبر معناه الأمر ، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارر» بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل ، ويحتمل أن يكون «تضارر» بفتح الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله ، ويعطف مولود له على هذا الحد في الاحتمالين ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم (لا تُضَارَّ) بفتح الراء المشددة ، وهذا على النهي ، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى ، ومعنى الآية في كل قراءة : النهي عن أن تضار الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها ، وأن يضارها هو بسبب الولد ، أو يضار الظئر ، لأن لفظة نهيه تعم الظئر ، وقد قال عكرمة في قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) : معناه الظئر ، ووجوه الضرر لا تنحصر ، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارر» براءين الأولى مفتوحة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضار» بإسكان الراء وتخفيفها ، وروي عنه الإسكان والتشديد ، وروي عن ابن عباس «لا تضار» بكسر الراء الأولى.

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ). فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهم : هو وارث الصبي إن لو مات ، قال بعضهم : وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا ، وقاله مجاهد وعطاء ، وقال قتادة أيضا وغيره : هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء ، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه. وحكى الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا : الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا رحم محرم منه ، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تحكم ، وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز : الوارث هو الصبي نفسه ، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال سفيان رحمه‌الله : «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما» ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. ونص هؤلاء الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى : (مِثْلُ ذلِكَ) الرزق والكسوة ، وذكر ذلك أيضا من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس وغيرهم. وقال مالك رحمه‌الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء : المراد بقوله (مِثْلُ ذلِكَ) أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه ، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ثم نسخ ذلك.

قال القاضي أبو محمد : فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث ، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا؟ ، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى الورثة مثل ذلك» بالجمع.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ


عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

الضمير في (أَرادا) للوالدين ، و (فِصالاً) معناه «فطاما» عن الرضاع ، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولود ، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله ، هذا معنى الآية ، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد وسفيان وغيرهم ، وقال ابن عباس : «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما».

قال القاضي أبو محمد : وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر ، وقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات ، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك ، وأما قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ) فمخاطبة للرجال خاصة ، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم» ، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم» بالمد ، المعنى أعطيتم ، وقرأ ابن كثير «أتيتم» بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير : [الطويل].

وما كان من خير أتوه فإنما

توارثه آباء آبائهم قبل

قال أبو علي : «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة».

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة ، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال : فيدخل في الخطاب ب (سَلَّمْتُمْ) الرجال والنساء ، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره : فالخطاب للرجال ، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع ، قال أبو علي : ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية ، أي إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى كالأول ، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف ، ثم حذف الضمير ، قال مجاهد : «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع» ، وقال سفيان : «المعنى إذا سلمتم إلى المسترضعة وهي الظئر أجرها بالمعروف». وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل ، وفي هذا وعيد وتحذير ، أي فهو مجاز بحسب عملكم.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)

قال بعض نحاة الكوفيين : الخبر عن (الَّذِينَ) متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ، ومذهب نحاة البصرة أن خبر (الَّذِينَ) مترتب بالمعنى ، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم ، وإن شئت قدرته. وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز ، وإعرابها مترتب على


هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها ، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد. مثل قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظرة ، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه ، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها ، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) [الطلاق : ٤] ، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين ، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال ، وقد بين تعالى ذلك بقوله: (بِأَنْفُسِهِنَ) ، والأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، والتزام المبيت في مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج. وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه. وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روي عنه وغيرهما : ليس المبيت بمراعى ، تبيت حيث شاءت. وقال الحسن بن أبي الحسن : «ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزواج ، ولها أن تتزين وتتطيب».

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف. وقرأ جمهور الناس «يتوفون» بضم الياء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يتوفون» بفتح الياء ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، ومعناه يستوفون آجالهم ، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل ، إذا فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون ، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره ثم ينفخ الروح ، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها ، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما ، وقال تعالى : (عَشْراً) ، ولم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ. قال جمهور أهل العلم : ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي ، وحكى منذر بن سعيد ـ وروي أيضا عن الأوزاعي ـ : أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليال ، قال المهدوي : «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة» ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال».

قوله عزوجل :

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِير) (٢٣٤)

أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن ، والمخاطبة بقوله (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) عامة لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين والنساء المعتدات ، وقوله عزوجل (فِيما فَعَلْنَ) يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما : أراد


بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفا غير منكر.

قال القاضي أبو محمد : ووجوه المنكر في هذا كثيرة ، وقال بعض المفسرين : (بِالْمَعْرُوفِ) معناه بالإشهاد ، وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعيد يتضمن التحذير. و (خَبِيرٌ) اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء.

قوله عزوجل :

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً)

المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس ، والمباشر لحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزويج معتدة ، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به ، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وجوز ما عدا ذلك ، ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس : «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك». ومن المجوز قول الرجل : إنك لإلى خير ، وإنك لمرغوب فيك ، وإني لأرجو أن أتزوجك ، وإن يقدر أمر يكن ، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا ، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج ، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، واحتج بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله مع أم سلمة ، والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض ، قاله سحنون وكثير من العلماء.

قال القاضي أبو محمد : وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سرا ، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه ، وإلا فهو خلاف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطبة بكسر الخاء فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول ، يقال خطبها يخطبها خطبا وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

برح بالعينين خطّاب الكثب

يقول إني خاطب وقد كذب

وإنما يخطب عسا من حلب

والخطبة «فعلة» كجلسة «وقعدة» ، والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره ، (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) معناه سترتم وأخفيتم ، تقول العرب : كننت الشيء من الأجرام ، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه ، وأكننت الأمر في نفسي ، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي ، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا ، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان ، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد ، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها ، وقوله تعالى (سَتَذْكُرُونَهُنَ) ، قال الحسن : معناه ستخطبونهن.


قال القاضي أبو محمد : كأنه قال إن لم تنهوا ، وقال غير الحسن : معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة ، وقوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية ، ف (سِرًّا) على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين. وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي : السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى.

قال القاضي أبو محمد : هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر ، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه ، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين ، فمن الشواهد قول الحطيئة : [الوافر]

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراما ، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار ، ومن الشواهد قول الآخر : [الطويل]

أخالتنا سرّ النّساء محرّم

عليّ ، وتشهاد النّدامى مع الخمر

لئن لم أصبّح داهنا ولفيفها

وناعبها يوما براغية البكر

فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموما في حرام وحلال حتى ينال ثأره ، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها ، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال : «سرا : نكاحا» ، وهذه عبارة مخلصة ، وقال ابن زيد : «معنى قوله (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهر تموه ودخلتم بهن».

قال القاضي أبو محمد : فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية ، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة ، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة ، وحكى مكي عنه أنه قال : «الآية منسوخة بقوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته ، قال ابن المواز : «فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه ، وإن نزل لم أفسخه» ، وقال مالك رحمه‌الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها : «فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب» ، هذه رواية ابن وهب ، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا ، وقاله ابن القاسم ، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء منقطع ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليّ نفسك فإن لي بك رغبة ، فتقول هي وأنا مثل ذلك.


قال القاضي أبو محمد : وهذه عندي مواعدة ، وإنما التعريض قول الرجل : إنكم لأكفاء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ، ونحو هذا.

قوله عزوجل :

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٣٥)

عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وحينئذ تسمى (عُقْدَةَ) ، وقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يريد تمام العدة ، و (الْكِتابُ) هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ، سماه كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله ، كما قال : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] ، وكما قال : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] ، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف ، وقد قدر أبو إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب ، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن ، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل.

قال القاضي أبو محمد : وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى ، أما إن عقد في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول : فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريما ، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود ، وقال الجميع : يكون خاطبا من الخطّاب ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول ، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم : ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما ، وقال قوم من أهل العلم : لا يتأبد بذلك تحريم ، وقال مالك مرة : يتأبد التحريم ، وقال مرة : وما التحريم بذلك بالبين ، والقولان له في المدونة في طلاق السنة ، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم : إن التحريم يتأبد ، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة : إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة ، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطبا من الخطاب ، قال أبو حنيفة والشافعي : تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر ، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة ، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه زان ، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب.

حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة ، قال نا أبو عمر بن عبد البر ، نا عبد الوارث بن سفيان ، نا قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن إسماعيل ، عن نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها ، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما ، وقال : «لا تنكحها أبدا». وجعل صداقها في بيت المال ، وفشا ذلك في الناس ، فبلغ عليا فقال : «يرحم الله أمير المؤمنين ، ما


بال الصداق وبيت المال؟ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة» ، قيل : فما تقول أنت فيها؟. قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ، ولا حد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ، ثم يخطبها إن شاء» ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال : «يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة» ، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين ، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري : عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر ، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين ، واختلف قول مالك رحمه‌الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم مجترما ، فمرة قال : العالم والجاهل فيه سواء لا حد عليه ، والصداق له لازم ، والولد لاحق ، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا ، ومرة قال : العالم بالتحريم كالزاني يحد ، ولا يلحق به الولد ، وينكحها بعد الاستبراء ، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه‌الله.

وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا) إلى آخر الآية : تحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيّن ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه.

قوله عزوجل :

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع ، فرض مهرا أو لم يفرض ، ولما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلبا للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه ، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن ، وقال قوم : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها ، وقال قوم : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها ، وقال مكي : «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصدا للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس» ، والخطاب بالآية لجميع الناس ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن» بغير ألف ، وقرأ الكسائي وحمزة «تماسوهن» بألف وضم التاء ، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين ، والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس ، ورجحها أبو علي لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن : نكح وسفد وقرع وذقط وضرب الفحل ، والقراءتان حسنتان ، و (تَفْرِضُوا) عطف على «تمسوا» ، وفرض المهر إثباته وتحديده ، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق فيه ، قاله مالك في المدونة ، والفريضة الصداق ، وقوله تعالى (وَمَتِّعُوهُنَ) معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن ، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن


مزاحم على الوجوب ، وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب ، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا» من المراد به من النساء؟ ، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض ، ومندوبة في غيرها ، وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها ، فحسبها ما فرض لها ، ولا متعة لها ، وقال أبو ثور : لها المتعة ولكل مطلقة ، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة ، فقال الزهري : يقضي لها بها القاضي ، وقال جمهور الناس : لا يقضي بها ، قاله شريح ، ويقال للزوج : إن كنت من المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم ، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة ، وقال الترمذي وعطاء والنخعي : للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ ، قال ابن المواز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه ، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار ، فهذه لا متعة لها ، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك كله فلها المتعة ، لأن الزوج سبب الفراق ، وعليها هي غضاضة في أن لا تختار نفسها.

واختلف الناس في مقدار المتعة ، فقال ابن عمر : «أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها» ، وروي أن ابن حجيرة كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير ، وقال ابن عباس : «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة» ، وقال عطاء : «من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة» ، وقال الحسن : «يمتع كل على قدره : هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب وهذا بنفقة» ، وكذلك يقول مالك بن أنس ، ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل ، ومتع شريح بخمسمائة درهم ، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف : «كأني أنظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة» ، وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير ، وقوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) دليل على رفض التحديد ، وقرأ الجمهور «على الموسع» بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي أوسع أي اتسعت حاله ، وقرأ أو حيوة : «الموسّع» بفتح الواو وشد السين وفتحها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدره» بسكون الدال في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدره» بفتح الدال فيهما ، قال أبو الحسن الأخفش وغيره : هما بمعنى لغتان فصيحتان ، وكذلك حكى أبو زيد ، تقول : خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى ، ويقرأ في كتاب الله (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] وقدرها ، وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ، ولو حركت الدال لكان جائزا ، و (الْمُقْتِرِ) : المقل القليل المال ، و (مَتاعاً) نصب على المصدر وقوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ) أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين ، فهو تأكيد لمعنى قوله (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ، ثم أكد تعالى الندب بقوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي في هذه


النازلة من التمتيع هم محسنون ، ومن قال بأن المتعة واجبة قال : هذا تأكيد الوجوب ، أي على المحسنين بالإيمان والإسلام ، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل ، و (حَقًّا) صفة لقوله (مَتاعاً) ، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد للأمر.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

اختلف الناس في هذه الآية ، فقالت فرقة فيها مالك وغيره : إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع ، إذ يتناولها قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَ) ، وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية الآية التي في الأحزاب ، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة : نسخت هذه الآية الآية التي قبلها. وقال ابن القاسم في المدونة : كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٤١] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب ، الآية : ٤٩ فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية ، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط ، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية ، حكى ذلك في المدونة عن زيد بن أسلم زعما ، وقال ابن القاسم : إنه استثناء ، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد ، لأن ابن القاسم قال : إن قوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) [البقرة : ٢٤١] عم الجميع ، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس ، وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور : المتعة لكل مطلقة عموما ، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض ، ولم تعن الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض ، وقرأ الجمهور «فنصف» بالرفع ، والمعنى فالواجب نصف ما فرضتم ، وقرأت فرقة «فنصف» بنصب الفاء ، المعنى فادفعوا نصف ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنصف» بضم النون في جميع القرآن ، وهي لغة ، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء ، وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن ، و (يَعْفُونَ) معناه يتركن ويصفحن ، وزنه يفعلن ، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج ، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها. وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين : ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها ، وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز ، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا فيما أحفظ.

واختلف الناس في المراد بقوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فقال ابن عباس وعلقمة وطاوس ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة والزهري ومالك وغيرهم : هو الولي الذي المرأة في حجره ، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته ، وأما شريح فإنه


جوز عفو الأخ عن نصف المهر ، وقال وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن ، وكذلك قال عكرمة : يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما ، كان عما أو أخا أو أبا وإن كرهت ، وقالت فرقة من العلماء: الذي بيده عقدة النكاح الزوج ، قاله علي بن أبي طالب وقاله ابن عباس أيضا ، وشريح أيضا رجع إليه ، وقاله سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء الأمصار ، فعلى القول الأول : الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما أن تعفو هي وإما أن يعفو وليها ، وعلى القول الثاني : فالندب في الجهتين إما أن تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئا ، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط فيؤدي جميع المهر ، وهذا هو الفضل منهما ، وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل ، ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق ، فقيل له : لم تزوجتها؟ ، فقال : عرضها علي فكرهت رده ، قيل : فلم تبعث بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟

قال القاضي أبو محمد : ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ، بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق. وأيضا فإنه لا يجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف الصداق؟ وأيضا فإنه إذا قيل إنه الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلا أو وصيا أو الحاكم أو الرجل من العشيرة؟ ، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة الآية ، لأن قوله (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) عبارة متمكنة في الولي ، وهي في الزوج قلقة بعض القلق ، وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل ، وأيضا فإن قوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) لا تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لا عفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك أمرها ، وأيضا فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال الزوج ، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وإعطاء الزوج المهر كاملا لا يقال فيه عفو ، إنما هو انتداب إلى فضل ، اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته ، وهذا طار لا يعتد به ، قال مكي : وأيضا فقد ذكر الله الأزواج في قوله (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ثم ذكر الزوجات بقوله (يَعْفُونَ) ، فكيف يعبر عن الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق لها إلا الولي.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا نظر ، وقرأ الجمهور «أو يعفو» بفتح الواو لأن الفعل منصوب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو يعفو الذي» بواو ساكنة ، قال المهدوي : ذلك على التشبيه بالألف ، ومنه قول عامر بن الطفيل : [الطويل]

فما سوّدتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل رحمه‌الله : لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم عفوة وهو جمع عفو وهو ولد الحمار ، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة ، ثم خاطب تعالى الجميع نادبا بقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي يا جميع الناس ، وهذه قراءة الجمهور بالتاء باثنتين من فوق ، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو» بالياء ، وذلك راجع إلى


الذي بيده عقدة النكاح ، وقرأ الجمهور «ولا تنسوا الفضل» ، وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل» ، وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه ، وقوله تعالى (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) ندب إلى المجاملة ، قال مجاهد : الفضل إتمام الزوج الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها ، وقوله (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن.

قوله عزوجل :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨)

الخطاب لجميع الأمة ، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها ، وذكر تعالى (الصَّلاةِ الْوُسْطى) ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله (الصَّلَواتِ) لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي «والصلاة الوسطى» بالنصب على الإغراء ، وقرأ كذلك الحلواني.

واختلف الناس في أي صلاة هو هذا الوصف ، فذهبت فرقة إلى أنها الصبح وأن لفظ «وسطى» يراد به الترتيب ، لأنها قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما ، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما ، قال هذا القول علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وصلى بالناس يوما الصبح فقنت قبل الركوع فلما فرغ قال : «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين» ، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من الصحابة ، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد والربيع ومالك بن أنس. وقوى مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها ، وصلاتا جمع قبلها وصلاتا جمع بعدها ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ، وقال : «إنهما أشدّ الصلوات على المنافقين» ، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة لمن شهدها والعتمة نصف ليلة ، وقال الله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] ، فيقوي هذا كله أمر الصبح.

وقالت فرقة : هي صلاة الظهر. قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر. واحتج قائلو هذه المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام ، فهي وسطى بذلك ، أي فضلى ، فليس هذا التوسط في الترتيب ، وأيضا فروي أنها كانت أشق الصلوات على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها كانت تجيء في الهاجرة ، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم ، وأيضا فيدل على ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ، فهذا اقتران الظهر والعصر.

وقالت فرقة : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا نهار وبعدها صلاتا ليل ، وروي هذا القول أيضا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري ، وفي مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» ، وهو قولها المروي عنها. وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وفي إملاء حفصة أيضا «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» ، ومن روى


«وصلاة العصر» فيتناول أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد. كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» على البدل ، وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتواتر الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. فعرفنا أنها العصر» ، وقال البراء ابن عازب : «كنا نقرأ على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. ثم نسخها الله ، فقرأنا : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). فقال له رجل : فهي العصر؟ ، قال : «قد أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت» ، والله أعلم. وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلاة الوسطى صلاة العصر».

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال والله أعلم.

وقال قبيصة بن ذؤيب : «الصلاة الوسطى صلاة المغرب» ، لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية ، وأيضا فقبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر ، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن (الصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العشاء الآخرة ، وذلك أنها تجيء في وقت نوم وهي أشد الصلوات على المنافقين ، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها ، وأيضا فقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.

وقالت فرقة : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) لم يعينها الله تعالى لنا ، فهي في جملة الخمس غير معينة ، كليلة القدر في ليالي العشر ، فعل الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع ، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم.

وقالت فرقة : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى ، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيدا ، ذكره ابن حبيب ومكي.

وقال بعض العلماء : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) المكتوبة الخمس ، وقوله أولا (عَلَى الصَّلَواتِ) يعم النفل والفرض ، ثم خص الفرض بالذكر ، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شغلونا عن الصلاة الوسطى».

وقوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) معناه في صلاتكم ، واختلف الناس في معنى (قانِتِينَ) ، فقال الشعبي : «معناه مطيعين» ، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير ، وقال الضحاك : «كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة» ، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون لله عاصمين ، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين ، وقال نحو هذا الحسن بن أبي الحسن وطاوس ، وقال السدي : «قانتين معناه ساكتين» ، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود : «كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته» قال : «ودخلت يوما والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بالناس فسلمت فلم يرد عليّ أحد ، فاشتد


ذلك عليّ ، فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة» ، والقنوت السكوت ، وقاله زيد بن أرقم ، وقال : «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، فأمرنا بالسكوت» ، وقال مجاهد : «معنى قانتين خاشعين ، القنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح».

قال القاضي أبو محمد : وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى ، وقال الربيع : «القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له» ، وقال قوم : القنوت الدعاء ، و (قانِتِينَ) معناه داعين ، روي معنى هذا عن ابن عباس ، وفي الحديث : قنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان ، فقال قوم : معناه دعا ، وقال قوم : معناه طوّل قيامه ، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩)

أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت ، وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح ، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا ، فرخص لعبيده في الصلاة رجالا متصرفين على الأقدام ، و (رُكْباناً) على الخيل والإبل ، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه ، هذا قول جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله ، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية ، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية ، وفرق مالك رحمه‌الله بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء ، وقوله تعالى (فَرِجالاً) هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ورجل» بضم الجيم وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا ، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل ، ورجل وأنشد ابن الأعرابي في «رجلان» : [الطويل]

عليّ إذا لاقيت ليلى بخلوة

أن ازدار بيت الله رجلان حافيا

ويجمع على رجال ورجيلى ورجالى ورجّالى ورجّالة ورجّال ورجالي ورجلان ورجلة ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال ، فهذه الآية وقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧] هما من لفظ الرجلة أي عدم المركوب ، وقوله تعالى (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] فهو جمع اسم الجنس المعروف ، وحكى المهدوي عن عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ «فرجّالا» بضم الراء وشد الجيم المفتوحة ، وعن عكرمة أيضا أنه قرأ «فرجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ «فرجّلا» دون ألف على وزن فعل بضم الفاء وشد العين ، وقرأ جمهور القراء «أو ركبانا» وقرأ بديل بن ميسرة «فرجالا فركبانا» بالفاء ، والركبان جمع


راكب ، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموات ، ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه. واختلف الناس كم يصلي من الركعات. فمالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات شيئا ، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما : يصلي ركعة إيماء. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة». وقال الضحاك بن مزاحم : «يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين» ، وقال إسحاق بن راهويه : «فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه» ، ذكره ابن المنذر.

واختلف المتأولون في قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) الآية ، فقالت فرقة : المعنى فإذا زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات ، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه ، وقالت فرقة : المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد ، كأنه قال : فمتى كنتم على أمن فاذكروا الله ، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي فصلوا كما علمكم صلاة تامة ، حكاه النقاش وغيره.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله على هذا التأويل (ما لَمْ تَكُونُوا) بدل من «ما» التي في قوله (كَما) ، وإلا لم يتسق لفظ الآية ، وعلى التأويل الأول (ما) مفعولة ب (عَلَّمَكُمْ) ، وقال مجاهد : «معنى قوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ، فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة» ، ورد الطبري على هذا القول ، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير ، والكاف في قوله (كَما) للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا ، وكان الذكر شبيها بالنعمة في القدر وكفاء لها ، ومن تأول «اذكروا» بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة العبد والهيئة التي علمه الله.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٤٠)

(الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، والخبر في الجملة التي هي «وصية لأزواجهم» ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «وصية» بالرفع ، وذلك على وجهين : أحدهما الابتداء والخبر في الظرف الذي هو قوله (لِأَزْواجِهِمْ) ، ويحسن الابتداء بنكرة من حيث هو موضع تخصيص كما حسن أن يرتفع «سلام عليكم» ، وخير بين يديك ، وأمت في حجر لا فيك ، لأنها مواضع دعاء ، والوجه الآخر أن تضمر له خبرا تقدره ، فعليهم وصية لأزواجهم ، ويكون قوله (لِأَزْواجِهِمْ) صفة. قال الطبري : «قال بعض النحاة : المعنى كتبت عليهم وصية» ، قال : «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود» ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصية» بالنصب ، وذلك حمل على الفعل كأنه قال : ليوصوا وصية ، و (لِأَزْواجِهِمْ)


على هذه القراءة صفة أيضا ، قال هارون : «وفي حرف أبي بن كعب «وصية لأزواجهم متاع» بالرفع ، وفي حرف ابن مسعود «الوصية لأزواجهم متاعا» ، وحكى الخفاف أن في حرف أبيّ «فمتاع لأزواجهم» بدل وصية.

ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله ، وذلك وصية لها ، واختلف العلماء ممن هي هذه الوصية ، فقالت فرقة : كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج ، قال قتادة : «كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء ، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر». وقال الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد ، وقالت فرقة : بل هذه الوصية هي من الزوج ، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف (يُتَوَفَّوْنَ) على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون ، لأن الميت لا يوصي ، قال هذا القول قتادة أيضا والسدي. وعليه حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة ، قال السدي : «إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشرا ، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج. فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر سقطت الوصية. ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض. فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن لا يرث ، وقال الطبري عن مجاهد : «إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا ، ثم جعل الله لهن وصية ، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قوله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ مجاهد رحمه‌الله التي حكى عنها الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد ذلك ، بل يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث.

و (مَتاعاً) نصب على المصدر ، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول ، وقوله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ) معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها ، و (غَيْرَ) نصب على المصدر عند الأخفش ، كأنه قال : لا إخراجا ، وقيل : نصب على الحال من الموصين. وقيل : هي صفة لقوله (مَتاعاً) ، وقوله تعالى : (فَإِنْ خَرَجْنَ) الآية ، معناه أن الخروج إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر ، وقوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ) صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. (حَكِيمٌ) أي محكم لما يأمر به عباده ، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوّله الطبري مجاهدا رحمه‌الله ، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه‌الله.

قوله عزوجل :

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢)

اختلف الناس في هذه الآية ، فقال أبو ثور : «هي محكمة ، والمتعة لكل مطلقة دخل بها أو لم


يدخل ، فرض لها أو لم يفرض ، بهذه الآية» ، وقال الزهري : «لكل مطلقة متعة ، وللأمة يطلقها زوجها». وقال سعيد بن جبير : «لكل مطلقة متعة». وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة : «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها».

قال القاضي أبو محمد : ففر ابن القاسم رحمه‌الله من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء ، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم. وإذا التزم ابن القاسم أن قوله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) عمّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : هذه الآية في الثيب اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن.

قال القاضي أبو محمد : فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في هذا العموم. فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] مخصصة لهذا الصنف من النساء ، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا تخصيص ، وقال ابن زيد : «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة ، لأنه نزل قبل (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فوجب ذلك عليهم».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد.

وقوله تعالى : (حَقًّا) نصب على المصدر ، و (الْمُتَّقِينَ) هنا ظاهره أن المراد من تلبس بتقوى الله تعالى ، والكاف في قوله (كَذلِكَ) للتشبيه ، وذلك إشارة إلى هذا الشرع والتنويع الذي وقع في النساء وإلى إلزام المتعة لهن ، أي كبيانه هذه القصة يبين سائر آياته ، و (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حق البشر ، أي من رأى هذا المبين له رجا أن يعقل ما يبين له.

قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣)

هذه رؤية القلب بمعنى : ألم تعلم ، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين ، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠ ـ ٢٤٤] الآية ، وحكى قوم من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، فخرجوا من ديارهم فرارا منه ، فأماتهم الله ، فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي عليه‌السلام ، فدعا الله فأحياهم له ، وقال السدي : «هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها


داوردان ، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم بضعة وثلاثون ألفا». في حديث طويل ، ففيهم نزلت الآية. وقال إنهم فروا من الطاعون : الحسن وعمرو بن دينار. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون. لكن سحنة الموت على وجوههم. ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وروى ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل ، وأنهم كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم ، فأمرهم الله بالجهاد ثانية فذلك قوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠ ـ ٢٤٤].

قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليرواهم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر ، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد. هذا قول الطبري ، وهو ظاهر رصف الآية ، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها. واختلف الناس في لفظ (أُلُوفٌ). فقال الجمهور : هي جمع ألف. وقال بعضهم : كانوا ثمانين ألفا. وقال ابن عباس : «كانوا أربعين ألفا». وقيل : كانوا ثلاثين ألفا. وهذا كله يجري مع (أُلُوفٌ) إذا هو جمع الكثير ، وقال ابن عباس أيضا : «كانوا ثمانية آلاف» ، وقال أيضا : أربعة آلاف ، وهذا يضعفه لفظ (أُلُوفٌ) لأنه جمع الكثير. وقال ابن زيد في لفظ (أُلُوفٌ) :«إنما معناها وهم مؤتلفون» أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم. إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم.

وقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) الآية ، إنما هي مبالغة في العبارة عن فعله بهم. كأن ذلك الذي نزل بهم فعل من قيل له : مت ، فمات ، وحكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا. فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين. وهذا الموت ظاهر الآية ، وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيه الأرواح الأجساد ، وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض حادث مما يحدث على البشر. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) الآية ، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد ، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلّا له ، حسبما أمر جميع العالم بذلك ، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا ، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم. وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل ، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي ، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها ، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر.

قوله عزوجل :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً


فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥)

الواو في هذه الآية عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم ، هذا قول الجمهور إن هذه الآية هي مخاطبة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتال في سبيل الله ، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا حسب الحديث ، وقال ابن عباس والضحاك : الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل ، فالواو على هذا عاطفة على الأمر المتقدم ، المعنى وقال لهم قاتلوا ، قال الطبري رحمه‌الله : «ولا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال هو للذين أحيوا» ، و (سَمِيعٌ) معناه للأقوال ، (عَلِيمٌ) بالنيات.

ثم قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) الآية ، فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب ، كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، ويروى أن هذه الآية لما نزلت قال أبو الدحداح : «يا رسول الله أوإن الله يريد منا القرض؟» قال : «نعم ، يا أبا الدحداح» ، قال : «فإني قد أقرضت الله حائطي» : لحائط فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء الحائط وفيه أم الدحداح ، فقال : اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا ، قال : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال فيه ابن الدحداحة ، واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب ، والله هو الغني الحميد ، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ، وقد ذهبت اليهود في مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم محتاج يستقرض ، وهذا بين الفساد ، وقوله (حَسَناً) معناه تطيب فيه النية ، ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته ، واختلف القراء في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ) فقرأ ابن كثير «فيضعّفه» برفع الفاء من غير ألف وتشديد العين في جميع القرآن ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه نصب الفاء في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء إلا أنه أثبت الألف في «فيضاعفه» في جميع القرآن ، وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كله إلا من سورة الأحزاب. قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) [الأحزاب : ٣٠] ، فإنه بغير ألف كان يقرأه ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله بالألف ورفع الفاء ، فالرفع في الفاء يتخرج على وجهين : أحدهما العطف على ما في الصلة. وهو يقرض ، والآخر أن يستأنف الفعل ويقطعه ، قال أبو علي : «والرفع في هذا الفعل أحسن».

قال القاضي أبو محمد : لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب الاستفهام ، وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل الأول ثم يجيء الثاني مخالفا له. تقول : أتقرضني فأشكرك ، وهاهنا إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض ، ولكن تحمل قراءة ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى ، لأنه لم يستفهم عن فاعل الإقراض إلا من أجل الإقراض ، فكأن الكلام أيقرض أحد الله فيضاعفه له ، ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف :


١٨٦] بجزم نذرهم ، لما كان معنى قوله (فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦] فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة ، وقرأ ابن كثير «يبسط» بالسين ، ونافع بالصاد في المشهور عنه ، وقال الحلواني عن قالون عن نافع : إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو بالصاد ، وروى أبو قرة عن نافع يبسط بالسين ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة ، فقال : «إن الله هو الباسط القابض ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يتبعني أحد بمظلمة في نفس ولا مال».

قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا)

هذه الآية خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو ، فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به ، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل ، فنصرهم الله ، وفي هذا كله مثال للمؤمنين يحذر المكروه منه ويقتدى بالحسن ، و (الْمَلَإِ) في هذه الآية جميع القوم ، لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل اللفظة. ويسمى الأشراف الملأ تشبيها ، وقوله (مِنْ بَعْدِ مُوسى) معناه من بعد موته وانقضاء مدته ، واختلف المتأولون في النبي الذي قيل له (ابْعَثْ) ، فقال ابن إسحاق وغيره عن وهب بن منبه : هو سمويل بن بالي. وقال السدي : هو شمعون وقال قتادة : هو يوشع بن نون.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف ، لأن مدة داود هي بعد مدة موسى بقرون من الناس ، ويوشع هو فتى موسى ، وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها ، وروي أنها كانت تضع التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب ، فلا تزال تغلب حتى عصوا وظهرت فيهم الأحداث. وخالف ملوكهم الأنبياء ، واتبعوا الشهوات ، وقد كان الله تعالى أقام أمورهم بأن يكون أنبياؤهم يسددون ملوكهم ، فلما فعلوا ما ذكرناه سلط الله عليهم أمما من الكفرة فغلبوهم وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب فذل أمرهم. وقال السدي : «كان الغالب لهم جالوت وهو من العمالقة ، فلما رأوا أنه الاصطلام وذهاب الذكر أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم. حتى اجتمع ملأهم على أن قالوا لنبي الوقت : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) الآية ، وإنما طلبوا ملكا يقوم بأمر القتال ، وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم : «بنو يهوذا» ، فعلم النبي بالوحي أنه ليس في بيت المملكة من يقوم بأمر الحرب ، ويسر الله لذلك طالوت.

وقرأ جمهور الناس «نقاتل» بالنون وجزم اللام على جواب الأمر ، وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يقاتل» بالياء ورفع الفعل ، فهو في موضع الصفة للملك. وأراد النبي المذكور عليه‌السلام أن يتوثق منهم فوقفهم على جهة التقرير وسبر ما عندهم بقوله (هَلْ عَسَيْتُمْ) وقرأ نافع «عسيتم» بكسر العين في الموضعين ، وفتح الباقون السين ، قال أبو علي : «الأكثر فتح السين وهو المشهور» ، ووجه الكسر قول


العرب هو عس بذلك مثل حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم ، فكذلك عسيت وعسيت ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عسي زيد مثل رضي ، فإن قيل فهو القياس ، وإن لم يقل فسائغ أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع الأخرى كما فعل ذلك في غيره ، ومعنى هذه المقالة : هل أنتم قريب من التولي والفرار. إن كتب عليكم القتال؟.

قوله عزوجل :

(قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٢٤٦)

المعنى وأي شيء يجعلنا ألا نقاتل وقد وترنا وأخرجنا من ديارنا؟ وقالوا هذه المقالة وإن كان القائل لم يخرج من حيث قد أخرج من هو مثله وفي حكمه ، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب تولوا ، أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم ، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة ، تتمنى الحرب أوقات الأنفة ، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها ، وعن هذا المعنى نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا» ، ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله ، ثم توعد الظالمين في لفظ الخبر الذي هو قوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، وقرأ أبي بن كعب «تولوا إلا أن يكون قليل منهم».

قوله عزوجل :

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)

قال وهب بن منبه : «إنه لما قال الملأ من بني إسرائيل لسمويل بن بالي ما قالوا ، سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا ويدله عليه ، فقال الله تعالى له : انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن رأسه منه وملكه عليهم ، قال : وكان طالوت رجلا دباغا ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكان سبطا لا نبوة فيه ولا ملك ، فخرج طالوت في بغاء دابة له أضلها ، فقصد سمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا ، فنش الدهن».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهو دهن القدس فيما يزعمون ، قال : فقام إليه سمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت ، وقال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله بتقديمه ، ثم قال لبني إسرائيل «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا» ، و (طالُوتَ) اسم أعجمي معرب ولذلك لم ينصرف ،


وقال السدي : «إن الله أرسل إلى شمعون عصا وقال له : من دخل عليك من بني إسرائيل فكان على طول هذه العصا فهو ملكهم ، فقيس بها بنو إسرائيل فكانت تطولهم حتى مربهم طالوت في بغاء حماره الذي كان يسقي عليه ، وكان رجلا سقاء ، فدعوه فقاسوه بالعصا فكان مثلها ، فقال لهم نبيهم ما قال ، ثم إن بني إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله تعالى ، وجروا على سننهم فقالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) ، أي لأنه ليس في بيت ملك ولا سبقت له فيه سابقة. (وَلَمْ يُؤْتَ) مالا واسعا يجمع به نفوس الرجال حتى يغلب أهل الأنفة بماله.

قال القاضي أبو محمد : وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله وقضاؤه السابق ، وأنه مالك الملك ، فاحتج عليهم نبيهم عليه‌السلام بالحجة القاطعة ، وبيّن لهم مع ذلك تعليل اصطفائه طالوت ، وأنه زاده بسطة في العلم وهو ملاك الإنسان ، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء ، قال ابن عباس: «كان في بني إسرائيل سبطان أحدهما للنبوة والآخر للملك ، فلا يبعث نبي إلا من الواحد ولا ملك إلا من الآخر ، فلما بعث طالوت من غير ذلك قالوا مقالتهم» ، قال مجاهد : معنى الملك في هذه الآية الإمرة على الجيش.

قال القاضي أبو محمد : ولكنهم قلقوا لأن من عادة من تولى الحرب وغلب أن يستمر ملكا ، و «اصطفى» افتعل ، مأخوذ من الصفوة ، وقرأ نافع «بصطة» بالصاد ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بسطة» بالسين ، والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في المعارف ، وقال بعض المتأولين: المراد علم الحرب ، وأما جسمه فقال وهب بن منبه : إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت.

(وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)

لما علم نبيهم عليه‌السلام تعنتهم وجدالهم في الحجج تمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه ، وهو قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) ، وظاهر اللفظ أنه من قول النبي لهم ، وقد ذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أظهر ، وأضيف ملك الدنيا إلى الله تعالى ، إضافة مملوك إلى مالك ، و (واسِعٌ) معناه وسعت قدرته وعلمه كل شيء ، وأما قول النبي لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم ، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية ، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة ، فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج ، وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وابن زيد والسدي.


واختلف المفسرون في كيفية إتيان (التَّابُوتُ) وكيف كان بدء أمره ، فقال وهب بن منبه : كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت ، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا ، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام ، فكانت الأصنام تصبح منكسة ، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم ، وقيل : جعل في مخراة قوم فكانوا يصيبهم الناسور ، فلما عظم بلاؤهم كيف كان ، قالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل ، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل ، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل ، وهم في أمر طالوت ، فأيقنوا بالنصر. وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وقال قتادة والربيع : بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون ، فجعله يوشع في البرية ، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت. وكان أمر التابوت مشهورا عندهم في تركة موسى ، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت ، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل ، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم ، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت ، فاستوسقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت ، وقال وهب بن منبه : كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه» ، وهي لغته ، والناس على قراءته بالتاء.

قال القاضي أبو محمد : وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجها للين إسناده.

قوله عزوجل :

(فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨)

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ، وروي عنه أنه قال : هي ريح خجوج ولها رأسان ، وقال مجاهد : السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب ، وقال : أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام. وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل : السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر. وقال ابن عباس : السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، وقاله السدي. وقال وهب بن منبه : السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح : السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال الربيع بن أنس : (سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي رحمة من ربكم ، وقال قتادة : (سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي وقار لكم من ربكم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى ، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده ، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون ، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.


واختلف المفسرون في البقية ما هي؟ : فقال ابن عباس : هي عصا موسى ورضاض الألواح ، وقال الربيع : هي عصا موسى وأمور من التوراة. وقال عكرمة : هي التوراة والعصا ورضاض الألواح.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا ما روي من أن موسى عليه‌السلام لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل ألقى الألواح غضبا فتكسرت. فنزع منها ما بقي صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعل في التابوت. وقال أبو صالح : البقية عصا موسى وعصا هارون ولوحان من التوراة والمن. وقال عطية بن سعد : هي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقال الثوري : من الناس من يقول البقية قفيز منّ ورضاض الألواح. ومنهم من يقول : العصا والنعلان. وقال الضحّاك : البقية الجهاد وقتال الأعداء.

قال القاضي أبو محمد : أي الأمر بذلك في التابوت ، إما أنه مكتوب فيه ، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك ، وأسند الترك إلى آل موسى وهارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم ، وكلهم آل لموسى وهارون ، وآل الرجل قرابته وأتباعه ، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد : حمل الملائكة هو سوقها التابوت دون شيء يحمله سواها حتى وضعته بين يدي بني إسرائيل وهم ينظرون إليه بين السماء والأرض ، وقال وهب بن منبه والثوري عن بعض أشياخهم : حملها إياه هو سوقها الثورين أو البقرتين اللتين جرتا العجلة به ، ثم قرر تعالى أن مجيء التابوت آية لهم إن كانوا ممن يؤمن ويبصر بعين حقيقة.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ)

قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه ، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكا وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل ، و (فَصَلَ) معناه خرج بهم من القطر ، وفصل حال السفر من حال الإقامة ، قال السدي وغيره : كانوا ثمانين ألفا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وقال وهب بن منبه : لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض.

واختلف المفسرون في النهر ، فقال وهب بن منبه : لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا فادع الله يجر لنا نهرا ، فقال لهم طالوت (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) الآية ، وقال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضا هو والسدي : النهر نهر فلسطين ، وقرأ جمهور القراء «بنهر» بفتح الهاء ، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهر» بإسكان الهاء في جميع القرآن ، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن ، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته وسهولته ، وقد قال


علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأكف أنظف الآنية. ومنه قول الحسن رحمه‌الله : [البسيط].

لا يدلفون إلى ماء بآنية

إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح

وظاهر قول طالوت (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت ، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب ، فليس يحارب إلّا بالجند المطيع ، ومنه قول معاوية : «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه» ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان» ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة : [الطويل]

وأحسو قراح الماء والماء بارد

فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم ، وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم.

وقوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان ، ومثل هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غشنا فليس منا ، ومن رمانا بالنبل فليس منا ، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود» ، وفي قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم. ولهذه المبالغات لم يأت الكلام ، ومن لم يشرب منه. وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غرفة» بفتح الغين. وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر. والمفعول محذوف ، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ، وقرأ الباقون «غرفة» بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به ، لأن الغرفة هي العين المغترفة. فهذا بمنزلة إلّا من اغترف ماء ، وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضا من جهة أن «غرفة» بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف ، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه ، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم. فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩)

«جاوز» فاعل من جاز يجوز. وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع. لأن النهر وما أشبهه كأنه


يجاوز. واختلف الناس في (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) كم كانوا؟ فقال البراء بن عازب : كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وفي رواية : وثلاثة عشر رجلا ، وما جاوز معه إلا مؤمن ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم كعدة أصحاب طالوت» ، وقال السدي وابن عباس : بل جاوز معه أربعة آلاف رجل ، قال ابن عباس : فيهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا : لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس ، فعلى القول الأول قالت الجملة : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ) ، على جهة استكثار العدو. فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) الآية ، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظنا على بابه ، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد ، ولغيره ، وعلى القول الثاني قال كثير من الأربعة الآلاف : لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) والظن على هذا بمعنى اليقين ، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس.

قال القاضي أبو محمد : وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى : (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ، فبعض كع وقليل صمم ، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة» ، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، من قولهم : فاء يفيء إذا رجع ، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيها ، والملك فئة الناس ، والجبل فئة ، والحصن ، كل ذلك تشبيه ، وفي قولهم رضي الله عنهم : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) الآية ، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربه ، و «إذن الله» هنا تمكينه وعلمه ، فمجموع ذلك هو الإذن ، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بنصره وتأييده.

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ)

(بَرَزُوا) معناه : صاروا في البراز وهو الأفيح من الأرض المتسع ، و «جالوت» اسم أعجمي معرب ، والإفراغ أعظم الصب ، كأنه يتضمن عموم المفرغ عليه ، والهزم أصله أن يضرب الشيء فيدخل بعضه في بعض ، وكذلك الجيش الذي يرد يركب ردعه ، ثم قيل في معنى الغلبة : هزم ، وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس.

وروي في قصة داود وقتله جالوت ، أن أصحاب طالوت كان فيهم إخوة داود وهم بنو إيشى ، وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه ، فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب ، فلما نهض


مر في طريقه بحجر فناداه : يا داود ، خذني فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ، ثم آخر ، ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار ، فلما حضر الناس ، خرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت : من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي ، فجاء داود ، فقال : أنا أبرز له وأقتله ، فقال له طالوت : فاركب فرسي ، وخذ سلاحي ، ففعل ، وخرج في أحسن شكة فلما مشى قليلا رجع. فقال الناس : جبن الفتى ، فقال داود : إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي.

قال : وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع ، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه ، وخرج إلى جالوت وهو شاك في سلاحه ، فقال له جالوت : أنت يا فتى تخرج إليّ ، قال : نعم. قال : هكذا كما يخرج إلى الكلب. قال : نعم وأنت أهون. قال : لأطعمن اليوم لحمك الطير والسباع ، ثم تدانيا فأدار داود مقلاعه ، وأدخل يده إلى الحجارة فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ، وحز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت وكانت الهزيمة ، ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت ، فقال له : إن بنات الملوك لهن غرائب من المهر ، ولا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس ، وتجيئني بغلفهم وطمع طالوت أن يعرض داود للقتل بهذه النزعة فقتل داود منهم مائتين ، وجاء بذلك وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت ، وعظم أمر داود ، فيروى أن طالوت تخلى له عن الملك وصار هو الملك ، ويروى أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب أن داود قتل جالوت ، وكان سبب الفتح ، وروي أن طالوت أخاف داود حتى هرب منه فكان في جبل إلى أن مات طالوت فذهبت بنو إسرائيل إلى داود فملكته أمرها ، وروي أن نبي الله سمويل أوحى الله إليه أن يذهب إلى إيشى ويسأله أن يعرض عليه بنيه فيدهن الذي يشار إليه بدهن القدس ويجعله ملك بني إسرائيل. والله أعلم أي ذلك كان ، غير أنه يقطع من ألفاظ الآية على أن داود صار ملك بني إسرائيل. وقد روي في صدر هذه القصة : أن داود كان يسير في مطبخة طالوت ثم كلمه حجر فأخذه فكان ذلك سبب قتله جالوت ومملكته ، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية ، وذلك كله لين الأسانيد ، فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل النازلة واختصرت سائر ذلك ، وأما الحكمة التي آتاه الله فهي النبوة والزبور وقال السدي : آتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون والذي علمه هي صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١)

أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر (لَفَسَدَتِ


الْأَرْضُ) ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق ، وداع إلى الله ومقاتل عليه ، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيام الساعة ، له الحمد كثيرا. قال مكي : وأكثر المفسرين على أن المعنى لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا معنى الآية ولا هي منه في ورد ولا صدر ، والحديث الذي رواه ابن عمر صحيح ، وما ذكر مكي من احتجاج ابن عمر عليه بالآية لا يصح عندي لأن ابن عمر من الفصحاء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) ، وفي الحج (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) [الآية : ٣٨] ، وقرأ نافع «ولو لا دفاع الله» ، «وإن الله يدافع» ، وقرأ الباقون (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) «وإن الله يدافع» ففرقوا بينهما ، والدفاع يحتمل أن يكون مصدر دفع ككتب كتابا ولقي لقاء ، ويحتمل أن يكون مصدر دافع كقاتل قتالا ، قوله عزوجل : والإشارة بتلك إلى ما سلف من القصص والأنباء ، وفي هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر ، وقد كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معدين لحرب الكفار ، فلهم في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله وغير ذلك من وجوه العبرة.

قوله عزوجل :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

(تِلْكَ) رفع بالابتداء ، و (الرُّسُلُ) خبره ، ويجوز أن يكون (الرُّسُلُ) عطف بيان و (فَضَّلْنا) الخبر ، و (تِلْكَ) إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض وذلك في الجملة دون تعيين مفضول. وهكذا هي الأحاديث عن النبي عليه‌السلام. فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم» ، وقال : «لا تفضلوني على موسى» ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه‌السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم والمكلم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال نعم نبي مكلم ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيدا للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ ومراتب الأنبياء في السماء فتكون


الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكورا في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه‌السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس» جبريل عليه‌السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفا يفهمه السامع ، وهذا كما تقول :

اشتريت خيلا ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرسا ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان. ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك. الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قاتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر. وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

قال ابن جريج : هذه الآية تجمع الزكاة والتطوع ، وهذا كلام صحيح فالزكاة واجبة والتطوع مندوب إليه ، وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل وصلة رحم ، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين ، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال ، وندب الله تعالى بهذه الآية ، إلى إنفاق شيء مما أنعم به وهذه غاية التفضل فعلا وقولا ، وحذر تعالى من الإمساك ، إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك بنفقة في ذات الله ، إذ هي مبايعة على ما قد فسرناه في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة : ٢٤٥] ، أو إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه ومراده بماله ، وكأن معنى الآية معنى سائر الآي التي تتضمن إلا فدية يوم القيامة.

وأخبر الله تعالى بعدم الخلة يوم القيامة ، والمعنى : خلة نافعة تقتضي المساهمة ، كما كانت في الدنيا ، وأهل التقوى بينهم في ذلك اليوم خلة ولكنها غير محتاج إليها. وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئا.

وأخبر تعالى أن الشفاعة أيضا معدومة في ذلك اليوم ، فحمل الطبري ذلك على عموم اللفظ وخصوص المعنى ، وأن المراد (وَلا شَفاعَةٌ) للكفار. وهذا لا يحتاج إليه. بل الشفاعة المعروفة في الدنيا وهي


انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده مرتفعة يوم القيامة البتة. وإنما توجد شفاعة بإذن الله تعالى. فحقيقتها رحمة من الله تعالى. لكنه شرف الذي أذن له في أن يشفع ، وإنما المعدوم مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة» بالنصب في كل ذلك بلا تنوين ، وكذلك في سورة إبراهيم (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [الآية : ٣١] ، وفي الطور : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الآية : ٢٣] ، وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين ، و (الظَّالِمُونَ) واضعو الشيء في غير موضعه. وقال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولم يقل : الظالمون هم الكافرون.

قوله عزوجل :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)

هذه سيدة آي القرآن ، ورد ذلك في الحديث ورود أنها تعدل ثلث القرآن ، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان ، وكذلك من قرأها أول نهاره. وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى ، و (اللهُ) مبتدأ ، و (لا إِلهَ) مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود ، و (إِلَّا) هو بدل من موضع (لا إِلهَ) ، و (الْحَيُ) صفة من صفات الله تعالى ذاتية ، وذكر الطبري ، عن قوم أنهم قالوا : الله تعالى حي لا بحياة. وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه ، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له ، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، و (الْقَيُّومُ) فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء ، وقيوم بناء مبالغة أي : هو القائم على كل أمر بما يجب له ، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك ، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش : «الحي القيام» بالألف ثم نفى عزوجل أن تأخذه (سِنَةٌ) أو (نَوْمٌ) ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما ، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي ، والسنة بدء النعاس ، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه ، وليس يفقد معه كل ذهنه ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال ، فجعلت هذه مثالا لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] ، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع : [الكامل]

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي ، وقال ابن عباس وغيره : السنة النعاس ، وقال ابن زيد : الوسنان ، الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب ، وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي عن موسى على


المنبر قال : «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان» قال : ضرب الله مثلا أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض ، وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي بالملك. فهو مالك الجميع وربه ، وجاءت العبارة ب (ما) وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود ، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن (يَشْفَعُ عِنْدَهُ) أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو وقال الطبري : هذه الآية نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم ، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه ، كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قيل له : واشفع تشفع وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر ، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار ، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة.

