(١٩) سورة مريم

مكية إلا آية السجدة وهي ثمان أو تسع وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)(٢)

(كهيعص) أمال أبو عمرو الهاء لأن ألفات أسماء التهجي ياءات وابن عامر وحمزة الياء ، والكسائي وأبو بكر كليهما ، ونافع بين بين ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال ، والباقون يدغمونها.

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) خبر ما قبله إن أول السورة أو بالقرآن ، فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي : هذا المتلو (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) ، أو مبتدأ حذف خبره أي فيما يتلى عليك ذكرها ، وقرئ «ذكر رحمة» على الماضي و «ذكر» على الأمر. (عَبْدَهُ) مفعول الرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الاتساع كقولك : ذكرني جود زيد. (زَكَرِيَّا) بدل منه أو عطف بيان له.

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(٣)

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) لأن الإخفاء والجهر عند الله سيان ، والإخفاء أشد إخباتا وأكثر إخلاصا أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبر ، أو لئلا يطلع عليه مواليه الذين خافهم ، أو لأن ضعف الهرم أخفى صوته. واختلف في سنه حينئذ فقيل ستون ، وقيل سبعون ، وقيل خمس وسبعون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل تسع وتسعون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)(٤)

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) تفسير للنداء والوهن الضعف ، وتخصيص العظم لأنه دعامة البدن وأصل بنائه ولأنه أصلب ما فيه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وتوحيده لأن المراد به الجنس ، وقرئ «وهن» و «وهن» بالضم والكسر ونظيره كمل بالحركات الثلاث. (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوه في الشعر باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة وأسند الاشتعال إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة ، وجعله مميزا إيضاحا للمقصود ، واكتفى باللام على الإضافة للدلالة على أن علم المخاطب بتعين المراد يغني عن التقيد. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) بل كلما دعوتك استجبت لي وهو توسل بما سلف معه من الاستجابة ، وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة ، وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطمعه فيها ، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه.

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(٦)

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) يعني بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل ، فخاف أن لا يحسنوا خلافته على أمته


ويبدلوا عليهم دينهم. (مِنْ وَرائِي) بعد موتي ، وعن ابن كثير بالمد والقصر بفتح الياء وهو متعلق بمحذوف ، أو بمعنى الموالي أي خفت فعل الموالي من ورائي ، أو الذين يلون الأمر من ورائي. وقرئ «خفت الوالي من ورائي» أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعدي ، أو خفوا ودرجوا قدامي ، فعلى هذا كان الظرف متعلقا ب (خِفْتُ). (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) فإن مثله لا يرجى إلا من فضلك وكمال قدرتك ، فإني وامرأتي لا نصلح للولادة. (وَلِيًّا) من صلبي.

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) صفتان له وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنهما جواب الدعاء ، والمراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورثون المال. وقيل يرثني الحبورة فإنه كان حبرا ، ويرث من آل يعقوب الملك ، وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام. وقيل يعقوب كان أخا زكريا أو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه‌السلام. وقرئ «يرثني وارث آل يعقوب» على الحال من أحد الضميرين ، و «أويرث» بالتصغير لصغره ، و «وارث من آل يعقوب» على أنه فاعل (يَرِثُنِي) وهذا يسمى التجريد في علم البيان لأنه جرد عن المذكور أولا مع أنه المراد. (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ترضاه قولا وعملا.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)(٧)

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) جواب لندائه ووعد بإجابة دعائه وإنما تولى تسميته تشريفا له. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسم أحد بيحيى قبله ، وهو شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمى. وقيل سميا شبيها كقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) لأن المتماثلين يتشاركان في الاسم ، والأظهر أنه أعجمي وإن كان عربيا فمنقول عن فعل كيعيش ويعمر. وقيل سمي به لأنه حيي به رحم أمه ، أو لأن دين الله حيي بدعوته.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)(٩)

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) جساوة وقحولا في المفاصل ، وأصله عتوو كقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ، ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة والكسائي وحفص (عِتِيًّا) بالكسر ، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك : (قالَ) أي الله تعالى أو الملك المبلغ للبشارة تصديقا له. (كَذلِكَ) الأمر كذلك ، ويجوز أن تكون الكاف منصوبة ب ـ (قالَ) في : (قالَ رَبُّكَ) وذلك إشارة إلى مبهم يفسره. (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ويؤيد الأول قراءة من قرأ و (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي الأمر كما قلت ، أو كما وعدت وهو على ذلك يهون علي ، أو كما وعدت وهو عليّ هين لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب ، ومفعول قال الثاني محذوف. (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) بل كنت معدوما صرفا ، وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء ، وقرأ حمزة والكسائي «وقد خلقناك».

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١١)

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) سويّ الخلق ما بك من خرس ولا بكم ، وإنما ذكر الليالي هنا والأيام في «آل عمران» للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام ولياليهن.


(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) من المصلى أو من الغرفة. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) فأومأ إليهم لقوله (إِلَّا رَمْزاً). وقيل كتب لهم على الأرض. (أَنْ سَبِّحُوا) صلوا أو نزهوا ربكم. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) طرفي النهار ، ولعله كان مأمورا بأن يسبح ويأمر قومه بأن يوافقوه ، و (أَنْ) تحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة.

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا)(١٣)

(يا يَحْيى) على تقدير القول. (خُذِ الْكِتابَ) التوراة. (بِقُوَّةٍ) بجد واستظهار بالتوفيق. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يعني الحكمة وفهم التوراة ، وقيل النبوة أحكم الله عقله في صباه واستنبأه.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) ورحمة منا عليه أو رحمة وتعطفا في قلبه على أبويه وغيرهما عطف على الحكم. (وَزَكاةً) وطهارة من الذنوب أو صدقة أي تصدق الله به على أبويه ، أو مكنه ووفقه للتصدق على الناس. (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا متجنبا عن المعاصي.

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) وبارا بهما. (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) عاقا أو عاصي ربه.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) من الله. (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم. (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من عذاب القبر. (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من عذاب النار وهول القيامة.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا)(١٦)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في القرآن. (مَرْيَمَ) يعني قصتها. (إِذِ انْتَبَذَتْ) اعتزلت ، بدل من (مَرْيَمَ) بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها ، أو بدل الكل لأن المراد ب (مَرْيَمَ) قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد ، أو ظرف لمضاف مقدر وقيل (إِذِ) بمعنى أن المصدرية كقولك : أكرمتك إذ لم تكرمني فتكون بدلا لا محالة. (مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) شرقي بيت المقدس ، أو شرقي دارها ، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة ومكانا ظرف أو مفعول لأن (انْتَبَذَتْ) متضمن معنى أتت.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)(١٧)

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) سترا. (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) قيل قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها. وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت. فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل عليه‌السلام متمثلا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ، ولعله لتهييج شهوتها به فتنحدر نطفتها إلى رحمها.

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)(١٩)

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) من غاية عفافها. (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) تتقي الله وتحتفل بالاستعاذة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فإني عائذة منك ، أو فتتعظ بتعويذي أو فلا تتعرض لي ، ويجوز أن يكون للمبالغة أي إن كنت تقيا متورعا فإني أتعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك.


(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الذي استعذت به. (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ، ويجوز أن يكون حكاية لقول الله تعالى ، ويؤيده قراءة أبي عمرو والأكثر عن نافع ويعقوب بالياء. (زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب أو ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٢١)

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ولم يباشرني رجل بالحلال ، فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه ، أما الزنا فإنما يقال فيه خبث بها وفجر ونحو ذلك ويعضده عطف قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) عليه وهو فعول من البغي قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء ، أو فعيل بمعنى فاعل ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة ، أو للنسب كطالق.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ) أي ونفعل ذلك لنجعله آية أو لنبين به قدرتنا ولنجعله ، وقيل عطف على ليهب على طريقة الالتفات. (آيَةً لِلنَّاسِ) علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا. (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد يهتدون بإرشاده. (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي تعلق به قضاء الله في الأزل ، أو قدر وسطر في اللوح أو كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)(٢٢)

(فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل ستة ، وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره ، وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة ، وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين. (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) فاعتزلت وهو في بطنها كقوله :

تدوس بنا الجماجم والتريبا

والجار والمجرور في موضع الحال. (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا)(٢٣)

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) فألجأها المخاض ، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتى في أعطى وقرئ «المخاض» بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج. (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها. (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) استحياء من الناس ومخافة لومهم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر (مِتُ) من مات يموت. (وَكُنْتُ نَسْياً) ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح ، وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به ، وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته. (مَنْسِيًّا) منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)(٢٤)

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) عيسى ، وقيل جبريل كان يقبل الولد ، وقيل تحتها أسفل من مكانها. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وروح (مِنْ تَحْتِها) بالكسر والجر على أن في نادى ضمير أحدهما ، وقيل الضمير


في تحتها للنخلة. (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تحزني أو بأن لا تحزني. (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) جدولا. هكذا روي مرفوعا ، وقيل سيدا من السرو وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)(٢٥)

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) وأميليه إليك ، والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والإمالة به ، أو (هُزِّي) الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع. (تُساقِطْ عَلَيْكِ) تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة ، وقرأ يعقوب بالياء وحفص (تُساقِطْ) من ساقطت بمعنى أسقطت ، وقرئ «تتساقط» و «تسقط» و «يسقط» فالتاء للنخلة والياء للجذع. (رُطَباً جَنِيًّا) تمييز أو مفعول. روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء ، فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا. وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش ، والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل ، وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال :

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٢٦)

(فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي من الرطب وماء السري أو من الرطب وعصيره. (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك ، وقرئ «وقري» بالكسر وهو لغة نجد ، واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ، أو من القر فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فإن تري آدميا ، وقرئ «ترئن» على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين. (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) صمتا وقد قرئ به ، أو صياما وكانوا لا يتكلمون في صيامهم. (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) بعد أن أخبرتكم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي. وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة والاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(٢٨)

(فَأَتَتْ بِهِ) أي مع ولدها. (قَوْمَها) راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس. (تَحْمِلُهُ) حاملة إياه. (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي بديعا منكرا من فري الجلد.

(يا أُخْتَ هارُونَ) يعنون هارون النبي عليه الصلاة والسلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة ، وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة. وقيل هو رجل صالح أو طالح كان في زمانهم شبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها أو شتموها به. (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) تقرير لأن ما جاءت به فري ، وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(٣٠)

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أي كلموه ليجيبكم. (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي


الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل ، و (كانَ) زائدة والظرف صلة من ، و (صَبِيًّا) حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أو بمعنى صار.

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أنطقه الله تعالى به أولا لأنه أول المقامات والرد على من يزعم ربوبيته. (آتانِيَ الْكِتابَ) الإنجيل. (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) نفاعا معلما للخير ، والتعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق في قضائه ، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع وقيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلا. (أَيْنَ ما كُنْتُ) حيث كنت. (وَأَوْصانِي) وأمرني. (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) زكاة المال إن ملكته أو تطهير النفس عن الرذائل. (ما دُمْتُ حَيًّا).

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) وبارا بها عطف على (مُبارَكاً) ، وقرئ بالكسر على أنه مصدر وصف به أو منصوب بفعل دل عليه أوصاني ، أي وكلفني برا ويؤيده القراءة بالكسر والجر عطفا على (بِالصَّلاةِ). (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) عند الله من فرط تكبره.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) كما هو على يحيى والتعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه ، فإنه لما جعل جنس السلام على نفسه عرض بأن ضده عليهم كقوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٣٤)

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى ، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه ثم عكس الحكم. (قَوْلَ الْحَقِ) خبر محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه ، والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل صفة (عِيسَى) أو بدل أو خبر ثان ومعناه كلمة الله. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب (قَوْلَ) بالنصب على أنه مصدر مؤكد. وقرئ «قال الحق» وهو بمعنى القول. (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) في أمره يشكون أو يتنازعون ، فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله وقرئ بالتاء على الخطاب.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٣٦)

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) تكذيب للنصارى وتنزيه لله تعالى عما بهتوه. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تبكيت لهم ، فإن من إذا أراد شيئا أوجده ب (كُنْ) كان منزها عن شبه الخلق إلى الحاجة في اتخاذ الولد بإحبال الإناث ، وقرأ ابن عامر فيكون بالنصب على الجواب.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) سبق تفسيره في سورة «آل عمران» ، وقرأ الحجازيان والبصريان (وَإِنَ) بالفتح على ولأن وقيل إنه معطوف على (بِالصَّلاةِ).

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٣٧)

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) اليهود والنصارى ؛ أو فرق النصارى : نسطورية قالوا إنه ابن الله ،


ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه ، وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه ، او من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها. وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨)

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) تعجب معناه أن استماعهم وإبصارهم. (يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا ، أو التهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ. وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه ، والجار والمجرور على الأول في موضع الرفع وعلى الثاني في موضع النصب (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أوقع الظالمين موقع الضمير إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم ، وسجل على إغفالهم بأنه ضلال بين.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه. (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار ، وإذ بدل من اليوم أو ظرف للحسرة. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حال متعلقة بقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وما بينهما اعتراض ، أو ب (أَنْذِرْهُمْ) أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين ، فتكون حالا متضمنة للتعليل.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) لا يبقى غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك ، أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه. (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يردون للجزاء.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(٤٢)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ملازما للصدق ، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله. (نَبِيًّا) استنبأه الله.

(إِذْ قالَ) بدل من (إِبْراهِيمَ) وما بينهما اعتراض ، أو متعلق ب (كانَ) أو ب (صِدِّيقاً نَبِيًّا). (لِأَبِيهِ يا أَبَتِ) التاء معوضة من ياء الإضافة ولذلك لا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا ، وإنما تذكر للاستعطاف ولذلك كررها. (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك. (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في جلب نفع أو دفع ضر ، دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب ، حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه ، فضلا عن عبادته التي هي غاية التعظيم ، ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام وهو الخالق الرازق المحيي المميت المعاقب المثيب ، ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح ، والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضر ولكن كان ممكنا ، لاستنكف العقل القويم من عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة ، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر ، ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم والصراط المستقيم لما لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي فقال :


(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤)

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) ولم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ، ثم ثبطه عما كان عليه بأنه مع خلوه عن النفع مستلزم للضر ، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به فقال :

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ولما استهجن ذلك بين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولي للنعم كلها بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه ، ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجر إليه فقال :

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)(٤٥)

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) قرينا في اللعن والعذاب تليه ويليك ، أو ثابتا في موالاته فإنه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب. وذكر الخوف والمس وتنكير العذاب إما للمجاملة أو لخفاء العاقبة ، ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من بين جناياته لارتقاء همته في الربانية ، أو لأنه ملاكها أو لأنه من حيث إنه نتيجة معاداته لآدم وذريته منبه عليها.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦)

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل (يا أَبَتِ) : بيا بني ، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن مقالك فيها أو الرغبة عنها. (لَأَرْجُمَنَّكَ) بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت ، أو تبعد مني. (وَاهْجُرْنِي) عطف على ما دل عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي فاحذرني واهجرني. (مَلِيًّا) زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني.

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا)(٤٨)

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة ، أي لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعد ما يؤذيك ولكن : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) لعله يوفقك للتوبة والإيمان ، فإن حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وقد مر تقريره في سورة التوبة (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) بليغا في البر والإلطاف.

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة بديني. (وَأَدْعُوا رَبِّي) وأعبده وحده. (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتهم ، وفي تصدير الكلام ب (عَسى) التواضع وهضم النفس ، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل غير واجبتين ، وأن ملاك الأمر خاتمته وهو غيب.

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠)

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالهجرة إلى الشام. (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بدل من فارقهم من الكفرة ، قيل إنه لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحاق وولد منه يعقوب ، ولعل


تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد. (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) وكلا منهما أو منهم.

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) النبوة والأموال والأولاد. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم ، استجابة لدعوته (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) والمراد باللسان ما يوجد به ، ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحول الدول وتبدل الملل.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء ، أو أسلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه ، وقرأ الكوفيون بالفتح على أن الله أخلصه. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم (رَسُولاً) مع أنه أخلص وأعلى.

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) من ناحيته اليمنى من اليمين ، وهي التي تلي يمين موسى من جانبه الميمون من اليمن بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة. (وَقَرَّبْناهُ) تقريب تشريف شبهه بمن قربه الملك لمناجاته. (نَجِيًّا) مناجيا حال من أحد الضميرين. وقيل مرتفعا من النجوة وهو الارتفاع. لما روي أنه رفع فوق السموات حتى سمع صرير القلم.

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا. (أَخاهُ) معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) فإنه كان أسن من موسى ، وهو مفعول أو بدل على تقدير أن تكون (مِنْ) للتبعيض. (هارُونَ) عطف بيان له. (نَبِيًّا) حال منه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(٥٥)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره ، وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فوفى. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل ، قال الله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) ، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً). وقيل أهله أمته فإن الأنبياء آباء الأمم. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) لاستقامة أقواله وأفعاله.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)(٥٧)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) وهو سبط شيث وجد أبي نوح عليهم‌السلام ، واسمه أخنوخ واشتقاق إدريس من الدرس يرده منع صرفه ، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة درسه ، إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب. (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا).


(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) يعني شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقيل الجنة ، وقيل السماء السادسة أو الرابعة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨)

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم‌السلام. (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بأنواع النعم الدينية والدنيوية (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للموصول. (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) بدل منه بإعادة الجار ، ويجوز أن تكون (مِنَ) فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي ومن ذرية من حملنا خصوصا ، وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح. (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) الباقون. (وَإِسْرائِيلَ) عطف على (إِبْراهِيمَ) أي ومن ذرية إسرائيل ، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) ومن جملة من هديناهم إلى الحق. (وَاجْتَبَيْنا) للنبوة والكرامة. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) خبر ل (أُولئِكَ) إن جعلت الموصول صفته ، واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى. وعن النبي عليه الصلاة والسلام «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا». والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد. وقرئ «يتلى» بالياء لأن التأنيث غير حقيقي ، وقرأ حمزة والكسائي (بُكِيًّا) بكسر الباء.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٥٩)

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح ، وخلف سوء بالسكون. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) تركوها أو أخروها عن وقتها. (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في المعاصي. وعن علي رضي الله عنه في قوله (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) : من بنى الشديد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور. (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرا كقوله :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أو جزاء غي كقوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً) أو غيا عن طريق الجنة ، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها.

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(٦١)

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) يدل على أن الآية في الكفرة. (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب على البناء للمفعول من أدخل. (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ولا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ، ويجوز أن ينصب (شَيْئاً) على المصدر ، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها ، أو منصوب على المدح ، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعدن لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإقامة كبرة ولذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله : (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي وعدها إياهم وهي غائبة عنهم ، أو وهم غائبون عنها ، أو وعدهم بإيمانهم بالغيب. (إِنَّهُ) إن الله. (كانَ وَعْدُهُ) الذي هو الجنة. (مَأْتِيًّا) يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة ، وقيل هو من أتى إليه إحسانا أي مفعولا منجزا.


(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(٦٢)

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) فضول كلام. (إِلَّا سَلاماً) ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم ، على بعض على الاستثناء المنقطع ، أو على أن معنى التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام. (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة ، وقيل المراد دوام الرزق ودروره.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٦٣)

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه ، والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ، ولا تبطل برد ولا إسقاط. وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم ، وعن يعقوب (نُورِثُ) بالتشديد.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(٦٤)

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ، ثم نزل ببيان ذلك. والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ، والمعنى وما ننزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وقرئ «وما يتنزل» بالياء والضمير للوحي. (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه. وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة ، والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها وقوله :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٦٥)

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لامتناع النسيان عليه ، وهو خبر محذوف أو بدل من (رَبِّكَ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتب عليه ، أي لما عرفت ربك بأنه لا ينبغي له أن ينساك ، أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة ، وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب : اصطبر لقرنك. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثلا يستحق أن يسمى إلها أو أحدا سمي الله فإن المشركين وإن سموا الصنم إلها لم يسموه الله قط ، وذلك لظهور أحديته تعالى ، وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة ، وهو تقرير للأمر


أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)(٦٧)

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) المراد به الجنس بأسره فإن المقول مقول فيما بينهم وإن لم يقله كلهم كقولك : بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم ، أو بعضهم المعهود وهم الكفرة أو أبي بن خلف فإنه أخذ عظاما بالية ففتها وقال : يزعم محمد أنا نبعث بعد ما نموت. (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) من الأرض أو من حال الموت ، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لأن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة ، وانتصابه بفعل دل عليه (أُخْرَجُ) لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها ، وهي ها هنا مخلصة للتوكيد مجردة عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام في يا الله للتعويض فساغ اقترانها بحرف الاستقبال. وروي عن ابن ذكوان (إِذا ما مِتُ) بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) عطف على (يَقُولُ) ، وتوسيط همزة الإنكار بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمهما للدلالة على أن المنكر بالذات هو المعطوف وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه فإنه لو تذكر وتأمل : (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) بل كان عدما صرفا ، لم يقل ذلك فإنه أعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وقالون عن يعقوب (يَذْكُرُ) من الذكر الذي يراد به التفكر ، وقرئ «يتذكر» على الأصل.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)(٦٨)

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) أقسم باسمه تعالى مضافا إلى نبيه تحقيقا للأمر وتفخيما لشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَالشَّياطِينَ) عطف أو مفعول معه لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم كل مع شيطانه في سلسلة ، وهذا وإن كان مخصوصا بهم ساغ نسبته إلى الجنس بأسره ، فإنهم إذا حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا جميعا معهم. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) ليرى السعداء ما نجاهم الله منه فيزدادوا غبطة وسرورا ، وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم عليهم (جِثِيًّا) على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع ، أو لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، وأهل الموقف جاثون لقوله تعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على المعتاد في مواقف التقاول ، وإن كان المراد بالإنسان الكفرة فلعلهم يساقون جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنم إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام لما عراهم من الشدة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (جِثِيًّا) بكسر الجيم.

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)(٧٠)

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) من كل أمة شاعت دينا. (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) من كان أعصى وأعتى منهم فنطرحهم فيها ، وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان ولو خص ذلك بالكفرة فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب ، أو يدخل كلا طبقتها التي تليق به ، و (أَيُّهُمْ) مبني على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات ، لكنه أعرب حملا


على (كُلِ) وبعض للزوم الإضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه منصوب المحل بننزعن ، ولذلك قرئ منصوبا ومرفوع عند غيره إما بالابتداء على أنه استفهامي وخبره (أَشَدُّ) ، والجملة محكية وتقدير الكلام : (لَنَنْزِعَنَ) من كل شيعة الذين يقال فيهم أيهم أشد ، أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم ، أو مستأنفة والفعل واقع على (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة ، وإما بشيعة لأنها بمعنى تشيع وعلى للبيان أو متعلق بافعل وكذا الباء في قوله :

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بالصلي ، أو صليهم أولى بالنار. وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيع فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (صِلِيًّا) بكسر الصاد.

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهاجِثِيًّا)(٧٢)

(وَإِنْ مِنْكُمْ) وما منكم التفات إلى الإنسان ويؤيده أنه قرئ «وإن منهم». (إِلَّا وارِدُها) إلا واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم. وعن جابر رضي الله عنه أنه عليه‌السلام سئل عنه فقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار ، فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة». وأما قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فالمراد عن عذابها. وقيل ورودها الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها. (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) كان ورودهم واجبا أوجبه الله على نفسه وقضى به بأن وعد به وعدا لا يمكن خلفه. وقيل أقسم عليه.

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) فيساقون إلى الجنة وقرأ الكسائي ويعقوب ننجي بالتخفيف ، وقرئ ثم بفتح الثاء أي هناك. (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) منهارا بهم كما كانوا ، وهو دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد تجاثيهم ، وتبقى الفجرة فيها منهارا بهم على هيئاتهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)(٧٣)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو واضحات الإعجاز. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأجلهم أو معهم. (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) المؤمنين والكافرين. (خَيْرٌ مَقاماً) موضع قيام أو مكانا. وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل. (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) مجلسا ومجتمعا والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها ، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى ، لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا فرد عليهم ذلك أيضا مع التهديد نقضا بقوله :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)(٧٤)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) و (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنْ قَرْنٍ) بيانه ، وإنما سمي أهل كل عصر قرنا أي مقدما من قرن الدابة. وهو مقدمها لأنه يتقدم من بعده ، وهم أحسن صفة لكم و (أَثاثاً) تمييز عن النسبة وهو متاع البيت. وقيل هو ما جد منه والخرثي ما رث والرئي المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن والخبز ، وقرأ نافع وابن عامر «ريا» على قلب الهمزة وإدغامها أو على أنه من الري الذي هو النعمة ، وقرأ أبو بكر «رييا» على القلب ، وقرئ «ريا» بحذف الهمزة وزيا» من الزي وهو الجمع


فإنه محاسن مجموعة ، ثم بين أن تمتيعهم استدراج وليس بإكرام وإنما العيار على الفضل والنقص ما يكون في الآخرة بقوله :

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً)(٧٥)

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به ، وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره كقوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وكقوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) غاية المد. وقيل غاية قول الذين كفروا للذين آمنوا أي قالوا أي الفريقين خير حتى إذا رأوا ما يوعدون. (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) تفصيل للموعود فإنه إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) من الفريقين بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدروه وعاد ما متعوا به خذلانا ووبالا عليهم ، وهو جواب الشرط والجملة محكية بعد (حَتَّى). (وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي فئة وأنصارا قابل به أحسن نديا من حيث إن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(٧٦)

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله ، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله عزوجل أراد به ما هو خير له وعوضه منه ، وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد الله في ضلاله ويزيد المقابل له هداية. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد ، ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله : (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء ، أي أبلغ في حره منه في برده.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٧٨)

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) نزلت في العاص بن وائل كان لخباب عليه مال فتقاضاه فقال له : لا حتى تكفر بمحمد فقال : لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث ، قال فإذا بعثت جئتني فيكون لي ثم مال وولد فأعطيك. ولما كانت الرؤية أقوى سند الإخبار استعمل أرأيت بمعنى الإخبار ، والفاء على أصلها في التعقيب والمعنى : أخبر بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك. وقرأ حمزة والكسائي «ولدا» وهو جمع ولد كأسد في أسد أو لغة فيه كالعرب والعرب.

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أقد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وتألى عليه. (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أو اتخذ من عالم الغيب عهدا بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين. وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد عليه.


(كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)(٨٠)

(كَلَّا) ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه. (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) سنظهر له أنا كتبنا قوله على طريقة قوله :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي تبين أني لم تلدني لئيمة ، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو وحفظها عليه فإن نفس الكتابة لا تتأخر عن القول لقوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ونطول له من العذاب ما يستأهله ، أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه واستهزائه على الله جلت عظمته ، ولذلك أكده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه. (وَنَرِثُهُ) بموته. (ما يَقُولُ) يعني المال والولد. (وَيَأْتِينا) يوم القيامة. (فَرْداً) لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يؤتى ثم زائدا وقيل (فَرْداً) رافضا لهذا القول منفردا عنه.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)(٨٢)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم وصلة إلى الله وشفعاء عنده.

(كَلَّا) ردع وإنكار لتعززهم بها. (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) ستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ). (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز ، أي ويكونون عليهم ذلا ، أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم ، أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم ، فإنهم بذلك كالشيء الواحد ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام «وهم يد على من سواهم». وقرئ (كَلَّا) بالتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله :

أقلي اللّوم عاذل والعتابن

أو على معنى كل هذا الرأي كلا وكلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(٨٤)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) بأن سلطناهم عليهم أو قيضنا لهم قرناء. (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تهزهم وتعزيهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات ، والمراد تعجيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقاويل الكفرة وتماديهم في الغي وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة.

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بأن يهلكوا حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم. (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ) أيام آجالهم. (عَدًّا) والمعنى لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبقى لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة.


(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)(٨٥)

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) نجمعهم. (إِلَى الرَّحْمنِ) إلى ربهم الّذي غمرهم برحمته ، ولاختيار هذا الاسم في هذه السورة شأن ولعله لأن مساق هذا الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها (وَفْداً) وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم.

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٨٧)

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) كما تساق البهائم. (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) عطاشا فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش ، أو كالدواب الّتي ترد الماء.

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) الضمير فيها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وهو الناصب لليوم. (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى ، أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى : (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به ، ومحله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ ، أو على الاستثناء. وقيل الضمير للمجرمين والمعنى : لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يستعد به أن يشفع له بالإسلام.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا)(٩٠)

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) الضمير يحتمل الوجهين لأن هذا لما كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم.

(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) على الالتفات للمبالغة في الذم والتسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى ، والأد بالفتح والكسر العظيم المنكر والإدة الشدة وأدنى الأمر ، وآدني أثقلني وعظم عليّ.

(تَكادُ السَّماواتُ) وقرأ نافع والكسائي بالياء. (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) يتشققن مرة بعد أخرى ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب «ينفطرن» ، والأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف. (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تهد هدا أو مهدودة ، أو لأنها تهد أي تكسر وهو تقرير لكونه أدا ، والمعنى : أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفتت من شدتها ، أو أن فظاعتها مجلبة لغضب الله بحيث لولا حلمه لخرب العالم وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها.

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)(٩٢)

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) يحتمل النصب على العلة ل (تَكادُ) أو ل (هَدًّا) على حذف اللام وإفضاء الفعل إليه ، والجر بإضمار اللام أو بالإبدال من الهاء في منه والرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك (أَنْ دَعَوْا) ، أو فاعل (هَدًّا) أي هدها دعاء الولد للرحمن وهو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين ، وإنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولدا ، أو من دعا بمعنى نسب الّذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ولا يليق به اتخاذ الولد ولا ينطلب له لو طلب مثلا له لأنه


مستحيل ، ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمة ومنعم عليه فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلها ومولي أصولها وفروعها ، فكيف يمكن أن يتخذه ولدا ثم صرح به في قوله :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٩٥)

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما منهم. (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد ، وقرئ «آت الرّحمن» على الأصل.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه وقبضة قدرته. (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار.

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) منفردا عن الاتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولدا ولا يناسبه ليشرك به.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا)(٩٧)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم توضع له المحبة في الأرض». والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام ، أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) بأن أنزلناه بلغتك ، والباء بمعنى على أو على أصله لتضمن (يَسَّرْناهُ) معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك. (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) الصائرين إلى التقوى. (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أشداء الخصومة آخذين في كل لديد ، أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به وأنذر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنذارهم. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بأحد منهم وتراه. (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) وقرئ (تَسْمَعُ) من أسمعت والركز الصوت الخفي ، وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله».


(٢٠) سورة طه

مكية وهي مائة أربع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه) (١)

(طه) فخمها قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل ، وفخم الطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه وأمالهما الباقون. وهما من أسماء الحروف. وقيل معناه يا رجل على لغة عك ، فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار والاستشهاد بقوله :

إنّ السفاهة طاها في خلائقكم

لا قدّس الله أخلاق الملاعين

ضعيف لجواز أن يكون قسما كقوله حم لا ينصرون ، وقرئ (طه) على أنه أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه ، فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ ألفا كقوله : لا هناك المرتع. ثم بني عليه الأمر وضم إليه هاء السكت وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل (طه) طأها والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية الأرض ، لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف وكذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى)(٣)

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) خبر (طه) إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة ، أو (الْقُرْآنَ) والقرآن فيه واقع موقع العائد وجوابه إن جعلته مقسما به ومنادى له إن جعلته نداء ، واستئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ ، أو طائفة من الحروف محكية والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ ، أو بكثرة الرياضة وكثرة التهجد والقيام على ساق. والشقاء شائع بمعنى التعب ومنه أشقى من رائض المهر ، وسيد القوم أشقاهم. ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد. وقيل رد وتكذيب للكفرة ، فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به.

(إِلَّا تَذْكِرَةً) لكن تذكيرا ، وانتصابها على الاستثناء المنقطع ، ولا يجوز أن يكون بدلا من محل (لِتَشْقى) لاختلاف الجنسين ولا مفعولا له ل (أَنْزَلْنا) ، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين. وقيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن ، أو مفعول له على أن (لِتَشْقى) متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة. (لِمَنْ يَخْشى) لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإنذار ، أو لمن علم الله منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤)

(تَنْزِيلاً) نصب بإضمار فعله أو ب (يَخْشى) ، أو على المدح أو البدل من (تَذْكِرَةً) إن جعل حالا ،


وإن جعل مفعولا له لفظا أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه ولا بنوعه. (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) مع ما بعده إلى قوله (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل ، فبدأ بخلق الأرض والسموات الّتي هي أصول العالم ، وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى ، وهو جمع العليا تأنيث الأعلى ، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير ، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(٦)

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ليدل بذلك على كمال قدرته وإرادته ، ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال :

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧)

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه ، وهو ضمير النفس. وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار ، ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها والمتوحد بمقتضاها فقال :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٨)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ومن في (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) صلة ل (تَنْزِيلاً) أو صفة له ، والانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن ، ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإكرام والتنبيه على أنه واجب الإيمان به والانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه ، ويجوز أن يكون أنزلنا حكاية كلام جبريل والملائكة النازلين معه. وقرئ (الرَّحْمنُ) على الجر صفة لمن خلق فيكون (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) خبر محذوف ، وكذا إن رفع (الرَّحْمنُ) على المدح دون الابتداء ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ، والثرى الطبقة الترابية من الأرض وهي آخر طبقاتها ، و (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن ، وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١٠)

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) قفى تمهيد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.

(إِذْ رَأى ناراً) ظرف لل (حَدِيثُ) لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا. (فَقالَ لِأَهْلِهِ


امْكُثُوا) أقيموا مكانكم. وقرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا» ، وفي «القصص» بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها. (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه ، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) بشعلة من النار وقيل جمرة. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين ، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. ولما كان حصولهما مترتبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس ، فإنه كان محققا ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه ، ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في : مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)(١٢)

(فَلَمَّا أَتاها) أي النار وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. (نُودِيَ يا مُوسى).

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فتحه ابن كثير وأبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه ، وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق. قيل إنه لما نودي قال : من المتكلم قال : إني أنا الله ، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء. وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى من ربه كلامه تلقيا روحانيا ، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين. وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال. (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين. (طُوىً) عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان. وقيل هو كثني من الطي مصدر ل (نُودِيَ) أو (الْمُقَدَّسِ) أي : نودي نداءين أو قدس مرتين.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١٤)

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة «وأنّا اخترناك». (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) للذي يوحى إليك ، أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة الّتي أناط بها إقامتها ، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وقيل (لِذِكْرِي) لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالثناء ، أو (لِذِكْرِي) خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري. وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦)

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) كائنة لا محالة. (أَكادُ أُخْفِيها) أريد إخفاء وقتها ، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولو لا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به ، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه ، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق ب (آتِيَةٌ) أو ب


(أُخْفِيها) على المعنى الأخير.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) عن تصديق الساعة ، أو عن الصلاة. (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها ، والمراد نهيه أن ينصد عنها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها ، وأنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها. (فَتَرْدى) فتهلك بالانصداد بصده.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(١٨)

(وَما تِلْكَ) استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب. (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة ، وقيل صلة (تِلْكَ). (يا مُوسى) تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه.

(قالَ هِيَ عَصايَ) وقرئ «عصيّ» على لغة هذيل. (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي ، وقرئ «أهش» وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته ، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجرا لها. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته ، وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل به ، وإذا قصر الرشاء وصله بها ، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها ، وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها ، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع ، وتصيران دلوا عند الاستقاء ، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو ، وينبع الماء بركزها ، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها ، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها ، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلا ومجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)(٢١)

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدأ وثعبانا مرة باعتبار المنتهى ، وحية أخرى باعتبار الاسم الّذي يعم الحالين. وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال (كَأَنَّها جَانٌّ).

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها. (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) هيئتها وحالتها المتقدمة ، وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه ، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى(٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)(٢٤)


(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر ، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) كأنها مشعة. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير عاهة وقبح ، كني به عن البرص كما كني بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه. (آيَةً أُخْرى) معجزة ثانية وهي حال من ضمير (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أو من ضميرها ، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة الّتي دللنا بها ، أو فعلنا ذلك (لِنُرِيَكَ) و (الْكُبْرى) صفة (آياتِنَا) أو مفعول «نريك» و (مِنْ آياتِنَا) حال منها.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة. (إِنَّهُ طَغى) عصى وتكبر.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي)(٢٨)

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه ، والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع ، وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولا ، ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيدا ومبالغة.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه ، وذلك أن فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته ونتفها ، فغضب وأمر بقتله فقالت آسية : إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت ، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه. ولعل تبييض يده كان لذلك. وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الّذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ومن لم يقل احتج بقوله (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) وقوله (وَلا يَكادُ يُبِينُ) وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر ، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة وأن يكون صلة احلل.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(٣٢)

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) يعينني على ما كلفتني به ، واشتقاق الوزير إما من الوزر لأنه يحمل الثقل عن أميره ، أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره ، ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر. ومفعولا اجعل (وَزِيراً) ، و (هارُونَ) قدم ثانيهما للعناية به و (لِي) صلة أو حال أو (لِي وَزِيراً) و (هارُونَ) عطف بيان للوزير ، أو (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) و (لِي) تبيين كقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). و (أَخِي) على الوجوه بدل من (هارُونَ) أو مبتدأ خبره.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر.

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٣٥)

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا ، وأن هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به.


(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى)(٣٨)

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي مسؤولك ، فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي أنعمنا عليك في وقت آخر.

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك. لا على وجه النبوة. كما أوحي إلى مريم. (ما يُوحى) ما لا يعلم إلا بالوحي ، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به.

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)(٣٩)

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) بأن اقذفيه ، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول. (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) والقذف يقال للإلقاء وللوضع كقوله تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وكذلك الرمي كقوله : غلام رماه الله بالحسن يافعا. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به ، جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم ، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب (فَلْيُلْقِهِ) وتكرير (عَدُوٌّ) للمبالغة ، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع. قيل إنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قبرته وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون ، ويجوز أن يتعلق (مِنِّي) ب (أَلْقَيْتُ) أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه ، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك ، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك ، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك. وقرئ (وَلِتُصْنَعَ) بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر (وَلِتُصْنَعَ) بالنصب وفتح التاء أي وليكون عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى)(٤٠)

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ظرف ل (أَلْقَيْتُ) أو (لِتُصْنَعَ) أو بدل من (إِذْ أَوْحَيْنا) على أن المراد بها وقت متسع. (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع ، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ) فجاءت بأمه فقبل ثديها. (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) وفاء بقولنا (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك. (وَلا تَحْزَنَ) هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الإسرائيلي. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) غم قتله خوفا


من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) وابتليناك ابتلاء ، أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة ، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألّاف ، والمشي راجلا على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين ، ومدين على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر ، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. (يا مُوسى) كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)(٤٢)

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) بمعجزاتي. (وَلا تَنِيا) ولا تفترا ولا تقصرا ، وقرئ (تَنِيا) بكسر التاء. (فِي ذِكْرِي) لا تنسياني حيثما تقلبتما. وقيل في تبليغ ذكري والدعاء إليّ.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٤٤)

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أمر به أولا موسى عليه الصلاة والسلام وحده وهاهنا إياه وأخاه فلا تكرير. قيل أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى ، وقيل سمع بمقبله فاستقبله.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) مثل (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما ، أو احتراما لما له من حق التربية عليك. وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. وقيل عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا يزول إلا بالموت. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) متعلق ب (اذْهَبا) أو «قولا» أي : باشرا الأمر على رجائكما. وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما ، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف ، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ، ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى)(٤٦)

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة ، من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فرط يسبق الخيل. وقرئ «يفرط» من أفرطته إذا حملته على العجلة ، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعاجلة بالعقاب ، و «يفرط» من الإفراط في الأذية. (أَوْ أَنْ يَطْغى) أو أن يزداد طغيانا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) بالحفظ والنصر. (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما ، ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعا ومبصرا ، والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تم الحفظ.


(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(٤٨)

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أطلقهم. (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان ، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام ، وتعقيب الإتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان ، ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة ، وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها ، وكذلك قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) ، (فَأْتِ بِآيَةٍ) ، (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ). (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين ، أو السلامة في الدارين لهم.

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل ، ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٥٠)

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أن بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به ، ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة ، وإنما خاطب الاثنين وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه الأصل وهارون وزيره وتابعه ، أو لأنه عرف أن له رتة ولأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه ويدل عليه قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ).

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) من الأنواع (خَلْقَهُ) صورته وشكله الّذي يطابق كماله الممكن له ، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه. وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا. وقرئ خلقه صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي : أعطى كل مخلوق ما يصلحه. (ثُمَّ هَدى) ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا ، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت الّذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إلّا صرف الكلام عنه.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)(٥٢)

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة.

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي هو غيب لا يعلمه إلا هو وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به. (فِي كِتابٍ) مثبت في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون تمثيلا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة ويؤيده. (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) والضلال أن تخطئ الشيء في مكانه فلم تهتد إليه ، والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك ، وهما محالان على العالم بالذات ، ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلها وتخصيصه أبعاضها بالصور والخواص المختلفة ، بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها ، والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم


وبأجزائهم وأحوالهم فيكون معنى الجواب : أن علمه تعالى محيط بذلك كله وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى)(٥٣)

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) مرفوع صفة ل (رَبِّي) أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح. وقرأ الكوفيون هنا وفي «الزخرف» (مَهْداً) أي كالمهد تتمدونها ، وهو مصدر سمي به ، والباقون مهادا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الّذي في «النبأ». (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وجعل لكم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ) عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى ، تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته ، وعلى هذا نظائره كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) الآية. (أَزْواجاً) أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض. (مِنْ نَباتٍ) بيان أو صفة لأزواجا وكذلك : (شَتَّى) ويحتمل أن يكون صفة لـ

(نَباتٍ) فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع ، وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال:

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)(٥٥)

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وهو حال من ضمير (فَأَخْرَجْنا) على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين (كُلُوا وَارْعَوْا) ، والمعنى معديها لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت وتفكيك الأجزاء. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى)(٥٧)

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) بصرناه إياها أو عرفناه صحتها. (كُلَّها) تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد ، على أن المراد بآياتنا آيات معهودة وهي الآيات التسع المختصة بموسى ، أو أنه عليه‌السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات (فَكَذَّبَ) موسى من فرط عناده. (وَأَبى) الإيمان والطاعة لعتوه ..

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أرض مصر. (بِسِحْرِكَ يا مُوسى) هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كونه محقا حتى خاف منه على ملكه ، فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً)(٥٨)

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) مثل سحرك. (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) وعدا لقوله : (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا


أَنْتَ) فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان وانتصاب. (مَكاناً سُوىً) بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف ، أو بأنه بدل من (مَوْعِداً) على تقدير مكان مضاف إليه وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله.

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(٥٩)

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم ، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول ، أو وعدكم وعد يوم الزينة ، وقرئ «يوم» بالنصب وهو ظاهر في أن المراد بهما المصدر ، ومعنى (سُوىً) منتصفا يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم : قوم عدي في الشذوذ ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بالضم ، وقيل في (يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم عيد كان لهم في كل عام ، وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) عطف على ال (يَوْمُ) أو (الزِّينَةِ) ، وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير ال (يَوْمُ) أو ضمير (فِرْعَوْنُ) على أن الخطاب لقومه.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى)(٦١)

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ما يكاد به يعني السحرة وآلاتهم. (ثُمَّ أَتى) الموعد.

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تدعوا آياته سحرا. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) فيهلككم ويستأصلكم ، وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب بالضم من الاسحات وهو لغة نجد وتميم ، والسحت لغة الحجاز. (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)(٦٣)

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم : ليس هذا من كلام السحرة. (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) بأن موسى إن غلبنا اتبعنا أو تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السر. وقيل الضمير لفرعون وقومه وقوله :

(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) تفسير ل (أَسَرُّوا النَّجْوى) كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس ، و (هذانِ) اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا. وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و (هذانِ لَساحِرانِ) خبرها. وقيل (إِنْ) بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ. وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف ، وقرأ أبو عمرو «إن هذين» وهو ظاهر ، وابن كثير وحفص (إِنْ هذانِ) على أنها هي المخففة واللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا. (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) بالاستيلاء عليها. (بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ). وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ). وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.


(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥)

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) فأزمعوه واجعلوه مجمعا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم. وقرأ أبو عمرو (فَأَجْمِعُوا) ويعضده قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) والضمير في (قالُوا) إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. قيل كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل عصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و (أَنْ) بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف ، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)(٦٦)

(قالَ بَلْ أَلْقُوا) مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم ، وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ ، ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم ، وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا ينصبها وجملة تضاف إليها ، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح «تخيل» بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي ، وإبدال أنها (تَسْعى) منه بدل الاشتمال ، وقرئ «يخيل» بالياء على إسناده إلى الله تعالى ، و «تخيل» بمعنى تتخيل.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩)

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.

(قُلْنا لا تَخَفْ) ما توهمت. (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف ، وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة الّتي في يدك ، أو تعظيما لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه. (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) تبتلعه بقدرة الله تعالى ، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين ، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته. (إِنَّما صَنَعُوا) أن الّذي زوروا وافتعلوا. (كَيْدُ ساحِرٍ) وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا. وقرأ حمزة والكسائي «سحر» بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه ، وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس وتنكير الأول


لتنكير المضاف كقول العجاج :

يوم ترى النّفوس ما أعدّت

في سعي دنيا طالما قد مدّت

كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري. (حَيْثُ أَتى) حيث كان وأين أقبل.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠)

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية ، أو لأن فرعون ربي موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع. روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١)

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى واللام لتضمن الفعل معنى الاتباع. وقرأ قنبل وحفص (آمَنْتُمْ لَهُ) على الخبر والباقون على الاستفهام. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) في الإيمان له. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به أو لأستاذكم. (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ومن ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو وهي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال ، أي لأقطعنها مختلفات وقرئ «لأقطعن» «ولأصلبن» بالتخفيف. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف وهو أول من صلب. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) يريد نفسه وموسى لقوله (آمَنْتُمْ لَهُ) واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله أراد به توضيع موسى والهزء به ، فإنه لم يكن من التعذيب في شيء. وقيل رب موسى الّذي آمنوا به. (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) وأدوم عقابا.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(٧٣)

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك. (عَلى ما جاءَنا) موسى به ، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما. (مِنَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات. (وَالَّذِي فَطَرَنا) عطف على ما جاءنا أو قسم. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده. وقرئ «تقضي هذه الحياة الدنيا» كقولك : صيم يوم الجمعة.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) من الكفر والمعاصي. (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) من معارضة المعجزة. روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما فوجدوه تحرسه العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) جزاء أو خير ثوابا وأبقى عقابا.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦)


(إِنَّهُ) إن الأمر. (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) بأن يموت على كفره وعصيانه. (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح. (وَلا يَحْيى) حياة مهنأة.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) في الدنيا. (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) المنازل الرفيعة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الدرجات. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار. (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، والآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٧٧)

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي من مصر. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) فاجعل لهم ، من قولهم ضرب له في ماله سهما أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله. (فِي الْبَحْرِ يَبَساً) يابسا مصدر وصف به يقال يبس يبسا ويبسا كسقم سقما وسقما ، ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها ، وقرئ «يبسا» وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله :

كأنّ قتود رحلي حين ضمّت

حوالب غرزا ومعي جياعا

أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقا. (لا تَخافُ دَرَكاً) حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو ، أو صفة ثانية والعائد محذوف ، وقرأ حمزة «لا تخف» على أنه جواب الأمر. (وَلا تَخْشى) استئناف أي وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه والألف فيه للإطلاق كقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(٧٩)

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) وذلك أن موسى عليه‌السلام خرج بهم أول الليل فأخبر فرعون بذلك فقص أثرهم ، والمعنى فاتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول الثاني. وقيل (فَأَتْبَعَهُمْ) بمعنى فاتبعهم ويؤيده القراءة به والباء للتعدية وقيل الباء مزيدة والمعنى : فاتبعهم جنوده وذادهم خلفهم. (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الضمير لجنوده أوله ولهم ، وفيه مبالغة ووجازة أي : غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله. وقرئ «فغشاهم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الّذي ورطهم للهلاك.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أو أضلهم في البحر وما نجا.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)(٨٠)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا ، أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل بآبائهم. (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه ، وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أوله وللسبعين المختارين للملابسة. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) يعني في التيه.


(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى(٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٨٢)

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لذائذه أو حلالاته ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيتكم» «وواعدتكم» و «ما رزقتكم» على التاء. وقرئ «ووعدتكم» «ووعدناكم» ، والأيمن بالجر على الجوار مثل : جحر ضب خرب. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق. (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) فقد تردى وهلك ، وقيل وقع في الهاوية ، وقرأ الكسائي «يحل» و (يَحْلِلْ) بالضم من حل يحل إذا نزل.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) عن الشرك. (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به. (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ثم استقام على الهدى المذكور.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)(٨٤)

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة في نفسها انضم إليها إغفال القوم وإيهام التعظم عليهم فلذلك أجاب موسى عن الأمرين وقدم جواب الإنكار لأنه أهم.

(قالَ) موسى. (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي ما تقدمتهم إلا بخطا يسيرة لا يعتد بها عادة وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا. (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مرضاتك.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)(٨٦)

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته ، وقرئ «وأضلّهم» أي أشدهم ضلالا لأنه كان ضالا مضلا ، وإن صح أنهم أقاموا على الدين بعد ذهابه عشرين ليلة وحسبوها بأيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل ، وإن هذا الخطاب كان له عند مقدمه إذ ليس في الآية ما يدل عليه كان ذلك إخبارا من الله له عن المترقب بلفظ الواقع على عادته ، فإن أصل وقوع الشيء أن يكون في علمه ومقتضى مشيئته ، و (السَّامِرِيُ) منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل كان علجا من كرمان. وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة (غَضْبانَ) عليهم. (أَسِفاً) حزينا بما فعلوا. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) وبأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي الزمان يعني زمان مفارقته لهم. (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ) يجب عليكم. (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)


بعبادة ما هو مثل في الغباوة. (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله والقيام على ما أمرتكم به ، وقيل هو من أخلفت وعده إذا وجدت الخلف فيه ، أي فوجدتم الخلف في وعدي لكم بالعود بعد الأربعين ، وهو لا يناسب الترتيب على الترديد ولا على الشق الّذي يليه ولا جوابهم له.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(٨٩)

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول لنا السامري لما أخلفناه ، وقرأ نافع وعاصم (بِمَلْكِنا) بالفتح وحمزة والكسائي بالضم وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) حملنا أحمالا من حلي القبط الّتي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل استعاروا لعيد كان لهم ، ثم لم يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به ، وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه ولعلهم سموها أوزارا لأنها آثام ، فإن الغنائم لم تكن تحل بعد أو لأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي. (فَقَذَفْناها) أي في النار. (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي ما كان معه منها. روي أنهم لما حسبوا أن العدة قد كملت قال لهم السامري: إنما أخلف موسى ميعادكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم ، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف كل ما معنا فيها ففعلوا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وروح (حُمِّلْنا) بالفتح والتخفيف.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) من تلك الحلي المذابة. (لَهُ خُوارٌ) صوت العجل. (فَقالُوا) يعني السامري ومن افتتن به أول ما رآه. (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي فنسيه موسى وذهب يطلبه عند الطور ، أو فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

(أَفَلا يَرَوْنَ) أفلا يعلمون. (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا. وقرئ (يَرْجِعُ) بالنصب وفيه ضعف لأن أن الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٩١)

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) من قبل رجوع موسى عليه الصلاة والسلام ، أو قول السامري كأنه أول ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهم ذلك وبادر تحذيرهم. (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) بالعجل. (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) لا غيره. (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في الثبات على الدين.

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) على العجل وعبادته. (عاكِفِينَ) مقيمين. (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وهذا الجواب يؤيد الوجه الأول.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤)

(قالَ يا هارُونُ) أي قال له موسى حين رجع. (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل.


(أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أن تتبعني في الغضب لله والمقاتلة مع من كفر به ، أو أن تأتي عقبي وتلحقني و «لا» مزيدة كما في قوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ). (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بالصلابة في الدين والمحاماة عليه.

(قالَ يَا بْنَ أُمَ) خص الأم استعطافا وترقيقا ، وقيل لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كانا من أب وأم. (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعر رأسي قبض عليهما يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان عليه الصلاة والسلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض. (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) حين قلت (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) فإن الإصلاح كان في حفظ الدهماء والمداراة لهم إلى أن ترجع إليهم فتتدارك الأمر برأيك.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(٩٦)

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ثم أقبل عليه وقال له منكرا ما خطبك أي ما طلبك له وما الّذي حملك عليه ، وهو مصدر خطب الشيء إذا طلبه.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب أي علمت بما لم تعلموه وفطنت لما لم تفطنوا له ، وهو أن الرسول الّذي جاءك روحاني لا يمس أثره شيئا إلا أحياه ، أو رأيت ما لم تروه وهو أن جبريل عليه الصلاة والسلام جاءك على فرس الحياة. وقيل إنما عرفه لأن أمه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون وكان جبريل يغذوه حتى استقل. (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) من تربة موطئه والقبضة المرة من القبض فأطلق على المقبوض كضرب الأمير ، وقرئ بالصاد والأول للأخذ بجميع الكف والثاني للأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم ، والرسول جبريل عليه الصلاة والسلام ولعله لم يسمه لأنه لم يعرف أنه جبريل أو أراد أن ينبه على الوقت وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطور. (فَنَبَذْتُها) في الحلي المذاب أو في جوف العجل حتى حيي. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) زينته وحسنته لي.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٩٧)

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) عقوبة على ما فعلت. (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) خوفا من أن يمسك أحد فتأخذك الحمى ومن مسك فتتحامى الناس ويتحاموك وتكون طريدا وحيدا كالوحش النافر ، وقرئ «لا مساس» كفجار وهو علم للمسة. (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) في الآخرة. (لَنْ تُخْلَفَهُ) لن يخلفكه الله وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر اللام أي لن تخلف الواعد إياه وسيأتيك لا محالة ، فحذف المفعول الأول لأن المقصود هو الموعد ويجوز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا ، وقرئ بالنون على حكاية قول الله. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ظللت على عبادته مقيما فحذف اللام الأولى تخفيفا ، وقرئ بكسر الظاء على نقل حركة اللام إليها. (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي بالنار ويؤيده قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ، أو بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذ برد بالمبرد ويعضده قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ). (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) ثم لنذرينه رمادا أو مبرودا وقرئ بضم السين. (فِي الْيَمِّ نَسْفاً) فلا يصادف منه شيء والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨).


(إِنَّما إِلهُكُمُ) المستحق لعبادتكم. (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة. (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وسع علمه كل ما يصح أن يعلم لا العجل الّذي يصاغ ويحرق وإن كان حيا في نفسه كان مثلا في الغباوة ، وقرئ (وَسِعَ) فيكون انتصاب (عِلْماً) على المفعولية لأنه وإن انتصب على التمييز في المشهورة لكنه فاعل في المعنى فلما عدي الفعل بالتضعيف إلى المفعولين صار مفعولا.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)(٩٩)

(كَذلِكَ) مثل ذلك الاقتصاص يعني اقتصاص قصة موسى عليه الصلاة والسلام. (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أخبار الأمور الماضية والأمم الدارجة تبصرة لك وزيادة في علمك وتكثيرا لمعجزاتك وتنبيها وتذكيرا للمستبصرين من أمتك. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كتابا مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار ، والتنكير فيه للتعظيم. وقيل ذكرا جميلا وصيتا عظيما بين الناس.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)(١٠١)

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) عن الذكر الّذي هو القرآن الجامع لوجوه السعادة والنجاة وقيل عن الله. (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) عقوبة ثقيلة فادحة على كفره ، وذنوبه سماها (وِزْراً) تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الّذي يفدح الحامل وينقض ظهره ، أو إثما عظيما.

(خالِدِينَ فِيهِ) في الوزر أو في حمله ، والجمع فيه والتوحيد في أعرض للحمل على المعنى واللفظ. (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره (حِمْلاً) ، والمخصوص بالذم محذوف أي ساء حملا وزرهم ، واللام في (لَهُمْ) للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ) ولو جعلت (ساءَ) بمعنى أحزن والضمير الّذي فيه للوزر أشكل أمر اللام ونصب (حِمْلاً) ولم يفد مزيد معنى.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)(١٠٢)

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وقرأ أبو عمرو بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له أو للنافخ. وقرئ بالياء المفتوحة على أن فيه ضمير الله أو ضمير إسرافيل وإن لم يجر ذكره لأنه المشهور بذلك ، وقرئ «في الصور» وهو جمع صورة وقد سبق بيان ذلك (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ) وقرئ «ويحشر المجرمون» (زُرْقاً) زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العين ولذلك قالوا في صفة العدو : أسود الكيد ، أصهب السبال ، أزرق العين أو عميا ، فإن حدقة الأعمى تزراق.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)(١٠٤)

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) يخفضون أصواتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول والخفت خفض الصوت وإخفاؤه. (إِنْ) ما (لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي في الدنيا يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها ، أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وعلموا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات ، أو في القبر لقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) إلى آخر الآيات.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) وهو مدة لبثهم. (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أعدلهم رأيا أو عملا. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) استرجاح لقول من يكون أشد ثقالا منهم.


(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)(١٠٧)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) عن مآل أمرها وقد سأل عنها رجل من ثقيف. (فَقُلْ) لهم. (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها.

(فَيَذَرُها) فيذر مقارها ، أو الأرض وإضمارها من غير ذكر لدلالة (الْجِبالِ) عليها كقوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). (قاعاً) خاليا (صَفْصَفاً) مستويا كأن أجزاءها على صف واحد.

(لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) اعوجاجا ولا نتوا إن تأملت فيها بالقياس الهندسي ، وثلاثتها أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس ولذلك ذكر العوج بالكسر وهو يخص بالمعاني ، والأمت وهو النتوء اليسير وقيل لا ترى استئناف مبين للحالين.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(١٠٩)

(يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ نسفت على إضافة اليوم إلى وقت النسف ، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) داعي الله إلى المحشر ، قيل هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس فيقبلون من كل أوب إلى صوبه (لا عِوَجَ لَهُ) لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) خفضت لمهابته. (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيا ومنه الهميس لصوت أخفاف الإبل ، وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) الاستثناء من الشفاعة أي إلا شفاعة من أذن له أو من أعم المفاعيل ، أي إلا من أذن في أن يشفع له فإن الشفاعة تنفعه ، ف (مَنْ) على الأول مرفوع على البدلية وعلى الثاني منصوب على المفعولية و (أَذِنَ) يحتمل أن يكون من الاذن ومن الأذن. (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه ، أو قوله لأجله وفي شأنه.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)(١١١)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما تقدمهم من الأحوال. (وَما خَلْفَهُمْ) وما بعدهم مما يستقبلونه. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ولا يحيط علمهم بمعلوماته ، وقيل بذاته وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما ، فإنهم لم يعلموا جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ذلت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى في يد الملك القهار ، وظاهرها يقتضي العموم ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين فتكون اللام بدل الإضافة ويؤيده. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وهو يحتمل الحال والاستئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)(١١٣)

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بعض الطاعات. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول


الخيرات. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) منع ثواب مستحق بالوعد (وَلا هَضْماً) ولا كسرا منه بنقصان أو جزاء ظلم وهضم لأنه لم يظلم غيره ولم يهضم حقه ، وقرئ «فلا يخف» على النهي.

(وَكَذلِكَ) عطف على كذلك نقص أي مثل ذلك الإنزال أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) كله على هذه الوتيرة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) مكررين فيه آيات الوعيد. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي فتصير التقوى لهم ملكة. (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) عظة واعتبارا حين يسمعونها فتثبطهم عنها ، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(١١٤)

(فَتَعالَى اللهُ) في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته ذاتهم.

(الْمَلِكُ) النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده. (الْحَقُ) في ملكوته يستحقه لذاته ، أو الثابت في ذاته وصفاته (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل عليه‌السلام ومساوقته في القراءة حتى يتم وحيه بعد ذكر الإنزال على سبيل الاستطراد. وقيل نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه. (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحى إليك تناله لا محالة.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١١٥)

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ولقد أمرناه يقال تقدم الملك إليه وأوعز إليه وعزم عليه وعهد إليه إذا أمره ، واللام جواب قسم محذوف وإنما عطف قصة آدم على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان وعرقهم راسخ في النسيان. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هذا الزمان. (فَنَسِيَ) العهد ولم يعن به حتى غفل عنه ، أو ترك ما وصي به من الاحتراز عن الشجرة. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) تصميم رأي وثباتا على الأمر إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان ولم يستطع تغريره ، ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق شريها وأريها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه وقد قال الله تعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)». وقيل عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده و (نَجِدْ) وإن كان من الوجود الّذي بمعنى العلم ف (لَهُ عَزْماً) مفعولاه ، وإن كان من الوجود المناقض للعدم فله حال من عزما أو متعلق بنجد.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧)

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) مقدر باذكر أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد سبق القول فيه. (أَبى) جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود وهو الاستكبار وعلى هذا لا يقدر له مفعول مثل السجود المدلول عليه بقوله (فَسَجَدُوا) لأن المعنى أظهر الإباءة عن المطاوعة.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما) فلا يكونن سببا لإخراجكما ، والمراد نهيهما عن أن يكون بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما. (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل ، أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيده قوله.


(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(١١٩)

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى).

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف الّتي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنيا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها ، والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه. وقرأ نافع وأبو بكر (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) بكسر الهمزة والباقون بفتحها.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)(١٢٢)

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) فانتهى إليه وسوسته. (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الشجرة الّتي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا. فأضافها إلى الخلد أي الخلود لأنها سببه بزعمه. (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا يزول ولا يضعف.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر وهو ورق التين (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بأكل الشجرة. (فَغَوى) فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة ، أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو. وقرئ «فغوى» من غوى الفصيل إذا أتخم من اللبن وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة وزجر بليغ لأولاده عنها.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من أجبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها ، وأصل معنى الكلمة الجمع. (فَتابَ عَلَيْهِ) فقبل توبته لما تاب. (وَهَدى) إلى الثبات على التوبة والتشبث بأسباب العصمة.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)(١٢٤)

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) الخطاب لآدم وحواء ، أوله ولإبليس ولما كانا أصليّ الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب ، أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) كتاب ورسول. (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) في الدنيا. (وَلا يَشْقى) في الآخرة.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي. (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقرئ «ضنكى» كسكرى ، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآيات ، وقيل هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل عذاب القبر (وَنَحْشُرُهُ) قرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفا على محل (فَإِنَّ لَهُ


مَعِيشَةً ضَنْكاً) لأنه جواب الشرط. (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول.

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)(١٢٧)

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) وقد أمالهما حمزة والكسائي لأن الألف منقلبة من الياء ، وفرق أبو عمرو بأن الأول رأس الآية ومحل الوقف فهو جدير بالتغيير.

(قالَ كَذلِكَ) أي مثل ذلك فعلت ثم فسره فقال : (أَتَتْكَ آياتُنا) واضحة نيرة. (فَنَسِيتَها) فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها. (وَكَذلِكَ) ومثل تركك إياها. (الْيَوْمَ تُنْسى) تترك في العمى والعذاب.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات. (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بل كذب بها وخالفها. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) وهو الحشر على العمى ، وقيل عذاب النار أي وللنار بعد ذلك (أَشَدُّ وَأَبْقى) من ضنك العيش أو منه ومن العمى ، ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وحاله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى(١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(١٢٩)

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه. (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها ، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ويشاهدون آثار هلاكهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة. (لَكانَ لِزاماً) لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازما لهؤلاء الكفرة ، وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على كلمة أي ولو لا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم ، أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزاما والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ، ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه ، أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه المولى للنعم كلها. (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني الفجر. (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده. (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر ، أو أناء بالفتح والمد. (فَسَبِّحْ) يعني المغرب والعشاء وإنما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ولذلك قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً). (وَأَطْرافَ النَّهارِ) تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص ، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس كقوله :

ظهرا هما مثل ظهور الترسين


أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس ، أو بالتطوع في أجزاء النهار. (لَعَلَّكَ تَرْضى) متعلق ب (سَبِّحْ) أي سبح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك. وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٣١)

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي نظر عينيك. (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله. (أَزْواجاً مِنْهُمْ) وأصنافا من الكفرة ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في به والمفعول منهم أي إلى الّذي متعنا به ، وهو أصناف بعضهم أو ناسا منهم. (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منصوب بمحذوف دل عليه (مَتَّعْنا) أو (بِهِ) على تضمينه معنى أعطينا ، أو بالبدل من محل (بِهِ) أو من (أَزْواجاً) بتقدير مضاف ودونه ، أو بالذم وهي الزينة والبهجة. وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة ، أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهرو الدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبلوهم ونختبرهم فيه ، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه. (وَرِزْقُ رَبِّكَ) وما ادخر لك في الآخرة ، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. (خَيْرٌ) مما منحهم في الدنيا. (وَأَبْقى) فإنه لا ينقطع.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) وداوم عليها. (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) أي أن ترزق نفسك ولا أهلك. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وإياهم ففرغ بالك لأم الآخرة. (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة. (لِلتَّقْوى) لذوي التقوى. روي «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية».

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)(١٣٣)

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بآية تدل على صدقه في ادعاء النبوة ، أو بآية مقترحة إنكارا لما جاء به من الآيات ، أو للاعتداد به تعنتا وعنادا فألزمهم بإتيانه بالقرآن الّذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها ، لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة ، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا وأبقى أثرا فكذا ما كان من هذا القبيل ، ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجاز المختصة بهذا الباب فقال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية ، فإن اشتمالها على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أميّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين ، وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته برهان لما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وتلك ليست كذلك ، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها. وقرئ «الصحف» بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) بالتاء والباقون بالياء.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل محمّد عليه الصلاة والسلام أو البينة والتذكير لأنها في معنى


البرهان ، أو المراد بها القرآن. (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالقتل والسبي في الدنيا. (وَنَخْزى) بدخول النار يوم القيامة ، وقد قرئ بالبناء للمفعول فيهما.

(قُلْ كُلٌ) أي كل واحد منا ومنكم. (مُتَرَبِّصٌ) منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. (فَتَرَبَّصُوا) وقرئ «فتمتعوا». (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) المستقيم ، وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد و «السوءى» و «السوء» أي الشر ، و «السوي» هو تصغيره. (وَمَنِ اهْتَدى) من الضلالة و (مَنْ) في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء ، ويجوز أن تكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط على أن المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين».


(٢١) سورة الأنبياء

مكية وآيها مائة واثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٢)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) بالإضافة إلى ما مضى أو عند الله لقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداًوَنَراهُ قَرِيباً) وقوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى ، واللام صلة ل (اقْتَرَبَ) أو تأكيد للإضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم ، وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي في غفلة عن الحساب. (مُعْرِضُونَ) عن التفكر فيه وهما خبران للضمير ، ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في (مُعْرِضُونَ).

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة. (مِنْ رَبِّهِمْ) صفة ل (ذِكْرٍ) أو صلة ل (يَأْتِيهِمْ). (مُحْدَثٍ) تنزيله ليكرر على أسماعهم التنبيه كي يتعظوا ، وقرئ بالرفع حملا على المحل. (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يستهزئون به ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من الواو وكذلك :

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣)

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتلهي والذهول عن التفكر فيه ، ويجوز أن يكون من واو (يَلْعَبُونَ) وقرئت بالرفع على أنها خبر آخر للضمير. (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم بها. (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو (وَأَسَرُّوا) للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به ، أو فاعل له والواو لعلامة الجمع أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره وأصله وهؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضعه تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم أو منصوب على الذم. (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) بأمره في موضع النصب بدلا من (النَّجْوَى) ، أو مفعولا لقول مقدر كأنهم استدلوا بكونه بشرا على كذبه في ادعاء الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر فأنكروا حضوره ، وإنما أسروا به تشاورا في استنباط ما يهدم أمره ويظهر فساده للناس عامة.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥)


(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) جهرا كان أو سرا فضلا عما أسروا به فهو آكد من قوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولذلك اختير هاهنا وليطابق قوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) في المبالغة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (قالَ) بالإخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) إضراب لهم عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام افتراه ، ثم إلى أنه قول شاعر والظاهر أن (بَلْ) الأولى لتمام حكاية والابتداء بأخرى أو للإضراب عن تحاورهم في شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاولهم في أمر القرآن ، والثانية والثالثة لإضرابهم عن كونه أباطيل خيلت إليه وخلطت عليه إلى كونه مفتريات اختلقها من تلقاء نفسه ، ثم إلى أنه كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها ، ويجوز أن يكون الكل من الله تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد لأن كونه شعرا أبعد من كونه مفترى لأنه مشحون بالحقائق والحكم وليس فيه ما يناسب قول الشعراء ، وهو من كونه أحلاما لأنه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع والمفترى لا يكون كذلك بخلاف الأحلام ، ولأنهم جربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نيفا وأربعين سنة وما سمعوا منه كذبا قط ، وهو أبعد من كونه سحرا لأنه يجانسه من حيث إنهما من الخوارق. (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي كما أرسل به الأولون مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى ، وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٧)

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية. (أَهْلَكْناها) باقتراح الآيات لما جاءتهم. (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لو جئتهم بها وهم أعتى منهم ، وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتي به ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) جواب لقولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة والإحالة عليهم إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ويثقون بقولهم ، أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفارا. وقرأ حفص (نُوحِي) بالنون.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠)

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) نفي لما اعتقدوا أنها من خواص الملك عن الرسل تحقيقا لأنهم كانوا أبشارا مثلهم. وقيل جواب لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)(وَما كانُوا خالِدِينَ) تأكيد وتقرير له فإن التعيش بالطعام من توابع التحليل المؤدي إلى الفناء وتوحيد الجسد لا إرادة الجنس ، أو لأنه مصدر في الأصل أو على حذف المضاف أو تأويل الضمير بكل واحد وهو جسم ذو لون فلذلك لا يطلق على الماء والهواء ، ومنه الجساد للزعفران. وقيل جسم ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي في الوعد. (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) يعني المؤمنين بهم ومن في إبقائه حكمة


كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته ، ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال. (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) في الكفر والمعاصي.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا قريش (كِتاباً) يعني القرآن. (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) صيتكم كقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنون.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ)(١٣)

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) واردة عن غضب عظيم لأن القصم كسر يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم. (كانَتْ ظالِمَةً) صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامه. (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) بعد إهلاك أهلها. (قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) فلما أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس ، والضمير للأهل المحذوف. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين راكضين دوابهم ، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم.

(لا تَرْكُضُوا) على إرادة القول أي قيل لهم استهزاء لا تركضوا إما بلسان الحال أو المقال ، والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين. (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة. (وَمَساكِنِكُمْ) الّتي كانت لكم. (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) غدا عن أعمالكم أو تعذبون فإن السؤال من مقدمات العذاب ، أو تقصدون للسؤال والتشاور في المهام والنوازل.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لما رأوا العذاب ولم يروا وجه النجاة فلذلك لم ينفعهم. وقيل إن أهل حضور من قرى اليمن بعث إليهم نبي فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فوضع السيف فيهم فنادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء فندموا وقالوا ذلك.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) فما زالوا يرددون ذلك ، وإنما سماه دعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل ويقول : يا ويل تعال فهذا أوانك ، وكل من (تِلْكَ) و (دَعْواهُمْ) يحتمل الاسمية والخبرية. (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) مثل الحصيد وهو النبت المحصود ولذلك لم يجمع. (خامِدِينَ) ميتين من خمدت النار وهو مع (حَصِيداً) منزلة المفعول الثاني كقولك : جعلته حلوا حامضا إذ المعنى : وجعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو صفة له أو حال من ضميره.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ)(١٧)

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار وتذكرة لذوي الاعتبار وتسببا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد ، فينبغي أن يتسلقوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يغتروا بزخارفها فإنها سريعة الزوال.

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ما يتلهى به ويلعب. (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من جهة قدرتنا ، أو من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام المبسوطة كعادتكم في رفع السقوف وتزويقها وتسوية الفرش وتزيينها ، وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل الزوجة والمراد به الرد على النصارى (إِنْ كُنَّا


فاعِلِينَ) ذلك ويدل على جواب الجواب المتقدم. وقيل (أَنْ) نافية والجملة كالنتيجة للشرطية.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨)

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب أي بل من شأننا أن نغلب الحق الّذي من جملته الجد على الباطل الّذي من عداده اللهو. (فَيَدْمَغُهُ) فيمحقه ، وإنما استعار لذلك القذف وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمى ، والدمغ الّذي هو كسر الدماغ بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح تصويرا لإبطاله به ومبالغة فيه ، وقرئ «فيدمغه» بالنصب كقوله :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

ووجهه مع بعده الحمل على المعنى والعطف على «الحق». (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) هالك والزهوق ذهاب الروح وذكره لترشيح المجاز. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) مما تصفونه به مما لا يجوز عليه ، وهو في موضع الحال وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢٠)

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك ، وهو معطوف على (مَنْ فِي السَّماواتِ) وإفراده للتعظيم أو لأنه أعم منه من وجه ، أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التبوؤ في السماء والأرض أو مبتدأ خبره : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لا يتعظمون عنها. (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ولا يعيون منها ، وإنما جيء بالاستحسار الّذي هو أبلغ من الحسور تنبيها على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ينزهونه ويعظمونه دائما. (لا يَفْتُرُونَ) حال من الواو في (يُسَبِّحُونَ) وهو استئناف أو حال من ضمير قبله.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(٢٣)

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) بل اتخذوا والهمزة لإنكار اتخاذهم. (مِنَ الْأَرْضِ) صفة لآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى الابتداء ، وفائدتها التحقير دون التخصيص. (هُمْ يُنْشِرُونَ) الموتى وهم وإن لم يصرحوا به لكن لزم ادعاؤهم لها الإلهية ، فإن من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات والمراد به تجهيلهم والتهكم بهم ، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الإنشار بهم.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) غير الله ، وصف ب (إِلَّا) لتعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه ، والمراد ملازمته لكونها مطلقا أو معه حملا لها على غير كما استثنى بغير حملا عليها ، ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب. (لَفَسَدَتا) لبطلتا لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع ، فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه. (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) المحيط بجميع الأجسام الّذي هو محل التدابير ومنشأ التقادير. (عَمَّا يَصِفُونَ) من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية. (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لأنهم


مملوكون مستعبدون والضمير لل (آلِهَةٌ) أو للعباد.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٤)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) كرره استعظاما لكفرهم واستفظاعا لأمرهم وتبكيتا وإظهارا لجهلهم ، أو ضما لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل على معنى أوجدوا آلهة ينشرون الموتى فاتخذوهم آلهة ، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية ، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم فاتخذوهم متابعة للأمر ، ويعضد ذلك أنه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك إما من العقل أو من النقل ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا. (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الكتب السماوية فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، والتوحيد لما لم يتوقف على صحته بعثة الرسل وإنزال الكتب صح الاستدلال فيه بالنقل و (مَنْ مَعِيَ) أمته و (مَنْ قَبْلِي) الأمم المتقدمة وإضافة ال (ذِكْرُ) إليهم لأنه عظتهم ، وقرئ بالتنوين والإعمال وبه وب (مِنْ) الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وشبههما وبعدمها. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ولا يميزون بينه وبين الباطل ، وقرئ «الحق» بالرفع على أنه خبر محذوف وسط للتأكيد بين السبب والمسبب. (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) تعميم بعد تخصيص ، فإن (ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من حيث إنه خبر لاسم الإشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم وهو الكتب الثلاثة ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي (نُوحِي إِلَيْهِ) بالنون وكسر الحاء والباقون بالياء وفتح الحاء.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك. (بَلْ عِبادٌ) بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون وليسوا بالأولاد. (مُكْرَمُونَ) مقربون وفيه تنبيه على مدحض القوم ، وقرئ بالتشديد.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يقولون شيئا حتى يقوله كما هو ديدن العبيد المؤدبين ، وأصله لا يسبق قولهم قوله فنسب السبق إليه وإليهم ، وجعل القول محله وأداته تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله ، وأنيبت اللام على الإضافة اختصارا وتجافيا عن تكرير الضمير ، وقرئ «لا يسبقونه» بالضم من سابقته فسبقته أسبقه. (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون قط ما لم يأمرهم به.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا ، وهو كالعلة لما قبلهوالتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أن يشفع له مهابة منه. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) عظمته ومهابته. (مُشْفِقُونَ) مرتعدون ، وأصل الخشية خوف مع تعظيم


ولذلك خص بها العلماء. والإشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة أو من الخلائق. (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) يريد به نفي النبوة وادعاء ذلك عن الملائكة وتهديد المشركين بتهديد مدعي الربوبية. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) من ظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(٣٠)

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو. (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا شيئا واحدا وحقيقة متحدة. (فَفَتَقْناهُما) بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم. وقيل (كانَتا) بحيث لا فرجة بينهما ففرج. وقيل (كانَتا رَتْقاً) لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب (السَّماواتِ) سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو (السَّماواتِ) بأسرارها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب ابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال (كانَتا) ولم يقل كن لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرض. وقرئ «رتقا» بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى (اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه. وقرئ «حيا» على أنه صفة (كُلَ) أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) مع ظهور الآيات.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ)(٣٢)

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ثابتات من رسا الشيء إذا ثبت. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) كراهة أن تميل بهم وتضطرب ، وقيل لأن لا تميد فحذف لا لأمن الإلباس. (وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض أو الرواسي. (فِجاجاً سُبُلاً) مسالك واسعة وإنما قدم فجاجا وهو وصف له ليصير حالا فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك ، أو ليبدل منها (سُبُلاً) فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مصالحهم.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن الوقوع بقدرته أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته ، أو استراق السمع بالشهب. (وَهُمْ عَنْ آياتِها) عن أحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته الّتي يحس ببعضها ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة. (مُعْرِضُونَ) غير متفكرين.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بيان لبعض تلك الآيات. (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي كل واحد منهما ، والتنوين بدل من المضاف إليه والمراد بالفلك الجنس كقولهم : كساهم الأمير حلة. (يَسْبَحُونَ) يسرعون على سطح الفلك إسراع السابح على سطح الماء ، وهو خبر (كُلٌ) والجملة حال من (الشَّمْسَ


وَالْقَمَرَ) ، وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما ، وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة فعلهم.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥)

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) نزلت حين قالوا نتربص به ريب المنون وفي معناه قوله :

فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا

والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة لإنكاره بعد ما تقرر ذلك.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، وهو برهان على ما أنكروه. (وَنَبْلُوكُمْ) ونعاملكم معاملة المختبر. (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالبلايا والنعم. (فِتْنَةً) ابتلاء مصدر من غير لفظه. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر ، وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة والابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(٣٧)

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) ما يتخذونك. (إِلَّا هُزُواً) إلا مهزوءا به ويقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي بسوء ، وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بالتوحيد أو بإرشاد الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن. (هُمْ كافِرُونَ) منكرون فهم أحق أن يهزأ بهم ، وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ولحيلولة الصلة بينه وبين الخبر.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل : إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد. روي أنها نزلت في النضر بن الحرث حين استعجل العذاب. (سَأُرِيكُمْ آياتِي) نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار. (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) بالإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٤٠)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وقت وعد العذاب أو القيامة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنون النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم.

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) محذوف الجواب و (حِينَ) مفعول (يَعْلَمُ) أي : لو يعلمون الوقت الّذي يستعجلون منه بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يقدرون على دفعها ولا يجدون ناصرا يمنعها لما استعجلوا ، ويجوز أن يترك مفعول (يَعْلَمُ) ويضمر لحين فعل بمعنى : لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون


بطلان ما هم عليه حين لا يكفون ، وإنما وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على ما أوجب لهم ذلك.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ) العدة أو النار أو الساعة. (بَغْتَةً) فجأة مصدر أو حال. وقرئ بفتح الغين. (فَتَبْهَتُهُمْ) فتغلبهم أو تحيرهم. وقرئ الفعلان بالياء والضمير ل (الْوَعْدُ) أو ال (حِينَ) وكذا في قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) لأن الوعد بمعنى النار أو العدة والحين بمعنى الساعة ، ويجوز أن يكون ل (النَّارَ) أو لل (بَغْتَةً). (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)(٤٢)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وعد له بأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا يعني جزاءه.

(قُلْ) يا محمّد للمستهزئين. (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحفظكم. (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه إن أراد بكم ، وفي لفظ (الرَّحْمنِ) تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة وأن اندفاعه بمهلته (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه حتى إذا كلؤا منه عرفوا الكالئ. وصلحوا للسؤال عنه.