وفي البخاري ، في باب بقية من باب الرؤية ، أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة الحديث ، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء.

وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له ، وهي الخامسة التي في قوله : «وأعطيت الشفاعة» وهي عامة للناس ، والقصد منها إراحة المؤمنين ، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب ، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون ، والضميران في قوله : (أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وقال مجاهد (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) الدنيا (وَما خَلْفَهُمْ) الآخرة ، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان ، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده ، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره.

قوله عزوجل :

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) معناه : من معلوماته ، وهذا كقول الخضر لموسىعليهما‌السلامحين نقر العصفور من حرف السفينة : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات ، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، ومعنى الآية : لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه ، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله


تعالى بأنه وسع السموات والأرض ، فقال ابن عباس : (كُرْسِيُّهُ) علمه ، ورجحه الطبري : وقال : منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم ، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم ، قال الطبري : ومنه قول الشاعر :

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسيّ بالأحداث حين تنوب

يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها ، وقال أبو موسى الأشعري : الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل ، وقال السدي : هو موضع قدميه.

قال القاضي أبو محمد : وعبارة أبي موسى مخلصة لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك ، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك ، والكرسي هو موضع القدمين ، وأما عبارة السدي فقلقة ، وقد مال إليها منذر البلوطي وتأولها بمعنى : ما قدم من المخلوقات على نحو ما تأول في قول النبي عليه‌السلام وفي كتاب الله ، وأما في عبارة مفسر فلا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكرسي هو العرش نفسه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال أبوذر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ (لا يَؤُدُهُ) حفظ هذا الأمر العظيم ، و (يَؤُدُهُ) : معناه يثقله ، يقال آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم ، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، جعلوها بين بين لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة ، كما قيل في لؤم لوم ، و (الْعَلِيُ) : يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا (الْعَظِيمُ) هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر ، لا على معنى عظم الأجرام ، وحكى الطبري عن قوم : أن (الْعَظِيمُ) معناه المعظم ، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى :

وكأن الخمر العتيق من الاس

فنط ممزوجة بماء زلال

وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ.

قوله عزوجل :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ


اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)

(الدِّينِ) في هذه الآية المعتقد والملة ، بقرينة قوله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية ، فقال الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قالتهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة ، قالا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ، ونزلت فيهم (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

قال القاضي أبو محمد : وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده ، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو ، فلما أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا ، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه ، فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الآية ، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد ، إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع ، وقال السدي نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين ، كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتكيا أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يردهما ، فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله هما أول من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل الله جل ثناؤه (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] ، ثم إنه نسخ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.

قال القاضي أبو محمد : والصحيح في سبب قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي ، وقوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة ، و (الرُّشْدُ) مصدر من قولك رشد بكسر الشين وضمها يرشد رشدا


ورشدا ورشادا ، و (الْغَيِ) مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد» بالألف ، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرّشد» بفتح الراء والشين. وروي عن الحسن «الرّشد» بضم الراء والشين ، و «الطاغوت» بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري «يطغو» إذا جاوز الحد بزيادة عليه ، وزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل ، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه موضع اللام فقيل : طاغوت ، وقال المبرد : هو جمع ، وذلك مردود.

واختلف المفسرون في معنى «الطاغوت» ، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي : «الطاغوت» : الشيطان. وقال ابن سيرين وأبو العالية : «الطاغوت» : الساحر ، وقال سعيد بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج : «الطاغوت» : الكاهن. قال أبو محمد : وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان ، والشيطان أصل ذلك كله ، وقال قوم : «الطاغوت» : الأصنام ، وقال بعض العلماء : كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.

قال القاضي أبو محمد : وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه ، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما‌السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة ، وذلك مجاز. إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان ، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. و «العروة» في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي. و (اسْتَمْسَكَ) معناه قبض وشد يديه ، و (الْوُثْقى) فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه ، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه (بِالْعُرْوَةِ) ، فقال مجاهد : العروة الإيمان. وقال السدي : الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضحّاك : العروة لا إله إلا الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد ، والانفصام : الانكسار من غير بينونة ، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه ، والفصم كسر ببينونة ، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة ، ومن ذلك قول ذي الرمة : [البسيط]

كأنه دملج من فضة نبه

في ملعب من عذارى الحي مفصوم

ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات (سَمِيعٌ) من أجل النطق و (عَلِيمٌ) من أجل المعتقد.

قوله عزوجل :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧)

ال (وَلِيُ) فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه ، فإذا لازم أحد أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه ،


هذا عرفه في اللغة. قال قتادة : (الظُّلُماتِ) الضلالة. و (النُّورِ) الهدى. وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة إن قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد عليه‌السلام كفروا به فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن هذا القول أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات. ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب. ومترتب في الناس جميعا. وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ومن كفر بعد وجود الداعي النبي المرسل فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان ، إذ هو معد وأهل للدخول فيه. وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما : أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت لم تدخل فيه البتة.

ولفظة (الطَّاغُوتُ) في هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس ، ولذلك قال (أَوْلِياؤُهُمُ) بالجمع ، إذ هي أنواع ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، أولياؤهم الطواغيت ، يعني الشياطين ، وحكم عليهم بالخلود في النار لكفرهم.

قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

(أَلَمْ تَرَ) تنبيه ، وهي رؤية القلب ، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم تر» بجزم الراء ، و (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض وهذا مردود. وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين. والآخر بخت نصر. وقيل : إن (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما : ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال : من ربكم وإلهكم؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميّروهم وجاء إبراهيم عليه‌السلام يمتار ، فقال له من ربك وإلهك؟ قال (قالَ إِبْراهِيمُ : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، فلما سمعها نمرود قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس ، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ، وقال : لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيب من رمل كالدقيق ، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته ، فلما


قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا؟ فقالت من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك ، وقال الربيع وغيره في هذه القصص : ان النمرود لما قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال : قد أحييت هذا وأمتّ هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت ، والرواية الأخرى ذكر السدي : أنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال نمرود : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون ، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا ، وتركت اثنين فماتا ، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية : أن إبراهيمعليه‌السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة ، لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه‌السلام الحقيقة ، ففزع نمرود إلى المجاز وموه به على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل ، وانتقل معه من المثال ، وجاءه بأمر لا مجاز فيه ، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ، ولم يمكنه أن يقول : أنا الآتي بها من المشرق ، لأن ذوي الأسنان يكذبونه. وقوله (حَاجَ) وزنه «فاعل» من الحجة أي جاذبه إياها والضمير في (رَبِّهِ) يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه‌السلام ، ويحتمل أن يعود على (الَّذِي حَاجَ) ، و (أَنْ) مفعول من أجله والضمير في (آتاهُ) للنمرود ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة ، وهذا تحامل من التأويل ، وقرأ جمهور القراء أن أحيي بطرح الألف التي بعد النون من (أَنَا) إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع ، فإن ورشا وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن ، مثل أنا أحيي أنا أخوك إلا في قوله تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) [الأعراف : ١٨٨] [الشعراء : ١١٥] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة ، قال أبو علي : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحيانا في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف ، وهي مثل ألف حيهلا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي ، فتأمل. قال أبو علي : فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف ، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر :

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذريت السناما

وقرأ الجمهور : «فبهت» الذي بضم الباء وكسر الهاء ، يقال بهت الرجل : إذا انقطع وقامت عليه الحجة. قال ابن سيده : ويقال في هذا المعنى : «بهت» بفتح الباء وكسر الهاء ، «وبهت» بفتح الباء وضم الهاء. قال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ، «بهت» بفتح الباء والهاء.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء ، قال ابن جني : قرأ أبو حيوة : «فبهت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع : «فبهت» بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع


نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون «بهت» بفتحهما لغة في بهت. قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهت» بكسر الهاء كخرق ودهش ، قال : والأكثر بالضم في الهاء ، قال ابن جني : يعني أن الضم يكون للمبالغة ، قال الفقيه أبو محمد : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ (فَبُهِتَ) بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، إخبار لمحمد عليه‌السلام وأمته.

والمعنى : لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم ، لأنه لا هدى في الظلم ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص ، كما ذكرنا ، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالما.

قوله عزوجل :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ)

عطفت (أَوْ) في هذه الآية على المعنى ، لأن مقصد التعجيب في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) [الآية : ٢٥٨] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج ، ثم جاء قوله (أَوْ كَالَّذِي) ، عطفا على ذلك المعنى ، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أو كالذي مر» بفتح الواو ، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير ، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك : الذي مر على القرية هو عزير ، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر : هو أرمياء ، وقال ابن إسحاق : أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، قال الفقيه أبو محمد : وهذا كما تراه ، إلا أن يكون اسما وافق اسما ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه ، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه‌السلام. قال أبو محمد : واختلف في القرية أيما هي؟ فحكى النقاش أن قوما قالوا هي المؤتفكة. وقال ابن زيد : إن القوم الذين (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) فقال لهم الله : (مُوتُوا) [البقرة : ٢٤٣] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم.

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة ، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان ، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد. وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها. والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة والربيع : القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل. حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله


كالجبل ، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها ، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار ، ومنه قوله تعالى : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ، [النحل: ٦٨] قال السدي : يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت ، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة ، قال أبو محمد : وانظر استعمال العريش مع على ، في الحديث في قوله ، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر ، و (خاوِيَةٌ) معناه خالية ، يقال خوت الدار تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري : والأول أفصح وقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) معناه من أي طريق وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله ، إنما كان عن إحياء الموتى من بني آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها ، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها ، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر ، والصواب أن لا يتأول في الآية شك ، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه ، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال ، (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها)؟ قال : (فَأَماتَهُ اللهُ) تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه ، وقيل تبن وعنب ، وكان معه ركوة من خمر ، وقيل من عصير وقيل ، قلة ماء هي شرابه ، وبقي ميتا مائة عام ، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره ، وروي أنه بلي دون الحمار ، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا أكل شيئا ولا بليت رمته ، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير ، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة ، وحينئذ حيي عزير ، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة ، لأنه بقي سبعين ميتا كله ، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية. وقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثَهُ) ، معناه : أحياه وجعل له الحركة والانتقال ، فسأله الله تعالى بواسطة الملك (كَمْ لَبِثْتَ)؟ على جهة التقرير ، و (كَمْ) في موضع نصب على الظرف ، فقال : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، قال ابن جريج وقتادة والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب ، فظن هذا اليوم واحدا فقال (لَبِثْتُ يَوْماً) ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقيل له (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش : العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣].

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا معنى كلام النقاش. والعام على هذا كالقول والقال. وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد ، وروي في قصص هذه الآية : أن الله بعث لها


ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع : (لَبِثْتَ) في كل القرآن بإظهار الثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء ، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز ، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، بالإدغام في كل القرآن ، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان ، قال أبو علي : ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة».

قوله عزوجل :

(فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

  وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير ، وعلى بقاء حماره حيّا على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني ، وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.

وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه» ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة» ، قال أبو علي : واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عزوجل : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) و (اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] ، و (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [الحاقة : ٢٨] و (سُلْطانِيَهْ) [الحاقة : ٢٩] (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) [القارعة : ١٠] وإسقاطها في الوصل ، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، وكان الكسائي يحذفها في (يَتَسَنَّهْ) ، و (اقْتَدِهْ) ، ويثبتها في الباقي. ولم يختلفوا في (حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠ ـ ٢٦] و (كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩ ـ ٢٥] أنهما بالهاء في الوقف والوصل ، و (يَتَسَنَّهْ) يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد ، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم. وقال الزجّاج : ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض ، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن. قلبت النون ياء كما فعل في تظننت ، حتى قلت لم أتظنن ، فيجيء تسنن تسنى. ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن. ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت. وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل. ويحتمل (يَتَسَنَّهْ) أن يكون من السنة وهو الجدب. والقحط ، وما أشبهه ، يسمونه بذلك. وقد اشتق منه فعل فقيل : استنّوا ، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت ، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه ، أو لم تغيره السنون والأعوام. وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات ، وقال أسنهت عند بني فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر :

وليست بسنهاء ولا رجبية

ولكن عرايا في السنين الجوائح

فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد ، وهي لام الفعل ، وفيها ظهر الجزم ب(لَمْ)،


وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقد ذكر. وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام.

وقال النقاش : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) معناه : لم يتغير من قوله تعالى : (ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد : ١٥] ، قال أبو محمد : ورد النحاة على هذا القول ، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، وأما قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) ، فقال وهب بن منبه وغيره : المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة ، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا ، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح ، فقام الحمار ينهق ، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا : بل قيل له وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة ، قالا : وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه ، قالا :         وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته ، وقوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا ، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا ، وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة ، وقال غير الأعمش : بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حيا من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفي إماتته هذه المدة ، ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر ، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال : هي عظام نفسه ، ومن قال : هي عظام الحمار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. «ننشزها» بالزاي ، وروى أبان عن عاصم «ننشرها» بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء ، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة.

فمن قرأها «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها. يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، قال الله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢].

وقال الأعشى : [السريع]

يا عجبا للميّت النّاشر

وقراءة عاصم : «ننشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء ، يقال : نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته ، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها ، وغاض الماء وغضته ، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ : «ننشزها» بالزاي فمعناه : نرفعها ، والنشز المرتفع من الأرض ، ومنه قول الشاعر :

ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه

إذا ما علا نشزا حصان مجلّل


قال أبو علي وغيره : فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء ، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى : [الطويل]

قضاعيّة تأتي الكواهن ناشزا

يقال نشز وأنشزته.

قال القاضي أبو محمد : ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قلبلا ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع ، وقال النقاش : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت ، من ذلك نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك ، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [المجادلة : ١١] أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز الناب. فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز. وقرأ النخعي «ننشزها» بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة وقرأ أبي بن كعب : «كيف ننشيها» بالياء. والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها ، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري : المعنى في قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه ، (قالَ أَعْلَمُ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «أعلم أن» مقطوعة الألف مضمومة الميم. وقرأ حمزة والكسائي : «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة الميم. وقرأها أبو رجاء ، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش ، «قيل أعلم».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له. والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري. بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله : الله لا إله إلا هو ونحو هذا. وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يعني علم المعاينة ، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما ، قال الملك له «اعلم» ، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : «اعلم» وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى : [البسيط]

ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل

و ـ ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ [الطويل]


وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر : [الطويل]

تذكّر من أنّى ومن أين شربه

يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

العامل في (إِذْ) فعل مضمر تقديره واذكر. واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال الجمهور : إن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة. وترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن آية أرجى عندي منها ، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى)؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم. الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث. وقال : إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟ وأما من قال : بأن إبراهيم لم يكن شاكا ، فاختلفوا في سبب سؤاله ، فقال قتادة : إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال. وقال الضحاك : نحوه ، قال : وقد علم عليه‌السلام أن الله قادر على إحياء الموتى ، وقال ابن زيد : رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، وقال ابن إسحاق ، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له : أنا أحيي وأميت ، فكر في تلك الحقيقة والمجاز ، فسأل هذا السؤال. وقال السدي وسعيد بن جبير : بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة ، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره ، وقال سعيد بن جبير : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يريد بالخلة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما ترجم به الطبري عندي مردود ، وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول ابن عباس : هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله ، (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث ، وأما قول عطاء بن أبي رباح : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ، ولهذا قال النبي عليه‌السلام : «ليس الخبر كالمعاينة» ، وأما قول النبي عليه‌السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه‌السلام أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه‌السلام أنه قال : ذلك محض


الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه‌السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع ، وقد كان إبراهيمعليه‌السلام أعلم به ، يدلك على ذلك قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا ، وإذا تأملت سؤاله عليه‌السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، نحو قولك : كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ، وقد تكون (كَيْفَ) خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه ، (كَيْفَ) نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، و (كَيْفَ) في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول له المكذب : أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدلي ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه‌السلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك ، ثم علل عليه‌السلام سؤاله بالطمأنينة.

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى ، والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير ، و (لِيَطْمَئِنَ) معناه ليسكن عن فكره ، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة ، كما قال عليه‌السلام : «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» ، الحديث ، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظورة ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، فأراد الخليل أن يعاين ، فتذهب فكره في صورة الإحياء ، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود : أنا أحيي وأميت ، وقال الطبري : معنى (لِيَطْمَئِنَ) ليوقن. وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير ، وحكي عنه ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم : لأزداد إيمانا مع إيماني.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك ، والطاووس ، والحمام ، والغراب ، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول ، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد ، وقال ابن عباس : مكان الغراب الكركي.

وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه‌السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم والريش ، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ، ثم قال تعالين بإذن الله ، فتطايرت تلك الأجزاء


وطار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله تعالى ، وقرأ حمزة وحده : «فصرهن إليك» بكسر الصاد ، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته ، ومنه قول ذي الرمة: [الرجز]

صرنا به الحكم وعنّا الحكما

ومنه قول الخنساء : [السريع]

فلو يلاقي الذي لاقيته حضن

لظلّت الشّمّ منه وهي تنصار

أي تنقطع ويقال أيضا صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر : [الوافر]

يصور عنوقها أحوى زنيم

له صخب كما صخب الغريم

ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور ، وعن الخنا زور ، فهذا كله في ضم الصاد.

ويقال أيضا في هذين المعنيين : القطع والإمالة. صرت الشيء بكسر الصاد أصيره ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

وفرع يصير الجيد وجف كأنّه

على اللّيت قنوان الكروم الدّوالح

ففي اللفظة لغتان قرىء بهما ، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية «صرهن» معناه : قطعهن ، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن ، وقاله الضحاك ، وقال أبو الأسواد الدؤلي : هي بالسريانية ، وقال قتادة : «صرهن» فصلهن ، وقال ابن إسحاق : معناه قطعهن ، وهو الصور في كلام العرب ، وقال عطاء بن أبي رباح : (فَصُرْهُنَ) معناه اضممهن إليك. وقال ابن زيد معناه اجمعهن ، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن.

قال القاضي أبو محمد : فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة. فقوله (إِلَيْكَ) على تأويل التقطيع متعلق بخذ. وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بصرهن ، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن. وقرأ قوم «فصرّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت ، ذكره النقاش. قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل ، وإنما بابه يفعل بضم العين كشد يشد ونحوه. لكن قد جاء منه نمّ الحديث ينمّه وينمّه وهر الحرب يهرها ويهرها ومنه قول الأعشى :

ليعتورنك القول حتّى تهرّه

إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني ، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة.

قال القاضي أبو محمد : وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس ، ومنه الشاة


المصراة ، واختلف المتأولون في معنى قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة. وفي هذا القول بعد ، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع ، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها. وقرأ الجمهور : «جزءا» بالهمز ، وقرأ أبو جعفر «جزّا» بشد الزاي في جميع القرآن. وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه. وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها. قالا : وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء. وقال مجاهد : بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا. قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد ، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك فيها ، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة.

قال القاضي أبو محمد : وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا ، فلن يحيط بذلك بصره ، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله أعلم أي ذلك كان. ومعنى الآية أن إبراهيم عليه‌السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه ، ويرى كيف التأمت ، وكذلك صحت له العبرة ، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله ، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه (سَعْياً) ، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه ، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة ، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها ، فهذا أغرب منه. ثم وقف عليه‌السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء.

قوله عزوجل :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٦٢)

هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها ، وضمنها التحريض على ذلك ، وهذه الآية في نفقة التطوع ، وسبل الله كثيرة ، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة ، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته ، وأشهر ذلك البر ، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس : [البسيط].

آليت حب العراق الدهر أطعمه

والحب يأكله في القرية السوس

وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بهذا القدر ، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد


حسنتها بسبعمائة ضعف ، وبين ذلك الحديث الصحيح ، واختلف العلماء في معنى قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة. وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة ، وقالت طائفة من العلماء : بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. وليس هذا بثابت الإسناد عنه ، وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه‌السلام «رب زد أمتي». فنزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) [الحديد : ١١] ، فقال رب زد أمتي ، فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] و (سُنْبُلَةٍ) فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب ، والجمع سنابل ، وفي قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ) ، حذف مضاف ، تقديره مثل إنفاق الذين ، أو تقدره كمثل ذي حبة ، وقال الطبري في هذه الآية ، إن قوله (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) ، معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن نفرضه ثم أدخل عن الضحاك أنه قال: (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة ، فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال هو ، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك ، قال أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الآية ، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى ، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه ، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه ، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه ، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه ، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى ، وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه ، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله ، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى.

فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد ، وأنه لم يخلص لوجه الله ، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة ، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة ، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال مكي في عثمان وابن عوف رضي الله عنهما : والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ، والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المنّ ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم. قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا القول نظر ، لأن التحكم فيه باد ، وقال زيد بن أسلم : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه ، فإن عندي أسهما وجعبة ، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. وضمن الله


الأجر للمنفق في سبيل الله ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه ، لأنه يغتبط بآخرته.

قوله عزوجل :

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤)

هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله ، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة ، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر ، وهذه لا أجر فيها. وقال المهدوي وغيره التقدير في إعرابه (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أولى (وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ).

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ذهاب برونق المعنى ، وإنما يكون المقدر كالظاهر ، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج. ومن هذا قول الأعرابي ، وقد سأل قوما بكلام فصيح ، فقال له قائل : ممن الرجل؟ فقال اللهم غفرا ، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب ، وقال النقاش : يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم ، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره ، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) الآية ، العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ، فقال جمهور العلماء في هذه الآية : إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة ، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عزوجل على ما ذكرناه قبل ، فلم تترتب له صدقة ، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى ، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها ، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها ، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي (يُنْفِقُ رِئاءَ) لا لوجه الله ، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية. كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس. قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء ، وقوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر ، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك. ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان. ثم مثل هذا المنفق رئاء ب (صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) فيظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى ، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلدا ، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى. فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية. فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن


أرضا. وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير همز. ورويت عن عاصم. والصفوان الحجر الكبير الأملس. قيل هو جمع واحدته صفواته. وقال قوم واحدته صفواة ، وقيل هو إفراد وجمعه صفى ، وأنكره المبرد وقال : إنما هو جمع صفا ، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا. قال امرؤ القيس : [الطويل]

كميت يزل اللبد عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

وقال أبو ذؤيب : [الكامل]

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع

وقرأ الزهري وابن المسيب «صفوان» بفتح الفاء ، وهي لغة ، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض ، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه ، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه ، ومنه قول رؤبة : [الرجز]

برّاق أصلاد الجبين الأجله

قال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل ، وقوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ) يريد به الذين ينفقون رئاء ، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم ، وجاءت العبارة ب (يَقْدِرُونَ) على معنى الذي. وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي ، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولا على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ ، وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر ، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض ، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر ، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسير إبطال المن والأذى للصدقة.

قوله عزوجل :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٦٥)

من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن ، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا ، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة ، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله ، كأنه قال : كمثل غارس جنة ، و (ابْتِغاءَ) معناه طلب ، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو (وَتَثْبِيتاً) عليه. ولا يصح في (تَثْبِيتاً) أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في المشكل : كلاهما مفعول


من أجله وهو مردود بما بيناه ، و (مَرْضاتِ) مصدر من رضي يرضى ، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح : (وَتَثْبِيتاً) معناه وتيقنا ، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا ، وقال مجاهد والحسن : معنى قوله : (وَتَثْبِيتاً) أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؟ وقال الحسن كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك ، والقول الأول أصوب. لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتا ، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] ، وكقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر ، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر ، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت ، وقال قتادة : (وَتَثْبِيتاً) معناه وإحسانا من أنفسهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو القول الأول ، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض ، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل ، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه ، وما كان كذلك فنباته أحسن ، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري ، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال له الحزن ، وقل ما يصلح هواء تهامة إلا بالليل ، ولذلك قالت الأعرابية : زوجي كليل تهامة ، وقال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله ، لأن قوله تعالى : (أَصابَها وابِلٌ) إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء ، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين ، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر ، وقال الحسن : الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء ، وهذا أيضا أراد أنها ليست كالجبل والضرب ونحوه ، وقال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيرا ، وقال السدي (بِرَبْوَةٍ) أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض ، قال أبو محمد : وهذه عبارة قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد ، يقال «ربوة» بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. ويقال «ربوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر ، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين ، ويقال ربوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه. ويقال رباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها ، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن ، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي ، (وَآتَتْ) معناه أعطت ، و «الأكل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل ، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار ، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أكلها» بضم الهمزة وسكون الكاف ، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك ، وخففاه ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال أكل


وأكل بمعنى ، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم ، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل ، و (ضِعْفَيْنِ) معناه : اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها ، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنهاإن (لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل ، وذلك لكرم الأرض ، والطل المستدق من القطر الخفيف ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو مشهور اللغة ، وقال قوم الطل الندى ، وهذا تجوز وتشبيه ، وقد روي ذلك عن ابن عباس. قال المبرد : تقديره (فَطَلٌ) يكفيها. وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل ، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا ، وفي قوله تعال: (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعد ووعيد ، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع. أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض.

قوله عزوجل :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)

حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء ، ورجح هو هذا القول ، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، قال ثم ضرب في ذلك مثلا فقال : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين من الذي رجح الطبري ، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء ، هذا هو مقتضى سياق الكلام ، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعا ، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا ، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم ، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير ، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فرضي ذلك عمر ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ، وقال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء.

قال القاضي أبو محمد : فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها ، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم ، وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن «جنات» بالجمع ، وقوله (مِنْ تَحْتِهَا) هو تحت بالنسبة إلى الشجر ، والواو في قوله (وَأَصابَهُ) واو الحال ، وكذلك في قوله : (وَلَهُ) و (ضُعَفاءُ) جمع ضعيف وكذلك ضعاف ، وال (إِعْصارٌ) الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه ، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة


فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وإن النار اشتكت إلى ربها» ، الحديث بكماله ، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها ، قال السدي : الإعصار الريح ، والنار السموم ، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة ، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار.

قال القاضي أبو محمد : يريد من نار الآخرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) ريح فيها صر ، برد ، وقاله الضحاك ، وفي المثل : إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا ، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب ، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح ، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي ، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب ، وقال الزجاج : الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة ، قال المهدوي : قيل لها (إِعْصارٌ) لأنها تلتف كالثوب إذا عصر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة ، و (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حق البشر ، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن عباس (تَتَفَكَّرُونَ) في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٢٦٧)

هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه صيغة أمر من الإنفاق ، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق ، الزكاة المفروضة أو التطوع ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين : هي في الزكاة المفروضة. نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة ، فالأمر على هذا القول للوجوب ، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أن الآية في التطوع ، وروى البراء بن عازب ، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفا فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بئسما علق هذا ، فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : والأمر على هذا القول على الندب ، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار ، والآية تعم الوجهين ، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى (مِنْ طَيِّباتِ) من جيد ومختار (ما كَسَبْتُمْ) ، وجعلوا (الْخَبِيثَ) بمعنى الرديء والرذالة ، وقال ابن زيد معناه : من حلال ما كسبتم ، قال : وقوله: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي الحرام.

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه ، وقوله :


(مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول : أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث ، و (كَسَبْتُمْ) معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه ، إذ الضمير في (كَسَبْتُمْ) إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و (تَيَمَّمُوا) معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

تيمّمت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام

ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

تيمّمت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن

ومنه التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب «ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى (الْخَبِيثَ) وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : (الْخَبِيثَ) ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال : (تُنْفِقُونَ) منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على (الْخَبِيثَ). قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله (فِيهِ).

قال القاضي أبو محمد : فالضمير في (مِنْهُ) عائد على (ما كَسَبْتُمْ) ، ويجيء (تُنْفِقُونَ) كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم : معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن


عازب أيضا : معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا) أي تستحيي من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ، ولا قدر له في نفسه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يشبه كون الآية في التطوع ، وقال ابن زيد معنى الآية : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه ، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا ، وروي عنه أيضا «تغمّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء. وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا قال أبو عمرو معناه : إلا أن يغمض لكم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم : [الخفيف]

لم يفتنا بالوتر قوم وللذ

لّ أناس يرضون بالإغماض

وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر :

إلى كم وكم أشياء منكم تريبني

أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه ، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر كما تقول : أعمن إذا أتى عمان ، وأعرق إذا أتى العراق ، وأنجد ، وأغور ، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة ، ومنه قول الجارية : وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره ، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم ، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان.

قال القاضي أبو محمد : وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها. ويحتمل أن تكون من تغميض العين. وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها. وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس ، وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة ، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر ، و (حَمِيدٌ) معناه محمود في كل حال ، وهي صفة ذات.

قوله عزوجل :

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً


وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩)

هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمرا بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة ، بين عزوجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته ، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها ، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عزوجل وغير ذلك ، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى. والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو (الْفَقْرَ) و «الفحشاء» كل ما فحش وفحش ذكره ، ومعاصي الله كلها فحشاء ، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفقر» بضم الفاء ، وهي لغة ، وقال ابن عباس : في الآية اثنتان من الشيطان ، واثنتان من الله تعالى ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجد ذلك فليتعوذ ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله ، ثم قرأ عليه‌السلام (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ) الآية ، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة ، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة ، وبكل قد وعد الله تعالى ، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.

قال القاضي أبو محمد : وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقه : وهو (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : ٣٩] و (واسِعٌ) لأنه وسع كل شيء رحمة وعلما ، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) أي يعطيها لمن يشاء من عباده ، واختلف المتأولون في (الْحِكْمَةَ) في هذا الموضع فقال السدي : (الْحِكْمَةَ) النبوءة ، وقال ابن عباس : هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته. وقال قتادة : (الْحِكْمَةَ) الفقه في القرآن ، وقاله مجاهد : وقال مجاهد أيضا : (الْحِكْمَةَ) الإصابة في القول والفعل ، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم : (الْحِكْمَةَ) العقل في الدين ، وقال مالك : (الْحِكْمَةَ) المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : (الْحِكْمَةَ) التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضا (الْحِكْمَةَ) طاعة الله والفقه في الدين والعمل به ، وقال الربيع : (الْحِكْمَةَ) الخشية ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : «رأس كل شيء خشية الله تعالى» ، وقال إبراهيم : (الْحِكْمَةَ) الفهم وقاله زيد بن أسلم ، وقال الحسن : (الْحِكْمَةَ) الورع ، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة ف (مَنْ) مفعول أول مقدم و (الْحِكْمَةَ) مفعول ثان ، وقرأ الأخفش : «ومن


يؤته الحكمة» ، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من تشاء» بالتاء في «تؤتي» و «تشاء» منقوطة من فوق ، «ومن يؤت الحكمة» بالياء ، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة ، والألباب العقول واحدها لب.

قوله عزوجل :

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١)

كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها ، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعا وما يفعله بعد إلزامه لنفسه ، ويقال : نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذر» بضم الذال «وينذر» بكسرها ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) قال مجاهد : معناه يحصيه ، وفي الآية وعد ووعيد ، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا يجد ناصرا فيه ، ووحد الضمير في (يَعْلَمُهُ) وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص ، وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) الآية ، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع ، قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، يقال بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا ، قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقوي ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة ، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك ، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع ، وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر ، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح ، فقد قال الطبري : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل ، قال المهدوي : وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به ، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه‌السلام ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع ، قال أبو محمد : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء ، وقال النقاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة : ٢٧٤] ، وقوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء ، واختلف القراء في قوله (فَنِعِمَّا هِيَ) ، فقرأ نافع في غير رواية ورش ، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل «فنعمّا» بكسر النون وسكون «فنعمّا» بكسر النون والعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعمّا» بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم ، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين ، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف


مد ، إذ المد يصير عوضا من الحركة ، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه ، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ، ذلك في السمع وخفائه ، وأما من قرأ «نعمّا» بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة «نعم» بكسر الفاء من أجل حرف الحلق ، ولا يجوز أن يكون ممن يقول «نعم» ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم ، لا يدغم ، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد ، قال سيبويه «نعما» بكسر النون والعين ليس على لغة من قال «نعم» فأسكن العين ، ولكن على لغة من قال «نعم» فحرك العين ، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال «نعما» ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين ، قال أبو علي وأما من قرأ «نعمّا» بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر :

ما أقلّت قدماي أنهم

نعم الساعون في الأمر المبر

ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعم» بسكون العين ، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل ، وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين ، قال أبو علي : وما من قوله «نعما» في موضع نصب ، وقوله (هِيَ) تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير : نعم شيئا إبداؤها. والإبداء هو المخصوص بالمدح. إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويدلك على هذا قوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الإخفاء خير ، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات ، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء ، وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه ، واختلف القراء في قوله تعالى : و (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ) فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر : «ونكفر» بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «ونكفر» بالنون والجزم في الراء ، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم ، وقرأ ابن عامر : «ويكفر» بالياء ورفع الراء ، وقرأ ابن عباس وتكفر بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء ، وقرأ عكرمة : وتكفر بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء ، وقرأ الحسن : «ويكفر» بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أنه قرأ : (وَيُكَفِّرُ) بالياء ونصب الراء ، وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش : «يكفر» بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء ، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ : «وتكفر» بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة ، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر ، والإعطاء في خفاء هو المكفر ، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين : أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء ، تقدير ونحن نكفر ، أو وهي تكفر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفر ، والثاني : القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة ، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى : (فَهُوَ خَيْرٌ) إذ هو في موضع


جزم جوابا للشرط ، كأنه قال : وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم ، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ : من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف : ١٨٦] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة ، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل ، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات ، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى ، و (مِنْ) في قوله: (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) للتبعيض المحض ، والمعنى في ذلك متمكن ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: (مِنْ) زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ ، وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعد ووعيد.

قوله عزوجل :

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢)

روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم ، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام ، وذكر النقاش أن النبي عليه‌السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال : أعطني ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء» ، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه ، ثم نسخ الله ذلك بآية (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) [التوبة : ٦٠] وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا ، فنزلت الآية في ذلك ، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) قال أبو محمد : وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر ، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا ، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ، ولم يذكر خلافا ، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود عندي ، والهدى الذي ليس على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم ، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد في هذه الآية ، ثم أخبر تعالى أنه هو : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يرشده ، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة ، ثم أخبر أن نفقة المرء


تأجرا إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت ، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله ، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله ، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل ، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة ، ونصب قوله (ابْتِغاءَ) هو على المفعول من أجله ، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئا ، فيكون ذلك أبخس ظلما لهم ، وهذا هو بيان قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ، نحو قوله تعالى : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] وقوله تعالى : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] إلى غير ذلك ، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة : كل خير في كتاب الله فهو المال.

قوله عزوجل :

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢٧٣)

هذه اللام في قوله (لِلْفُقَراءِ) متعلقة بمحذوف مقدر ، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء ، وقال مجاهد والسدي وغيرهما : المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ، قال الفقيه أبو محمد : ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر ، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم ، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم ، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم ، بقوله : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار ، حكاه ابن سيده وغيره ، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو. وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار. وحصر بالعدو. وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري. وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر ، فصار خوف العدو عذرا أحصروا به.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر ، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر ، فالعدو وكل محيط يحصر ، والأعذار المانعة «تحصر» بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به ، وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ، واللفظ يتناولهما ، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة ، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز ، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا ، وهذا في صدر الهجرة ، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد. وإنكار الكفار عليهم إسلامهم


يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بباطن أحوالهم (أَغْنِياءَ) و (التَّعَفُّفِ) تفعل ، وهو بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسبهم» بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في كل القرآن ، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك ، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة ، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به ، وإن كان شاذا عن القياس ، و (مِنَ) في قوله : (مِنَ التَّعَفُّفِ) لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف ، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال ، ومحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) : المعنى لا يسألون البتة. وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس ، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول : السيمياء بزيادة ياء وبالمد ، ومنه قول الشاعر : [الطويل].

له سيمياء لا تشقّ على البصر

واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال السدي والربيع : هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : هي رثة الثياب ، وقال قوم ، وحكاه مكي : هي أثر السجود.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة ، فكان أثر السجود عليهم أبدا ، و «الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد ، وقال قوم : هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية ، ومنه اللحاف ، ومنه قول ابن الأحمر : [الوافر]

يظلّ يحفّهنّ بقفقفيه

ويلحفهنّ هفهافا ثخينا

يصف ذكر نعام يحضن بيضا ، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك ، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط ، أما الأولى فعلى أن يكون (التَّعَفُّفِ) صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون (مِنَ) لابتداء الغاية ويكون قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين. فقولك : «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه.


وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون (التَّعَفُّفِ) داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا ، بل هو قليل.

وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف (مِنَ) لبيان الجنس على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمه‌الله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف. وهذا كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

على لاحب لا يهتدى بمناره.

أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [البسيط].

قف بالطّلول التي لم يعفها القدم

وقول الشاعر : [المتقارب]

ومن خفت من جوره في القضا

ء فما خفت جورك يا عافيه

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجودا ، فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذا لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذا لا يكون خوف ، وقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : (إِلْحافاً) جزءا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسبا أو نحوه لصح الشبه ، والله المستعان وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما


يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥)

قال عبد الله بن عباس : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية ، وقال ابن جريج : نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم عليا ولا غيره ، وقال ابن عباس أيضا نزلت هذه الآية في علف الخيل ، وقاله عبد الله بن بشر الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا : هي في علف الخيل والمرتبطة في السبيل ، وقال قتادة هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه ، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولا محكما ، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧١] إلى قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٢٧٤] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها ، وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن ، والفاء في قوله : (فَلَهُمْ) دخلت لما في (الَّذِينَ) من الإبهام ، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط. فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط ، وإنما يوجد الشبه إذا كان الذي موصولا بفعل وإذا لم يدخل على «الذي» عامل يغير معناه ، فإن قلت : الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو ، بل تلبس المعنى ، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء مدخل في المعنى ، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى ، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد : (لا يَقُومُونَ) وقوله عزوجل : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية ، (الرِّبا) هو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبة ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب بالألف. قال الكوفيون : يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله. وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحا نحو صفا فكما قال البصري. ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) ، وقال ابن عباس رضي الله


عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : (لا يَقُومُونَ) من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفة ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن في قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».

قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [الطويل]

وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما

ألم بها من طائف الجنّ أولق

لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل و (يَتَخَبَّطُهُ) «يتفعله» من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله. و (الْمَسِ) الجنون ، وكذلك الأولق والألس والرود ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) معناه عند جميع المتأولين في الكفار ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها.

والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل (فَلَهُ ما سَلَفَ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخير في قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وقال بعض العلماء في قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس. وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس. وسقطت علامة التأنيث في قوله : (فَمَنْ جاءَهُ) لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة ، وقوله : (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و (سَلَفَ) معناه تقدم في الزمن وانقضى.

وفي قوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والثاني أن يكون الضمير عائدا على (ما سَلَفَ). أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره. وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) يعني إلى فعل الربا والقول (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد


حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي.

قوله عزوجل :

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٧)

(يَمْحَقُ) معناه : ينقص ويذهب ، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه ، (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا ، تقول : ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله ، أو فلوه ، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد».

قال القاضي أبو محمد : وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم ، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة ، وقرأ ابن الزبير: «يمحّق الله» بضم الياء وكسر الحاء مشددة ، «ويربّي» بفتح الراء وشد الباء ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ووصف الكفار ب (أَثِيمٍ) ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان ، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار ، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض. قاله ابن فورك قال ومعنى قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُ) أي لا يحب الكفار الأثيم.

قال القاضي أبو محمد : محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا ، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم. وهذه تأويلات مستكرهة ، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به ، وحرص على حفظه ، وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن ، ولما انقضى ذكرهم عقب بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين.

فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، وقد تقدم تفسير مثل ألفاظ هذه الآية ، وخص (الصَّلاةَ) و (الزَّكاةَ) بالذكر وقد تضمنهما عمل (الصَّالِحاتِ) تشريفا لهما ، وتنبيها على قدرهما ، إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن ، والزكاة في أعمال المال.


قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٢٧٩)

سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت ، وكان بين قريش وثقيف ربا ، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح : «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ، فبدأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعمه وأخص الناس به ، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته ، فيستفيض حينئذ في الناس ، ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد ، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا ، منها ما أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها ما لم يعطه ، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، فيروى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية ، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.

وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء ، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف ، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع ، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة ، فكتب به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية ، وكتب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت ، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم.

فمعنى الآية ، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله :

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلا فافعل كذا ، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال : (إِنْ) في هذه الآية بمعنى إذ.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مردود لا يعرف في اللغة ، وقال ابن فورك: يحتمل أنه يريد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمن قبل محمد من الأنبياء ، (ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية ، ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته ، والحرب داعية القتل ، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لأكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، وقال ابن عباس أيضا : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، وقال قتادة : أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا ، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم ، وقال لهم : (لا تَظْلِمُونَ) في أخذ الربا (وَلا تُظْلَمُونَ)


في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم ، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل ، لأن مطل الغني ظلم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح ، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر ، فقال كعب : نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للآخر : قم فاقضه ، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات ، وقرأ الحسن «ما بقي» بكسر القاف وإسكان الياء ، وهذا كما قال جرير : [البسيط]

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

ووجهها أنه شبه الياء بالألف ، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء ، وفي هذا نظر ، وقرأ أبو السمال من «الرّبو» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو ، وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين :

أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما ، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل ، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فيقول رأيت ذا قام ، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم ، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي : «فأذنوا» مقصورة مفتوحة الذال ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «فآذنوا» ممدودة مكسورة الذال.

قال سيبويه : آذنت أعلمت ، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال : وبعض يجري آذنت مجرى أذنت ، قال أبو علي : من قال : «فأذنوا» فقصر ، معناه فاعلموا الحرب من الله ، قال ابن عباس وغيره من المفسرين : معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله ، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها ، إذ هم الآذنون بها وفيها ، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك ، قال أبو علي : ومن قرأ «فآذنوا» فمد ، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم ، فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل لهم : «فأذنوا» فقد عمهم الأمر ، وإن قيل لهم : «فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا ، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء


والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم ، ترك الربا أو الحرب ، وقرأ جميع القراء «لا تظلمون» بفتح التاء و «لا تظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره.

وروى المفضل عن عاصم : لا «تظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال أبو علي: وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله (فَإِنْ تُبْتُمْ) في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال المهدوي : وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وحكى مكي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر به في صدر الإسلام.

قال القاضي أبو محمد : فإن ثبت فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ ، و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة ، والنظرة التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع (ذُو عُسْرَةٍ) ب (كانَ) التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما ، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة ، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين ، حكاه الطبري : بل هي (كانَ) الناقصة والخبر محذوف ، تقديره (وَإِنْ كانَ) من غرمائكم (ذُو عُسْرَةٍ) وارتفع قوله : (فَنَظِرَةٌ) على خبر ابتداء مقدر ، تقديره فالواجب نظرة ، أو فالحكم نظرة.

قال الطبري : وفي مصحف أبي بن كعب : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) على معنى وإن كان المطلوب ، وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة».

قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب ، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ، «فإن كان» بالفاء (ذُو عُسْرَةٍ) بالواو ، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن : «فنظرة» بسكون الظاء ، وكذلك قرأ الضحاك ، وهي على تسكين الظاء من نظرة ، وهي لغة تميمية ، وهم الذين يقولون : كرم زيد بمعنى كرم ، ويقولون : كبد في كبد ، وكتف في كتف ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة ، وقال الزجّاج : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢] وكقوله تعالى : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٥] ، وكخائنة الأعين وغيره ، وقرأ نافع


وحده «ميسرة» بضم السين ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة ، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب ، لأن مفعلة بضم العين قليل.

قال أبو علي : قد قالوا : مسربة ومشربة ، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم ، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضا ومجاهد : «فناظره إلى ميسره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم ، وضما السين من «ميسره» وكسرا الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم ، فأما ناظره ففاعله من التأخير ، كما تقول : سامحه ، وأما ميسر فشاذ ، قال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، قال أبو علي يريد في الآحاد ، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد : [الرمل]

أبلغ النّعمان عنّي مألكا

أنّه قد طال حبسي وانتظار

وقول جميل : [الطويل]

بثين الزمي ـ لا ـ إنّ ـ لا ـ إن لزمته

على كثرة الواشين أيّ معون

فالأول جمع مالكة ، والآخر جمع معونة ، وقال ابن جني : إن عديا أراد مالكة فحذف ، وكذلك جميل أراد أي معونة ، وكذلك قول الآخر : [الرجز]

«ليوم روع أو فعال مكرم»

«أراد مكرمة» ، فحذف قال : ويحتمل أن تكون جموعا كما قال أبو علي.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة ، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ ، وقد خطأه بعض الناس ، وكلام سيبويه يرده ، واختلف أهل العلم : هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة : واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟

فقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها ، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح ، فالحكم هي النظرة ضرورة ، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة ، فسره الضحاك.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) ابتداء وخبره (خَيْرٌ) ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته ، بل هي كقول جمهور الناس ، وليس في الآية مدخل للغني ، وقرأ جمهور القراء : «تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم «وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا» بفك الإدغام.

وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا ، وقبض


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة. وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل ، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم ، قال : آخر آية قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين ، وروي أن قوله عزوجل : (وَاتَّقُوا) نزلت قبل موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وروي بثلاث ليال ، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه قال عليه‌السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وحكى مكي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ، من البقرة.

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) إلى آخر الآية ، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان ، و (يَوْماً) منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم ، وقرأ باقي السبعة «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم ، فمثل قراءة أبي عمرو (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] ومثل قراءة الجماعة (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) [الأنعام : ٦٢] (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) [الكهف : ٣٦] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير ، وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس.

قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تنفطر له القلوب. فقال لهم : (وَاتَّقُوا يَوْماً) ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم ، وقرأ أبي بن كعب «يوما تردون» بضم التاء ، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية ، وقال قوم هو يوم الموت ، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية ، وفي قوله : (إِلَى اللهِ) مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه ، وقوله (وَهُمْ) رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون» ، فقوله : (وَهُمْ) رد على ضمير الجماعة في «يرجعون» ، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ)

قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة.

قال القاضي أبو محمد : معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا ، وبين تعالى بقوله : (بِدَيْنٍ) ما في قوله : (تَدايَنْتُمْ) من الاشتراك ، إذ قد يقال في كلام العرب : تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضا. ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز ، فكأن الآية رفضتها ، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل ، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب


على أربابها فرض بهذه الآية ، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣]. وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : (فَإِنْ أَمِنَ) ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وقال جمهور العلماء : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب ، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق ، وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ، وهذا هو القول الصحيح ، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك (فَلْيُؤَدِّ) [البقرة : ٢٨٣] الآية ، فهذه وصية للذين عليهم الديون ، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان ، وأما الطبري رحمه‌الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج ، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك.

واختلف الناس في قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ) فقال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقال الشعبي وعطاء أيضا : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ ، وقوله تعالى : (بِالْعَدْلِ) معناه بالحق والمعدلة ، والباء متعلقة بقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ) ، وليست متعلقة ب (كاتِبٌ) لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين ، وقال مالك رحمه‌الله : لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية ، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى وأبا يأبى ، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق ، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين ، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله (وَلا يَأْبَ) منسوخ بقوله (لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة : ٢٨٢] والكاف في قوله (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) متعلقة بقوله : (أَنْ يَكْتُبَ) المعنى كتبا كما علمه الله ، هذا قول بعضهم ، ويحتمل أن تكون (كَما) متعلقة بما في قوله (وَلا يَأْبَ) من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل الله عليه ، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله : (أَنْ يَكْتُبَ) ، ثم يكون قوله : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله (فَلْيَكْتُبْ).

قال القاضي أبو محمد : وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين ، ولا وجوب الندب ، بل له الامتناع إلا إن استأجره ، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر ، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج : ٧٧] وهو من باب عون الضائع.

قوله عزوجل :

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ


سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)

أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره ، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن (يَبْخَسْ) شيئا من الحق ، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة ، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا ، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن.

فقال (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك ، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج ، والسفه الخفة ، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة : [الطويل].

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي ، وذلك هو وليه ، ثم قال : (أَوْ ضَعِيفاً) والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة ، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا ، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، و (وَلِيُّهُ) وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر ، و (وَلِيُّهُ) وكيله ، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع ، فهذه أصناف تتميز ، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها ، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد ، وربما اجتمعت كلها في شخص ، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق ، وقال بعض الناس : السفيه الصبي الصغير ، وهذا خطأ ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق ، وهذا قول حسن ، وجاء الفعل مضاعفا في قوله : (أَنْ يُمِلَ) لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة ، والفك في هذا الفعل لغة قريش. و (بِالْعَدْلِ) معناه بالحق وقصد الصواب ، وذهب الطبري إلى أن الضمير في (وَلِيُّهُ) عائد على (الْحَقُ) ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة ، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع (أَنْ يُمِلَ) بمرضه إذا كان عاجزا عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به ، وهذا معنى لم تعن الآية إليه ، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض.

قوله عزوجل :

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)

الاستشهاد : طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في (شَهِيدَيْنِ) دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ،


فكأنها إشارة إلى العدالة : وقوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا ، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق ، واسم كان الضمير الذي في قوله (يَكُونا).

والمعنى في قول الجمهور ، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما ، وقال قوم : بل المعنى فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا قول ضعيف ، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور ، وقوله : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) مرتفع بأحد ثلاثة أشياء ، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان ، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون (يَكُونا) هذه التامة والناقصة ، ولكن التامة أشبه ، لأنه يقل الإضمار ، وإما فرجل وامرأتان يشهدون ، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأتان» بهمز الألف ساكنة.

قال ابن جني : لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة فقربت من الساكن ، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفا ساكنة كما قال الشاعر : [الطويل].

يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل

لعمري لقد أعيلت وأن رقوب

يريد «وأنا» ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي. وهي ساكنة وفي هذا نظر ، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها» وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح : فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه ، ولا يكاد يقنع بمثله ، وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) رفع في موضع الصفة لقوله عزوجل : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ).

قال أبو علي : ولا يدخل في هذه الصفة قوله : (شَهِيدَيْنِ) اختلاف الإعراب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حكم لفظي ، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين.

قال ابن بكير وغيره : قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) مخاطبة للحكام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير نبيل ، إنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض ، وفي قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) دليل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة وحده : «إن تضل» بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذكر» بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش. وقرأها الباقون «أن تضل» بفتح الألف «فتذكر» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف ، وشددها الباقون ، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله : (أَنْ تَضِلَ) ، و (أَنْ) مفعول من أجله والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر


إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه : وهذا كما تقول : أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث ، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به ، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها ، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة ، إذ لو قال رجل لك : أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط ، لقال السامع : ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال : إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال أبو عبيد : معنى (تَضِلَ) تنسى.

قال القاضي أبو محمد : والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا ، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها ، فأما قراءة حمزة فجعل (أَنْ) الجزاء ، والفاء في قوله (فَتُذَكِّرَ) جواب الجزاء ، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور ، وهما المرأتان ، وارتفع «تذكر» كما ارتفع قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] هذا قول سيبويه.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وأما نصب قوله «فتذكر» على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب (أَنْ) ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر ، يقال : ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز ، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة أنهما قالا : معنى قوله : «فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة ، لأن شهادة امرأة تصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، وهذا تأويل بعيد ، غير فصيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر ، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين ، وأحدهما في الآية محذوف ، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة» ، التي ضلت عنها ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر : «أن تضل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني ، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما ، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكر» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء ، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل ، واختلف قول مالك في شهادتهما ، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين ، أو فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك ، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال ، وخالف في ذلك أشهب وغيره ، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال ، ففيها قولان في المذهب.

قوله عزوجل :

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا)

قال قتادة والربيع وغيرهما : معنى الآية ، إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم ، وفي هذا المعنى


نزلت ، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية جمعت أمرين : لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس ، وقال مجاهد : معنى الآية ، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك ، وأسند النقاش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولا ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب ، وقاله لا حق بن حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.

قال القاضي أبو محمد : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له ، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة ، وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء ، (وَلا تَسْئَمُوا) معناه تملوا ، و (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) حالان من الضمير في (تَكْتُبُوهُ) ، وقدم الصغير اهتماما به ، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم ، فخيف عليهم أن يملوا الكتب و (أَقْسَطُ) معناه أعدل. وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ ، فانظر هل هو من قسط بضم السين؟ كما تقول : «أكرم» من «كرم» يقال : (أَقْسَطُ) بمعنى عدل وقسط بمعنى جار ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] ومن قدر قوله تعالى : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضا أفعل من الرباعي ، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ ، (وَأَدْنى) معناه أقرب ، و (تَرْتابُوا) معناه ، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي. «يسأموا» و «يكتبوا» و «يرتابوا» كلها بالياء على الحكاية عن الغائب.

قوله عزوجل :

(إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢)

لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك : هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي ، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقوله تعالى : (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارة» نصبا ، وقرأ الباقون «تجارة» رفعا ، قال أبو علي وأشك في ابن عامر ، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت


عن خبر ، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب ، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع ، وأما من نصب فعلى خبر كان ، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها ، وإما (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) التجارة (تِجارَةً) ، ويكون ذلك مثل قول الشاعر : [الطويل].

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

أي إذا كان اليوم يوما.

قال القاضي أبو محمد : هكذا أنشد أبو علي البيت ، وكذلك أبو العباس المبرد ، وأنشده الطبري: [الطويل]

ولله قومي أيّ قوم لحرّة

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب.

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره ، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما : ذلك على الندب ، وقال ابن عمرو والضحاك : ذلك على الوجوب ، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها ، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري.

قال القاضي أبو محمد : والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا.

وحكى المهدوي عن قوم أنهم قالوا : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) منسوخ بقوله (فَإِنْ أَمِنَ) [البقرة : ٢٨٣] ، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري.

واختلف الناس في معنى قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم : المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها ، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا : لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا.

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول ، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارر» بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم : معنى الآية (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكاتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما ، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول ، ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها ، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم


فاعله ، وأصل (يُضَارَّ) على القول الثاني «يضارر» بفتح الراء ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارر» بالفك وفتح الراء الأولى ، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة ، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا ، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضا فتحها ، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضار» بجزم الراء ، قال أبو الفتح : تسكين الراء مع التشديد فيه نظر ، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى «كاتبا ولا شهيدا» بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر ، ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضار» بالإدغام وكسر الراء للالتقاء ، وقرأ ابن محيصن «ولا يضار» برفع الراء مشددة ، قال ابن مجاهد : ولا أدري ما هذه القراءة؟

قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف ، وذلك على أن تجعل (لا) نفيا أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر : [الطويل]

على الحكم المأتيّ يوما إذا انقضى

قضيّته أن لا يجوز ويقصد

فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارّ» على معنى وينبغي أن لا يضار ، قال : وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من النظر الأول.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر ، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار ، وفيه إبطال الحق ، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد بأن يقال لهما : أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة ، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع ، وقوله (بِكُمْ) تقديره فسوق حال بكم ، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره ، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣)

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال


الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر ، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.

وقد رهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير ، فقال : إنما يريد محمد أن يذهب بمالي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ، ولو ائتمنني لأديت ، اذهبوا إليه بدرعي».

وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن ، وفي الحضر ثابت في الحديث.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية ، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى ، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر ، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته ، وقوي قولهما في الائتمان ، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن ، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر ، قال مكي : وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام.

قال القاضي أبو محمد : ومثله صاحب وصحاب ، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة ، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة ، فنفي الكتاب يعمها ، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب ، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب ، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا» ، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا».

وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان» ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : رهن الشيء في كلام العرب معناه : دام واستمر ، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده : ورهنه أي أدامه ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر : [السريع]

اللحم والخبز لهم راهن

وقهوة راووقها ساكب

أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له ، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن ، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة : [البسيط]


يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا

عيدية أرهنت فيها الدّنانير

العيد بطن من مهرة ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق : أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم ، وقال أبو علي يقال : أرهنت في المغالاة ، وأما في القرض والبيع فرهنت.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال بلا خلاف في البيع والقرض : رهنت رهنا ، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع ، ونقل إلى التسمية ، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر ، تقول : رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا ، لا كما تقول : رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا ، قال أبو علي : وقد يقال في هذا المعنى أرهنت ، وفعلت فيه أكثر ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]

يراهنني ويرهنني بنيه

وأرهنه بنيّ بما أقول

وقال الأعشى : [الكامل]

حتّى يقيدك من بنيه رهينة

نعش ويرهنك السّماك الفرقدا

فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة : [المتقارب]

ولمّا خشيت أظافرهم

نجوت وأرهنتهم مالكا

قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت ، وقاله ابن الأعرابي ، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.

قال القاضي أبو محمد : فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن ، ك «كبش» و «كباش» ، و «كعب» وكعاب ، ونعل ونعال ، وبغل وبغال ، ومن قرأ «فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن ، ك «سقف وسقف ، وأسد وأسد ، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما ، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء فهو تخفيف رهن ، وهي لغة في هذا الباب كله ، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك ، قال أبو علي : وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال ، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى : [الكامل]

آليت لا أعطيه من أبنائنا

رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا

قال الطبري : تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء ، ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة : [الطويل]

وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما

تقوّب عن غربان أوراكها الخطر


ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.

وقوله عزوجل : (مَقْبُوضَةٌ) يقتضي بينونة المرتهن بالرهن ، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.

واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض ، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما : ليس قبض العدل بقبض ، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ) الآية ، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء ، وقوله (فَلْيُؤَدِّ) أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير ، وقوله (أَمانَتَهُ) مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر ، كأنه قال : فليحفظ مروءته ، فيجيء التقدير : فليؤد ذا أمانته ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة ، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط ، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره ، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وهذا خطأ أيضا لا يجوز ، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له ، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة ، وكذلك ما كان مثله.

وقوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) نهي على الوجوب بعدة قرائن ، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق ، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر ، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة ، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام ، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق ، و (آثِمٌ) معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة ، وإعرابه أنه خبر «إن» ، و (قَلْبُهُ) فاعل ب (آثِمٌ) ، ويجوز أن يكون ابتداء و (قَلْبُهُ) فاعل يسد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، ويجوز أن يكون (قَلْبُهُ) بدلا على بدل البعض من الكل.

وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه‌السلام ، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء ، قال مكي هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة.

وفي قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد.


قوله عزوجل :

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤)

المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة ، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره ، وعبر ب (ما) وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد ، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه ، إذ هي ثلاثة : ملائكة ، وإنس ، وجن ، وأجناس الغير كثيرة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) معناه أن الأمر سواء ، لا تنفع فيه المواراة والكتم ، بل يعلمه ويحاسب عليه ، وقوله : (فِي أَنْفُسِكُمْ) تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز.

واختلف الناس في معنى هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب ، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا ، وشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا ، فقالوها ، فأنزل الله بعد ذلك (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك ، هذا معنى الحديث المروي ، لأنه تطرق من جهات ، واختلفت عباراته واستثبتت عبارةهؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية ، (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ثم قال : والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن ، ثم بكى حتى سالت دموعه ، وسمع نشيجه ، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية فنسخت الوسوسة ، وثبت القول والفعل ، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى ، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة ، قال الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها ، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى ، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وذلك أن قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ


تُخْفُوهُ) معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه ، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها ، ونص على حكمه أنه (لا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هو أمر غالب ، وليست مما يكسب ولا يكتسب ، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم ، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.

ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران ، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه ، وتشبه الآية حينئذ قوله عزوجل (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه : التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك.

وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين ، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفر» ، «ويعذب» جزما ، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفر» و «يعذب» رفعا ، فوجه الجزم أنه أتبعه ما قبله ولم يقطعه ، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم ، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول ، وقطعه على أحد وجهين ، إما أن تجعل الفعل خبرا لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها ، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفر» و «يعذب» بالنصب على إضمار «أن» ، وهو معطوف على المعنى كما في قوله : (فَيُضاعِفَهُ) [الحديد ١١] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء ، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال ابن جني هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة ، وهذا كقول الشاعر : [الطويل]

رويدا بني شيبان بعض وعيدكم

تلاقوا غدا خيلي على سفوان

تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى

إذا ما غدت في المأزق المتدان

فهذا على البدل ، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول.

وقوله تعالى : (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد ، قال النقاش يغفر لمن يشاء ، أي لمن ينزع عنه ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي من أقام عليه ، وقال سفيان الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير.

قال القاضي أبو محمد : وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق ، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله


عليه وسلم ، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم على ذلك.

ومسألة تكليف ما لا يطاق ، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء ، إذ ما ذكر جزء منها.

قوله عزوجل :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥)

سبب هذه الآية أنه لما نزلت (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) الآية التي قبلها. وأشفق منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على أن (قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه ، و (آمَنَ) معناه صدق ، و (الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) هو القرآن وسائر ما أوحي إليه ، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن ، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون» ، و (كُلٌ) لفظة تصلح للإحاطة ، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام ، ولما وردت هنا بعد قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر.

والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه.

والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم.

والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ما أخبر هو به ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه» على الجمع ، وقرؤوا في التحريم و «كتابه» على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه» على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه» على التوحيد فيهما ، وروى حفص عن عاصم هاهنا وفي التحريم «وكتبه» مثل أبي عمرو ، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، فمن جمع أراد جمع كتاب ، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى ، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا : نسج اليمن ، وقال أبو علي في صدر كلامه : أما الإفراد في


قول من قرأ «وكتابه» فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير ، كقوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٤] ونحو ذلك ، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك ، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة ، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها ، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف ، ومنه قول ابن الرقاع :

يدع الحيّ بالعشيّ رعاها

وهم عن رغيفهم أغنياء

ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، وقرأت الجماعة «ورسله» بضم السين ، وكذلك «رسلنا» و «رسلكم» و «رسلك» إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا» و «رسلكم» ، وروي عنه في «رسلك» التثقيل والتخفيف ، قال أبو علي من قرأ «على رسلك» بالتثقيل فذلك أصل الكلمة ، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب ، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل ، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتبه ورسله» بسكون التاء والسين ، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله» ، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق» بالنون ، والمعنى يقولون لا نفرق ، وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق» بالياء ، وهذا على لفظ (كُلٌ) ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون» ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

وقوله تعالى : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر ، والطاعة قبول الأوامر ، و (غُفْرانَكَ) مصدر كالكفران والخسران ، ونصبه على جهة نصب المصادر ، والعامل فيه فعل مقدر ، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل إلى آخر السورة.

قوله عزوجل :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف ، وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر ، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضا يدفعه اللفظ ، ولذلك ساغ الخلاف.


وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع ، وأن هذه الآية آذنت بعدمه ، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع ، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به.

قال القاضي أبو محمد : وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث.

واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار ، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن ، وتكليف الشرع له الإيمان راتب ، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] ، وقالت فرقة لم يقع قط ، وقوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً) [المسد : ٣] إنما معناه إن وافى على كفره.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما لا يطاق ينقسم أقساما : فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين ، ومنه المحال عادة ، كرفع الإنسان جبلا ، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه ، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره ، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير ، و (يُكَلِّفُ) يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئا ، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وسعها» بفتح الواو وكسر السين ، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ إلا وسعته ، كما قال (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] وكما قال (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر.

وقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) يريد من الحسنات ، (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) يريد من السيئات ، قاله السدي وجماعة من المفسرين ، لا خلاف في ذلك ، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب (لَها) من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات ب (عَلَيْها) ، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول لي مال وعلي دين ، وكما قال المتصدق باللقطة : اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليّ ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام. كما قال (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطلاق : ١٧] هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى ، وقال المهدوي وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا صحيح في نفسه ، لكن من غير هذه الآية.


وقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) معناه قولوا في دعائكم.

واختلف الناس في معنى قوله (نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك ، أي إن تركنا شيئا من طاعتك وأنه الخطأ المقصود. قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضوع عن المرء ، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به ، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود ، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها ، وقال السدي لما نزلت هذه الآية فقالوها ؛ قال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد.

قال القاضي أبو محمد : فظاهر قوليهما ما صححته ، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ ، «والإصر» الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه ، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق ، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز ، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان ، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز ، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان ، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك (ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره. وأما لفظة «أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد ، قال قتادة : الإصر العهد والميثاق الغليظ. وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء : الإصر المسخ قردة وخنازير. وقال ابن زيد أيضا : الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه. وقال مالك رحمه‌الله : الإصر : الأمر الغليظ الصعب.

قال القاضي أبو محمد : والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام أو قرابة أو عهد ونحوه ، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه ، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، والقد يضم عضدي الرجل يقال أصر يأصر أصرا والإصر بكسر الهمزة من ذلك ، وفي هذا نظر. وروي عن عاصم أنه قرأ أصرا بضم الهمزة ، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود. قال الضحاك : والنصارى ، وأما عبارات المفسرين في قوله : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا. وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ، وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال سلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة ، وقال السدي : هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم ، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله : (وَاعْفُ عَنَّا)


أي فيما واقعناه وانكشف (وَاغْفِرْ لَنا) أي استر علينا ما علمت منا (وَارْحَمْنا) أي تفضل مبتدئا برحمة منك لنا.

قال القاضي أبو محمد : فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحدا وهو دخول الجنة و (أَنْتَ مَوْلانا) مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه ، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية ، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات.

وروي أن جبريل عليه‌السلام أتى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قل (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ، فقالها فقال جبريل قد فعل ، فقال : قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل : قد فعل إلى آخر السورة ، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث ، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن ، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه ، يعني من قيام الليل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي».

كملت سورة البقرة والحمد لله كثيرا


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم

سورة آل عمران

هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت ، وذكر النقاش أن اسم هذه السورة في التوراة طيبة.

قوله تعالى :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)

قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة ، ومن حيث جاء في هذه السورة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في (الم) في هذه السورة ، وذهب الجرجاني في النظم الى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون (الم) إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول : هذه الحروف كتابك أو نحو هذا ، ويدل قوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال : وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢١] وترك الجواب لدلالة قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢١] تقديره : كمن قسا قلبه. ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم

عليكم ، ولكن خامري أمّ عامر

قال : تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر.

قال القاضي رحمه‌الله : يحسن في هذا القول أن يكون (نَزَّلَ) خبر قوله (اللهُ) حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى. وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون (الم) لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كلاما مبتدأ جزما جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه‌السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا : إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما ممن ذكر السير رووا أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصارى ستون رأكبا فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم ، العاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسد


بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله عليه‌السلام : ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة ، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه‌السلام إلى المشرق فقال النبي عليه‌السلام : دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياما يناظرون رسول الله عليه‌السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الابتهال وسيأتي تفسير ذلك.

وقرأ السبعة «الم الله» بفتح الميم والألف ساقطة ، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف ، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر ، وذكرها الفراء عن عاصم ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي وأبو حيوة بكسر الميم للالتقاء وذلك رديء لأن الياء تمنع من ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. قال أبو علي : حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك : «من الله ومن المسلمين» إلى غير ذلك.

قال أبو محمد : ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فما يسقط فلا تلقى حركته ، قاله أبو علي ، وقد تقدم تفسير قوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) في آية الكرسي ، والآية هنالك إخبار لجميع الناس ، وكررت هنا إخبارا لحجج هؤلاء النصارى ، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه‌السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محالة إذ من البين أنه ليس بقيوم ، وقرأ جمهور القراء «القيوم» وزنه فيعول ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس «القيام» وزنه ـ فيعال ـ وروي عن علقمة أيضا أنه قرأ «القيم» وزنه فيعل ، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده ، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه.

وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه‌السلام ، و (الْكِتابَ) في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين ، وقرأ جمهور الناس «نزّل عليك» بشد الزاي «الكتاب» بنصب الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «نزل عليك الكتاب» بتخفيف الزاي ورفع الباء ، وهذه الآية تقتضي أن قوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) جملة مستقلة منحازة ، وقوله (بِالْحَقِ) يحتمل معنيين : إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه ، فالباء على حدها في قوله : جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه ، والثاني : أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله ، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦] وقال محمد بن جعفر بن الزبير : معنى قوله (بِالْحَقِ) أي مما اختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون ، وهذا داخل في المعنى الأول ، و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة وهي راتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن


يكون غير مصدق لما بين يديه من كتاب الله فهو كقول ابن دارة : [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار؟

وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف ، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم في الزمن.

و (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة : إنها من ورى الزناد يري إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري ، ومنه قوله تعالى : (فَالْمُورِياتِ) [العاديات : ٢] وقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧٠] قال أبو علي ، فأما قولهم : وريت بك زنادي على وزن ، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره ، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من : ولجت ، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين : أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين ، من : وريت بك زنادي ، وإنما ينبغي أن تكون من : أوريت قال فهي تورية ، وقال بعضهم : يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين ، قال الزجاج وكأنه يجيز في توصية توصأة وذلك غير مسموع ، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفا فقيل توراة ، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم «التوراة» مفتوحة الراء ، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله من الأبرار و (مِنَ الْأَشْرارِ) [ص : ٦٢] و (قَرارٍ) إذا كان الحرف مخفوضا ، وروى المسيبي عن نافع فتح الراء من التوراة ، وروى ورش عنه كسرها ، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من (الْأَبْرارِ) وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع.

وقالوا في الإنجيل : إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض ، قال الخليل : استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضا الولد والنسل قاله الخليل وغيره ، ونجله أبوه أي ولده ، ومن ذلك قول الأعشى : [المنسرح]

أنجب أيّام والداه به

إذ نجلاه فنعم ما نجلا

قال ابن سيده عن أبي علي : معنى قوله أيام والداه به كما تقول : أنا بالله وبك ، وقال أبو الفتح: معنى البيت ، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ. ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه ، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضا من معنى الظهور وفراق شيء شيئا ، وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الوالد يقال له ، نجل وأن اللفظة من الأضداد ، وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه :

وكل فحل له نجل

أي ولد كريم ونسل ، وروى الأصمعي فيما حكى : وكل فرع له نجل ، وهذا لا يتجه إلا على تسمية


الوالد نجلا. وقال الزجاج : (الْإِنْجِيلَ) مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح : ف (التَّوْراةَ) من وري الزناد ، إذا ظهرت ناره ، و (الْإِنْجِيلَ) من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة ، و (الْفُرْقانَ) من الفرق بين الحق والباطل ، فحروفها مختلفة ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، إذ كلها معناه ، ظهور الحق ، وبيان الشرع ، وفصله من غيره من الأباطيل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وذلك لا يتجه في كلام العرب ، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة ، وإنه لا يقرأ إلا بما روى ، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية.

وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل القرآن ، وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) معناه دعاء ، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع ، لأنهم المدعوون بهما لا غير ، وإن أراد أنهما (هُدىً) في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره ، منصوب لمن اهتدى به ، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر.

قال القاضي رحمه‌الله : وقال هنا (لِلنَّاسِ) ، وقال في القرآن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، وذلك عندي ، لأن هذا خبر مجرد ، وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ، ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس ، فسمي (هُدىً) لذلك ، وقال ابن فورك : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، و (الْفُرْقانَ) : القرآن ، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال محمد بن جعفر ، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه‌السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة والربيع وغيرهما ، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ونحوه ، و (الْفُرْقانَ) يعم هذا كله ، وقال بعض المفسرين ، (الْفُرْقانَ) هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب ، ثم توعد تعالى الكفار عموما بالعذاب الشديد ، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة ، وعذاب الآخرة بالنار ، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران ، وقال النقاش : إلى اليهود ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم ، و (عَزِيزٌ) ، معناه غالب ، وقد ذل له كل شيء ، والنقمة والانتقام ، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك.

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء على التفصيل ، وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من


المخلوقين ، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات ، وهذا أمر لا ينكره عاقل ، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه ، ولا ينكر أن عيسى عليه‌السلام من المصورين في الأرحام ، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران ، وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) وعيد ما لهم ، فسر بنحو هذا محمد بن جعفر بن الزبير والربيع ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ، وشرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الرحم مكثت نطفة أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكا فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه ، وفي مسند ابن سنجر حديث : إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة ، وصور بناء مبالغة من : صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما ، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتا فيها ، جاء بناؤه على المبالغة ، والرحم موضع نشأة الجنين ، و (كَيْفَ يَشاءُ) يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الاختلافات ، و (الْعَزِيزُ) الغالب و (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير.

و (الْكِتابَ) في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين ، والمحكمات ، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام ، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل ، إلى غير ذلك من أنواع التشابه ، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب (مُتَشابِهاتٌ) ، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر ، وهذا نحو الحديث الصحيح ، عن النبي عليه‌السلام ، الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراما في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئا حلالا وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسدا فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله ، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية ، ألا ترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه‌السلام ، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال نعم ، قالوا : فحسبنا إذا.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا التشابه ، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية ، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات ، وقال ابن عباس أيضا : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل ، والمتشابه منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات.

قال الفقيه الإمام : وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا ، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات ، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك ، وقال مجاهد وعكرمة: المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضا ، وذلك مثل قوله : (وَما


يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] وقوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥].

قال الفقيه أبو محمد : وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية ، وقال ابن زيد : المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته ، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله : (حَيَّةٌ تَسْعى) [طه : ٢٠] و (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٧] ونحو : اسلك يدك ، وأدخل يدك ، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري ، وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.

قال القاضي رحمه‌الله : أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات ، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضا ، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه‌السلام ، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات ، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق ، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقا.

وقوله تعالى : (أُمُّ الْكِتابِ) فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه ، قال يحيى بن يعمر : هذا كما يقال لمكة ـ أم القرى ـ ولمرو أم خراسان ، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان ، قال المهدوي والنقاش : كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها (أُمُّ الْكِتابِ) ، وهذا مردود بل جميع المحكم هو (أُمُّ الْكِتابِ) ، وقال النقاش : وذلك كما تقول : كلكم عليّ أسد ضار.

قال الفقيه أبو محمد : وهذا المثال غير محكم ، وقال ابن زيد : (أُمُّ الْكِتابِ) معناه جماع الكتاب ، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن (الم ذلِكَ الْكِتابُ) منه استخرجت سورة البقرة (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) منه استخرجت سورة آل عمران ، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والإشارة بذلك أولا إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه‌السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن ، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد


إفضالا منه ونعمة ، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه ، وأن متشابه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله. ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم ، فهكذا تتوجه المذمة عليهم ، و (أُخَرُ) جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة ، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع ، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه ، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة ، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين ، وليس عدل (أُخَرُ) عن الألف واللام مؤثرا في التعريف كما هو عدل ـ سحر ـ بل أخر نكرة ، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله ، جئت يوم الجمعة سحر ، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله.

قوله تعالى :

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧)

قوله تعالى : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة ، والزيغ الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه‌السلام ، قاله الربيع ، وإلى اليهود ، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر ، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم ، و (ما تَشابَهَ مِنْهُ) هو الموصوف آنفا ـ بمتشابهات ـ وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج ، فلا أدري من هم؟ وقالت عائشة : إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم ، وقال الطبري : الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور ، وهؤلاء هم اليهود ، و (ابْتِغاءَ) نصب على المفعول من أجله ، ومعناه طلب الفتنة ، وقال الربيع : (الْفِتْنَةِ) هنا الشرك ، وقال مجاهد : (الْفِتْنَةِ) الشبهات واللبس على المؤمنين ، ثم قال : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني ، وهو من آل يؤول ، إذا رجع ، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة. هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه ، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه. وقال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي عليه‌السلام وأمته ، ثم قال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع ، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه ، فمعنى الآية : وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله.

واختلف العلماء في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فرأت فرقة ، أن رفع (وَالرَّاسِخُونَ) هو


بالعطف على اسم الله عزوجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به ، (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية. قال بهذا القول ابن عباس ، وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم ، و (يَقُولُونَ) على هذا التأويل نصب على الحال ، وقالت طائفة أخرى : (وَالرَّاسِخُونَ) رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره (يَقُولُونَ) ، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم (آمَنَّا بِهِ) قالته عائشة وابن عباس أيضا ، وقال عروة بن الزبير : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون ، (آمَنَّا بِهِ) ، وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس.

قال القاضي رحمه‌الله : وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين : ـ محكما ومتشابها ـ فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب ، فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخا ، وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الضمير عائد على جميع متشابه القرآن ، وهو نوعان كما ذكرنا ، فقوله (إِلَّا اللهُ) مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء ، يعلم نوعيه جميعا ، فإن جعلنا قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) عطفا على اسم الله تعالى ، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال ، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه ، وبديهة العقل تقضي بهذا ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول : ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان ، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك ، والآخر إنما أعانك بكلام فقط ، إلى كثير من المثل ، فالمعنى (وَما يَعْلَمُ) تأويل المتشابه إلا الله (وَالرَّاسِخُونَ) كل بقدره ، وما يصلح له ، (وَالرَّاسِخُونَ) بحال قول في جميعه (آمَنَّا بِهِ) ، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله ، وإن جعلنا قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم ، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ، وذلك كله بقريحة معدة ، فالمعنى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) على الاستيفاء إلى الله ، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه ، وهو ترجمان القرآن ، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب (الرَّاسِخُونَ) يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما ، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه ، فأما من يقول : إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى


علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، بل الصحيح في ذلك قول من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، وهذا هو متبع أهل الزيغ ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته ، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال ، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره ، وفسر باقي الآية على ذلك ، فهذا أيضا تخصيص لا دليل عليه ، وأما من يقول ، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس : «إلا الله ويقول : الراسخون في العلم آمنا به» ، وقرأ ابن مسعود «وابتغاء تأويله» إن تأويله إلا عند الله ، ـ (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يقولون (آمَنَّا بِهِ) ـ والرسوخ الثبوت في الشيء ، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه‌السلام عن «الراسخين في العلم» ، فقال : هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام ، وقوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فيه ضمير عائد على كتاب الله ، محكمه ومتشابهه ، والتقدير ، كله من عند ربنا ، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه ، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل ، و (أُولُوا): جمع ذو.

قوله تعالى :

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم ، أنهم يقولون هذا مع قولهم (آمَنَّا بِهِ) [آل عمران : ٧] ويحتمل أن يكون المعنى منقطعا من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم ، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم ، إن الله لا يضل العباد ، ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله و (تُزِغْ) معناه ، تمل قلوبنا عن الهدى والحق ، وقرأ أبو واقد ، والجراح «ولا تزغ قلوبنا» بإسناد الفعل إلى القلوب ، وهذه أيضا رغبة إلى الله تعالى. وقال أبو الفتح : ظاهر هذا ونحوه الرغبة إلى القلوب وإنما المسئول الله تعالى ، وقوله الرغبة إلى القلوب غير متمكن ، ومعنى الآية على القراءتين ، أن لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي. قال الزجاج : وقيل : إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا.

قال الفقيه الإمام : وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد ، و (مِنْ لَدُنْكَ) معناه : من عندك ومن قبلك ، أي تكون تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل ، وفي هذا


استسلام وتطارح ، والمراد هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة.

وقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) إقرار بالبعث ليوم القيامة ، قال الزجاج : هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به ، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه ، والريب : الشك ، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) يحتمل أن يكون إخبارا منه محمدا عليه‌السلام وأمته ، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين ، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى ، و (الْمِيعادَ) مفعال من الوعد.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١)

هم الكفار الذين لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية ، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئا ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه ، و (مِنَ) في قوله : (مِنَ اللهِ) لابتداء الغاية ، والإشارة بالآية إلى معاصري النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي ـ بعد ـ متناولة كل كافر ، وقرأ أبو عبد الرحمن : «لن يغني» بالياء ، على تذكير العلامة ، والوقود بفتح الواو ما يحترق في النار من حطب ونحوه ، وكذلك هي قراءة جمهور الناس ، وقرأ الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما (وَقُودُ) بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره ، حطب (وَقُودُ النَّارِ) ، والوقود بضم الواو المصدر ، وقدت النار تقد إذا اشتعلت ، والدأب والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ـ إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه ، ويقال للعادة ـ دأب ـ فالمعنى في الآية ، تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين ، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب.

والكاف في قوله (كَدَأْبِ) في موضع رفع ، التقدير : دأبهم (كَدَأْبِ) ، ويصح أن يكون الكاف في موضع نصب ، قال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف تقديره كفرا (كَدَأْبِ) ، فالعامل فيه (كَفَرُوا) ، ورد هذا القول الزجاج بأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة.

قال القاضي رحمه‌الله : ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ «الوقود» ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، والقول الأول أرجح الأقوال أن يكون الكاف في موضع رفع ، والهاء في (قَبْلِهِمْ) عائدة على (آلِ فِرْعَوْنَ) ، ويحتمل أن تعود على معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار ، وقوله : (بِآياتِنا) يحتمل أن يريد بالآيات المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة ، واختلفت عبارة


المفسرين ، في تفسير الدأب ، وذلك كله راجع إلى المعنى الذي ذكرناه.

قوله تعالى :

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، «ستغلبون وتحشرون» بالتاء من فوق و «يرونهم» بالياء من تحت ، وحكى أبان عن عاصم «ترونهم» بالتاء من فوق مضمومة ، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء من فوق ، وقرأ حمزة ثلاثتهن بالياء من تحت ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، وقرأ ابن عباس ، وطلحة بن مصرف وأبو حيوة ، «يرونهم» بالياء المضمومة ، وقرأ أبو عبد الرحمن ، بالتاء من فوق مضمومة. واختلف من الذين أمر بالقول لهم من الكفار ، فقيل هم جميع معاصريه من الكفار ، أمر بأن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب ووعيد ، قد صدق بحمد الله غلب الكفر وصار من مات عليه إلى جهنم ، ونحا إلى هذا أبو علي في ـ الحجة ـ وتظاهرت روايات بأن المراد يهود المدينة ، قال ابن عباس وغيره : لما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا يوم بدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد : لا يغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، فأنزل الله في قولهم هذه الآية ، وروي حديث آخر ذكره النقاش ، وهو أن النبي عليه‌السلام لما غلب قريشا ببدر قالت اليهود : هذا هو النبي المبعوث الذي في كتابنا وهو الذي لا تهزم له راية ، وكثرت فتنتهم بالأمر ، فقال لهم رؤساؤهم وشياطينهم : لا تعجلوا وأمهلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى ، فلما وقعت أحد كفر جميعهم وبقوا على أولهم ، وقالوا : ليس محمد بالنبي المنصور فنزلت الآية في ذلك ، أي قل لهؤلاء اليهود سيغلبون يعني قريشا ، وهذا التأويل إنما يستقيم على قراءة «سيغلبون ويحشرون» بالياء من تحت ، ومن قرأ بالتاء فمعنى الآية : قل للكفار جميعا هذه الألفاظ ، ومن قرأ بالياء من تحت ، فالمعنى قل لهم كلاما هذا معناه ، ويحتمل قراءة التاء التأويل الذي ذكرناه آنفا ، أي قل لليهود ستغلب قريش ، ورجح أبو علي قراءة التاء على المواجهة ، وأن الذين كفروا يعم الفريقين ، المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف والجزية والذلة ، والحشر : الجمع والإحضار ، وقوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) يعني جهنم ، هذا ظاهر الآية ، وقال مجاهد : المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم ، فكأن المعنى ، وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم.

وقوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا


نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه‌السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم» بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم» تجمع المشركين ، وفي «مثلهم» تجمع المؤمنين ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه‌السلام أن يقوله لهم احتجاجا عليهم ، وتبيينا لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخمينا وظنا لا يقينا ، فلذلك ترك في العبارة من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و ـ أرى ـ بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و (مِثْلَيْهِمْ) نصب على الحال من الهاء والميم في (تَرَوْنَهُمْ) وأجمع الناس على الفاعل ب (تَرَوْنَهُمْ) المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفا ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا وقيل وثلاثة عشر فكان الكفار ثلاثة من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحوا من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه‌السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف ، وقوله تعالى : (لَكُمْ آيَةٌ) يريد علامة وأمارة ومعتبرا ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس


«فئة تقاتل» برفع «فئة» على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : «فئة» بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع «كافرة» ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فئة» بالنصب وكذلك «كافرة» قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و (رَأْيَ الْعَيْنِ) نصب على المصدر ، و (يُؤَيِّدُ) معناه يقوي من الأيد وهو القوة.

قوله تعالى :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤)

قرأ جمهور الناس «زين» على بناء الفعل للمفعول ورفع «حبّ» على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وقرأ الضحاك ومجاهد «زين» على بناء الفعل للفاعل ونصب «حبّ» على أنه المفعول ، واختلف الناس من المزين؟ فقالت فرقة : الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [آل عمران : ١٥] ، وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن ، فإنه قال من زينها؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا قيل زين الله ، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء ، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر. وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توضيح لمعاصري محمد عليه‌السلام من اليهود وغيرهم ، و (الشَّهَواتِ) ذميمة واتباعها مرد وطاعتها مهلكة ، وقد قال عليه‌السلام : «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» فحسبك أن النار حفت بها ، فمن واقعها خلص إلى النار ، و (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار ، وهو العقدة الكبيرة من المال ، واختلف الناس في تحرير حده كم هو؟ فروى أبي بن كعب ، عن النبي عليه‌السلام أنه قال : القنطار ألف ومائتا أوقية ، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء ، وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية ، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن : القنطار ألف ومائتا مثقال ، وروى الحسن ذلك مرفوعا عن النبي عليه‌السلام ، قال الضحاك وهو من (الْفِضَّةِ) ألف ومائتا ، وروي عن ابن عباس أنه قال : القنطار من (الْفِضَّةِ) اثنا عشر ألف درهم ، ومن (الذَّهَبِ) ألف دينار ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب : القنطار ثمانون ألفا ، وقال قتادة : القنطار مائة رطل من (الذَّهَبِ) أو ثمانون ألف درهم من (الْفِضَّةِ) ، وقال السدي : القنطار ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل ، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال أبو نضرة : القنطار ملء مسك ثور ذهبا.


قال ابن سيده : هكذا هو بالسريانية ، وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وحكى النقاش عن ابن الكلبي ، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهبا ، وقال النقاش : (الْقَناطِيرِ) ثلاثة ، و (الْمُقَنْطَرَةِ) تسعة لأنه جمع الجمع ، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح ، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال : لا تكون (الْمُقَنْطَرَةِ) أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء ، لا تكون (الْمُقَنْطَرَةِ) أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم. قال أبو هريرة : القنطار اثنا عشر ألف أوقية ، وحكى مكي قولا إن القنطار أربعون أوقية ذهبا أو فضة ، وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بربر ألف مثقال ، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) [النساء : ٢٠] قال ألف دينار ذكره الطبري ، وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهبا أو فضة وأظنها وهما ، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل ، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به ، كما هو الرطل والربع ، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار ، والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار ، وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه ، فكأن القنطار عقدة مال.

واختلف الناس في معنى قوله : (الْمُقَنْطَرَةِ) فقال الطبري : معناه المضعفة ، وكأن (الْقَناطِيرِ) ثلاثة و (الْمُقَنْطَرَةِ) تسع ، وقد تقدم ذكر هذا النظر ، وقال الربيع : معناه المال الكثير بعضه فوق بعض ، وقال السدي : معنى (الْمُقَنْطَرَةِ) ، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم ، وقال مكي : (الْمُقَنْطَرَةِ) المكملة ، والذي أقول : إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا ، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك : فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير ، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها ، أي قنطرت فهي مقنطرة ، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال. وقد قال مروان بن الحكم : ما المال إلا ما حازته العياب ، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكا ، أو غير مسكوك ، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه ، ولكن لا تعطي ذلك لفظة (الْمُقَنْطَرَةِ).

(وَالْخَيْلِ) : جمع خائل عند أبي عبيدة ، سمي بذلك الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير ، وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، واختلف المفسرون في معنى (الْمُسَوَّمَةِ) فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد ، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول : سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في سائمة الغنم الزكاة» ومنه قوله عزوجل : (فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠] وروي عن مجاهد أنه قال : (الْمُسَوَّمَةِ) معناه المطهمة الحسان ، وقاله عكرمة ، سومها الحسن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : (الْمُسَوَّمَةِ) معناه المعلمة ، شيات الخيل في وجوهها وقاله قتادة ، ويشهد لهذا القول بيت لبيد : [الكامل]

وغداة قاع القرنتين أتينهم

زجلا يلوح خلالها التّسويم


وأما قول النابغة : [الوافر] :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان ، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة ، وقد فسر الناس قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود : ٨٣] بمعنى معدة ، وقال ابن زيد في قوله تعالى: (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) معناه : المعدة للجهاد.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : قوله : للجهاد ليس من تفسير اللفظة ، (وَالْأَنْعامِ) الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز (وَالْحَرْثِ) هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ، تقول : حرث الرجل إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة. وقوله تعالى : (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٧٨] قال جمهور المفسرين ، كان كرما ، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة ، و (الْمَآبِ) المرجع ، تقول : آب الرجل يؤوب ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]

رضيت من الغنيمة بالإياب

وقول الآخر [بشر بن أبي خازم] : [الوافر]

إذا ما القارظ العنزيّ آبا

وقول عبيد : [مخلع البسيط]

وغائب الموت لا يؤوب

وأصل مآب مأوب ، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل مقال ، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها ، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة ، وفي قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه‌السلام : تتزوج المرأة لأربع ـ الحديث ـ وقوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ) [آل عمران : ١٥] بمثابة قول النبي عليه‌السلام : «فاظفر بذات الدين».

قوله تعالى :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥)

في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك ، هازا للنفوس وجامعا لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل ، وأنبئ : معناه أخبر ، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي عليه‌السلام بقوله تم في قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) و (جَنَّاتٌ) على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره : ذلك جنات ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله : (مِنْ ذلِكُمْ) وأن قوله (لِلَّذِينَ) خبر متقدم ، و (جَنَّاتٌ) رفع بالابتداء ، وعلى التأويل الأول يجوز في (جَنَّاتٌ) الخفض بدلا من خير ، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني ، والتأويلان


محتملان ، وقوله (مِنْ تَحْتِهَا) يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و (خالِدِينَ) نصب على الحال ، وقوله : (وَأَزْواجٌ) عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان ، وقد يقال زوجة ، ولم يأت في القرآن ، و (مُطَهَّرَةٌ) ، معناه من المعود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق ، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه ، والرضوان ، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه‌السلام : أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم : أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول الله تعالى : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» ، هذا سياق الحديث ، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض ، وفي قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وعد ووعيد.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

(الَّذِينَ) بدل من «الذين اتقوا» [آل عمران : ١٥] ، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات ، ويحتمل أن يكون إعراب قوله : (الَّذِينَ) في هذه الآية رفعا على القطع وإضمار الابتداء ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله : (الصَّابِرِينَ) والخفض في ذلك كله على البدل أوجه. ويجوز في (الَّذِينَ) ، وما بعده النصب على المدح؟ والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات ، والصدق معناه في الأقوال والأفعال ، والقنوت ، الطاعة والدعاء أيضا وبكل ذلك يتصف المتقي ، والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها ، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة ، والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ، وخص تعالى السحر لما فسر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ، ينزل ربنا عزوجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر.

وروي في تفسير قول يعقوب عليه‌السلام : سوف أستغفر لكم ربي ، أنه أخر الأمر إلى السحر ، وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا ابن مسعود ، وقال أنس بن مالك : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة ، وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع آسحرنا؟ فأقول ـ لا ـ فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر ، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة ، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة ، وقال قتادة : المراد بالآية المصلون بالسحر ، وقال زيد بن أسلم : المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار ، والسحر والسحر ، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل ، قال الزجاج وغيره : هو قبل طلوع الفجر ، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة ،


وقال بعض اللغويين : السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر.

قال الفقيه الإمام : والحديث في التنزل وهذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا ، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول امرئ القيس : [المتقارب]

يعلّ به برد أنيابها

إذا غرّد الطّائر المستحر

يقال : أسحر واستحر إذا دخل في السحر ، وكذلك قولهم : نسيم السحر ، يقع لما بعد الفجر ، وكذلك قول الشاعر : [ربيع بن زياد]

تجد النساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلج الأسحار

فقد قضى أن السحر يتبلج بطلوع الفجر ، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود ، ومن سحور الصائم ، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر.

قوله تعالى :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

أصل (شَهِدَ) في كلام العرب حضر ، ومنه قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره : شهد يشهد فمعنى (شَهِدَ اللهُ) أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه ، وقال أبو عبيدة : (شَهِدَ اللهُ) معناه ، قضى الله وهذا مردود من جهات ، وقرأ جميع القراء : (أَنَّهُ لا إِلهَ) بفتح الألف من (أَنَّهُ) وبكسرها من قوله : (إِنَّ الدِّينَ) [آل عمران : ١٩] واستئناف الكلام ، وقرأ الكسائي وحده «أن الدين» بفتح الألف ، قال أبو علي : «أن» بدل من (أَنَّهُ) الأولى ، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلت «إن الدين» بدلا من القسط لأنه هو في المعنى ، ووجه الطبري هذه القراءة ، بأن قدر في الكلام واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال : (وَإِنَّ الدِّينَ) [آل عمران : ١٩] وهذا ضعيف ، وقرأ عبد الله بن العباس : «إنه لا إله إلا هو» بكسر الألف من «إنه» ، وقرأ «أن الدين» بفتح الألف ، فأعمل (شَهِدَ) في «أن الدين وجاء قوله : «إنه لا إله إلا هو» اعتراضا جميلا في نفس الكلام المتصل ، وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال : الله وملائكته والعلماء يشهدون : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار ، «شهداء الله» على وزن فعلاء ، وبالإضافة إلى المكتوبة ، قال أبو الفتح ، هو نصب على الحال من الضمير في (الْمُسْتَغْفِرِينَ) [آل عمران : ١٧] وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء ، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ «شهد الله» برفع الشهداء ، وروي عنه أنه قرأ «شهد» الله» على وزن ـ فعل ـ بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال ، وحكى النقاش أنه قرىء «شهد


الله» بضم الشين والهاء ، والإضافة إلى المكتوبة قال : فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها ، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور ، وإبقاع الشهادة على التوحيد ، و (الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) عطف على اسم الله تعالى ، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ابتداء وخبره مقدر ، كأنه قال : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) يشهدون و (قائِماً) نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله : (شَهِدَ اللهُ) أو من قوله (إِلَّا هُوَ) وقرأ ابن مسعود «القائم بالقسط» والقسط العدل.

قوله تعالى :

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩)

قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من (إِنَّ الدِّينَ) وفتحها ، و (الدِّينَ) في هذه الآية الطاعة والملة ، والمعنى ، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر ، و (الْإِسْلامُ) في هذه الآية هو الإيمان والطاعة ، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان.

قال أبو محمد رحمه‌الله : ومرادهما ، أنه مع الأعمال ، و (الْإِسْلامُ) هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه‌السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث وجواب النبي له في الإيمان والإسلام يفسر ذلك ، وكذلك تفسيره قوله عليه‌السلام : بني الإسلام على خمس ، الحديث ، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة ، وفي قراءة ابن مسعود «إن الدين عند الله للإسلام» باللام ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب ، أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا ، قاله ابن عمر وغيره.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لفظ يعم اليهود والنصارى ، لكن الربيع بن أنس قال ، المراد بهذه الآية اليهود ، وذلك أن موسى عليه‌السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون ، وقعت الفرقة بينهم ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران ، و (بَغْياً) نصب على المفعول من أجله أو على الحال من (الَّذِينَ) ثم توعد عزوجل الكفار ، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع ، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علما لا يحتاج إلى عد ولا فكرة ، قاله مجاهد.

قوله تعالى :

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠)

(حَاجُّوكَ) فاعلوك من الحجة والضمير في (حَاجُّوكَ) لليهود ولنصارى نجران والمعنى : إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة ، والمغالطات فاسند إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك ،


وقوله (وَجْهِيَ) يحتمل أن يراد به المقصد كما تقول خرج فلان في وجه كذا فيكون معنى الآية : جعلت مقصدي لله ، ويحتمل أن يكون معنى الآية ، أسلمت شخصي وذاتي وكليتي وجعلت ذلك لله ، وعبر بالوجه إذ الوجه أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس ، وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أنها عبارة عن الذات ، و (أَسْلَمْتُ) في هذا الموضع بمعنى دفعت وأمضيت وليست بمعنى دخلت في السلم لأن تلك لا تتعدى ، وقوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) في موضع رفع عطف على الضمير في موضع خفض عطفا على اسم الله تعالى كأنه يقول : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعن بالحفظ له والتحفي بتعليمه وصحبته لك في (اتَّبَعَنِ) حذف الياء وإثباتها وحذفها أحسن اتباعا لخط المصحف ، وهذه النون إنما هي لتسلم فتحة لام الفعل فهي مع الكسرة تغني عن الياء لا سيما إذا كانت رأس آية ، فإنها تشبه قوافي الشعر كما قال الأعشى : [المتقارب]

وهل يمنعنّ ارتياد البلا

د من حذر الموت أن يأتين

فمن ذلك قوله تعالى : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر : ١٥] فإذا لم تكن نون فإثبات الياء أحسن ، لكنهم قد قالوا : هذا غلام قد جاء فاكتفوا بالكسرة دلالة على الياء ، والذين (أُوتُوا الْكِتابَ) في هذا الموضع يجمع اليهود والنصارى باتفاق ، والأميون هم الذين لا يكتبون وهم العرب في هذه الآية ، وهذه النسبة هي إلى الأم أو إلى الأمة أي كما هي الأم ، أو على حال خروج الإنسان عن الأم أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق ، وقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) تقرير في ضمنه الأمر كذا قال الطبري وغيره ، وذلك بين ، وقال الزجاج (أَأَسْلَمْتُمْ) تهديد ، وهذا حسن ، لأن المعنى أأسلمتم أم لا؟ وقوله تعالى : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) وجاءت العبارة بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وتحصله.

وقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ذكر بعض الناس أنها آية موادعة وأنها مما نسخته آية السيف.

قال أبو محمد : وهذا يحتاج أن يقترن به معرفة تاريخ نزولها ، وأما على ظاهر نزول هذه الآية في وقت وفد نجران فإنما المعنى (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) بما فيه قتال وغيره ، و (الْبَلاغُ) مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل ، وفي قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢)

قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتعم كل من كان بهذه الحال ، والآية توبيخ


للمعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمساوئ ، أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساويء لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه‌السلام ، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا وقامت سوق البقل بعد ذلك ، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه‌السلام : أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد وذلك معنى قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) وقوله تعالى : (بِغَيْرِ حَقٍ) مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أو غير ذلك ، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك بينهما.

وقرأ جمهور الناس : «ويقتلون الذين» وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة «ويقاتلون الذين» وفي مصحف ابن مسعود «وقاتلوا الذين» ، وقرأها الأعمش ، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور ، والقسط العدل ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن ، ودخلت الفاء في قوله : (فَبَشِّرْهُمْ) لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك : الذي يفعل كذا فله كذا إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل ، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي ، و (حَبِطَتْ) معناه : بطلت وسقط حكمها ، وحبطها في الدنيا بقاء الذم واللعنة عليهم ، وحبطها في الآخرة كونها هباء منبثا وتعذيبهم عليها ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال العدوي : «حبطت» بفتح الباء وهي لغة ، ثم نفى النصر عنهم في كلا الحالين.

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا على ملة إبراهيم» فقالا : فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال لهما النبي عليه‌السلام : «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه فنزلت ، وذكر النقاش : أنها نزلت لأن


جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال لهم النبي عليه‌السلام : «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي» فأبوا.

قال القاضي أبو محمد : فالكتاب في قوله : (مِنَ الْكِتابِ) هو اسم الجنس ، و (الْكِتابِ) في قوله : (إِلى كِتابِ اللهِ) هو التوراة ، وقال قتادة وابن جريج : (الْكِتابِ) في قوله (إِلى كِتابِ اللهِ) هو القرآن ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون ، ورجح الطبري القول الأول ، وقال مكي : الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة ، وقرأ جمهور الناس «ليحكم» بفتح الياء أي ليحكم الكتاب ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وعاصم الجحدري «ليحكم» بضم الياء وبناء الفعل للمفعول ، وخص الله تعالى بالتولي فريقا دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) الإشارة فيه إلى التولي والإعراض ، أي إنما تولوا وأعرضوا لاغترارهم بهذه الأقوال والافتراء الذي لهم في قولهم: (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] إلى غير ذلك من هذا المعنى ، وكان من قول بني إسرائيل : إنهم لن تمسهم النار إلا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، قاله الربيع وقتادة ، وحكى الطبري أنهم قالوا : إن الله وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدا من ولده النار إلا تحلة القسم ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لليهود : من أول من يدخل النار؟ فقالوا نحن فترة يسيرة ثم تخلفوننا فيها فقال : كذبتم الحديث بطوله ، و (يَفْتَرُونَ) معناه ، يشققون ويختلقون من الأحاديث في مدح دينهم وأنفسهم وادعاء الفضائل لها ، ثم قال تعالى خطابا لمحمد وأمته على جهة التوقيف والتعجيب فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم وأعمالهم القبيحة؟ قال النقاش : واليوم الوقت ، وكذلك قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٥٤] [السجدة : ٤] إنما هي عبارة عن أوقات فإنها الأيام والليالي والصحيح في يوم القيامة أنه يوم لأن قبله ليلة وفيه شمس ، واللام في قوله تعالى : (لِيَوْمٍ) طالبة لمحذوف ، قال الطبري ، تقديره لما يحدث في يوم.

قوله تعالى :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

قال بعض العلماء : إن هذه الآية لباطل نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه‌السلام ليس في شيء منها ، وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي عليه‌السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك ، وقال مجاهد : (الْمُلْكِ) في هذه الآية النبوة ، والصحيح أنه (مالِكَ الْمُلْكِ) كله مطلقا في جميع أنواعه ، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبي عليه‌السلام بشّر أمته بفتح ملك فارس وغيره فقالت اليهود


والمنافقون : هيهات وكذبوا ذلك ، واختلف النحويون في تركيب لفظة (اللهُمَ) بعد إجماعهم على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى ، ودليل ذلك أنها لا تأتي مستعملة في معنى خبر ، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين ، أن الأصل «يا لله» فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو ـ يا ـ جعلوا بدل حرف النداء هذه الميم المشددة ، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد ، وذهب حرفان فعوض بحرفين ، ومذهب الفراء والكوفيين ، أن أصل (اللهُمَ) يا لله أم : أي أم بخير وأن ضمة الهاء هي ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت ، ورد الزجاج على هذا القول وقال : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غلو من الزجاج ، وقال أيضا : إن هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحيانا كما قالوا : «ويلمه» في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة ، وما سمع قط «يا لله أم» في هذا اللفظ ، وقال أيضا : ولا تقول العرب «ياللهم» ، وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على (اللهُمَ) وأنشدوا على ذلك : [الرجز]

وما عليك أن تقولي كلما

سبحت أو هللت ياللهم ما

اردد علينا شيخنا مسلّما

قالوا : فلو كانت الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا ، قال الزجاج : وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب ، قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في «فم وابنم» ونحوه فأما ميم مشددة فلا تزاد ، قال البصريون : لما ذهب حرفان عوض بحرفين ، ومالك نصب على النداء ، نص سيبويه ذلك في قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر : ٤٦] وقال : إن (اللهُمَ) لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم ، قال الزجاج : ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك (فاطِرِ السَّماواتِ) قال أبو علي : وهو مذهب أبي العباس ، وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد (اللهُمَ) لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو ، غاق وما أشبه ، وكأن حكم الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو ، «حيهل» فلم يوصف ، قال النضر بن شميل : من قال (اللهُمَ) فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها ، وقال الحسن : (اللهُمَ) مجمع الدعاء.

وخص الله تعالى : (الْخَيْرُ) بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فأجزل حظي منه ، وقيل المراد (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر ، كما قال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] قال النقاش : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما ، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية : أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأبا كل فصل من السنة ، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر.


واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الآية ، فقال الحسن : معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وروي نحوه عن سلمان الفارسي ، وروى الزهري أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال : من هذه؟ قالت إحدى خالاتك فقال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ، أي خالاتي هي؟ قالت : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال النبيعليه‌السلام : سبحان الذي يخرج الحي من الميت ، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه‌السلام.

قال أبو محمد : فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران ، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة ، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة : هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله ، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة.

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج. وقد يحتمل قوله تعالى : (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :

أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا

وفي الله ـ إن لم ينصفوا ـ حكم عدل

وروى السدي عن أبي مالك قال في تفسير الآية : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه ، وقوله تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ) قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه ، هذا قول الربيع وغيره ، وقيل معنى (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي من أحد لك ، لأنه تعالى لا معقب لأمره ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «الميت» بسكون الياء في جميع القرآن. وروى حفص عن عاصم «من الميّت» بتشديد الياء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الميّت» بتشديد الياء في هذه الآية ، وفي قوله : (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) [الأعراف : ٥٧] و (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [فاطر : ٩] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف ، قال أبو علي : (الْمَيِّتِ) هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذهب قوم إلى أن «الميت» بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات ، وأما «الميّت» بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد.


قوله تعالى :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨)

هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكفار والميل إليهم ، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فقال ابن عباس : كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك ، وقال قوم : نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة ، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه‌السلام في استنزال بني قريظة ، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه‌السلام لعمار (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

وقوله تعالى : (مِنْ دُونِ) عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه (دُونِ) غائبا متنحيا ليس من الأمر الأول (فِي شَيْءٍ) ، وفي المثل ، وأمر دون عبيدة الوذم كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه ، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون وفيما قاله نظر ، قوله : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) معناه ، في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي عليه‌السلام من غشنا فليس منا ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره ، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا ، وقوله (فِي شَيْءٍ) هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله «ليس من الله» ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الاتقاء ، فأما إبطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال ، وقرأ جمهور الناس «تقاة» أصله وقية ـ على وزن فعلة ـ بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء (تُقاةً) قال أبو علي يجوز أن تكون (تُقاةً) مثل رماة حالا من (تَتَّقُوا) وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل ، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة «تقية» بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في (تُقاةً) في الموضعين ، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعا كان يقرأها بين الفتح والكسر ، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) من جهة صلة الرحم أي ملامة ، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرابة من الكفار ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية ، إلا أن تخافوا منهم خوفا وهذا هو معنى التقية.


واختلف العلماء في التقية ممن تكون؟ وبأي شيء تكون؟ وأي شيء تبيح؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه ، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، قال مالك رحمه‌الله : وزوج المرأة قد يكره ، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب ، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفا متمكنا فهو مكره وله حكم التقية ، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية ، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه ، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه ، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه ، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال ، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق ، وإطلاق القول بهذا كله ، ومن مداراة ومصانعة ، وقال ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلما به. واختلف الناس في الأفعال ، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق : يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك ، وقال مسروق : فإن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون : بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله ، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له ، نهيت بن الحارث ، أخذته الفرس أسيرا ، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار ، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر ، فقال : وما كان عليّ نهيت أن يأكل ، وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال ، فأما الأفعال فلا ، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك ، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه ، قال ابن حبيب : وهذا قول حسن.

قال القاضي : وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبلة ، وفي كتاب الله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ، هذه قواعد مسألة التقية ، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه.

وقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ) إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة ، وقوله : (نَفْسَهُ) نائبة عن إياه ، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات ، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه ، فقال ابن عباس والحسن : ويحذركم الله عقابه.

قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ


لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

الضمير في (تُخْفُوا) هو للمؤمنين الذين نهوا عن اتخاذ الكافرين أولياء ، والمعنى أنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم فإن الله يعلم ذلك ويكرهه منكم ، وقوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، معناه على التفصيل ، وقوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عموم والشيء في كلام العرب الموجود.

و (يَوْمَ) نصب على الظرف ، وقد اختلف في العامل فيه ، فقال مكي بن أبي طالب ، العامل فيه (قَدِيرٌ) ، وقال الطبري : العامل فيه قوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨] وقال الزجّاج ، وقال أيضا العامل فيه (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] يوم ورجحه وقال مكي : حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره ، «اذكر يوم» ، و (ما) بمعنى الذي و (مُحْضَراً) قال قتادة : معناه موفرا ، وهذا تفسير بالمعنى ، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر ، وقوله تعالى : (ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) يحتمل أن تكون (ما) معطوفة على (ما) الأولى فهي في موضع نصب وتكون (تَوَدُّ) في موضع الحال ، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره ، ويحتمل أن تكون رفعا بالابتداء ويكون الخبر في قوله : (تَوَدُّ) وما بعده كأنه قال : وعملها السيّء مردود عندها أن بينها وبينه أمدا ، وفي قراءة ابن مسعود «من سوء ودت» وكذلك قرأ ابن أبي عبلة ، ويجوز على هذه القراءة أن تكون (ما) شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة «تود» لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف «فهي تود» وفي ذلك ضعف ، و «الأمد» الغاية المحدودة من المكان أو الزمان ، قال النابغة : [البسيط]

سبق الجواد إذا استولى على الأمد

فهذه غاية في المكان ، وقال الطرماح : [الخفيف]

كلّ حيّ مستكمل عدّة العم

ر ومود إذا انقضى أمده

فهذه غاية في الزمان ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها ، وقوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده ، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن ، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) ، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف : ١٦٥] لأن قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] والله محذور العقاب.

قوله تعالى :

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢)

اختلف المفسرون فيمن أمر محمدا عليه‌السلام أن يقول له هذه المقالة ، فقال الحسن بن أبي


الحسن وابن جريج : إن قوما قالوا للنبي عليه‌السلام : يا محمد إنا نحب ربنا ، فنزلت هذه الآية في قولهم ، جعل الله فيها أتباع محمد علما لحبه ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران ، أي إن كان قولكم في عيسى وغلوكم في أمره حبا لله ، (فَاتَّبِعُونِي) ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله ويحبهم ، ألا ترى أن جميعهم قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ولفظ أحباؤه إنما يعطي أن الله يحبهم لكن يعلم أن مرادهم «ومحبوه» فيحسن أن يقال لهم (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) وقرأ الزهري «فاتبعوني» بتشديد النون ، وقرأ أبو رجاء «يحببكم» بفتح الياء وضم الباء الأولى من «حب» وهي لغة ، قال الزجاج : حببت قليلة في اللغة ، وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت وعليها استعمل محبوب والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد ، وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد والله تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه ، ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه وتكون أعماله بحسب إقبال النفس ، وقد تمثل بعض العلماء حين رأى الكعبة فأنشد : [الخفيف]

هذه داره وأنت محبّ

ما بقاء الدّموع في الآماق

ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديا مسددا ذا قبول في الأرض ، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته ، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عزوجل ، وذكر الزجاج : أن أبا عمرو قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام وخطأ القراء وغلط من رواها عن أبي عمرو فيما حسبت ، وذهب الطبري إلى أن قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) خطاب لنصارى نجران وفي قوله: (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) وعيد ، ويحتمل أن يكون بعد الصدع بالقتال.

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٥)

لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه ، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت ، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى (آلَ عِمْرانَ) منها ثم خص (امْرَأَتُ عِمْرانَ) بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه‌السلام وكيف كان و (اصْطَفى) معناه : اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدرا ، و (آدَمَ) هو أبونا عليه‌السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) عليه‌السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] وهذا ضعيف ، ونوح عليه‌السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار ، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم ، كهود ولوط ، و (آلَ إِبْراهِيمَ)


يعني بإبراهيم الخليل عليه‌السلام ، والآل في اللغة ، الأهل والقرابة ، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل ، فمنه آل فرعون ، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه‌السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو : [الطويل]

فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه

عليّ وعبّاس وآل أبي بكر

أراد جميع المؤمنين ، و «الآل» في هذه الآية يحتمل الوجهين ، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاما بأن يقدر محمدا عليه‌السلام من آل إبراهيم ، وإن قلنا أراد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم ، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه‌السلام وأن «الآل» الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى ، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم ، و (آلَ عِمْرانَ) أيضا يحتمل من التأويل ما تقدم في (آلَ إِبْراهِيمَ) ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري ، قال مكي : هو عمران بن ماثال ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم ، وقال ابن عباس : «اصطفى الله» هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له.

وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةً) نصب على البدل ، وقيل على الحال لأن معنى (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) متشابهين في الدين والحال ، وهذا أظهر من البدل ، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلا ، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض ، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى : (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها ، وكذلك إن جعلناها من «ذرى» وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل ، قال أبو الفتح : الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة ، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلا لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة (مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢] قال الزجّاج : أصلها فعلية من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، قال أبو الفتح : هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حرمي بكسر الحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج : وقيل أصل (ذُرِّيَّةً) ذرورة ، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت (ذُرِّيَّةً).

قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر ، أو من ذرى ، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق ، وفي كوكب دري ، في قول من رآه من ـ درأ ـ لأنه يدفع الظلمة بضوئه.

وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك ، «ذرية» بكسر الذال ، وقوله


تعالى : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة.

واختلف الناس في العامل في قوله (إِذْ قالَتِ) فقال أبو عبيدة معمر : (إِذْ) زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في (إِذْ) قوله (سَمِيعٌ) و (امْرَأَتُ عِمْرانَ) اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : (نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي جعلت نذرا أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقا من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاما محررا ، وفي هذا نظر ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس.

قال ابن إسحاق : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدا فحملت بمريم وهلك عمران ، فلما علمت أن في بطنها جنينا جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : (مُحَرَّراً) معناه خادما للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفا في الذكور خاصة ، وكان فرضا على الأبناء التزام ذلك ، فقالت (ما فِي بَطْنِي) ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكرا ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أي ارض عني في ذلك واجعله فعلا مقبولا مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها.

قوله تعالى :

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه‌السلام ، والوضع الولادة ، وأنث الضمير في (وَضَعَتْها) ، حملا على الموجودة ورفعا للفظ (ما) التي في قولها (ما فِي بَطْنِي) [آل عمران : ٣٣] وقولها ، (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف ، وبيّن الله ذلك بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ). وقرأ جمهور الناس «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعت» ، بضم التاء وإسكان العين ، وهذا أيضا مخرج قولها ، (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) من معنى الخبر إلى معنى


التلهف ، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم ، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكرا فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره ، وقرأ ابن عباس «وضعت» بكسر التاء على الخطاب من الله لها ، وقولها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم ، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول : وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد ، وفي قولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه‌السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى ، قال مالك رحمه‌الله : ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية ، قال ابن حبيب : أحب إلي أن يسمى ، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته ، و (مَرْيَمَ) ، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه ، وباقي الآية إعادة ، وورد في الحديث عن النبي عليه‌السلام من رواية أبي هريرة قال : كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب ، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته.

وقوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها) إخبار لمحمد عليه‌السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها ، ولذلك جعلوها كما نذرت ، وقوله (بِقَبُولٍ) مصدر جاء على غير الصدر ، وكذلك قوله (نَباتاً) بعد أنبت ، وقوله (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، عبارة عن حسن النشأة وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق ، وقوله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) معناه : ضمها إلى إنفاقه وحضنه ، والكافل هو المربي الحاضن ، قال ابن إسحاق : إن زكرياء كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكرياء يحيى وولدت امرأة عمران مريم ، وقال السدي وغيره : إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران ، ويعضد هذا القول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة ، قال مكي : وهو زكريا بن آذن ، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم : أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه ، وأنهم فعلوا في مريم ذلك ، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر ، وقيل أقلاما بروها من عود كالسهام والقداح ، وقيل عصيا لهم ، وهذه كلها تقلم ، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن ، وروي أنهم ألقوه في عين ، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية ، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته ، وروي أن أقلام القوم عامت على الماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزا واقفا كأنما ركز في طين فكفلها عليه‌السلام بهذا الاستهام ، وحكى الطبري عن ابن إسحاق : أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء : إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق.


قال أبو محمد : وهذا الاستهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها ، والأول المراد منه أخذها ، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام ، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته ، وهكذا قال ابن إسحاق ، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وكفلها زكرياء مفتوحة الفاء ، خفيفة «زكرياء» مرفوعا ممدودا ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، وكفلها مشدد الفاء ممدودا منصوبا في جميع القرآن ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ، (كَفَّلَها) مشددة الفاء مفتوحة ، (زَكَرِيَّا) مقصورا في جميع القرآن ، وفي رواية أبي بن كعب ، و «أكفلها زكرياء» بفتح الفاء على التعدية بالهمزة ، وقرأ مجاهد ، «فتقبلها» بسكون اللام على الدعاء «ربّها» بنصب الباء على النداء و «أنبتها» بكسر الباء على الدعاء ، و «كفلها» بكسر الفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوبا ممدودا ، وروي عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله المزني ، «وكفلها» بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال : كفل يكفل بضم العين في المضارع ، وكفل بكسر العين يكفل بفتحها في المضارع ، «زكرياء» اسم أعجمي يمد ويقصر ، قال أبو علي : لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصر ، قال الزجاج : فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث ، قال أبو علي : ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق ، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه ، ولا يجوز أن تكون منقلبة ، ويقال في لغة زكرى منون معرب ، قال أبو علي : هاتان ياء نسب ولو كانتا اللتين في (زَكَرِيَّا) لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب ، وحكى أبو حاتم ، زكرى بغير صرف وهو غلط عند النحاة ، ذكره مكي.

وقوله تعالى : (كُلَّما) ظرف والعامل فيه (وَجَدَ) ، و (الْمِحْرابَ) المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه ، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب ، وقال الشاعر : [وضاح اليمن] [السريع]

ربّة محراب إذا جئتها

لم ألقها أو أرتقي سلّما

ومثل قول الآخر : [عدي بن زيد] [الخفيف]

كدمى العاج في المحاريب أو كال

بيض في الرّوض زهره مستنير

وقوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) ، معناه طعاما تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها ، وكانت فيما ذكر الربيع ، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها بسلم ، وقال ابن عباس : وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه ، وقاله ابن جبير ومجاهد ، وقال الضحاك ومجاهد أيضا وقتادة : كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقال ابن عباس : كان يجد عندها ثمار الجنة : فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وقال الحسن : كان يجد عندها رزقا من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه ، وقال ابن إسحاق : هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها) إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج


أخيرا ، وذلك أن جريجا كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره ، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق ، وقوله (أَنَّى) معناه كيف ومن أين؟ وقولها : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، دليل على أنه ليس من جلب بشر ، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب ، قال الزجاج : وهذا من الآية التي قال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] وروي أنها لم تلقم ثديا قط ، وقولها : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله ، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه‌السلام ، والله تعالى لا تنتقص خزائنه ، فليس يحسب ما يخرج منها ، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب ، وذلك مجاز وتشبيه ، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى.

قوله تعالى :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩)

هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان ، و (هُنالِكَ) باللام أبلغ في الدلالة على البعد ، ولا يعرب (هُنالِكَ) لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى ، ومعنى هذه الآية : أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، و «الذرية» اسم جنس يقع على واحد فصاعدا كما الولي يقع على اسم جنس كذلك ، وقال الطبري : إنما أراد هنا بالذرية واحدا ودليل ذلك طلبه وليا ولم يطلب أولياء ، وأنث «الطيبة» حملا على لفظ الذرية كما قال الشاعر : [الوافر]

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

وكما قال الآخر :

فما تزدري من حيّة جبليّة؟

سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا

وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكرياء عليه‌السلام ، و (طَيِّبَةً) معناه سليمة في الخلق والدين نقية ، و (سَمِيعُ) في هذه الآية بناء اسم فاعل.

ثم قال تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه ، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه


يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته ، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة ، وذكر جمهور المفسرين : أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء ، وقال قوم : بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية ، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه‌السلام وفي غير ما قصة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي» ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : «فنادته» بالتاء «الملائكة» ، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة» بالألف وإمالة الدال ، قال أبو علي : من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل ، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال كما تقول : هي الجذوع وهي الجمال ، ومثله : (قالَتِ الْأَعْرابُ) [الحجرات : ١٤].

قال الفقيه الإمام : ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة ، والقراءة بالتاء على قول من يقول : المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة ، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم ، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] قال أبو علي : ومن قرأ «فناداه الملائكة» ، فهو كقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف : ٣٠].

قال القاضي : وهذا على أن المنادي كثير ، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى ، وعبر عن جبريل عليه‌السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه ، وقوله تعالى : (فَنادَتْهُ) عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخبارا على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل ، وقوله تعالى : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة في موضع الحال ، و (يُصَلِّي) صفة لقائم ، و (الْمِحْرابِ) في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ، وقرأ ابن عامر وحمزة : «إن الله» بكسر الألف ، قال أبو علي : وهذا على إضمار القول ، كأنه قال (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) فقالت وهذا كقوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) [القمر : ١٠] على قراءة من كسر الألف ، وقال بعض النحاة : كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال ، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) قال أبو علي : المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها ، ف «أن» في موضع نصب ، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر ، وفي قراءة عبد الله «في المحراب ، يا زكرياء إن الله» ، قال أبو علي : فقوله «يا زكرياء» في موضع نصب بوقوع النداء عليه ، ولا يجوز فتح الألف في «إن» على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير ، والآخر المنادى ، فإن فتحت «إن» لم يبق لها شيء متعلق به ، قال أبو علي : وكلهم قرأ (فِي الْمِحْرابِ) بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها ، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره ، وقال غير ابن مجاهد : إنما نميله في الجر فقط.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «يبشرك» ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق» فإنهما قرآ (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) [الشورى : ٢٣] بفتح الياء ، وسكون الباء ، وضم الشين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ، «يبشّرك» بشد الشين المكسورة في كل القرآن ، وقرأ حمزة «يبشر» خفيفا بضم الشين


مما لم يقع في كل القرآن إلا قوله تعالى ، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف ، ويبشر المؤمنين ، وفي «عسق» (يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) ، قال غير واحد من اللغويين : في هذه اللفظة ثلاث لغات ، بشّر بشد الشين ، وبشر بتخفيفها ، وأبشر يبشر إبشارا ، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «يبشرك» بضم الباء وتخفيف الشين المكسورة من ـ أبشر ـ وهكذا قرأ في كل القرآن.

و «يحيى» اسم سماه الله به قبل أن يولد ، قال أبو علي : هو اسم بالعبرانية صادف «هذا البناء ، والمعنى من العربية ، قال الزجاج : لا ينصرف لأنه إن كان أعجميا ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل ، وقال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان و (مُصَدِّقاً) نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله تعالى : (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم ، «الكلمة» هنا يراد بها عيسى ابن مريم.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر ، وروى ابن عباس : أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان : إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك ، وفي بعض الروايات ، يسجد لما في بطنك قال ، فذلك تصديقه.

قال الفقيه أبو محمد : أي أول التصديق ، وقال بعض الناس : (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع ، فكلمة اسم جنس ، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة ، وقوله تعالى : (وَسَيِّداً) قال فيه قتادة : اي والله سيد في الحلم والعبادة والورع ، وقال مرة : معناه في العلم والعبادة ، وقال ابن جبير : (وَسَيِّداً) أي حليما ، وقال مرة : السيد التقي وقال الضحاك : (وَسَيِّداً) أي تقيا حليما ، وقال ابن زيد : السيد الشريف ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وقال ابن عباس : (وَسَيِّداً) يقول ، تقيا حليما ، وقال عكرمة : السيد الذي لا يغلبه الغضب.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب ، وقد تحصل العلم ليحيى عليه‌السلام بقوله عزوجل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وتحصل التقى بباقي الآية ، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، هذا لفظ يعم السؤدد ، وتفصيله أن يقال : بذل الندى ، وهذا هو الكرم وكف الأذى ، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد ، والإنقاذ من الهلكات ، وانظر أن النبي عليه‌السلام قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين ، وذكر حديث شفاعته في إطلاق الموقف ، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك ، وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيدا وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة ، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحدا أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له ،


وأبو بكر وعمر؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما ، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذورا ، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيرا من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريرا ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها ، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد ، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه‌السلام ، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد ، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد ، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة ، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا ، ومثال ذلك ، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس ، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز ، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان.

وقوله تعالى : (وَحَصُوراً) أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيرا وجهنم حصيرا ، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر ، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور ، قال الأخطل : [البسيط]

وشارب مربح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسوّار

ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر ، قال جرير : [الكامل]

ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا أميم ضنينا

وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه‌السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها ، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد الله وإما أبوه عن النبي عليه‌السلام ، أنه قال : كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء ، قال : ثم دلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويدا صغيرا ، ثم قال : وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا ، وقال ابن مسعود «الحصور» العنين ، وقال مجاهد وقتادة ، «الحصور» الذي لا يأتي النساء ، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء.

قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه‌السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنينا لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه كان يمسك نفسه تقى وجلدا في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء ، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح ، إلا بأن الله يسر له شيئا لا تكسب له فيه ، وباقي الآية بيّن ، وروي من صلاحه عليه‌السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقا وأخاديد.


قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠)

اختلف المفسرون لم قال زكرياء (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) فقال عكرمة والسدي : إنه نودي بهذه البشارة ، جاء الشيطان يكدر عليه نعمة ربه فقال هل تدري من ناداك؟ قال : نادتني ملائكة ربي قال بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك قال : فخالطت قلبه وسوسة وشك مكانه ، فقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام ، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟

قال الفقيه أبو محمد : وهذا تأويل حسن يليق بزكرياء عليه‌السلام وقال مكي : وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة.

قال الفقيه أبو محمد : وهذا قول ضعيف المعنى ، و (أَنَّى) معناها كيف ومن أين ، وقوله (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) استعارة كأن الزمان طريق والحوادث تتساوق فيه فإذا التقى حادثان فكأن كل واحد منهما قد بلغ صاحبه وحقيقة البلوغ في الأجرام أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه ، وحسن في الآية : (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) من حيث هي عبارة واهن منفعل وبلغت عبارة فاعل مستعل ، فتأمله ولا يعترض على هذا بقوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] لأنه قد أفصح بضعف حاله في ذكر العتيّ ، والعاقر الإنسان الذي لا يلد ، يقال ذلك للمرأة والرجل ، قال عامر بن الطفيل :

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا

جبانا فما عذري لدى كل مشهد؟

و «عاقر» بناء فاعل وهو على النسب وليس بجار على الفعل ، والإشارة بذلك في قوله : (كَذلِكَ اللهُ) ، يحتمل أن تكون إلى هذه الغريبة التي بشر بها أي كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، والكلام تام في قوله : (كَذلِكَ اللهُ) وقوله : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) شرح الإبهام الذي في ذلك ، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكرياء وحال امرأته كأنه قال : ربّ على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام على هذا التأويل في قوله : (كَذلِكَ) وقوله : (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب.

قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

«الآية» العلامة ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إن زكرياء قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق ، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام


ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى.

واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه منقطع ، وقرأ جمهور الناس (رَمْزاً) بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس ، «رمزا» بضمها ، وقرأ الأعمش «رمزا» بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جوية بن عائد: [الوافر]

وكان تكلّم الأبطال رمزا

وغمغمة لهم مثل الهدير

وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعا من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : (إِلَّا رَمْزاً) معناه إلا تحريكا بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : (إِلَّا رَمْزاً) ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «ألا تكلم» برفع الميم ، وهذا على أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه‌السلام : لا صمت يوما إلى الليل قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه‌السلام حيث قال : «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» ، لكنه قال له : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) ، وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ) معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و «العشي» في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي ، و «العشي» من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ تذوق

و «العشي» اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين و (الْإِبْكارِ مصدر أبكر


الرجل إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس ، وتتمادى البكرة شيئا بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة : [الطويل] أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر ومن الثاني قول جرير : [الطويل]

ألا بكرت سلمى فجدّ بكورها

وشقّ العصا بعد اجتماع أميرها

وقال مجاهد في تفسير (الْإِبْكارِ) : أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب.

قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ(٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

قال الطبري : العامل في (إِذْ) قوله (سَمِيعٌ) فهو عطف على قوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) [آل عمران : ٣٥] ، وقال كثير من النحاة : العامل في (إِذْ) في هذه الآية فعل مضمر تقديره «واذكر» وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه‌السلام ، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام ، وقرأ عبد الله بن عمر وابن مسعود ، «وإذ قال الملائكة» ، واختلف المفسرون هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده أو جمع من الملائكة؟ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٣٩] و (اصْطَفاكِ) مأخوذ من صفا يصفو وزنه ـ افتعل ـ وبدلت التاء طاء التناسب الصاد ، فالمعنى تخيرك لطاعته وقوله تعالى : (وَطَهَّرَكِ) معناه من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين قاله مجاهد وغيره ، وقال الزجّاج : قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس.

قال الفقيه أبو محمد : وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه.

وقوله تعالى : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) إن جعلنا (الْعالَمِينَ) عاما فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصا في أمر عيسى عليه‌السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل ، وإن جعلنا الاصطفاء عاما جعلنا قوله تعالى : (الْعالَمِينَ) مخصوصا في عالم ذلك الزمان ، قاله ابن جريج وغيره ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير نساء الجنة مريم بنت عمران ، وخير نساء الجنة ، خديجة بنت خويلد» وروي عنه أنه قال : «خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» فذهب الطبري وغيره إلى أن الضمير في قوله ـ نسائها ـ يراد به الجنة ، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا ، أي كل امرأة في زمانها ، وقال النبي عليه‌السلام ، «خير نساء ركبن الإبل ، صالح نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه إلى زوج في ذات يده» ، وقال أبو هريرة راوي الحديث : ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط ، وهذه الزيادة فيها غيب ، فلا يتأول أن أبا هريرة رضي الله عنه ، قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله


عليه وسلم ، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، «خير نساء العالمين أربع ، مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» ، وقد أسند الطبري ، أن النبي عليه‌السلام ، قال لفاطمة بنته ، «أنت سيدة نساء أهل الجنة ، إلا مريم بنت عمران ، البتول» ، وأنه قال ، «فضلت خديجة على نساء أمتي ، كما فضلت مريم على نساء العالمين».

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها ، وجدت مريم فيها متقدمة ، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على (الْعالَمِينَ) عموما أيضا ، وقد قال بعض الناس ، إن مريم نبية ، قال ابن إسحاق ، كانت الملائكة تقبل على مريم فتقول ، (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) ، الآية ، فيسمع ذلك زكريا فيقول ، إن لمريم لشأنا ، فمن مخاطبة الملائكة لها ، جعلها هذا القائل نبية ، وجمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة.

و (اقْنُتِي) معناه اعبدي وأطيعي ، قاله قتادة والحسن ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبيعليه‌السلام قال ، كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله ، ويحتمل أن يكون معناه ، أطيلي القيام في الصلاة ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو المناسب في المعنى لقوله ، (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) وبه قال مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا ، قامت حتى ورمت قدماها ، وروى الأوزاعي ، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها ، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها ، تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها ، وقال سعيد بن جبير ، (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) ، معناه أخلصي لربك ، واختلف المتأولون ، لم قدم السجود على الركوع؟ فقال قوم : كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم : الواو لا تعطي رتبة ، وإنما المعنى ، افعلي هذا وهذا ، وقد علم تقديم الركوع ، وهذه الآية أكثر إشكالا من قولنا ، قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك ، فالقول عندي في ذلك ، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة ، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى : وهذان يختصان بصلاتها مفردة ، وإلا فمن يصلي وراء إمام ، فليس يقال له أطل قيامك ، ثم أمرت ـ بعد ـ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها ، (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وقصد هنا معلم من معالم الصلاة ، لئلا يتكرر لفظ ، ولم يرد بالآية السجود والركوع ، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم.

قوله تعالى :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥)

هذه المخاطبة لمحمد عليه‌السلام ، والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما تقدم ذكره من القصص ، والأنباء الأخبار ،


و (الْغَيْبِ) ما غاب عن مدارك الإنسان ، و (نُوحِيهِ) معناه نلقيه في نفسك في خفاء ، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، ثم تختلف أنواعه ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب ، كما قال كعب بن زهير : [الطويل]

أتى العجم والآفاق منه قصائد

بقين بقاء الوحي في الحجر الأصمّ

تقول العرب : أوحى ، وتقول وحي ، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه‌السلام ، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ، ومحمد عليه‌السلام أمي من قوم أميين ، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولديهم معناه عندهم ومعهم ، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل ، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، وقال ابن إسحاق : إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعا منها لتحمل مؤونتها ، و (يَخْتَصِمُونَ) معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها ، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه ، وقال عليه‌السلام : لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه ، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قمارا ، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص ، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث ميت فجوزها الجمهور ومنعها أبو حنيفة ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرع بين ستة أعبد ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة ، وقوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره ، ينظرون ، (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، والعامل في قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) فعل مضمر تقديره اذكر إذ قالت الملائكة وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب ، وقال الزجّاج : العامل فيها (يَخْتَصِمُونَ) ، ويجوز أن يتعلق بقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) وهذا كله يرده المعنى ، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر : «إذ قال الملائكة» واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفا ، (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٣٩] فتأمله ، وتقدم ذكر القراءات في قوله (يُبَشِّرُكِ).

واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليه‌السلام (بِكَلِمَةٍ)؟ فقال قتادة : جعله «كلمة» إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى : لمرادته ـ كن ـ وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله ، وترجم الطبري فقال : وقال آخرون : بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : «الكلمة» هي عيسى ، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعى الطبري رحمه‌الله ، وقال قوم من أهل العلم : سماه الله «كلمة» من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون ، فهذه كلمة سبقت فيه من الله ، فمعنى الآية ، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه ، و (اسْمُهُ) في هذا الموضع ، معناه تسميته ، وجاء الضمير مذكرا من أجل المعنى ، إذ «الكلمة» عبارة عن ولد.


واختلف الناس في اشتقاق لفظة (الْمَسِيحُ) فقال قوم ، هو من ساح يسيح في الأرض ، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل ، وقال جمهور الناس : هو من ـ مسح ـ فوزنه ـ فعيل ، واختلفوا ـ بعد ـ في صورة اشتقاقه من ـ مسح ـ فقال قوم من العلماء ، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برىء ، فهو على هذين القولين ـ فعيل ـ بمعنى ـ فاعل ـ وقال ابن جبير : سمي بذلك لأنه مسح بالبركة ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين ـ فعيل ـ بمعنى مفعول ، وكذلك هو في قول من قال : مسحه الله ، فطهره من الذنوب ، قال إبراهيم النخعي : المسيح الصديق ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : (الْمَسِيحُ) الملك ، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى ، وغير ذلك من الآيات ، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس.

وقوله : (عِيسَى) يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه ، البدل من (الْمَسِيحُ) ، وعطف البيان ، وأن يكون خبرا بعد خبر ، ومنع بعض النحاة أن يكون خبرا بعد خبر وقال : كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة ، ويتجه أن يكون (عِيسَى) خبر ابتداء مضمر ، تقديره ، هو عيسى ابن مريم ، ويدعو إلى هذا كون قوله ، (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة ل (عِيسَى) إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف ، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة ل (عِيسَى) لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص ، هذه النزعة لأبي علي ، وفي صدر الكلام نظر ، و (وَجِيهاً) ، نصب على الحال وهو من الوجه ، أي له وجه ومنزلة عند الله والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه ، عظم وروعي أمره ، وتقول العرب : فلان له وجه في الناس وله جاه ، وهذا على قلب في اللفظة ، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به ، وجاه عيسى عليه‌السلام في الدنيا نبوته وذكره ، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته ، (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، معناه من الله تعالى.

قوله تعالى :

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

قوله : (وَيُكَلِّمُ) نائب عن حال تقديرها ومكلما وذلك معطوف على قوله : (وَجِيهاً) [آل عمران : ٤٥] ، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر : [الرجز].

بتّ أعشّيها بعضب باتر

يفصد في أسوقها وجائر

وقوله : (فِي الْمَهْدِ) حال من الضمير في (يُكَلِّمُ) ، و (كَهْلاً) حال معطوفة على قوله: (فِي الْمَهْدِ) ، وقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) ، حال معطوفة على قوله ، (وَيُكَلِّمُ) ، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان ، و (الْمَهْدِ) موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته ، وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس (كَهْلاً) ،


وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة ، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين ، وقال ابن زيد : فائدة قوله (كَهْلاً) الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلا ، وقال جمهور الناس : الكهل الذي بلغ سن الكهولة ، وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب ، واختلف الناس في حد الكهولة ، فقيل : الكهل ابن أربعين سنة ، وقيل : ابن خمس وثلاثين ، وقيل ، ابن ثلاث وثلاثين ، وقيل : ابن اثنين وثلاثين ، وهذا حد أولها. وأما آخرها فاثنتان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة.

وقول مريم : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و (يَمْسَسْنِي) ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : (كَذلِكِ) ، يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه‌السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، (يَخْلُقُ) من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه‌السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : (إِذا قَضى) معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في (لَهُ) عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة «فيكون» بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده «فيكون» بالنصب ، فوجه الرفع العطف على (يَقُولُ) ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : (فَيَكُونُ) ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] أنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن له جوابا في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جوابا ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال : امتلأ الحوض وقال قطني وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية غفر الله له.

قوله تعالى :

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)

قرأ نافع وعاصم «ويعلمه» بالياء ، وذلك عطف على (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) [آل عمران : ٤٥] كذا قال أبو علي : ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفا على (وَيُكَلِّمُ) [آل عمران : ٤٦] ، وقرأ الباقون ، و «نعلمه» بالنون ، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة ، قال الطبري : قراءة الياء عطف


على قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٧] ، وقراءة النون عطف على قوله : (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٤٤].

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى و (الْكِتابَ) هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب ، هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين ، وقال بعضهم : هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها ، وأما (الْحِكْمَةَ) ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء ، في الشرعيات ، والمواعظ ، ونحو ذلك ، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك ، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه ، وقد عبر بعض العلماء عن (الْحِكْمَةَ) بأنها الإصابة في القول والعمل ، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه‌السلام الحكمة ، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثورا عمن تقدم عيسى من نبي وعالم ، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك ، و (التَّوْراةَ) هي المنزلة على موسى عليه‌السلام ، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها ، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة ، موسى ويوشع بن نون وعزيز وعيسى عليهم‌السلام ، وذكر (الْإِنْجِيلَ) لمريم وهو ينزل ـ بعد ـ لأنه كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء وأنه سينزل. وقوله : (وَرَسُولاً) حال معطوفة على (وَيُعَلِّمُهُ) إذ التقدير ، ومعلما الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله (وَجِيهاً) [آل عمران : ٤٥] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولا ، وكانت رسالة عيسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، مبينا حكم التوراة ونادبا إلى العمل بها ومحللا أشياء مما حرم فيها ، كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير ، ومن أول القول لمريم إلى قوله (إِسْرائِيلَ) خطاب لمريم ، ومن قوله ، (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) إلى قوله (مُسْتَقِيمٌ) يحتمل أن يكون خطابا لمريم على معنى يكون من قوله لبني إسرائيل ، كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره ، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا فقال لهم ما تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدرا في صدر الكلام بعد قوله ، (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فيكون تقديره ، فجاء عيسى كما بشر الله رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر ، وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم» بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ ، «إني قد جئتكم» ، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات» وكذلك في قوله بعد هذا وجئتكم بآيات من ربكم واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ) ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، «إني» بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، «أني» بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، «إني» كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله ، خلقه من تراب إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : «وجئتكم بأني أخلق» ، وقيل : هي بدل من (أَنِّي) الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و (أَخْلُقُ) معناه ، أقدر وأهيئ بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] : [الكامل] :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري

وقوله (لَكُمْ) تقييد لقوله ، (أَخْلُقُ) لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح


بذلك قوله (بِإِذْنِ اللهِ) وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧] ومنه قول الشاعر : [مجزوء الكامل مرفّل]

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليله

وجمهور الناس قرأ «كهيئة» على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئا وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري «كهيّئة الطير» ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا» على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائرا من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا» بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا» بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و (الطَّيْرِ) اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي عن أبي الحسن ، وقوله (فَأَنْفُخُ فِيهِ) ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ ، ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث الضمير في سورة المائدة في قوله ، (فَتَنْفُخُ فِيها) [المائدة : ١١٠] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله (الطَّيْرِ) وكون عيسى عليه‌السلام خالقا بيده ونافخا بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له.

وقوله (بِإِذْنِ اللهِ) ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبدا في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٢٥١] ، وقول النبي عليه‌السلام ، وإذنها صماتها ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه‌السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر.

قوله تعالى :

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

(أُبْرِئُ) ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضا كما يقال في الذنب والدين ، واختلف المفسرون في (الْأَكْمَهَ) فقال مجاهد : (الْأَكْمَهَ) هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : (الْأَكْمَهَ) الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : (الْأَكْمَهَ) الأعمش ، وحكى النقاش قولا : أن (الْأَكْمَهَ) هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن


عباس أيضا وقتادة : (الْأَكْمَهَ) الذي يولد أعمى مضموم العين.

قال القاضي : وقد كان عيسى عليه‌السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في (الْأَكْمَهَ) إلا القول الأخير ، إذ (الْأَكْمَهَ) في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولو لا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسنا في معنى قيام الحجة به ، (وَالْأَبْرَصَ) معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي أنه أحيى سام بن نوح عليه‌السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعا ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها ، وآيات عيسى عليه‌السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه‌السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه‌السلام.

ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه‌السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك.

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُمْ) الآية ، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق : وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة ، معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم. وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهدا أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئا ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة فكان عيسى عليه‌السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله (بِما تَأْكُلُونَ) يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك (وَما تَدَّخِرُونَ) ، وقرأ الجمهور ، «تدّخرون» بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، «تذخرون» استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالا وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [زهير] [البسيط]

إن الكريم الذي يعطيك نائله

عفوا ويظلم أحيانا فيطّلم

بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدخرون» ـ بدال ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن


مسعود «لآيات» على الجمع ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن ـ بعد ـ وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو كما كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التشبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال.

قوله تعالى :

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)

قوله : (مُصَدِّقاً) حال معطوفة على قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) [آل عمران : ٤٩] ، لأن قوله (بِآيَةٍ) في موضع الحال ، وكان عيسى عليه‌السلام مصدقا للتوراة متبعا عاملا بما فيها ، قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس ، وقال قتادة في تفسير قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى ، وقال ابن جريج ، أحل لكم لحوم الإبل والشحوم ، قال الربيع : وأشياء من السمك ، وما لا صيصية له من الطير ، وكان في التوراة محرمات تركها شرع عيسى على حالها ، فلفظة «البعض» على هذا متمكنة ، وقال أبو عبيدة: «البعض» في هذه الآية بمعنى الكل ، وخطأه الناس في هذه المقالة وأنشد أبو عبيدة شاهدا على قوله بيت لبيد : [الكامل]

ترّاك أمكنة إذا لم يرضها

أو يخترم بعض النفوس حمامها

وليست في البيت له حجة لأن لبيدا أراد نفسه فهو تبعيض صحيح ، وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى : (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى رد أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله تعالى ، وقال عكرمة : «حرم عليكم» بفتح الحاء والراء المشددة ، وإسناد الفعل إلى الله تعالى أو إلى موسى عليه‌السلام ، وقرأ الجمهور (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) وفي مصحف عبد الله بن مسعود ، «وجئتكم بآيات» من ربكم ، وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) تحذير ودعاء إلى الله تعالى.

وقرأ جمهور الناس (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بكسر الألف على استئناف الخبر ، وقرأه قوم «أن الله ربي وربكم» بفتح الألف قال الطبري : «إن» بدل من «آية» ، في قوله (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون ، لأن الله ربي وربكم ، أو يكون المعنى ، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه ، وقوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) ، وهو لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات ، والصراط ، الطريق ، والمستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه.

قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ


آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤)

قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات ، تقديره ، فجاء عيسى عليه‌السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل ، (فَلَمَّا أَحَسَ) ومعنى أحس ، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض يقال أحسست بالشيء وحسيت به ، أصله ، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء ، و (الْكُفْرَ) هو التكذيب به ، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله ، فحينئذ طلب النصر ، والضمير في (مِنْهُمُ) لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد عليه‌السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم ، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها يقال (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس ، والأنصار جمع نصير ، كشهيد وأشهاد وغير ذلك ، وقيل جمع ناصر ، كصاحب وأصحاب وقوله : (إِلَى اللهِ) يحتمل معنيين ، أحدهما ، من ينصرني في السبيل إلى الله؟ فتكون (إِلَى) دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها ، والمعنى الثاني ، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي؟ فيكون بمنزلة قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ١] فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء ، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم ، إن ـ مع ـ تسد في هذه المعاني مسد «إلى» لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن (إِلَى) بمعنى مع حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] فقال (إِلَى) بمعنى مع وهذه عجمة بل (إِلَى) في هذه الآية ، غاية مجردة ، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر ، و (الْحَوارِيُّونَ) ، قوم مر بهم عيسى عليه‌السلام ، فدعاهم إلى نصره ، واتباع ملته ، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام ، وصبروا في ذات الله ، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك ، واختلف الناس لم قيل لهم (الْحَوارِيُّونَ)؟ فقال سعيد بن جبير ، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها ، وقال أبو أرطأة ، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي يبيضونها ، وقال قتادة ، الحواريون أصفياء الأنبياء ، الذين تصلح لهم الخلافة ، وقال الضحاك نحوه.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا تقرير حال القوم ، وليس بتفسير اللفظة ، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه‌السلام ، ابن عمته بهم في قوله : وحواريّ الزبير ، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ ، إذ هي من الحور ، وهو البياض ، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري ، وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار ، الحواريات ، لغلبة البياض عليهن ، ومنه قول أبي جلدة اليشكري :

فقل للحواريات يبكين غيرنا

ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

وحكى مكي : أن مريم دفعت عيسى عليه‌السلام في صغره في أعمال شتى ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألوانا شتى من ماء واحد ، وقرأ


جمهور الناس «الحواريّون» بتشديد الياء ، واحدهم ـ حواريّ ـ وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي ، وقرأ إبراهيم النخعي وأبوبكر الثقفي : «الحواريون» مخففة الياء في جميع القرآن ، قال أبو الفتح : العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها ، ومتى جاءت في نحو قولهم ، العاديون والقاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه ، فكان يجب على هذا أن يقال ، الحوارون ، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالا لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد محتمل للضمة ، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة وحملها الضمة تذكر الحال المرادة فيها.

وقول الحواريين : (وَاشْهَدْ) يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه‌السلام ، أي اشهد لنا عند الله ، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى كما تقول : أنا أشهد الله على كذا ، إذا عزمت وبالغت في الالتزام ، ومنه قول النبي عليه‌السلام في حجة الوداع : اللهم اشهد ، قال الطبري : وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران ، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى ، لا ما تقولونه أنتم ، يا من يدعي له الألوهية.

وقولهم : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) يريدون الإنجيل وآيات عيسى ، و (الرَّسُولَ) عيسىعليه‌السلام ، وقولهم : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم ، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب ، عبروا عن فعل الله بهم ذلك وقال ابن عباس : قولهم (مَعَ الشَّاهِدِينَ) معناه اجعلنا من أمة محمد عليه‌السلام في أن نكون ممن يشهد على الناس.

ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال : (وَمَكَرُوا) يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم ، ويروى أنهم تحيلوا له ، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتا فأخذوهم فيه ، فهذا مكر بني إسرائيل ، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى ، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة ، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكرا في قوله (وَمَكَرَ اللهُ) وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه ، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية ، وعلى أن عيسى قال للحواريين : من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحدهم ـ أنا ـ فكان ذلك ، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهوديا جاسوسا على عيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب ، فهذا معنى قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) وهذه أيضا تسمية عقوبة باسم الذنب ، والمكر في اللغة ، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك ، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي ، وقوله (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) معناه في أنه فاعل في حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل ، والله سبحانه أشد بطشا وأنفذ إرادة ، فهو خير من جهات لا تحصى ، لا إله إلا هو ، وذكر حصر عيسى عليه‌السلام ، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.


قوله تعالى :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ(٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٥٧)

قال الطبري : العامل في (إِذْ) قوله تعالى (وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] وقال غيره من النحاة : العامل فعل مضمر تقديره اذكر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأصوب ، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم ، و «عيسى» اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية ـ ايسوع ـ عدلته العرب إلى «عيسى» ، واختلف المفسرون في هذا التوفي ، فقال الربيع : هي وفاة نوم ، رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء : المعنى أني قابضك من الأرض ، ومحصنك أني مميتك ، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك ، عنده في السماء وفي بعض الكتب ، سبع ساعات ، وقال الفراء : هي وفاة موت ولكن المعنى ، (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، وقال مالك في جامع العتبية : مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، ووقع في كتاب مكي عن قوم : أن معنى (مُتَوَفِّيكَ) متقبل عملك ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ.

قال القاضي أبو محمد : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه‌السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، ثم يميته الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فقول ابن عباس رضي الله عنه : هي وفاة موت لا بد أن يتمم ، إما على قول وهب بن منبه ، وإما على قول الفراء ، وقوله تعالى : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله (إِلَيَ) إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة ، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة ، وقوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ) حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه ، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم ، تشبيها لذلك كله بالأدناس ، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له ، وقوله تعالى : (وَجاعِلُ) اسم فاعل للاستقبال ، وحذف تنوينه تخفيفا ، وهو متعد إلى مفعولين ، لأنه بمعنى مصيّر فأحدهما (الَّذِينَ) والآخر في قوله : (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقال ابن زيد : الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود ، والآية


مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد : فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكما دنيويا لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط ، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى ، نص على ذلك قتادة وغيره ، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين ، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه‌السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة ، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكرا ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله ، وقوله تعالى (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له : (ثُمَّ إِلَيَ) ، أي إلى حكمي وعدلي ، يرجع الناس ، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى ، وفي قوله تعالى : (فَأَحْكُمُ) إلى آخر الآية ، وعد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين.

وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة ، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل ، وإنما المعنى ، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون (عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالأسر والقتل والجزية والذل ، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك ، وقد أبرز الوجود هذا ، وفي (الْآخِرَةِ) معناه ، بعذاب النار ، ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيها على درجة الكمال ودعاء إليها ، وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء على الغيبة ، والفعل مسند إلى الله تعالى ، وقرأ الباقون وأبوبكر عن عاصم «فنوفيهم» بالنون ، وهي نون العظمة ، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال ، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله ، وتقدم نظير قوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) في قوله قبل (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ٣٢].

قوله تعالى :

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١)

(ذلِكَ) رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء ، و (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) خبر ابتداء وقوله (مِنَ الْآياتِ) لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون للتبعيض ، ويصح أن يكون (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) حالا ويكون الخبر في


قوله (مِنَ الْآياتِ) وعلى قول الكوفيين يكون قوله (نَتْلُوهُ) صلة لذلك ، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري :

وهذا تحملين طليق

ويكون الخبر في قوله : (مِنَ الْآياتِ) ، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير ، وهذا محمولا ، و (نَتْلُوهُ) معناه نسرده ، و (مِنَ الْآياتِ) ظاهره آيات القرآن ، ويحتمل أن يريد بقوله (مِنَ الْآياتِ) من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب ، فالمعنى أنها آيات لنبوتك ، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون (نَتْلُوهُ) حالا ، و (الذِّكْرِ) ما ينزل من عند الله ، و (الْحَكِيمِ) يجوز أن يتأول بمعنى المحكم ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة ، فيكون بناء اسم الفاعل ، قال ابن عباس ، (الذِّكْرِ) القرآن ، و (الْحَكِيمِ) الذي قد كمل في حكمته.

وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ، قالوا سبب نزول قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر عيسى ، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد ، فقال النبي عليه‌السلام ، وما يضر ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقالوا فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية. وقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ) عبر عنه بعض الناس ، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥] قالوا : معناه صفة الجنة.

قال الإمام أبو محمد : وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى : «أن المثل» الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل ، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها ، وفي هذه الآية صحة القياس ، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه‌السلام والكاف في قوله : (كَمَثَلِ) اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله (عِنْدَ اللهِ) عبارة عن الحق في نفسه ، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ، وقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) تفسير لمثل آدم ، الذي ينبغي أن يتصور ، والمثل والمثال بمعنى واحد ، ولا يجوز أن يكون (خَلَقَهُ) صلة لآدم ولا حالا منه ، قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه ، مضمنه تفسير المثل ، وقوله عزوجل : (ثُمَّ قالَ) ترتيب للأخبار لمحمد عليه‌السلام ، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قاله له (كُنْ) وقت كذا ، وعلى مذهب أبي علي الفارسي ، في أن القول مجازي ، مثل وقال قطني ، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين ، ف (ثُمَ) على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين ، وقراءة الجمهور «فيكون» ، بالرفع على معنى فهو يكون ، وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ، وقد تقدم توجيهها آنفا في مخاطبة مريم.

وقوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به ، قوله (مِنْ رَبِّكَ) ، أو الحق ذلك ، أو ما قلناه لك ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء ، تقديره هذا الحق و (الْمُمْتَرِينَ) هم الشاكون ، والمرية


الشك ، ونهي النبي عليه‌السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين ، وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره ، ولو قيل : فلا تكن ممتريا لكانت هذه الدلالة أقل ، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه‌السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.

وقوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) معناه جادلك ونازعك الحجة ، والضمير في قوله : (فِيهِ) يحتمل أن يعود على (عِيسى) ، ويحتمل أن يعود على (الْحَقُ) ، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا) الآية ، استدعاء المباهلة و (تَعالَوْا) تفاعلوا من العلو ، وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و (نَبْتَهِلْ) معناه نلتعن ، ويقال عليهم بهلة الله بمعنى اللعنة ، والابتهال : الجد في الدعاء بالبهلة.

وروي في قصص هذه الآية : أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه‌السلام وقولهم هو الله ، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه‌السلام الآية دعاهم إلى ذلك ، فروى الشعبي وغيره : أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم : إن كان نبيا ثم دعا عليكم هلكتم ، وإن كان ملكا فظهر لم يبق عليكم ، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه؟ قال : إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محتضنا حسينا آخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الميعاد ، فقالوا : نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء ، قالوا : لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال : فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفا في رجب وألفا في صفر وطلبوا منه رجلا أمينا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال عليه‌السلام : لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة ، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم قالوا : دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : يا معشر النصارى ، والله لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لا عن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه ، فأتوا النبي عليه‌السلام ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له : ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى ، وروى السدي وغيره أن النبي عليه‌السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا فصالحوا النبي عليه‌السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض ، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة


وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا عنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض ، وقال أيضا : لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي نارا ، وروى علباء بن أحمر اليشكري قال : لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم ، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ فلا تلاعنوا فانتهوا ، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي عليه‌السلام جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط.

قوله تعالى :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

(هذا) خبر من الله تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة ب (هذا) هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه‌السلام ، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم : و (الْقَصَصُ) معناه الأخبار ، تقول : قص يقص ، قصا وقصصا ، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئا بعد شيء ، قال قوم : هو مأخوذ من قص الأثر ، وقوله (لَهُوَ) يحتمل أن يكون فصلا ويحتمل أن يكون ابتداء ، و (مِنْ) قوله (مِنْ إِلهٍ) مؤكدة بعد النفي ، وهي التي يتم الكلام دونها لكنها تعطي معنى التأكيد ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد.

واختلف المفسرون من المراد بقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا) فقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله عليه‌السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وقاله الربيع وابن جريج ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت الآية في وفد نجران ، وقاله السدي ، وقال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء» ، والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران ، لكن لفظ (أَهْلَ الْكِتابِ) يعمهم وسواهم من النصارى واليهود ، فدعا النبي عليه‌السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية ، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم ، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة ، وقرأ جمهور الناس «إلى كلمة» بفتح الكاف وكسر اللام ، وروى أبو


السمال : «كلمة» بفتح الكاف وسكون اللام ، وروي عنه أنه قرأ «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام ، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد ، كبد بكسر الكاف وسكون الباء ، و «الكلمة» هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها ، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله (أَلَّا نَعْبُدَ) الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة ، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد ، وقال أبو العالية : «الكلمة السواء» ، لا إله إلا الله.

قال الفقيه الإمام : وقوله : (سَواءٍ) نعت للكلمة ، قال قتادة والربيع وغيرهما : معناه إلى كلمة عدل ، فهذا معنى «السواء» ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم» ، كما فسر قتادة والربيع ، وقال بعض المفسرين : معناه إلى كلمة قصد.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قريب في المعنى من الأول ، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها ، والذي أقوله في لفظة (سَواءٍ) انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، ف (سَواءٍ) على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه. والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل ، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، وعلى هذا الحد جاءت لفظة (سَواءٍ) في قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] على بعض التأويلات ، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرا مقاسما لك في عيشك ، لكنت قد دعوته إلى السواء ، الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب برحمته.

وقوله (أَلَّا نَعْبُدَ) يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى ، إلى (أَلَّا نَعْبُدَ) ، فذلك على البدل من (كَلِمَةٍ) ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى ، هي (أَلَّا نَعْبُدَ) وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع (نَعْبُدَ) إكثار منهم فاختصرته ، واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب ، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية ، وعبادتهم لهم على ذلك ، كعزير وعيسى ابن مريم ، وبهذا فسر عكرمة ، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعا ، وبهذا فسر ابن جريج ، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه‌السلام ، وقوله تعالى : (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون.

قوله تعالى :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا


تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٦٦)

اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية ، فقال ابن عباس : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي عليه‌السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى ، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله الآية ، وقال السدي وقتادة : وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضا : أنهما قالا نزلت الآية بسبب دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهوديا ، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له ، والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحدا ، وأن الآية في اليهود والنصارى ، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك؟ وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى ، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها ، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلا لم تحدث في الأرض ، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة ، ولما كان الدليل عقليا قال الله تعالى لهم موبخا (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟

واختلف القراء في قوله (ها أَنْتُمْ) في المد والهمز وتركه ، فقرأ ابن كثير ، «هأنتم» ، في وزن هعنتم ، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» استفهاما بلا همز ، وقرأ الباقون ، «ها أنتم» ، ممدودا مهموزا ، ولم يختلفوا في مد (هؤُلاءِ) وأولاء ، فوجه قراءة ابن كثير ، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء ، أراد «أأنتم» ، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين ، يجوز أن تكون «ها» التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ، ويكون التنبيه داخلا على الجملة ، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت ـ يا ـ التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا ، وفي قول الشاعر : [البسيط]

يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم

أمّ الهنيّد من زند لها واري

وقول الآخر : [البسيط]

يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصّالحين على سمعان من جار

وخففت الهمزة من «أنتم» ولم تحقق بعد الألف ، كما قالوا في هباءة هباة ، ويجوز أن تكون الهاء في (ها أَنْتُمْ) بدلا من همزة الاستفهام ، كوجه قراءة ابن كثير ، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين ، لتفصل بينهما ، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم» مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو ، وحققوا الهمزة التي بعد الألف ، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع ، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو ، فينبغي أن تكون «ها» في قوله للتنبيه ولا تكون بدلا من همزة الاستفهام ، وأما (هؤُلاءِ) ففيه لغتان ، المد والقصر ، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات : [الخفيف].

هؤلا ثمّ هؤلاء قد أعطيت

نعالا محذوّة بنعال

وأما إعراب (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) فابتداء وخبر ، و (حاجَجْتُمْ) في موضع الحال لا يستغنى عنها ، وهي


بمنزلة قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٥] ويحتمل أن يكون (هؤُلاءِ) بدلا أو صفة ويكون الخبر (حاجَجْتُمْ) وعلى مذهب الكوفيين (حاجَجْتُمْ) ، صلة لأولاء والخبر في قوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) ومعنى قوله تعالى : (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي على زعمكم ، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته.

قال الفقيه الإمام : وذهب عنه رحمه‌الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما كان هنالك على حقيقته ، وباقي الآية بين.

قوله تعالى :

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

أخبر الله تعالى في هذه الآية ، عن حقيقة أمر إبراهيم ، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية ، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة ، ثم نفى نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالا بل حفظته ، وما كنت سارقا ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ.

ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه‌السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهنا يدخل كل من اتبع الحنيفية في الفترات (وَهذَا النَّبِيُ) محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة ، و (النَّبِيُ) في الإعراب نعت أو عطف بيان ، أو بدل ، وفي كونه بدلا نظر ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين ، ثم أخبر أن الله تعالى (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ، وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة ، و «الحنيف» مأخوذ من الحنف ، وهو الاستقامة وقيل هو الميل ، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف ، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم ، ومن الميل معناه المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق ، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة الحنيف ، حتى قال بعضهم : الحنيف الحاج ، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه كالحج وغيره ، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالما من اليهود ، فسأله عن دينه ، وقال له : إني أريد أن أكون على دينكم ، فقال اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال : ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا ، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم ، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا


الله ، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى ، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي ، إلا أن النصراني قال : بنصيبك من لعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعا يديه إلى الله ، وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم ، وروى عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ، ثم قرأ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية.

قوله تعالى :

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ(٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١)

أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين ، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فتحتمل (مِنْ) أن تكون للتبعيض ، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم ، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وقال الطبري : (يُضِلُّونَكُمْ) معناه يهلكونكم ، واستشهد ببيت جرير.

كنت القذى في موج أخضر مزبد

قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

وقول النابغة : [الطويل]

فآب مضلّوه بعين جليّة

وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك ، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم ، قوله تعالى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون ، ثم أعلم أنهم لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم.

ثم وقفهم تعالى موبخا لهم على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : قل لهم يا محمد ، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن؟ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم ، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي ، وتحتمل الآية أن يريد «بالآيات» ما ظهر على يدي محمد عليه‌السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجماعات وغير ذلك و (تَشْهَدُونَ) على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون ، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله ، فلما ظهر كفروا به حسدا ، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها ، قال مكي : وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران.


وقوله تعالى : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ) معناه تخلطون ، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته ، ومنه قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام : ٩] وتقول : لبست الثوب بكسر الباء ، قال ابن زيد : (الْحَقَ) الذي لبسوه هو التوراة المنزلة ، و «الباطل» الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة ، وقال ابن عباس : (الْحَقَ) إسلامهم بكرة ، و «الباطل» كفرهم عشية ، والآية نزلت في قول عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف. تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار ، ونكفر آخره ، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم ، وقال قتادة وابن جريج : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها؟ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين ، وقال بعض المفسرين : (الْحَقَ) الذي لبسوه قولهم : محمد نبي مرسل ، و «الباطل» الذي لبسوه به قول أحبارهم : لكن ليس إلينا بل ملة موسى مؤبدة ، وقوله تعالى : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يريد شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم ، وفي قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) توقيف على العناد ظاهر ، قال أبو إسحاق الزجّاج : ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك ، لم تجمعون ذا وذا ، على أن تكتموا في موضع نصب على الصرف في قول الكافرين ، وبإضمار «أن» ، في قول أصحابنا ، قال أبو علي : الصرف هاهنا يقبح ، وكذلك إضمار «أن» ، لأن (تَكْتُمُونَ) ، معطوف على موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : أتأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي : [الرجز]

وألحق بالحجاز فاستريحا

وقد قال سيبويه في قولك : أسرت حتى تدخل المدينة؟ لا يجوز إلا النصب في تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب ، وإذا قلت : أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت ، لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)

أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع ، قال الحسن : قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم : قال بعض الأحبار : لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار ، فسيقول المسلمون عند ذلك : ما بال هؤلاء كانوا معناه ثم انصرفوا عنا؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون ، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه‌السلام.


قال الفقيه الإمام أبو محمد : ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم ، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك ، جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكرة ، فقالوا : يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا ، ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا ، ثم رجعوا بالعشي ، فقالوا : قد نظرنا ولست به (وَجْهَ) على هذا التأويل منصوب بقوله (آمِنُوا) والمعنى أظهروا الإيمان في (وَجْهَ النَّهارِ) ، والضمير في قوله (آخِرَهُ) عائد على (النَّهارِ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم : نزلت الآية ، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين ، فصلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار ، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه.

قال الفقيه الإمام : وهذا القول قريب من القول الأول ، وقال جماعة من المفسرين : نزلت هذه الآية في أمر القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام ، كما كان يصلي ، ثم حولت القبلة ، فصلى الظهر ، وقيل العصر إلى مكة ، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب : آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة.

قال الفقيه الإمام : والعامل في قوله (وَجْهَ النَّهارِ) على هذا التأويل قوله : (أُنْزِلَ) والضمير في قوله : (آخِرَهُ) يحتمل أن يعود على (النَّهارِ) أو يعود على «الذي أنزل» ، و (يَرْجِعُونَ) في هذا التأويل ، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل ، و (وَجْهَ النَّهارِ) أوله الذي يواجه منه ، تشبيها بوجه الإنسان ، وكذلك تقول : صدر النهار وغرة العام والشهر ، ومنه قول النبي عليه‌السلام أقتلته في غرة الإسلام؟ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي : [الكامل]

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النّساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلّج الأسحار

يقول هذا في مالك بن زهير بن جذيمة العبسي وكانوا قد أخذوا بثأره ، وكان القتيل عندهم لا يناح عليه ولا يندب إلا بعد أخذ ثأره ، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما يدله على أنّا قد أدركنا ثأره ، فيكمد لذلك ويغتم ، ومن استعارة الوجه قولهم : فعلت كذا على وجه الدهر ، أي في القديم.

وذكر الله تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، أنهم قالوا : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة ، واختلف الناس في قوله تعالى: (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ) ، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل : الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراض بين الكلامين.

قال القاضي : والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني : أحدها : ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذارا أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم ، وحذرا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر ، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون التقدير ، أن لا يؤتى فحذفت ـ لا ـ لدلالة الكلام ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه : ولا تصدقوا وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما


أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضدا له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم ، (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ، بمعنى : إلا أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه : ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته ، إذ قد علمتم صحتها ، إلا لليهود الذين هم منكم ، و (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) ، صفة لحال محمد فالمعنى ، تستروا بإقراركم ، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب يحاجوكم بالإقرار عند ربكم ، قال أبو علي و (تُؤْمِنُوا) تعدى بالباء المقدرة في قوله (أَنْ يُؤْتى) كما تعدى أول الآية في قوله ، (بِالَّذِي أُنْزِلَ) ، واللام في قوله ، (لِمَنْ تَبِعَ) ، لا يسهل أن تعلق ب (تُؤْمِنُوا) ، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل جارين ، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد ، وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى ، والمعنى : لا تقروا بأن الله يؤتي أحدا مثل ما أوتيتم إلا لمن ، فهذا كما تقول : أقررت لزيد بألف فتكون اللام متعلة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ولا تتعلق على حد المفعول ، قال أبو علي : وقد تعدى «آمن» باللام في قوله (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) [يونس : ٨٣] وقوله (آمَنْتُمْ لَهُ) [طه : ٧١] [الشعراء : ٤٩] وقوله (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١] واحد ، إنما دخل في هذا الكلام بسبب النفي الواقع في أوله ، قوله : (لا تُؤْمِنُوا) كما دخلت ـ من ـ في قوله (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] فكما دخلت ـ من ـ في صلة أن ينزل ، لأنه مفعول النفي اللاحق لأول الكلام ، فكذلك دخل (أَحَدٌ) في صلة ـ أن ـ في قوله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) لدخول النفي في أول الكلام.

قال القاضي : وهذا لأن أحدا الذي فيه الشياع ، لا يجيء في واجب من الكلام ، لأنه لا يفيد معنى ، وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى» بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير ، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة ، إلا الاعتراض الذي هو : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل (أَنْ يُؤْتى) على ما قبله من الفعل ، لأن الاستفهام قاطع ، فيجوز أن تكون ـ أن ـ في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون (يُحاجُّوكُمْ) على هذا معطوفا على (أَنْ يُؤْتى) قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع ـ أن ـ منصوبا ، فيكون المعنى : أتشيعون أو أتذكرون (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ)؟ ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٧٦] فعلى كلا الوجهين معنى الآية ، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمدا نبي مبعوث ، ويكون قوله تعالى: (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم. قال أبو علي : و (أَحَدٌ) على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة ، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلا أن يقدر أن أحدا الذي في قولك ، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى واحد ، وجمع ضميره في قوله (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) حملا على المعنى ، إذ لأحد المراد بمثل النبوة اتباع ، فهو في معنى الكثرة ، قال أبو علي : وهذا موضع


ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة.

قال القاضي : إلا أن أحدا في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع ، وقرأ الأعمش ، وشعيب بن أبي حمزة ـ «إن يؤتى» ـ بكسر الهمزة بمعنى ، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي ، ويحتمل أن تكون بمعنى ، إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له ، فهذا ترتيب التفسير والقراءات على قول من قال : الكلام كله من قول الطائفة.

وقال السدي وغيره : الكلام كله من قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ، إلى آخر الآية هو مما أمر به محمد عليه‌السلام أن يقوله لأمته ، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى : قل إن الهدى هو هذا الهدى ، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وحكي عن بعض النحويين أن المعنى : أن لا يؤتي أحدا ، وحذفت ـ لا ـ لأن في الكلام دليلا عليها ، كما في قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أي أن لا تضلوا ، وحكي عن أبي العباس المبرد : لا تحذف لا ، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا كراهة «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم» ، أي ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد ، وتحمل عليه قراءة الأعمش وابن أبي حمزة ـ «إن يؤتى» ـ بكسر الألف ، كأنه عليه‌السلام يخبر أمته أن الله لا يعطي أحدا ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد عليه‌السلام لكونها وسطا ويكون قوله تعالى : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) على هذه المعاني التي ترتبت في قول السدي ، تحتمل معنيين أحدهما «أو فليحاجوكم عند ربكم» ، يعني اليهود ، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك ، والمعنى الثاني : أن يكون قوله ، (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) بمعنى التقرير والإزراء باليهود ، كأنه قال : أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله وفضلكم به؟ وقوله : (هُدَى اللهِ) على جميع ما تقدم خبران.

وقال قتادة والربيع : الكلام من قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) إلى آخر الآية ، هو مما أمر به محمد عليه‌السلام أن يقوله للطائفة التي قالت (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد ، وتقدير الخبر المحذوف (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) ، حسدتم وكفرتم ، ويكون قوله (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) محمولا على المعنى ، كأنه قال : أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) على ما أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة ، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد ، فيحتمل أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام ، وذلك هو الظاهر من لفظ قتادة فإنه قال : يقول لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك ، ويحتمل أن يكون قوله : (أَنْ يُؤْتى) بدلا من قوله (هُدَى اللهِ) ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) بمعنى ، أو فليحاجوكم ، فإنه يغلبونكم ، ويحتمل قوله ، (أَنْ يُؤْتى) خبر ـ «إن»


ويكون قوله (هُدَى اللهِ) بدلا من الهدى ، وهذا في المعنى قريب من الذي قبله ، وقال ابن جريج : قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى) هو من قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود ، وتم الكلام في قوله (أُوتِيتُمْ) وقوله تعالى: (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) متصل بقول الطائفة (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ومنه ، وهذا القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان.

وقرأ ابن مسعود : «أن يحاجوكم» بدل (أَوْ) ، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم مع بعضها ، وقوله (عِنْدَ رَبِّكُمْ) يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة ، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم ، والعلم الذي جعل في العباد ، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفا ، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق ، وقرأ الحسن «إن يؤتى» أحد بكسر الهمزة والتاء ، على إسناد الفعل إلى (أَحَدٌ) ، والمعنى : أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطابا من محمد عليه‌السلام لأمته ، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحدا.

قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)

في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) إلى قوله (الْعَظِيمِ) ، تكذيب لليهود في قولهم: نبوءة موسى مؤبدة ، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف ، وسائر ما في الآية من لفظة (واسِعٌ) وغير ذلك قد تقدم نظيره.

ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة ، ومقصد الآية ذم الخونة منهم ، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله ، في استحلالهم أموال العرب ، وفي قراءة أبي بن كعب «تيمنه» بتاء وياء في الحرفين وكذلك ـ تيمنا ـ في يوسف ، قال أبو عمرو الداني : وهي لغة تميم.

قال القاضي : وما أراها إلا لغة قرشية ، وهي كسر نون الجماعة كنستعين ، وألف المتكلم كقول ابن عمر ، لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في «تيمنا» وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب ، وقد تقدم القول في «القنطار» في صدر السورة وقرأ جمهور الناس ، «يؤده إليك» بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار ، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير «الدينار» ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء ، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن ، نحو (نُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥] و (نُؤْتِهِنُوَلِّهِ) إلا حرفا حكي عن أبي عمرو أنه كسره ، وهو قوله تعالى : (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) [النمل : ٢٨] قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط


عليه ، كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا : أنه يكسر كسرا خفيفا ، و «القنطار» في هذه الآية : مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل ، وأما «الدينار» فيحتمل أن يكون كذلك ، مثالا لما قل ، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد ، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة ، وقرأ جمهور الناس «دمت» بضم الدال ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان وغيرهم : «دمت ودمتم» ، بكسر الدال في جميع القرآن ، قال أبو إسحاق : من قولهم : «دمت» ، تدام ، نمت ، تنام ، وهي لغة ، ودام معناه ثبت على حال ما ، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشيء ومنه قول ذي الرمة : [البسيط]

والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم

والدوام ، الدوار يأخذ في رأس الإنسان ، فيرى الأشياء تدور له ، وتدويم الطائر في السماء ، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه ، وقوله (قائِماً) يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد : معناه قائما على اقتضاء دينك.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام ، فعلى هذا التأويل ، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله ، أي اجتهاده فيها ، وقال السدي وغيره : (قائِماً) في هذه الآية معناه : قائما على رأسه ، على الهيئة المعروفة ، وتلك نهاية الحفز ، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر ، يريد أن يستقبله ، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن ، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي ، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب ، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود : نحن لا نؤدي إليكم شيئا حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه ، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام وأسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية حامية من ذلك ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

قوله تعال :

(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٧٧)

الإشارة ب (ذلِكَ) إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه ، على أحد التأويلين ، والضمير في ،


(قالُوا) ، يعني به لفيف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أهل الكتاب ، والعرب أميون أصحاب أوثان ، فأموالهم لناحلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك ، و «الأميون» القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة ، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل ، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور :

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة

من السرح موجود عليّ طريق

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] هو من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب ، وروي أن رجلا قال لابن عباس : إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال : وتقولون ماذا؟ قال نقول : ليس علينا بأس ، فقال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء ، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها ، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا قول جماعة من المتأولين ، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما : أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذبا منها وهي عالمة بكذبها في ذلك قالا : والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل.

ثم رد الله تعالى في صدر قولهم ، ليس علينا بقوله (بَلى) أي عليهم سبيل وحجة وتبعة ، ثم أخبر على جهة الشرط أن (مَنْ أَوْفى) بالعهد (وَاتَّقى) عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله ، وتقول العرب : وفى بالعهد ، وأوفى به بمعنى ، وأوفى ، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره ، على أن الضمير في قوله ، (بِعَهْدِهِ) عائد على الله تعالى ، وقال بعض المفسرين : هو عائد على (مَنْ).

قال الفقيه الإمام أبو محمد : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان ، وقال ابن عباس : (اتَّقى) في هذه الآية ، معناه : اتقى الشرك ، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفا للتقوى وحضّا عليها.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق ، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته ، واختلف المفسرون في سبب نزولها ، فقال عكرمة : نزلت في أحبار اليهود ، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها ، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث : إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي ، فنزلت الآية ، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلا قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية ، فنكل الأشعث عن اليمين ، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضا أخرى ، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس ، وقال الشعبي : نزلت الآية في


رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار ، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثا لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولو لا المساء ما باعها ، فنزلت الآية بسببه ، وقال سعيد بن المسيب ، اليمين الفاجرة من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود : كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر ، إذا فجر فيها صاحبها ، وقد جعل الله «الأيمان» في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضا ، والخلاق : الحظ والنصيب والقدر ، وهو مستعمل في المستحبات ، وقال الطبري : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) معناه بما يسرهم وقال غيره : نفى تعالى أن يكلمهم جملة لأنه يكلم عباده المؤمنين المتقين ، وقال قوم من العلماء : وهي عبارة عن الغضب ، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) يحتمل معنيين ، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها ، والآخر ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة و (أَلِيمٌ) فعيل بمعنى ، مفعل ، فالمعنى ، مؤلم.

قوله تعالى :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ)

الضمير في (مِنْهُمْ) ، عائد على أهل الكتاب ، و «الفريق» ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئا عن شيء ، و (يَلْوُونَ) معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليّ ، وحقيقة الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيها بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فلو كان في ليلى شذى من خصومة

للوّيت أعناق الخصوم الملاويا

وقال الآخر : [الرجز]

ألفيتني ألوي بعيدا مستمر

وقرأ جمهور الناس ، «يلوون» ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، «يلوّون» بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد «يلون» بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل «يلون» مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء «يلوون» فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلون» و (الْكِتابِ) في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله (لِتَحْسَبُوهُ) هو


للمسلمين وقوله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نفي أن يكون منزلا كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وقوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ) معناه لأحد من الناس ، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه ، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه ، كقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] وقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النحل : ٦٠] فهذا منتف عقلا ، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين ، و (الْكِتابِ) في هذه الآية اسم جنس ، و (الْحُكْمَ) بمعنى الحكمة ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : إن من الشعر لحكما ، و (ثُمَ) في قوله تعالى : (ثُمَّ يَقُولَ) معطية تعظيم الذنب في القول ، بعد مهلة من هذا الإنعام ، وقوله (عِباداً) هو جمع عبد ، ومن جموعه عبيد وعبدى ، قال بعض اللغويين ، هذه الجموع بمعنى ، وقال قوم ، العباد لله ، والعبيد والعبدى للبشر ، وقال قوم : العبدى ، إنما تقال في العبيد بني العبيد ، وكأنه بناء مبالغة ، تقتضي الإغراق في العبودية.

قال القاضي أبو محمد : والذي استقريت في لفظة العباد ، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [البقرة : ٢٠٧] [آل عمران : ٣٠] و (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] فنوه بهم ، وقال بعض اللغويين : إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد ، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله ، وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، ومنه قول امرئ القيس : [السريع].

قولا لدودان عبيد العصى

ما غرّكم بالأسد الباسل

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣]

قال الإمام أبو محمد : فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) اعبدوني واجعلوني إلها.

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ) فقال النقاش وغيره : الإشارة


إلى عيسى عليه‌السلام ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره ، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين : بل الإشارة إلى محمدعليه‌السلام ، وسبب نزول الآية ، أن أبا رافع القرظي ، قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت ، فنزلت الآية ، في ذلك ، قال بعض العلماء : أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما تلا عليهم (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران : ٣١] وإنما معنى الآية ، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله ، فحرفوها بتأويلهم ، وهذا من نوع ليّهم الكتاب بألسنتهم ، وقرأ جمهور القراء «ثم يقول» بالنصب ، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو «ثم يقول» برفع اللام ، وهذا على القطع وإضمار مبتدأ ، وقرأ عيسى بن عمر ، «عبادا لي» بتحريك الياء مفتوحة.

وقوله تعالى :

(وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ)

المعنى (وَلكِنْ) يقول : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وهو جمع رباني ، واختلف النحاة في هذه النسبة ، فقال قوم : هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه ، العامل بطاعته ، المعلم للناس ما أمر به ، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا ، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر ، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس ، وعالمهم السائس لأمرهم ، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى ، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه رباني ، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني ، فقال أبو رزين : الرباني : الحكيم العالم ، وقال مجاهد : الرباني الفقيه ، وقال قتادة وغيره : الرباني العالم الحليم ، وقال ابن عباس : هو الحكيم الفقيه ، وقال الضحاك : هو الفقيه العالم ، وقال ابن زيد : الرباني والي الأمر ، يرب الناس أي يصلحهم ، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

قال الفقيه أبو محمد : فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس ، وقوله (بِما كُنْتُمْ) معناه : بسبب كونكم عالمين دارسين ، فما


مصدرية ، ولا يجوز أن تكون موصولة ، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه : (كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) ، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان» قد استوفت خبرها ظاهرا ، وهو (تُعَلِّمُونَ) وكذلك (تُعَلِّمُونَ) قد استوفى مفعوله وهو (الْكِتابَ) ظاهرا ، فلم يبق إلا أن (ما) مصدرية ، إذ لا يمكن عائد ، و (تُعَلِّمُونَ) بمعنى تعرفون ، فهي متعدية إلى مفعول واحد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «تعلمون» بسكون العين ، وتخفيف اللام ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تعلّمون» مثقلا ، بضم التاء وكسر اللام ، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، تقديره : تعلمون الناس الكتاب.

قال الفقيه الإمام : والقراءتان متقاربتا المعنى ، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم (تَدْرُسُونَ) وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانيا ، وليس التعليم شرطا في ذلك ، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم ، والعلم لا يتضمن التعليم ، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح.

قال الفقيه الإمام : ومن حيث العالم بحال من يعلم ، فالتعليم كأنه في ضمن العلم ، وقراءة التخفيف عندي أرجح ، وقرأ مجاهد والحسن «تعلّمون» بفتح التاء والعين ، وشد اللام المفتوحة ، وقرأ جمهور الناس ، «تدرسون» بضم الراء ، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره ، وقرأ أبو حيوة «تدرسون» بكسر الراء ، وهذا على أنه يقال في مضارع درس ، يدرس ويدرس وروي عن أبي حيوة ، أنه قرأ «تدرّسون» بضم التاء ، وكسر الراء وشدها ، بمعنى تدرسون غيركم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي : «ولا يأمركم» برفع الراء ، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفا ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) نصبا ، ولا خلاف في الراء من قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ) إلا اختلاس أبي عامر ، فمن رفع قوله : «ولا يأمركم» ، فهو على القطع ، قال سيبويه : المعنى ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وغيره : المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي قراءة ابن مسعود : «ولن يأمركم» ، فهذه قراءة تدل على القطع ، وأما قراءة من نصب الراء ، فهي عطف على قوله : (أَنْ يُؤْتِيَهُ) [آل عمران : ٧٩] والمعنى ولا له أن يأمركم ، قاله أبو علي وغيره ، وقال الطبري : قوله (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالنصب ، معطوف على قوله ، (ثُمَّ يَقُولَ) [آل عمران : ٧٩].

قال الفقيه أبو محمد : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى ، والأرباب في هذه الآية وقوله تعالى : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده.

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية ، المعنى واذكر يا محمد «إذ» ويحتمل أن يكون «أخذ» هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهرة براهينهم والنصرة له ، واختلف


المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات «النبيين» خطأ من الكتاب.

قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبيا ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم.

وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : «لما» بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما آتيناكم ، إذ أنتم القادة والرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و «ما» في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و «من» لبيان الجنس ، وقوله ، (ثُمَّ جاءَكُمْ) الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفا كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : (لِما مَعَكُمْ). هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٩٠] لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه‌الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في (لَتُؤْمِنُنَ) ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز.

وقرأ سائر السبعة : «لما» بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) وخبر الابتداء قوله (لَتُؤْمِنُنَ) ، و (لَتُؤْمِنُنَ) متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيدا فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرنا هما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائدا من


الخبر الذي هو (لَتُؤْمِنُنَ) فهو قوله تعالى : (بِهِ) فالهاء من (بِهِ) عائدة على «ما» ولا يجوز أن تعود على (رَسُولٌ) فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما» بفتح اللام ، هو أن تكون «ما» للجزاء شرطا ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و (جاءَكُمْ) معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٦٠] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : (لَتُؤْمِنُنَ) وهذه اللام الداخلة على «أن» لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٧٣]. قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جنتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد.

والضمير في قوله تعالى : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) عائد على (رَسُولٌ) ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله (لَتُؤْمِنُنَ) عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) فقال : «ما» هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أراد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون «ما» حرفا كما جاءت حرفا في قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] وفي قوله (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٥] ، والله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل : أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما» ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، (لَتُؤْمِنُنَ) كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : «لمّا آتيناكم» بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن «لما» هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني في «لما» في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما» ، وزيدت «من» في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما» ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما» بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، «آتيناكم» بالنون ، وقرأ الباقون ، «آتيناكم» بالتاء ، و (رَسُولٌ) في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : «مصدقا» بالنصب على الحال.


قوله تعالى :

(قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣)

هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، (وَأَخَذْتُمْ) في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا وقال الطبري : (أَخَذْتُمْ) في هذه الآية معناه : قبلتم ، و «الإصر» : العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى (فَاشْهَدُوا) يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وفي التي في قوله (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره.

قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها قوله تعالى : وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله ، (فَاشْهَدُوا) أمر بالأداء وقرأ أبو عمرو : «يبغون» بالياء مفتوحة ، و «ترجعون» بالتاء مضمومة ، وقرأ عاصم ، «يبغون» و «يرجعون» بالياء معجمة من تحت فيهما ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل وتبغون معناه : تطلبون ، و (أَسْلَمَ) في هذه الآية بمعنى : استسلم عند جمهور المفسرين ، و (مَنْ) في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين ، واختلفوا في معنى قوله (طَوْعاً وَكَرْهاً) فقال مجاهد : هذه الآية كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر : ٣٨] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا عموم في لفظ الآية ، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و (أَسْلَمَ) فيه بمعنى استسلم ، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع ، وعبارته رحمه‌الله : كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها ، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعا ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق ، وروي عن مجاهد أنه قال : الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعا ويسجد الكافر وهو كاره ، وقال الشعبي : الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره ، وذلك هو الذي يسجد كرها.

قال الفقيه الإمام : وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات ، وقال الحسن بن


أبي الحسن : معنى الآية : أنه أسلم قوم طوعا ، وأسلم قوم خوف السيف ، وقال مطر الوراق : أسلمت الملائكة طوعا ، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف.

قال الفقيه الإمام : وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان ، والآية ظاهرها العموم ، ومعناها الخصوص ، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعا ولا كرها على هذا الحد ، وقال قتادة : الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه.

قال الفقيه الإمام : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلا في أفراد ، والمعنى في هذه الآية ، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة ، والتوقيف بقوله (أَفَغَيْرَ) إنما هو لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحبار والكفار ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، «أصري» ، بضم الألف وهي لغة.

قوله تعالى :

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

المعنى : قل يا محمد أنت وأمتك : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن وأمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والإنزال على نبي الأمة إنزال عليها ، وقدم إسماعيل لسنة ، وسائر الآية بين ، ثم حكم تعالى في قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ) الآية بأنه لا يقبل من آدمي دينا غير دين الإسلام ، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء ، وهو الحنيفية السمحة ، وقال عكرمة : لما نزلت قال أهل الملل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : فحجهم يا محمد وأنزل عليه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] فحج المسلمون وقعد الكفار ، وأسند الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، إلى قوله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢] فأنزل الله بعدها ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية.

قال الفقيه الإمام : فهذه إشارة إلى نسخ ، وقوله (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بمقدر ، تقديره خاسر في الآخرة لأن الألف واللام في (الْخاسِرِينَ) في معنى الموصول ، وقال بعض المفسرين : إن قوله (مَنْ يَبْتَغِ) الآية ، نزلت في الحارث بن سويد ، ولم يذكر ذلك الطبري.

قوله تعالى :

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ


أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨٩)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآيات من قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، كان مسلما ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لي من توبة؟

قال : فنزلت (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) الآيات ، إلى قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فأرسل إليه قومه فأسلم ، وقال مجاهد : حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال له الحارث : إنك والله لما علمت لصدوق ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه ، وقال السدي : نسخ الله تعالى ، بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ).

قال الفقيه أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير ، وليس هذا بموضع نسخ ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا ، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة؟ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن : إن هذه الآيات نزلت في اليهود والنصارى ، شهدوا بنعت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ، فلما جاء من العرب حسدوه ، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول ، وقال النقاش : نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق.

وقال الفقيه القاضي : وكل من ذكر فألفاظ الآية تعممه.

وقوله تعالى : (كَيْفَ) سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قالعليه‌السلام : كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها؟ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَشَهِدُوا) عطف على (كَفَرُوا) بحكم اللفظ ، والمعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، والواو لا ترتب ، وقال قوم : معنى قوله (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بعد أن آمنوا ، فقوله (وَشَهِدُوا) عطف على هذا التقدير ، وقوله تعالى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه ، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم ، و «اللعنة» الإبعاد وعدم الرحمة والعطف ، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار ، ولعنة الملائكة قول ، و (النَّاسِ) : بنو آدم ، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه ، أن الجن يدخلون في لفظة الناس ، وأنشد على ذلك : [الوافر]

فقلت إلى الطّعام فقال منهم

أناس يحسد الأنس الطّعاما

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يظهر ، أن لفظة (النَّاسِ) إذا جاءت مطلقة ، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير ، فإذا جاءت مقيدة بالجن ، فذلك على طريقة الاستعارة ، إذ هي


جماعة كجماعة ، وكذلك (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] وكذلك (نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس ، وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٦] قاض بتباين الصنفين ، وقوله تعالى : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بعضهم بعضا ، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس ، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته ، وكل من هذه صفته ـ وقد أغواه الشيطان ـ يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها ، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم ، لكن على غير تعيين ، والضمير في قوله ، (خالِدِينَ فِيها) قال الطبري : يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى اللعنة ، وقال قوم من المفسرين : الضمير عائد على اللعنة.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم ، فالضمير عائد على النار ، وإن كان لم يجر لها ذكر ، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] أنها الأرض ، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] إن الضمير عائد على النار و (يُنْظَرُونَ) في هذه الآية ، بمعنى يؤخرون ، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم ، ولا يجوز أن يكون (يُنْظَرُونَ) هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى وقوله جل وعز (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التوبة : الرجوع ، والإصلاح عام في القول والعمل ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «والناس أجمعون».

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ(٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١)

اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان ، ثم زيادة كفر ، فقال الحسن وقتادة وغيرهما : الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم (ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام أبو محمد : وفي هذا القول اضطراب ، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين ، وقال أبو العالية رفيع : الآية في اليهود ، كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة ، ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك.

قال الإمام أبو محمد : وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم ، وقال


مجاهد : معنى قوله (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون ، وقال السدي نحوه ، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل ، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل ، سواء كفر بعد إيمان وازداد كفرا ، أو كان كافرا من أول أمره ، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوبة فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة والغرغرة والمعاينة ، فالمعنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) عند المعاينة ، وقال أبو العالية: معنى الآية : لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان : نحن نتوب من هذه الأفعال ، وهم مقيمون على كفرهم ، فأخبر الله تعالى ، أنه لا يقبل تلك التوبة.

قال الفقيه الإمام : وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر ، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين ، وهم الذين أشار إليهم بقوله (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) [آل عمران : ٨٦] فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها ، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر :

(على لا حب لا يهتدى بمناره)

أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم ، فهم لا محالة يموتون على الكفر ، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفارا بعقب الآية ، فبانت منزلة هؤلاء ، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين ، أنهم يموتون كفارا ، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافرا و (الضَّالُّونَ) المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال ، وقرأ عكرمة : «لن نقبل» بنون العظمة «توبتهم» بنصب التاء.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الآية ، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة ، وقرأ عكرمة : «فلن نقبل» بنون العظمة «ملء الأرض» بالنصب ، و «الملء» ما شحن به الوعاء ، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر ، تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ والملء اسم ما ملأت به ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال : «مل» دون همزة ، ورويت عن نافع و (ذَهَباً) نصب على التمييز ، وقرأ ابن أبي عبلة : «ذهبا لو افتدى» به ، دون واو ، واختلف الناس في هذه الآية في قوله (وَلَوِ افْتَدى) فقال الطبري : هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو ، كما دخلت في قوله (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] لمتروك من الكلام ، تقديره وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض.

قال الفقيه الإمام : وفي هذا التمثيل نظر فتأمله ، وقال الزجّاج : المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ولو افتدى» أيضا به في الآخرة لم يقبل منه ، قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قول حسن ، وقال قوم : الواو زائدة وهذا قول مردود ، ويحتمل أن


يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه ، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول ، كما تقول : أنا لا أفعل لك كذا بوجه ، ولو رغبت إليّ ، وباقي الآية وعيد بيّن.

قوله تعالى :

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣)

ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض ، من حيث أخبر تعالى : أنه لا يقبل من الموافي على الكفر (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) [آل عمران : ٩١] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير ، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه ، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه‌السلام ، بتحريم ما كان يحب على نفسه ، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب ، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات ، على أنها معان منحازة ، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم ، وقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا) الآية ، خطاب لجميع المؤمنين ، وقال السدي وعمرو بن ميمون : (الْبِرَّ) الجنة.

قال الفقيه الإمام : وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير ، فتحتمل الآية أن يريد : لن تنالوا بر الله تعالى بكم ، أي رحمته ولطفه ، ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا ، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم ، وبسبب نزول هذه الآية ، تصدق أبو طلحة بحائطه ، المسمى بيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة ابنه ، فكأن زيدا شق عليه فقال له النبي : أما إن الله قد قبل صدقتك ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى على يدي سعد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوما وقال : إن الله يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، فأعتقها.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى : (مِمَّا تُحِبُّونَ) أي من رغائب الأموال التي يضن بها ، ويتفسر بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ـ الحديث ـ وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية ، فكان عبد الله بن عمر ، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت جميع الطاعات ، وجدتها إنفاقا مما يحب الإنسان ، إما من ماله ، وإما من صحته ، وإما من دعته وترفهه ، وهذه كلها محبوبات ، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، أي الأعمال أفضل؟ فقال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شي عجيب ، فقال


له الرجل : أراك تركت شيئا وهو أوثقها في نفسي الصيام ، فقال أبوذر : قربة وليس هناك ، ثم تلا (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية ، وقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) شرط وجواب فيه وعد ، أي عليم مجاز به وإن قل.

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ) الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلا لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠]

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراما في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالا لهم قبل التوراة (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالا توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلا لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها.

قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : (حِلًّا) معناه : حلالا ، و (إِسْرائِيلَ) هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاريته ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : إن هذا تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واختلف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراما ، فقال ابن عباس : إنها ليست عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم؟


والله تعالى يقول في كتابه (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله أن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضا : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا : اللهم نعم ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه‌السلام حرم لحوم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقربا إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه‌السلام أيضا العروق ، لكن بغضة لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران.

قوله تعالى :

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦)

قوله : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) تحتمل الإشارة ـ بذلك ـ أن تكون إلى ثلاثة أشياء : أحدها : أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة ، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه ، والآخر : أن تكون الإشارة إلى استقرار التحريم في التوراة ، لأن معنى الآية : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم ، (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ، وزاد في المحرمات فهو الظالم ، والثالث : أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وقبل نزول التوراة ، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله ، ومن حرم شيئا ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو


الظالم ، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ، قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم ، كما فعلوا في أمر البقرة ، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يسروا ولا تعسروا ، وقوله : دين الله يسر وقوله : بعثت بالحنيفية ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم ، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله ، وقرأ أبان بن تغلب : «قل صدق» ، بإدغام اللام في الصاد ، وكذلك : قل سيروا ، قرأها بإدغام اللام في السين ، قال أبو الفتح : علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامهما فيهما ، وقرأ جمهور الناس : «وضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله ، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول ، وقرأ عكرمة ، «وضع» بفتح الواو والضاد ، فيحتمل أن يريد : وضع الله ، فيكون المعنى منقطعا كما هو في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه‌السلام ، فيكون المعنى متصلا بالذي قبله ، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته ، في الحج وغيره على ما روى عكرمة : أنه لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) الآية ، قال اليهود : نحن على الإسلام فقرئت ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] قيل له : أحجهم يا محمد ، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام.

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما؟ قال أربعون سنة ، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعا ، ويضعف ما قال الزجّاج : من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود ، اللهم إلا أن يكون جدده ، وأين مدة سليمان من مدة إبراهيم؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة ، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله : (إِنَّ أَوَّلَ) فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى الآية أن أول بيت وضع مباركا وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى ، وقال قوم : بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض.

قال الفقيه القاضي أبو محمد : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديدا ، قال قتادة : ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان ، واختلف الناس في «بكة» ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء : «بكة» هي مكة ، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم ، على لغة مازن وغيرهم ، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله ، و «بكة» مزدحم الناس حيث يتباكون ، وهو المسجد وما حول البيت ، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية : «بكة» موضع البيت ، ومكة غيره من المواضع ، قال ابن القاسم : يريد القرية ، قال الطبري : ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة ، وقال قوم : «بكة» ، ما بين الجبلين ومكة ، الحرم كله ، و (مُبارَكاً) نصب على الحال ، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال ،


قوله : (وُضِعَ) والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله (بِبَكَّةَ) تقديره : استقر ببكة مباركا ، وفي وصف البيت ب (هُدىً) مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، (وَهُدىً) بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون (هُدىً) في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه.

قوله تعالى :

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

الضمير في قوله : (فِيهِ) عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه ، وقرأ جمهور الناس : «آيات بينات» بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمرو ابن عباس : «آية بينة» على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلف عبارة المفسرين عن «الآيات البينات» فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته «آية» بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : «الآيات البينات» مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمنا ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كلام آخر.

قال القاضي أبو محمد : فرفع (مَقامُ) على قول الحسن ومجاهد على البدل من (آياتٌ) ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن (مَقامُ إِبْراهِيمَ).

قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه‌السلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه‌السلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب : [الطويل]


وموطىء إبراهيم في الصّخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

فما حفظ أن أحدا من الناس نازع في هذا القول ، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه‌السلام الأرض بعقبه ، وفي حفر عبد المطلب لها آخرا بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة ، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره ، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم ، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعبا ، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له ، وأنه يعظم ماؤها في الموسم ، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار ، ومن آياته ، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر ، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم ، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه ، وسلامة الشجر ، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها ، والدعوة من الخليل عليه‌السلام في قوله ، اجعل هذا بلدا آمنا ، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه ، ولا زاجر ، آية عظمى تقوم بها الحجة ، وهي التي فسرت بقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد ، ومن آياته ، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه‌الله ، قال في النوادر وغيرها : سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم.

قال القاضي أبو محمد : هذا والله أعلم ، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له ، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال ، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال ، إلى موضع يقال له أضاة ، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية ، قال مالك في العتبية : والحديبية في الحرم ، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره ، أن الطير لا تعلوه ، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به ، فهو يستشفي بالبيت ، وهذا كله عندي ضعيف ، والطير تعاين تعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديما وحديثا ، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد ، أخصبت آفاق الأرض ، وإن لم يصب جانبا منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام ، واختلف الناس في (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ، فقال الجمهور : هو الحجر المعروف ، وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره ، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم ، وقال قوم : الحرم كله مقام إبراهيم ، والضمير في قوله ، (وَمَنْ دَخَلَهُ) عائد على الحرم في قول من قال : مقام إبراهيم هو الحرم ، وعائد على البيت في قول الجمهور ، إذ لم يتقدم ذكر لغيره ، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن ، إذ الحرم جزء من البيت ، إذ هو بسببه ولحرمته.

واختلف الناس في معنى قوله (كانَ آمِناً) فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم : هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم ، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار ، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى رجم ، ومن قتل قتل ، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل


هنالك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية ، والإسلام زاد البيت شرفا وتوقيرا ، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه ، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم ، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، فأما من يقتل في الحرم ، فإنه يقام عليه الحد في الحرم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع ، فليس بآمن ، وقال يحيى بن جعدة : معنى الآية ومن دخل البيت كان آمنا من النار ، وحكى النقاش عن بعض العباد قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت : يا رب إنك قلت : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت مكلما يكلمني وهو يقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية ، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع ، وقال مالك رحمه‌الله : الحج كله في كتاب الله ، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه‌السلام ، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث ، وشروط وجوبه خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، واستطاعة السبيل ، والحج في اللغة : القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : «حج البيت» بكسر الحاء ، وقرأ الباقون : «حج البيت» بفتحها ، قال سيبويه : حج حجا مثل ذكر ذكرا ، قال أبو علي : فحج على هذا مصدر ، وقال سيبويه أيضا : قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد ، كما قيل حجة.