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)(٤٤)

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) بل ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا ، أو من عذاب يكون من عندنا والإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب ، فإنه عن المعرض الغافل عن الشيء بعيد وعن المعتقد لنقيضه أبعد. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) استئناف بإبطال ما اعتقدوه فإن من لا يقدر على نصر نفسه ولا يصحبه نصر من الله فكيف ينصر غيره.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتيع بما قدر لهم من الأعمار ، أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفرة. (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتسليط المسلمين عليها ، وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) رسول الله والمؤمنين.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٤٦)

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) بما أوحي إلي. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) وقرأ ابن عامر ولا تسمع الصم على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرئ بالياء على أن فيه ضميره ، وإنما سماهم (الصُّمُ) ووضعه موضع ضميرهم للدلالة على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون. (إِذا ما يُنْذَرُونَ) منصوب ب (يَسْمَعُ) أو ب (الدُّعاءَ) والتقييد به لأن الكلام في الإنذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم.


(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أدنى شيء ، وفيه مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة ، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والبناء الدال على المرة. (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) من الّذي ينذرون به. (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لدعوا على أنفسهم بالويل واعترفوا عليها بالظلم.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٤٧)

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) العدل توزن بها صحائف الأعمال. وقيل وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل ، وإفراد (الْقِسْطَ) لأنه مصدر وصف به للمبالغة. (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) لجزاء يوم القيامة أو لأهله ، أو فيه كقولك : جئت لخمس خلون من الشهر. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من حقها أو من الظلم. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة ، ورفع نافع (مِثْقالَ) على (كانَ) التامة. (أَتَيْنا بِها) أحضرناها ، وقرئ «آتينا» بمعنى جازينا بها من الإيتاء فإنه قريب من أعطينا ، أو من المؤاتاة فإنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وأثبنا من الثواب وجئنا ، والضمير للمثقال وتأنيثه لإضافته إلى ال (حَبَّةٍ). (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٠)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي الكتاب الجامع لكونه فارقا بين الحق والباطل ، (وَضِياءً) يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة ، (وَذِكْراً) يتعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. وقيل (الْفُرْقانَ) النصر ، وقيل فلق البحر وقرئ «ضياء». بغير واو على أنه حال من (الْفُرْقانَ).

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) صفة (لِلْمُتَّقِينَ) أو مدح لهم منصوب أو مرفوع. (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول. (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) خائفون وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.

(وَهذا ذِكْرٌ) يعني القرآن. (مُبارَكٌ) كثير خيره. (أَنْزَلْناهُ) على محمّد عليه الصلاة والسلام. (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) (٥٣)

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) الاهتداء لوجوه الصلاح وإضافته ليدل على أنه رشد مثله وأن له شأنا. وقرئ (رُشْدَهُ) وهو لغة. (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون أو محمّد عليه الصلاة والسلام. وقيل من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ)(وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) علمنا أنه أهل لما آتيناه ، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال وفيه إشارة إلى أن فعله سبحانه وتعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) متعلق ب (آتَيْنا) أو ب (رُشْدَهُ) أو بمحذوف : أي اذكر من أوقات رشده وقت قوله : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها ، فإن التمثال صورة لا روح فيها لا يضر ولا ينفع ، واللام للاختصاص لا للتعدية فإن تعدية العكوف بعلى. والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها ويجوز أن يؤول بعلى أو يضمن العكوف معنى العبادة.


(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فقلدناهم وهو جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عما اقتضي عبادتها وحملهم عليها.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٥٦)

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منخرطين في سلك ضلال لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل ، والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) كأنهم لاستبعادهم تضليله إياهم ظنوا أن ما قاله إنما قاله على وجه الملاعبة ، فقالوا أبجد تقوله أم تلعب به.

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه وهن للسموات والأرض أو للتماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم وإلزام الحجة عليهم. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي المذكور من التوحيد. (مِنَ الشَّاهِدِينَ) من المتحققين له والمبرهنين عليه ، فإن الشاهد من تحقق الشيء وحققه.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)(٥٨)

(وَتَاللهِ) وقرئ بالباء وهي الأصل والتاء بدل من الواو المبدلة منها وفيها تعجب. (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأجتهدن في كسرها ، ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر وتوقفه على نوع من الحيل. (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) عنها. (مُدْبِرِينَ) إلى عيدكم ولعله قال ذلك سرا.

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) قطاعا فعال بمعنى مفعول كالحطام من الجذ وهو القطع. وقرأ الكسائي بالكسر وهو لغة ، أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف. وقرئ بالفتح و «جذذا» جمع جذيذ و «جذذا» جمع جذة. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) للأصنام كسر غيره واستبقاه وجعل الفأس على عنقه. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لأنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لتفرده واشتهاره بعداوة آلهتهم فيحاجهم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فيحجهم ، أو أنهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل العقد فيبكتهم بذلك ، أو إلى الله أي (يَرْجِعُونَ) إلى توحيده عند تحققهم عجز آلهتهم.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)(٦١)

(قالُوا) حين رجعوا. (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام ، أو بإفراطه في حطمها أو بتوريط نفسه للهلاك.

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعيبهم فلعله فعله ويذكر ثاني مفعولي سمع ، أو صفة ل (فَتًى) مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه. (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) خبر محذوف أي هو إبراهيم ، ويجوز أن يرفع بالفعل لأن المراد به الاسم.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) بمرأى منهم بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بفعله أو قوله أو يحضرون عقوبتنا له.


(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(٦٣)

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) حين أحضروه.

(قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أسند الفعل إليه تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه ، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت ، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه ، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وما بينهما اعتراض أو إلى ضمير (فَتًى) أو (إِبْراهِيمُ) ، وقوله (كَبِيرُهُمْ هذا) مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله. وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «لإبراهيم ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥)

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) وراجعوا عقولهم. (فَقالُوا) فقال بعضهم لبعض. (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لا من ظلمتموه بقولكم (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة ، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. وقرئ «نكّسوا» بالتشديد و «نكسوا» أي نكسوا أنفسهم. (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تأمرنا بسؤالها وهو على إرادة القول.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(٦٨)

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) إنكار لعبادتهم لها بعد اعترافهم بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر فإنه ينافي الألوهية.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تضجر منه على إصرارهم بالباطل البين ، و (أُفٍ) صوت المتضجر ومعناه قبحا ونتنا واللام لبيان المتأفف له. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم.

(قالُوا) أخذا في المضارة لما عجزوا عن المحاجة. (حَرِّقُوهُ) فإن النار أهول ما يعاقب به. (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بالانتقام لها. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم ناصرين لها نصرا مؤزرا ، والقائل فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون خسف به الأرض وقيل نمروذ.

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(٦٩)

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار ، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته مأمورة مطيعة وإقامة (كُونِي) ذات برد مقام ابردي ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل نصب (سَلاماً) بفعله أي وسلمنا سلاما عليه. روي أنهم بنوا حظيرة بكوثى وجمعوا فيها نارا عظيمة ثم وضعوه في المنجنيق مغلولا فرموا به فيها فقال له جبريل : هل لك حاجة ، فقال : أما إليك فلا فقال : فسل ربك فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فجعل الله تعالى ـ ببركة قوله ـ الحظيرة


روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه ، فاطلع عليه نمروذ من الصرح فقال إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم عليه‌السلام. وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وانقلاب النار هواء طيبا ليس ببدع غير أنه هكذا على خلاف المعتاد فهو إذن من معجزاته. وقيل كانت النار بحالها لكنه سبحانه وتعالى دفع عنه أذاها كما ترى في السمندل ويشعر به قوله على إبراهيم.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)(٧١)

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) مكرا في إضراره. (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق وموجبا لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب.

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم الّتي هي مبادي الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. وقيل كثرة النعم والخصب الغالب. روي أنه عليه‌السلام نزل بفلسطين ولوط عليه‌السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)(٧٣)

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) عطية فهي حال منهما أو ولد ولد ، أو زيادة على ما سأل وهو إسحاق فتختص بيعقوب ولا بأس به للقرينة. (وَكُلًّا) يعني الأربعة. (جَعَلْنا صالِحِينَ) بأن وفقناهم للصلاح وحملناهم عليه فصاروا كاملين.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم. (يَهْدُونَ) الناس إلى الحق. (بِأَمْرِنا) لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ليحثوهم عليها فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم ، وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم (فِعْلَ الْخَيْراتِ) وكذلك قوله : (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) وهو من عطف الخاص على العام للتفضيل ، وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها. (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) موحدين في العبادة ولذلك قدم الصلة.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم. (وَعِلْماً) بما ينبغي علمه للأنبياء.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم. (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) يعني اللواطة وصفها بصفة أهلها أو أسندها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه ويدل عليه : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فإنه كالتعليل له.

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) في أهل رحمتنا أو جنتنا. (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)(٧٧)

(وَنُوحاً إِذْ نادى) إذ دعا الله سبحانه على قومه بالهلاك. (مِنْ قَبْلُ) من قبل المذكورين. (فَاسْتَجَبْنا


لَهُ) دعاءه. (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الطوفان أو أذى قومه ، والكرب الغم الشديد.

(وَنَصَرْناهُ) مطاوع انتصر أي جعلناه منتصرا. (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر ، ولعلهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)(٧٩)

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) في الزرع ، وقيل في كرم تدلت عناقيده. (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) رعته ليلا. (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما عالمين.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ «فأفهمناها». روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان. ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق ، وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال «على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل». وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جرح العجماء جبار». (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه. وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها) ولو لا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام. وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و (مَعَ) متعلقة ب (سَخَّرْنا) أو (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) أو مفعول معه. وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)(٨٠)

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال :

البس لكل حالة لبوسها

إمّا نعيمها وإما بوسها

قيل كانت صفائح فحلقها وسردها. (لَكُمْ) متعلق بعلم أو صفة ل (لَبُوسٍ) ليحصنكم من بأسكم بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار ، والضمير لداود عليه‌السلام أو ل (لَبُوسٍ) وفي قراءة ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة أو ل (لَبُوسٍ) على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عزوجل (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ)(٨٢)


(وَلِسُلَيْمانَ) وسخرنا له ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له ، وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإضافة إليه. (الرِّيحَ عاصِفَةً) شديدة الهبوب من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة كما قال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) وكانت رخاء في نفسها طيبة. وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها. (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فنجريه على ما تقتضيه الحكمة.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحار ويخرجون نفائسها ، (وَمِنَ) عطف على (الرِّيحَ) أو مبتدأ خبره ما قبله وهي نكرة موصوفة. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) ويتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ). (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(٨٤)

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) بأني مسني الضر ، وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه و (الضُّرُّ) بالفتح شائع في كل ضرر ، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفا في السؤال ، وكان روميا من ولد عيص بن إسحاق استنبأه الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله ، والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات. روي أن امرأته ما خير بنت ميشا بن يوسف ، أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف قالت له يوما : لو دعوت الله فقال : كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة فقال : أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) بالشفاء من مرضه. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن ولد له ضعف ما كان أو أحيي ولده وولد له منهم نوافل. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) رحمة على أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب ، أو لرحمتنا للعابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٨٦)

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) يعني إلياس ، وقيل يوشع ، وقيل زكريا سمي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل أمته أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم ، والكفل يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضعف. (كُلٌ) كل هؤلاء. (مِنَ الصَّابِرِينَ) على مشاق التكاليف وشدائد النوب.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) يعني النبوة أو نعمة الآخرة. (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(٨٨)


(وَذَا النُّونِ) وصاحب الحوت يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه لما برم بطول دعوتهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم ، قبل أن يؤمر وقيل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك ، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرئ «مغضبا». (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر ، ويعضده أنه قرئ مثقلا أو لن نعمل فيه قدرتنا ؛ وقيل هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا ، أو خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة. وقرئ بالياء وقرأ يعقوب على البناء للمفعول وقرئ به مثقلا. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) بأنه لا إله إلا أنت. (سُبْحانَكَ) من أن يعجزك شيء. (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة. وعن النبي عليه الصلاة والسلام «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا أستجيب له».

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه. وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة. (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص وفي الإمام : «نجي» ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله (نُنْجِي) فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في (تَظاهَرُونَ) ، وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الّتي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى ، لخوف اللبس. وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)(٩٠)

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) وحيدا بلا ولد يرثني. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي به.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو ل (زَكَرِيَّا) بتحسين خلقها وكانت حردة. (إِنَّهُمْ) يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون إلى أبواب الخير. (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة ، أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) مخبتين أو دائبين الوجل ، والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(٩٢)

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الحلال والحرام يعني مريم. (فَنَفَخْنا فِيها) أي في عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها ، وقيل فعلنا النفخ فيها. (مِنْ رُوحِنا) من الروح الّذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام. (وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى.


(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي إن ملة التوحيد والإسلام ملتكم الّتي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها. (أُمَّةً واحِدَةً) غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع. وقرئ «أمتكم» بالنصب على البدل و «أمة» بالرفع على الخبر وقرئتا بالرفع عن أنهما خبران. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) لا إله لكم غيري. (فَاعْبُدُونِ) لا غير.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)(٩٤)

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) صرفه إلى الغيبة التفاتا لينعي على الذين تفرقوا في الدين وجعلوا أمره قطعا موزعة بقبيح فعلهم إلى غيرهم. (كُلٌ) من الفرق المتحزبة. (إِلَيْنا راجِعُونَ) فنجازيهم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله. (فَلا كُفْرانَ) فلا تضييع. (لِسَعْيِهِ) استعير لمنع الثواب كما استعير الشكر لإعطائه ونفي الجنس للمبالغة. (وَإِنَّا لَهُ) لسعيه. (كاتِبُونَ) مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(٩٥)

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) وممتنع على أهلها غير متصور منهم. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «وحرم» بكسر الحاء وإسكان الراء وقرئ «حرم». (أَهْلَكْناها) حكمنا بإهلاكها أو وجدناها هالكة. (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) رجوعهم إلى التوبة أو الحياة ولا صلة ، أو عدم رجوعهم للجزاء وهو مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره أو دليل عليه وتقديره : توبتهم أو حياتهم أو عدم بعثهم ، أو لأنهم (لا يَرْجِعُونَ) ولا ينيبون (وَحَرامٌ) خبر محذوف أي وحرام عليها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة ويؤيده القراءة بالكسر. وقيل (حَرامٌ) عزم وموجب عليهم (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)(٩٧)

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) متعلق ب (حَرامٌ) أو بمحذوف دل الكلام عليه ، أو ب (لا يَرْجِعُونَ) أي يستمر الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها : وهو فتح سد يأجوج ومأجوج وهي حتى الّتي يحكى الكلام بعدها ، والمحكي هي الجملة الشرطية. وقرأ ابن عامر ويعقوب (فُتِحَتْ) بالتشدد. (وَهُمْ) يعني يأجوج ومأجوج أو الناس كلهم. (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) نشز من الأرض ، وقرئ «جدث» وهو القبر. (يَنْسِلُونَ) يسرعون من نسلان الذئب وقرئ بضم السين.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وهو القيامة. (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب الشرط و «إذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله تعالى : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. (يا وَيْلَنا) مقدر بالقول واقع موقع الحال من الموصول. (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) لم نعلم أنه حق. (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بالإخلال بالنظر وعدم الاعتداد بالنذر.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨).


(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يحتمل الأوثان وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبدتهم ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما تلا الآية على المشركين قال له ابن الزبعري : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك» فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية. وعلى هذا يعم الخطاب ويكون (ما) مؤولا بمن أو بما يعمه ، ويدل عليه ما روي أن ابن الزبعري قال : هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل لكل من عبد من دون الله». ويكون قوله (إِنَّ الَّذِينَ) بيانا للتجوز أو التخصيص تأخر عن الخطاب. (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه بحصبه إذا رماه بالحصباء وقرئ بسكون الصاد وصفا بالمصدر. (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) استئناف أو بدل من (حَصَبُ جَهَنَّمَ) واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أن ورودهم لأجلها.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) لأن المؤاخذ بالعذاب لا يكون إلها. (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) لا خلاص لهم عنها.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أنين وتنفس شديد وهو من إضافة فعل البعض إلى الكل للتغلب إن أريد ب (ما تَعْبُدُونَ) الأصنام. (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) من الهول وشدة العذاب. وقيل (لا يَسْمَعُونَ) ما يسرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١٠٣)

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي الخصلة الحسنى وهي السعادة أو التوفيق بالطاعة أو البشرى بالجنة. (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين. روي أن عليا كرم الله وجهه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول :

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) وهو بدل من (مُبْعَدُونَ) أو حال من ضميره سيق للمبالغة في إبعادهم عنها ، والحسيس صوت يحس به. (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) النفخة الأخيرة لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أو الانصراف إلى النار أو حين يطبق على النار أو يذبح الموت. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم مهنئين لهم. (هذا يَوْمُكُمُ) يوم ثوابكم وهو مقدر بالقول. (الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(١٠٤)

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) مقدر باذكر أو ظرف (لا يَحْزُنُهُمُ) ، أو (تَتَلَقَّاهُمُ) أو حال مقدرة من العائد المحذوف من (تُوعَدُونَ) ، والمراد بالطي ضد النشر أو المحو من قولك اطو عني هذا الحديث ، وذلك لأنها


نشرت مظلة لبني آدم فإذا انتقلوا قوضت عنهم ، وقرئ بالياء والتاء والبناء للمفعول. (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) طيا كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب أو كتب فيه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص على الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه. وقيل «السجل» ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه أو كاتب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ «السجل» كالدلو و «السجل» كالعتل وهما لغتان فيه. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونهما إيجادا عن العدم ، أو جمعا بين الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية. وتناول القدرة القديمة لهما على السواء ، و «ما» كافة أو مصدرية وأول مفعول ل (بَدَأْنا) أو لفعل يفسره (نُعِيدُهُ) أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره (نُعِيدُهُ) أي نعيد مثل الّذي بدأنا وأول خلق ظرف ل (بَدَأْنا) أو حال من ضمير الموصول المحذوف. (وَعْداً) مقدر بفعله تأكيدا ل (نُعِيدُهُ) أو منتصب به لأنه عدة بالإعادة. (عَلَيْنا) أي علينا إنجازه. (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ذلك لا محالة.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)(١٠٦)

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) في كتاب داود عليه‌السلام. (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي التوراة ، وقيل المراد ب (الزَّبُورِ) جنس الكتب المنزل وب (الذِّكْرِ) اللوح المحفوظ. (أَنَّ الْأَرْضَ) أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة. (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، أو أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ فِي هذا) أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد (لَبَلاغاً) لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية. (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) همهم العبادة دون العادة.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٠٨)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم ، وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي ما يوحى إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد ، وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد فالأولى لقصر الحكم على الشيء والثانية على العكس. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي المصدق بالحجة ، وقد عرفت أن التوحيد مما يصح إثباته بالسمع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(١١١)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد. (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم. (عَلى سَواءٍ) مستوين في الإعلام به أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به ، أو في المعاداة أو إيذانا على سواء. وقيل أعلمتكم أني على (سَواءٍ) أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير. (وَإِنْ أَدْرِي) وما أدري. (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة.


(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام. (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) من الإحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لينظر كيف تعملون. (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١١٢)

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لاستعجال العذاب والتشديد عليهم ، وقرأ حفص (قالَ) على حكاية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ «رب» بالضم و «ربي أحكم» على بناء التفضيل و «احكم» من الأحكام. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) كثير الرحمة على خلقه. (الْمُسْتَعانُ) المطلوب منه المعونة. (عَلى ما تَصِفُونَ) من الحال بأن الشوكة تكون لهم وأن راية الإسلام تخفق أياما ثم تسكن ، وأن الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فأجاب الله تعالى دعوة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخيب أمانيهم ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وقرئ بالياء. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ اقترب حاسبه الله حسابا يسيرا وصافحه وسلّم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن» والله تعالى أعلم.


(٢٢) سورة الحج

مكية إلا ست آيات من (هذانِ خَصْمانِ) إلى (صِراطِ الْحَمِيدِ)

وآيها ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي ، أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به. وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها. (شَيْءٌ عَظِيمٌ) هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) تصوير لهولها والضمير لل (زَلْزَلَةَ) ، و (يَوْمَ) منصوب ب (تَذْهَلُ) ، وقرئ «تذهل» و «تذهل» مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت الّتي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه ، و «ما» موصولة أو مصدرية. (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) جنينها. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) كأنهم سكارى. (وَما هُمْ بِسُكارى) على الحقيقة. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ «ترى» من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٤)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه. (وَيَتَّبِعُ) في المجادلة أو في عامة أحواله. (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) متجرد للفساد وأصله العري.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) على الشيطان. (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) تبعه والضمير للشأن. (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) خبر لمن أو جواب له ، والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه ، وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام. وقرئ بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو


تضمين الكتب معناه. (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) بالحمل على ما يؤدي إليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(٥)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) من إمكانه وكونه مقدورا ، وقرئ «من البعث» بالتحريك كالجلب. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم. (مِنْ تُرابٍ) بخلق آدم منه ، أو الأغذية الّتي يتكون منها المني. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) مني من النطف وهو الصب. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة من الدم جامدة. (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ. (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر. (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أن نقره. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ «ونقر» بالنصب وكذا قوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) عطفا على «نبيّن» كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشئوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعا ونصبا ويقر بالياء (وَنُقِرُّ) من قررت الماء إذا صببته ، و (طِفْلاً) حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) عند بلوغ الأشد أو قبله. وقرئ (يُتَوَفَّى) أو يتوفاه الله تعالى. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم والخرف ، وقرئ بسكون الميم. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات. (وَرَبَتْ) وانتفخت ، وقرئ «وربأت» أي ارتفعت. (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من كل صنف (بَهِيجٍ) حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٧)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة ، وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي بسبب أنه الثابت في نفسه الّذي به تتحقق الأشياء. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته لذاته الّذي نسبته إلى الكل على سواء ، فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها.


(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) فإن التغير من مقدمات الانصرام وطلائعه. (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٠)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة بقوله : (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) على أنه لا سند له من استدلال أو وحي ، أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين ، والمراد بالعلم العلم الفطري ليصح عطف ال (هُدىً) وال (كِتابٍ) عليه.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) متكبرا وثني العطف كناية عن التكبر كلّي الجيد ، أو معرضا عن الحق استخفافا به. وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) علة للجدال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال ، وأنه من حيث مؤداه كالغرض له. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو ما أصابه يوم بدر. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) المحروق وهو النار.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) على الالتفات ، أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم المبالغة لكثرة العبيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)(١١)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب. وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلني فقال «إن الإسلام لا يقال» فنزلت. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ «خاسرا» بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) إذ لا خسران مثله.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣)

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) يعبد جمادا لا يضر بنفسه ولا ينفع. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) بكونه معبودا لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) الّذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى ، واللام معلقة ل (يَدْعُوا) من حيث إنه بمعنى


يزعم والزعم قول مع اعتقاد ، أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى يقول : أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به ، أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره (لَبِئْسَ الْمَوْلى) الناصر. (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الصاحب.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ(١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ)(١٥)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا مانع.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كلام فيه اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه. وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظا ، أو المبالغ جزعا حتى يمد حبلا إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق ، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. وقيل فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه. وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر ليقطع بكسر اللام. (فَلْيَنْظُرْ) فليتصور في نفسه. (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) فعله ذلك وسماه على الأول كيدا لأنه منتهى ما يقدر عليه. (ما يَغِيظُ) غيظه أو الّذي يغيظه من نصر الله. وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطئوا نصر الله لاستعجالهم وشدة غيظهم على المشركين.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١٧)

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال. (أَنْزَلْناهُ) أنزلنا القرآن كله. (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات. (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) ولأن الله يهدي به أو يثبت على الهدى. (مَنْ يُرِيدُ) هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبينا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل ، أو الجزاء فيجازي كلّا ما يليق به ويدخله المحل المعد له ، وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) عالم به مراقب لأحواله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يتسخر لقدرته ولا يتأنى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمة مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها. وقرئ «والدواب» بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين. (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في


كل واحد من مفهوميه ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل «وكثير» تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب أن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده. وقرئ «حق» بالضم و «حقا» بإضمار فعله. (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بالشقاوة (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) يكرمه بالسعادة ، وقرئ بالفتح بمعنى الإكرام. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإكرام والإهانة.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ)(٢٠)

(هذانِ خَصْمانِ) أي فوجان مختصمان. ولذلك قال : (اخْتَصَمُوا) حملا على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بها المؤمنون والكافرون. (فِي رَبِّهِمْ) في دينه أو في ذاته وصفاته. وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمّد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (قُطِّعَتْ لَهُمْ) قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرئ بالتخفيف. (ثِيابٌ مِنْ نارٍ) نيران تحيط بهم إحاطة الثياب. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) حال من الضمير في (لَهُمْ) أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار.

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم ، والجملة حال من (الْحَمِيمُ) أو من ضميرهم. وقرئ بالتشديد للتكثير.

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٢٢)

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) سياط منه يجلدون بها جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف.

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) من النار. (مِنْ غَمٍ) من غمومها بدل من الهاء بإعادة الجار. (أُعِيدُوا فِيها) أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها. (وَذُوقُوا) أي وقيل لهم ذوقوا. (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار البالغة في الإحراق.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظيما لشأنهم. (يُحَلَّوْنَ فِيها) من حليت المرأة إذا ألبستها الحلي ، وقرئ بالتخفيف والمعنى واحد. (مِنْ أَساوِرَ) صفة مفعول محذوف و (أَساوِرَ) جمع أسورة وهو جمع سوار. (مِنْ ذَهَبٍ) بيان له. (وَلُؤْلُؤاً) عطف عليها لا على (ذَهَبٍ) لأنه لم يعهد السوار


منه إلا أن يراد المرصعة به ، ونصبه نافع وعاصم عطفا على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون ، وروى حفص بهمزتين وترك أبو بكر والسوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى ، وقرئ «لؤلوا» بقلب الثانية واوا و «لوليا» بقلبهما واوين ثم قلب الثانية ياء و «ليليا» بقلبهما ياءين و «لول» كأدل. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة ، أو للمحافظة على هيئة الفواصل.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أو كلمة التوحيد. (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة ، أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو الله سبحانه وتعالى وصراطه الإسلام.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٢٥)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وقيل هو حال من فاعل (كَفَرُوا) وخبر (إِنَ) محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على اسم الله وأوّله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي المقيم والطارئ ، على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وشراء عمر رضي الله عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و (سَواءً) خبر مقدم والجملة مفعول ثان ل (جَعَلْناهُ) إن جعل (لِلنَّاسِ) حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و (الْعاكِفُ) مرتفع به ، وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرئ بالفتح من الورود. (بِإِلْحادٍ) عدول عن القصد (بِظُلْمٍ) بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحدا بسبب الظّلم كالإشراك واقتراف الآثام (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جواب ل (مَنْ).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢٦)

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة. وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه. قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم. (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أَنْ) مفسرة ل (بَوَّأْنا) من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة ، أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ، ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ، وقرئ يشرك بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام (بَيْتِيَ) بفتح الياء.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)(٢٨).


(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) ناد فيهم وقرئ «وآذن». (بِالْحَجِ) بدعوة الحج والأمر به. روي أنه عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج. وقيل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بذلك في حجة الوداع. (يَأْتُوكَ رِجالاً) مشاة جمع راجل كقائم وقيام ، وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقلة و «رجالي» كعجالى. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد السفر فهزله. (يَأْتِينَ) صفة ل (ضامِرٍ) محمولة على معناه ، وقرئ «يأتون» صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير ل (النَّاسِ). (مِنْ كُلِّ فَجٍ) طريق. (عَمِيقٍ) بعيد ، وقرئ «معيق» يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى.

(لِيَشْهَدُوا) ليحضروا. (مَنافِعَ لَهُمْ) دينية ودنيوية ، وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها. وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنه المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى. (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي عشر ذي الحجة ، وقيل أيام النحر. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) علق الفعل بالمرزوق وبينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر. (فَكُلُوا مِنْها) من لحومها أمر بذلك إباحة وإزاحة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه ، أو ندبا إلى مواساة الفقراء ومساواتهم ، وهذا في المتطوع به دون الواجب. (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) الّذي أصابه بؤس أي شدة. (الْفَقِيرَ) المحتاج ، والأمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(٣٠)

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ما ينذرون من البر في حجهم ، وقيل مواجب الحج. وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء. (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الركن الّذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث ، وقيل طواف الوداع. وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما. (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى ، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه.

(ذلِكَ) خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين. (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه ، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف. وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) فالتعظيم (خَيْرٌ لَهُ). (عِنْدَ رَبِّهِ) ثوابا. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إلا المتلو عليكم تحريمه ، وهو ما حرم منها لعارض : كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تحرموا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) فاجتنبوا الرجس الّذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك. وقيل شهادة الزور لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية». و (الزُّورِ) من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك من الأفك وهو الصرف ، فإن


الكذب منحرف مصروف عن الواقع.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٣٢)

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) مخلصين له. (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وهما حالان من الواو. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره ، وقرأ نافع وحده (فَتَخْطَفُهُ) بفتح الخاء وتشديد الطاء. (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة وأو للتخيير كما في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أو للتنويع فإن المشركين من لا خلاص له أصلا ، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى : ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا يشبه أحد الهلاكين.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده ، وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٣٣)

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم ، و (ثُمَ) تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة ، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها ، وهو على الأولين إما متصل بحديث (الْأَنْعامِ) والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت ، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الّذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة ، وعلى الثاني (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٥)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ولكل أهل دين. (جَعَلْنا مَنْسَكاً) متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله ، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر أي موضع نسك. (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه ، علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) عند ذبحها ، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات صفتهم.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من الكلف والمصائب. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها ، وقرئ «والمقيمين الصلاة» على الأصل. (وَمِمَّا


رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في وجوه الخير.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٣٦)

(وَالْبُدْنَ) جمع بدنة كخشب وخشبة ، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في إجزائها عن سبعة بقوله عليه‌السلام «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» تناول اسم البدنة لها شرعا ، بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره. (جَعَلْناها لَكُمْ) ومن رفعه جعله مبتدأ. (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام دينه الّتي شرعها الله تعالى. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) منافع دينية ودنيوية. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. (صَوافَ) قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وقرئ «صوافن» من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ، وقرئ «صوافنا» بإبدال التنوين من حرف الإطلاق عند الوقف و «صوافيّ» أي خوالص لوجه الله ، و «صوافي» بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقا كقولهم : أعط القوس باريها. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة «القنع» ، أو السائل من قنعت إليه قنوعا إذا خضعت له في السؤال. (وَالْمُعْتَرَّ) والمعترض بالسؤال ، وقرئ «والمعتري» يقال عره وعراه واعتره واعتراه. (كَذلِكَ) مثل ما وصفنا من نحرها قياما. (سَخَّرْناها لَكُمْ) مع عظمها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

(لَنْ يَنالَ اللهَ) لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول. (لُحُومُها) المتصدق بها. (وَلا دِماؤُها) المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم الّتي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إليه والإخلاص له ، وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء. وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح. (عَلى ما هَداكُمْ) أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها ، و (ما) تحتمل المصدرية والخبرية و (عَلى) متعلقة ب (لِتُكَبِّرُوا) لتضمنه معنى الشكر. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) المخلصين فيما يأتونه ويذرونه.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)(٣٨)

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) غائلة المشركين ، وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون (يُدافِعُ) أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله. (كَفُورٍ) لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩).


(أُذِنَ) رخص ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو الله. (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي للذين يقاتلهم المشركون. (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت. وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية. (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٤٠)

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني مكة. (بِغَيْرِ حَقٍ) بغير موجب استحقوه به. (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) على طريقة قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقيل منقطع. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين. (لَهُدِّمَتْ) لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل ، وقرأ نافع دفاع وقرأ نافع وابن كثير (لَهُدِّمَتْ) بالتخفيف. (صَوامِعُ) صوامع الرهبانية. (وَبِيَعٌ) بيع النصارى. (وَصَلَواتٌ) كنائس اليهود ، سميت بها لأنها يصلى فيها ، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت. (وَمَساجِدُ) مساجد المسلمين. (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلا. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) من ينصر دينه ، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على نصرهم. (عَزِيزٌ) لا يمانعه شيء.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء ، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين. وقيل بدل ممن ينصره. (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) فإن مرجعها إلى حكمه ، وفيه تأكيد لما وعده.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٤)

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. (وَكُذِّبَ مُوسى) غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل ، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا.


(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بإهلاك أهلها ، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقا ب (خاوِيَةٌ) ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي : مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها ، والجملة معطوفة على (أَهْلَكْناها) لا على (وَهِيَ ظالِمَةٌ) فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره (أَهْلَكْناها) وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على (قَرْيَةٍ) أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه ، وذلك يقوي أن معنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) خالية مع بقاء عروشها ، وقيل المراد ب (بِئْرٍ) بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك. (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال. (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم. (فَإِنَّها) الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. وفي (تَعْمَى) راجع إليه والظاهر أقيم مقامه. (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر (الصُّدُورِ) للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الّذي يخص البصر. قيل لما نزل (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ).

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) المتوعد به. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال ، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة ، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، ورجع الضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو ، لأن الأولى بدل من قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى. (أَمْلَيْتُ لَها) كما أمهلتكم. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مثلكم. (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب. (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) وإلى حكمي مرجع الجميع.


(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أوضح لكم ما أنذركم به ، والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما بدر منهم. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هي الجنة وال (كَرِيمٌ) من كل نوع ما يجمع فضائله.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالرد والإبطال. (مُعاجِزِينَ) مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق ، من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلّا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين على أنه حال مقدرة. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) النار الموقدة ، وقيل اسم دركة.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٢)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم‌السلام ، ولذلك شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له. وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام. (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) زور في نفسه ما يهواه. (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيحه. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الناس. (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت. وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة (وَالنَّجْمِ) فأخذ يقرؤها فلما بلغ (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمّا سجد في آخرها ، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه‌السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية. وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

تمنّي داود الزّبور على رسل

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) لأنه أيضا يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي


شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٤)

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) علة لتمكين الشيطان منه ، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل. (فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق. (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المشركين. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم. (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أن القرآن هو الحق النازل من عند الله ، أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالقرآن أو بالله. (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) بالانقياد والخشية. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) فيما أشكل. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(٥٦)

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) في شك. (مِنْهُ) من القرآن أو الرسول ، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) القيامة أو أشراطها أو الموت. (بَغْتَةً) فجأة. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم ، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما ، فوصف اليوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ، ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا ، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه ، أو يوم القيامة على أن المراد ب (السَّاعَةُ) غيره أو على وضعه ، موضع ضميرها للتهويل.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) التنوين فيه ينوب عن الجملة الّتي دلت عليها الغاية أي : يوم تزول مريتهم. (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالمجازاة ، والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى ، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال (لَهُمْ عَذابٌ) ولم يقل : هم في عذاب.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)(٥٩)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد. (أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) الجنة ونعيمها ، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل. روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه يرزق بغير حساب.


(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) هو الجنة فيها ما يحبونه. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوالهم وأحوال معادهم. (حَلِيمٌ) لا يعاجل في العقوبة.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

(ذلِكَ) أي الأمر ذلك. (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ولم يزد في الاقتصاص ، وإنما سمي الابتداء بالعقاب الّذي هو الجزاء للازدواج أو لأنه سببه. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) بالمعاودة إلى العقوبة. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) لا محالة. (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام وأعرض عما ندب الله إليه بقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة ، فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى ، وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

(ذلِكَ) أي ذلك النصر. (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بسبب أن الله تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض ، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بأن يزيد فيه ما ينقص منه ، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك باطلاعها. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع قول المعاقب والمعاقب. (بَصِيرٌ) يرى أفعالهما فلا يهملهما.

(ذلِكَ) الوصف بكمال القدرة والعلم. (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالما بذاته وبما عداه ، أو الثابت الإلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين ، وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلهة. (هُوَ الْباطِلُ) المعدوم في حد ذاته ، أو باطل الألوهية. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) على الأشياء. (الْكَبِيرُ) على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر منه سلطانا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٦٤)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استفهام تقرير ولذلك رفع. (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) عطف على (أَنْزَلَ) إذ لو نصب جوابا لدل على نفي الاخضرار كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني ، والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق. (خَبِيرٌ) بالتدابير الظاهرة والباطنة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) في ذاته عن كل شيء. (الْحَمِيدُ) المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى


الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم. (وَالْفُلْكَ) عطف على (ما) أو على اسم (أَنَ) ، وقرئ بالرفع على الابتداء. (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) حال منها أو خبر. (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) من أن تقع أو كراهة أن تقع بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها. (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) إذا جاء أجلكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في الآخرة. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لجحود لنعم الله مع ظهورها.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(٦٧)

(لِكُلِّ أُمَّةٍ) أهل دين. (جَعَلْنا مَنْسَكاً) متعبدا أو شريعة تعبدوا بها ، وقيل عيدا. (هُمْ ناسِكُوهُ) ينسكونه. (فَلا يُنازِعُنَّكَ) سائر أرباب الملل. (فِي الْأَمْرِ) في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع ، وقيل المراد نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم ، فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء ، أو عن منازعتهم كقولك : لا يضار بك زيد ، وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم ، وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ، وقرئ فلا ينزعنك على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته فنزعته إذا غلبته. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) طريق إلى الحق سوي.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٦٩)

(وَإِنْ جادَلُوكَ) وقد ظهر الحق ولزمت الحجة. (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها ، وهو وعيد فيه رفق.

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات. (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(٧١)

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له. (إِنَّ ذلِكَ) إن الإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ ، أو الحكم بينكم. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء.


(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة تدل على جواز عبادته. (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله. (وَما لِلظَّالِمِينَ) وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم. (مِنْ نَصِيرٍ) يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٢)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) من القرآن. (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على العقائد الحقية والأحكام الإلهية. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الإنكار لفرط نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليدا ، وهذا منتهى الجهالة وللإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) يثبون ويبطشون بهم. (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم ، أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم. (لنَّارُ) أي هو النار كأنه جواب سائل قال : ما هو ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة استئنافا كما إذا رفعت خبرا أو حالا منها. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٧٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) بين لكم حال مستغربة أو قصة رائعة ولذلك سماها مثلا ، أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة. (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، وقرأ يعقوب بالياء وقرئ به مبنيا للمفعول والراجع إلى الموصول محذوف على الأولين. (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن (لَنْ) بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه ، والذباب من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان. (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة ، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا إلها قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها ـ تماثيل هي أعجز الأشياء ، وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ، بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه من عندها. قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) عابد الصنم ومعبوده ، أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب ، أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق الممكنات بأسرها. (عَزِيزٌ) لا يغلبه شيء وآلهتهم الّتي يعبدونها عاجزة


عن أقلها مقهورة من أذلها.

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي. (وَمِنَ النَّاسِ) يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم ، كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، والملائكة بنات الله تعالى ، ونحو ذلك. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) مدرك للأشياء كلها.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) عالم بواقعها ومترقبها. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وإليه ترجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٧٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) في صلاتكم ، أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام ، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها ، أو اخضعوا لله وخروا له سجدا. (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر ما تعبدكم به. (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم ، والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولقوله عليه الصلاة والسلام «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها».

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». (حَقَّ جِهادِهِ) أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم ، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله. (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم ، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه ، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به من حيث شق عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم». وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم. (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. (وَفِي هذا) وفي القرآن ، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ «الله سماكم» ، أو ل (إِبْراهِيمَ) وتسميتهم بمسلمين في


القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) يوم القيامة متعلق بسماكم. (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته ، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى. (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ الرسل إليهم. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف. (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه. (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولي أموركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو إذ لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة. عن النبي عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».


(٢٣) سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة عند الكوفيين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(٢)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد فازوا بأمانيهم وقد تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي ، ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك من فضل الله صدرت بها بشارتهم ، وقرأ ورش عن نافع قد أفلح بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها ، وقرئ «أفلحوا» على لغة : أكلوني البراغيث ، أو على الإبهام والتفسير ، و «أفلح» بالضم اجتزاء بالضمة عن الواو و «أفلح» على البناء للمفعول.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خائفون من الله سبحانه وتعالى متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته فقال : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)(٥)

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) عما لا يعنيهم من قول أو فعل. (مُعْرِضُونَ) لما بهم من الجد ما شغلهم عنه ، وهو أبلغ من الذين لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير ، والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا ، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنية والمالية والتجنب عن المحرمات وسائر ما توجب المروءة اجتنابه ، والزكاة تقع على المعنى والعين والمواد الأول لأن الفاعل فاعل الحدث لا المحل الّذي هو موقعه أو الثاني على تقدير مضاف.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) لا يبذلونها.

(إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٧)

(إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) زوجاتهم أو سرياتهم ، و (عَلى) صلة ل (حافِظُونَ) من قولك احفظ على عنان فرسي ، أو حال أي حافظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري ، أو بفعل دل عليه غير ملومين وإنما قال : ما إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء إذ الملك أصل شائع فيه وإفراد


ذلك بعد تعميم قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطرا. (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الضمير لحافظون ، أو لمن دل عليه الاستثناء أي فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) المستثنى. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الكاملون في العدوان.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٩)

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق. (راعُونَ) قائمون بحفظها وإصلاحها ، وقرأ ابن كثير هنا وفي «المعارج» لأمانتهم على الإفراد ولأمن الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ، ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعه غير حمزة والكسائي ، وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها ، وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)

(أُولئِكَ) الجامعون لهذه الصفات. (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا ، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم ، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه. وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أنث الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ)(١٣)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ) من خلاصة سلت من بين الكدر. (مِنْ طِينٍ) متعلق بمحذوف لأنه صفة ل (سُلالَةٍ) أو من بيانية أو بمعنى (سُلالَةٍ) لأنها في معنى مسلولة فتكون ابتدائية كالأولى ، والإنسان آدم عليه‌السلام خلق من صفوة سلت من الطين ، أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار. وقيل المراد بالطين آدم لأنه خلق منه والسلالة نطفته.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ) ثم جعلنا نسله فحذف المضاف. (نُطْفَةً) بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة ، وتذكير الضمير على تأويل الجوهر أو المسلول أو الماء. (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) مستقر حصين يعني الرحم ، وهو في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل للمبالغة كما عبر عنه بالقرار.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) فصيرناها قطعة لحم. (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) بأن صلبناها. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة ، وقرأ ابن


عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع ، و (ثُمَ) لما بين الخلقين من التفاوت ، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر. (فَتَبارَكَ اللهُ) فتعالى شأنه في قدرته وحكمته. (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة (الْخالِقِينَ) عليه.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) لصائرون إلى الموت لا محالة ، ولذلك ذكر النعت الّذي للثبوت دون اسم الفاعل وقد قرئ به.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) للمحاسبة والمجازاة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) سموات لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل وكل ما فوقه مثله فهو طريقه ، أو لأنها طرق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) عن ذلك المخلوق الّذي هو السموات أو عن جميع المخلوقات. (غافِلِينَ) مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وتدبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ)(١٩)

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره ، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم.

(فَأَسْكَنَّاهُ) فجعلناه ثابتا مستقرا. (فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه. (لَقادِرُونَ) كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير (ذَهابٍ) إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) بالماء. (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها) في الجنات. (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها. (وَمِنْها) ومن الجنات ثمارها وزروعها. (تَأْكُلُونَ) تغذيا أو ترتزقون وتحصلون معايشكم من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، ويجوز أن يكون الضميران لل (نَخِيلٍ) وال (أَعْنابٍ) أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام تأكلونه.

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)

(وَشَجَرَةً) عطف على (جَنَّاتٍ) وقرئت بالرفع على الابتداء أي : ومما أنشأنا لكم به شجرة. (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) جبل موسى عليه‌السلام بين مصر وأيلة ، وقيل بفلسطين وقد يقال له طور سينين ولا يخلو من أن يكون الطور للجبل وسيناء اسم بقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما علم له كإمرئ القيس ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السيناء بالمد وهو الرفعة ، أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلال كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف (سَيْناءَ) على قراءة الكوفيين والشامي ويعقوب فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء لا فعلال إذ ليس في كلامهم ، وقرئ بالكسر والقصر. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت ملتبسا بالدهن ومستصحبا له ، ويجوز أن تكون الباء صلة معدية ل (تَنْبُتُ) كما في قولك : ذهبت بزيد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في رواية تنبت وهو إما من أنبت بمعنى


نبت كقول زهير :

رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم

قطينا لهم حتّى أنبت البقل

أو على تقدير (تَنْبُتُ) زيتونها ملتبسا بالدهن ، وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتخرج الدهن وتنبت بالدهان. (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي : تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي : يغمس فيه للائتدام ، وقرئ «وصباغ» كدباغ في دبغ.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٢٢)

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) تعتبرون بحالها وتستدلون بها. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان أو من العلف ، فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للابتداء ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) في ظهورها وأصوافها وشعورها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فتنتفعون بأعيانها.

(وَعَلَيْها) وعلى الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإبل والبقر ، وقيل المراد الإبل لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة :

سفينة بر تحت خدّي زمامها فيكون الضمير فيه كالضمير في (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ). (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في البر والبحر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)(٢٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران الناس ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة وما حاق بهم من زوالها. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استئناف لتعليل الأمر بالعبادة ، وقرأ الكسائي (غَيْرُهُ) بالجر على اللفظ. (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره وكفرانكم نعمه الّتي لا تحصونها.

(فَقالَ الْمَلَأُ) الأشراف. (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لعوامهم. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا. (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) رسلا. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) يعنون نوحا عليه‌السلام أي ما سمعنا به أنه نبي ، أو ما كلمهم به من الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى ونفي إله غيره ، أو من دعوى النبوة وذلك إما لفرط عنادهم أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ولأجله يقول ذلك (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) فاحتملوه وانتظروا. (حَتَّى حِينٍ) لعله يفيق من جنونه.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٢٧).


(قالَ) بعد ما أيس من إيمانهم. (رَبِّ انْصُرْنِي) بإهلاكهم أو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب. (بِما كَذَّبُونِ) بدل تكذيبهم إياي أو بسببه.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) بحفظنا نحفظه أن تخطئ فيه أو يفسده عليك مفسد. (وَوَحْيِنا) وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بالركوب أو نزول العذاب. (وَفارَ التَّنُّورُ).

روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك ، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة. وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في «هود». (فَاسْلُكْ فِيها) فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين ، وقرأ حفص (مِنْ كُلٍ) بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد. (وَأَهْلَكَ) وأهل بيتك أو من آمن معك. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره ، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى). (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالدعاء لهم بالإنجاء. (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا محالة لظلمهم بالإشراك والمعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله :

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كقوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) في السفينة أو في الأرض. (مُنْزَلاً مُبارَكاً) يتسبب لمزيد الخير في الدارين على قراءة أبي بكر ، وقرئ «منزلا» بمعنى إنزالا أو موضع إنزال. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ثناء مطابق لدعائه أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه وتوسلا به إلى الإجابة ، وإنما أفرده بالأمر والمعلق به أن يستوي هو ومن معه إظهارا لفضله وإشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم فإنه يحيط بهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما فعل بنوح وقومه. (لَآياتٍ) يستدل بها ويعتبر أولو الاستبصار والاعتبار. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم ، أو ممتحنين عبادنا بهذه الآيات (وَإِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)(٣٢)

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد أو ثمود.

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود أو صالح ، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تفسير لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله. (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ


مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)(٣٤)

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به ، فعلى تقدير سؤال. (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث (وَأَتْرَفْناهُمْ) ونعمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بكثرة الأموال والأولاد. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصفة والحالة. (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) تقرير للمماثلة و «ما» خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه.

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يأمركم به. (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) حيث أذللتم أنفسكم ، و (إِذاً) جزاء للشرط وجواب للذين قاولوهم من قومه.

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)(٣٦)

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) مجردة عن اللحوم والأعصاب. (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود ، و (أَنَّكُمْ) تكرير للأول أكد به لما طال الفصل بينه وبين خبره ، أو أنكم لمخرجون مبتدأ خبره الظرف المقدم ، أو فاعل للفعل المقدر جوابا للشرط والجملة خبر الأول أي : أنكم إخراجكم إذا متم ، أو أنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه لا أن يكون الظرف لأن اسمه جثة. (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بعد التصديق أو الصحة. (لِما تُوعَدُونَ) أو بعد ما توعدون ، واللام للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ) كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل : فما له هذا الاستبعاد؟ قالوا (لِما تُوعَدُونَ). وقيل (هَيْهاتَ) بمعنى البعد ، وهو مبتدأ خبره (لِما تُوعَدُونَ) ، وقرئ بالفتح منونا للتنكير ، وبالضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبالكسر على الوجهين ، وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء.

(إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)(٣٨)

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أصله إن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وإشعارا بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله :

هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل

ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن (إِنْ) نافية دخلت على (هِيَ) الّتي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس. (نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت بعضنا ويولد بعض. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت.

(إِنْ هُوَ) ما هو. (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدعيه من إرساله له وفيما يعدنا من البعث. (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤١)

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم وانتقم لي منهم. (بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إياي.


(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) عن زمان قليل و «ما» صلة لتوكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة. (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) على التكذيب إذا عاينوا العذاب.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا ، واستدل به على أن القرن قوم صالح. (بِالْحَقِ) بالوجه الثابت الّذي لا دافع له ، أو بالعدل من الله كقولك فلان يقضي بالحق. أو بالوعد الصدق. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) شبههم في دمارهم بغثاء السيل وهو حميله كقول العرب : سال به الوادي ، لمن هلك. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل الإخبار والدعاء ، وبعدا مصدر بعد إذا هلك ، وهو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها ، واللام لبيان من دعي عليه بالبعد ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(٤٤)

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) هي قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) الوقت الّذي حد لهلاكها و (مِنْ) مزيدة للاستغراق. (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) الأجل.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد ، والياء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالا ، وأماله حمزة وابن عامر والكسائي. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الّذي هو منتهاه إليهم. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها ، وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا. (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ)(٤٦)

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) بالآيات التسع. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة واضحة ملزمة للخصم ، ويجوز أن يراد به العصا وإفرادها لأنها أول المعجزات وأمها ، تعلقت بها معجزات شتى : كانقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلوا ، وأن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأن يراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة بينة على ما يدعيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) على الإيمان والمتابعة. (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبرين.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٤٩)

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله (بَشَراً سَوِيًّا) كما يطلق للجمع كقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) ولم يثن المثل لأنه في حكم المصدر ، وهذه القصص كما نرى تشهد بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة وفساده يظهر للمستبصر


بأدنى تأمل ، فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما ، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة ، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال ، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم ، وإليه أشار بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (وَقَوْمُهُما) يعني بني إسرائيل. (لَنا عابِدُونَ) خادمون منقادون كالعباد.

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في بحر قلزم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (لَعَلَّهُمْ) لعل بني إسرائيل ، ولا يجوز عود الضمير إلى (فِرْعَوْنَ) وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم. (يَهْتَدُونَ) إلى المعارف والأحكام.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٥٠)

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما ، أو (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر (وَأُمَّهُ) آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وقرئ «رباوة» بالضم والكسر. (ذاتِ قَرارٍ) مستقر من الأرض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. (وَمَعِينٍ) وماء معين ظاهر جار ، فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في الشيء ، أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع ، أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٥١)

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا الرسل في تناول ما رزقا. وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات. وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه.

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(٥٢)

(وَإِنَّ هذِهِ) أي ولأن (هذِهِ) والمعلل به (فَاتَّقُونِ) ، أو واعلموا أن هذه ، وقيل إنه معطوف على (بِما تَعْمَلُونَ) وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف. (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع ، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة ونصب (أُمَّةً) على الحال. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) في شق العصا ومخالفة الكلمة.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٥٤).


(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) فتقطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة ، أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز ، والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها. (زُبُراً) قطعا جمع زبور الّذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو ، أو مفعول ثان لتقطعوا فإنه متضمن معنى جعل. وقيل كتبا من زبرت الكتاب فيكون مفعولا ثانيا ، أو حالا من أمرهم على تقدير مثل كتب ، وقرئ بتخفيف الباء كرسل في «رسل». (كُلُّ حِزْبٍ) من المتحزبين. (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين. (فَرِحُونَ) معجبون معتقدون أنهم على الحق.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهالتهم شبهها بالماء الّذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها أو لاعبون بها ، وقرئ في «غمراتهم». (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أن ما نعطيهم ونجعله لهم مددا ، (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان لما وليس خبرا له ، فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره.

(نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) والراجع محذوف والمعنى : أيحسبون أن الّذي نمدهم به نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير ، وقرئ «يمدهم» على الغيبة وكذلك «يسارع» و «يسرع» ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و «يسارع» مبنيا للمفعول.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦١)

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) من خوف عذابه. (مُشْفِقُونَ) حذرون.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزلة. (يُؤْمِنُونَ) بتصديق مدلولها.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) شركا جليا ولا خفيا.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوه من الصدقات ، وقرئ «يأتون ما أتوا» أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات. (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذ به. (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) لأن مرجعهم إليه ، أو من أن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفى عليهم.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أو الجنة ، أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى : (هُمْ لَها عامِلُونَ).

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ)(٦٣)

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قدر طاقتها يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على


النفوس. (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يريد به اللوح أو صحيفة الأعمال. (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بزيادة عقاب أو نقصان ثواب.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ) قلوب الكفرة. (فِي غَمْرَةٍ) في غفلة غامرة لها. (مِنْ هذا) من الّذي وصف به هؤلاء أو من كتاب الحفظة. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) متجاوزة لما وصفوا به أو متخطية عما هم عليه من الشرك. (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون فعلها.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ)(٦٥)

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) متنعميهم. (بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف». فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة. (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة ، وهو جواب الشرط والجملة مبتدأ بعد حتى ويجوز أن يكون الجواب.

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإنه مقدر بالقول أي قيل لهم لا (تَجْأَرُوا الْيَوْمَ). (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم إذ لا تمنعون منا ، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا.

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ)(٦٧)

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن. (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها ، والنكوص الرجوع قهقرى.

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الضمير للبيت وشهرة استكبارهم وافتخارهم بأنهم قوامه أغنت عن سبق ذكره ، أو لآياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلقة ب (مُسْتَكْبِرِينَ) لأنه بمعنى مكذبين ، أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعه أو بقوله : (سامِراً) أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة ، وقرئ «سمرا» جمع سامر (تَهْجُرُونَ) من الهجر بالفتح إما بمعنى القطيعة أو الهذيان ، أي تعرضون عن القرآن أو تهذون في شأنه أو الهجر بالضم أي الفحش ، ويؤيد الثاني قراءة نافع (تَهْجُرُونَ) من أهجر وقرئ «تهجرون» على المبالغة.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(٧٠)

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الرسول والكتاب ، أو من الأمن من عذاب الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل وأعقابه فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالأمانة والصدق وحسن الخلق وكمال العلم مع عدم التعلم إلى غير ذلك مما هو صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها ، فإن إنكار الشيء قطعا أو ظنا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص أو بحث عما يدل عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فلا يبالون بقوله وكانوا يعلمون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجحهم عقلا وأدقهم نظرا. (بَلْ جاءَهُمْ


بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلذلك أنكروه ، وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم فكرته لا كراهة للحق.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)(٧١)

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) بأن كان في الواقع آلهة شتى. (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) كما سبق تقريره في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وقيل لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلم يبق ، أو لو اتبع الحق الّذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من فرط غضبه ، أو لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي لخرج عن الألوهية ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض وهو على أصل المعتزلة. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بالكتاب الّذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم ، أو الذكر الّذي تمنوه بقولهم (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) وقرئ «بذكراهم». (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٧٣)

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ) قيل إنه قسيم قوله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ). (خَرْجاً) أجرا على أداء الرسالة. (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزقه في الدنيا أو ثوابه في العقبى. (خَيْرٌ) لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه ، وقرأ ابن عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمزاوجة. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقرير لخيرية خراجه تعالى.

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له ، واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام وبين انتفاءها ما عدا كراهة الحق وقلة الفطنة.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٥)

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) عن الصراط السوي. (لَناكِبُونَ) لعادلون عنه فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) يعني القحط. (لَلَجُّوا) لثبتوا واللجاج التمادي في الشيء. (فِي طُغْيانِهِمْ) إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحق وعداوة الرسول والمؤمنين. (يَعْمَهُونَ) عن الهدى ، روي أنهم قحطوا حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال : بلى فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(٧٧)

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر. (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) بل أقاموا على عتوهم


واستكبارهم ، واستكان استفعل من الكون لأن المفتقر انتقل من كون إلى كون أو افتعل من السكون أشبعت فتحته. (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وليس من عادتهم التضرع وهو استشهاد على ما قبله.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) يعني الجوع فإنه أشد من القتل والأسر. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) لتحسوا بها ما نصب من الآيات. (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا فيها وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرونها شكرا قليلا لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله ، والإذعان لمانحها من غير إشراك و (ما) صلة للتأكيد.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) خلقكم وبثكم فيها بالتناسل. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم.

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ويختص به تعاقبهما لا يقدر عليه غيره فيكون ردا لنسبته إلى الشمس حقيقة أو لأمره وقضائه تعاقبهما ، أو انتقاص أحدهما وازدياد الآخر. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها وأن البعث من جملتها ، وقرئ بالياء على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين.

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)

(بَلْ قالُوا) أي كفار مكة. (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) آباؤهم ومن دان بدينهم.

(قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا.

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إلا أكاذيبهم الّتي كتبوها ، جمع أسطورة لأنه يستعمل فيما يتلهى به كالأعاجيب والأضاحيك. وقيل جمع أسطار جمع سطر.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٨٥)

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك ، فيكون استهانة بهم وتقريرا لفرط جهالتهم حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح إلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنكاره ، ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا فقال.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها. (قُلْ) أي بعد ما قالوه. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته. وقرئ «تتذكرون» على الأصل.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى


تُسْحَرُونَ)(٨٩)

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فإنها أعظم من ذلك. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال. (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) عقابه فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ملكه غاية ما يمكن وقيل خزائنه. (وَهُوَ يُجِيرُ) يغيث من يشاء ويحرسه. (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ولا يغاث أحد ولا يمنع منه ، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فمن أين تخدعون فتصرفون عن الرشد مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٩٢)

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) من التوحيد والوعد بالنشور. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث أنكروا ذلك.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لتقدسه عن مماثلة أحد. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يساهمه في الألوهية. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) جواب محاجتهم وجزاء شرط حذف لدلالة ما قبله عليه ، أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين وظهر بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا ، فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) خبر مبتدأ محذوف وقد جره ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص على الصفة ، وهو دليل آخر على نفي الشريك بناء على توافقهم في أنه المنفرد بذلك ولهذا رتب عليه. (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالفاء.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ)(٩٥)

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد. (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا والآخرة.

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قرينا لهم في العذاب ، وهو إما لهضم النفس أو لأن شؤم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) عن الحسن أنه تعالى أخبر نبيه عليه‌السلام أنه له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء ، وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به فضل تضرع وجؤار.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) لكنا نؤخره علمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون ، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، ولعله رد لإنكارهم الموعود واستعجالهم له استهزاء به. وقيل قد أراه : وهو قتل بدر أو فتح مكة.


(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨)

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين. وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك. وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك وأقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم.

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) وساوسهم ، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض ، شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدواب على المشي والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه.

(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) يحوموا حولي في شيء من الأحوال ، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل لأنها أحرى الأحوال بأن يخاف عليه.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) متعلق ب (يَصِفُونَ) ، وما بينهما اعتراض لتأكيد الإغضاء بالاستعاذة بالله من الشيطان أن يزله عن الحلم ويغريه على الانتقام أو بقوله (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (قالَ) تحسرا على ما فرط فيه من الإيمان والطاعة لما اطلع على الأمر. (رَبِّ ارْجِعُونِ) ردوني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب. وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا.

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) في الإيمان الّذي تركته أي لعلي آتي الإيمان وأعمل فيه ، وقيل في المال أو في الدنيا. وعنه عليه الصلاة والسلام «قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا ، فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى ، وأما الكافر فيقول رب ارجعون». (كَلَّا) ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها. (إِنَّها كَلِمَةٌ) معنى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ) إلخ ، والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض. (هُوَ قائِلُها) لا محالة لتسلط الحسرة عليه. (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أمامهم والضمير للجماعة. (بَرْزَخٌ) حائل بينهم وبين الرجعة. (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)(١٠٣)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) لقيام الساعة والقراءة بفتح الواو وبه وبكسر الصاد يؤيد أن (الصُّورِ) أيضا جمع الصورة. (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو يفتخرون بها. (يَوْمَئِذٍ) كما يفعلون اليوم. (وَلا يَتَساءَلُونَ) ولا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه ، وهو لا يناقض قوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) لأنه عند النفخة وذلك يعد المحاسبة ، أو دخول أهل الجنة الجنة والنار النار.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) موزونات عقائده وأعماله ، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله تعالى وقدر. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والدرجات.


(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) ومن لم يكن له ما يكون له وزن ، وهم الكفار لقوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها. (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من الصلة أو خبر ثان «لأولئك».

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ)(١٠٦)

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تحرقها واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا. (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان ، وقرئ «كلحون».

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) على إضمار القول أي يقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ). (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله.

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) ملكتنا بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ، وقرأ حمزة والكسائي «شقاوتنا» بالفتح كالسعادة وقرئ بالكسر كالكتابة. (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الحق.

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(١٠٨)

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار. (فَإِنْ عُدْنا) إلى التكذيب. (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا.

(قالَ اخْسَؤُا فِيها) اسكتوا سكوت هوان في النار فإنها ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ. (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب أو لا تكلمون رأسا. قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) ، فيجابون (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) فيقولون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) ، فيجابون (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) فيقولون ألفا (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، فيجابون (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ، فيقولون ألفا (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، فيجابون (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ، فيقولون ألفا (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ، فيجابون (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) فيقولون ألفا (رَبِّ ارْجِعُونِ) ، فيجابون (اخْسَؤُا فِيها) ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء.

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)(١١١)

(إِنَّهُ) إن الشأن وقرئ بالفتح أي لأنه. (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) يعني المؤمنين ، وقيل الصحابة وقيل أهل الصفة. (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هزؤا وقرأ نافع وحمزة والكسائي هنا وفي «ص» بالضم ، وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة ، وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية. (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي. (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم.

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على أذاكم. (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به ، وهو ثاني مفعولي (جَزَيْتُهُمُ). وقرأ حمزة والكسائي بالكسر استئنافا.


(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١١٤)

(قالَ) أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أحياء أو أمواتا في القبور. (عَدَدَ سِنِينَ) تمييز لكم.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار ، أو لأنها كانت أيام سرورهم وأيام السرور قصار ، أو لأنها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها ، أو الملائكة الذين يعدون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. وقرئ «العادين» بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون ما نقول ، و «العاديين» أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون.

(قالَ) وفي قراءة حمزة والكسائي «قل». (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تصديق لهم في مقالهم.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)(١١٥)

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) توبيخ على تغافلهم ، و (عَبَثاً) حال بمعنى عابثين أو مفعول له أي : لم نخلقكم تلهيا بكم وإنما خلقناكم لنتعبدكم ونجازيكم على أعمالكم وهو كالدليل على البعث. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) أو (عَبَثاً) ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(١١٧)

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الّذي يحق له الملك مطلقا فإن من عداه مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه دون وجه وفي حال دون حال. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإن ما عداه عبيد له. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الّذي يحيط بالأجرام وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام ، ولذلك وصفه بالكرم أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. وقرئ بالرفع على أنه صفة الرب.

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبده إفرادا أو إشراكا. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) صفة أخرى ل (إِلهاً) لازمة له فإن الباطل لا برهان به ، جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه ، أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فهو مجاز له مقدار ما يستحقه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) إن الشأن وقرئ بالفتح على التعليل أو الخبر أي حسابه عدم الفلاح. بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه فقال :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت». وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر». وروي «أن أولها وآخرها من كنوز الجنة ، من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح».


(٢٤) سورة النور

مدينة وهي أربع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١)

(سُورَةٌ) أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة. (أَنْزَلْناها) صفتها ومن نصبها جعله مفسرا لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه (وَفَرَضْناها) وفرضنا ما فيها من الأحكام ، وشدده ابن كثير وأبو عمرو لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم ، أو للمبالغة في إيجابها. (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الّذي ، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء ، وإنما قدم (الزَّانِيَةُ) لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها ، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم ، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة والسلام «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ، وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخا مقبولا أو مردودا ، وله في العبد ثلاثة أقوال. والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والإصابة في نكاح صحيح ، واعتبرت الحنفية الإسلام أيضا وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين ، ولا يعارضه «من أشرك بالله فليس بمحصن» إذ المراد بالمحصن الّذي يقتص له من المسلم. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) رحمة. (فِي دِينِ اللهِ) في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها». وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه ، وهو من باب التهييج. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب ، وال (طائِفَةٌ) فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحدا واثنان ، والمراد جمع يحصل به التشهير.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) إذ الغالب أن المائل إلى الزنا


لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء ، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق. وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك. لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن ، لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد ، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. وقيل النفي بمعنى النهي ، وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الّذي ورد فيه ، أو منسوخ بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) فإنه يتناول المسافحات ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : «أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» ، وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية ، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإحصان ، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) والقذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن ، والإحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى ، وتخصيص (الْمُحْصَناتِ) لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الأداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافا لأبي حنيفة ، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أي شهادة كانت لأنه مفتر ، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافا لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جوابا للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة ، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده. (أَبَداً) ما لم يتب ، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المحكوم بفسقهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن القذف. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بالتدارك ، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف ، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل ، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء ، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم ، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) علة للاستثناء.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٧)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) نزلت في هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه ، وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير. (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم ، و (أَرْبَعُ) نصب على المصدر وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنه خبر «شهادة». (بِاللهِ) متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشهادة لتقدمها. (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما رماها به من الزنا ، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيدا.


(وَالْخامِسَةُ) والشهادة الخامسة. (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه ، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا». وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي الحد. (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماني به.

(وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في ذلك ورفع الخامسة بالابتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد ، ونصبها حفص عطفا على (أَرْبَعَ). وقرأ نافع ويعقوب (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من (غَضَبَ) ورفع الهاء من اسم (اللهِ) ، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) بأبلغ ما يكون من الكذب ، من الأفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جرع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الّذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به. (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد الله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) مستأنف والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإفك. (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا. (لِكُل ِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه. (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به (وَالَّذِي) بمعنى الذين. (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٣)


(لَوْ لا) هلا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم. وإنما جاز الفصل بين (لَوْ لا) وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره ، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كما يقول المستيقن المطلع على الحال.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) من جملة المقول تقريرا لكونه كذبا فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه ، ولذلك رتب الحد عليه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥)

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره ، والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم الّتي من جملتها الإمهال للتوبة (وَرَحْمَتُهُ) في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم. (لَمَسَّكُمْ) عاجلا. (فِيما أَفَضْتُمْ) خضتم. (فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه اللوم والجلد.

(إِذْ) ظرف (لَمَسَّكُمْ) أو (أَفَضْتُمْ). (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه ، قرئ «تتلقونه» على الأصل و (تَلَقَّوْنَهُ) من لقيه إذا لقفه و (تَلَقَّوْنَهُ) بكسر حرف المضارعة و (تَلَقَّوْنَهُ) من إلقائه بعضهم على بعض ، و (تَلَقَّوْنَهُ) و «تألقونه» من الألق والألق وهو الكذب ، و «تثقفونه» من ثقفته إذا طلبته فوجدته و «تقفونه» أي تتبعونه. (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) أي وتقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب. (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا لا تبعة له. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر واستجرار العذاب ، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم ، تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨)

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) ما ينبغي وما يصح لنا. (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) يجوز أن تكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه ، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعا فضلا عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (سُبْحانَكَ) تعجب من ذلك الإفك أو ممن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب ، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله : (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا. (أَبَداً) ما دمتم أحياء مكلفين. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأحوال كلها. (حَكِيمٌ) في تدابيره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها.


(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) يريدون (أَنْ تَشِيعَ) أن تنشر (الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالحد والسعير إلى غير ذلك. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في الضمائر. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإشاعة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بإشاعة الفاحشة ، وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة بسكونها. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بيان لعلة النهي عن اتباعه ، و «الفحشاء» ما أفرط قبحه ، و «المنكر» ما أنكره الشرع. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها (ما زَكى) ما طهر من دنسها. (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) آخر الدهر. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بحمله على التوبة وقبولها. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهم. (عَلِيمٌ) بنياتهم.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢)

(وَلا يَأْتَلِ) ولا يحلف افتعال من الألية ، أو ولا يقصر من الألو ، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا «يتأل». وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين. (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) في الدين. (وَالسَّعَةِ) في المال. وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه. (أَنْ يُؤْتُوا) على أن لا (يُؤْتُوا) ، أو في (أَنْ يُؤْتُوا). وقرئ بالتاء على الالتفات. (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفات لموصوف واحد ، أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك ، أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود. (وَلْيَعْفُوا) عما فرط منهم. (وَلْيَصْفَحُوا) بالإغماض عنه. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه. روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ(٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥).


(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف. (الْغافِلاتِ) عما قذفن به. (الْمُؤْمِناتِ) بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين كابن أبي. (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لما طعنوا فيهن. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم ، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب ، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا توبة له ، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها.

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء للتقدم والفصل. (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم ، أو بظهور آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) جزاءهم المستحق. (وَيَعْلَمُونَ) لمعاينتهم الأمر. (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه ، أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله : (أُولئِكَ) يعني أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم. (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه‌السلام ولم يقرر عليها ، وقيل (الْخَبِيثاتُ وَالطَّيِّباتُ) من الأقوال والإشارة إلى «الطيبين» والضمير في (يَقُولُونَ) للآفكين ، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو (لِلْخَبِيثِينَ) و (الْخَبِيثاتُ) أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يعني الجنة ، ولقد برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه‌السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الّذي ذهب بثوبه ، ومريم بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة ، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء منزلته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٢٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الّتي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن. (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له ، أو من الاستئناس الّذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس ، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الآنس. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل. وعنه عليه الصلاة والسلام «التسليم أن يقول السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا رجع». (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أأستأذن على أمي ، قال : نعم ، قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ، قال : أتحب أن تراها عريانة ، قالا : لا ، قال : فاستأذن». (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم ، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا


وتعملوا بما هو أصلح لكم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يأذن لكم. (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور ، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ولا تلحوا. (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة ، أو أنفع لدينكم ودنياكم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) كالربط والحوانيت والخانات والخانقات. (فِيها مَتاعٌ) استمتاع. (لَكُمْ) كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة ، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٣٠)

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي ما يكون نحو محرم. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض ، وقيل حفظ الفروج ها هنا خاصة سترها. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها ، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجا ، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة


وتحمّل الشهادة. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) سترا لأعناقهن. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره. (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أو لأن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن ، وللعلماء في ذلك خلاف. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) يعم الإماء والعبيد ، لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». وقيل المراد بها. الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون ، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال. (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الإطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلا في الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه ، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» وفي «الزخرف» يا أيه الساحر وفي «الرحمن» أيه الثقلان بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف ، ووقف الباقون بغير الألف. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بسعادة الدارين.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٢)

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) لما نهى عما عسى أن يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة ، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما ، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى ، و «أيامى» مقلوب أيايم كيتامى ، جمع أيم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى بكرا كان أو ثيبا قال :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم

وتخصيص (الصَّالِحِينَ) لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم ، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) رد لما عسى أن يمنع من النكاح ، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح ، أو وعد من الله بالإغناء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية». لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ). (وَاللهُ واسِعٌ) ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته. (عَلِيمٌ) يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.


(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣)

(وَلْيَسْتَعْفِفِ) وليجتهد في العفة وقمع الشهوة. (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه. (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيجدوا ما يتزوجون به. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجما بنجوم بضم بعضها إلى بعض. (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عبدا كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره (فَكاتِبُوهُمْ) أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط ، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف ، وقد روي مثله مرفوعا. وقيل صلاحا في الدين. وقيل مالا وضعفه ظاهر لفظ ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول. وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث ، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا ، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنيا ، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية». (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) إماءكم. (عَلَى الْبِغاءِ) على الزنا ، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطا للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه ، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر. (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهن أوله إن تاب ، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) يعني الآيات الّتي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي «الطلاق» لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين ، أو لأنها بينت الأحكام والحدود. (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أو ومثلا من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم ، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) يعني ما وعظ به في تلك الآيات ، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها ؛ وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها


كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٣٥)

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما ، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك : زيد كرم بمعنى ذو كرم ، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم ، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه. أو الّذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكا فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات ، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل ، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون ، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما. (مَثَلُ نُورِهِ) صفة نوره العجيبة الشأن ، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. (كَمِشْكاةٍ) كصفة مشكاة ، وهي الكوة الغير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة. (فِيها مِصْباحٌ) سراج ضخم ثاقب ، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل من الزجاج. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء وفعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه ، أو بعض ضوئه بعضا من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل ، وقراءة أبي عمرو والكسائي «دريء» كشريب وقد قرئ به مقلوبا. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها ، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى (الزُّجاجَةُ) بحذف المضاف ، وقرئ «توقد» من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) تقع الشمس عليها حينا بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة ، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى ، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون ، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائما فتتركها نيئا وفي الحديث «لا خير في شجرة ولا نبات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى». (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه. (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته ، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه ، الأول : أنه تمثيل للهدى الّذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة ، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح ، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه ، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس ، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، ويؤيده قراءة أبي : «مثل نور المؤمن» ، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة الّتي منوط بها المعاش والمعاد وهي : الحساسة الّتي تدرك بها المحسوسات


بالحواس الخمس ، والخيالية الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت ، والعاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلية ، والمفكرة وهي الّتي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم ، والقوة القدسية الّتي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي : «المشكاة» ، و «الزجاجة» ، و «المصباح» ، و «الشجرة» ، و «الزيت» ، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات ، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشمل عليه من المعقولات ، والعاقلة كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية ، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الّذي هو مادة المصابيح الّتي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين ، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم ، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة ، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار ، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت ، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الّذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه ، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح ، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) لهذا النور الثاقب. (مَنْ يَشاءُ) فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) إدناء للمعقول من المحسوس توضيحا وبيانا. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا ، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ(٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)

(فِي بُيُوتٍ) متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت ، أو توقد في بعض بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيرا ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم ، أو تمثيلا لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد ، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح ، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن لا فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت ، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بالبناء أو التعظيم. (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات ، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل ، وقرئ «والابصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه ، وقرئ تسبح بالتاء مكسورا لتأنيث الجمع ومفتوحا على إسناده إلى أوقات الغدو.

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) لا تشغلهم معاملة رابحة. (وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء ، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها ، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال


تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. (وَإِقامِ الصَّلاةِ) عوّض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :

وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا

(وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. (يَخافُونَ يَوْماً) مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) تضطرب وتتغير من الهول ، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر ، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٣٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم الّتي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب ، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري ، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية ، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ «بقيعات» كديمات في ديمة. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. (حَتَّى إِذا جاءَهُ) جاء ما توهمه ماء أو موضعه. (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مما ظنه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عقابه أو زبانيته أو وجده محاسبا إياه. (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) استعراضا أو مجازاة. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عن حساب. روي أنها نزلت في عتبة ابن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

(أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على (كَسَرابٍ) و (أَوْ) للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات ، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء. (يَغْشاهُ) يغشى البحر. (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي أمواج مترادفة متراكمة. (مِنْ فَوْقِهِ) من فوق الموج الثاني. (سَحابٌ) غطى النجوم وحجب أنوارها ، والجملة صفة أخرى لل (بَحْرٍ). (ظُلُماتٌ) أي هذه ظلمات. (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) وقرأ ابن كثير (ظُلُماتٌ) بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال (سَحابٌ) إليها في رواية البزي. (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) وهي أقرب ما يرى إليه. (لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها كقول ذي الرمة :

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) ومن لم


يقدر له الهداية ولم يوفقه لأسبابها. (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) بخلاف الموفق الّذي له نور على نور.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)

(أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض ، و (مَنْ) لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. (وَالطَّيْرُ) على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله : (صَافَّاتٍ) فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره. (كُلٌ) كل واحد مما ذكر أو من الطير. (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا لقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحا كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)(٤٣)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بأن يكون قزعا فيضم بعضه إلى بعض ، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه ، وقرأ نافع برواية ورش (يُؤَلِّفُ) غير مهموز. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما بعضه فوق بعض. (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل ، وقرئ من «خلله». (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. (مِنْ جِبالٍ فِيها) من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. (مِنْ بَرَدٍ) بيان للجبال والمفعول محذوف أي (يُنَزِّلُ) مبتدأ (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) بردا ، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول ، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر ، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بردا ، وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) والضمير لل (بَرَدٍ). (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) ضوء برقه ، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين «وبرقه» بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد ، وقرئ «يذهب» على زيادة الباء.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ


يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٥)

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما تقدم ذكره. (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي «خالق كل دابة» بالإضافة. (مِنْ ماءٍ) هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة ، وقيل (مِنْ ماءٍ) متعلق ب (دَابَّةٍ) وليس بصلة ل (خَلَقَ). (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع ، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)(٤٨)

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) للحقائق بأنواع الدلائل. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّا رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَأَطَعْنا) أي وأطعناهما. (ثُمَّ يَتَوَلَّى) بالامتناع عن قبول حكمه. (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم هذا. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاما من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم ، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم ، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإيمان والثابتون عليه.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه الحاكم ظاهرا والمدعو إليه ، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) فاجأ فريق منهم الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم ، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥٠)

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي الحكم لا عليهم. (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و


(إِلَيْهِ) صلة ل (يَأْتُوا) أو ل (مُذْعِنِينَ) وتقديمه للاختصاص.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر أو ميل إلى الظلم. (أَمِ ارْتابُوا) بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكومة. (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول ، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم ، والثاني إما أن يكون محققا عندهم أو متوقعا وكلاهما باطل ، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(٥٢)

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ، وقرئ (قَوْلَ) بالرفع و (لِيَحْكُمَ) على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن. (وَيَخْشَ اللهَ) على ما صدر عنه من الذنوب. (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره ، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء ، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق. (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إنكار للامتناع عن حكمه. (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج عن ديارهم وأموالهم. (لَيَخْرُجُنَ) جواب ل (أَقْسَمُوا) على الحكاية. (قُلْ لا تُقْسِمُوا) على الكذب. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة. أو (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أمثل منها أو لتكن طاعة ، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه سرائركم.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ما حُمِّلَ) من التبليغ. (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الامتثال. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) في حكمه. (تَهْتَدُوا) إلى الحق. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ الموضح لما كلفتم به ، وقد أدى وإنما بقي (ما حُمِّلْتُمْ) فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٥٥)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم. (كَمَا اسْتَخْلَفَ


الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة ، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدءوا كسروا الألف. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. (أَمْناً) منهم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب ، وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع. وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة. (يَعْبُدُونَنِي) حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين. (وَمَنْ كَفَرَ) ومن ارتد أو كفر هذه النعمة. (بَعْدَ ذلِكَ) كبعد الوعد أو حصول الخلافة. (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٥٧)

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به ، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كما علق به الهدى.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) لا تحسبن يا محمّد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم ، و (فِي الْأَرْضِ) صلة (مُعْجِزِينَ). وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحدا معجزا لله ، فيكون (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) مفعوليه أو لا يحسبونهم (مُعْجِزِينَ) فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث. (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل : الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار ، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز. (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المأوى الّذي يصيرون إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها ، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت. وقيل أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر ، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله عزوجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في اليوم والليلة مرة. (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من


المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ، ومحله النصب بدلا من ثلاث مرات أو الرفع خبرا لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي ثيابكم لليقظة للقيلولة. (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان للحين. (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (ثَلاثَ) بالنصب بدلا من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان ، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين. (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة ، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض. (كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الأحكام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم. (حَكِيمٌ) فيما شرع لكم.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٦٠)

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها ، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته ، وجوابه أن المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل. (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه لكبرهن. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي الثياب الظاهرة كالجلباب ، والفاء فيه لأن اللام في (الْقَواعِدُ) بمعنى اللاتي أو لوصفها بها. (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم : سفينة بارجة لا غطاء عليها ، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) من الوضع لأنه أبعد من التهمة. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالتهن للرجال. (عَلِيمٌ) بمقصودهن.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم ، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب ، أو من إجابة من دعوهم إلى


بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم ، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ). وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) من البيوت الّتي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه‌السلام «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله عليه‌السلام «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه». (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا. وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ «مفتاحه». (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به ، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط ، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم ، أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه. أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم. (مُبارَكَةً) لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب. (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين». (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي الحق والخير في الأمور.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان. (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) من صميم قلوبهم. (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور ، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ «أمر جميع». (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأذن لهم ، واعتباره في كمال الإيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار ، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكدا على أسلوب أبلغ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك. (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ما يعرض لهم من المهام ، وفيه أيضا مبالغة وتضييق الأمر. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى : فائذن لمن علمت أن له عذرا. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الإذن فإن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد.


(رَحِيمٌ) بالتيسير عليهم.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦٣)

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته عليه‌السلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة. وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت ، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب ، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ) ينسلون قليلا قليلا من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل. (لِواذاً) ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته ، و (عَنْ) لتضمنه معنى الإعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه ، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى ، فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر. (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) محنة في الدنيا. (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة واستدل به على أن الأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين ، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإخلاص ، وإنما أكد علمه ب (قَدْ) لتأكيد الوعيد. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء ، ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات ، وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي».


(٢٥) سورة الفرقان

مكية وآيها سبع وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير ، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة ، وترتيبه عن إنزاله (الْفُرْقانَ) لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه. وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها ، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و (الْفُرْقانَ) مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال ، وقرئ «على عباده» وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ) أو الأنبياء على أن (الْفُرْقانَ) اسم جنس للكتب السماوية. (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان. (لِلْعالَمِينَ) للجن والإنس. (نَذِيراً) منذرا أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار ، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب. (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كزعم النصارى. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقا ونفي ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال ، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك ، أو (فَقَدَّرَهُ) للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتا.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً)(٤)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما. (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ) ولا يستطيعون. (لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) دفع ضر. (وَلا نَفْعاً) ولا جلب نفع. (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها ، وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء.


(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) كذب مصروف عن وجهه. (افْتَراهُ) اختلقه. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته ، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً) بجعل الكلام المعجز (إِفْكٌ) مختلقا متلقفا من اليهود. (وَزُوراً) بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٦)

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ما سطره المتقدمون. (اكْتَتَبَها) كتبها لنفسه أو استكتبها ، وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله : اكتتبها كاتب له ، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه. (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب.

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه أعجزكم عن اخركم بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)(٨)

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) ما لهذا الّذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم. (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل. (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي ، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لنعلم صدقه بتصديق الملك.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش. (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه ، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) وضع (الظَّالِمُونَ) موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه. (إِنْ تَتَّبِعُونَ) ما تتبعون. (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحر فغلب على عقله ، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشرا لا ملكا.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(١٠)

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة. (فَضَلُّوا) عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى.


(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) في الدنيا. (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بدل من (خَيْراً). (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) عطف على محل الجزاء ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله :

وإنّ أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة ، وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(١٢)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك ، أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة ، أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة ، أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه. (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) نارا شديدة الاستعار ، وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.

(إِذا رَأَتْهُمْ) إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه‌السلام «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) صوت تغيظ ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه ، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر. وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً) في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالا. (ضَيِّقاً) لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض. (مُقَرَّنِينَ) قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان. (ثُبُوراً) هلاكا أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعال يا ثبوراه فهذا حينك.

(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي يقال لهم ذلك. (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته ، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الإشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال (كَنْزٌ) وال (جَنَّةٌ) ، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال (جَنَّةُ) إلى (الْخُلْدِ) للمدح أو للدلالة على خلودها ، أو التمييز عن جنات الدنيا. (كانَتْ لَهُمْ) في علم الله أو اللوح ، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع. (جَزاءً) على أعمالهم بالوعد. (وَمَصِيراً) ينقلبون إليه ، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب


لأنهم في مقابلتهم.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ما يشاءونه من النعيم ، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي ، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة. (خالِدِينَ) حال من أحد ضمائرهم. (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) الضمير في (كانَ) ل (ما يَشاؤُنَ) والوعد الموعود أي : كان ذلك موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب ، أو مسؤولا سأله الناس في دعائهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ). أو الملائكة بقولهم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) ، وما في (عَلى) من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز ، فإن تعلق الإرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)(١٧)

ويوم نحشرهم للجزاء ، وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء. (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعم كل معبود سواه تعالى ، واستعمال (ما) إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف ، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيرا أو اعتبار الغلبة عبادها ، أو يخص الملائكة وعزيرا والمسيح بقرينة السؤال والجواب ، أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. (فَيَقُولُ) أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب ، وقرأ ابن عامر بالنون. (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح ، وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة ، وأصله أأضللتم أم (ضَلُّوا) فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهة فيه وإلا لما توجه العتاب ، وحذف صلة الضل مبالغة.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(١٩)

(قالُوا سُبْحانَكَ) تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون ، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده ، أو تنزيها لله تعالى عن الأنداد. (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) ما يصح لنا. (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك ، وقرئ (نَتَّخِذَ) على البناء للمفعول من اتخذ الّذي له مفعولان كقوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ومفعوله الثاني (مِنْ أَوْلِياءَ) و (مِنْ) للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات. (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك ، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه ، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة. (وَكانُوا) في قضائك. (قَوْماً بُوراً) هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، أو جمع بائر كعائذ وعوذ.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون. (بِما تَقُولُونَ) في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في ، أو مع المجرور بدل من


الضمير ، وعن ابن كثير بالياء أي : (كَذَّبُوكُمْ) بقولهم (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا). فما يستطيعون أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين. (صَرْفاً) دفعا للعذاب عنكم ، وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. (وَلا نَصْراً) يعينكم عليه. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أيها المكلفون. (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا ، وهو التوبة والإحباط بالطاعة إجماعا وبالعفو عندنا.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إلا رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). وقرئ «يمشون» أي تمشيهم حوائجهم أو الناس. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ) أيها الناس. (لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم ، وهو تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوه بعد نقضه ، وفيه دليل على القضاء والقدر. (أَتَصْبِرُونَ) علة للجعل والمعنى (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلي به وغيره.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)(٢١)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) لا يأملون. (لِقاءَنا) بالخير لكفرهم بالبعث ، أولا يخافون (لِقاءَنا) بالشر على لغة تهامة ، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول. (لَوْ لا) هلا. (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فتخبرنا بصدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل فيكونوا رسلا إلينا. (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيأمرنا بتصديقه واتباعه. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك. (وَعَتَوْا) وتجاوزوا الحد في الظلم. (عُتُوًّا كَبِيراً) بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية ، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :

وجارة جسّاس أبأنا بنابها

كليبا علت ناب كليب بواؤها

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٢٣)

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) ملائكة الموت أو العذاب ، و (يَوْمَ) نصب باذكر أو بما دل عليه. (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها ، و (يَوْمَئِذٍ) تكرير أو خبر و (لِلْمُجْرِمِينَ) تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام ، أو ل (بُشْرى) إن قدرت منونة غير مبنية مع (لا) فإنها لا تعمل ، و (لِلْمُجْرِمِينَ) إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان ولا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر ، وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم


وإشعارا بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها. (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ ، هذه الكلمة استعاذة وطلبا من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه ، أو تقولها الملائكة بمعنى حراما محرما عليكم الجنة أو البشرى. وقرئ «حجرا» بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه ولا يظهر ناصبه ، ووصفه ب (مَحْجُوراً) للتأكيد كقولهم : موت مائت.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره ، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثرا ، وال (هَباءً) غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ، و (مَنْثُوراً) صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم الّتي كانوا يتوجهون به نحوها ، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٢٤)

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) مكانا يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث. (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مكانا يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزا له من مكان القيلولة على التشبيه ، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبا إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور وغيره من التحاسين ، ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة ، والتفضيل إما لإرادة الزيادة مطلقا أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا. روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)(٢٦)

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) أصله تتشقق فحذفت التاء ، وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب.

(بِالْغَمامِ) بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام المذكور في قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد ، وقرأ ابن كثير «وننزل» وقرئ «ونزلت» «وأنزل» «ونزل الملائكة» بحذف نون الكلمة.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و (لِلرَّحْمنِ) صلته ، أو تبيين و (يَوْمَئِذٍ) مفعول (الْمُلْكُ) لا (الْحَقُ) لأنه متأخر أو صفته والخبر (يَوْمَئِذٍ) أو (لِلرَّحْمنِ). (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) شديدا.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) من فرط الحسرة ، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، والمراد ب (الظَّالِمُ) الجنس. وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل ، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه


فشهدت له ، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله وطعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع إلى مكة ومات. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.

(يا وَيْلَتى) وقرئ بالياء على الأصل. (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول ، أو كلمة الشهادة. (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وتمكنت منه. (وَكانَ الشَّيْطانُ) يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول ، أو كل من تشيطن من جن وإنس. (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه ، فعول من الخذلان.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

(وَقالَ الرَّسُولُ) محمّد يومئذ أو في الدنيا بثا إلى الله تعالى. (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) قريشا. (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) بأن تركوه وصدوا عنه ، وعنه عليه الصلاة والسلام «من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين ، فيكون أصله (مَهْجُوراً) فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول ، وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا ، وفيه دليل على أنه خالق الشر ، والعدو يحتمل الواحد والجمع. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) إلى طريق قهرهم. (وَنَصِيراً) لك عليهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً)(٣٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله : (جُمْلَةً واحِدَةً) دفعة واحدة كالكتب الثلاثة ، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه ، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أميا وكانوا يكتبون ، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه ، ولعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئا فشيئا ، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى ، ولأنه إذا نزل منجما وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه ، ولأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية ، فإنه يعين على البلاغة ، وكذلك صفة مصدر محذوف والإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالا والإشارة إلى الكتب السابقة ، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف. (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها.


(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الدامغ له في جوابه. (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وبما هو أحسن بيانا أو معنى من سؤالهم ، أو (لا يَأْتُونَكَ) بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفا لما بعثت له.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي مقلوبين أو مسحوبين عليها ، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. وعنه عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف ، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه» وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره. (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) والمفضل عليه هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا ، وقيل إنه متصل بقوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٣٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) يوازره في الدعوة وإعلاء الكلمة ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة ، لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) يعني فرعون وقومه. (بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم ، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم والتعقيب باعتبار الحكم لا الوقوع ، وقرئ «فدمرتهم» «فدمراهم» «فدمرانهم» على التأكيد بالنون الثقيلة.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) كذبوا نوحا ومن قبله ، أو نوحا وحده ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقا كالبراهمة. (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان. (وَجَعَلْناهُمْ) وجعلنا إغراقهم أو قصتهم. (لِلنَّاسِ آيَةً) عبرة. (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) يحتمل التعميم والتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر تظليما لهم.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)

(وَعاداً وَثَمُودَ) عطف على هم في (جَعَلْناهُمْ) أو على «الظالمين» لأن المعنى ووعدنا الظالمين ، وقرأ حمزة وحفص «وثمود» على تأويل القبيلة. (وَأَصْحابَ الرَّسِ) قوم كان يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه ، فبينما هم حول الرس وهي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم. وقيل (الرَّسِ) قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا. وقيل الأخدود وقيل بئر بأنطاكية قتلوا


فيها حبيبا النجار ، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون ، وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الّذي يقال له فتخ أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد ، ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا. وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر. (وَقُرُوناً) وأهل أعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون. (بَيْنَ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر. (كَثِيراً) لا يعلمها إلا الله.

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين إنذارا وإعذارا فلما أصروا أهلكوا كما قال : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) فتتناه تفتيتا ومنه التبر لفتات الذهب والفضة ، (وَكُلًّا) الأول منصوب بما دل عليه (ضَرَبْنا) كأنذرنا والثاني ب (تَبَّرْنا) لأنه فارغ.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

(وَلَقَدْ أَتَوْا) يعني قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام. (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة. (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب ، أو لا يخافونه على اللغة التهامية.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) محكي بعد قول مضمر والإشارة للاستحقار ، وإخراج بعث الله رسولا في معرض التسليم يجعله صلة وهم على غاية الإنكار تهكم واستهزاء ولولاه لقالوا أهذا الّذي زعم أنه بعثه الله رسولا.

(إِنْ) إنه (كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات. (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و (لَوْ لا) في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) كالجواب لقولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له ، وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يهملهم وإن أمهلهم.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ولا يبصر دليلا ، وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حفيظا تمنعه عن الشرك والمعاصي وحاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب والثاني للإنكار.

(أَمْ تَحْسَبُ) بل أتحسب. (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم ، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه ، وتخصيص الأكثر لأنه كان


منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكبارا وخوفا على الرئاسة. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات. (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الّذي هو أشد المضار ، ولأنها إن لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا ، بخلاف هؤلاء ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)(٤٦)

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ألم تنظر إلى صنعه. (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك ، فغير النظم إشعارا بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه ، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل وهو فيما بين طلوع الفجر والشمس وهو أطيب الأحوال ، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر وشعاع الشمس : يسخن الجو ويبهر البصر ، ولذلك وصف به الجنة فقال (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ). (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ثابتا من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام ، أو لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها.

(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن إحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي هو في معنى الكف. (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق ، و (ثُمَ) في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها ، وقيل (مَدَّ الظِّلَ) لما بنى السماء بلا نير ، ودحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس عليه دليلا ، أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول ، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها ، (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه ، أو (قَبْضاً) سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة والمظل عليها.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)(٤٧)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) شبه ظلامه باللباس في ستره. (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع المشاغل ، وأصل السبت القطع أو موتا كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) لأنه قطع الحياة ومنه المسبوت للميت. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش ، أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان عليه‌السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر.

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ


بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس. (نَشْراً) ناشرات للحساب جمع نشور ، وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف وحمزة والكسائي به وبفتح النون على أنه مصدر وصف به وعاصم (بُشْراً) تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني قدام المطر. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) مطهرا لقوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ). وهو اسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به. قال عليه الصلاة والسلام «التراب طهور المؤمن» ، «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب». وقيل بليغا في الطهارة وفعول وإن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث وللمصدر كالقبول وللاسم كالذنوب ، وتوصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه وتتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته ، وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) بالنبات وتذكير (مَيْتاً) لأن البلدة في معنى البلد ، ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجري مجرى الجامد. (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) يعني أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسي ، وتخصيصهم لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار ، والمنافع فيهم وبما حولهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة ، فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام قنية الإنسان وعامة منافعهم وعلية معايشهم منوطة بها ، ولذلك قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها ، وقرئ «نسفيه» بالفتح وسقى وأسقى لغتان ، وقيل أسقاه جعل له سقيا «وأناسي» بحذف ياء وهو جمع انسي أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٥٠)

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب ، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية» أو في الأنهار والمنافع. (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره ، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها ، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ، ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق الله ، والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك وتعظيما لشأنك وتفضيلا لك على سائر الرسل ، فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يريدونك عليه ، وهو تهييج له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن أو بترك طاعتهم الّذي يدل عليه فلا تطع ، والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم


بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. (جِهاداً كَبِيراً) لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف ، أو لأن مخالفتهم ومعاداتهم فيما بين أظهرهم مع عتوهم وظهورهم ، أو لأنه جهاد مع كل الكفرة لأنه مبعوث إلى كافة القرى.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٥٣)

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها. (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) قامع للعطش من فرط عذوبته. (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بليغ الملوحة ، وقرئ «ملح» على فعل ولعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا من قدرته. (وَحِجْراً مَحْجُوراً) وتنافرا بليغا كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه ، وقيل حدا محدودا وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها ، وقيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)(٥٥)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) يعني الّذي خمر به طينة آدم ، أو جعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة ، أو النطفة. (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم ، وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين ، وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) يعني الأصنام أو كل ما عبد من دون الله إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد ب (الْكافِرُ) الجنس أو أبو جهل. وقيل هينا مهينا لا وقع له عنده من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) للمؤمنين والكافرين.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الرسالة الّذي يدل عليه (إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً). (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ) إلا فعل من شاء. (أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أن يتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، فصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله واستثناه منه قلعا لشبهة الطمع وإظهارا لغاية الشفقة ، حيث اعتد بإنفاعك نفسك بالتعرض للثواب والتخلص عن العقاب أجرا وافيا مرضيا به مقصورا عليه ، وإشعارا بأن طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته. وقيل الاستثناء منقطع معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل.


(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩)

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) في استكفاء شرورهم والإغناء عن أجورهم ، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال طالبا لمزيد الأنعام بالشكر على سوابغه. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ) ما ظهر منها وما بطن. (خَبِيراً) مطلعا فلا عليك أن آمنوا أو كفروا.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) قد سبق الكلام فيه ، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه ، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج ، و (الرَّحْمنُ) خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي ، أو بدل من المستكن في (اسْتَوى) وقرئ بالجر صفة للحي. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى ، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه ، وقيل الضمير للرحمن والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون (الرَّحْمنُ) مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء. وقيل إنه صلة (خَبِيراً).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(٦١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله ، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرناه يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان. وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه. وقرأ حمزة والكسائي «يأمرنا» بالياء على أنه قول بعضهم لبعض. (وَزادَهُمْ) أي الأمر بالسجود (لِلرَّحْمنِ). (نُفُوراً) عن الإيمان.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه من التبرج لظهوره. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) يعني الشمس لقوله (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً). وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» وهي الشمس والكواكب الكبار. (وَقَمَراً مُنِيراً) مضيئا بالليل ، وقرئ «وقمرا» أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد. (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم ، أو ليكونا وقتين للمتذكرين الشاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة ، وقرأ حمزة (أَنْ يَذَّكَّرَ) من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا ووافقه الكسائي فيه.


(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤)

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ خبره (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أو : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ) وإضافتهم إلى (الرَّحْمنِ) للتخصيص والتفضيل ، أو لأنهم الراسخون في عبادته على أن عباد جمع عابد كتاجر وتجار. (هَوْناً) هينين أو مشيا هينا مصدر وصف به والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) تسلما منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر ، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم ، ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فإن المراد به الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) في الصلاة ، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأبعد عن الرياء وتأخير القيام للروي وهو جمع قائم أو مصدر أجري مجراه.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٦٦)

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) لازما ومنه الغريم لملازمته ، وهو إيذان بأنهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق وجلون من العذاب مبتهلون إلى الله تعالى في صرفه عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم.

(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي بئست مستقرا ، وفيها ضمير مبهم يفسره المميز والمخصوص بالذم ضمير محذوف به ترتبط الجملة باسم إن ، أو أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقرا حال أو تمييز والجملة تعليل للعلة الأولى أو تعليل ثان وكلاهما يحتملان الحكاية والابتداء من الله.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٦٧)

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) لم يجاوزوا حد الكرم. (وَلَمْ يَقْتُرُوا) ولم يضيقوا تضييق الشحيح.

وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل واحد. (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا ، وقيل إنه اسم (كانَ) لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً)(٦٩)

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرمها بمعنى حرم قتلها. (إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق القتل المحذوف ، أو بلا يقتلون (وَلا يَزْنُونَ) نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضا للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) جزاء إثم أو إثما بإضمار الجزاء ، وقرئ «أياما» أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب.


(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بدل من (يَلْقَ) لأنه في معناه كقوله :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا

وقرأ أبو بكر بالرفع على الاستئناف أو الحال وكذلك : (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) وابن كثير ويعقوب يضعف بالجزم وابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد وحذف الألف في «يضعف» ، وقرئ «ويخلد» على بناء المفعول مخففا ، وقرئ مثقلا وتضعيف العذاب مضاعفته لانضمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله :

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً(٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١)

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة. وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فلذلك يعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات.

(وَمَنْ تابَ) عن المعاصي بتركها والندم عليها. (وَعَمِلَ صالِحاً) يتلافى به ما فرط ، أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعة. (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ) يرجع إلى الله بذلك. (مَتاباً) مرضيا عند الله ماحيا للعقاب محصلا للثواب ، أو يتوب متابا إلى الله الّذي يحب التائبين ويصطنع بهم ؛ أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وهو تعميم بعد تخصيص.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣)

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يقيمون الشهادة الباطلة ، أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه. (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) ما يجب أن يلقى ويطرح. (مَرُّوا كِراماً) معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية فيما يستهجن التصريح به.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بالوعظ أو القراءة. (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية ، فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك : لا يلقاني زيد مسلما. وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها (بِاللَّغْوِ).

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤)

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه وقرت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة ، و (مِنْ) ابتدائية أو بيانية كقولك : رأيت منك أسدا ، وقرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر «وذريتنا» وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص ويعقوب (وَذُرِّيَّاتِنا) بالألف ، وتنكير ال (أَعْيُنٍ) لإرادة تنكير ال (قُرَّةَ) تعظيما وتقليلها لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. (وَاجْعَلْنا


لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل ، وتوحيده إما للدلالة على الجنس وعدم اللبس كقوله (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أو لأنه مصدر في أصله ، أو لأن المراد واجعل كل واحد منا ، أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم. وقيل جمع آم كصائم وصيام ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم.

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٧٦)

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أعلى مواضع الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وللقراءة بها ، وقيل هي من أسماء الجنة. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) دعاء بالتعمير والسلامة أي يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه ، أو تبقية دائمة وسلامة من كل آفة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (يُلَقَّوْنَ) من لقي.

(خالِدِينَ فِيها) لا يموتون فيها ولا يخرجون. (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) مقابل (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) معنى ومثله إعرابا.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) ما يصنع بكم من عبأت الجيش إذا هيأته أو لا يعتد بكم. (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) لو لا عبادتكم فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. وقيل معناه ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة وما إن جعلت استفهامية فمحلها النصب على المصدر كأنه قيل : أي عبء يعبأ بكم. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به حيث خالفتموه. وقيل فقد قصرتم في العبادة من قولهم : كذب القتال إذا لم يبالغ فيه. وقرئ «فقد كذب الكافرون» أي الكافرون منكم لأن توجه الخطاب إلى الناس عامة بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) يكون جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة ، أو أثره لازما بكم حتى يكبكم في النار ، وإنما أضمر من غير ذكر للتهويل والتنبيه على أنه لا يكتنهه الوصف ، وقيل المراد قتل يوم بدر وأنه لوزم بين القتلى لزاما ، وقرئ «لزاما» بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير نصب».


(٢٦) سورة الشعراء

مكية إلا قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى آخرها وهي مائتان وست أو

سبع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٣)

(طسم) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة ، ونافع بين بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها ، وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الظاهر إعجازه وصحته ، والإشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول «البقرة».

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتل نفسك ، وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح ، وقرئ «باخع نفسك» بالإضافة ، ولعل للإشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة. (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٦)

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) دلالة ملجئة إلى الإيمان أو بلية قاسرة عليه. (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله. وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم. وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم ، وقرئ «خاضعة» وظلت عطف على (نُنَزِّلْ) عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) موعظة أو طائفة من القرآن. (مِنَ الرَّحْمنِ) يوحيه إلى نبيه. (مُحْدَثٍ) مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير. (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه.

(فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمنا في قوله : (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة. (أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من أنه كان حقا أم باطلا ، وكان حقيقا بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) أو لم ينظروا إلى عجائبها. (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (كَرِيمٍ)


محمود كثير المنفعة ، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى ، وهاهنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة ، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره ، و (كُلِ) لإحاطة الأزواج و (كَمْ) لكثرتها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد. (لَآيَةً) على أن منبتها تام القدرة والحكمة ، سابغ النعمة والرحمة. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. (الرَّحِيمُ) حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)(١١)

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) مقدر باذكر أو ظرف لما بعده. (أَنِ ائْتِ) أي (ائْتِ) أو بأن (ائْتِ). (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم.

(قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل من الأول أو عطف بيان له ، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك. (أَلا يَتَّقُونَ) استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجرا لهم وغضبا عليهم ، وهم وإن كان غيبا حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم ، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده ، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإضافة ، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله : ألا يا اسجدوا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(١٤)

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة : خوف التكذيب ، وضيق القلب انفعالا عنه ، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق ، لأنها إذا اجتمعت مسة الحاجة إلى معين يقوى قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته ، وليس ذلك تعللا منه وتوقفا في تلقي الأمر ، بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه ، وقرأ يعقوب (وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ) بالنصب عطفا على (يُكَذِّبُونِ) فيكونان من جملة ما خاف منه.

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه ، والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنبا على زعمهم ، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به قبل أداء الرسالة ، وهو أيضا ليس تعللا وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة ، كما أن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله :

(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧)

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا) إجابة له إلى الطلبتين بوعده لدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف ، وضم أخيه إليه في الإرسال ، والخطاب في (فَاذْهَبا) على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الّذي يدل عليه


(كَلَّا) كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والّذي طلبته. (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وفرعون. (مُسْتَمِعُونَ) سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهر كما عليه ، مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعا لما يجري بينهم وترقبا لإمداد أوليائه منهم ، مبالغة في الوعد بالإعانة ، ولذلك تجوز بالاستماع الّذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الّذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات ، وهو خبر ثان أو الخبر وحده (مَعَكُمْ) لغو.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة ، قال الشاعر :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى ، أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به ، أو لأنه أراد أن كل واحد منا.

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال المتضمن معنى القول ، والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام.

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(١٩)

(قالَ) أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك. (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) في منازلنا. (وَلِيداً) طفلا سمي به لقربه من الولادة. (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين ، ثم بقي بعد الغرق خمسين.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي ، وبخه به معظما إياه بعد ما عدد عليه نعمته ، وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز. (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي ، أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه‌السلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين ، ويجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة ، أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢٢)

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) من الجاهلين وقد قرئ به ، والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه ، أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله ، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب ، أو الناسين من قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما).

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) حكمة. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) رد أولا بذلك ما وبخه به قدحا في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقا غير قادح في دعواه ، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها فقال.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم ، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك. وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي (أَنْ عَبَّدْتَ) ، ومحل (أَنْ عَبَّدْتَ) الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل (نِعْمَةٌ) أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها. وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء


مبهمة و (أَنْ عَبَّدْتَ) عطف بيانها والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة (تَمُنُّها) علي ، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده ، والخوف والفرار منه ومن ملئه.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٢٥)

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله :

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها ، فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لا بد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب ، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله ، أو يزعم أنه (رَبُّ السَّماواتِ) وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية ، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٨)

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل.

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر ، وسماه رسولا على السخرية.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الّذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لا ينهم أولا ، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)(٣٠)

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) عدولا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج ، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله (أَلا تَسْتَمِعُونَ) من نسبة الربوبية إلى غيره ، ولعله كان دهريا اعتقد أن من ملك قطرا أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله ، واللام في (الْمَسْجُونِينَ) للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي ، يعني المعجزة فإنها


الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته ، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل.

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(٣٣)

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أن لك بينة أو في دعواك ، فإن مدعي النبوة لا بدّ له من حجة.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها ، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٣٥)

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) مستقرين حوله فهو ظرف وقع موقع الحال. (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فائق في علم السحر.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٣٨)

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخر أمرهما ، وقيل احبسهما. (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) شرطا يحشرون السحرة.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي ، وقرئ «بكل ساحر».

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢)

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثا على مبادرتهم إليه كقول تأبط شرا :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق

أي ابعث أحدهما إلينا سريعا.

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة


المقتضية للاتباع ، ومقصودهم الأصلي أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء ، وقرئ «نعم» بالكسر وهما لغتان.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(٤٥)

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي بعد ما قالوا له (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلا به إلى إظهار الحق.

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم ، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع ، وقرأ حفص تلقف بالتخفيف. (ما يَأْفِكُونَ) ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى ، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(٤٨)

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر ، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له ، وأن التبحر في كل فن نافع. وإنما بدل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم ، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل من «ألقي» بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد.

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإشعار على أن الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(٤٩)

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فعلمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم ، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه ، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم أمنوا عن بصيرة وظهور حق ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم وقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) بيان له.

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٥١)

(قالُوا لا ضَيْرَ) لا ضرر علينا في ذلك. (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء


للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى ، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها.

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا) لأن كنا. (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أتباع فرعون ، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير ، أو تعليل للعلة المتقدمة. وقرئ «إن كنا» على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة ، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(٥٢)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا ، وقرأ ابن كثير ونافع (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ «أن سر» من السير. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)(٥٦)

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين أخبر بسراهم. (فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) العساكر ليتبعوهم.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا بالإضافة إلى جنوده ، إذ روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة ، ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع ، و (قَلِيلُونَ) باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل.

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) لفاعلون ما يغيظنا.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) وإنا لجمع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور ، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه ، أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون (حاذِرُونَ) والأول للثبات والثاني للتجدد ، وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضا من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذرا ، وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء قال :

أحبّ الصّبي السّوء من أجل أمّه

وأبغضه من بغضها وهو حادر

أو تامو السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم.

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)(٦٠)

(فَأَخْرَجْناهُمْ) بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج أخرجنا فهو مصدر ، أو مثل ذلك المقام الّذي كان لهم على أنه صفة مقام ، أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

(فَأَتْبَعُوهُمْ) وقرئ «فاتبعوهم». (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس.


(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)(٦٤)

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر ، وقرئ «تراءت الفئتان» (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) لملحقون ، وقرئ «لمدركون» من أدرك الشيء إذا تتابع ففني ، أي : لمتتابعون في الهلاك على أيديهم.

(قالَ كَلَّا) لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم. (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالحفظ والنصرة. (سَيَهْدِينِ) طريق النجاة منهم ، روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال : أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون ، فقال : أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع.

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) بحر القلزم أو النيل. (فَانْفَلَقَ) أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقا بينها مسالك. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب.

(وَأَزْلَفْنا) وقربنا. (ثَمَّ الْآخَرِينَ) فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) بإطباقه عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) وأية آية. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط ، وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) المنتقم من أعدائه. (الرَّحِيمُ) بأوليائه.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) على مشركي العرب. (نَبَأَ إِبْراهِيمَ).

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحا به وافتخارا ، و «نظل» ها هنا بمعنى ندوم. وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(٧٤)

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة. (إِذْ تَدْعُونَ) عليه


وقرئ «يسمعونكم» أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعا مع (إِذْ) على حكاية الحال الماضية استحضارا لها.

(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) على عبادتكم لها. (أَوْ يَضُرُّونَ) من أعرض عنها.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع ، والتجؤوا إلى التقليد.

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٧٧)

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقا.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه ، أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان ، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضا لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح ، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول ، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩)

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار ، مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم ، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها ، والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله :

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده ، وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)(٨١)

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) عطف على (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب ، وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم ، ولا ينتقض بإسناد الإماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحس به لا ضرر فيه وإنما لضرر في مقدماته وهي المرض ، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب الّتي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات ، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر ، والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهرا وذلك بقدرة الله العزيز العليم.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) في الآخرة.


(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٨٣)

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) ذكر ذلك هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر ، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفارا لما عسى يندر منه من الصغائر ، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله «هي أختي» ، ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) كمالا في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورئاسة الخلق. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٨٦)

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) جاها وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين ، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه ، أو صادقا من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي) بالهداية والتوفيق للإيمان. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به ، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٨٩)

(وَلا تُخْزِنِي) بمعاتبتي على ما فرطت ، أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوارث ، أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلا ، أو بتعذيب والدي ، أو ببعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان ، أو من الخزاية بمعنى الحياء. (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) الضمير للعباد لأنهم معلومون أو ل (الضَّالِّينَ).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته ، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر ، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة. وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلّا غناه. وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) تنفعه.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (٩٣)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها ، وفي اختلاف الفعلين


ترجيح لجانب الوعد.

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أين ألهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم. (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم. (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال :

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)(٩٥)

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) أي الآلهة وعبدتهم ، والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها.

(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) متبعوه من عصاة الثقلين ، أو شياطينه. (أَجْمَعُونَ) تأكيد لل (جُنُودُ) إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير وما عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله :

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٩٨)

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله :

(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي في استحقاق العبادة ، ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في (قالُوا) والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة ، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها.

(وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٢)

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) إذ الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلّا المتقين ، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء ، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق ، وجمع الشافع ووحد ال (صَدِيقٍ) لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، أو لأن ال (صَدِيقٍ) الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء ، أو لإطلاق ال (صَدِيقٍ) على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) تمن للرجعة أقيم فيه «لو» مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير ، أو شرط حذف جوابه. (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جواب التمني أو عطف على (كَرَّةً) أي : لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من قصة إبراهيم. (لَآيَةً) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر ، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير ، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالقته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه ، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أكثر قومه. (مُؤْمِنِينَ) به.


(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر على تعجيل الانتقام. (الرَّحِيمُ) بالإمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٠٨)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ال (قَوْمُ) مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) لأنه كان منهم. (أَلا تَتَّقُونَ) الله فتتركوا عبادة غيره.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) مشهور بالأمانة فيكم.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(١١١)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أنا عليه من الدعاء والنصح. (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في (أَجْرِيَ) في الكلمات الخمس.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الأقلون جاها ومالا جمع الأرذل على الصحة ، وقرأ يعقوب «وأتباعك» وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال ، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية ، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلا على بطلانه ، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك :

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١١٥)

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إنهم عملوه إخلاصا أو طمعا في طعمة وما عليّ إلا اعتبار الظاهر.

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. (لَوْ تَشْعُرُونَ) لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله :

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء ، أو ما عليّ إلا إنذاركم إنذارا بينا بالبرهان الواضح فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٨)


(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عما تقول. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) من المشتومين أو المضروبين بالحجارة.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) إظهارا لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.

(فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة. (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من قصدهم أو شؤم عملهم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء.

(ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) بعد إنجائه. (الْباقِينَ) من قومه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) شاعت وتواترت. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٢٦)

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٢٧)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه ، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية.

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٣١)

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) بكل مكان مرتفع ، ومنه ريع الأرض لارتفاعها. (آيَةً) علما للمارة. (تَعْبَثُونَ) ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام ، أو بنيانا يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم ، أو قصورا يفتخرون بها.

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) مآخذ الماء وقيل قصورا مشيدة وحصونا. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فتحكمون بنيانها.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) بسيف أو سوط. (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.

(فَاتَّقُوا اللهَ) بترك هذه الأشياء. (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ


عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥)

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) كرره مرتبا على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد والوعيد على تركه بالانقطاع ، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في (أَلا تَتَّقُونَ) مبالغة في الإيقاظ والحث على التقوى فقال.

(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ثم أوعدهم فقال.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا والآخرة ، فإنه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣٩)

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فإنا لا نرعوي عما نحن عليه ، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه.

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ما هذا الّذي جئتنا به إلا كذب الأوليين ، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بضمتين أي ما هذا الّذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ، أو ما هذا الّذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون ، أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على ما نحن عليه.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بسبب التكذيب بريح صرصر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ)(١٤٨)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله :

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) لطيف لين للطف التمر ، أو لأن النخل أنثى وطلع إناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو ، أو متدل منكسر من كثرة الحمل ، وإفراد ال (نَخْلٍ) لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)(١٥٢)

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط ، فإن الحاذق يعمل


بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين» وهو أبلغ من «فارهين».

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) استعير الطاعة الّتي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر ، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازا.

(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وصف موضح لإسرافهم ولذلك عطف : (وَلا يُصْلِحُونَ) على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٥٤)

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقلهم ، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكيدا له. (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٥٨)

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ) أي بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها. (لَها شِرْبٌ) نصيب من الماء كالسقي وألقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم. (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر. (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظم اليوم لعظم ما يحل فيه ، وهو أبلغ من تعظيم العذاب.

(فَعَقَرُوها) أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعا. (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) على عقرها خوفا من حلول العذاب لا توبة ، أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي العذاب الموعود. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب ، وأن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٦٣)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ(١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (١٦٦)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم ، أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم ، فالمراد ب (الْعالَمِينَ) على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس.


(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ) لأجل استمتاعكم. (رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) للبيان إن أريد به جنس الإناث ، أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضا بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات ، أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك ، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١٦٨)

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من المنفيين من بين أظهرنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) من المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد ، وهو أبلغ من أن يقول (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ) قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم.

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ)(١٧١)

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي من شؤمه وعذابه.

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.

(إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط. (فِي الْغابِرِينَ) مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٧٥)

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم. (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٠)

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ)(١٨١)

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهم شعيبا كما بعثه إلى مدين وكان أجنبيا منهم فلذلك قال :

(إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) ولم يقل أخوهم شعيب. وقيل الأيكة شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة» بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم ، وإنما كتبت ها هنا وفي ص بغير ألف اتباعا للفظ.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).


(أَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه. (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(١٨٤)

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السوي ، وهو وإن كان عربيا فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بالقتل والغارة وقطع الطريق.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٨٧)

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه. (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) في دعواك.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) قطعة منها ، ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد. وقرأ حفص بفتح السين. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٩٠)

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(١٩٦)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدا للمكذبين به ، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به ، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان إبتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

(عَلى قَلْبِكَ) تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله عزوجل ، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه ، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق ، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة ، و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) جبريل عليه‌السلام فإنه أمين الله على وحيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب (الرُّوحُ الْأَمِينُ). (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك.


(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب (نَزَلَ) ، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمّد عليهم الصلاة والسلام.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩)

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحة القرآن أو نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلا. وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و (آيَةً) بالرفع على أنها الاسم والخبر (لَهُمْ) و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل أو الفاعل و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل (لَهُمْ) حال ، أو أن الاسم ضمير القصة و (آيَةً) خبر (أَنْ يَعْلَمَهُ) والجملة خبر تكن.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم.

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لفرط عنادهم واستكبارهم ، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم ، و (الْأَعْجَمِينَ) جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)(٢٠٣)

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أدخلناه. (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) والضمير للكفر المدلول عليه بقوله (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) فتدل الآية على أنه بخلق الله ، وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عنادا.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الملجئ إلى الإيمان.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) في الدنيا والآخرة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) تحسرا وتأسفا.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ)(٢٠٧)

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) فيقولون أمطر علينا حجارة من السماء ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) ، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة.

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)(٢٠٩)

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) أنذروا أهلها إلزاما للحجة.

(ذِكْرى) تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإنذار ، أو الرفع على أنها صفة


(مُنْذِرُونَ) بإضمار ذوو ، أو بجعلهم ذكرى لإمعانهم في التذكرة ، أو خبر محذوف والجملة اعتراضية. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك غير الظالمين ، أو قبل الإنذار.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)(٢١٣)

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة.

(وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) وما يصح لهم أن يتنزلوا به. (وَما يَسْتَطِيعُونَ) وما يقدرون.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) لكلام الملائكة. (لَمَعْزُولُونَ) لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) تهييج لازدياد الإخلاص ولطف لسائر المكلفين.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٢١٦)

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم. روي أنه لما نزلت صعد الصفا وناداهم فخذا فخذا حتى اجتمعوا إليه فقال : «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ» قالوا نعم قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط ، و (مِنَ) للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره ، أو للتبعيض على أن المراد (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المشارفون للإيمان أو المصدقون باللسان.

(فَإِنْ عَصَوْكَ) ولم يتبعوك. (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) مما تعملونه أو من أعمالكم.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) الّذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» على الإبدال من جواب الشرط.

(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) إلى التهجد.

(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وترددك في تصفح أحوال المجتهدينكما روي أنه عليه‌السلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه‌السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم ، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن. أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم ، وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله الّتي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقا للتوكل وتطمينا لقلبه عليه.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله. (الْعَلِيمُ) بما تنويه.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ


كاذِبُونَ)(٢٢٣)

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين : أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإثم ، فإن اتصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف ذلك. وثانيهما قوله :

(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم ، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» ولا كذلك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها ، وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى : (كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ). والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم ، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)(٢٢٦)

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وأتباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا كذلك ، وهو استئناف أبطل كونه عليه الصلاة والسلام شاعرا وقرره بقوله :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها ، وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ، وإليه أشار بقوله :

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحال أربابهما. وقرأ نافع (يَتَّبِعُهُمُ) على التخفيف ، وقرئ بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان «قل وروح القدس معك». وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام قال له «اهجهم فو الّذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم ، وفي أي منقلب ينقلبون أي بعد الموت من الإيهام والتهويل ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد


إليه ، وقرئ «أي منفلت ينفلتون» من الانفلات وهو النجاة والمعنى : أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمّد عليهم الصلاة والسلام».