قال القاضي : بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة ، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له ، قال أبو علي : قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل ، ولكن كسروه فجعلوه اسما لهذا المعنى ، كما أن غزاة كذلك ، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس.

قال القاضي : وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحجة ، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل ، وقال الزجّاج وغيره ، «الحج» : بفتح الحاء المصدر ، وبكسرها اسم العمل ، وقال الطبري : هما لغتان الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية.

وقوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، (مَنْ) في موضع خفض بدل من (النَّاسِ) ، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره : هي شرط في موضع رفع بالابتداء ، والجواب محذوف تقديره : من استطاع فعليه الحج ، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) ، وقال بعض البصريين : (مَنْ) رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو (حِجُّ الْبَيْتِ) ويكون المصدر مضافا إلى المفعول ، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير : هي حال الذي يجد زادا وراحلة ، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل : يا رسول الله ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة ، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ملك زادا وراحلة


فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي عليه‌السلام ، فقال : ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة.

قال القاضي : وضعّف قوم هذا الحديث ، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره ، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم ، وقال بعض البغداديين : هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشيا.

قال القاضي : والذي أقول : إن هذا الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيرا ، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث ، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة ، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة ، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب ، وقد ذكره الله تعالى في قوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧] وكذلك أيضا معنى الحديث : الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه ، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه ، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع ، فمقصد الحديث : أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار ، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر ، وإن كان الحج غير واجب عليه ، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه ، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى ، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى: (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك ، بل إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج ، قال ذلك ابن الزبير والضحاك ، وقال الحسن : من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا ، وقال عكرمة : استطاعة السبيل الصحة ، وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه ، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه ، في سماع أشهب من العتبية ، وفي كتاب محمد ، وقد قيل له : أتقول إن السبيل الزاد والراحلة؟ فقال : لا والله ، قد يجد زادا وراحلة ولا يقدر على مسير ، وآخر يقدر أن يمشي راجلا ، وربّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى.

قال القاضي : وهذا أنبل كلام ، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضا ، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد ، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام ، والاستطاعة ـ متى تحصلت ـ عامة في ذلك وغيره ، فإذا فرضنا رجلا مستطيعا للسفر ماشيا معتادا لذلك ، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة ، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة ، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال ، وكان الشافعي يقول : الاستطاعة على وجهين : بنفسه أولا ، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك.

واختلف الناس هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟ على قولين ، ولمالك رحمه‌الله مسائل تقتضي القولين ، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه : لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين ، فهذا على التراخي ، وقال في كتاب ابن المواز : لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا


الفريضة ، فليخرج وليدعهما ، فهذا على الفور ، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج : لا تخرج في أيام عدتها ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي : فجعله على التراخي.

قال القاضي : وهذا استقراء فيه نظر ، واختلف قول مالك رحمه‌الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائيا وذاهبا ممن ليست تلك عادته في إقامته ، فروى عنه ابن وهب أنه قال : لا بأس بذلك ، قيل له فإن مات في الطريق قال : حسابه على الله ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : لا أرى للذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو ، ويسألوا وإني لأكره ذلك ، لقول الله سبحانه ، (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) [التوبة : ٩١] قال ابن القاسم : وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة ، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بدا ، وقال في كتاب محمد وغيره : قال الله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج : ٢٧] وما أسمع للبحر ذكرا.

قال الفقيه القاضي : وهذا تأنيس من مالك رحمه‌الله لسقوط لفظة البحر ، وليس تقتضي الآية سقوط البحر ، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ناس من أمتي عرضوا عليّ ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله.

قال القاضي أبو محمد : ولا فرق بين الغزو والحج ، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك ، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشيا فتمشي وتعجز في بعض الطريق : إنها تعود ثانية ، قال :

والرجال والنساء في ذلك سواء ، فعلى هذا ، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لأن حجة الفريضة آكد من النذر ، وقال في كتاب محمد : لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه ، لأن مشيهن عورة ، إلا أن يكون المكان القريب من مكة.

قال القاضي : وهذا ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة ، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته ، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه : المحرم من السبيل ، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم.

قال القاضي : وهذا وقوف مع لفظ الحديث ، وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة ثقة مسلمة ، وقال ابن سيرين : تخرج مع رجل ثقة من المسلمين ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل.

قال القاضي : وهذه الأقوال راعت معنى الحديث ، وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها ، واضطرب قول الشافعي في ذلك ، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة ، فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ولو درهما سقط فرض الحج عن الناس ، وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض ، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير


مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط ، وعلى هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار ، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة ، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان.

والسبيل ـ تذكر وتؤنث ، والأغلب والأفصح التأنيث ، قال الله تعالى : (تَبْغُونَها عِوَجاً) [آل عمران : ٩٩] وقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] ومن التذكير قول كعب بن مالك.

قضى يوم بدر أن تلاقي معشرا

بغوا وسبيل البغي بالناس جائز

والضمير في (إِلَيْهِ) ، عائد على البيت ، ويحتلم أن يعود على الحج ، وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) قال ابن عباس : المعنى ، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه ، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد ، وروي عن النبي عليه‌السلام أنه قرأ الآية ، فقال له رجل من هذيل : يا رسول الله من تركه كفر ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضا ، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة ، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية ، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول ، وقال ابن زيد : معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت ، وقال السدي وجماعة من أهل العلم : معنى الآية : ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج ، قال السدي : من كان بهذه الحال فهو كافر.

قال القاضي أبو محمد : فهذا كفر معصية ، كقوله عليه‌السلام : من ترك الصلاة فقد كفر وقوله : لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة ، ومعنى قوله تعالى : (غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الوعيد لمن كفر ، والقصد بالكلام ، فإن الله غني عنهم ، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى ، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربّ سواه.

قوله تعالى :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩)

هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (الْكِتابِ) التوراة ، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم ، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون ، و «آيات الله» يحتمل أن يريد بها القرآن ، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) وعيد محض : أي يجازيكم به ويعاقبكم ، قال الطبري : هاتان الآيتان قوله ، (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) وما بعدهما ، إلى قوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥] ، نزلت بسبب رجل من يهود ، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج ، قال ابن إسحاق : حدثني الثقة عن زيد بن أسلم ، قال شاش ابن قيس اليهودي ، وكان شيخا قد عسى في الجاهلية ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، والحسد


لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأوس والخزرج ، وهم في مجلس يتحدثون ، فغاظه ما رأى من جماعتهم ، وصلاح ذات بينهم ، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شابا من يهود ، فقال أمد إليهم ، واجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان : وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، يريدون الحرة ، فخرجوا إليها ، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات ، وقال الحسن وقتادة والسدي : إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام ، بأن يقولوا لهم ، إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.

قال الفقيه الإمام : ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم ، فنزلت الآيات في جميع ذلك و «صد» معناه : أعرض عن الشيء وانصرف عنه ، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد ، تقول : صددت عن كذا ، وصددت غيري عنه ، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «تصدون» بضم التاء وكسر الصاد ، وهذا هو الفعل الواقف ، نقل بالهمزة فعدي ، و (سَبِيلِ اللهِ) في هذه الآية ، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته ، و (مَنْ) مفعولة ب (تَصُدُّونَ) والضمير في (تَبْغُونَها) عائد على السبيل ، ومعنى «تبغون» على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما : تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج ، أي الاعوجاج والانفساد ، تقول العرب : أبغني كذا بألف موصولة ، بمعنى اطلبه لي ، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي ، قطعوا الألف مفتوحة وقيل : إن تبغون هنا ، من البغي الذي هو التعدي ، أي تبغون عليها ، ويكون ، (عِوَجاً) على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في «تبغون» أي «عوجا» منكم وعدم استقامة ، والعوج بكسر العين : ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام ، والعوج بفتح العين ، ما كان في الأجرام ، كالجدار والعصا ونحو ذلك ، قال ابن قتيبة : والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها : عوج بكسر العين ، ومنه قول الله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) ، يريد جمع شاهد ، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه ، وباقي الآية وعيد.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ


تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١)

الخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عام في المؤمنين ، والإشارة بذلك ـ وقت نزوله ـ إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس ، و «الفريق» ـ الجماعة من الناس والمراد بها هنا الأحبار والرؤوس ، و (يَرُدُّوكُمْ) معناه : بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح ، ثم وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي يريده بهم اليهود ، فقال (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ) بهذه الأحوال الموصوفة؟ و (كَيْفَ) في موضع نصب على الحال ، كما هي في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] والمعنى أجاحدين تكفرون؟ أجاهلين أمستخفين أمرتدين؟ ونحو هذا من التقدير والواو في قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، ولا يجوز أن تكون (كَيْفَ) في هذه الآية كما هي في قولك ، كيف تفعل كذا ، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصلة ، لأنه كان يلزم أن يكون كفر المؤمنين مقررا مثبت الوقوع ، وتأمل معنى (كَيْفَ) إذا وليها فعل ، ومعناها إذا وليها اسم ، وقرأ جمهور الناس «تتلى» بالتاء من فوق ، وقرأ الحسن : «يتلى» بالياء إذا الآيات هي القرآن ، وقوله تعالى : (وَفِيكُمْ) هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه‌السلام ، وهو في أمته إلى يوم القيامة ، بأقواله وآثاره ، و (يَعْتَصِمْ) معناه : يتمسك ويستذري ، وعصم الشيء إذا منع وحمي ، ومنه قوله (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) [هود : ٤٣] والعصم الأسباب التي يمتّ بها ، ويعتصم من الخيبة في الغرض المطلوب ، وقال الأعشى : [المتقارب]

إلى المرء قيس أطيل السّرى

وآخذ من كلّ حيّ عصم

وتصرف اللفظة كثير جدا ، وباقي الآية بيّن ، والله المستعان.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)

الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين ، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر ، و «تقاة» مصدر وزنه فعلة ، أصله تقية ، وقد تقدم قوله : إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة ، والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى ، واختلف العلماء في قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) فقالت فرقة : نزلت الآية على عموم لفظها ، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء ، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: ١٦] وبقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ


نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم ، وقالت جماعة من أهل العلم : لا نسخ في شيء من هذا ، وهذه الآيات متفقات ، فمعنى هذه : اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم ، وذلك أن (حَقَّ تُقاتِهِ) هو بحسب أوامره ونواهيه ، وقد جعل تعالى الدين يسرا ، وهذا هو القول الصحيح ، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة ، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر ، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق ، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية ، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه : (حَقَّ تُقاتِهِ) : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى قوله ، و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) : جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية ، وقال طاوس في معنى قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) : يقول تعالى ، إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وقوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) معناه : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. هكذا هو وجه الأمر في المعنى ، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز ، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك هاهنا ، وإنما المراد : لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك ، و (مُسْلِمُونَ) في هذه الآية ، هو المعنى الجامع التصديق والأعمال ، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس.

وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك مما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعتصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئا بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالا ، ومنه قول الأعشى :

وإذا تجوّزها حبال قبيلة

أخذت من الأدنى إليك حبالها

ومنه قول الآخر : [الكامل]

(إني بحبلك واصل حبلي)

ومنه قول الله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية (بِحَبْلِ اللهِ) ، فقال ابن مسعود : «حبل الله» الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعا بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه‌الله : «حبل الله» الذي أمر بالاعتصام به هو القرآن ، وقال السدي : «حبل الله» كتاب الله ، وقاله أيضا ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ، وقال أبو العالية : «حبل الله» في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله» هو الإسلام.


قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : (جَمِيعاً) حال من الضمير في قوله ، (اعْتَصِمُوا) ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين. (وَلا تَفَرَّقُوا) يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلاف أمتي رحمة ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم.

قوله تعالى :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣)

هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا ، فعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيبا ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : (فَأَصْبَحْتُمْ) عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع : [المنسرح]

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا


و «الإخوان» جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على أن سيبويه رحمه‌الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخوانا ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم.

قال القاضي أبو محمد. وفي كتاب الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات : ١٠] وفيه ، (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) [النور : ٣١] ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا» حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله (شَفا جُرُفٍ) [التوبة : ١٠٩] وإلى الأسفل كقوله (شَفا حُفْرَةٍ) ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في (مِنْها) عائد على النار ، أو على «الحفرة» ، والعود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا» ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :

رأت مرّ السنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال

إلى غير ذلك من الأمثلة.

قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معادا للضمير إلا «الشفا» ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، (لَعَلَّكُمْ) ترجّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.

قوله تعالى :

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥)

قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة : «ولتكن» بكسر اللام على الأصل ، إذ أصلها الكسر ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن ، قال الضحاك والطبري وغيرهما : أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة ، فهم خاصة أصحاب الرسول ، وهم خاصة الرواة.

قال القاضي : فعلى هذا القول «من» للتبعيض ، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال ، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع ، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالما ، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين ، إلى أن المعنى : ولتكونوا كلكم أمة يدعون ، «ومن» لبيان الجنس قال : ومثله من كتاب الله ، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ


الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ومثله من الشعر قول القائل : [البسيط]

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر

قال القاضي : وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك : ليكن منك رجل صالح ، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون ، التجريد ، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها ، وكذلك يدخل قوله تعالى : (مِنَ الْأَوْثانِ) ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر : منه النوفل الزفر ، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان الجنس ، كقولك ثوب من خز ، وخاتم من فضة ، بل هذه يعارضها معنى التبعيض ، ومعنى الآية على هذا التأويل : أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة ، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة ، قال أهل العلم : وفرض الله بهذه الآية ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير ، وللزوم الأمر بالمعروف شروط ، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان آمرا بمعروف ، فليكن أمره ذلك بمعروف ، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه ، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

قال القاضي : والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب ، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة ، وحملهم على جادة العلم ، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم ، ولهم هي اليد ، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولا ، وهذا في المنكر الذي له دوام ، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر ، كالسلب والزنى ونحوه ، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة ، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر ، وإن ناله بعض الأذى ، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويستعينون بالله على ما أصابهم» ، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف ، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي ، كما هي في قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) [لقمان : ١٧] وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره ، وقال بعض العلماء : «المعروف» التوحيد ، و (الْمُنْكَرِ) الكفر ، والآية نزلت في الجهاد.

قال الفقيه القاضي : ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين ، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر ، يدخل في الآية ولا بد ، (الْمُفْلِحُونَ) الظافرون ببغيتهم ، وهذا وعد كريم.

ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم ، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم ، فقال ابن عباس : هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق ، وقال الحسن : هي إشارة إلى اليهود والنصارى ، وقال الزجاج : يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق النصارى ، ومجيء (الْبَيِّناتُ) هو ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، وأسند الفعل دون علامة إلى (الْبَيِّناتُ) ، من حيث نزلت منزلة البيان ، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها ، وباقي الآية وعيد ، وقوله: (عَذابٌ عَظِيمٌ) يعني أنه أعظم من سواه ، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور ، وأما الجزء الفرد من


هذا وذلك فسواء ، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم‌الله.

قوله تعالى :

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧)

والعامل في قوله (يَوْمَ) الفعل الذي تتعلق به اللام ، في قوله و (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥] قال الزجاج : تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم.

قال القاضي : وذلك ضعيف من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب ، لأنه مصدر قد وصف ، «وبياض الوجوه» : عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله ، قال الزجّاج ـ وغيره ـ : ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه‌السلام ، أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء ، وأما «سواد الوجوه» ، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغمم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك تسويدا ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقا وهذه أقبح طلعة ، ومن ذلك قول بشار : [البسيط]

وللبخيل على أمواله علل

زرق العيون عليها أوجه سود

وقرأ يحيى بن وثاب ، «تبيض وتسود» بكسر التاء ، وقرأ الزهري ، «تبياض» وجوه ، و «تسواد» وجوه بألف ، وهي لغة ، ولما كان صدر هذه الآية ، إخبارا عن حال لا تخص أحدا معينا ، بدىء بذكر البياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى ، فلما فهم المعنى ، وتعين له «الكفار والمؤمنون» ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم ، وقوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ) تقرير وتوبيخ ، متعلق بمحذوف ، تقديره ، فيقال لهم : أكفرتم؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما» ، وهذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه ، كقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) [البقرة : ١٨٤] المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى : (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيمانا متقدما ، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم ، فقال أبي بن كعب : الموقفون جميع الكفار ، والإيمان الذي قيل لهم بسببه (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم ـ ألست بربكم؟ قالوا بلى ـ وقال أكثر المتأولين : إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة ، ثم اختلفوا ، فقال الحسن : الآية في المنافقين ، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم ، فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم ، وقال السدي : هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا ، وقال أبو أمامة : الآية في الخوارج وقال قتادة : الآية في أهل الردة ، ومنه الحديث : ليردن عليّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : فسحقا فسحقا ، وفي بعض طرقه : فأناديهم : ألا هلم ، ألا هلم ، وذكر النحاس قولا : إن الآية في اليهود ، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به ، فلما جاءهم من غيرهم كفروا ، فهذا كفر بعد إيمان ، وروي عن مالك أنه قال : الآية في أهل الأهواء.


قال القاضي : إن كان هذا ففي المجلحين منهم القائلين ما هو كفر ، وروي حديث : أن الآية في القدرية وقال أبو أمامة : سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنها في الحرورية ، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد ، وما في قوله (بِما كُنْتُمْ) مصدرية وقوله تعالى : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي في النعيم الذي هو موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك (هُمْ فِيها) تأكيد بجملتين ، إذ كان الكلام يقوم دونها.

قوله تعالى :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠)

الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين ، ولما كان فيها ذكر التعذيب ، أخبر تعالى : أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد ، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة ، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) معناه : بالإخبار الحق ، ويحتمل أن يكون المعنى : (نَتْلُوها عَلَيْكَ) مضمنة الأفاعيل التي هي «حق» في أنفسها ، من كرامة قوم ، وتعذيب آخرين ، وقرأ أبو نهيك : «يتلوها» بالياء ، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلما في حكمه ، فإذا لا يوجد.

ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل يرحمهم من أجله ، وآخرين بعمل يعذبهم عليه ، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات ، وأن «الحق» لا يعترض عليه ، وذلك في قوله ، (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية ، وقال : (ما) ولم يقل «من» من حيث هي جمل وأجناس ، وذكر الطبري : أن بعض البصريين نظر قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ) فأظهر الاسم ، ولم يقل إليه بقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

وما جرى مجراه ، وقاله الزجّاج ، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.

قال القاضي أبو محمد : والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم ، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى ، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم ، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف ، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف ، إذ الكلام في معنى واحد ، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع ، وقرأ بعض السبعة ، «ترجع الأمور» بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل ، وقد تقدم ذكر ذلك.

واختلف المتأولون في معنى قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) فقال عمر بن الخطاب: هذه


لأولنا ، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة : نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.

قال القاضي أبو محمد : يريد ومن شاكلهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة.

قال القاضي : فهذا كله قول واحد ، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة ، قيل لهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ، فالإشارة بقوله (أُمَّةٍ) إلى أمة محمد معينة ، فإن هؤلاء هم خيرها ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم : معنى الآية ، خطاب الأمة بأنهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، فلفظ (أُمَّةٍ) ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن الآخرون السابقون الحديث. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها قال مجاهد : معنى الآية «كنتم خير الناس» ـ وقال الحسن : نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : معنى الآية كنتم للناس خير الناس.

قال القاضي أبو محمد : (فَأُمُّهُ) على هذا التأويل ، اسم جنس ، قال أبو هريرة : يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام.

قال القاضي : ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه ، فهم خير الناس للناس ، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية ، لكن يعلم هذا من لفظ آخر ، وهي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأف أمتي بأمتي أبوبكر ، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبابكر أرأف الناس على الإطلاق ، في مؤمن وكافر.

قال القاضي : والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب ، وأما قوله ، (كُنْتُمْ) على صيغة المضي ، فإنها التي بمعنى الدوام ، كما قال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦ ـ ٩٩ ـ ١٠٠ ـ ١٥٢ ، الفرقان : ٧٠ ، الأحزاب : ٥ ـ ٥٠ ـ ٥٩ ـ ٧٣ ، الفتح : ١٤] ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وقال قوم : المعنى كنتم في علم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديما عنكم و (خَيْرَ) على هذه الأقوال كلها خبر كان ، ويحتمل أن تكون كان التامة ، ويكون (خَيْرَ أُمَّةٍ) نصبا على الحال ، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض.

قال القاضي : وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وقوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وما بعده ، أحوال في موضع نصب ، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح ، أنهم لو آمنوا لنجّوا أنفسهم من عذاب الله ، وجاءت لفظة (خَيْرَ) في هذه الآية وهي صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة (خَيْرَ) من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها ، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا ، وقوله تعالى :


(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن ، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين.

قوله تعالى :

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢)

قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) معناه : لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال ، وإنما هو أذى بالألسنة ، فالاستثناء متصل ، وقال الحسن ، وقتادة وغيرهما : «الأذى» هو تحريفهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبهم إياه.

قال القاضي أبو محمد : وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفرادا ، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء ، وضرب الجزية ، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحدا عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه ، وهكذا هي فصاحة العرب ، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال : يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت ، فقوله : ذا دم ، روي بالذال منقوطة ، وبالدال غير منقوطة ، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام ، وأما الدال غير منقوطة ، فيحتمل أنه أراد التعظيم لأمر نفسه ، وذلك بأحد وجهين : إما أن يريد الوعيد ، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك ، وإما أن يريد تقتل ملكا يستشفى بدمه ، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك ، فهذا استعطاف لا وعيد ، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي ، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى ، ويحتمل كلام ثمامة ، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم ، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود : وهل أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز ، حين قال له : لأقتلنك ، قال : إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئا فكأن ثمامة أراد : إن تقتلني تقتل حيوانا حقيرا شأنه ، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيها لهم ، وأخبر الله تعالى في قوله : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) الآية ، بخبر غيب صححه الوجود ، فهي من آيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفائدة الخبر هي في قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لا تكون حربهم معكم سجالا وخص (الْأَدْبارَ) بالذكر دون الظهر تخسيسا للفارّ ، وهكذا هو حيث تصرف.

وقوله : (ضُرِبَتْ) معناه : أثبتت بشدة والتزام مؤكد ، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار


الأرض قبل مجيء الإسلام ، قال الحسن : جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية ، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام ، ولم تبق لهم راية أصلا في الأرض ، و (الذِّلَّةُ) فعلة من الذل (ثُقِفُوا) معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك ، ومنه قوله تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) [الأنفال : ٥٧] (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ) ثقفتموهم [التوبة : ٥] واللفظة مأخوذة من الثقاف ، ومنه قول الشاعر :

تدعو ثقيفا وقد عضّ الحديد بها

عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب

وقوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ) استثناء منقطع ، وهو نظير قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئا ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما الكلام محذوف ، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت (إِلَّا بِحَبْلٍ) ، وقوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا ، فلذلك حسن أن يجيء بعده (إِلَّا بِحَبْلٍ) ، وقرب فهم ذلك للسامع ، قال الزجّاج : المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه ، و «الحبل» العهد ، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام ، و (باؤُ) معناه مضوا متحملين لهذا الحكم ، و «غضب الله عليهم» ، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم ، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب ، فلذلك خصوا به ، والنصارى إنما ضلوا فقط ، و (الْمَسْكَنَةُ) التذلل والضعة ، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به ، فليس أحد من اليهود وإن كان غنيا إلا وهو بهذه الحال ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة ، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك ، و «آيات الله» : يحتمل أن يراد بها المتلوة ، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم ، وقوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكنا بوجه ما ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول ، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول : إن الإشارة ب (ذلِكَ) الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم ، وذلك أن الله تعالى ، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء ، وهو الذي يقول أهل العلم : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية ، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى طاعة ، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل ، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله ، وقال قتادة رحمه‌الله عند ما فسر هذه الآية : اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس.

قوله تعالى :

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ


فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٤)

لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب ، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان ، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة ، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى ، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط ، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى ، ثم ينتقل الحكم في النصارى ، ولفظ (أَهْلِ الْكِتابِ) يعم الجميع ، والضمير في (لَيْسُوا) لمن تقدم ذكره في قوله (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود ، وكذلك أيضا ما حكي عن الفراء أن (أُمَّةٌ) مرتفعة ب (سَواءً) على أنها فاعلة كأنه قال : لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام محذوفا معادلا تقديره وأمة كافرة ، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب :

عصيت إليها القلب إنّي لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها؟

المعنى أم غيّ ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.

قال القاضي أبو محمد : وإنما الوجه أن الضمير في (لَيْسُوا) يراد به من تقدم ذكره ، و (سَواءً) خبر ليس ، و (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) مجرور فيه خبر مقدم ، و (أُمَّةٌ) رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود ، معهم ، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك (لَيْسُوا سَواءً) الآية ، وقال مثله قتادة وابن جريج.

قال القاضي أبو محمد : وهو أصح التأويلات ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : معنى الآية : ليس اليهود وأمة محمد سواء ، وقاله السدي.

قال القاضي أبو محمد : فمن حيث تقدم ذكر هذه الأمة في قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] وذكر أيضا اليهود قال الله لنبيه (لَيْسُوا سَواءً) و (الْكِتابِ) على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط ، والمعنى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم أهل القرآن أمة قائمة ، واختلف عبارة المفسرين في قوله (قائِمَةٌ) فقال مجاهد : معناه عادلة ، وقال قتادة والربيع وابن عباس : معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية ، وقال السدي : القائمة القانتة المطيعة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله ، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله ، ويحتمل أن يراد ب (قائِمَةٌ) وصف حال التالين في (آناءَ اللَّيْلِ) ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله ، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)


[آل عمران : ٧٥] و (يَتْلُونَ) معناه : يسردون ، و (آياتِ اللهِ) في هذه الآية هي كتبه ، و «الآناء» : الساعات واحدها «إني» بكسر الهمزة وسكون النون ، ويقال فيه «أني» بفتح الهمزة ، ويقال «إنى» بكسر الهمزة وفتح النون والقصر ، ويقال فيه «أنى» بفتح الهمزة ويقال «إنو» بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي : [البسيط]

حلو ومرّ كعطف القدح مرّته

في كلّ إني قضاه الليل ينتعل

وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة ، إذ بعض الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة (آناءَ اللَّيْلِ) بالقيام ، وهكذا كان صدر هذه الأمة ، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء ، وحينئذ كان يقوم الأكثر ، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه ، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل ، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية ، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه ، وأما عبارة المفسرين في (آناءَ اللَّيْلِ) ، فقال الربيع وقتادة وغيرهما : (آناءَ اللَّيْلِ) ساعات الليل ، وقال عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول (آناءَ اللَّيْلِ) ساعات الليل ، وقال السدي : (آناءَ اللَّيْلِ) جوف الليل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، أما ان جوف الليل جزء من الآناء ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فقال : أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) الآية ، فالمراد بقوله : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) صلاة العشاء ، وروى سفيان الثوري عن منصور أنه قال : بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة ، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعا ، فهي على هذا جملة في موضع الحال ، كأنه قال : يتلون آيات الله آناء الليل مصلين ، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول ، أخبر عنهم أنهم أيضا أهل سجود.

قال القاضي أبو محمد : ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة ، وأيضا فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول ، ويثبت فيها على هذا الثاني ف (هُمْ يَسْجُدُونَ) على هذا نعت عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل.

و (يُؤْمِنُونَ) معناه : يصدقون ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء ، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء ، وقوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) وصف بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم وإغاثة مكروب وجبر مهيض وعبادة الله أجابوا ، ومنه فعل مالك رضي الله عنه في ركعتي المسجد ، وقال : دعوتني إلى خير فأجبت إليه ، ومما يدخل في ضمن قوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي


الْخَيْراتِ) أن يكون المرء مغتنما للخمس ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اغتنم خمسا قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل مماتك ، وغناك قبل فقرك ، فيكون متى أراد أن يصنع خيرا بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل ، فهذه أيضا مسارعة في الخيرات ، وذكر بعض الناس قال : دخلت مع بعض الصالحين في مركب فقلت له : ما تقول أصلحك الله في الصوم في السفر؟ فقال لي : إنها المبادرة يا ابن أخي ، قال المحدث : فجاءني والله بجواب ليس من أجوبة الفقهاء ، ثم وصف الله تعالى من تحصلت له هذه الصفات ، بأنه من جملة الصالحين ، و (مِنَ) يحسن أن تكون للتبعيض ، ويحسن أن تكون لبيان الجنس.

قوله تعالى :

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧)

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «تفعلوا وتكفروه» بالتاء على مخاطبة هذه الأمة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما ، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون» وما بعدهما ، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين ، وتكفروه معناه : يعطى دونكم فلا تثابون عليه ، ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها ، فإن لم يفعل فقد كفرها ، ومنه قول الشاعر : [عنترة] : [الكامل] :

(والكفر مخبثة لنفس المنعم)

وفي قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وعد ووعيد.

ثم عقب تعالى ذكر هذا الصنف الصالح بذكر حال الكفار ، ليبين الفرق ، وخص الله تعالى «الأموال والأولاد» بالذكر لوجوه. منها أنها زينة الحياة الدنيا ، وعظم ما تجري إليه الآمال ، ومنها أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها ، ومنها أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين ، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة ، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني وقوله تعالى : أصحابه إضافة تخصيص ما ، تقتضي ثبوت ذلك لهم ودوامه.

وقوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ، معناه : المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثورا ، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه (رِيحٍ فِيها صِرٌّ) محرق فأهلكته ، فوقع


التشبيه بين شيئين وشيئين ، ذكر الله عزوجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول ، وترك ذكر الآخر ، ودل المذكور أن على المتروكين ، وهذه غاية البلاغة والإيجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) [البقرة : ١٧١] ، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، «تنفقون» بالتاء على معنى قل لهم يا محمد ، و (مَثَلُ) رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله (كَمَثَلِ) ، و (ما) بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن (يُنْفِقُونَ) يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك عندهم قربة ، وقال السدي : (يُنْفِقُونَ) معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون ، وذهب بعض المفسرين إلى أن (يُنْفِقُونَ) يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه ، أي هي «كالريح التي فيها صر» ، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه ، كما تبطل الريح الزرع ، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق ، و «الصر» البرد الشديد ، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين : «الصر» البرد ، وتسميه العرب الضريب ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن اللفظة من التصويت ، من قولهم صر الشيء ، ومنه الريح الصرصر ، قال الزجاج : فالصر صوت النار التي في الريح.

قال القاضي : «الصر» هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحوا مما تحرق النار ، و «الحرث» شامل للزرع والثمار ، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض ، وهي حقيقة الحرث ، ومنه الحديث لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية ، وقال عزوجل : (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح ، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله ، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته ، إذ عقوبته أوخى وأخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى ، كما روي في جوف العير وغيره ، وأيضا فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد ، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على قوله : إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه ، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي : إلى أن قوله تعالى : (حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) معناه زرعوا في غير أوان الزراعة.

قال أبو محمد : وينبغي أن يقال في هذا : (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل ، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكنا ، وهذا المنزع يشبهه من جهة ما قول امرئ القيس : [المتقارب]

وسالفة كسحوق اللّيا

ن أضرم فيها الغويّ السعر

فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق ، فتطفىء النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود ، فيجيء الشبه حسنا ، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به ، والضمير في (ظَلَمَهُمُ) للكفار الذين تقدم ضميرهم في (يُنْفِقُونَ)


وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم ، ولا ليبين ظلمهم وأيضا فقوله : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، يدل على فعل الحال في حاضرين.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨)

نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم ، وقوله : (مِنْ دُونِكُمْ) يعني من دون المؤمنين ، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام ، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ، وقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم ، تقول : ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير :

جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم

فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا

أي لم يقصروا ، والخبل والخبال : الفساد ، وقال ابن عباس : كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال أيضا ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : نزلت في المنافقين : نهى الله المؤمنين عنهم ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال أراد عليه‌السلام ، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم (محمدا).

قال القاضي : ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم ، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه ، وتلا عليه هذه الآية ، وقيل لعمر : إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك؟ فقال : إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين ، و (ما) في قوله ، (ما عَنِتُّمْ) مصدرية ، فالمعنى : (وَدُّوا) عنتكم ، و «العنت» : المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت : أي شاقة ، وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ) [النساء : ٣٥] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي : معناه «ودوا» ما ضللتم ، وقال ابن جريج : المعنى «ودوا» أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي ، وقوله تعالى : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) يعني بالأقوال ، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه ، معناه : أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه


بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس ، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همسا راتب ، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط ، وقوله : (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «قد بدا البغضاء» بتذكير الفعل ، لما كانت (الْبَغْضاءُ) بمعنى البغض ، ثم قال تعالى للمؤمنين ، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) تحذيرا وتنبيها ، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول : إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا.

قوله تعالى :

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩)

تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفا : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران : ٦٦] والضمير في (تُحِبُّونَهُمْ) لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله : (بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] والضمير في هذه الآية اسم للجنس ، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم ، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم ، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم ، وقوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب : [الطويل]

(يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل)

ومنه قول الآخر [الفرزدق] :

وقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلّا عضّها بالأباهم

وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة ، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه ، ويكتب هذا العض بالضاد ، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم ، ويقال بفتحها والضم أشهر ، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد ، له نظائر في الجموع ، وقوله (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب يفعلون ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم : (آمَنَّا) معناه : صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم ، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة ، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه ، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم (آمَنَّا) ، «عض الأنامل من الغيظ» ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله


تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة ، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الإباضية.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين : هو دعاء عليهم.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة ، قال قوم : بل أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة ، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو :

وننمي في ارومتنا ونفقأ عين من حسدا

وينظر إلى هذا المعنى في قوله ، (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) و «ذات الصدور» : ما تنطوي عليه ، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، ومنه قوله : الذيب مغبوط بذي بطنه ، وال «ذات» : لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه.

قوله تعالى :

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠)

«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء ، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال ، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن ، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه ، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين ، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب ، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر : [البسيط]

كلّ العداوة قد ترجى إزالتها

إلّا عداوة من عاداك من حسد

ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين ، وأوجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة ، جاء قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «لا يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير


بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة ، وحكى الكسائي : ضار يضور ، ولم يقرأ على هذه اللغة ، ومن ضار يضير في كتاب الله (لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :

فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها

مطبّعة من يأتها لا يضيرها

يصف مدينة ، والمعنى فليس يضيرها ، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط ، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير :

وقال أناس لا يضيرك نأيها

بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «لا يضرّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء ، وهذا من ضر يضر ، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو ، وأما إعراب هذه القراءة فجزم ، وضمت الراء للالتقاء ، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد ، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم ، فأما الكسر فلا أعرفها قراءة ، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة ، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه ، ويجوز أيضا أن يكون إعراب قوله ، «لا يضركم» ، رفعا إما على تقدير ، فليس يضركم ، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب ، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله] : [الرجز]

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

المراد أنك تصرع ، وقرأ أبي بن كعب : «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها قوله تعالى في الآية (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله ، و «الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى : (وَأَكِيدُ كَيْداً) [الطارق : ١٦] إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) وعيد ، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان ، وقرأ الحسن : «بما تعملون» بالتاء ، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة ، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير : قل لهم يا محمد.

قوله تعالى :

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

ذهب الطبري رحمه‌الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في (إِذْ) فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين» الذي كان في غزوة الأحزاب.

قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه


الآيات كلها ، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل ، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، وأقاموا هنالك يوم الخميس ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة يدبر وينتظر أمر الله تعالى ، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلما في ذباب سيفه ، وأنه يدخل يده في درع حصينة ، وأنه تأولها المدينة ، وقال لهم ، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار ، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن انصرفوا مضوا خائبين ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فو الله ما حاربنا قط عدوا في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار ، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب ، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم أولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما خرج عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سلاحه ، قالوا : يا رسول الله أقم إن شئت ، فإنّا لا نريد أن نكرهك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس ، وسار حتى قرب من عسكر المشركين هناك وبات تلك الليلة ، وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول وقال : أطاعهم وعصاني ، فلما كان في صبيحة يوم السبت ، اعتزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السير إلى مناجزة المشركين ، فنهض وهو في ألف رجل ، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة رجل من الناس ، من منافق ومتبع ، وقالوا : نظن أنكم لا تلقون قتالا ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في سبعمائة ، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف ، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين ، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى ، وذم بعضهم بعضا ، ونهضوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أطل على المشركين ، فتصافّ الناس ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وكانوا خمسين رجلا ، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين ، وأسند هو إلى الجبل ، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا ، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح جبل ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم ، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين ، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة ، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين ، قال مكي : قال مالك رحمه‌الله : قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعلى الجبل


وتحاوز الناس ، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية ، وأمر «أحد» بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال ، مستوعب في كتب السير ، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة ، وحكى عنه الطبري ، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال ، وذلك كله ضعيف ، وقال النقاش : وقعة «أحد» في الحادي عشر من شوال ، وذلك خطأ ، قال الطبري وغيره : فغدو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ).

قال القاضي : ولا سيما أن غدو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس ، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار ، وقال غير الطبري : بل نهوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ، هو غدوه ، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال ، وقيل ذلك في ليلته ، وسماه «غدوا» إذ كان قد اعتزم التدبير ، والشروع في الأمر من وقت الغدو.

قال القاضي أبو محمد : ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال ، حسبما وردت بذلك أحاديث ، فيجيء لفظ الغدو متمكنا ، وقيل إن «الغدو» المذكور هو «غدوة» يوم السبت إلى القتال ، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقا للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و (تُبَوِّئُ) معناه : تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول : تبوأت مكان كذا ، إذا حللته حلولا متمكنا تثبت فيه ، ومنه قوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومنه قول الشاعر : [مجزوء الكامل مرفل]

كم صاحب لي صالح

بوّأته بيديّ لحدا

ومنه قول الأعشى : [الطويل]

وما بوّأ الرّحمن بيتك منزلا

بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرم

وقوله تعالى : (مَقاعِدَ) جمع مقعد وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك مواقف ، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا ، والمبارزة والسرعان يجولون ، وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ) أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره.

و (إِذْ) الثانية بدل من الأولى ، و (هَمَّتْ) معناه أرادت ولم تفعل ، والفشل في هذا الموضع هو الجبن الذي كاد يلحق بني سلمة وبني حارثة و «الفشل» في البدن هو الإعياء والتبليح ، و «الفشل» في الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم ، وقال جابر بن عبد الله : ما وددنا أنها لم تنزل ، لقوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ، وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر في ضمنه التغبيط للمؤمنين بمثل ما فعله بنو حارثة وبنو سلمة من المسير مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عبد الله بن مسعود ، «تبوىء للمؤمنين» بلام الجر ، وقرأ «والله وليهم» على معنى الطائفتين لا على اللفظ.


قوله تعالى :

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥)

لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه ، ذكر بأمر «بدر» الذي كان ثمرة التوكل على الله والثقة به ، فمن قال من المفسرين إن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ). كان في غزوة بدر ، فيجيء التذكير بأمر «بدر» وبأمر الملائكة وقتالهم فيه مع المؤمنين ، محرضا على الجد والتوكل على الله ، ومن قال : إن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية ، إنما كان في غزوة أحد ، كان قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) إلى (تَشْكُرُونَ) اعتراضا بين الكلام جميلا ، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام ، وكانت «بدر» يوم سبعة عشر من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة ، و «بدر» ماء هنالك سمي به الموضع ، وقال الشعبي : كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا فبه سمي ، قال الواقدي : فذكرت هذا لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا : بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع؟ قال وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال : سمعت شيوخا من بني غفار يقولون : هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر ، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار ، قال الواقدي : فهذا المعروف عندنا ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) معناه قليلون ، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا ، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف ، و (أَذِلَّةٌ) جمع ذليل ، واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة ، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند التأمل ذلتهم ، وأنهم مغلوبون ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم : اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وهذه الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطأ ، كذب كعب ، وكقوله كذب أبو محمد ، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض الأقوال ، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب ، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى ، ورجاهم بالإنعام الذي يوجب الشكر ، ويحتمل أن يكون المعنى : اتقوا الله عسى أن يكون تقواكم شكرا على النعمة في نصره ببدر.

وقوله تعالى : (إِذْ تَقُولُ) العامل في (إِذْ) فعل مضمر ، ويحتمل أن يكون العامل (نَصَرَكُمُ) وهذا على قول الجمهور : إن هذا القول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ببدر قال الشعبي والحسن بن أبي الحسن وغيرهما إن هذا كان ببدر ، قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر بن حسل المحاربي محارب فهر ، قد جاء في مدد للمشركين ، فغم ذلك المؤمنين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين عن أمر الله تعالى ، هذه المقالة فصبر المؤمنون واتقوا ، وهزم المشركون وبلغت الهزيمة كرزا ومن معه فانصرفوا ولم يأتوا من فورهم ، ولم يمدّ المؤمنون بالملائكة ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله


عليه وسلم مددا ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة.

قال القاضي : وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة ، وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت ، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة ، لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى ، ومنه حديث الغفاري وابن عمه اللذين سمعا من الصحابة ، أقدم حيزوم فانكشف قناع قلب أحدهما فمات مكانه ، وتماسك الآخر ، وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر ، وكانوا يكونون في سائر الأيام عددا ومددا لا يضربون ، ومن ذلك قول أبي سفيان بن الحارث لأبي لهب : ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون ، وعلى ذلك فو الله ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء ، ومن ذلك أن أبا اليسر كعب بن عمرو الأنصاري أحد بني سلمة أسر يوم بدر العباس بن عبد المطلب وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا طويلا جسيما فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم ، الحديث بطوله ، وقد قال بعض الصحابة : كنت يوم بدر أتبع رجلا من المشركين لأضربه بسيفي فلما دنوت منه وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعلمت أن ملكا قتله ، وقال قتادة ابن دعامة : أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف من الملائكة ، قال الطبري : وقال آخرون : إن الله وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدهم في حروبهم كلها إن صبروا واتقوا ، فلم يفعلوا ذلك إلا في يوم الأحزاب ، فأمدهم حين حاصروا قريظة ، ثم أدخل تحت هذه الترجمة عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: حاصرنا قريظة مدة فلم يفتح علينا فرجعنا ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا بغسل يريد أن يغسل رأسه ، إذ جاءه جبريل عليه‌السلام فقال : وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه بخرقة ولم يغسله ، ونادى فينا فقمنا كالين متعبين ، حتى أتينا قريظة والنضير ، فيومئذ أمدنا الله بالملائكة بثلاثة آلاف ، وفتح لنا فتحا يسيرا ، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل ، وقال عكرمة : كان الوعد يوم بدر ، فلم يصبروا يوم أحد ولا اتقوا ، فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا ، وقال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يمدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين ، وقال ابن زيد : قال المسلمون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وهم ينتظرون المشركين : يا رسول الله أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية وإنما أمدهم يوم بدر بألف قال ابن زيد : فلم يصبروا ، وقوله تعالى : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة ، ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى الجواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : (بَلى) وهي جواب المقررين ، وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام: ١٩] وفي مصحف أبي بن كعب ، «ألا يكفيكم» وقد مضى القول في قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) [البقرة: ١٥] وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «بثلاثة آلاف» ، يقف على الهاء ، وكذلك «بخمسة آلاف» ، ووجه هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال للأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا


للعرب في مواضع ، فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما ، شاة ، يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف ، قالا : يريدون قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها من مواضع الروية والتثبت ، ومن ذلك في الشعر قول الشاعر : [عنترة] : [الرجز] :

ينباع من ذفرى غضوب جسرة

يريد ينبع فمطل ومنه قول الآخر : [الرجز]

أقول إذ جرت على الكلكال

يا ناقتا ما جلت من مجال

يريد على الكلكل ، فمطل ومنه قول الآخر : [لابن هرمة] : [الوافر]

فأنت من الغوائل حين ترمي

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح

يريد بمنتزح ، قال أبو الفتح : فإذا جاز ان يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه إذ هما في الحقيقة اثنان ، وقرأ ابن عامر وحده : «منزّلين» بفتح النون والزاي مشددة ، وقرأ الباقون : منزلين بسكون النون وفتح الزاي مخففة ، وقرأ ابن أبي عبلة : «منزّلين» بفتح النون وكسر الزاي مشددة ، معناها : ينزلون النصر ، وحكى النحاس قراءة ولم ينسبها : «منزلين» بسكون النون وكسر الزاي خفيفة ، وفسرها بأنهم ينزلون النصر.

و (بَلى) ـ جواب للنفي الذي في (أَلَنْ) وقد تقدم معناه ، ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر ، والتقى. و «الفور» : النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه ، ومنه قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) [هود : ٤٠] فالمعنى ويأتوكم في نهضتكم هذه ، قال ابن عباس : (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) : معناه من سفرهم هذا ، قال الحسن والسدي : معناه ، من وجههم هذا ، وقاله قتادة ، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني : من غضبهم هذا.

قال القاضي : وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور» لغضب ولطمع ولرغبة في أجر ، ومنه الفور في الحج والوضوء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : «مسوّمين» ، بكسر الواو ، وقرأ الباقون : «مسوّمين» بفتح الواو ، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه : معلمين بعلامات ، قال أبو زيد الأنصاري : «السومة» العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف ، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض ، حكاه المهدوي عن الزجّاج ، إلا جبريل عليه‌السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام ، وقاله ابن إسحاق ، وقال مجاهد : كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن ، وقال الربيع : كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق ، وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير : نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر ، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا الزبير : وقال عبد الله : كانت ملاءة صفراء فاعتم الزبير بها ، ومن قرأ : «مسوّمين» بكسر الواو ، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم ، أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم ، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة ، بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمسلمين يوم بدر : سوّموا فإن الملائكة قد سوّمت ، فهم على


هذا مسومون ، وقال كثير من أهل التفسير : إن معنى «مسوّمين» بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم: أي أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة ، ومنه سائمة الماشية ، لأنها تركت وسومها من الرعي ، وذكر المهدوي هذا المعنى في «مسوّمين» بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم.

قال القاضي : وهذا قلق : وقد قاله ابن فورك أيضا.

قوله تعالى :

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩)

الضمير في (جَعَلَهُ اللهُ) عائد على الإنزال والإمداد ، و «البشرى» مصدر واللام في (وَلِتَطْمَئِنَ) متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله ، ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم ، وإلا فالكثرة لا تغني شيئا إلا أن ينصر الله ، وقوله : (وَمَا النَّصْرُ) يريد للمؤمنين ، وكذلك أيضا هي الإدالة للكفار من عند الله.

واللام في قوله : (لِيَقْطَعَ) متعلقة بقوله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وعلى هذا لا يكون قطع الطرف مختصا بيوم ، اللهم إلا أن تكون الألف واللام في «النصر» للعهد ، وقيل : العامل فيه «ولقد نصركم» حكاه ابن فورك وهو قلق ، لأن قوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) لا يترتب عليه ، وقد يحتمل أن تكون اللام في قوله (لِيَقْطَعَ) متعلقة ب (جَعَلَهُ) ، فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر ، على ما قال الحسن وابن إسحاق وغيرهم ، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السدي ، وقتل من المشركين ببدر سبعون ، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلا ، وقال السدي : قتل منهم ثمانية عشر والأول أصح ، و «الطرف» الفريق ، ومتى قتل المسلمون كفارا في حرب فقد قطعوا (طَرَفاً) ، لأنه الذي وليهم من الكفار فكأن جميع الكفار رقعة وهؤلاء المقتولون طرف منها أي حاشية ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) بمنزلة ليقطع دابرا وقوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) معناه : أو يخزيهم ، والكبت الصرع لليدين ، وقال النقاش وغيره : التاء بدل من دال كبته أصله كبده أي فعل به يؤذي كبده ، وإذا نصر الله على أمة كافرة فلا بد من أحد هذين الوجهين ، إما أن يقتل منهم أو يخيبوا ، فذلك نوع من الهزم.

وقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) توقيف على أن الأمر كله لله ، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي في ذلك أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه ، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه ، تحيز عن الملحمة ، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول : لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن


مالك ، وفي بعض الطرق ، وكيف يفلح؟ وفي بعضها أن سالما مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟ فنزلت الآية ، بسبب هذه المقالة.

قال القاضي : وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فروي أنه دعا عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم ، وروى ابن عمر وغيره : أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية باللعنة ، إلى غير هذا من معناه ، فقيل له بسبب ذلك ، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك ، قال الطبري وغيره من المفسرين : قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عطف على (يَكْبِتَهُمْ).

قال القاضي : فقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض أثناء الكلام ، وقوله : (أَوْ يَتُوبَ) معناه : فيسلمون ، وقوله : (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) معناه : في الآخرة بأن يوافوا على الكفر ، قال الطبري وغيره : ويحتمل أن يكون قوله (أَوْ يَتُوبَ) بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك : لا أفارقك أو تقضيني حقي ، وكما تقول : لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان ، وقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ليس باعتراض على هذا التأويل ، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه‌السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب الله عليهم فيسلموا ، فيرى محمد عليه‌السلام أحد أمليه فيهم ، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا ، أو بنار في الآخرة أو بهما ، فيرى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمل الآخر ، وعلى هذا التأويل فليس في قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ردع كما هو في التأويل الأول ، وذلك التأويل الأول أقوى ، وقرأ أبي بن كعب ، «أو يتوب أو يعذب» برفع الباء فيهما ، المعنى : أو هو يتوب ، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار.

ثم أكد معنى قوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء ، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء ، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه ، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه ، ثم رجا في آخر ذلك تأنيسا للنفوس وجلبا لها إلى طاعته ، وذلك كله في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) و (ما) في قوله (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، إشارة إلى جملة العالم فلذلك حسنت (ما) ، وما ذكر في هذه الآية من أن هذه الآية ناسخة لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين كلام ضعيف كله ، وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢)

هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد» ، ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا ، والربا الزيادة ،


وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة ، وقوله (أَضْعافاً) نصب في موضع الحال ، ومعناه : الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تربي؟ وقوله : (مُضاعَفَةً) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام ، كما كانوا يصنعون ، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة ، وقد حرم الله جميع أنواع الربا ، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور ، وأيضا فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه.