(٢٧) سورة النمل

مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٣)

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى آي السورة ، والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه ، وتأخيره باعتباره تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود ، أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام ، أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم. وقرئ وكتاب بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) حالان من ال (آياتُ) والعامل فيهما معنى الإشارة ، أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف ، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه ، أو جملة اعتراضية كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة ، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٦)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس ، أو الأعمال الحسنة الّتي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها. (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) كالقتل والأسر يوم بدر. (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه. (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي حكيم وأي عليم ، والجمع بينهما مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والإشعار بأن علوم القرآن منها ما هي حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات ، ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(٧)


(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي اذكر قصته (إِذْ قالَ) ويجوز أن يتعلق ب (عَلِيمٍ). (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن حال الطريق لأنه قد ضله ، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل ، والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ. (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) شعلة نار مقبوسة ، وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبسا وغير قبس ، ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال (قَبَسٍ) بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس ، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في «طه» ، والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم ، أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩)

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي (بُورِكَ) فإن النداء فيه معنى القول ، أو ب (أَنْ بُورِكَ) على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة. (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها مَنْ) في مكان (النَّارِ) وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة الّتي كلم الله فيها موسى. وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون ، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم.

(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر ، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) الهاء للشأن و (أَنَا اللهُ) جملة مفسرة له ، أو للمتكلم و (أَنَا) خبره و (اللهُ) بيان له. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره ، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١)

(وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على (بُورِكَ) أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ، ويدل عليه قوله (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) بعد قوله (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) بتكرير أن. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك باضطراب. (كَأَنَّها جَانٌ) حية خفيفة سريعة ، وقرئ «جأن» على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى ، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا ، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي. وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي من ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة.


(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(١٢)

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها. وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) آفة كبرص. (فِي تِسْعِ آياتٍ) في جملتها أو معها على أن التسع هي ، الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدا ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون. أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به. (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثا أو مرسلا. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل للإرسال.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٤)

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) بأن جاءهم موسى بها. (مُبْصِرَةً) بينة اسم فاعل أطلق للمفعول ، إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر ، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلا عن أن تهدي ، أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها. وقرئ «مبصرة» أي مكانا يكثركم فيه التبصر. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح سحريته.

(وَجَحَدُوا بِها) وكذبوا بها. (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) وقد استيقنتها لأن الواو للحال. (ظُلْماً) لأنفسهم. (وَعُلُوًّا) ترفعا عن الإيمان وانتصابهما على العلة من (جَحَدُوا). (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٥)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع ، أو علما أي علم. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) عطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال : ففعلا شكرا له ما فعلا (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ). (الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني من لم يؤت علما أو مثل علمهما ، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الّذي لم يؤت غيرهما ، وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)(١٧)

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر. (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تشهيرا لنعمة الله وتنويها بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه ، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه ، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ،


ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الّذي صوته والغرض الّذي توخاه به. ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال : يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاختة فقال : إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا ، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب ، والضمير في (عُلِّمْنا وَأُوتِينا) له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة ، والمراد (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كثرة ما أوتي كقولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) الّذي لا يخفى على أحد.

(وَحُشِرَ) وجمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) واد بالشأم كثير النمل ، وتعدية الفعل إليه ب (عَلى) إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعه من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي. (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها ، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها ، وسرورا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره. (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه ، وقرأ البزي وورش بفتح ياء (أَوْزِعْنِي). (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أدرج فيه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها ، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) إتماما للشكر واستدامة للنعمة. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) في عدادهم الجنة.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٢١)

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد. (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال : ما لي لا أراه ، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) كنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص. (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ليعتبر به أبناء جنسه. (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة تبين عذره ، والحلف في الحقيقة


على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو «ليأتينني» بنونين الأولى مفتوحة مشددة.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٢٢)

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه ، وقرأ عاصم بفتح الكاف. (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعني حال سبأ ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه ، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو وغير مصروف على تأويل القبيلة أو البلدة والقواس بهمزة ساكنة. (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء. وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء. فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(٢٤)

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، والضمير لسبأ أو لأهلها. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها. وقيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا ، أو ثمانين في ثمانين من ذهب وفضة مكللا بالجواهر.

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) كأنهم كانوا يعبدونها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن سبيل الحق والصواب. (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إليه.

(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٢٦)

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من (أَعْمالَهُمْ) ، أو (لا يَهْتَدُونَ) إلى أن يسجدوا بزيادة لا. وقرأ الكسائي ويعقوب ألا بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :

وقالت ألا يا اسمع أعظك بخطّة

فقلت سميعا فانطقي وأصيبي

وعلى هذا صح أن يكون استئنافا من الله أو من سليمان والوقف على (لا يَهْتَدُونَ) ، فيكون أمرا بالسجود وعلى الأول ذما على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها ، وقرئ «هلا» و «هلا» بقلب الهمزة هاء و «ألا تسجدون» و «هلا تسجدون» على الخطاب. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثا على سجوده وردا على من يسجد لغيره ، و (الْخَبْءَ) ما خفي في غيره


وإخراجه إظهاره ، وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإبداع ، فإنه إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته. وقرأ حفص والكسائي (ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) بالتاء.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الّذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٢٨)

(قالَ سَنَنْظُرُ) سنعرف من النظر بمعنى التأمل. (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل.

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه. (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٣١)

(قالَتْ) أي بعد ما ألقى إليها. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لكرم مضمونه أو مرسله ، أو لأنه كان مختوما أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به.

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه ، أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان (وَإِنَّهُ) أي وإن المكتوب أو المضمون. وقرئ بالفتح على الإبدال من (كِتابٌ) أو التعليل لكرمه. (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أن مفسرة أو مصدرية فتكون بصلتها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من (كِتابٌ). (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) مؤمنين أو منقادين ، وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود ، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحا أو التزاما ، والنهي عن الترفع الّذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل ، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ)(٣٣)

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أجيبوني في أمري الفتي واذكروا ما تستصوبون فيه. (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) ما أبت أمرا. (حَتَّى تَشْهَدُونِ) إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإجابة.

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) بالأجساد والعدد. (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) نجدة وشجاعة. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) موكول. (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك.

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي


مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٣٥)

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وغلبة. (أَفْسَدُوها) تزييف لما أحست منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية ، وإشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ، ثم أن الحرب سجال لا تدرى عاقبتها. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإهانة والأسر. (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة ، أو تصديق لها من الله عزوجل.

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) بيان لما ترى تقديمه في المصالحة ، والمعنى إني مرسلة رسلا بهدية أدفعه بها عن ملكي. (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) من حاله حتى أعمل بحسب ذلك. روي أنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معهم غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان ، وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت : إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا ، فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم ، فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه ، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧)

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ «فلما جاءوا». (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) خطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب. وقرأ حمزة ويعقوب بالإدغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء. (فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك الّذي لا مزيد عليه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها وبإمالتها الكسائي وحده. (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي. (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لأنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى إليكم حبا لزيادة أموالكم ، أو بما تهدونه افتخارا على أمثالكم ، والإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الّذي حملهم عليه ، وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها. (ارْجِعْ) أيها الرسول. (إِلَيْهِمْ) إلى بلقيس وقومها. (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ «بهم». (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من سبأ. (أَذِلَّةً) بذهاب ما كانوا فيه من العز. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أسراء مهانون.

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)(٣٩)

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة ، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟. (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها.

(قالَ عِفْرِيتٌ) خبيث مارد. (مِنَ الْجِنِ) بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه ، وكان اسمه ذكوان أو صخرا. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف


النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) على حمله. (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) لا أختزل منه شيئا ولا أبدله.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٤٠)

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) آصف بن برخيا وزيره ، أو الخضر أو جبريل عليهما‌السلام أو ملك أيده الله به ، أو سليمان عليه‌السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك ، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولا ثم أراهم أنه يتأتى له مالا يتأتى لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم ، والمراد ب (الْكِتابِ) جنس الكتب المنزلة أو اللوح ، و (آتِيكَ) في الموضعين صالح للفعلية والاسمية ، «والطرف» تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله :

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

وصف برد الطرف والطرف بالارتداد ، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك ، وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه. (فَلَمَّا رَآهُ) أي العرش (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) حاصلا بين يديه. (قالَ) تلقيا للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) تفضل به عليّ من غير استحقاق ، والإشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره ، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية «الإسراء». (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) بأن أراه فضلا من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه. (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أجد نفسي في البين ، أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره. (كَرِيمٌ) بالإنعام عليه ثانيا.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)(٤٢)

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) بتغيير هيئته وشكله. (نَنْظُرْ) جواب الأمر ، وقرئ بالرفع على الاستئناف. (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفته أو الجواب الصواب ، وقيل إلى الإيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس.

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) تشبيها عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل. (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) ولم تقل هو هو الاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت : وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة ، أو المعجزة مما تقدم من الآيات. وقيل إنه من كلام سليمان عليه‌السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا ، وإحضاره ثمة من المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أي وأوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به من عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه ، ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكرا الله تعالى.


(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام ، أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإيمان. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) وقرئ بالفتح على الإبدال من فاعل صدها على الأول ، أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) القصر وقيل عرصة الدار. (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها. وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بالهمز حملا على جمعه سئوق وأسؤق. (قالَ إِنَّهُ) إن ما تظنينه ماء. (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) مملس. (مِنْ قَوارِيرَ) من الزجاج.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادتي الشمس ، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة.

(وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيما أمر به عباده وقد ، اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)(٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بأن اعبدوا الله ، وقرئ بضم النون على اتباعها الباء. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) ففاجؤوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق ، والواو لمجموع الفريقين.

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا. (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ. (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) قبل نزوله. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ.

(قالُوا اطَّيَّرْنا) تشاءمنا. (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) إذ تتابعت علينا الشدائد ، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم. (قالَ طائِرُكُمْ) سببكم الّذي جاء منه شركم. (عِنْدَ اللهِ) وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، والإضراب من بيان طائرهم الّذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٤٩)

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) تسعة أنفس ، وإنما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى ، والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة ، والنفر من الثلاثة إلى التسعة. (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح.


(قالُوا) أي قال بعضهم لبعض. (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أمر مقول أو خبر وقع بدلا أو حالا بإضمار قد. (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) لنباغتن صالحا وأهله ليلا. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض ، وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر. (ثُمَّ لَنَقُولَنَ) فيه القراءات الثلاث. (لِوَلِيِّهِ) لولي دمه. (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) فضلا أن تولينا إهلاكهم ، وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا (مَهْلِكَ) في قراءة حفص فإن مفعلا قد جاء مصدرا كمرجع. وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ونحلف إنا لصادقون ، أو والحال (إِنَّا لَصادِقُونَ) فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا ، أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلا بل رجلين.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١)

(وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه المواضعة. (وَمَكَرْنا مَكْراً) بأن جعلناها سببا لإهلاكهم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ، روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه ، فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) و (كانَ) إن جعلت ناقصة فخبرها (كَيْفَ) و (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف أو خبر محذوف لا خبر (كانَ) لعدم العائد ، وإن جعلتها تامة ف ـ (كَيْفَ) حال. وقرأ الكوفيون ويعقوب (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم (كانَ) أو خبر له و (كَيْفَ) حال.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٣)

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) خالية من خوى البطن إذا خلا ، أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط ، وهي حال عمل فيها معنى الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيتعظون.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) صالحا ومن معه. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٥٥)

(وَلُوطاً) واذكر لوطا ، أو وأرسلنا لوطا لدلالة ولقد أرسلنا عليه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) بدل على الأول وظرف على الثاني. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح ، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه ، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. (مِنْ دُونِ النِّساءِ) اللاتي خلقن لذلك. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تفعلون فعل من يجهل قبحها ، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح ، أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.


(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٥٨)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتنزهون عن أفعالنا ، أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) قدرنا كونها من الباقين في العذاب.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) مر مثله.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)(٥٩)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بعد ما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا ـ بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكرا على ما أنعم عليهم ، أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفانا لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين ، أو لوطا بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك. (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم ، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسا حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)(٦٠)

(أَمَّنْ) بل أمن (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الّتي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وقرأ «أمن» بالتخفيف على أنه بدل من الله. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لأجلكم. (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته ، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أغيره يقرن به ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين. وقرئ «أإلها» بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق الّذي هو التوحيد.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٦١)

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) وجعلها قرارا بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها. (وَجَعَلَ خِلالَها) وسطها. (أَنْهاراً) جارية. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جبالا تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والمالح ، أو خليجي فارس والروم. (حاجِزاً) برزخا وقد مر بيانه في سورة «الفرقان». (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحق فيشركون به.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما


تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٣)

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) المضطر الّذي أحوجه شدة ما به إلى اللجإ إلى الله تعالى من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ويدفع عن الإنسان ما يسوءه. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الّذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا ، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة. وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بالنجوم وعلامات الأرض ، وال (ظُلُماتِ) ظلمات الليالي وإضافتها إلى (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) للملابسة ، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني المطر ، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى ، والفاعل للسبب فعل للمسبب. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثل ذلك. (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٦٤)

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها. (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بأسباب سماوية وأرضية. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٦٥)

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له ، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم ، أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها ، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف. (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) متى ينشرون مركبة من «أي» «وآن» ، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(٦٦)

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغ فيه ، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا. (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات


والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل ، والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم ، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما بهم ، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها الّتي عندها تعدم. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص (بَلِ ادَّارَكَ) بمعنى تتابع حتى استحكم ، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وأبو بكر «ادّرك» وأصلهما تفاعل وافتعل. وقرئ «أأدرك» و «أم أدرك» بهمزتين «وءاأدرك» بألف بينهما و «بل أدرك» و «بل تدارك» و «بلى أأدرك» و «بلى أأدرك» و «أم أدرك» و «أم تدارك» ، وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على التهكم ، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها (بَلِ) إنهم (مِنْها عَمُونَ) أو رد وإنكار لشعورهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٦٨)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) ، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها ، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار ، والمراد بالإخراج الإخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة ، وقرأ نافع «إذا كنا» بهمزة واحدة مكسورة ، وقرأ ابن عامر والكسائي «إننا لمخرجون» بنونين على الخبر.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) من قبل وعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الّتي هي كالأسمار.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(٧٠)

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم ، والتعبير عنهم ب (الْمُجْرِمِينَ) ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على تكذبيهم وإعراضهم. (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) في حرج صدر ، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان ، وقرئ ضيق أي أمر ضيق. (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)(٧٢)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) العذاب الموعود. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) تبعكم ولحقكم ، واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل يتعدى باللام مثل دنا. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) حلوله وهو عذاب يوم بدر ، وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها إظهارا لوقارهم وإشعارا بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله تعالى ووعيده.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ


وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لتأخير عقوبتهم على المعاصي ، والفضل والفاضلة الأفضال وجمعها فضول وفواضل. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت أي سترت. (وَما يُعْلِنُونَ) من عداوتك فيجازيهم عليه.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) خافية فيهما ، وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الراوية ، أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بين أو (مُبِينٍ) ما فيه لما يطالعه ، والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٧٨)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح.

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم المنتفعون به.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) بين بني إسرائيل. (بِحُكْمِهِ) بما يحكم به وهو الحق ، بحكمته ويدل عليه أنه قرئ بحكمه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يرد قضاؤه. (الْعَلِيمُ) بحقيقة ما يقضي فيه ، وحكمه.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٨١)

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تبال بمعاداتهم. (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا ، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد. وقرأ ابن كثير (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُ).

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر. وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي». (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما يجدي إسماعك. (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) من هو في علم الله كذلك. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون من أسلم وجهة لله.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)(٨٢)

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب. (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعا ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان ، لا يفوتها


هارب ولا يدركها طالب. وروي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من أين مخرجها فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله ، يعني المسجد الحرام. (تُكَلِّمُهُمْ) من الكلام ، وقيل من الكلم إذ قرئ «تكلمهم». وروي أنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام ، فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه ، وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه. (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا) خروجها وسائر أحوالها فإنها من آيات الله تعالى ، وقيل القرآن ، وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح. (لا يُوقِنُونَ) لا يتيقنون ، وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول الله عزوجل أو علة خروجها ، أو تكلمها على حذف الجار.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)(٨٥)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) يعني يوم القيامة. (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) بيان للفوج أي فوجا مكذبين ، و (مِنْ) الأولى للتبعيض لأن أمة كل نبي وأهل كل قرن شامل للمصدقين والمكذبين. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.

(حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى المحشر. (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب ، أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها. (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ، وهو للتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك. (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله. (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) باعتذار لشغلهم بالعذاب.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦)

(أَلَمْ يَرَوْا) ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل ، لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر ، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان ، وأن من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم. (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) بالنوم والقرار. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لدلالتها على الأمور الثلاثة.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٨٧)

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في الصور أو القرن ، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق. (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع بأن يثبت قلبه. قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقيل الحور والخزنة وحملة العرش ، وقيل الشهداء ، وقيل موسى عليه الصلاة والسلام لأنه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة وحفص (أَتَوْهُ) على


الفعل ، وقرئ «أتاه» على التوحيد للفظ الكل. (داخِرِينَ) صاغرين وقرئ «دخرين».

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)(٨٨)

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) ثابتة في مكانها. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) في السرعة ، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها. (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله (وَعَدَ اللهُ). (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة ، وقيل (خَيْرٌ مِنْها) أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وهشام خبير بما يفعلون بالياء والباقون بالتاء. (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) يعني به خوف عذاب يوم القيامة ، وبالأول ما يلحق الإنسان من التهيب لما يرى من الأهوال والعظائم ولذلك يعم الكافر والمؤمن ، وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم ، وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ). وقرأ الكوفيون ونافع (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم والباقون بكسرها.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قيل بالشرك. (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) فكبوا فيها على وجوههم ، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على الالتفات أو بإضمار القول أي قيل لهم ذلك.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(٩٢)

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ذلك بعد ما بين المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة ، إشعارا بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه ، وتخصيص مكة بهذه الإضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ «الّتي حرمها». (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين أو الثابتين على ملة الإسلام.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا ، أو اتباعه وقرئ «واتل عليهم» «وأن اتل». (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياي في ذلك ، (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فإن منافعه عائدة إليه. (وَمَنْ ضَلَ) بمخالفتي. (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) القاهرة في


الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض ، أو في الآخرة. (فَتَعْرِفُونَها) أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا ، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله».


(٢٨) سورة القصص

مكية وقيل إلا قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)

وهي ثمان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٤)

(طسم).

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

(نَتْلُوا عَلَيْكَ) نقرؤه بقراءة جبريل ، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازا. (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) بعض نبئهما مفعول (نَتْلُوا). (بِالْحَقِ) محقين. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون به.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) استئناف «مبين» لذلك البعض ، والأرض أرض مصر. (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا يشيعونه فيما يريد ، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل ، أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل ، والجملة حال من فاعل (جَعَلَ) أو صفة ل (شِيَعاً) أو استئناف ، وقوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) بدل منها ، كان ذلك لأن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده ، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(٦)

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أن نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه ، (وَنُرِيدُ) حكاية حال ماضية معطوفة على (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) من حيث إنهما واقعان تفسيرا لل (نَبَإِ) ، أو حال من (يَسْتَضْعِفُ) ولا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له ، لجواز أن يكون تعلق الإرادة به حينئذ تعلقا استقباليا مع أن منة الله بخلاصهم لما كانت قريبة الوقوع منه جاز أن تجري مجرى المقارن. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقدمين في أمر الدين. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لما كان في ملك فرعون وقومه.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر والشام ، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) من بني إسرائيل. (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وقرأ حمزة والكسائي ويرى بالياء و (فِرْعَوْنَ وَهامانَ


وَجُنُودَهُما) بالرفع.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ)(٨)

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) بإلهام أو رؤيا. (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما أمكنك إخفاؤه. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن يحس به. (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) في البحر يريد النيل. (وَلا تَخافِي) عليه ضيعة ولا شدة. (وَلا تَحْزَنِي) لفراقه. (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) عن قريب بحيث تأمنين عليه. (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها ، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية ، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتا فقذفته في النيل.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ومؤداه تشبيها له بالغرض الحامل عليه. وقرأ حمزة والكسائي (وَحَزَناً). (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) في كل شيء فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون ، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم ، فالجملة اعتراض لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به ، وقرئ «خاطين» تخفيف (خاطِئِينَ) أو «خاطين» الصواب إلى الخطأ.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩)

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي لفرعون حين أخرجته من التابوت. (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه ، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت ، وفي الحديث أنه قال : لك لا لي. ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. (لا تَقْتُلُوهُ) خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أو نتبناه فإنه أهل له. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له ، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنه لغيرنا وقد تبنيناه.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١١)

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي خلاء لا عقول فيها ، ويؤيده أنه قرئ «فرغا» من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه. (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بالصبر والثبات. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المصدقين بوعد الله ، أو من الواثقين


بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه. وقرئ «مؤسى» إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط ، وجواب (لَوْ لا) محذوف دل عليه ما قبله.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) مريم. (قُصِّيهِ) اتبعي أثره وتتبعي خبره. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) عن بعد وقرئ «عن جانب» «وعن جنب» وهو بمعناه. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها تقص أو أنها أخته.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ(١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) ومنعناه أن يرتضع من المرضعات ، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع ، أو موضعه يعني الثدي. (مِنْ قَبْلُ) من قبل قصها أثره. (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) لأجلكم. (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصرون في إرضاعه وتربيته ، روي أن هامان لما سمعه قال : إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون ، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله ، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها : من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها ، فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وهو قوله تعالى :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بولدها. (وَلا تَحْزَنَ) بفراقه. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) علم مشاهدة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن وعده حق فيرتابون فيه ، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع ، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)(١٥)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ. وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة. (وَاسْتَوى) قده أو عقله. (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة. (وَعِلْماً) بالدين ، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه ، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه ، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الّذي فعلنا بموسى وأمه. (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) ودخل مصر آتيا من قصر فرعون وقيل منف أو حائين ، أو عين شمس من نواحيها. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه ، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط ، والإشارة على الحكاية. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي) هو (مِنْ عَدُوِّهِ) فسأله أن يغيثه بالإعانة ولذلك عدي ب (عَلى) وقرئ «استعانه». (فَوَكَزَهُ مُوسى) فضرب القبطي بجمع كفه ، وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره. (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ). (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم ، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلما


واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم. (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(١٧)

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله. (فَاغْفِرْ لِي) ذنبي. (فَغَفَرَ لَهُ) لاستغفاره. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لذنوب عباده. (الرَّحِيمُ) بهم.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أو استعطاف أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلن أكون معينا لمن أدت معاونته إلى جرم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى ، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)(١٩)

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) يترصد الاستقادة. (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه مشتق من الصراخ. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قاله الإسرائيلي لأنه لما سماه غويا ظن أنه يبطش عليه ، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الّذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي. (إِنْ تُرِيدُ) ما تريد. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب. (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ)(٢٢)

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) يسرع صفة رجل ، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) يتشاورون بسببك ، وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) اللام للبيان وليس صلة ل (النَّاصِحِينَ) لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول.

(فَخَرَجَ مِنْها) من المدينة. (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لحوق طالب. (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) خلصني منهم واحفظني من لحوقهم.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) قبالة مدين قرية شعيب ، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان. (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) توكلا على الله وحسن ظن به ، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب


عقيبه فأخذوا في الآخرين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(٢٤)

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها. (وَجَدَ عَلَيْهِ) وجد فوق شفيرها. (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة كثيرة مختلفين. (يَسْقُونَ) مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم. (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم. (قالَ ما خَطْبُكُما) ما شأنكما تذودان. (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال ، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر (يُصْدِرَ) أي ينصرف. وقرئ «الرعاء» بالضم وهو اسم جمع كالرخال. (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا.

(فَسَقى لَهُما) مواشيهما رحمة عليهما. قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم ، وقيل كانت بئرا أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) لأي شيء أنزلت إلي.

(مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام. (فَقِيرٌ) محتاج سائل ولذلك عدي باللام ، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا ، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦)

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مستحيية متخفرة. قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي الّتي تزوجها موسى عليه‌السلام. (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ) ليكافئك. (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) جزاء سقيك لنا ، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعا في الأجر ، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما فامتنع عنه وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا وأن كل من فعل معروفا فأهدي بشيء لم يحرم أخذه. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يريد فرعون وقومه.

(قالَتْ إِحْداهُما) يعني الّتي استدعته. (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) لرعي الغنم. (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) تعيل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه ، جعل (خَيْرَ) اسما وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف. روي أن شعيبا قال لها وما أعلمك بقوته وأمانته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ


عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٢٨)

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيرا ، أو تثيبني من أجرك الله. (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعية ثماني حجج. (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) عملت عشر حجج. (فَمِنْ عِنْدِكَ) فإتمامه من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما عليك. وهذا استدعاء العقد لا نفسه ، فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعية الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد ، وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال ، واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الّذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه. (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أطولهما أو أقصرهما. (قَضَيْتُ) وفيتك إياه. (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان ، أو فلا أكون متعديا بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي ، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي. وقرئ «أيما» كقوله :

تنظّرت نصرا والسماكين أيّما

عليّ من الغيث استهلّت مواطره

وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي : أي الأجلين جردت عزمي لقضائه ، وعدوان بالكسر. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من المشارطة. (وَكِيلٌ) شاهد حفيظ.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(٢٩)

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) بامرأته. روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشرا أخرى ثم عزم على الرجوع. (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أبصر من الجهة الّتي تلي الطور. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) بخبر الطريق. (أَوْ جَذْوَةٍ) عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن.

قال :

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها

جزل الجذى غير خوار ولا دعر

وقال آخر :

وألقى على قبس من النّار جذوة

شديدا عليه حرّها والتهابها

ولذلك بينه بقوله : (مِنَ النَّارِ) وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ


وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)(٣١)

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى. (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متصل بالشاطئ أو صلة ل (نُودِيَ). (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ. (أَنْ يا مُوسى) أي يا موسى. (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) هذا وإن خالف ما في «طه» «والنمل» لفظا فهو طبقه في المقصود.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي فألقاها فصارت ثعبانا واهتزت (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ). (كَأَنَّها جَانٌ) في الهيئة والجثة أو في السرعة. (وَلَّى مُدْبِراً) منهزما من الخوف. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع. (يا مُوسى) نودي يا موسى. (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من المخاوف ، فإنه لا (يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(٣٢)

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أدخلها. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) عيب. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس ، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرا لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة ، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء ، وقرئ بضمهما ، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات. (فَذانِكَ) إشارة إلى العصا واليد ، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس. (بُرْهانانِ) حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض ، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن. (مِنْ رَبِّكَ) مرسلا بهما. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ)(٣٥)

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بها.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) معينا وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء ، وقرأ نافع «ردا» بالتخفيف. (يُصَدِّقُنِي) بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ولساني لا يطاوعني عند المحاجة ، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب ، وقرأ عاصم وحمزة (يُصَدِّقُنِي) بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد. (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) غلبة أو حجة. (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) باستيلاء أو حجاج. (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا ، أو ب (نَجْعَلُ) أي نسلطكما بها ، أو بمعنى «لا يصلون» أي تمتنعون منهم ، أو قسم جوابه «لا يصلون» ، أو بيان ل (الْغالِبُونَ) في قوله : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الّذي.


(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ(٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٣٧)

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله ، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله ؛ أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر. (وَما سَمِعْنا بِهذا) يعنون السحر أو ادعاء النبوة. (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) كائنا في أيامهم.

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) فيعلم أني محق وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير «قال» بغير واو لأنه قال ما قاله جوابا لمقالهم ، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد. (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازا إلى الآخرة ، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض. وقرأ حمزة والكسائي يكون بالياء. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(٤٠)

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه ، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) كأنه توهم أنه لو كان لكان جسما في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أو أراد أن يبني له رصدا يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة ، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى: (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فإن معناه بما ليس فيهن ، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ، ولا كذلك العلوم الانفعالية ، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم ؛ ولذلك نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بغير استحقاق. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) بالنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) كما مر بيانه ، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، ونظيره : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (فَانْظُرْ) يا محمّد. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وحذر قومك عن مثلها.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا


لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٤٢)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) قدوة للضلال بالحمل على الإضلال ، وقيل بالتسمية كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) ، أو بمنع الألطاف الصارفة عنه. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) طردا عن الرحمة ، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) من المطرودين ، أو ممن قبح وجوههم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤٣)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أقوام نوح وهود وصالح ولوط.

(بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أنوارا لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل. (وَهُدىً) إلى الشرائع الّتي هي سبل الله تعالى. (وَرَحْمَةً) لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر ، وقد فسر بالإرادة وفيه ما عرفت.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(٤٥)

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) يريد الوادي ، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى ، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ما كنت حاضرا. (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) إذ أوحينا إليه الأمر الّذي أردنا تعريفه. (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) للوحي إليه أو على الوحي إليه ، وهم السبعون المختارون الميقات ، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيبات الّتي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله :

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد ، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم ، فحذف المستدرك وأقام سببه مقامه. (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما. (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) شعيب والمؤمنين به. (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) تقرأ عليهم تعلما منهم. (آياتِنا) الّتي فيها قصتهم. (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إياك ومخبرين لك بها.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤٦)

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد. (وَلكِنْ) علمناك. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقرئت بالرفع على هذه (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). (لِتُنْذِرَ قَوْماً) متعلق بالفعل المحذوف. (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى ، وهي خمسمائة وخمسون سنة ، أو بينك وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون.


(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٤٧)

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً لَوْ لا) الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها ، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيها لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببية المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سببا لانتفاء ما يجاب به ، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى : لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين ، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعا لعذرهم وإلزاما للحجة عليهم. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات. (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤٩)

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحا وتعنتا. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى ، أو كان فرعون عربيا من أولاد عاد. (قالُوا سِحْرانِ) يعني موسى وهارون ، أو موسى ومحمّدا عليهما‌السلام. (تَظاهَرا) تعاونا بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون «سحران» بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة ، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز. وقرئ ظاهرا على الإدغام. (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي بكل منهما أو بكل الأنبياء.

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) مما أنزل على موسى وعلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإضمارهما لدلالة المعنى ، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام. (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنا ساحران مختلقان ، وهذا من الشروط الّتي يراد بها الإلزام والتبكيت ، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١)

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي ، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالبا كقوله :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

(فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) استفهام بمعنى النفي. (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) في موضع الحال للتأكيد أو التقييد ، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير ، أو في النظم لتتقر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيؤمنون ويطيعون.


(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)(٥٣)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، وقيل في أربعين من أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام ، والضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) للقرآن كالمستكن في :

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي بأنه كلام الله تعالى. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٥٥)

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم وثباتهم على الإيمانين ، أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده ، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتبع السيئة الحسنة تمحها». (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الخير.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرما. (وَقالُوا) للاغين. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) متاركة لهم وتوديعا ، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب صحبتهم ولا نريدها.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لا تقدر على أن تدخلهم في الإسلام. (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيدخله في الإسلام. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالمستعدين لذلك. والجمهور على أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ، قال : يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه. (يُجْبى إِلَيْهِ) يحمل إليه ويجمع فيه ، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كل أوب. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه ، وقيل إنه متعلق بقوله (مِنْ لَدُنَّا) أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره ، وانتصاب (رِزْقاً) على المصدر من معنى (يُجْبى) ، أو حال من ال (ثَمَراتُ) لتخصصها بالإضافة ، ثم بين أن الأمر


بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(٥٩)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خاوية. (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم ، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم ، وانتصاب (مَعِيشَتَها) بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك : زيد ظني مقيم ، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولا على تضمين بطرت معنى كفرت.

(وَما كانَ رَبُّكَ) وما كانت عادته. (مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) في أصلها الّتي هي أعمالها ، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لإلزام الحجة وقطع المعذرة. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بتكذيب الرسل والعتو في الكفر.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من أسباب الدنيا. (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) تمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية. (وَما عِنْدَ اللهِ) وهو ثوابه. (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. (وَأَبْقى) لأنه أبدي. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتستبدلون الّذي هو أدنى بالذي هو خير ، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) وعدا بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. (فَهُوَ لاقِيهِ) مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده ، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الّذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب أو العذاب ، و (ثُمَ) للتراخي في الزمان أو الرتبة ، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي (ثُمَّ هُوَ) بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل ، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)(٦٣)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي ، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وغيره من آيات الوعيد. (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي (هؤُلاءِ الَّذِينَ) أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي (أَغْوَيْناهُمْ) فغووا غيا مثل ما غوينا ، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلا ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) صفة


و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو وإن كان فضلة لكنه صار من اللوازم. (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر هوى منهم ، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل (ما) مصدرية متصلة ب (تَبَرَّأْنا) أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ)(٦٤)

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ) من فرط الحيرة. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم عن الإجابة والنصرة. (وَرَأَوُا الْعَذابَ) لازما بهم. (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجه من الحيل يدفعون به العذاب ، أو إلى الحق لما رأوا العذاب وقيل (لَوْ) للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)(٦٦)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولا عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم ، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره ، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها ، فإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم ، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٨)

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك. (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً). وجمع بين الإيمان والعمل الصالح. (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام ، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لا موجب عليه ولا مانع له. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا والأمر كذلك عند التحقيق ، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وقيل (ما) موصولة مفعول ل (يَخْتارُ) والراجع إليه محذوف والمعنى : ويختار الّذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح. (سُبْحانَ اللهِ) تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧٠)


(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) كعداوة الرسول وحقده. (وَما يُعْلِنُونَ) كالطعن فيه.

(وَهُوَ اللهُ) المستحق للعبادة. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا أحد يستحقها إلا هو. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأنه المولي للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده. (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ في كل شيء. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ)(٧١)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) كان حقه هل إله فذكر ب (مَنْ) على زعمهم أن غيره آلهة. وعن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين. (أَفَلا تَسْمَعُونَ) سماع تدبر واستبصار.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٣)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة عن متاعب الأشغال ، ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل ، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن به (أَفَلا تَسْمَعُونَ) وبالليل. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار بأنواع المكاسب. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى.

(وَنَزَعْنا) وأخرجنا. (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. (فَقُلْنا) للأمم. (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدينون به. (فَعَلِمُوا) حينئذ. (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الألوهية لا يشاركه فيها أحد. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الضائع. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ


وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(٧٨)

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوى وكان ممن آمن به. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره ، أو تكبر عليهم أو ظلمهم. قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل ، أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه‌السلام : لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله. (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) من الأموال المدخرة. (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح. (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) خبر إن والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولي آتى ، وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا. وقرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) منصوب ب «تنوء». (لا تَفْرَحْ) لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها ، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل :

أشد الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا

ولذلك قال تعالى : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ، وعلل النهي ها هنا بكونه مانعا من محبة الله تعالى فقال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي بزخارف الدنيا.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من الغنى. (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها. (وَلا تَنْسَ) ولا تترك ترك المنسي. (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك. (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله. (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فيما أنعم الله عليك. وقيل (أَحْسِنْ) بالشكر والطاعة (كَما أَحْسَنَ) إليك بالإنعام. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بأمر يكون علة للظلم والبغي ، نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لسوء أفعالهم.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال ، و (عَلى عِلْمٍ) في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها ، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب ، وقيل العلم بكنوز يوسف ، و (عِنْدِي) صفة له أو متعلق ب (أُوتِيتُهُ) كقولك : جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الّذي ادعى ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة ، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ) (٨٠)


(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على ما هو عادة الناس من الرغبة. (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنوا مثله لا عينه حذرا عن الحسد. (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الدنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الآخرة للمتمنين. (وَيْلَكُمْ) دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى. (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة. (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها. (وَلا يُلَقَّاها) الضمير فيه للكلمة الّتي تكلم بها العلماء أو لل (ثَوابُ) ، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة. (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن المعاصي.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)(٨١)

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روي أنه كان يؤذي موسى عليه‌السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره ، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه ، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال : من سرق قطعناه ، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه ، فقال قارون ولو كنت قال : ولو كنت ، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت ، فناشدها موسى عليه‌السلام بالله أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي ، فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فقال : يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه ، ثم قال خذيه فأخذته إلى وسطه ، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه ، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه ، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مرارا فلم ترحمه ، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته ، ثم قال بنو إسرائيل : إنما فعله ليرثه ، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته. (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) فيدفعون عنه عذابه. (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٨٣)

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلته. (بِالْأَمْسِ) منذ زمان قريب. (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض ، و (وَيْكَأَنَ) عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «وكأن» للتشبيه والمعنى : ما أشبه الأمر أن الله يبسط الرزق. وقيل من «ويك» بمعنى ويلك و «أن» تقديره ويك اعلم أن الله. (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فلم يعطنا ما تمنينا. (لَخَسَفَ بِنا) لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله. وقرأ حفص بفتح الخاء والسين. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم كأنه قال : تلك الّتي سمعت خبرها وبلغك وصفها ، و (الدَّارُ) صفة والخبر : (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) غلبة وقهرا. (وَلا فَساداً) ظلما على الناس كما أراد فرعون وقارون. (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة. (لِلْمُتَّقِينَ) ما لا يرضاه الله.


(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨٥)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ذاتا وقدرا ووصفا. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم. (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مقامة مبالغة في المماثلة.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه. (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي معاد وهو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه ، أو مكة الّتي اعتدت بها على أنه من العادة رده إليها يوم الفتح ، كأنه لما حكم بأن (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين. روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولد آبائه فنزلت. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم. (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين ، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله :

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٨٧)

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ولكن ألقاه رحمة منه ، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) عن قراءتها والعمل بها. (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) وقرئ (يَصُدُّنَّكَ) من أصد. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى عبادته وتوحيده. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم. (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ في الخلق. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه صادقا».


(٢٩) سورة العنكبوت

مكية وآيها تسع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(٢)

(الم) سبق القول فيه ، ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه.

(أَحَسِبَ النَّاسُ) الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم (آمَنَّا) ، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم (آمَنَّا) هو الثاني كقولك : حسبت ضربه للتأديب ، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم (آمَنَّا) بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف ، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب. روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين ، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى ، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٤)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متصل ب (أَحَسِبَ) أو ب (لا يُفْتَنُونَ) ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كذبوا فيه ، وينوط به ثوابهم وعقابهم لذلك وقيل المعنى وليميزن أو ليجازين ، وقرئ «وليعلمن» من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنّهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح. (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي (حَسِبَ) لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن (حَسِبَ) معنى قدر أو أم منقطعة والإضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الّذي يحكمونه ، أو حكما يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٥)

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) في الجنة ، وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه ، أو إلى العاقبة من الموت


والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله ، فإما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها. (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) فإن الوقت المضروب للقائه. (لَآتٍ) لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة ، فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد. (الْعَلِيمُ) بعقائدهم وأفعالهم.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٧)

(وَمَنْ جاهَدَ) نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات. (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن منفعته لها. (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة به إلى طاعتهم ، وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أحسن جزاء أعمالهم.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) بإيتائهما فعلا ذا حسن ، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفا ، وقيل هو بمعنى قال ، أي وقلنا له أحسن بوالديك (حُسْناً) ، وقيل (حُسْناً) منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما (حُسْناً) وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على (بِوالِدَيْهِ) ، وقرئ (حُسْناً) و «إحسانا». (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بطلانه. (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة ، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا الّتي في «لقمان» و «الأحقاف».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين ، أو في مدخلهم وهو الجنة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)(١١)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإيمان. (كَعَذابِ اللهِ) في الصرف عن الكفر. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) فتح وغنيمة. (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين فأشركونا فيه ، والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم


فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإخلاص والنفاق.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم. (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فيجازي الفريقين.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) الّذي نسلكه في ديننا. (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة ، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كانت تشجيعا لهم عليه ، وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير : وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أثقال ما اقترفته أنفسهم. (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وأثقالا أخر معها لما تسببوا له بالإضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تقريع وتبكيت. (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأباطيل الّتي أضلوا بها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ(١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)(١٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) بعد المبعث ، إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوما تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين ، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع ، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة. (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما. (وَهُمْ ظالِمُونَ) بالكفر.

(فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا عليه‌السلام. (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين. وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث. (وَجَعَلْناها) أي السفينة أو الحادثة.

(آيَةً لِلْعالَمِينَ) يتعظون ويستدلون بها.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١٧)

(وَإِبْراهِيمَ) عطف على (نُوحاً) أو نصب بإضمار اذكر ، وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وأمر الناس به ، أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر. (وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر ، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل.


(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) وتكذبون كذبا في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى ، أو تعملونها وتنحتونها للإفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل ، وقرئ «تخلقون» من خلق للتكثير و «تخلقون» من تخلق للتكلف ، و «أفكا» على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقا ذا إفك. (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدي بطائل ، و (رِزْقاً) يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم. (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله فإنه المالك له. (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره ، أو مستعدين للقائه بهما ، فإنه : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقرئ بفتح التاء.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(١٩)

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) وإن تكذبوني. (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الّذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، فالآية وما بعدها من جملة قصة (إِبْراهِيمَ) إلى قوله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) ويحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم ، توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنفيس عنه ، بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنوا بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من مادة ومن غيرها ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ «يبدأ». (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إخبار بالإعادة بعد الموت معطوف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) لا على (يُبْدِئُ) ، فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على (يُبْدِئُ). (إِنَّ ذلِكَ) الإشارة إلى الإعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)(٢١)

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حكاية كلام الله لإبراهيم أو محمّد عليهما الصلاة والسلام. (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) على اختلاف الأجناس والأحوال. (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد النشأة الأولى الّتي هي الإبداء ، فإنه والإعادة نشأتان من حيث إن كلا اختراع وإخراج من العدم ، والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة ، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر ، وقرئ «النشاءة» كالرآفة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه. (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) تردون.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٣)


(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم عن إدراككم. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها ، والتحصن (فِي السَّماءِ) أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بدلائل وحدانيته أو بكتبه. (وَلِقائِهِ) بالبعث. (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي ييأسون منها يوم القيامة ، فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة ، أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٤)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قوم إبراهيم له. وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر. (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم. (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه بردا وسلاما. (إِنَّ فِي ذلِكَ) في إنجائه منها. (لَآياتٍ) هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٥)

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، وثاني مفعولي (اتَّخَذْتُمْ) محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة ، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم ، والجملة صفة (أَوْثاناً) أو خبر إن على أن ما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح (بَيْنِكُمْ) كما قرئ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وقرئ «إنما مودة بينكم». (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم ، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا). (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢٧)

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) هو ابن أخيه وأول من آمن به ، وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من قومي. (إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الّذي يمنعني من أعدائي. (الْحَكِيمُ)


الّذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشأم فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ولدا ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) فكثر منهم الأنبياء. (وَالْكِتابَ) يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته إلينا. (فِي الدُّنْيا) بإعطاء الولد في غير أوانه ، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لفي عداد الكاملين في الصلاح.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(٢٨)

(وَلُوطاً) عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليها لخبث طينتهم.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)(٣٠)

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وتتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة حتى انقطعت الطرق ، أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث. (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) في مجالسكم الغاصة بأهلها ولا يقال للنادي إلا لما فيه أهله. (الْمُنْكَرَ) كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها. وقيل الخذف ورمي البنادق. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في استقباح ذلك أو في دعوى النبوة المفهومة من التوبيخ.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بإنزال العذاب. (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم ، وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢)

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بالبشارة بالولد والنافلة. (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل لإهلاكهم لهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الّذي هو الكفر وأنواع المعاصي.

(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) اعتراض عليهم بأن فيها من لم يظلم ، أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم. (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم به وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم منها ، وفيه تأخير


للبيان عن الخطاب. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب أو القرية.

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٣٣)

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، و (أَنْ) صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له ، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. (وَقالُوا) لما رأوا فيه أثر الضجرة. (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) على تمكنهم منا. (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (لَنُنَجِّيَنَّهُ) و (مُنَجُّوكَ) بالتخفيف ووافقهم أبو بكر وابن كثير في الثاني ، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب (أَهْلَكَ) بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل.

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٣٥)

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا منها سمي بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أي اضطرب ، وقرأ ابن عامر (مُنْزِلُونَ) بالتشديد. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) هي حكايتها الشائعة أو آثار الديار الخربة ، وقيل الحجارة الممطرة فإنها كانت باقية بعد وقيل بقية أنهارها المسودة. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، وهو متعلق ب (تَرَكْنا) أو (آيَةً).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٣٧)

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) وافعلوا ما ترجون به ثوابه فأقيم المسبب مقام السبب ، وقيل إنه من الرجاء بمعنى الخوف. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة وقيلة صيحة جبريل لأن القلوب ترجف لها. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) في بلدهم أو دورهم ولم يجمع لأمن اللبس. (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨)

(وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب (وَثَمُودَ) غير منصرف على تأويل القبيلة. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي تبين لكم بعض مساكنهم ، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر والمعاصي. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) السوي الّذي بينه الرسل لهم. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا ، أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ولكنهم لجوا حتى هلكوا.


(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ(٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤٠)

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) معطوف على عادا وتقديم (قارُونَ) لشرف نسبه. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) فائتين بل أدركهم أمر الله من سبق طالبه إذا فاته.

(فَكُلًّا) من المذكورين. (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) عاقبناه بذنبه. (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) ريحا عاصفا فيها حصباء ، أو ملكا رماهم بها كقوم لوط. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كمدين وثمود. (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عزوجل. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالتعريض للعذاب.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤١)

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا. (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعا ما ، أو مثلهم بالإضافة إلى الموحد كمثلها بالإضافة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص ، والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، والتاء فيه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب. (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهن من ذلك ، ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقا للتمثيل فيكون المعنى : وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٤٢)

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم ، وقرأ البصريان بالياء حملا على ما قبله و (ما) استفهامية منصوبة ب تدعون و (يَعْلَمُ) معلقة عنها و (مِنْ) للتبيين أو نافية و (مِنْ) مزيدة و (شَيْءٍ) مفعول (يَدْعُونَ) أو مصدرية و (شَيْءٍ) مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول (يَدْعُونَ) عائدها المحذوف ، والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه ، وأن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم ، وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٤٤)

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني هذا المثل ونظائره. (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تقريبا لما بعد من أفهامهم. (وَما يَعْقِلُها) ولا يعقل حسنها وفائدتها. (إِلَّا الْعالِمُونَ) الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تلا هذه الآية


فقال : «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه».

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) محقا غير قاصد به باطلا ، فإن المقصود بالذات من خلقها إفادة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون به.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)(٤٥)

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه. روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه‌السلام فقال : «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ)(٤٧)

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا بالخصلة الّتي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح ، وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء ، وقيل المراد به ذو العهد منهم. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم (يَدُ اللهِ) (مَغْلُولَةٌ) أو بنبذ العهد ومنع الجزية. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) هو من المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم». (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال. (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هم عبد الله بن سلام وأضرابه ، أو من تقدم عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب. (وَمِنْ هؤُلاءِ) ومن العرب أو أهل مكة أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتابين. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالقرآن. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجة عليها. (إِلَّا الْكافِرُونَ) إلا المتوغلون في الكفر فإن جزمهم به يمنعهم عن التأمل فيما يفيد لهم صدقها لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أشار إليه بقوله :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)(٤٩)

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم


الشريفة على أمّيّ لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة ، وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد. (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين ، وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المتكاثرة ، وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.

(بَلْ هُوَ) بل القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) المتوغلون في الظلم بالمكابرة بعد وضوح دلائل إعجازها حتى لم يعتدوا بها.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥١)

وقالوا لو لا أنزل عليه آية من ربّه مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ، وقرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص (آياتٌ). (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه. (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية مغنية عما اقترحوه. (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات ، أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب الّذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. (لَرَحْمَةً) لنعمة عظيمة. (وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وتذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت. وقيل إن أناسا من المسلمين أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتف كتب فيها بعض ما يقول اليهود ، «فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم» فنزلت.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٣)

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بصدقي وقد صدقني بالمعجزات ، أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم ونصحي ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفي عليه حالي وحالكم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو ما يعبد من دون الله. (وَكَفَرُوا بِاللهِ) منكم. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) بقولهم : أمطر (عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ). (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لكل عذاب أو قوم. (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥)

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب ، أو هي كالمحيطة


بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الّتي توجبها بهم ، واللام للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة ، أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ظرف (لَمُحِيطَةٌ) أو مقدر مثل كان كيت وكيت. (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) من جميع جوانبهم. (وَيَقُولُ) الله أو بعض ملائكته بأمره لقراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالنون. (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاءه.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)(٥٧)

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك ، وعنه عليه الصلاة والسلام : «من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمّد عليهما‌السلام». والفاء جواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تناله لا محالة. (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٥٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم. (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) علالي ، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفا لإجرائه مجرى لننزلنهم ، أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) وقرئ «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذية المشركين والهجرة للدين إلى غير ذلك من المحن والمشاق. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ولا يتوكلون إلا على الله.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٦١)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره ، وإنما تصبح ولا معيشة عندها. (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله ، لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة ، فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم هذا. (الْعَلِيمُ) بضميركم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) المسؤول عنهم أهل مكة. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك.


(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٦٣)

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على أن البسط والقبض على التعاقب وألا يكون على وضع الضمير موضع من يشاء وإبهامه لأن من يشاء مبهم. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالحهم ومفاسدهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الّذي لا يقدر على شيء من ذلك. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما عصمك من مثل هذه الضلالة ، أو على تصديقك وإظهار حجتك. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فيتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به الصنم ، وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٦٤)

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) إشارة تحقير وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة. (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت عليها ، أو هي في ذاتها حياة للمبالغة ، و (الْحَيَوانُ) مصدر حين سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ها هنا. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لم يؤثروا عليها الدنيا الّتي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٦٦)

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة. (وَلِيَتَمَتَّعُوا) باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها ، أو لام الأمر على التهديد ويؤيده قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بالسكون. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨)

(أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني أهل مكة. (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) أي جعلنا بلدهم مصونا عن النهب والتعدي آمنا


أهله عن القتل والسبي. (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختلسون قتلا وسبيا إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) حيث أشركوا به غيره وتقديم الصلتين للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن زعم أن له شريكا. (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) يعني الرسول أو الكتاب ، وفي (لَمَّا) تسفيه لهم بأن لم يتوافقوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) تقرير لثوائهم كقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب ، أو لاجترائهم أي ألم يعلموا أن (فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) حتى اجترءوا مثل هذه الجراءة.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٩)

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه. (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والإعانة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».


(٣٠) سورة الروم

مكية إلا قوله (فسبحان الله) الآية وآيها ستون أو تسع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٥)

(الم).

(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم ، أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإضافة. (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقرئ «غلبهم» وهو لغة كالجلب والجلب. (سَيَغْلِبُونَ).

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى ، وقيل بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت ، فقال لهم أبو بكر : لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبي بن خلف : كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه ، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادة في الأجل ، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قفوله من أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تصدق به. واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب ، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار ، والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب. وقرئ «غلبت» بالفتح و «سيغلبون» بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم ، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون ليس شيء منهما إلا بقضائه ، وقرئ «من قبل ومن بعد» من غير تقدير مضاف إليه كأنه قيل قبلا وبعدا أي أولا وآخرا. (وَيَوْمَئِذٍ) ويوم تغلب الروم. (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

(بِنَصْرِ اللهِ) من له كتاب على من لا كتاب له لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم فيما أخبرا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم ، وقيل بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم أو بأن ولي بعض أعدائهم بعضا حتى تفانوا. (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى.


(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(٧)

(وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله في معنى الوعد. (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لامتناع الكذب عليه تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ما يشاهدونه منها والتمتع بزخارفها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) الّتي هي غايتها والمقصود منها. (هُمْ غافِلُونَ) لا تخطر ببالهم ، و (هُمْ) الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ و (غافِلُونَ) خبره والجملة خبر الأولى ، وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة المبدلة من قوله : (لا يَعْلَمُونَ) تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها ، فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا ، وأما باطنها فإنها مجاز إلى الآخرة ووصلة إلى نيلها وأنموذج لأحوالها وإشعارا بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الّذي يختص بظاهر الدنيا.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)(٨)

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أو لم يحدثوا التفكر فيها ، أو أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها مثل قدرته على إبدائها. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق بقول أو علم محذوف يدل عليه الكلام. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمى أو قيام الساعة. (لَكافِرُونَ) جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٩)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تقرير لسيرهم في أقطار الأرض ونظرهم في آثار المدمرين قبلهم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) كعاد وثمود. (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) وقلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها. (وَعَمَرُوها) وعمروا الأرض. (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) من عمارة أهل مكة إياها فإنهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها ، وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالا فيها ، إذ مدار أمرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجؤون إلى دار لا نفع لها. (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليفعل بهم ما تفعل الظلمة فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) أي ثم كان عاقبتهم العاقبة (السُّواى) أو الخصلة (السُّواى) ،


فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم وأنهم جاءوا بمثل أفعالهم ، و (السُّواى) تأنيث الأسوأ كالحسنى أو مصدر كالبشرى نعت به. (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) علة أو بدل أو عطف بيان ل (السُّواى) ، أو خبر كان و (السُّواى) مصدر أساؤوا أو مفعوله بمعنى ، (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) الذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها ، ويجوز أن تكون (السُّواى) صلة الفعل و (أَنْ كَذَّبُوا) تابعها والخبر محذوف للإبهام والتهويل ، وأن تكون (أَنْ) مفسرة لأن الإساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة معنى القول ، وقرأ ابن عامر والكوفيون (عاقِبَةَ) بالنصب على أن الاسم (السُّواى) و (أَنْ كَذَّبُوا) على الوجوه المذكورة.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)(١٢)

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئهم. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبعثهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود ، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وروح بالياء على الأصل.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يسكتون متحرين آيسين يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وأيس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس الّتي لا ترغو ، وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)(١٤)

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) ممن أشركوهم بالله. (شُفَعاءُ) يجيرونهم من عذاب الله ، ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه. (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم ، وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم ، وكتب في المصحف شفعواء وعلمواء بني إسرائيل بالواو وكذا (السُّواى) بالألف إثباتا للهمزة على صورة الحرف الّذي منه حركتها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(١٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) أرض ذات أزهار وأنهار. (يُحْبَرُونَ) يسرون سرورا تهللت له وجوههم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) مدخلون لا يغيبون عنه.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)(١٨)

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات الّتي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته ، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض ، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر ، وتخصيص الحمد بالعشي الّذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة الّتي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر ،


ويجوز أن يكون (عَشِيًّا) معطوفا على (حِينَ تُمْسُونَ) وقوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراضا. وعن ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس (تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء ، و (تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر ، و (عَشِيًّا) صلاة العصر ، و (تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة ، والأكثر على أنها فرضت بمكة. وعنه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية». وعنه عليه الصلاة والسلام «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته ، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه». وقرئ «حينا تمسون» و «حينا تصبحون» أي تمسون فيه وتصبحون فيه.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١٩)

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة والبيضة ، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإخراج. (تُخْرَجُونَ) من قبوركم فإنه أيضا تعقيب للحياة الموت ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢١)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي في أصل الإنشاء لأنه خلق أصلهم منه. (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال ، أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر. (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي بين الرجال والنساء ، أو بين أفراد الجنس. (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لأمر المعاش ، أو بأن تعيش الإنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم ، وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى : (وَرَحْمَةً مِنَّا). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ)(٢٢)

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها ، أو أجناس نطقكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية. (وَأَلْوانِكُمْ) بياض الجلد وسواده ، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها ، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن ، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).


(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٢٣)

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوى القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ(٢٤) خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) مقدر بأن المصدرية كقوله :

ألا أيهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي

أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله :

فما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

(خَوْفاً) من الصاعقة للمسافر. (وَطَمَعاً) في الغيث للمقيم ، ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع ، أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع كقولك فعلته رغما للشيطان ، أو على الحال مثل كلّمته شفاها. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقرئ بالتشديد. (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(٢٦)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيهما المعينين من غير مقيم محسوس ، والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) عطف على (أَنْ تَقُومَ) على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا ، والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك : دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، و (إِذا) الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)


(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد هلاكهم. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) والإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل (الْخَلْقَ) ، وقيل (أَهْوَنُ) بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإعادة بمعنى أن يعيد. (وَلَهُ الْمَثَلُ) الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. (الْأَعْلى) الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يصفه به ما فيها دلالة ونطقا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. (الْحَكِيمُ) الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٩)

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم. (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من مماليككم. (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها. (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) فتكونون أنتم وهم فيه شرعا يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم ، و (مِنْ) الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. (تَخافُونَهُمْ) أن يستبدوا بتصرف فيه. (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. (كَذلِكَ) مثل ذلك التفصيل. (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالإشراك. (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) فمن يقدر على هدايته. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣١)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه ، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. (فِطْرَتَ اللهِ) خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، أو ملة الإسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها ، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير. (ذلِكَ) إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الّذي لا عوج فيه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استقامته لعدم تدبرهم.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى ، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة لقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له.

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ،


وقرأ حمزة والكسائي فارقوا بمعنى تركوا دينهم الّذي أمروا به. (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا تشايع كل إمامها الّذي أضل دينها. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون ظنا بأنه الحق ، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا).

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)(٣٥)

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) شدة. (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من دعاء غيره. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) خلاصا من تلك الشدة. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الّذي عافاهم.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله : (فَتَمَتَّعُوا) غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و «ليتمتعوا». (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم ، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجة وقيل ذا سلطان أي ملكا معه برهان. (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلم دلالة كقوله (كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أو نطق. (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) بإشراكهم وصحته ، أو بالأمر الّذي بسببه يشركون به في ألوهيته.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٣٧)

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) نعمة من صحة وسعة. (فَرِحُوا بِها) بطروا بسببها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم معاصيهم. (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣٨)

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) كصلة الرحم ، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ما وظف لهما من الزكاة ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصا ، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(٣٩)

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة ، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ليزيد ويزكو في أموالهم. (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) فلا


يزكو عنده ولا يبارك فيه ، وقرأ نافع ويعقوب لتربو أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) تبتغون به وجهه خالصا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة ، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة ، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لحالهم ، أو للتعميم كأنه قال : فمن فعل ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به ، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) والرابط (مِنْ ذلِكُمْ) لأنه بمعنى من أفعاله ، و (مِنْ) الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)(٤٢)

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و «البحور». (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب (لِنُذِيقَهُمْ) بالنون. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) لتشاهدوا مصداق ذلك وتتحققوا صدقه. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم ، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (٤٣)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) البليغ الاستقامة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) لا يقدر أن يرده أحد ، وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلق ب (يَأْتِيَ) ، ويجوز أن يتعلق ب (مَرَدَّ) لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدعون أي يتفرقون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) كما قال

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥)

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وباله وهو النار المؤبدة. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يسوون منزلا في الجنة ، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.


(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) علة ل (يَمْهَدُونَ) أو ل (يَصَّدَّعُونَ) ، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين ، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض ، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٤٦)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس. (مُبَشِّراتٍ) بالمطر. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يعني المنافع التابعة لها ، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الّذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها (مُبَشِّراتٍ) أو عليها باعتبار المعنى ، أو على (يُرْسِلَ) بإضمار فعل معلل دل عليه. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني تجارة البحر. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالتدمير. (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك». وقد يوقف على (حَقًّا) على أنه متعلق بالانتقام.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)(٤٩)

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) متصلا تارة. (فِي السَّماءِ) في سمتها. (كَيْفَ يَشاءُ) سائرا أو واقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قطعا تارة أخرى ، وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر. (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين. (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني بلادهم وأراضيهم. (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لمجيء الخصب.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر. (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم ، وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإرسال. (لَمُبْلِسِينَ) لآيسين.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٥٠)


(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. (إِنَّ ذلِكَ) يعني إن الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. (لَمُحْيِ الْمَوْتى) لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية ، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية ، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)(٥١)

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم ، وقيل السحاب لأنه إذا كان (مُصْفَرًّا) لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٥٣)

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم. (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) قيد الحكم به ليكون أشد استحالة ، فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا ، وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع (الصُّمَ).

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمي قلوبهم ، وقرأ حمزة وحده «تهدي العمي». (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى ، ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) لما تأمرهم به.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) إذا أخذ منكم السن ، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما : قرأتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ضعف فأقرأني من ضعف». وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة وشبية وشيبة. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)(٥٥)

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة


وصارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم ، وفي الحديث «ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون» وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام. (غَيْرَ ساعَةٍ) استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا. (كَذلِكَ) مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق. (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون في الدنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٥٧)

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من الملائكة والإنس. (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) في علمه أو قضائه ، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ). (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الّذي أنكرتموه. (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في النظر ، والفاء لجواب شرط محذوف تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه ، أي فقد تبين بطلان إنكاركم. فيومئذ لا تنفع الّذين ظلموا معذرتهم وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر ، أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٥٩)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ولقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في الغرابة كالأمثال ، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب ، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول. (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من آيات القرآن. (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم. (إِنْ أَنْتُمْ) يعنون الرسول والمؤمنين. (إِلَّا مُبْطِلُونَ) مزورون.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الطبع. (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

(فَاصْبِرْ) على أذاهم. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله. (حَقٌ) لا بد من إنجازه. (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) ولا يحملنك على الخفة والقلق. (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وعن يعقوب بتخفيف النون ، وقرئ «ولا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».


(٣١) سورة لقمان

مكية إلا آية وهي (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) فإن وجوبهما

بالمدينة وهو ضعيف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثا من قوله

ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)

وهي أربع وثلاثون آية ، وقيل ثلاث وثلاثون.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)(٣)

(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) سبق بيانه في «يونس».

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) حالان من الآيات والعامل فيهما معنى الإشارة ، ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بيان لإحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتوكيد ولما حيل بينه وبين خبره.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٦)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما يلهي عما يعني كالأحاديث الّتي لا أصل لها والأساطير الّتي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام ، والإضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه. وقيل نزلت في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول : إن كان محمّد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار والأكاسرة. وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه أو قراءة كتابه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) ويتخذ السبيل سخرية ، وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفا على (لِيُضِلَ). (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.


(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٧)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) متكبرا لا يعبأ بها. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) مشابها حاله حال من لم يسمعها. (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) مشابها من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع ، والأولى حال من المستكن في (وَلَّى) أو في (مُسْتَكْبِراً) ، والثانية بدل منها أو حال من المستكن في (لَمْ يَسْمَعْها) ويجوز أن يكونا استئنافين ، وقرأ نافع (فِي أُذُنَيْهِ). (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٩)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة.

(خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير في (لَهُمْ) أو من (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) والعامل ما تعلق به اللام. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لأن قوله (لَهُمْ جَنَّاتُ) وعد وليس كل وعد حقا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ). الّذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده. (الْحَكِيمُ) الّذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قد سبق في «الرعد». (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا شوامخ. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميد بكم ، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته الّتي هي كمال القدرة ، وحكمته الّتي هي كمال العلم ، ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله :

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هذا الّذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته ، و (ما ذا) نصب ب (خَلْقُ) أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته (فَأَرُونِي) معلق عنه. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(١٢)

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) يعني لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته ، وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه ، والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا. والحكمة في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية ، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت فقال : الصمت حكم وقليل فاعله ، وأن داود عليه‌السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري ، فتفكر داود فيه فصعق صعقة. وأنه أمره بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب شيء


إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا. (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول. (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) لا يحتاج إلى الشكر. (حَمِيدٌ) حقيق بالحمد وإن لم يحمد ، أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(١٣)

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أنعم أو أشكم أو ماثان. (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَ) تصغير إشفاق ، وقرأ ابن كثير هنا وفي (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) بإسكان الياء ، وحفص فيهما وفي (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) بفتح الياء ومثله البزي في الأخير وقرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء. (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل كان كافرا فلم يزل به حتى أسلم ، ومن وقف على (لا تُشْرِكْ) جعل بالله قسما. (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(١٤)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) ذات وهن أو تهن وهنا (عَلى وَهْنٍ) أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال ، وقرئ بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا. (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة ، وقرئ «وفصله في عامين» وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير ل (وَصَّيْنَا) أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال من أبرّ «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك». (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأحاسبك على شكرك وكفرك.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٥)

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما ، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه. (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك. (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم. (وَاتَّبِعْ) في الدين (سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مرجعك ومرجعهما. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(١٦)

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي أن الخصلة من الإحسان أو الإساءة إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل. ورفع نافع (مِثْقالَ) على أن الهاء ضمير القصة وكان تامة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر :

كما شرقت صدر القناة من الدم


أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض. وقرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته. (يَأْتِ بِهَا اللهُ) يحضرها فيحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كل خفي. (خَبِيرٌ) عالم بكنهه.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٧)

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) تكميلا لنفسك. (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تكميلا لغيرك. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد سيما في ذلك. (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به. (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(١٩)

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ولا تصاعر ، وقرئ «ولا تصعر» والكل واحد مثل علاه وأعلاه وعالاه. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي فرحا مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحا أو لأجل المرح وهو البطر. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) علة للنهي وتأخير ال (فَخُورٍ) وهو مقابل للمصعر خده والمختال للماشي مرحا لتوافق رؤوس الآي.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) توسط فيه بين الدبيب والإسراع. وعنه عليه الصلاة والسلام : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» ، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت ، وقرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية. (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أوحشها. (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين ، وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٢٠)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم. (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكنكم من الانتفاع به بوسط أو غير وسط (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة ، وقرئ «وأصبغ» بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص نعمه بالجمع والإضافة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) في توحيده وصفاته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل. (وَلا هُدىً) راجع إلى رسول. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أنزله الله بل بالتقليد كما قال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ


عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٢٢)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وهو منع صريح من التقليد في الأصول. (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) يحتمل أن يكون الضمير لهم ولآبائهم. (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإشراك وجواب لو محذوف مثل لاتبعوه ، والاستفهام للإنكار والتعجب.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون ، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدي باللام فلتضمن معنى الإخلاص. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) تعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه. (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) إذ الكل صائر إليه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)(٢٤)

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة ، وقرئ «فلا يحزنك» من أحزن وليس بمستفيض. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) في الدارين. (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) بالإهلاك والتعذيب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمجاز عليه فضلا عما في الظاهر.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٦)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك يلزمهم.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يستحق العبادة فيهما غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن حمد الحامدين. (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد وإن لم يحمد.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٧)

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، وتوحيد (شَجَرَةٍ) لأن المراد تفصيل الآحاد. (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) والبحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر ، فأغنى عن ذكر المداد يمده لأنه من مد الدواة وأمدها ، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها ويمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال ، ونصبه البصريان بالعطف على اسم (أَنَ) أو إضمار فعل يفسره (يَمُدُّهُ) ، وقرئ «تمده» «ويمده» بالياء والتاء. (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء. (حَكِيمٌ) لا يخرج عن علمه وحكمته أمر ، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء.


(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٣٠)

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الخلق.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي) كل من النيرين يجري في فلكه. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر. وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أن ال (أَجَلٍ) ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازا وكلا المعنيين حاصل في الغايات. (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بكنهه.

(ذلِكَ) إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها.

(بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته ، أو الثابت إلهيته. وأنّ ما تدعون من دونه الباطل المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته ، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) مترفع على كل شيء ومتسلط عليه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(٣٢)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال ، وقرئ «الفلك» بالتثقيل و «بنعمات الله» بسكون العين ، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) دلائله. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. (شَكُورٍ) يعرف النعم ويتعرف مانحها ، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ) علاهم وغطاهم. (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما ، وقرئ كالظلال جمع ظله كقلة وقلال. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) مقيم على الطريق القصد الّذي هو التوحيد ، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدار فإنه نقض للعهد الفطري ، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. (كَفُورٍ) للنعم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٣٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) لا يقضي عنه ، وقرئ «لا يجزئ» من


أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. (وَلا مَوْلُودٌ) عطف على (والِدٌ) أو مبتدأ خبره. (هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي ، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب. (حَقٌ) لا يمكن خلفه. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) علم وقت قيامها. لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غدا وأين أموت؟ فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه ، فقال الرجل من هذا؟ قال : ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك» ، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين ، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه ، وقرئ «بأية أرض» وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في كلهن. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) يعلم الأشياء كلها. (خَبِيرٌ) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة ، وأعطي من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر».


(٣٢) سورة السجدة

مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٣)

(الم) إن جعل اسما للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) على أن التنزيل بمعنى المنزل ، وإن جعل تعديدا للحروف كان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره : (لا رَيْبَ فِيهِ) فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حالا من الضمير في (فِيهِ) لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ولا (رَيْبَ فِيهِ) حال من (الْكِتابِ) ، أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فإنه تقرير له ، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولا إلى إعجازه ، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين ، وقرر ذلك بنفي الريب عنه ، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه ، فإن (أَمْ) منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) إذ كانوا أهل الفترة. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بإنذارك إياهم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) مر بيانه في «الأعراف». (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ما لَكُمْ) إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم ، أو (ما لَكُمْ) سواه ولي ولا شفيع بل هو الّذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر ، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله تعالى.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦)

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض. (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجودا. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع ، وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة ، لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين


السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة. وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي ، ثم لا يعرج إليه خالصا كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص ، وقرئ «يعرج» و «يعدون».

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيدبر أمرهما على وفق الحكمة. (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره. (الرَّحِيمُ) على العباد في تدبيره ، وفيه إيماء بأنه يراعي المصالح تفضلا وإحسانا.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(٩)

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خلقة موفرا عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة ، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته ، و (خَلَقَهُ) مفعول ثان. وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم. (مِنْ طِينٍ).

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل. (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ممتهن.

(ثُمَّ سَوَّاهُ) قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إلى نفسه تشريفا له وإشعارا بأنه خلق عجيب ، وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرون شكرا قليلا.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١١)

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها. وقرئ «ضللنا» بالكسر من ضل يضل «وصللنا» من صل اللحم إذا أنتن ، وقرأ ابن عامر «إذا» على الخبر والعامل فيه ما دل عليه. (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو : نبعث أو يجدد خلقنا. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب «إنا» على الخبر ، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده. (كافِرُونَ) جاحدون.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا ولا يبقى منكم أحدا ، والتفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته. (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)(١٢)

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الحياء والخزي. (رَبَّنا) قائلين ربنا. (أَبْصَرْنا) ما وعدتنا. (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك. (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا. (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) إذ لم يبق لنا


شك بما شاهدنا ، وجواب (لَوْ) محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا ، ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي (إِذِ) لأن الثابت في علم الله بمنزلة الواقع ، ولا يقدر ل (تَرى) مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت ، أو يقدر ما دل عليه صلة إذ والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار ، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله :

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم من الرحمة ، أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم. (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكر فيها دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١٦)

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) وعظوا بها. (خَرُّوا سُجَّداً) خوفا من عذاب الله. (وَسَبَّحُوا) نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث. (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حامدين له شكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والطاعة كم يفعل من يصر مستكبرا.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) ترتفع وتتنحى. (عَنِ الْمَضاجِعِ) الفرش ومواضع النوم. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) داعين إياه. (خَوْفاً) من سخطه (وَطَمَعاً) في رحمته. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل». وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس» وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في وجوه الخير.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٧)

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مما تقر به عيونهم. وعنه عليه الصلاة والسلام «يقول الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بلّه ما أطلعتهم عليه ، اقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ)». وقرأ حمزة ويعقوب (أُخْفِيَ لَهُمْ) على أنه مضارع أخفيت ، وقرئ «نخفي» و «أخفي» والفاعل للكل هو الله ، «وقرأت أعين»


لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و (ما) موصولة أو استفهامية معلق عنها الفعل. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه. وقيل هذا لقوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٩)

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) خارجا عن الإيمان (لا يَسْتَوُونَ) في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى.

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة ، وقيل المأوى جنة من الجنان. (نُزُلاً) سبق في سورة «آل عمران». (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢١)

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) مكان جنة المأوى للمؤمنين. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) عبارة عن خلودهم فيها. (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إهانة لهم وزيادة في غيظهم.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر. (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة. (لَعَلَّهُمْ) لعل من بقي منهم. (يَرْجِعُونَ) يتوبون عن الكفر. روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضي الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(٢٤)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) فلم يتفكر فيها ، و (ثُمَ) لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا كما في بيت الحماسة.

ولا يكشف الغماء إلّا ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) في شك. (مِنْ لِقائِهِ) من لقائك الكتاب كقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه ، أو من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى. وعنه عليه الصلاة والسلام «رأيت ليلة أسري بي موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة». (وَجَعَلْناهُ) أي المنزل على موسى. (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).


(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. (بِأَمْرِنا) إياهم به أو بتوفيقنا له. (لَمَّا صَبَرُوا) وقرأ حمزة والكسائي ورويس (لَمَّا صَبَرُوا) أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا. (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لإمعانهم فيها النظر.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)(٢٦)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل. (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية ، أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم ، وقرئ «يمشون» بالتشديد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واتعاظ.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)(٢٧)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) الّتي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا الّتي لا تنبت لقوله: (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وقيل اسم موضع باليمن. (تَأْكُلُ مِنْهُ) من الزرع. (أَنْعامُهُمْ) كالتين والورق. (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحب والثمر. (أَفَلا يُبْصِرُونَ) فيستدلون به على كمال قدرته وفضله.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٢٩)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) النصر أو الفصل بالحكومة من قوله (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا)(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في الوعد به.

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة ، والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جوابا على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم ، فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيبا واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بتكذيبهم ، وقيل هو منسوخ بآية السيف. (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم. (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك ، وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ «الم تنزيل ، وتبارك الّذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر». وعنه «من قرأ «الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام».


(٣٣) سورة الأحزاب

مدينة وآيها ثلاث وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى ، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهي عنه بقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يعود بوهن في الدين. روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة الّتي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح والمفاسد. (حَكِيماً) لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٣)

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) كالنهي عن طاعتهم. (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فموح إليك ما تصلح به أعمالك ويغني عن الاستماع إلى الكفرة ، وقرأ أبو عمرو بالياء على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين أي أن الله خبير بمكايدهم فيدفعها عنك.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وكل أمرك إلى تدبيره. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمور كلها.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(٤)

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل ، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين ، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن محمّد ، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبنى ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه. والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة ، وقرأ أبو عمرو «اللاي» بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله ، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده ، وأصل تظهرون تتظهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء. وقرأ ابن عامر تظاهرون بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم (تَظاهَرُونَ) من ظاهر ، وقرئ «تظهرون» من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد و «تظهرون» من الظهور. ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة : أنت عليّ


كظهر أمي ، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها ، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الّذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج ، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء ، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه. (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير. (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) ما له حقيقة عينية مطابقة له. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) سبيل الحق.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أنسبوهم إليهم ، وهو إفراد للمقصود من أقواله الحقة وقوله : (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) تعليل له ، والضمير لمصدر (ادْعُوهُمْ) و (أَقْسَطُ) أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) فتنسبوهم إليهم. (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الدين. (وَمَوالِيكُمْ) وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لعفوه عن المخطئ. واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الّذي يمكن إلحاقه به.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦)

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها. روي : أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت. وقرئ «وهو أب لهم» أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) وذوو القرابات. (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح أو فيما أنزل ، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن. وقيل في التوراة.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم. (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا


عليه الصلاة والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عظيم الشأن أو مؤكدا باليمين ، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيما له.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم ، أو تصديقهم إياهم تبكيتا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق ، أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم. (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف على (أَخَذْنا) من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين ، أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) ريح الصبا. (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الملائكة. روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمّد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق ، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة. (بَصِيراً) رائيا.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(١٠)

(إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من إذ جاءتكم. (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان. (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش. (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا. (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) رعبا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب. (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم ، والألف مزيدة في أمثاله تشبيها للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف ، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقا وهو القياس.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)(١٢)

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل. (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) من شدة الفزع وقرئ «زلزالا» بالفتح.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد. (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدين. (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا. قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمّد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ما هذا إلا وعد غرور.


(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً)(١٣)

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني أوس بن قيظي وأتباعه. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أهل المدينة ، وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. (لا مُقامَ) لا موضع قيام. (لَكُمْ) ها هنا ، وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام. (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم هاربين ، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمّد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا ، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) للرجوع. (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) غير حصينة وأصلها الخلل ، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها. (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة. (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً)(١٤)

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) دخلت المدينة أو بيوتهم. (مِنْ أَقْطارِها) من جوانبها وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه. (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الردة ومقاتلة المسلمين. (لَآتَوْها) لأعطوها ، وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها) بالفتنة أو بإعطائها. (إِلَّا يَسِيراً) ريثما يكون السؤال والجواب ، وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيرا.

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٦)

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله. (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به مجازى عليه.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف ، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم. (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا ، أو زمانا قليلا.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٨)

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله :

متقلدا سيفا ورمحا

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم. (وَلا نَصِيراً) يدفع الضر عنهم.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبطين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المنافقون. (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) من


ساكني المدينة. (هَلُمَّ إِلَيْنا) قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في «الإنعام». (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) إلا إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا ، فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم ، أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلا كقوله (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وقيل إنه من تتمة كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمّد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٩)

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة ، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل (يَأْتُونَ) أو (الْمُعَوِّقِينَ) أو على الذم. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في أحداقهم. (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) كنظر المغشي عليه أو كدوران عينية ، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه. (مِنَ الْمَوْتِ) من معالجة سكرات الموت خوفا ولواذا بك. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وحيزت الغنائم. (سَلَقُوكُمْ) ضربوكم. (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ذربة يطلبون الغنيمة ، والسلق البسط بقهر باليد أو باللسان. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) نصب على الحال أو الذم ، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلّا منهما مقيد من وجه. (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) إخلاصا. (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم. (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط. (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)(٢٠)

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية. (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب. (يَسْئَلُونَ) كل قادم من جانب المدينة. (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عما جرى عليكم. (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال. (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رياء وخوفا من التعيير.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١)

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ، أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد ، وقرأ عاصم بضم الهمزة وهو لغة فيه. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي ثواب الله أو لقاءه ونعيم الآخرة ، أو أيام الله واليوم الآخر خصوصا. وقيل هو كقولك أرجو زيدا وفضله ، فإن (الْيَوْمَ الْآخِرَ) داخل فيها بحسب الحكم والرجاء يحتمل الأمل والخوف و (لِمَنْ كانَ) صلة لحسنة أو صفة لها. وقيل بدل من (لَكُمْ) والأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه. (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة ، فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً


وَتَسْلِيماً)(٢٢)

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، وقوله عليه الصلاة والسلام «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم». وقوله عليه الصلاة والسلام : إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة. (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقا في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء ، وإظهار الاسم للتعظيم. (وَما زادَهُمْ) فيه ضمير (لَمَّا) رأوا ، أو الخطب أو البلاء. (إِلَّا إِيماناً) بالله ومواعيده. (وَتَسْلِيماً) لأوامره ومقاديره.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٤)

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق ، فإن المعاهد إذا وفي بعهده فقد صدق فيه. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ، والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما. (وَما بَدَّلُوا) العهد ولا غيروه. (تَبْدِيلاً) شيئا من التبديل. روي أن طلحة ثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة والسلام : «أوجب طلحة» وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل ، وقوله :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) تعليل للمنطوق والمعرض به ، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى ، والتوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(٢٥)

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الأحزاب. (بِغَيْظِهِمْ) متغيظين. (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين وهما حالان بتداخل أو تعاقب. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إحداث ما يريده. (عَزِيزاً) غالبا على كل شيء.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)(٢٦)

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) ظاهروا الأحزاب. (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني قريظة. (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف وقرئ بالضم. (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقرئ بضم السين روي : أن جبريل أتى رسول الله صلّى الله عليهما وسلّم صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم: تنزلون على


حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) مزارعهم. (وَدِيارَهُمْ) حصونهم. (وَأَمْوالَهُمْ) نقودهم ومواشيهم وأثاثهم. روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال : إنكم في منازلكم وقال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال : لا إنما جعلت هذه لي طعمة. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) كفارس والروم ، وقيل خيبر وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فيقدر على ذلك.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) السعة والتنعم فيها. (وَزِينَتَها) زخارفها. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أعطكن المتعة. (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) طلاقا من غير ضرار وبدعة. روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت. فبدأ بعائشة رضي الله عنها فخيرها فاختارت الله ورسوله ، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر الله لهن ذلك فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا وجعلها قسيما لإرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافا لزيد والحسن ومالك وإحدى الروايتين عن علي ، ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها «خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخترناه». ولم يعده طلاقا وتقديم التمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم وحسن الخلق. قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية ، واختلف في وجوبه للمدخول بها وليس فيه ما يدل عليه ، وقرئ «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف.