و (النَّارَ) في قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ) هي اسم الجنس ، ويحتمل أن تكون للعهد ، ثم ذكر أنها (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، أي إنهم هم المقصود والمراد الأول ، وقد يدخلها سواهم من العصاة ، فشنع أمر النار بذكر الكفر ، وحسن للمؤمن أن يحذرها ويبعد بطاعة الله عنها وهذا كما قال في الجنة : أعدت للمتقين ، أي هم المقصود ، وإن كان يدخلها غيرهم من صبي ومجنون ونحوه ممن لا يكلف ولا يوصف بتقوى ، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية ، وحكى الماوردي وغيره ، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار الكفرة ، إذ النار سبع طبقات ، العليا منها وهي جهنم للعصاة ، والخمس للكفار والدرك الأسفل للمنافقين ، قالوا : فأكلة الربا إنما يعذبون يوم القيامة بنار الكفرة لا بنار العصاة ، وبذلك توعدوا ، فالألف واللام على هذا في قوله (وَاتَّقُوا النَّارَ) إنما هي للعهد.

ثم أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله ، والطاعة هي موافقة الأمر الجاري عند المأمور مع مراد الأمر وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ، وقال محمد بن إسحاق إن هذه الآية من قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ) هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من فر وزوال الرماة عن مراكزهم.

قوله تعالى :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤)

قرأ نافع وابن عامر : «سارعوا» بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ، وقرأ باقي السبعة بالواو ، قال أبو علي : كلا الأمرين شائع مستقيم ، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة ، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو ، وأمال الكسائي الألف من قوله (سارِعُوا) ومن قوله (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٦١] و (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٥٦] في كل ذلك ، قال أبو علي : والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها ، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة ، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره ، فبينهم في ذلك مفاعلة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [المائدة : ٤٨] وقوله (إِلى مَغْفِرَةٍ) معناه : سارعوا


بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها ، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها ، ويدخلكم جنة ، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) ، معناه : إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام.

قال الفقيه القاضي : هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة ، وقوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تقديره : كعرض السماوات والأرض ، وهذا كقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] أي كخلق نفس واحدة وبعثها ، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح ، ومنه قول الشاعر : [ذو الخرق الطهوي] : [الوافر] :

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ويب غيرك بالعناق

ومنه قول الآخر :

كأنّ غديرهم بجنوب سلي

نعام فاق في بلد قفار

التقدير صوت عناق وغدير نعام.

وأما معنى قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب ، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة ، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور ، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث النبي عليه‌السلام : ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض ، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض ، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله ، وروى يعلى بن أبي مرة قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمص ، شيخا كبيرا قد فند فقال قدمت على النبي عليه‌السلام ، بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره فقلت : من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب هرقل : إنك كتبت إليّ تدعوني إلى (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار؟ وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال أحدهما : تقولون (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، أين تكون النار؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار؟ فقال اليهودي : إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه : لم أخبرته؟ دعه إنه بكل موقن.

قال القاضي أبو محمد : فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد ، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله ،


وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض ، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه ، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة ، وفلاة عريضة ، وقال قوم: قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) معناه : كعرض السماوات والأرض ، كما هي طباقا ، لا بأن تقرن كبسط الثياب ، فالجنة في السماء ، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول ، وقال قوم : الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة ، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض ، كما تقول لرجل : هذا بحر ، ولشخص كبير من الحيوان : هذا جبل ، ولم تقصد الآية تحديد العرض.

قال القاضي أبو محمد : وجلب مكي هذا القول غير ملخص ، وأدخل حجة عليه قول العرب : أرض عريضة وليس قولهم ، أرض عريضة ، مثل قوله : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط ، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للفارين يوم أحد : لقد ذهبتم فيها عريضة ، وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال : إن الجنة لم تخلق بعد ، وكذلك النار ، وهو قول ضعيف ، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا ، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله ، (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) و (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] وغير ذلك ، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء وغيره ، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت ، وأما من يقول : يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث ، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر ، و (أُعِدَّتْ) معناه : يسرت وانتظروا بها.

ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) الآية ، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ، معناه : في العسر واليسر.

قال القاضي : إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس ، ومع العسر الكراهية وضر النفس ، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له ، والكظام : السير الذي يشد به فم الزق والقربة ، وكظم البعير جرته : إذا ردها في جوفه ، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه ، كظم ، حكاه الزجّاج ، فقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي : [الكامل]

فأفضن بعد كظومهنّ بجرّة

من ذي الأباطح أذرعين حقيلا

و (الْغَيْظَ) : أصل الغضب ، وكثيرا ما يتلازمان ، ولذلك فسر بعض الناس (الْغَيْظَ) بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك ، بل (الْغَيْظَ) فعل النفس لا يظهر على الجوارح ، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد ، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند إليه تعالى غيظ ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة ، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث ، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس ، ومنه قول عليه‌السلام : ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : ما من جرعة يتجرعها


العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله ، وروى أبو هريرة أن النبي عليه‌السلام قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمنا وإيمانا ، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير ، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو ، وحيث يتجه حقه ، وقال أبو العالية : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ، يريد المماليك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال ، إذ هم الخدمة ، فهم مذنبون كثيرا ، والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ، فلذلك مثل هذا المفسر به ، وذكر تعالى بعد ذلك أنه (يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر ، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه ، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه‌السلام ، فقال : ما الإيمان؟ ثم قال ما الإسلام؟ فذكر له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المفروضات ، ثم قال له : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، الحديث.

قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦)

ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له ، وقوله (وَالَّذِينَ) عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس (الَّذِينَ) بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة» هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و (ذَكَرُوا اللهَ) معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيبا لو لم يخف الله لم يعصه ، و «استغفروا» معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم» ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) ، اعتراضا موقفا للنفس ، داعيا إلى الله ، مرجيا في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم (اللهَ) مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملا على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا) الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير : أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى».


يريد : عزيمة. فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : لا توبة مع إصرار ، وقال أيضا : ما أصر من استغفر ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله. وقال الحسن : إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : (لَمْ يُصِرُّوا) معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار» هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار.

ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) الآية ، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره ، وقوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بمنزلة قوله : ونعم الأجر ، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧] لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس ، فلذلك قدره أبو علي : ساء المثل مثل القوم ، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا «بساء» ولا يضمر شيء.

قوله تعالى :

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)

الخطاب بقوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ) للمؤمنين ، والمعنى : لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديما أدال الله المكذبين على المؤمنين ، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك ، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء ، وقال النقاش : الخطاب ب (قَدْ خَلَتْ) للكفار.

قال الفقيه القاضي أبو محمد : وذلك قلق ، و (خَلَتْ) معناه : مضت وسلفت ، قال الزجّاج: التقدير أهل سنن ، و «السنن» : الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك ، وسنة الإنسان : الشيء الذي يعمله ويواليه ، ومن ذلك قول خلد الهذلي ، لأبي ذؤيب :

فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها

فأوّل راض سنّة من يسيرها

وقال سليمان بن قتة :

وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم

تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا

وقال لبيد :

من معشر سنّت لهم آباؤهم

ولكلّ قوم سنّة وإمامها


وقال ابن زيد : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) معناه : أمثال.

قال الفقيه الإمام : هذا تفسير لا يخص اللفظة ، وقال تعالى : (فَسِيرُوا) وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين ، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره ، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل ، وقوله : (فَانْظُروا) ، هو عند الجمهور من نظر العين ، وقال قوم : هو بالفكر.

وقوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) قال الحسن : الإشارة إلى القرآن ، وقال قتادة في تفسير الآية : هو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة ، وقال بمثله ابن جريج والربيع.

قال القاضي : كونه بيانا للناس ظاهر ، وهو في ذاته أيضا هدى منصوب وموعظة ، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن ، وتحسن إضافته إلى «المتقين» الذين فيهم نفع وإياهم هدى ، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة : الإشارة ب (هذا) إلى قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) الآية ، قال ابن إسحاق : المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه ، قال الشعبي : المعنى ، هذا بيان للناس من العمى.

ثم نهى عزوجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد ، والحزن على من فقد ، وعلى مذمة الهزيمة ، وآنسهم بأنهم (الْأَعْلَوْنَ) أصحاب العاقبة ، والوهن : الضعف ، واللين والبلى ، ومنه : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] ومنه قول زهير : [البسيط]

فأصبح الحبل منها وأهنأ خلقا

ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقا ، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات ، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن هين لين ، والمؤمنون هينون لينون» ومنه قول الشاعر : [المنخل الهذلي] : [المتقارب].

لعمرك ما إن أبو مالك

بواه ولا بضعيف قواه

إذا سدته سدت مطواعة

ومهما وكلت إليه كفاه

وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة : ولا تقعد على ضمد

إلّا لمثلك أو من أنت سابقه

وفيه يجري قول العرب : إذا لم تغلب اخلب ، على من تأوله من المخلب ، أي حارب ولو بالأظافر ، وهذا هو فعل عبد الله بن طارق وهو من أصحاب عاصم بن عدي حين نزع يده من القرآن وقاتل حتى قتل ، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح في يوم بئر معونة ، ومن رآه من معنى الخلب والخلابة الذي هو الخديعة والمكر ، فهو رأي دهاة العرب ، وليس برأي جمهورها ، ومنه فعل عمرو بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، وأيضا فليس المكر والخديعة بذل محض ، ولذلك رآه بعضهم ، وأما قولهم إذا عز أخوك فهن ، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى : لن


وأضعف ضعف المطواع ، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان ، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب ، وأما الشرع فقد قال النبي عليه‌السلام : لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق ، وليس من الهوان ، قال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة ، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إخبار بعلو كلمة الإسلام.

هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ ، وقاله ابن إسحاق : وروي عن ابن عباس وابن جريج : إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل ، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه‌السلام : اللهم لا يعلوننا ، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل ، وصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيه ، فأنزل الله تعالى عليه ، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها ، ويحتمل أن يتعلق بقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) فيكون الشرط على بابه دون تجوز ، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم ، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه ، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان ، فالزموه.

ثم قال تعالى ، تسلية للمؤمنين : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) والأسوة مسلاة للبشر ، ومنه قول الخنساء : [الوافر]

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزّي النّفس عنه بالتأسّي

والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود ، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله ، و «القرح» : القتل والجراح ، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم ، والمعنى : إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص : «قرح» بفتح القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «قرح» بضم القاف ، وكلهم سكن الراء ، قال أبو علي : هما لغتان كالضّعف والضّعف والكره والكره ، والفتح أولى ، لأنها لغة أهل الحجاز والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل.

قال القاضي أبو محمد : هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه‌السلام : وبجميعها عارض جبريل عليه‌السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة ، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق ، وعلى هذا لا يقال : هذه أولى من جهة نزول القرآن بها ، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول ، قال أبو الحسن الأخفش : «القرح» و «القرح» مصدران بمعنى واحد ، ومن قال القرح بالفتح الجراحات بأعيانها ، والقرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية ، لأن هذا مما لا يعلم بقياس ، وقال بهذا التفسير الطبري ، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم» بالتاء من فوق ، «قروح» بالجمع ، «فقد


مس القوم قرح مثله» ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني «قرح» بفتح القاف والراء ، قال أبو الفتح : هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد. هذا مذهب البصريين ، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق ، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين ، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثرا معتمدا ، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول : نحوه بفتح الحاء ، يريد نحوه ، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو وكعصاة وفتاة ، وسمعت غيره يقول : أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني : ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق ، والحمد لله.

قوله تعالى :

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (١٤١)

أخبر تعالى على جهة التسلية أن (الْأَيَّامُ) على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر ، أي : فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار ، وقال تعالى : (نُداوِلُها) فهي مفاعلة من جهة واحدة ، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين ، فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك ، و «الدّولة» بضم الدال المصدر ، و «الدّولة» بفتح الدال الفعلة الواحدة من ذلك ، فلذلك يقال في دولة فلان لأنها مرة في الدهر ، وسمع بعض العرب الأقحاح قارئا يقرأ هذه الآية ، فقال : إنما هو ، «وتلك الأيام نداولها بين العرب» ، فقيل له : إنما هو «بين الناس» فقال : إنا لله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) دخلت الواو لتؤذن أن اللام متعلقة بمقدر في آخر الكلام ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا ، فعل ذلك ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ) معناه : ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلا أنهم يؤمنون ، وليساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأول ، وعلمه تعالى لا يطرأ عليه التغيير ونحو هذا : أن يضرب حاكم أحدا ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لأضرب مستحقا ، معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه ، وقوله تعالى : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) ، معناه : أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهيد.

ثم أخبر تعالى : أن إدالته الكفار على المؤمنين إنما هي (لِيُمَحِّصَ) المؤمنين ، وأن إدالة المؤمنين على الكفار إنما هي لمحق الكفار ، هذا مقتضى ألفاظ الآية ، وقد قال ابن عباس وغيره : جعل الله الدولة لرسوله يوم بدر ، وعليه يوم أحد وذهب كثير من أهل العلم إلى العبارة عن إدالة المؤمنين بالنصر ، وعن إدالة الكفار بالإدالة ، وروي في ذلك عن النبي عليه‌السلام حديث : إنهم يدالون كما تنصرون ، و «التمحيص» : التنقية. قال الخليل : التمحيص من العيب يقال : محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زئبره وامّلس هكذا ساق الزجّاج اللفظة «الحبل» ورواها النقاش محص الجمل : إذا زال عنه وبره وامّلس ، وقال حنيف الحناتم ، وقد ورد ماء يقال له طويلع : إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء ، فالمعنى : إنه لبعده يلمس حبله بالطين الحر ومد الأيدي ، فمعنى الآية : أن الله يمحص المؤمنين إذا أدال


عليهم ، بأنه ينقي المتشهدين من ذنوبهم ، وينقي الأحياء من منافقهم إذ يميزهم ، وأنه (يَمْحَقَ الْكافِرِينَ) إذا نصر عليهم أي ينقصهم والمحق : الذهاب شيئا شيئا ، ومنه محاق القمر.

قوله تعالى :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

(أَمْ) هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له ، وفيها لازم معنى الاستفهام ، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام ، و (حَسِبْتُمْ) معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد ، وقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل : قد كان كذا ، فلما أكد هذا الخبر الموجب ، بقد ، أكد النفي المعادل له بلما ، وإذا قال القائل : كان كذا ، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين ، قاله سيبويه : وقرأ جمهور الناس : بكسر الميم للالتقاء في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي : «ولما يعلم» بفتح الميم اتباعا لفتحة اللام ، وقرأ الجمهور «ويعلم» على النصب بإضمار ـ أن ـ عند البصريين ، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ : «ويعلم» بالرفع على استئناف الفعل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد : «ويعلم» بكسر الميم جزما معطوفا على قوله (وَلَمَّا يَعْلَمِ).

ثم خاطب المؤمنين بقوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) والسبب في ذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه ، إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا ، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة ، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر ، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ ، فلما جاء أمر أحد ـ وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين ، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به ، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت ، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت ، فصار الموت كأنه المتمنى ، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم ، وقرأ الجمهور : «من قبل أن تلقوه» ، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث ـ لقي ـ معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل ، وقرأ مجاهد «من قبل» بضم اللام وترك الإضافة ، وجعل (أَنْ تَلْقَوْهُ) بدلا من (الْمَوْتَ) ، وقوله تعالى : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف ، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر : رأيت البلايا ، تحمل المنايا ، وكما قال الحارث بن هشام : [الكامل]

ووجدت ريح الموت من تلقائهم

في مأزق والخيل لم تتبدد


يريد لقرب الأمر ، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة :

لقد رأيت الموت قبل ذوقه

يريد لما اشتد به المرض ، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه» ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) يحتمل ثلاثة معان : أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ ، والآخر أن يكون المعنى وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه‌السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه ، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا : المعنى : وأنتم تنظرون إلى محمد ، وهذا قول ضعيف ، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟ والاضطراب بحسب ذلك ، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم ، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا ، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال : وأنتم حسباء أنفسكم ، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء ، قال ابن فورك : المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما تقدم.

قوله تعالى :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً)

هذا استمرار في عتبهم ، وإقامة لحجة الله عليهم ، المعنى : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول كسائر الرسل ، قد بلغ كما بلغوا ، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك ، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله ، و (خَلَتْ) معناه مضت وسلفت ، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف ، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف ، وهي قراءة حطان بن عبد الله ، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى ، ووجه الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه‌السلام في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، فجيء تنكير «الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء ، فمنه قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وقوله تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] إلى غير ذلك من الأمثلة ، ذكر ذلك أبو الفتح ، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام ، وقوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ) الآية ، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه ، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا : إن مات محمد أو قتل انقلبنا ، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار ، وقال كثير من


المفسرين : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.

قال الفقيه القاضي أبو محمد : وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط ، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) [البقرة : ١٧٠ ، المائدة : ١٠٤] ونحوه من الكلام ، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله ، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه ، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى : (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق ، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات ، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار ، ومنهم أنس بن النضر ، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين ، والأنصاريّ يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ، فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم.

قال الفقيه أبو محمد : فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة ، قال ابن إسحاق معنى (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي من أطاعه وعمل بأمره ، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره : أنه قال في تفسير هذه الآية : «الشاكرون» : الثابتون على دينهم ، أبو بكر وأصحابه وكان يقول : أبو بكر أمير الشاكرين ، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه‌السلام وثبوته في ذلك الموطن ، وثبوته في أمر الردة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قبض وشاع موته ، هاج المنافقون وتكلموا ، وهموا بالاجتماع والمكاشفة ، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه‌السلام ، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه‌السلام فسمع كلام عمر فقال له : اسكت ، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه ، فقال : أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ، وتلا الآية كلها ، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم ، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري : فنفع الله بخطبة عمر ، ثم بخطبة أبي بكر.

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه.

ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى ، أي فالجبن لا يزيد فيه ، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه ، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد ، قال ابن فورك : وفيها تسلية في موت النبي عليه‌السلام ، والعبارة بقوله : (وَما كانَ) قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ، وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما


يقول بعض المفسرين ، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه ، و «نفس» في هذه الآية : اسم الجنس ، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه ، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر ، وقوله : (كِتاباً) نصب على التمييز و (مُؤَجَّلاً) صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين ، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤] ونحو هذا من الآيات ، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (نُؤْتِهِ مِنْها) مشروط بالمشيئة ، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له ، بيّن ذلك قوله تعالى :

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦)

قوله تعالى : (نُؤْتِهِ مِنْها) مشروط بالمشيئة ، اي نؤت من شئنا منها ما قدر له ، بيّن ذلك قوله تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) [الإسراء : ١٨] ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا ، فلا نصيب له في الآخرة ، والأعمال بالنيات ، وقرينة الكلام في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا ، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي». كلها بنون العظمة ، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة ، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه ، قال ابن فورك: في قول الله تعالى : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة.

ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) الآية ، وفي (كَأَيِّنْ) أربع لغات : «كأين» على وزن كعين بفتح العين ، و «كأين» ، على وزن كاعن و «كأين» على وزن كعين بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين ، وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن ، فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

وكائن رددنا عنكم من مدجّج

يجيء أمام القوم يردي مقنّعا

وقال جرير : [الطويل]

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا

وقال آخر : [زهير] : [الطويل] :

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التّكلّم

وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولا قول الشاعر : [الوافر]

كأيّن في المعاشر من أناس

أخوهم فوقهم وهم كرام


وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة ، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي» كما دخلت على «ذا» في قولك لفلان كذا وكذا ، وكما دخلت على «أن» في قولك كأن زيدا أسد ، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا ، وفي (كَأَيِّنْ) ، وصرفت العرب (كَأَيِّنْ) في معنى «كم» التي هي للتكثير ، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت ، وهذا كما لعب في قولهم : لعمري حتى قالوا : وعملي ، وكما قالوا : أطيب وأيطب ، وكما قالوا : طبيخ في بطيخ ، فعوملت الكاف «وأي» معاملة ما هو شيء واحد ، فأما اعتلال لغة من قال : «كأين» على وزن فاعل ، فإنهم أخذوا الأصل الذي هو «كاين» فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها ، فجاء «كيا» على وزن كيع ، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفا ، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا : ميت وهين ولين ، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي» تخفيفا ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي :

تنظرت نصرا والسماكين أيهما

عليّ من الغيث استهلت مواطره؟

فجاء «كيا» على وزن كيع ، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفا مراعاة للفتحة التي قبلها ، كما قالوا : في يوجل يأجل ، وكما أبدلوا الياء ألفا في «طاى» وكما أبدلت في آية عند سيبويه ، إذ أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين ، فجاء «كاء» ثم كتب هذا التنوين نونا في المصحف ، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف ، فكما يقولون : مررت بزيد فكذلك يقولون كأي ، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون ، وكذلك روى سورة بن المبارك عن الكسائي ، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف ، قال أبو علي : ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف ، لكان قولا ، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا ، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة ، فأجازوا الإمالة في ألف «لا» كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال ، فيوقف على «كأين» بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب ، كما لا تميل الألف من «لا» إذا لم يحذف فعلها.

قال الفقيه أبو محمد : وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن كثير وحده ، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين» ، وذهب يونس بن حبيب في «كأين» إلى أنه فاعل من الكون ، وقوله مردود ، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب ، وأما اللغة التي هي «كأين» على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي ، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين» بالتعليل المتقدم ، فلما جاء «كيا» على وزن كيعن ، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفا كما تقدم في التعليل الأول ، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين» على وزن كعين ، وحسن هذا من وجهين : أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع ، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء ، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضا ، حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وقرأها الحسن بن أبي الحسن ، إلا أنه سهل الهمزة ياء ، فقرأ كي في جميع القرآن ، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء» الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفا ، وهذا كما قالوا : أم والله ، يريدون : أما ، وكما قالوا على لسان الضب [المجتث] :

لا أشتهي أن أردّا

إلّا عرادا عردّا

وصليانا بردا

وعنكثا ملتبّدا


أرادوا : عاردا وبادرا ، فحذفوا تخفيفا ، وهذا كثير في كلامهم ، (وَكَأَيِّنْ) في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء ، وهي بمنزلة «كم» وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «قتل» ، بضم القاف وكسر التاء مخففة ، وقرأ الباقون «قاتل معه» بألف بين القاف والتاء ، وقرأ قتادة «قتل» بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير ، وقوله تعالى : «قتل» قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري : إنه مستند إلى ضمير (نَبِيٍ) ، والمعنى عندهم أن النبي قتل ، قال ابن عباس في قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] النبي يقتل ، فكيف لا يخان ، وإذا كان هذا ف (رِبِّيُّونَ) مرتفع بالظرف بلا خلاف ، وقوله : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل (نَبِيٍ) ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي أسند إليه «قتل» فإن جعلته صفة أضمرت للمبتدأ الذي هو (كَأَيِّنْ) خبرا تقديره في آخر الكلام : مضى أو ذهب أو فقد : (فَما وَهَنُوا) وإن جعلت (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) حالا من الضمير فخبر المبتدأ في قوله : «قتل» وإذا جعلته صفة فالضمير في (مَعَهُ) عائد على «النبي» ، وإذا جعلته حالا فالضمير في (مَعَهُ) عائد على الضمير ذي الحال ، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال ف «معه ربيون» متعلق في الأصل بمحذوف ، وليس متعلقا «بقتل» ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه : إن «قتل» إنما هو مستند إلى قوله : (رِبِّيُّونَ) وهم المقتولون قال الحسن وسعيد بن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول يتعلق قوله : (مَعَهُ) ب قتل ـ وهذه الجملة ـ قتل معه ربيون ، هي الابتداء ويتصور في قراءة من قرأ «قاتل» جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل» ، وأما قراءة قتادة «قتل» فقال أبو الفتح : لا يحسن أن يسند الفعل إلا إلى الربيين ، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد ، فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى «كم» فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله (مِنْ نَبِيٍ) ودل الضمير المفرد في (مَعَهُ) على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى «كم» قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة : إن «قتل» ـ بتخفيف التاء أو «قاتل» إنما يستند إلى الربيين ، ورجح الطبري استناد «قتل» إلى «النبي» بدلالة نازلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد ـ فضرب المثل بنبي قتل.

قال القاضي أبو محمد : وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي» فإنما يجيء معنى الآية : تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط ، وترجيح الطبري حسن ، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) [آل عمران : ١٤٤] وحجة من قرأ «قاتل» أنها أعم في المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي.

قال الفقيه أبو محمد : ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة «قتل» إسناده إلى نبي ، وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من «ربيون» وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب : «ربيون» بضم الراء ، وروى قتادة عن ابن عباس «ربيون» بفتح الراء ، قال ابن جني : الفتح في الراء لغة تميم وكلها لغات ، واختلف الناس في معنى (رِبِّيُّونَ) فقال ابن مسعود : الربيون الألوف من الناس والجمع الكثير ، وقال ابن عباس : (رِبِّيُّونَ) جموع كثير ، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود وابن


عباس : إنهم الألوف ، قال بعض المفسرين : هم عشرة آلاف فصاعدا ، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما : هم الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الربة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة ، قاله يونس بن حبيب ، وقال : إن قوله تعالى : قتل معه ربيون منسوبون إليها ، قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وقال الزجّاج : يقال : إن الربة عشرة آلاف ، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما أنهم قالوا : (رِبِّيُّونَ) معناه علماء ، وقال الحسن : فقهاء علماء ، قال أيضا : علماء صبر ، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب ، إما لأنهم مطيعون له ، أو من حيث هم علماء بما شرع ، ويقوي هذا القول في قراءة من قرأ «ربيون» بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها فيجيء على تغيير النسب ، كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حرمي بكسر الحاء ، وإلى البصرة ، بصري بكسر الباء ، وفي هذا نظر ، وقال ابن زيد : «الربانيون» : الولاة ، والربيون الرعية الأتباع للولاة.

قال الفقيه أبو محمد : كأن هذا من حيث هم مربوبون ، وقال النقاش : اشتقاق ربي من ربا الشيء يربو إذا كثر ، فسمي بذلك الكثير العلم.

قال الفقيه أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال مكي : ربي بكسر الراء منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه اتباعا للكسرة والياء اللتين بعد الراء ، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل : دهري بضم الدال في النسب إلى الدهر ، وقرأ جمهور الناس «فما وهنوا» بفتح الهاء ، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهنوا» بكسر الهاء ، وهما لغتان بمعنى ، يقال : وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن ، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضا «وهنوا» بإسكان الهاء ، وهذا الوهن في قوله آنفا (وَلا تَهِنُوا) [آل عمران : ١٣٩] والضمير في قوله : (فَما وَهَنُوا) عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل إلى نبي ، ومن أسنده إلى الربيين قال في هذا الضمير إنه يعود على من بقي منهم ، إذ المعنى يفهم نفسه ، وقوله تعالى : (وَما ضَعُفُوا) معناه لم يتكسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبي عن ضعفهم ، وقوله تعالى : (وَمَا اسْتَكانُوا) ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا ، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف ، وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا ، نقلت حركة الواو إلى الكاف ، وقلبت ألفا ، كما فعلوا في قولك : استعانوا واستقاموا ، والمعنى : أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريبا من ذلك ، كما تقول : ما فعلت كذا ولا كدت ، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد ، وما كدت أن أفعل ، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه.

قوله تعالى :

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨)

هذه الآية في ذكر الربيين ، أي هذا كان قولهم ، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد ، من قول من قال : نأخذ أمانا من أبي سفيان ومن قول من قال : نرجع إلى ديننا الأول ، ومن قول من فر ، فلا شك أن قوله


مناسب لفعله ولو بعض المناسبة ، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «قولهم» بالنصب ، ويكون الاسم فيما بعد (إِلَّا) وقرأ جماعة من القراء «قولهم» بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد (إِلَّا) وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ذكره المهدوي ، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى : (ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض ، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب ، وكذلك فسر ابن عباس وغيره ، وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة ، وقولهم : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار ، فيكون المعنى : اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك ، وتثبيت القدم على هذا : استعارة ، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله : (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب ، قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ، لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله.

و (ثَوابَ الدُّنْيا) في هذه الآية : الظهور على عدوهم ، قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما ، وقال ابن جريج : الظفر والغنيمة ، وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير ، قال النقاش : ليس إلا الظفر والغلبة فقط ، لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة.

قال الفقيه الإمام : وهذا اعتراض صحيح ، (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) الجنة بلا خلاف ، وعبر بلفظة «حسن» زيادة في الترغيب وباقي الآية بين.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ(١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١)

الإشارة بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى المنافقين الذين جنبوا المسلمين وقالوا في أمر ـ أحد ـ لو كان محمد نبيا لم يهزم ، والذين قالوا : قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول ، إلى نحو هذه الأقوال ، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى يوم القيامة ، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم.

و (بَلِ) ترك للكلام الأول ودخول في غيره ، وقرأ جمهور الناس «بل الله مولاكم» على الابتداء والخبر ، وهذا تثبيت ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بل الله» بالنصب على معنى : بل أطيعوا الله.

وقوله تعالى : (سَنُلْقِي) استعارة ، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام ، وهذا مثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] ونحوه قول الفرزدق : [الطويل]


هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النّابح العاوي أشدّ رجام

وقرأ جمهور الناس «سنلقي» بنون العظمة ، وقرأ أيوب السختياني «سيلقي» بالياء على معنى هو ، وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين حيث وقع ، وقرأ الباقون «الرعب» بسكون العين ، وهذا كقولهم : عنق وعنق وكلاهما حسن فصيح ، وسبب هذه الآية : أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وقال : انظر القوم ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة ، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى المدينة ، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسر وسر المسلمون ، ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد ، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش : أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم؟ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك ، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه‌السلام وهو على كفره ، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك ، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف ، اشتد ذلك عليهم ، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد ، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار ، وذلك أنه لما سمع الخبر ، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء ، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم ، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه ، وندموا على ما صنعوا ، قال : ويلك ما تقول؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني أنهاك عن ذلك ، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعرا قال وما قلت؟ قال قلت : [البسيط]

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا ميل معازيل

فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة

لمّا سموا برئيس غير مخذول

إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار ، وقال صفوان بن أمية : لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان ، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء ، وهي بعد متناولة كل كافر ، ويجري معها قول النبي عليه‌السلام : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، ويظهر أن هذه الفضيلة إنما أعلم عليه‌السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام ، قال بعض أهل العلم : إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر ، ووعده النصر ، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار ، نقص الرعب من كل كافر جزءا مع زيادة شجاعة المؤمن ، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين ، وقوله تعالى : (بِما أَشْرَكُوا) هذه باء السبب ، والمعنى : أن المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة ، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه ، و «السلطان» : الحجة والبرهان ، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة ،


و «المأوى» : مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه ، و «المثوى» ، مفعل من : ثويت ، والتقدير : وبئس مثوى الظالمين هي.

قوله تعالى :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢)

جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين ، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم ، ولذلك وجوه من الفصاحة : منها وعظ الجميع وزجره ، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر ، ومنها الستر والإبقاء على من فعل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى ـ إن صبروا وجدوا ـ فصدق الله الوعد أولا ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أحد ، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين ، ونهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن أبي الأقلح ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا فهذا معنى قوله تعالى : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) والحس : القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلا ، وحس البرد النبات وقال رؤبة : [الرجز]

إذا تشكّوا سنّة حسوسا

تأكل بعد الأخضر اليبيسا

قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و «الإذن» : التمكين مع العلم بالممكن منه ، وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) يحتمل أن تكون (حَتَّى) غاية مجردة ، كأنه قال : إلى أن فشلتم ، ويقوي هذا أن (إِذا) بمعنى «إذ» لأن الأمر قد كان تقضى ، وإنما هي حكاية حال ، فتستغني (إِذا) على هذا النظر عن جواب ، والأظهر الأقوى أن (إِذا) على بابها تحتاج إلى الجواب ، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل ، واختلف النحاة في جواب (إِذا) فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله (تَنازَعْتُمْ) ، والواو زائدة ، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال : الجواب قوله : (صَرَفَكُمْ) و (ثُمَ) زائدة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه والخليل وفرسان الصناعة ، إن الجواب محذوف مقدر ، يدل عليه المعنى ، تقديره : انهزمتم ونحوه ، و «الفشل» ـ استشعار العجز وترك الجد ، وهذا مما فعله يومئذ قوم ، و «التنازع» هو الذي وقع بين الرماة ، فقال بعضهم : الغنيمة


الغنيمة ، الحق بنا بالمسلمين ، وقال بعضهم : بل نثبت كما أمرنا (وَعَصَيْتُمْ) عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) يعني من هزم القوم ، قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، وقوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم ، قاله ابن عباس وسائر المفسرين ، وقال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وقوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالا للأمر حتى قتلوا ، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين ، وقوله تعالى : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) معناه : لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخبارا بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه‌السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.

قوله تعالى :

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)

العامل في (إِذْ) قوله : (عَفا) [آل عمران : ١٥٢] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه : ذهب في الأرض ، وفي قراءة أبي بن كعب ، «إذ تصعدون في الوادي».

قال القاضي أبو محمد : والصعيد وجه الأرض ، وصعدة اسم من أسماء الأرض ، فأصعد معناه : دخل في الصعيد ، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك ، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها ، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل : [الرجز]

قد كنت تبكين على الإصعاد

فالآن صرّحت وصاح الحادي


وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تصعدون» بفتح التاء والعين ، من صعد إذا علا ، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر ، وقوله تعالى :

(وَلا تَلْوُونَ) مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد :

وهل يرد المنهزم شيء؟

وهذا أشد من قول امرئ القيس : [الطويل]

أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا

وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب ، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون» بهمز الواو المضمومة ، وهذه لغة ، وقرأ بعضهم «ولا تلون» بضم اللام وواو واحدة ، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين ، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تلوون» بضم التاء من ألوى وهي لغة ، وقرأ حميد بن قيس «على أحد» بضم الألف والحاء ، يريد الجبل ، والمعنى بذلك رسول الله عليه‌السلام ، لأنه كان على الجبل ، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم ، وروي أنه كان ينادي : إليّ عباد الله ، والناس يفرون. وفي قوله تعالى : (فِي أُخْراكُمْ) مدح للنبي عليه‌السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس ، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا ، وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشجع الناس ، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ) معناه : جازاكم على صنيعكم ، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب ، وهذا كقوله : [الوافر]

تحيّة بينهم ضرب وجيع

وكقول الآخر : [الفرزدق] : [الطويل]

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

فجعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة : بمعنى مدحرجة ، واختلف الناس في معنى قوله تعالى : (غَمًّا بِغَمٍ) فقال قوم : المعنى «أثابكم غما» بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر المؤمنين ، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.

قال القاضي أبو محمد : فالباء على هذا باء السبب ، وقال قوم : «أثابكم غما بغم» ، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.

قال القاضي أبو محمد : فالباء باء معادلة ، كما قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال ، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين : المعنى أثابكم غما على غم ، أو غما مع غم ، وهذه باء الجر المجرد ، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد : الغم الأول أن سمعوا : ألا إن محمدا قد قتل ، والثاني ، القتل


والجراح الواقعة فيهم ، وقال الربيع وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب ، وقال السدي ومجاهد أيضا وغيرهما : بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق ، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه ، ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه ، فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا بذلك ، وفرح هو عليه‌السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع ، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر ، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة ، فنسوا ما نزل بهم أولا ، وأهمهم أمر أبي سفيان ، فقال رسول الله عليه‌السلام : ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة ، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة ـ أحد ـ اختلافا كثيرا ، وذلك أن الأمر هول ، فكل أحد وصف ما رأى وسمع ، قال كعب بن مالك : أول من ميز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا ، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر ، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد ، وأن أبا سفيان إنما دنا ، والنبي عليه‌السلام في عرعرة الجبل ، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير ، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية ، وقوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) معناه : من الغنيمة و (ما أَصابَكُمْ) معناه : من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.

قال القاضي أبو محمد : واللام من قوله : (لِكَيْلا) متعلقة بأثابكم ، المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم آذيتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) توعد.

ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين ، فغشي أهل الإخلاص ، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، قال النبي عليه‌السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه : اذهب فانظر إلى القوم ، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا ، ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع ، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا ، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألقى الله عليهم النعاس ، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية ، قال أبو طلحة : لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، وقال الزبير بن العوام ، لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته ، وقال ابن مسعود : نعسنا يوم ـ أحد ـ والنعاس في الحرب أمنة من الله ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وقرأ جمهور الناس «أمنة» بفتح الميم ، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمنة» بسكون الميم ، وهما بمعنى الأمن ، وفتح الميم أفصح ، وقوله : (نُعاساً) بدل ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملا على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل ، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى» بالتاء حملا على لفظ ـ الأمنة ـ بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه ، والواو في قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) هي واو


الحال كما تقول : جئت وزيد قائم ، قاله سيبويه وغيره قال الزجّاج : وجائز أن يكون خبر قوله (وَطائِفَةٌ) قوله ـ يظنون ـ ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة ، وقوله تعالى : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم : إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة ، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال ، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم ، وذكر بعض المفسرين : أن اللفظة من قولك : هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.

قال القاضي أبو محمد : أهمتهم أنفسهم المكاشفة. ونبذ الدين ، وهذا قول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال.

قوله تعالى :

(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

قوله تعالى : (غَيْرَ الْحَقِ) معناه : يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه‌السلام يضمحل ويذهب ، وقوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، وهذا كما قال : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) [الفتح : ٢٦] و (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) [الأحزاب : ٣٣] ، وكما تقول شعر الجاهلية ، وكما قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا ، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري ، وقوله تعالى : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية كلام قالوه ، قال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول : قتل بنو الخزرج فقال : «وهل لنا من الأمر من شيء»؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا ، وهذا منهم قول بأجلين ، وكأن كلامهم يحتمل الكفر والنفاق ، على معنى : ليس لنا من أمر الله شيء ، ولا نحن على حق في اتباع محمد ، ذكره المهدوي وابن فورك ، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض أثناء الكلام فصيح ، وقرأ جمهور القراء «كلّه» ـ بالنصب على تأكيد الأمر ، لأن «كله» بمعنى أجمع ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلّه لله» برفع كل على الابتداء والخبر ، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل» ، وقوله تعالى : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) يحتمل أن يكون إخبارا عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة ، ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات ، وأخبر تعالى عنهم على


الجملة دون تعيين ، وهذه كانت سنته في المنافقين ، لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق ، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

قال القاضي أبو محمد : وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي ، ومعتب هذا ممن شهد بدرا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وقال ابن عبد البر : إنه شهد العقبة ، وذلك وهم ، والصحيح أنه لم يشهد عقبة ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) الآية رد على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى ، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل ، وقرأ جمهور الناس «في بيوتكم» بضم الباء ، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بيوتكم» ، بكسر الباء ، وقرأ جمهور الناس «لبرز» بفتح الراء والباء على معنى : صاروا في البراز من الأرض ، وقرأ أبو حيوة «لبرّز» بضم الباء وكسر الراء وشدها ، وقرأ جمهور الناس : «عليهم القتل» أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره ، وقرأ الحسن والزهري : «عليهم القتال» وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم ، وقوله تعالى : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) الآية ، اللام في قوله تعالى : (وَلِيَبْتَلِيَ) متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار ، والتمحيص : تخليص الشيء من غيره ، والمعنى ليختبره فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء أزلا ، و «ذات الصدور» ما تنطوي عليه من المعتقدات ، هذا هو المراد في هذه الآية.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)

اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.

قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفا لقتال ، وأسند الطبري رحمه‌الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ، قال : لما كان يوم ـ أحد ـ هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحدا يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة


عشر رجلا ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الأنصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليهم صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.

قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزا إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا ، منهم رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجعلب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة؟ أم على المؤمنين جميعا؟ و «استزل» ـ معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضا هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد الله بن عدي بن الخيار ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦)

نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد ، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، وهو نحو منه ، وقوله تعالى : (لِإِخْوانِهِمْ) هي أخوة نسب ، لأن قتلى ـ أحد ـ كانوا من الأنصار ، أكثرهم من الخزرج ، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة ، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما ، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وقيل : بل قالها جميع المنافقين ، ودخلت (إِذا) في هذه الآية وهي حرف استقبال ، من حيث


«الذين» اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان ، ويطرد النهي للمؤمنين فيها ، فوضعت (إِذا) لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان ، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي ، كما قال تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] إلى نحوها من الآيات وكما قالت :

وفينا نبي يعلم ما في غد

كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر ، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع ، فمن ذلك قول الشاعر :

وإنّي لآتيكم تشكّر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان في غد

ومنه قول الربيع :

أصبحت لا أملك السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

و «الضرب في الأرض» : الإبعاد في السير ، ومنه ضرب الدهر ضربانه : إذا بعدت المدة ، وضرب الأرض : هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في» وقال السدي وغيره : في هذه الآية ، الضرب في الأرض : السير في التجارة ، وقال ابن إسحاق وغيره : بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله ، والضرب في الأرض يعم القولين ، و (غُزًّى) : جمع غاز ، وزنه ـ فعل ـ بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول ، وينشد بيت رؤبة : [الرجز]

فالآن قد نهنهني تنهنهي

وقول حلم ليس بالمسفّه

(وقول ، الاده فلاده)

يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبدا ، وهو مثل معناه : إن لم تكن كذا فلا تكن كذا ، وقد روي ، وقولهم إلا ده فلا ده ، قال سيبويه وغيره : لا يدخل (غُزًّى) الجر ولا الرفع ، وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري : «غزى» مخففة الزاي ، ووجهه إما أن يريد غزاة ، فحذف الهاء إخلادا إلى لغة من يقول «غزّى» بالتشديد ، وهذ الحرف كثير في كلامهم ، قول الشاعر يمدح الكسائيّ : [الطويل]

أبى الذّمّ أخلاق الكسائيّ وانتمى

به المجد أخلاق الأبوّ السوابق

يريد الأبوة جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوة جمع ابن وقد قالوا : ابن وبنو ، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفا للزاي من «غزى» ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٨] في قول من قال : إنه تخفيف ، وقد قيل : إنه مصدر جرى على غير المصدر ، وقرأ الحسن «وما قتّلوا» مشددة التاء ، وقوله تعالى : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) قال مجاهد : معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم.

قال القاضي : فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن


أن كل موت وقتل فبأجل سابق ، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت ، يتحسر ويتلهف ، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون ، وهو أظهر ما في الآية ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد ، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم ، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا ، فتأمله «والحسرة» : التلهف على الشيء والغم به ، ثم أخبر تعالى خبرا جزما أنه الذي (يُحْيِي وَيُمِيتُ) بقضاء حتم ، لا كما يعتقد هؤلاء ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : «والله بما يعلمون» بالياء ، فهذا وعيد للمنافقين ، وقرأ الباقون «تعلمون» بالتاء على مخاطبة المؤمنين ، فهذا توكيد للنهي في قوله (لا تَكُونُوا) ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله.

قوله تعالى :

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)

اللام في قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في قوله : (لَمَغْفِرَةٌ) هي المتلقية للقسم ، والتقدير : والله لمغفرة ، وترتب الموت قبل القتل في قوله (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦] مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب ، وقدم القتل في قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) لأنه ابتداء إخبار ، فقدم الأشرف الأهم ، والمعنى : أو متم في سبيل الله ، فوقع أجركم على الله ، ثم قدم الموت في قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وآية تزهيد في الدنيا والحياة ، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان ، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «متم» بكسر الميم و «متنا» و «مت» بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بضم الميم في جميع القرآن ، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن ، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين «أو متم ولئن متم» فقط ، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن ، قال أبو علي : ضم الميم هو الأشهر والأقيس ، مت تموت مثل : قلت تقول وطفت تطوف ، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيرا ، وليس كما شذ قياسا واستعمالا كشذوذ اليجدع ونحوه ، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا :

ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر

وما مر من عمري ذكرت وما فضل

وقوله تعالى : (لَمَغْفِرَةٌ) رفع بالابتداء (وَرَحْمَةٌ) ، عطف على المغفرة و (خَيْرٌ) خبر الابتداء ، والمعنى : المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير ، فجاء لفظ المغفرة غير معرف


إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن ، وتحتمل الآية أن يكون قوله (لَمَغْفِرَةٌ) إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله (خَيْرٌ) صفة لخبر الابتداء ، وقرأ جمهور الناس «تجمعون» بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام ، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص «يجمعون» بالياء ، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم.

ثم ذكر تعالى الحشر إليه ، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات ، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة ، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى.

وقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) ، معناه : فبرحمة من الله «وما» قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيها معنى التأكيد ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم ـ أحد ـ بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك (لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، وتفرقوا عنك ، والفظ : الجافي في منطقه ومقاطعه ، وفي صفة النبي عليه‌السلام في الكتب المنزلة : ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، وقال الجواري لعمر بن الخطاب : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ؛ الحديث ، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين ، والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا ومنه قول الشاعر : [البسيط]

أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ

وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

وغلظ القلب : عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر : [البسيط]

يبكى علينا ولا نبكي على أحد

لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

والانفضاض : افتراق الجموع ومنه فض الخاتم.

قوله تعالى :

(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٦٠)

أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه‌السلام عنهم ما


له في خاصته عليهم من تبعة وحق ، فإذا صاروا في هذه الدرجة ، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة ، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ، وقال عليه‌السلام : المستشار مؤتمن ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة ـ وهي أعظم النوازل ـ شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : أشيروا عليّ أيها الناس ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد ، ثم سعد بن عبادة ، ومشاورته عليه‌السلام إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع. (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة ـ أحد ـ يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلا على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية ، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمت» ـ بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزما منه ، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] ونحو قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رميا ، إذ كان ذلك متصلا برمي محمد عليه‌السلام بالحصباء. وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي ، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله ، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد : وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل ، وإنما هو كما قال عليه‌السلام : قيدها وتوكل.

ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها ، و «الخذل» : هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك ، وأصله من خذل الظباء ، وبهذا قيل لها : خاذل إذ تركتها أمها ، وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، وقوله تعالى : (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) تقدير جوابه : لا من ـ والضمير في (بَعْدِهِ) يحتمل العودة على المكتوبة ، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله (إِنْ يَخْذُلْكُمْ).

قوله تعالى :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ


لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣)

تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغل» بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالا : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب : [الطويل]

جزى الله عنّي جمرة ابنة نوفل

جزاء مغلّ بالأمانة كاذب

وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة : غل يغل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٣٨] (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦] (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) [التوبة : ١١٥] (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغل» بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغل» بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالا على هذه القراءة ـ التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أخذ شيئا فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : خشيتم أن نغل؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتابا ، (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي يقسم لبعض ويترك بعضا ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاما بعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقسمه للغنائم ، وردا على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاما بأن النبي عليه‌السلام لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.


قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة ـ أحد ـ لما نزل عليه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يغل» بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل» أن يوجد غالا ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محمودا ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغل» بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارسي : معنى «يغل» بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [الطويل]

وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه

وهذا التأويل موقر للنبي عليه‌السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمنا حتى يحيا الناس من أول ما يحيون : أي يدخلون في الحيا وقوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، ثم ذكر ذلك عليه‌السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة ، وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أدوا الخياط والمخيط ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شراك أو شراكان من نار ، وقال في مدعم ، إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه نارا.

قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه‌السلام ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحارد : [الكامل]

أسميّ ويحك هل سمعت بغدرة

رفع اللّواء لنا بها في المجمع

وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨١].

وقوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) الآية ، توقيف على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين ،


والرضوان : مصدر ، وقرأه عاصم ـ فيما روي عنه ـ بضم الراء ـ وقرأ جميعهم بكسرها ، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعمش ، أنه قرأها ـ بكسر الراء وضم الضاد ، وهذا كله بمعنى واحد مصدر من الرضى ، والمعنى ، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، و (باءَ بِسَخَطٍ) ـ معناه : مضى متحملا له ، والسخط : صفة فعل ، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة ، وقال الضحاك : إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله الرضوان ، وإلى أن من غل وعصى فله السخط ، وقال غيره : هي مشيرة إلى أن من استشهد ـ بأحد ـ فله الرضوان ، وإلى المنافقين الراجعين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلهم السخط ، وباقي الآية بيّن.

واختلف المفسرون في قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ) من المراد بذلك؟ فقال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك الجمعان المذكوران ، أهل الرضوان وأصحاب السخط ، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة ، وفي أطباق النار أيضا ، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره : إن المراد بقوله (هُمْ) إنما هو لمتبعي الرضوان ، أي لهم درجات كريمة عند ربهم ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات» والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة ، أو العذاب ، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة» بالإفراد ، وباقي الآية وعيد ووعد.

قوله تعالى :

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥)

اللام في (لَقَدْ) لام القسم ، و (مَنَ) في هذه الآية معناه : تطول وتفضل ، وقد يقال : منّ بمعنى : كدر معروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة.

وقوله تعالى : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) معناه في الجنس واللسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه ، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم ، وكونه جارا وربيا يوجب التصديق والطمأنينة ، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسب قومه ، وكذلك الرسل ، قال النقاش : ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم ، والآيات في هذه الآية ، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن يراد بها العلامات ، والأول أظهر ، (وَيُزَكِّيهِمْ) معناه : يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي ، قال بعض المفسرين : معناه يأخذ منهم الزكاة ، وهذا ضعيف ، و (الْكِتابَ) : القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ) ، السنة المتعلمة من لسانه عليه‌السلام ، ثم ذكر حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين ـ وقيل : لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة ، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني فبنيت.


ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطأ في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار ، وعرفهم أن ذلك لسبب أنفسهم ، والواو في قوله : (أَوَلَمَّا) عطف جملة على جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال ، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي : قصد ـ أحد ـ وقتل سبعين منهم ، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين فقال قتادة والربيع : وابن عباس وجمهور المتأولين : ذلك في يوم بدر ، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين ، وأسروا سبعين ، وقال الزجّاج : أحد المثلين : هو قتل السبعين يوم بدر ، والثاني : هو قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم ـ أحد ـ فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في هذه الآية ، هذا معنى كلامه ، لأن أسارى بدر أسروا ثم فدوا ، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، و (أَنَّى) ـ معناها : كيف ومن أين؟ ثم أمر تعالى نبيه عليه‌السلام أن يقول لهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ، واختلف الناس كيف هو من عند أنفسهم ولأي سبب؟ فقال الجمهور من المفسرين : لأنهم خالفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة ، وقالت طائفة : قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر ، وذلك أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبي عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسارى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء ، على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسارى ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا ، بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره ، قال : فقتل منهم يوم أحد ـ سبعون رجلا.

قوله تعالى :

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧)

الخطاب بقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ) للمؤمنين ، و (الْجَمْعانِ) هما عسكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعسكر قريش يوم ـ أحد ـ ودخلت الفاء في قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) رابطة مشددة ، وذلك للإبهام الذي في (ما) فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سيبويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه الآية ، فالمعنى إنما هو ، وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب ، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم ، والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ) معناه : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين ، أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال واللام في قوله : (لِيَعْلَمَ) متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام ، والإشارة بقوله : (نافَقُوا) وقيل لهم هي إلى


عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ـ أحد ـ وذلك أنه كان من رأي عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه ، قال عبد الله بن أبي : أطاعهم وعصاني ، فانخذل بنحو ثلث الناس ، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، أو نحو هذا من القول ، فقال له ابن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم ، فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله رسوله عنكم ، ومضى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستشهد ، واختلف الناس في معنى قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا ، فيندفع القوم لكثرتكم ، وقال أبو عون الأنصاري : معناه رابطوا ، وهذا قريب من الأول ، ولا محالة أن المرابط مدافع ، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو ، والمكثر للسواد مدافع ، وقال أنس بن مالك : رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال : بلى ، ولكني أكثر المسلمين بنفسي ، وروي أنه قال : فكيف بسوادي في سبيل الله ، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو : (أَوِ ادْفَعُوا) ، إنما هو استدعاء القتال حمية ، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله ، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا ، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك ، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة ، أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة ، ألا ترى أن قزمان قال : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم ـ أحد ـ لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال : أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال ، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله : (أَقْرَبُ) مأخوذ من القرب ضد البعد ، وسدت ـ اللام ـ في قوله : (لِلْكُفْرِ) ، و (لِلْإِيمانِ) ـ مسد إلى ، وحكى النقاش : أن قوله (أَقْرَبُ) مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الورد ، فاللفظة بمعنى أطلب ، واللام متمكنة على هذا القول ، وقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) تأكيد ، مثل يطير بجناحيه ، وقوله : (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم ، ثم فضحهم تعالى بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

(الَّذِينَ) بدل من «الذين» المتقدم ، و «إخوانهم» المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة ،


وقوله تعالى : (لِإِخْوانِهِمْ) معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم ، ويحتمل أن يكون قوله : (لِإِخْوانِهِمْ) للأحياء من المنافقين ، ويكون الضمير في (أَطاعُونا) هو للمقتولين ، وقوله : (وَقَعَدُوا) جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام ، وقوله : (لَوْ أَطاعُونا) يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ما قتّلوا» بشد التاء ، وهذا هو القول بالأجلين ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا) الآية ، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة : [الرجز]

صادف درء السّيل درءا يدفعه

والعبء لا تعرفه أو ترفعه

ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون : إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت ، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم ، فادفعوه إن كان قولكم صدقا ، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله.

وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه‌السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا» ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا» بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : (بَلْ أَحْياءٌ) مقدمة لقوله : (يُرْزَقُونَ) إذ لا يرزق إلا حي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلا : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياء» بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياء» بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.

قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلا غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن (عِنْدَ) تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ، وروي عنه عليه‌السلام أنه قال : أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.

قال القاضي رحمه‌الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه‌السلام : إنما نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضا فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه القراء في إصابة


العلقة ، وروي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : إنه الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون ، وروي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجابر بن عبد الله : ألا أبشرك يا جابر؟ قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : إن أباك حيث أصيب ـ بأحد ـ أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ، وقال قتادة رحمه‌الله : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا ـ بأحد ـ فنزلت هذه الآية وقال محمد بن قيس بن مخرمة في حديث : إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى: أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني وقوله تعالى : (فَرِحِينَ) نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل» في هذه الآية : التنعيم المذكور.

قوله تعالى :

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢)

(يَسْتَبْشِرُونَ) معناه : يسرون ويفرحون ، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار ، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم : إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك ، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك : إلى أن الإشارة في قوله : (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) إلى جميع المؤمنين ، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله ، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، (وَيَسْتَبْشِرُونَ) للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ، و (أَلَّا) مفعول من أجله ، التقدير ، بأن لا خوف ، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال.

ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ) ثم بين تعالى بقوله : (وَفَضْلٍ) فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال ، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم : «وإن الله» ـ بكسر الألف من «أن» ، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء : «وأن الله» ـ بفتح الألف ، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به ، المعنى ، بنعمة وبأن الله ، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف ، وقرأ عبد الله «وفضل والله لا يضيع».


وقوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) يحتمل أن تكون (الَّذِينَ) صفة للمؤمنين على قراءة من كسر الألف من «إن» ، والأظهر أن (الَّذِينَ) ابتداء وخبره في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الآية ، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول ، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال : لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس ، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها ، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية ، ومدحهم لصبرهم ، وروي أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف ، فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج معه فأذن له ، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها غزوة.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤)

(الَّذِينَ) صفة للمحسنين المذكورين ، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، حين حملهم أبو سفيان ذلك ، وقد ذكرته قبل ، ف (النَّاسُ) الأول ركب عبد القيس و (النَّاسُ) الثاني عسكر قريش ، وقوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) ، أي ثبوتا واستعدادا ، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال ، وأطلق العلماء عبارة : أن الإيمان يزيد وينقص ، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما ، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته ، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال : يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص ، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ، وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان ، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور الأنقص بالإضافة إلى الأعلم ، وذهب قوم من العلماء : إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد ، فيقال في ذلك : إنها زيادة في الإيمان ، وهذا كما يقال في الكسوة ، إنها زيادة في الإيمان ، وذهب أبو المعالي في الإرشاد : إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو


بثبوت المعتقد وتعاوره دائبا ، قال : وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللصلحاء متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، يصحبه حينا ويفارقه حينا في الفترة ، فذلك الآخر أكثر إيمانا ، فهذه هي الزيادة والنقص وفي هذا القول نظر ، وقوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة ، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث ، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حملهم أبو سفيان ، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم ، وأخبر بذلك أيضا أعرابي ، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء ، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا.

وقوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه ، وباقي الآية بين قد مضت نظائره ، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية ، وأنها غزوة ـ أحد ـ في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه‌الله فقال : إن هذه الآية من قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله : (فَضْلٍ عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي عليه‌السلام إلى بدر الصغرى ، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في ـ أحد ـ إذ قال : موعدنا بدر من العام المقبل ، فقال النبي عليه‌السلام : قولوا نعم : فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها ، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، وصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا عدوا ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيدا وربحوا في تجارتهم ، فذلك قوله تعالى : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي فضل في تلك التجارة ، والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، وما قال ابن قتيبة وغيره : من أن لفظة (النَّاسُ) على رجل واحد من هذه الآية ، فقول ضعيف.

قوله تعالى :

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧)

مقتضى (إِنَّما) في اللغة الحصر ، هذا منزع المتكلم بها من العرب ، ثم إذا نظر مقتضاها ـ عقلا ـ وهذا هو نظر الأصوليين ـ فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر ، وهي في هذه الآية حاصرة ، والإشارة ب (ذلِكُمُ) إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين ، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد ، و (ذلِكُمُ) في الإعراب ابتداء ، و (الشَّيْطانِ) مبتدأ آخر ، و (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء


الأول ، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون (الشَّيْطانُ) خبر (ذلِكُمُ) لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة ، و (يُخَوِّفُ) فعل يتعدى إلى مفعولين ، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل ، لأنك إذا قلت : خوفت زيدا ، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئا حقه أن يخاف ، وقرأ جمهور الناس (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) فقال قوم المعنى : يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش ، فحذف المفعول الأول وقال قوم : المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه ، فإذا لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه ، إذ لستم بأوليائه ، والمعنى : يخوفهم كفار قريش ، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول ، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم ، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل ، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان ، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» والضمير في قوله (فَلا تَخافُوهُمْ) لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان ، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم ، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره ، من الصبر والجلد ، ثم قرر بقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كما تقول : إن كنت رجلا فافعل كذا.

وقرأ نافع وحده «يحزنك» بضم الياء من أحزن ، وكذلك قرأ في جميع القرآن ، إلا في سورة الأنبياء (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] فإنه فتح الياء ، وقرأ الباقون «يحزنك» بفتح الياء من قولك حزنت الرجل ، قال سيبويه : يقال حزن الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة ، وحزنته وفتنته ، إذا جعلت فيه وعنده حزنا وفتنة ، كما تقول : دهنت وكحلت ، إذا جعلت دهنا وكحلا ، وأحزنته وأفتنته إذا جعلته حزينا وفاتنا ، كما تقول : أدخلته وأسمعته ، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك ، وقرأ الحر النحوي «يسرعون» في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده ، ولذلك قالوا كل مجر بالخلاء يسر ، وسلّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين إذ كلهم مسارع ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) خبر في ضمنه وعيد لهم أي : إنما يضرون أنفسهم ، والحظ إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير ، ألا ترى قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : ٣٥].

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أطلق عليهم الشراء من حيث كانوا متمكنين من قبول هذا وهذا فجاء أخذهم للواحد وتركهم للآخر كأنه ترك لما قد أخذ وحصل ، إذ كانوا ممكنين منه ، ولمالك رحمه‌الله متعلق بهذه الآية في مسألة شراء ما تختلف آحاد جنسه مما لا يجوز التفاضل فيه ، في أن منع الشراء على أن يختار المبتاع ، وباقي الآية وعيد كالمتقدم.

قوله تعالى :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ


لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)

(نُمْلِي) معناه : نمهل ونمد في العمر ، والملاوة : المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول :

ملاك الله النعمة أي منحكها عمرا طويلا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «يحسبن» بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن. بالتاء من فوق الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في ـ السين ـ فإنه فتحها ، وقرأ حمزة «تحسبن» بالتاء من فوق وفتح السين ، وقرأ عاصم والكسائي ، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين ، قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) في هذه الآية وبعدها (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فأما من قرأ «ولا يحسبن» بالياء من أسفل فإن (الَّذِينَ) فاعل وقوله (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) بفتح الألف من «أنما» ساد مسد مفعولي حسب ، وذلك أن «حسب» وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين ، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه ، قال أبو علي : وكسر «إن» في قول من قرأ «يحسبن» بالياء لا ينبغي ، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى وفي غير السبع ، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء ، ويدخلان على الابتداء والخبر ، أعني ـ اللام ـ وإن فعلق عن «إنما» عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك : حسبت لزيد قائم ، فيعلق الفعل عن العمل لفظا ، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام» ففي موضع مفعولي «حسب» ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، ففي (نُمْلِي) عائد مستكن ، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن» بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان ، قال أبو علي : وينبغي أن تكون الألف من «إنما» مكسورة في هذه القراءة ، وتكون «إن» وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن ، ولا يجوز فتح الألف من «إنما» لأنها تكون المفعول الثاني ، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى ، والإملاء لا يكون إياهم ، قال مكي في مشكله : ما عملت أحدا قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما» وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن» بالتاء و «أنما» بفتح الألف ، وظاهر كلامه أنها تنصب خيرا ، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالا قول الشاعر : [الطويل]

(فما كان قيس هلكه هلك واحد)

بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، فكذلك يكون (أَنَّما نُمْلِي) بدلا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) كقوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣] وقوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال : ٧] ويكون «خيرا» المفعول الثاني قال أبو علي : لم يقرأ هذه القراءة أحد ، وقد سألت أحمد بن موسىعنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد ، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة «خير» بالرفع ، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق ، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره : ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم ، فهذا كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش : إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب ، إذ الكلام يدل عليه.


قال القاضي : والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية : الرد على الكفار في قولهم : إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده ، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدراج ، ليكتسبوا الآثام ، وقال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله ، وقرأ (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٨] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما ، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين معناه : التخسيس لهم ، فقد يعذب من لا يهان ، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوما ما.

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلا أمرهم ، يجري المنافق مجرى المؤمن ، ولكنهم ميز بعضهم من بعض ، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال ، وقال قتادة والسدي : الخطاب للكفار ، والمعنى : حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة ، وقال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار ، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره ، فنزلت الآية ، فقيل لهم : لا بد من التمييز (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافرا ولكن هذا رسول مجتبى فآمنوا به. فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر ، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول ، فقولهم في تأويل قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أنه في أمر «أحد» أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون ، فكنتم تكعون عن هذا. وأيضا فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم وتسمية لهم ، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن ، وحتى ـ في قوله : (حَتَّى يَمِيزَ) غاية مجردة ، لأن الكلام قبلها معناه : الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «حتى يميز» ـ بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء ، وكذلك «ليميز» ، وقرأ حمزة والكسائي : «حتى يميّز» و «ليميز الله» بضم الياء والتشديد ، قال يعقوب بن السكيت : مزت وميزت ، لغتان بمعنى واحد ، قال أبو علي : وليس ميزت بمنقول من مزت ، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت ، كما أن «ألقيت» ليس بمنقول من لقي ، إنما هو بمعنى أسقطت ، والغيب هنا : ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس ، قال الزجّاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت هذه الآية ، و (يَجْتَبِي) ـ معناه : يختار ويصطفي ، وهي من جبيت الماء والمال ، وباقي الآية بين والله المستعان.

قوله تعالى :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ


قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)

القراءات في قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) كالتي تقدمت آنفا في قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) سواء ، وقال السدي وجماعة من المتأولين : الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك ، قالوا : ومعنى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا) هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يطوقه. والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة. وقال ابن عباس : الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير ، وقوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ) على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة كما قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) [البقرة : ١٨٤] وليس من التطويق ، وقال إبراهيم النخعي : (سَيُطَوَّقُونَ) سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار ، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره ، وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة ، وهذا يضرب مع قوله : إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) رفع في قراءة من قرأ «يحسبن» بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيرا» ، والمفعول الثاني خيرا ، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين ، ودل قوله : (يَبْخَلُونَ) على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : [الوافر]

إذ نهي السّفيه جرى إليه

وخالف ، والسّفيه إلى خلاف

فالمعنى جرى إلى السفه ، وأما من قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول ، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، قال الزّجاج : وهي مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ) خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون» بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) [آل عمران : ١٧٩].

وقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) الآية ، قال ابن عباس : نزلت بسبب فنحاص اليهودي وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى بيت المدراس ليدعوهم فوجد فيه جماعة من اليهود قد اجتمعوا على فنحاص ـ وهو حبرهم ـ فقال أبو بكر له : يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة وإنه إلينا لفقير وإنّا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، في كلام طويل غضب أبو بكر منه ، فرفع يده فلطم وجه فنحاص وسبه وهمّ بقتله ، ثم منعه من ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : لا تحدث شيئا حتى تنصرف إليّ ، ثم


ذهب فنحاص إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا فعل أبي بكر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله : إنه قال قولا عظيما فلم أملك نفسي أن صنعت ما صنعت ، فنزلت الآية في ذلك وقال قتادة : نزلت الآية في حيي بن أخطب ، وذلك أنه لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قال : يستقرضنا ربنا؟ إنما يستقرض الفقير الغني ، وقال الحسن بن أبي الحسن ومعمر وقتادة أيضا وغيرهم : لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] ، قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغني ، ولا محالة أن هذا قول صدر أولا عن فنحاص وحيي وأشباههما من الأحبار ثم تقاولها اليهود ، وهو قول يغلط به الأتباع ومن لا علم عنده بمقاصد الكلام ، وهذا تحريف اليهود التأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم وقوله تعالى : (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) دال على أنهم جماعه.

قوله تعالى :

(سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)

قرأ حمزة وحده «سيكتب» بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول و «قتلهم» برفع اللام عطفا على المفعول الذي لم يسم فاعله ، و «يقول» بالياء من أسفل ، وقرأ الباقون بنون الجمع ، فإما أنها نون العظمة ، وإما هي للملائكة و (ما) على هذه القراءة مفعولة بها ، و «قتلهم» بنصب اللام عطفا على (ما وَنَقُولُ) بالنون على نحو (سَنَكْتُبُ) والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض ، قال الكسائي : وفي قراءة عبد الله بن مسعود «ويقال ذوقوا» وقال أبو معاذ النحوي في حرف ابن مسعود : «سنكتب ما يقولون ويقال لهم ذوقوا» وقرأ طلحة بن مصرف «سنكتب ما يقولون» وحكى أبو عمرو عنه أيضا أنه قرأ «ستكتب» بتاء مرفوعة (ما قالُوا) ، بمعنى : ستكتب مقالتهم ، وهذه الآية وعيد لهم ، أي سيحصى عليهم قولهم ، والكتب فيما قال كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها ، وتلك الصحف المكتوبة هي التي توزن وفيها يخلق الله الثقل والخفة بحسب العمل المكتوب فيها ، وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن الإحصاء وعدم الإهمال ، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية الضبط والتقييد ، فمعنى الآية : أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم ، ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه ، ثم يقال لجميعهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر ، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم ، والذوق مع العذاب مستعار ، عبارة عن المباشرة ، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جدا ، و (الْحَرِيقِ) معناه : المحرق فعيل بمعنى مفعل وقيل : (الْحَرِيقِ) طبقة من طبقات جهنم.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة ، ويحتمل أن


يكون خطابا لمعاصري النبي عليه‌السلام يوم نزول الآية ، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان ، فأضيف كل كسب إليها ، ثم بين تعالى : أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه ، والتقدير : وبأن الله (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وجمع «عبدا» في هذه الآية على عبيد ، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) صفة راجعة إلى قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) وقال الزجاج : (الَّذِينَ) صفة للعبيد ، وهذا مفسد للمعنى والرصف ، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك ، و (عَهِدَ) معناه : أمر والعهد : أخص من الأمر ، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتعدى «آمن» في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك ، «وقربان» مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن ، وكان أمر القربان حكما قديما في الأنبياء ، ألا ترى أن ابني آدم قربا قربانا ، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله ، قرب قربانا شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجعله في مكان للهواء وانتظر به ساعة ، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء ، فهذه علامة القبول ، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول ، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل ، وكانت هذه النار أيضا تنزل لأموال الغنائم فتحرقها ، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب الحديث وروي عن عيسى بن عمر ، أنه كان يقرأ «بقربان» بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة ، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين ، وقد حكى سيبويه : السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الإتباع.

قوله تعالى :

(قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(١٨٣) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير)(١٨٤)

هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم ، أي : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) بالآيات الباهرة البينة ، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت ، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك ، والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب كل مقترح ، ولم يجب الله مقترحا إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله ، كقوم صالح وغيرهم ، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى ، وقال : بل أدعوهم وأعالجهم.

ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي : فلا يعظم عليك ذلك ، وقرأ ابن عامر : و «بالزبر» بإعادة باء الجر ، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه ، لأن الواو شركت الزبر في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء ، وإعادتها أيضا متجهة لأجل التأكيد ، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام ، وروي أيضا عن ابن عامر إعادة الباء في قوله : «وبالكتاب المنير» و (الزُّبُرِ) : الكتاب المكتوب يقال : زبرت الكتاب إذا كتبته ، وزبرته إذا قرأته ، والشاهد لأنه الكتاب قول امرئ القيس : [الطويل]


لمن طلل أبصرته فشجاني

كخطّ زبور في عسيب يماني؟

وقال الزجّاج : زبرت كتبت ، وذبرت بالذال : قرأت ، و «المنير» : وزنه مفعل من النور أي سطع نوره.

قوله تعالى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)

والمعنى : كل نفس مخلوقة حية ، والذوق هنا : استعارة (وَإِنَّما) حاصرة على التوفية التي هي على الكمال ، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى ، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، ولا محالة أن المعنى : أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب ، و (زُحْزِحَ) معناه : أبعد ، والمكان الزحزح : البعيد ، وفاز معناه : نجا من خطره وخوفه ، و (الْغُرُورِ) ، الخدع والترجية بالباطل ، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين ، قال عبد الرحمن بن سابط : (مَتاعُ الْغُرُورِ) كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن ، قال الطبري : ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره.

قال القاضي : و (الْغُرُورِ) في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب ، ومنه قولهم في المثل : غش ولا تغتر ، أي لا تجتز بما لا يكفيك ، وقال عكرمة : (مَتاعُ الْغُرُورِ) ، القوارير أي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله ، وهذا تشبيه من عكرمة ، وقرأ عبد الله بن عمر «الغرور» بفتح الغين ، وقرأ أبو حيوة والأعمش : (ذائِقَةُ) بالتنوين (الْمَوْتِ) بالنصب ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ثم تلا هذه الآية.

قوله تعالى :

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

هذا الخطاب للنبي عليه‌السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن أغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة


إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة ، و «الأذى» : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم» : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزما إلا على مقطع المشيخين من فتاك العرب كما قال :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكّب عن ذكر الحوادث جانبا

وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين.

قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم» : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، فَإِذا عَزَمْتَ) [آل عمران : ١٥٩] فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم.

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية ، توبيخ لمعاصري النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم. والعامل في (إِذْ) فعل مقدر تقديره اذكر ، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة ، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج : الآية في اليهود خاصة ، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه ، قال مسلم البطين : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له : نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه» فيجيء قوله (فَنَبَذُوهُ) عائدا على الناس الذين بين الأنبياء لهم ، وقال قوم من المفسرين : الآية في اليهود والنصارى ، وقال جمهور من العلماء : الآية عامة في كل من علمه الله علما ، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ، وقد قال أبو هريرة : إني لأحدثكم حديثا ، ولو لا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «ليبيننه للناس ولا يكتمونه» ، بالياء من أسفل فيهما ، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما ، وكلا القراءتين متجه ، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب ، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه» دون النون الثقيلة ، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم ، قاله سيبويه ، و «النبذ» : الطرح ، وقوله تعالى: (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ، استعارة لما يبالغ في اطراحه ، ومنه (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢] ، ومنه قول الفرزدق : [الطويل]

تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي

بظهر فلا يعبى عليّ جوابها

ومنه بالمعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تجعلوني كقدح الراكب. أراد عليه‌السلام ، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم ، وهو موضع القدح ومنه قول حسان : [الطويل]

(كما نيط خلف الراكب القدح الفرد)


والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه ، لأن الراكب يحتاجه ، ومحله من محلات الراكب جليل ، والثمن القليل : هو مكسب الدنيا. وباقي الآية بين.

قال أبو محمد : والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود ، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها.

قوله تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠)

اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة : الآية نزلت في المنافقين ، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للغزو تخلفوا عنه ، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا : كانت لنا أشغال ونحو هذا ، فيظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية ، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار ، ويحبون أن يقال لهم : إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم ، وقالت جماعة كثيرة من المفسرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة فقال ابن عباس رضي الله عنه : أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية ، وأحبوا أن يقال عنهم : إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته ، وقال ابن عباس أيضا والضحاك والسدي : أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدفع في صدر نبوته ، وأحبوا أن يقال عنهم : إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة ، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم ، وقال مجاهد : فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا بل الحق أبلج ، وقال سعيد بن جبير : الآية في اليهود ، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوءة والكتاب ، فهم يقولون : نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم ، وقراءة سعيد بن جبير : «أوتوا» بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء ، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال. وقال ابن عباس أيضا : إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه‌السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك ، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا ، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته ، وقال قتادة : إن الآية في يهود خيبر ، نافقوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين مرة ، وقالوا : نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك ، فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك ، وقال الزجّاج : نزلت الآية في قوم من اليهود ، دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا ، فقالوا لمن لقوا من المسلمين : إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا


للمسلمين وتمادوا على كفرهم ، فنزلت الآية فيهم وقرأ جمهور الناس : «أتوا» بمعنى فعلوا ، كما تقول أتيت أمر كذا ، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي : «آتوا» بالمد ، بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء.

قال أبو محمد : وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي ، «أوتوا» بمعنى أعطوا ، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير ، لا يحسبن الذين يفرحون «فلا يحسبنهم» بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في يحسبنهم ، قال أبو علي : (الَّذِينَ) رفع بأنه فاعل «يحسب» ، ولم تقع «يحسبن» على شيء ، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر : [الطويل]

وما خلت أبقى بيننا من مودة

عراض المذاكي المسنفات القلائصا

وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله : «فلا تحسبنهم» بدلا من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير ، وقوله (بِمَفازَةٍ) فاستغني بذلك عن تعدية الأول إليها كما استغني في قول الشاعر : [الطويل]

بأيّ كتاب أو بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب؟

فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر ، والفاء في قوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) زائدة ، ولذلك حسن البدل ، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء ، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه ، وقوله على هذه القراءة «فلا يحسبنهم» ، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه ، نحو ظننتني أخاه ، ورأيتني الليلة عند الكعبة ، ووجدتني رجعت من الإصغاء ، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت «أن» وأخواتها ، فكما تقول : إني ذاهب ، فكذلك تقول : ظننتني ذاهبا ، ولو قلت : أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن ، كما يحسن : أظنني فاعلا ، قرأ نافع وابن عامر : «لا يحسبن الذين» بالياء من تحت وفتح الباء ، وكسر نافع السين ، وفتحها ابن عامر «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق ، وفتح الباء ، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله «لا يحسبن الذين» محذوفان لدلالة ما ذكر بعده ، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير ، إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما ، وقرأ حمزة «لا تحسبن» بالتاء من فوق وكسر السين «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء ف (الَّذِينَ) على هذه القراءة مفعول أول «لتحسبن» ، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه ، كما قيل آنفا في المفعولين ، وحسن تكرار الفعل في قوله «فلا تحسبنهم» لطول الكلام ، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب ، وقرأ الضحاك بن مزاحم «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء ، و «المفازة» : مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة ، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل ، قاله الأصمعي وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوز الرجل إذا مات قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال : أخطأ ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت «مفازة» لأن من قطعها فاز ، وقال الأصمعي : سمي اللديغ سليما تفاؤلا ، قال ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه ، وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا.


ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى وملكه فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، قال بعض المفسرين : الآية رد على الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قال القاضي ابن الطيب وغيره : ظاهره العموم ، ومعناه الخصوص لأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحالات هو الموجود في مقتضى كلام العرب.

ثم دل على مواضع النظر والعبرة ، حيث يقع الاستدلال على الصانع بوجود السماوات والأرضين والمخلوقات دال على العلم ، ومحال أن يكون موجود عالم مريد غير حي ، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم الصفات (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) هو تعاقبهما ، إذ جعلهما الله خلفة ، ويدخل تحت لفظة الاختلاف كونهما يقصر هذا ويطول الآخر وبالعكس ، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام ، و «الآيات» : العلامات و (الْأَلْبابِ) في هذه الآية : هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة ، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١٩٢)

(الَّذِينَ) في موضع خفض صفة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠] ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله ، وأن يحصر القلب اللسان ، وذلك من أعظم وجوه العبادات ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه ، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك ، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) ، إنما هو عبارة عن الصلاة ، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم ، قال بعضهم وهي كقوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ) [النساء : ١٠٣] ، هذا تأويل من تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم ، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك بمعنى فرغتم منها ، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائما ، فإن لم يستطيع فقاعدا ، ظاهر المدونة متربعا ، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين ، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير ، هذا مذهب المدونة ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره ، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ، ثم على الأيسر ، وفي كتاب ابن المواز ، يصلي على جنبه الأيمن ، وإلا فعلى الأيسر ، وإلا فعلى الظهر ، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده ، وإلا فعلى ظهره ، وإلا فعلى الأيسر ، وحسن عطف قوله (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ، على قوله : (قِياماً وَقُعُوداً) لأنه في معنى مضطجعين ، ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى


عظيمة ، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته ، والعبر التي بث : [المتقارب]

وفي كل شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

ومر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره ، وهذا هو قصد الآية : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات ، وفي مخاوف الآخرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا عبادة كتفكر ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الفكرة مرآة المؤمن ، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته ، وقال ابن عباس وأبو الدرداء : فكرة ساعة خير من قيام ليلة ، وقال سري السقطي : فكرة ساعة خير من عبادة سنة ، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة ، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضا لصلاة الليل وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر ، فقال له ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١] ، ففكرت في حالي ، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.

قال القاضي : فهذه نهاية الخوف ، وخير الأمور أوسطها ، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا ، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال : كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر ، فصليت العشاء فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا ، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس ، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دنوت منه سمعته ينشد : [المنسرح]

منسحق الجسم غائب حاضر

منتبه القلب صامت ذاكر

منقبض في الغيوب منبسط

كذاك من كان عارفا ذاكرا

يبيت في ليله أخا فكر

فهو مدى اللّيل نائم ساهر

قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه ، وقوله تعالى : (رَبَّنا) معناه يقولون ربنا على النداء ، ما خلقت هذا باطلا ، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد ، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك ، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم : (سُبْحانَكَ) : أي تنزيها لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون.

وقولهم : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، استجارة واستعاذة ، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها ، والخزي : الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء ، خزي الرجل يخزى خزيا إذا


افتضح ، وخزاية إذا استحيى ، الفعل واحد والمصدر مختلف ، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم : هذه إشارة إلى من يخلد في النار ، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي ، وقال جابر بن عبد الله وغيره : كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها ، وإن في دون ذلك لخزيا.

قال القاضي : أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره ، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) هو من قول الداعين ، وبذلك يتسق وصف الآية.

قوله تعالى :

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)

هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون : (رَبَّنا) قال أبو الدرداء : يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون : «ربنا ربنا» حتى استجيب لهم ، واختلف المتأولون في المنادي ، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما : المنادى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال محمد بن كعب القرظي : المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعه ، ولما كانت (يُنادِي) بمنزلة يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان» ، وقوله : (أَنْ آمِنُوا) «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر ، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله ، و (الْأَبْرارِ) جمع بر ، أصله برر على وزن فعل ، أدغمت الراء في الراء ، وقيل : هو جمع بار كصاحب وأصحاب ، والمعنى : توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم.

وقوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) معناه : على ألسنة رسلك ، وقرأ الأعمش «رسلك» بسكون السين ، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد ، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه ، فالطلبة والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا ، فمعنى قول المرء : اللهم أنجز لي وعدك ، إنما معناه : اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد ، وقيل : معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز ، وقال الطبري وغيره : معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا ، وقولهم : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، إشارة إلى قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود.

قوله تعالى :

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ


هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

«استجاب» استفعل بمعنى أجاب ، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر : [الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه ، وقوله : (أَنِّي) يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني» ، وقرأ عيسى بن عمر : «إني» بكسر الهمزة ، وهذه آية وعد من الله تعالى : أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر ، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت الآية ، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء ، وقوله : (مِنْ ذَكَرٍ) تبيين لجنس العامل ، وقال قوم : (مِنْ) زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعني في الأجر وتقبل العمل ، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد ، وبيّن تعالى حال المهاجرين ، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضا إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح ، فالمعنى باق إلى يوم القيامة ، (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] و «هاجر» مفاعلة من اثنين ، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة ، وقوله تعالى : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) عبارة إلزام ذنب للكفار ، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب ، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء ، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم ، فمن ذلك إنكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده : [الطويل]

(وردني ... إلى الله من طردت كل مطرد)

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت طردتني كل مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير : [البسيط]

في عصبة من قريش قال قائلهم

ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف

عند اللّقاء ولا ميل معازيل

وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو : «وقاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة بيّن ، وقرأ ابن كثير : «وقاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل ، وقرأ حمزة والكسائي : «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به ، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة ، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة ، ومعنى قراءة حمزة هذه : إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء ، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل


باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) [آل عمران : ١٤٦] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين ، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : و «قتلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف ، و «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء خفيفة ، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف ، وقرأ محارب بن دثار : «وقتلوا» بفتح القاف «وقاتلوا» ، وقرأ طلحة بن مصرف : «وقتّلوا» بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبة الواو ، وإما أنه قاتل من بقي ، واللام في قوله : (لَأُكَفِّرَنَ) لام القسم و (ثَواباً) مصدر مؤكد مثل قوله : (صُنْعَ اللهِ) [النمل: ٨٨] و (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] وباقي الآية بين.

قوله تعالى :

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ(١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨)

نزلت (لا يَغُرَّنَّكَ) في هذه الآية ، منزلة : لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به ، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به ، لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم ، فيجيء هذا جنوحا إلى حالهم ونوعا من الاغترار فلذلك حسنت (لا يَغُرَّنَّكَ) ونظيره قول عمر لحفصة : لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المعنى : لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب للنبي عليه‌السلام ، والمراد أمته وللكفار في ذلك حظ ، أي لا يغرنكم تقلبهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : «لا يغرنك» بسكون النون خفيفة ، وكذلك «لا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم» ـ وشبهه ، و «التقلب» : التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الأعمال ، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك المتاع ، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب.

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «لكنّ الذين» ، بشد النون ، وعلى أن (الَّذِينَ) في موضع نصب اسما ل «لكنّ» ، و (نُزُلاً) : معناه تكرمة ، ونصبه على المصدر المؤكد ، وقرأ الحسن : «نزلا» ساكنة الزاي ، وقوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) يحتمل أن يريد : خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم ، ويحتمل أن يريد : خير مما هم فيه في الدنيا ، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له ، أما الكافر فلئلا يزداد إثما ، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار.

قال أبو محمد : وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فقال القاضي ابن الطيب : هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة ، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة ، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله وصحته جنة بالإضافة إلى جهنم ، وقيل : المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه ، فهو فيها كالمعنت المنكل ، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته ، والدنيا جنة الكافر ، لأنها موضع ثوابه على ما


عسى أن يعمل من خير ، وليس ينتظر في الآخرة ثوابا ، فهذه جنته ، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول.

قوله تعالى :

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

اختلف المتأولون فيمن عنى بهذه الآية ، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وقتادة وغيرهم : نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة ، وذلك أنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : اخرجوا فصلوا على أخ لكم ، فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ، فكبر أربعا ، وفي بعض الحديث : أنه كشف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن ، فكان يراه من موضعه بالمدينة ، فلما صلى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط ، فنزلت هذه الآية ، وكان أصحمة النجاشي نصرانيا ، وأصحمة تفسيره بالعربية عطية ، قاله سفيان بن عيينة وغيره ، وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك : فإنه لم يصل القبلة فنزلت (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] وقال قوم : نزلت في عبد الله بن سلام ، وقال ابن زيد ومجاهد : نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب ، و (خاشِعِينَ) حال من الضمير في (يُؤْمِنُ) ، ورد (خاشِعِينَ) على المعنى في «من» لأنه جمع لا على لفظ «من» لأنه إفراد ، وقوله تعالى : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قيل معناه : سريع إتيان بيوم القيامة ، وهو يوم الحساب ، فالحساب إذا سريع إذ كل آت قريب ، وقال قوم : (سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم ، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر كما يحتاج البشر.

ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء ، والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم ، وقيل معناه : مصابرة وعد الله في النصر ، قاله محمد بن كعب القرظي : أي لا تسأموا وانتظروا الفرج ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انتظار الفرج بالصبر عبادة ، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله (وَرابِطُوا) فقال جمهور الأمة معناه : رابطوا أعداءكم الخيل ، أي ارتبطوها كما


يرتبطها أعداؤكم ، ومنه قوله عزوجل : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٨] ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة ، جعل الله بعدها فرجا ، ولن يغلب عسر يسرين ، وأن الله تعالى يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) الآية ، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ، والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا ، فارسا كان أو راجلا ، واللفظة مأخوذة من الربط ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول ، وهذا كقوله : ليس الشديد بالصرعة ، كقوله : ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة ، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء : هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله ابن المواز ورواه ، فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هنالك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ترجّ في حق البشر.


فهرس

الجزء الأول

من المحرر الوجيز



فهرس المحتويات

مقدمة المحرر الوجيز

٣

الآية : ٢

٨٣

الترجمة

٢٦

الآية : ٣

٨٤

مصنفاته

٢٨

الآيتان : ٤ ، ٥

٨٥

صور المخطوط

٣٠

الآيتان : ٦ ، ٧

٨٦

مقدمة

٣٣

الآيتان : ٨ ، ٩

٨٩

باب ما ورد عن النبي وعن الصحابة ، وعن نبهاء العلماء في فضل القرآن المجيد

٣٦

الآيات : ١٠ ـ ١٢

٩٢

باب في فضل تفسير القرآن

٤٠

الآيتان : ١٣ ، ١٤

٩٤

باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن

٤١

الآيتان : ١٥ ، ١٦

٩٧

باب معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه

٤٣

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٩٨

باب ذكر جمع القرآن

٤٩

الآيتان : ١٩ ، ٢٠

١٠١

باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق

٥١

الآيتان : ٢١ ، ٢٢

١٠٤

نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن

٥٢

الآيتان : ٢٣ ، ٢٤

١٠٦

باب في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى

٥٤

الآية : ٢٥

١٠٨

باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية

٥٦

الآية : ٢٦

١١٠

باب القول في الاستعاذة ٥٨ القول في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم

٦٠

الآية : ٢٧ ـ ٢٩

١١٢

تفسير سورة الفاتحة

الآية : ٣٠ ـ ٣٢

١١٦

الآيات : ١ ـ ٧

٦٥

الآيتان : ٣٣ ، ٣٤

١٢٢

القول في آمين

٧٩

الآيتان : ٣٥ ، ٣٦

١٢٦

تفسير سورة البقرة

الآيات : ٣٧ ـ ٣٩

١٣٠

الآية : ١

٨١

الآيات : ٤٠ ـ ٤١

١٣٢

الآيات : ٤٢ ـ ٤٦

١٣٥

الآيات : ٤٧ ـ ٤٩

١٣٨

الآيات : ٥٠ ـ ٥٣

١٤١

الآيتان : ٥٤ ، ٥٥

١٤٥

الآيات : ٥٦ ـ ٥٨

١٤٨

الآيتان : ٥٩ ، ٦٠

١٥١

الآية : ٦١

١٥٢


الآيات : ٦٢ ـ ٦٤

١٥٦

الآيات : ١٦١ ـ ١٦٤

٢٣١

الآيات : ٦٥ ـ ٦٧

١٥٩

الآيات : ١٦٥ ـ ١٦٧

٢٣٤

الآيات : ٦٨ ـ ٧٠

١٦٢

الآيات : ١٦٨ ـ ١٧١

٢٣٦

الآيات : ٧١ ـ ٧٣

١٦٣

الآيات : ١٧٢ ـ ١٧٤

٢٣٩

الآيتان : ٧٤ ، ٧٥

١٦٥

الآيات : ١٧٥ ـ ١٧٧

٢٤١

الآيات : ٧٦ ـ ٧٨

١٦٨

الآيات : ١٧٨ ـ ١٨٠

٢٤٤

الآيات : ٧٩ ـ ٨٢

١٧٠

الآيات : ١٨١ ـ ١٨٤

٢٤٨

الآيتان : ٨٣ ، ٨٤

١٧١

الآيتان : ١٨٥ ، ١٨٦

٢٥٣

الآية : ٨٥

١٧٤

الآية : ١٨٧

٢٥٦

الآيات : ٨٦ ـ ٨٨

١٧٦

الآيات : ١٨٨ ـ ١٩٠

٢٦٠

الآيات : ٨٩ ـ ٩١

١٧٧

الآيات : ١٩١ ـ ١٩٤

٢٦٢

الآيات : ٩٢ ـ ٩٥

١٨٠

الآيتان : ١٩٥ ، ١٩٦

٢٦٤

الآيات : ٩٦ ـ ٩٩

١٨٢

الآيات : ١٩٦ ـ ١٩٨

٢٦٩

الآيات : ١٠٠ ـ ١٠٢

١٨٤

الآيات : ١٩٩ ـ ٢٠٣

٢٧٥

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤

١٨٨

الآيات : ٢٠٤ ـ ٢٠٨

٢٧٨

الآيتان : ١٠٥ ، ١٠٦

١٩٠

الآيات : ٢٠٩ ـ ٢١٢

٢٨٣

الآيات : ١٠٧ ـ ١٠٩

١٩٤

الآيتان : ٢١٣ ، ٢١٤

٢٨٥

الآيات : ١١٠ ـ ١١٢

١٩٧

الآيات : ٢١٥ ـ ٢١٧

٢٨٨

الآيات : ١١٣ ـ ١١٥

١٩٨

الآيات : ٢١٧ ـ ٢٢٠

٢٩٠

الآيات : ١١٦ ـ ١١٨

٢٠١

الآيتان : ٢٢٠ ، ٢٢١

٢٩٥

الآيات : ١١٩ ـ ١٢١

٢٠٣

الآيات : ٢٢٢ ـ ٢٢٤

٢٩٧

الآيات : ١٢٢ ـ ١٢٤

٢٠٥

الآيات : ٢٢٥ ـ ٢٢٧

٣٠١

الآيتان : ١٢٥ ، ١٢٦

٢٠٧

الآية : ٢٢٨

٣٠٤

الآيات : ١٢٧ ـ ١٢٩

٢١٠

الآية : ٢٢٩

٣٠٦

الآيات : ١٣٠ ـ ١٣٢

٢١٢

الآيتان : ٢٣٠ ، ٢٣١

٣٠٨

الآيات : ١٣٣ ـ ١٣٥

٢١٣

الآيتان : ٢٣١ ، ٢٣٢

٣٠٩

الآيات : ١٣٦ ـ ١٣٨

٢١٥

الآية : ٢٣٣

٣١٠ ، ٣١٢

الآيات : ١٣٩ ـ ١٤١

٢١٦

الآية : ٢٣٤

٣١٣ ، ٣١٤

الآيتان : ١٤٢ ، ١٤٣

٢١٧

الآية : ٢٣٥

٣١٥ ، ٣١٧

الآيتان : ١٤٤ ، ١٤٥

٢٢١

الآية : ٢٣٦

٣١٨

الآيات : ١٤٦ ـ ١٤٩

٢٢٣

الآية : ٢٣٧

٣٢٠

الآيتان : ١٥٠ ، ١٥١

٢٢٥

الآية : ٢٣٨

٣٢٢

الآيات : ١٥٢ ـ ١٥٧

٢٢٦

الآية : ٢٣٩

٣٢٤

الآيات : ١٥٨ ـ ١٦٠

٢٢٨

الآية : ٢٤٠

٣٢٥


الآيتان : ٢٤١ ، ٢٤٢

٣٢٦

الآية : ٢٨٥

٣٩١

الآية : ٢٤٣

٣٢٧

الآية : ٢٨٦

٣٩٢

الآيتان : ٢٤٤ ، ٢٤٥

٣٢٨

تفسير سورة آل عمران

الآية : ٢٤٦

٣٣٠ ، ٣٣١

الآيات : ١ ـ ٤

٣٩٦

الآية : ٢٤٧

٣٣١

الآيات : ٥ ـ ٧

٣٩٩

الآيتان : ٢٤٧ ، ٢٤٨

٣٣٢

الآية : ٧

٤٠٢

الآية : ٢٤٨

٣٣٣

الآيتان : ٨ ، ٩

٤٠٤

الآية : ٢٤٩

٣٣٤ ، ٣٣٥

الآيتان : ١٠ ـ ١١

٤٠٥

الآيتان : ٢٥٠ ، ٢٥١

٣٣٦

الآيتان : ١٢ ، ١٣

٤٠٦

الآيتان : ٢٥١ ، ٢٥٢

٣٣٧

الآية : ١٤

٤٠٨

الآية : ٢٥٣

٣٣٩،٣٣٨

الآية : ١٥

٤١٠

الآية : ٢٥٤

٣٣٩

الآيتان : ١٦ ، ١٧

٤١١

الآية : ٢٥٥

٣٤٠ ، ٣٤١

الآية : ١٨

٤١٢

الآية : ٢٥٦

٣٤٢

الآية : ١٩

٤١٣

الآية : ٢٥٧

٣٤٤

الآية : ٢٠

٤١٣

الآية : ٢٥٨

٣٤٥

الآيتان : ٢١ ، ٢٢

٤١٤

الآية : ٢٥٩

٣٤٧ ، ٣٤٩

الآيات : ٢٣ ـ ٢٥

٤١٥

الآية : ٢٦٠

٣٥٢

الآيتان : ٢٦ ، ٢٧

٤١٦

الآيتان : ٢٦١ ، ٢٦٢

٣٥٥

الآية : ٢٨

٤١٩

الآيتان : ٢٦٣ ، ٢٦٤

٣٥٧

الآيتان : ٢٩ ، ٣٠

٤٢٠

الآية : ٢٦٥

٣٥٨

الآيتان : ٣١ ، ٣٢

٤٢١

الآية : ٢٦٦

٣٦٠

الآيات : ٣٣ ـ ٣٥

٤٢٢

الآية : ٢٦٧

٣٦١

الآيتان : ٣٦ ، ٣٧

٤٢٤

الآيتان : ٢٦٨ ، ٢٦٩

٣٦٣

الآيتان : ٣٨ ، ٣٩

٤٢٧

الآيتان : ٢٧٠ ، ٢٧١

٣٦٥

الآية : ٤٠

٤٣١

الآية : ٢٧٢

٣٦٧

الآية : ٤١

٤٣١

الآية : ٢٧٣

٣٦٨

الآيتان : ٤٢ ، ٤٣

٤٣٣

الآيتان : ٢٧٤ ، ٢٧٥

٣٧٠

الآيتان : ٤٤ ، ٤٥

٤٣٤

الآيتان : ٢٧٦ ، ٢٧٧

٣٧٣

الآيتان : ٤٦ ، ٤٧

٤٣٦

الآيتان : ٢٧٨ ، ٢٧٩

٣٧٤

الآيتان : ٤٨ ، ٤٩

٤٣٧

الآيتان : ٢٨٠ ، ٢٨١

٣٧٦

الآية : ٤٩

٤٣٩

الآية : ٢٨٢

٣٧٨ ، ٣٧٩ ، ٣٨٢ ، ٣٨٣

الآيتان : ٥٠ ، ٥١

٤٤١

الآية : ٢٨٣

٣٨٥

الآيات : ٥٢ ـ ٥٤

٤٤٢

الآية : ٢٨٤

٣٨٩


الآيات : ٥٥ ـ ٥٧

٤٤٤

الآيتان : ١٣٣ ، ١٣٤

٥٠٧

الآيات : ٥٨ ـ ٦١

٤٤٥

الآيتان : ١٣٥ ، ١٣٦

٥١٠

الآيات : ٦٢ ـ ٦٤

٤٤٨

الآيات : ١٣٧ ـ ١٤٠

٥١١

الآيتان : ٦٥ ، ٦٦

٤٤٩

الآيتان : ١٤١ ، ١٤٢

٥١٤

الآيتان : ٦٧ ، ٦٨

٤٥١

الآيتان : ١٤٢ ، ١٤٣

٥١٥

الآيات : ٦٩ ـ ٧١

٤٥٢

الآيتان : ١٤٤ ، ١٤٥

٥١٦

الآيتان : ٧٢ ، ٧٣

٤٥٣

الآيتان : ١٤٥ ، ١٤٦

٥١٨

الآيات : ٧٣ ـ ٧٥

٤٥٧

الآيتان : ١٤٧ ، ١٤٨

٥٢١

الآيات : ٧٥ ـ ٧٧

٤٥٨

الآيات : ١٤٩ ـ ١٥١

٥٢٢

الآيتان : ٧٨ ، ٧٩

٤٦٠

الآية : ١٥٢

٥٢٤

الآيات : ٧٩ ـ ٨١

٤٦٢

الآيتان : ١٥٣ ، ١٥٤

٥٢٥

الآيات : ٨١ ـ ٨٣

٤٦٦

الآية : ١٥٤

٥٢٨

الآيتان : ٨٤ ، ٨٥

٤٦٧

الآية : ١٥٥

٥٢٩

الآيات : ٨٦ ـ ٨٩

٤٦٧

الآية : ١٥٦

٥٣٠

الآيتان : ٩٠ ، ٩١

٤٦٩

الآيات : ١٥٧ ـ ١٥٩

٥٣٢

الآيتان : ٩٢ ، ٩٣

٤٧١

الآيتان : ١٥٩ ، ١٦٠

٥٣٣

الآيات : ٩٤ ـ ٩٦

٤٧٣

الآيات : ١٦١ ـ ١٦٣

٥٣٤

الآية : ٩٧

٤٧٥

الآيتان : ١٦٤ ، ١٦٥

٥٣٧

الآيتان : ٩٨ ، ٩٩

٤٨٠

الآيتان : ١٦٦ ، ١٦٧

٥٣٨

الآيتان : ١٠٠ ، ١٠١

٤٨١

الآيات : ١٦٨ ـ ١٧٠

٥٣٩

الآيتان : ١٠٢ ، ١٠٣

٤٨٢

الآيات : ١٧٠ ـ ١٧٢

٥٤١

الآية : ١٠٣

٤٨٤

الآيتان : ١٧٣ ، ١٧٤

٥٤٢

الآيتان : ١٠٤ ، ١٠٥

٤٨٥

الآيات : ١٧٥ ـ ١٧٧

٥٤٣

الآيتان : ١٠٦ ، ١٠٧

٤٨٧

الآيتان : ١٧٨ ، ١٧٩

٥٤٥

الآيات : ١٠٨ ـ ١١٠

٤٨٨

الآيتان : ١٨٠ ، ١٨١

٥٤٦

الآيتان : ١١١ ، ١١٢

٤٩٠

الآيات : ١٨١ ـ ١٨٣

٥٤٨

الآيتان : ١١٣ ، ١١٤

٤٩٢

الآيتان : ١٨٣ ، ١٨٤

٥٤٩

الآيات : ١١٥ ـ ١١٧

٤٩٤

الآية : ١٨٥

٥٥٠

الآية : ١١٨

٤٩٦

الآيتان : ١٨٦ ، ١٨٧

٥٥٠

الآية : ١١٩

٤٩٧

الآيات : ١٨٨ ـ ١٩٠

٥٥٢

الآية : ١٢٠

٤٩٨

الآيتان : ١٩١ ، ١٩٢

٥٥٤

الآيتان : ١٢١ ، ١٢٢

٤٩٩

الآيتان : ١٩٣ ، ١٩٤

٥٥٦

الآيات : ١٢٣ ـ ١٢٥

٥٠٢

الآية : ١٩٥

٥٥٦

الآيات : ١٢٦ ـ ١٢٩

٥٠٥

الآيات : ١٩٦ ـ ١٩٨

٥٥٨

الآيات : ١٣٠ ـ ١٣٢

٥٠٦

الآيتان : ١٩٩ ـ ٢٠٠

٥٥٩

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ١

المؤلف:
الصفحات: 566