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)(٣١)

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) بكبيرة. (مُبَيِّنَةٍ) ظاهر قبحها على قراءة ابن كثير وأبي بكر والباقون بكسر الياء. (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه ، لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وقرأ البصريان «يضعف» على البناء للمفعول ، ورفع (الْعَذابُ) وابن كثير وابن عامر «نضعف» بالنون وبناء الفاعل ونصب (الْعَذابُ). (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي وكيف وهو سببه.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) ومن يدم على الطاعة. (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ولعل ذكر الله للتعظيم أو لقوله : (وَتَعْمَلْ


صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة والسلام بالقناعة وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي «ويعمل» بالياء حملا على لفظ «من ويؤتها» على أن فيه ضمير اسم الله ، (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) في الجنة زيادة على أجرها.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٣٢)

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أصل أحد وحد بمعنى الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل. (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) مخالفة حكم الله ورضا رسوله. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) فلا تجئن بقولكن خاضعا لينا مثل قول المريبات. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) فجور ، وقرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهي على أنه نهي مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول. (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا بعيدا عن الريبة.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٣٣)

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع. (وَلا تَبَرَّجْنَ) ولا تتبخترن في مشيكن. (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة ، وقيل هي ما بين آدم ونوح ، وقيل الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام ، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه «إن فيك جاهلية ، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر». (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم. (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء أو المدح. (وَيُطَهِّرَكُمْ) عن المعاصي. (تَطْهِيراً) واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)» ، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)(٣٤)

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) من الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير بما أنعم الله عليهن من حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به. (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك خيركن ووعظكن ، أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته.


(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله. (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المصدقين بما يجب أن يصدق به. (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) المداومين على الطاعة. (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في القول والعمل (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعات وعن المعاصي. (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما وجب في مالهم. (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) الصوم المفروض. (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عن الحرام. (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) بقلوبهم وألسنتهم. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات. (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم ، والآية وعد لهن ولأمثالهم على الطاعة والتدرع بهذه الخصال. روي : أن أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت. وقيل : لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت. وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري ، وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري ولذلك ترك في قوله (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) وفائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(٣٦)

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) ما صح له. (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) أي قضى رسول الله ، وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه قضاء الله ، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله. وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد. أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي ، وجمع الثاني للتعظيم. وقرأ الكوفيون وهشام (يَكُونَ) بالياء. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) بين الانحراف عن الصواب.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٣٧)

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه. (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) زينب. وذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : ما لك أرابك منها شيء ، فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم علي ، فقال له : أمسك عليك زوجك. (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها فلا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها. (وَتَخْشَى النَّاسَ) تعييرهم إياك به. (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) إن


كان فيه ما يخشى ، والواو للحال ، وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره ، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها. (زَوَّجْناكَها) وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك. وقرئ «زوجتكها» ، والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أمره الّذي يريده (مَفْعُولاً) مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٣٩)

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان ، ومنه فروض العسكر لأرزاقهم. (سُنَّةَ اللهِ) سن ذلك سنة. (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء ، وهو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) قضاء مقضيا وحكما مبتوتا.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع ، وقرئ «رسالة الله». (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تعريض بعد تصريح. (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلا منه.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ، ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم. (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) وكل رسول أبو أمته لا مطلقا بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم ، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة. وقرئ «رسول الله» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر. (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وآخرهم الّذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح ، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفي : لو عاش لكان نبيا ، ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه ، مع أن المراد منه أنه آخر من نبىء. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٤٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) يغلب الأوقات ويعم الأنواع بما هو أهله من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أول النهار وآخره خصوصا ، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كإفراد التسبيح من جملة الأذكار لأنه العمدة فيها. وقيل الفعلان موجهان


إليهما. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(٤٤)

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بالرحمة. (وَمَلائِكَتُهُ) بالاستغفار لكم والاهتمام بما يصلحكم ، والمراد بالصلاة المشترك وهو العناية بصلاح أمركم وظهور شرفكم مستعار من الصلو. وقيل الترحم والانعطاف المعنوي مأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود ، واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم سيما وهو السبب للرحمة من حيث إنهم مجابو الدعوة. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر والمعصية إلى نوري الإيمان والطاعة. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإنافة قدرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين.

(تَحِيَّتُهُمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول أي يحيون. (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبور ، أو دخول الجنة. (سَلامٌ) إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) هي الجنة ، ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)(٤٦)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم وهو حال مقدرة. (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

(وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته. (بِإِذْنِهِ) بتيسيره وأطلق له من حيث إنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذانا بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه. (وَسِراجاً مُنِيراً) يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٤٨)

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) على سائر الأمم أو على جزاء أعمالهم ، ولعله معطوف على محذوف مثل فراقب أحوال أمتك.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم. (وَدَعْ أَذاهُمْ) إيذاءهم إياك ولا تحتفل به ، أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم ، ولذلك قيل إنه منسوخ. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه يكفيكهم. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمر في الأحوال كلها ، ولعله تعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخطاب يناسبه ، فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له ، وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهي عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي إلى الله بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهانا على جميع خلقه كان حقيقا بأن يكتفي به عن غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ


عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٤٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهن ، وقرأ حمزة والكسائي بألف وضم التاء. (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) أيام يتربصن فيها بأنفسهن. (تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها كقولك : كلته فاكتاله ، أو تعدونها. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به فما لكم ، وعن ابن كثير (تَعْتَدُّونَها) مخففا على إبدال إحدى الدالين بالياء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها ، وظاهره يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا لنطفته ، وفائدة ثم إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة. (فَمَتِّعُوهُنَ) أي إن لم يكن مفروضا لها فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما ، أو الأمر بالمشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة للمفروض لها. (وَسَرِّحُوهُنَ) أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة. (سَراحاً جَمِيلاً) من غير ضرار ولا منع حق ، ولا يجوز تفسيره بالطلاق السني لأنه مرتب على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٠)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) مهورهن لأن المهر أجر على البضع ، وتقييد الإحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها ، وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده قول أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء. (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق ، ولا يدفعه التقييد بأن الّتي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال الإعلام بالحل أي : أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا إن اتفق ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعا : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم. وقرئ «أن» بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك : اجلس ما دام زيد جالسا. (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها ، فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا ، ثم الرجوع إليه في قوله: (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله. واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ ، والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه ، و (خالِصَةً) مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك ، أو حال من الضمير في (وَهَبَتْ) أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم. (وَما مَلَكَتْ


أَيْمانُهُمْ) من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم ، والجملة اعتراض بين قوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) ومتعلقه وهو (خالِصَةً) للدلالة على أن الفرق بينه وبين (الْمُؤْمِنِينَ) في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه ، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يعسر التحرز عنه. (رَحِيماً) بالتوسعة في مظان الحرج.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً)(٥١)

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) تؤخرها وتترك مضاجعتها. (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وتضم إليك من تشاء وتضاجعها ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (تُرْجِي) بالياء والمعنى واحد. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) طلبت. (مِمَّنْ عَزَلْتَ) طلقت بالرجعة. (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في شيء من ذلك. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا ، لأن حكم كلهن فيه سواء ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن ، وقرئ «تقر» بضم التاء و «أعينهن» بالنصب و «تقر» بالبناء للمفعول و «كلهن» تأكيد نون (يَرْضَيْنَ) ، وقرئ بالنصب تأكيدا لهن. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فاجتهدوا في إحسانه. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بذات الصدور. (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي ، وقرأ البصريان بالتاء. (مِنْ بَعْدُ) من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا ، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى. (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و (مِنْ) مزيدة لتأكيد الاستغراق. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) حسن الأزواج المستبدلة ، وهو حال من فاعل (تَبَدَّلَ) دون مفعوله وهو (مِنْ أَزْواجٍ) لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضا إعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولا. وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجا من أجناس أخر. (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء ، وقيل منقطع. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)(٥٣).


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم. (إِلى طَعامٍ) متعلق ب (يُؤْذَنَ) لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل (لا تَدْخُلُوا) أو المجرور في (لَكُمْ). وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هوله بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك. (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لمهم. (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على (ناظِرِينَ) أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين. (إِنَّ ذلِكُمْ) اللبث (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه. (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من إخراجكم بقوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ «لا يستحي» بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) شيئا ينتفع به. (فَسْئَلُوهُنَ) المتاع. (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ستر. روي «أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت». وقيل إنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل يد عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فنزلت. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر النفسانية الشيطانية. (وَما كانَ لَكُمْ) وما صح لكم. (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أن تفعلوا ما يكرهه. (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) من بعد وفاته أو فراقه ، وخص الّتي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير. (إِنَّ ذلِكُمْ) يعني إيذاءه ونكاح نسائه. (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال:

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٥٥)

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) كنكاحهن على ألسنتكم. (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم ذلك فيجازيكم به ، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) استثناء لمن لا يجب الاحتجاب عنهم. روي : أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت. وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا في قوله (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أو لأنه كره ترك الاحتجاب عنهما مخافة أن يصفا لأبنائهما. (وَلا نِسائِهِنَ) يعني نساء المؤمنات. (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من العبيد والإماء ، وقيل من الإماء خاصة وقد مر في سورة «النور». (وَاتَّقِينَ اللهَ) فيما أمرتن به. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لا يخفى عليه خافية.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٥٦).


(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) اعتنوا أنتم أيضا فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صلي على محمّد. (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقولوا السلام عليك أيها النبي وقيل وانقادوا لأوامره ، والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة ، وقيل تجب الصلاة كلما جرى ذكره لقوله عليه الصلاة والسلام «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» وقوله «من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله» ، وتجوز الصلاة على غيره تبعا. وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك كره أن يقال محمّد عزوجل وإن كان عزيزا وجليلا.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(٥٨)

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي ، أو يؤذون رسول الله بكسر رباعيته وقولهم شاعر مجنون ونحو ذلك وذكر الله للتعظيم له. ومن جوز إطلاق اللفظ على معنيين فسره بالمعنيين باعتبار المعمولين. (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته. (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم مع الإيلام.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) بغير جناية استحقوا بها الإيذاء. (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ظاهرا. قيل إنها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه ، وقيل في أهل الإفك ، وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة ، و (مِنْ) للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) يميزن من الإماء والقينات. (فَلا يُؤْذَيْنَ) فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف. (رَحِيماً) بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً)(٦٠)

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن نفاقهم. (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف إيمان وقلة ثبات عليه ، أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يرجفون أخبار السوء عن سرايا المسلمين ونحوها من إرجافهم ، وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت. (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء. (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على (لَنُغْرِيَنَّكَ) ، و (ثُمَ) للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم. (فِيها) في المدينة. (إِلَّا قَلِيلاً) زمانا أو جوارا قليلا.

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦٢)

(مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال والاستثناء شامل له أيضا أي : (لا يُجاوِرُونَكَ) إلا ملعونين ، ولا


يجوز أن ينتصب عن قوله : (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) مصدر مؤكد أي سن الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه (أَيْنَما ثُقِفُوا). (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأنه لا يبدلها ولا يقدر أحد أن يبدلها.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)(٦٣)

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) عن وقت قيامها استهزاء وتعنتا او امتحانا. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) شيئا قريبا أو تكون الساعة عن قريب وانتصابه على الظرف ، ويجوز أن يكون التذكير لأن (السَّاعَةِ) في معنى اليوم ، وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)(٦٦)

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) نارا شديدة الاتقاد.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحفظهم. (وَلا نَصِيراً) يدفع العذاب عنهم.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) تصرف من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار ، أو من حال إلى حال ، وقرئ «تقلب» بمعنى تتقلب و «تقلب» ومتعلق الظرف. (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فلن نبتلى بهذا العذاب.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨)

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» على جمع الجمع للدلالة على الكثرة. (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) بما زينوا لنا.

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) مثلي ما آتيتنا منه لأنهم ضلوا وأضلوا. والعنهم لعنا كثيرا كثير العدد ، وقرأ عاصم بالباء أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) فأظهر براءته من مقولهم يعني مؤداه ومضمونه ، وذلك أن قارون حرض امرأة على قذفه بنفسها فعصمه الله كما مر في «القصص» ، أو اتهمه ناس بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور فمات هناك ، فحملته الملائكة ومروا به حتى رأوه غير مقتول. وقيل أحياه الله فأخبرهم ببراءته ، أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله على أنه بريء منه. (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا قربة ووجاهة ، وقرئ «وكان عبد الله وجيها».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذي رسوله. (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)


قاصدا إلى الحق من سد يسد سدادا ، والمراد النهي عن ضده كحديث زينب من غير قصد.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يوفقكم للأعمال الصالحة ، أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي. (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) يعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٧٢)

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء ، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) حيث لم يف بها ولم يراع حقها. (جَهُولاً) بكنه عاقبتها ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب. وقيل المراد ب (الْأَمانَةَ) الطاعة الّتي تعم الطبيعية والاختيارية ، وبعرضها استدعاؤها الّذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره ، وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته ، فيكون الإباء عنه اتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة الخيانة والتقصير. وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ، ونارا لمن عصاني ، فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثوابا ولا عقابا ، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته ، ولعل المراد ب (الْأَمانَةَ) العقل أو التكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الإباء الطبيعي الّذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تعليل للحمل من حيث إنه نتيجته كالتأديب للضرب في ضربته تأديبا ، وذكر التوبة في الوعد إشعار بأنه كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) حيث تاب عن فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله أو ما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر».


(٣٤) سورة سبأ

مكية وقيل إلا قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية ،

وآيها أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا ونعمة ، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن ما في الآخرة أيضا كذلك ، وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها ، وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الّذي أحكم أمور الدارين. (الْخَبِيرُ) ببواطن الأشياء.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالحيوان والنبات والفلزات وماء العيون. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصواعق. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها ، أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به. (قُلْ بَلى) رد لكلامهم وإثبات لما نفوه. (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ) تكرير لإيجابه مؤكدا بالقسم مقررا لوصف المقسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة ، وقرأ حمزة والكسائي «علام الغيب» للمبالغة ، ونافع وابن عامر ورويس (عالِمِ الْغَيْبِ) بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) وقرأ الكسائي (لا يَعْزُبُ) بالكسر. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) جملة مؤكدة لنفي العزوب ، ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس ، ولا يجوز عطف المرفوع على (مِثْقالُ) والمفتوح على (ذَرَّةٍ) بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لأن الاستثناء يمنعه ، اللهم إلا إذا جعل الضمير في (عَنْهُ) للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطورا في اللوح.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(٥)


(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) علة لقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وبيان لما يقتضي إتيانها. (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تعب فيه ولا من عليه.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بإبطال وتزهيد الناس فيها. (مُعاجِزِينَ) مسابقين كي يفوتونا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين أي مثبطين عن الإيمان من أراده. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) من سيّئ العذاب. (أَلِيمٌ) مؤلم ، ورفعه ابن كثير ويعقوب وحفص.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة ، أو من مسلمي أهل الكتاب. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) القرآن. (هُوَ الْحَقَ) ومن رفع (الْحَقَ) جعل هو مبتدأ و (الْحَقَ) خبره والجملة ثاني مفعولي (يَرَى) ، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وقيل منصوب معطوف على (لِيَجْزِيَ) أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الّذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٨)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال بعضهم لبعض. (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمّدا عليه الصلاة والسلام. (يُنَبِّئُكُمْ) يحدثكم بأعجب الأعاجيب. (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إنكم تنشؤون خلقا جديدا بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير ترابا ، وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه ، وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه ، أو محجوب بينه وبينه بأن و (مُمَزَّقٍ) يحتمل أن يكون مكانا بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح و (جَدِيدٍ) بمعنى فاعل من جد كحديد من حد ، وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه.

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ، واستدل بجعلهم إياه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين لأن الافتراء أخص من الكذب. (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) رد من الله تعالى عليهم ترديدهم وإثبات لهم ما هو أفظع من القسمين ، وهو الضلال البعيد عن الصواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤداه من العذاب ، وجعله رسيلا له في الوقوع ومقدما عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له ، والبعد في الأصل صفة الضال ووصف الضلال به على الإسناد المجازي.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى جعلوه افتراء وهزءا ، وتهديدا عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقا ، أم السماء ، وإنا (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) ، لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات. وقرأ حمزة والكسائي يشأ ويخسف ويسقط بالياء لقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ). والكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء وحفص (كِسَفاً) بالتحريك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر والتفكر فيهما


وما يدلان عليه. (لَآيَةً) لدلالة. (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد ، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب ، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، أو سيري معه حيث سار. وقرئ «أوبي» من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه ، وهو بدل من (فَضْلاً) أو من (آتَيْنا) بإضمار قولنا أو قلنا. (وَالطَّيْرَ) عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على (فَضْلاً) ، أو مفعول معه ل (أَوِّبِي) وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال والطير ، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بآلاته أو بقوته.

(أَنِ اعْمَلْ) أمرناه أن اعمل ف (أَنِ) مفسرة أو مصدرية. (سابِغاتٍ) دروعا واسعات ، وقرئ «صابغات» وهو أول من اتخذها. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها ، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتنخرق. ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة ويؤيده قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). (وَاعْمَلُوا صالِحاً) الضمير فيه لداود وأهله. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم عليه.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١٣)

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخرنا له الريح ، وقرئ «الريح» بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ «الرياح». (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك ، وقرئ «غدوتها» «وروحتها». (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ، ولذلك سماه عينا وكان ذلك باليمن. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) عطف على (الرِّيحَ وَمِنَ الْجِنِ) حال مقدمة ، أو جملة (مِنَ) مبتدأ وخبر. (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) ومن يعدل منهم. (عَنْ أَمْرِنا) عما أمرناه من طاعة سليمان ، وقرئ «يزغ» من أزاغه. (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) عذاب الآخرة.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها. (وَتَماثِيلَ) وصورا هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد. روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. (وَجِفانٍ) وصحاف. (كَالْجَوابِ) كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة. (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) حكاية عما قيل لهم و (شُكْراً) نصب على العلة أي : اعملوا له واعبدوه شكرا ، أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به. (وَقَلِيلٌ مِنْ


عِبادِيَ الشَّكُورُ) المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه ، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته ، ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(١٥)

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي على سليمان. (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ) ما دل الجن وقيل آله. (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي الأرضة أضيفت إلى فعلها ، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا. (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين ، و «منساءته» على مفعالة كميضاءة في ميضأة و «من سأته» أي طرف عصاه مستعار من سأت القوس ، وفيه لغتان كما في قحة وقحة ، وقرأ نافع وأبو عمرو (مِنْسَأَتَهُ) بألف بدلا من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم. (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولا في تسخيره إلى أن خرّ ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب. وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه ، فوصى به إلى سليمان عليه‌السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به ، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرّ ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب. في مساكنهم في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها مأرب ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، وقرأ حمزة وحفص بالإفراد والفتح ، والكسائي بالكسر حملا على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع. (آيَةٌ) علامة دالة على وجود الصانع المختار ، وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما‌السلام. (جَنَّتانِ) بدل من (آيَةٌ) أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان ، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين. (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامهما كأنها جنة واحدة ، أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) استئناف للدلالة على موجب الشكر ، أي هذه البلدة الّتي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الّذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره. وقرئ الكل بالنصب على المدح. قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة.

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ


قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)(١٧)

(فَأَعْرَضُوا) عن الشكر. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم ، وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، أو المطر الشديد أو الجرذ ، أضاف إليه ال (سَيْلَ) لأنه نقب عليهم سكرا ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقبا على مقدار ما يحتاجون إليه ، أو المسناة الّتي عقدت سكرا على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة ، وقيل اسم واد جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام. (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة ، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له ، والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلا ، أو عطف بيان. (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) معطوفان على (أُكُلٍ) لا على (خَمْطٍ) ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له ، وقرئا بالنصب عطفا على (جَنَّتَيْنِ) ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين ، وتسمية البدل (جَنَّتَيْنِ) للمشاكلة والتهكم. وقرأ أبو عمرو «ذواتي أكل» بغير تنوين اللام وقرأ الحرميان بتخفيف (أُكُلٍ).

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل ، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم ، وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وهل يجازى إلّا الكفور وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص (نُجازِي) بالنون و (الْكَفُورَ) بالنصب.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩)

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالتوسعة على أهلها وهي قرى الشأم. (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يظهر بعضها لبعض ، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. (سِيرُوا فِيها) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) متى شئتم من ليل أو نهار. (آمِنِينَ) لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات ، أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها ، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشأم مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الأزواد ، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» ، ويعقوب (رَبَّنا باعِدْ) بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه ، ومثله قراءة من قرأ «ربنا بعد» أو «بعد» على النداء وإسناد الفعل إلى (بَيْنَ). (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها. (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان. (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر. (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن المعاصي. (شَكُورٍ) على النعم.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)


(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك ، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في : صدق وعده. لأنه نوع من القول ، وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا. وقرئ بنصب إبليس ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقا ، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب ، أو سمع من الملائكة قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) فقال : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) و (لَأُغْوِيَنَّهُمْ). (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه ، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء. (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا يترتب عليه الجزاء ، أو ليتميز المؤمن من الشاك ، أو ليؤمن من قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله ، والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة ، وفي نظم الصلتين نكتة لا تخفى. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) محافظ والزنتان متآخيتان.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٢٣)

(قُلِ) للمشركين. (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي زعمتموهم آلهة ، وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه ، ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاما ولا (لا يَمْلِكُونَ) لأنهم لا يزعمونه. (مِنْ دُونِ اللهِ) والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ، ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر. (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي ، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام ، أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) من شركة لا خلقا ولا ملكا. (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يعينه على تدبير أمرهما.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) فلا ينفعهم شفاعة أيضا كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله. (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أذن له أن يشفع ، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك ، واللام على الأول كاللام في قولك : الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك : جئتك لزيد ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة. (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظارا للإذن أي : يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإذن ، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمنا. وقرأ ابن عامر ويعقوب (فُزِّعَ) على البناء للفاعل. وقرئ «فرغ» أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. (قالُوا) قال بعضهم لبعض. (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) في الشفاعة. (قالُوا الْحَقَ) قالوا قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون ، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٤)


(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يريد به تقرير قوله (لا يَمْلِكُونَ). (قُلِ اللهُ) إذ لا جواب سواه ، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة ، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين ، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب ، ونظيره قول حسان :

أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخير كما الفداء

وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر ، واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)(٢٦)

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخبات حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين.

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة. (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار. (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) الحاكم الفاصل في القضايا المنغلقة. (الْعَلِيمُ) بما ينبغي أن يقضى به.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢٨)

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة ، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. (كَلَّا) ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة. (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة ، وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأسا ، والضمير لله أو للشأن.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، أو إلا جامعا لهم في الإبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة ، ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. (بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)

(وَيَقُولُونَ) من فرط جهلهم. (مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله : (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا). (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يخاطبون به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) وعد يوم أو زمان وعد ، وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرئ «يوم» على البدل ، وقرئ «يوما» بإضمار أعني. (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.


(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)(٣٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك ، وقيل الّذي بين يديه يوم القيامة. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موضع المحاسبة. (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يتحاورون ويتراجعون القول. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) يقول الأتباع. (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) للرؤساء. (لَوْ لا أَنْتُمْ) لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان. (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه ، ولذلك بنوا الإنكار على الإسم.

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إضراب عن إضرابهم أي : لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا حتى أعورتم علينا رأينا. (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة ال (مَكْرُ) إلى الظرف على الاتساع ، وقرئ «مكر الليل» بالنصب على المصدر و «مكر الليل» بالتنوين ونصب الظرف و «مكر الليل» من الكرور. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير ، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويها بذمهم وإشعارا بموجب أغلالهم. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم ، وتعدية يجزى إما لتضمين معنى يقضى أو بنزع الخافض.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما مني به من قومه ، وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها ، ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا : (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) على مقابلة الجمع بالجمع.


(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) إما لأن العذاب لا يكون ، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.

(قُلْ) ردا لحسبانهم. (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات ، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيرا ما يكون للاستدراج كما قال :

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(٣٨)

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) قربة والّتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم ، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة. وقرئ «بالذي» أي بالشيء الّذي يقربكم. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) استثناء من مفعول (تُقَرِّبُكُمْ) ، أي الأموال والأولاد لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح ، أو من (أَمْوالُكُمْ) و (أَوْلادُكُمْ) على حذف المضاف. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه ، والإضافة إضافة المصدر إلى المفعول ، وقرئ بالإعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف ، ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الّذي دل عليه لهم. (بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) من المكاره ، وقرئ بفتح الراء وسكونها ، وقرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) بالرد والطعن فيها. (مُعاجِزِينَ) مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا. (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى ، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) عوضا إما عاجلا أو آجلا. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)(٤١)

ويوم نحشرهم جميعا المستكبرين والمستضعفين ثمّ نقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون تقريعا للمشركين وتبكيتا لهم وإقناطا لهم عما يتوقعون من شفاعتهم ، وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم ، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله. وقرأ حفص ويعقوب بالياء فيهما.

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أنت الّذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم ، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم


الملائكة فيعبدونهم. (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) الضمير الأول للإنس أو للمشركين ، والأكثر بمعنى الكل والثاني ل (الْجِنَ).

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٤٣)

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) عطف على (لا يَمْلِكُ) مبين للمقصود من تمهيده.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا) يعنون محمّدا عليه الصلاة والسلام. (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) فيستتبعكم بما يستبدعه. (وَقالُوا ما هذا) يعنون القرآن. (إِلَّا إِفْكٌ) لعدم مطابقة ما فيه الواقع. (مُفْتَرىً) بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن ، والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه. (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته ، وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في (لَمَّا) من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) فيها دليل على صحة الإشراك. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يدعوهم إليه وينذرهم على تركه ، وقد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة ، وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال :

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما كذبوا. (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال ، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله ، ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب ، أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(٤٦)

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) وهو القيام من مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه الله معرضا عن المراء والتقليد. (مَثْنى وَفُرادى) متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ، فإن الازدحام يشوش الخاطر ويخلط القول. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أو أعني. (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك ، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من


غير تحقق ووثوق ببرهان ، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة. وقيل (ما) استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قدامه لأنه مبعوث في نسم الساعة.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٤٧)

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة. (فَهُوَ لَكُمْ) والمراد نفي السؤال عنه ، كأنه جعل التنبي مستلزما لأحد الأمرين إما الجنون وإما توقع نفع دنيوي عليه ، لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره وأيا ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلا منهما. وقيل (ما) موصولة مراد بها ما سألهم بقوله : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وقوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) واتخاذ السبيل ينفعهم وقرباه قرباهم. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي بإسكان الياء.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)(٤٩)

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده ، أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) صفة محمولة على محل (إِنَ) واسمها ، أو بدل من المستكن في (يَقْذِفُ) أو خبر ثان أو خبر محذوف. وقرئ بالنصب صفة ل (رَبِّي) أو مقدرا بأعني. وقرأ حمزة وأبو بكر «الغيوب» بالكسر كالبيوت وبالضم كالعشور ، وقرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب.

(قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي الإسلام. (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وزهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي ، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة قال :

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

وقيل الباطل إبليس أو الصنم ، والمعنى لا ينشئ خلقا ولا يعيده ، أو لا يبدئ خيرا لأهله ولا يعيده. وقيل (ما) استفهامية منتصبة بما بعدها.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحق. (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء ، وبهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله : (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٥١)

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، وجواب (لَوْ) محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا. (فَلا فَوْتَ) فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن. (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب ، والعطف على (فَزِعُوا) أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ «وأخذ» عطفا على محله أي : فلا فوت هناك وهناك أخذ.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٢).


(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) بمحمّد عليه الصلاة والسلام ، وقد مر ذكره في قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ). (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم ، وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أوانه وبعد عنهم ، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها.

أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة :

أقحمني جار أبي الجاموش

إليك نأش القدر النؤوش

أو من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله :

تمنّى نشيشا أن يكون أطاعني

وقد حدثت بعد الأمور أمور

فيكون بمعنى التناول من بعد.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) بمحمّد عليه الصلاة والسلام أو بالعذاب. (مِنْ قَبْلُ) من قبل ذلك أوان التكليف. (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول عليه الصلاة والسلام من المطاعن ، أو في العذاب من البت على نفيه. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) من جانب بعيد من أمره ، وهو الشبه الّتي تمحلوها في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو حال الآخرة كما حكاه من قبل. ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، وقرئ «ويقذفون» على أن الشيطان يلقي إليهم ويلقنهم ذلك ، والعطف على (وَقَدْ كَفَرُوا) على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان والنجاة به من النار ، وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء. (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) موقع في الريبة ، أو ذي ريبة منقول من المشكك ، أو الشك نعت به الشك للمبالغة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا».


(٣٥) سورة الملائكة

مكية وآيها خمس وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه ، والإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه. (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ، ولعله لم يرد به خصوصية الأعداد ونفي ما زاد عليها ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم ، لأن اختلاف الأصناف والأنواع ، بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال ، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض ، إنما هو من جهة الإرادة.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢)

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ) ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب. (مِنْ رَحْمَةٍ) كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة. (فَلا مُمْسِكَ لَها) يحبسها. (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) يطلقه ، واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب ، وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إمساكه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه. (الْحَكِيمُ) لا يفعل إلا بعلم وإتقان. ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) احفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها ، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ


لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به ، ورفع (غَيْرُ) للحمل على محل (مِنْ خالِقٍ) بأنه وصف أو بدل ، فإن الاستفهام بمعنى النفي ، أو لأنه فاعل (خالِقٍ) وجره حمزة والكسائي حملا على لفظه ، وقد نصب على الاستثناء ، و (يَرْزُقُكُمْ) صفة ل (خالِقٍ) أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ ، وعلى الأخير يكون إطلاق (هَلْ مِنْ خالِقٍ) مانعا من إطلاقه على غير الله.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم ، فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ) موضعه استغناء بالسبب عن المسبب ، وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)(٦)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالحشر والجزاء. (حَقٌ) لا خلف فيه. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية ، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة عامة قديمة. (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨)

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة ، وبناء للأمر كله على الإيمان والعمل الصالح وقوله.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا ، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه ، فحذف الجواب لدلالة : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب ، والفاآت الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب ، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف ، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٩)

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح. (فَتُثِيرُ سَحاباً) على حكاية الحال


الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ، ولأن المراد بيان إحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها ، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد. (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره ، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرا. (بَعْدَ مَوْتِها) بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع. (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية ، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها. وقيل في كيفية الإحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)(١٠)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الشرف والمنعة. (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي فليطلبها من عنده فإن له كلها ، فاستغنى بالدليل عن المدلول. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح ، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما ، أو صعود الكتبة بصحيفتهما ، والمستكن في (يَرْفَعُهُ) ل (الْكَلِمُ) فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب (الْعَمَلُ) ، أو ل (الْعَمَلُ) فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة. وقرئ «يصعد» على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك. وقيل (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن. وعنه عليه الصلاة والسلام «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن ، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل». (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه. (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لا يؤبه دونه بما يمكرون به. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١)

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) بخلق آدم عليه‌السلام منه. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) بخلق ذريته منها. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ذكرانا وإناثا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) إلّا معلومة له. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر. (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره ، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا ، والضمير له وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق. وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل : أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون. وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما ، وعن يعقوب (وَلا يُنْقَصُ) على البناء للفاعل. (إِلَّا فِي كِتابٍ) هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٢)


(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ضرب مثل للمؤمن والكافر ، والفرات الّذي يكسر العطش والسائغ الّذي يسهل انحداره ، والأجاج الّذي يحرق بملوحته. وقرئ «سيغ» بالتشديد و «سيغ» بالتخفيف و «ملح» على فعل. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم ، أو تمام التمثيل والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء ، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته ، لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر ، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع. والمراد ب (الْحِلْيَةِ) اللئالئ واليواقيت. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ) في كل. (مَواخِرَ) تشق الماء بجريها. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من فضل الله بالنقلة فيها ، واللام متعلقة ب (مَواخِرَ) ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء. وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ، ويحتمل أن يكون (لَهُ الْمُلْكُ) كلاما مبتدأ في قران. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية ، والقطمير لفافة النواة.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض. (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لعدم قدرتهم على الإنفاع ، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ولا يخبرك بالأمر مخبر (مِثْلُ خَبِيرٍ) به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى ، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(١٧)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) في أنفسكم وما يعن لكم ، وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء ، وأن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً). (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) المستغني على الإطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) بقوم آخرين أطوع منكم ، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر أو متعسر.


(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(١٨)

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وأما قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم ، وكل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) نفس أثقلها الأوزار. (إِلى حِمْلِها) تحمل بعض أوزارها. (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المدعو ذا قرابتها ، فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه. وقرئ «ذو قربى» على حذف الخبر وهو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام. (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) غائبين عن عذابه ، أو عن الناس في خلواتهم ، أو غائبا عنهم عذابه. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) فإنهم المنتفعون بالإنذار لا غير ، واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار. (وَمَنْ تَزَكَّى) ومن تطهر من دنس المعاصي. (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) إذ نفعه لها ، وقرئ «ومن أزكى فإنما يزكي» وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجازيهم على تزكيهم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ)(٢٣)

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الكافر والمؤمن ، وقيل هما مثلان للصنم ولله عزوجل.

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) ولا الباطل ولا الحق.

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) ولا الثواب ولا العقاب ، ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد. و (الْحَرُورُ) فعول من الحر غلب على السموم. وقيل السموم ما يهب نهارا والحرور ما تهب ليلا.

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل. وقيل للعلماء والجهلاء. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) هدايته فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في إقناطه عنهم.

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) فما عليك إلا الإنذار وأما الإسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٢٤)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) محقين أو محقا ، أو إرسالا مصحوبا بالحق ، ويجوز أن يكون صلة لقوله : (شِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أهل عصر. (إِلَّا خَلا) مضى. (فِيها نَذِيرٌ) من نبي أو عالم ينذر عنه ، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل ، أو لأن الإنذار هو الأهم المقصود من البعثة.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ(٢٥)


ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم. (وَبِالزُّبُرِ) كصحف إبراهيم عليه‌السلام. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع ، ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين.

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري بالعقوبة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(٢٨)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أجناسها وأصنافها على أن كلّا منها ذو أصناف مختلفة ، أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقرئ «جدد» بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و (جُدَدٌ) بفتحتين وهو الطريق الواضح. (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) بالشدة والضعف. (وَغَرابِيبُ سُودٌ) عطف على (بِيضٌ) أو على (جُدَدٌ) كأنه قيل : ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها (غَرابِيبُ) متحدة اللون ، وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار والإظهار.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) كاختلاف الثمار والجبال. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان أعلم به كان أخشى منه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «إني أخشاكم لله وأتقاكم له» ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر. وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ(٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنوانا ، والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) كيف اتفق من غير قصد إليهما. وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة. (يَرْجُونَ تِجارَةً) تحصيل ثواب بالطاعة وهو خبر إن. (لَنْ تَبُورَ) لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله :

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم ، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك (لِيُوَفِّيَهُمْ) أو عاقبة ل (يَرْجُونَ). (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ما


يقابل أعمالهم. (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم. (شَكُورٌ) لطاعاتهم أي مجازيهم عليها ، وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر إن و (يَرْجُونَ) حال من واو (وَأَنْفَقُوا).

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(٣١)

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني القرآن و (مِنَ) للتبيين أو الجنس و (مِنَ) للتبعيض. (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام. (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الّذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢)

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه ، أو أورثناه من الأمم السالفة ، والعطف على (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) ، (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اعتراض لبيان كيفية التوريث. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ، أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالتقصير في العمل به. (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يعمل به في غالب الأوقات. (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) بضم التعليم والإرشاد إلى العمل ، وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم. وقيل الظالم المجرم والمقتصد الّذي خلط الصالح بالسيء والسابق الّذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام «أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته». وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد ، وتقدميه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)(٣٥)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل (الَّذِينَ) أو لل (مُقْتَصِدٌ) وال (سابِقٌ) ، فإن المراد بهما الجنس وقرئ «جنة عدن» و «جنات عدن» منصوب بفعل يفسره الظاهر ، وقرأ أبو عمرو (يَدْخُلُونَها) على البناء للمفعول. (يُحَلَّوْنَ فِيها) خبر ثان أو حال مقدرة ، وقرئ يحلون من حليت المرأة فهي حالية. (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ) الأولى للتبعيض والثانية للتبيين. (وَلُؤْلُؤاً) عطف على (ذَهَبٍ) أي (مِنْ ذَهَبٍ) مرصع باللؤلؤ ، أو (مِنْ ذَهَبٍ) في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما‌الله عطفا على محل (مِنْ أَساوِرَ). (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) همهم من خوف العاقبة ، أو همهم من أجل المعاش وآفاته


أو من وسوسة إبليس وغيرها ، وقرئ (الْحَزَنَ). و (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) للمذنبين. (شَكُورٌ) للمطيعين.

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) دار الإقامة. (مِنْ فَضْلِهِ) من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) تعب. (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) كلال ، إذ لا تكليف فيها ولا كد ، أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(٣٧)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) لا يحكم عليهم بموت ثان. (فَيَمُوتُوا) فيتسريحوا ، ونصبه بإضمار أن ، وقرئ «فيموتون» عطفا على (يُقْضى) كقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ). (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) بل كلما خبت زيد إسعارها. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء. (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) مبالغ في الكفر أو الكفران ، وقرأ أبو عمرو «يجزى» على بناء المفعول وإسناده إلى (كُلِّ) ، وقرى «يجازي».

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته. (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه. (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) جواب من الله وتوبيخ لهم و (ما يَتَذَكَّرُ) فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر ، وقيل ما بين العشرين إلى الستين. وعنه عليه الصلاة والسلام «العمر الّذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة». والعطف على معنى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الكتاب ، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب. (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) يدفع العذاب عنهم.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً)(٣٩)

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم بغيرها.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها ، وقيل خلفا بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) جزاء كفره. (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) بيان له ، والتكرير للدلالة على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه ، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً)(٤٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني آلهتهم والإضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء لله


أو لأنفسهم فيما يملكونه. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) بدل من (أَرَأَيْتُمْ) بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه. (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم لهم شركة مع الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ينطق على أنا اتخذناهم شركاء. (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ، ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والكسائي على بينات فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل. (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغرير الأسلاف الأخلاف ، أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١)

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ ، أو يمنعهما أن تزولا لأن الإمساك منع. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ) ما أمسكهما. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد الله أو من بعد الزوال ، والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ).

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(٤٣)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). وذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن (أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ، أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم ، أو من الأمة الّتي يقال فيها هي (إِحْدَى الْأُمَمِ) تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) يعني محمّدا عليه الصلاة والسلام. (ما زادَهُمْ) أي النذير أو مجيئه على التسبب. (إِلَّا نُفُوراً) تباعدا عن الحق.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) بدل من نفورا أو مفعول له. (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أصله وإن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف. وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل. (وَلا يَحِيقُ) ولا يحيط. (الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر ، وقرئ «ولا يحيق المكر» أي ولا يحيق الله. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون. (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيبا ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم ، وقوله :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ


كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين. (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) ليسبقه ويفوته. (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بالأشياء كلها. (قَدِيراً) عليها.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من المعاصي. (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم ، وقيل المراد بالدابة الإنس وحده لقوله : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازيهم على أعمالهم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة : أن أدخل من أي باب شئت».


(٣٦) سورة يس

مكية وعنه عليه الصلاة والسلام «يس تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين

والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة»

وآيها ثلاث وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤)

(يس) ك (الم) في المعنى والإعراب ، وقيل معناه يا إنسان لغة طيئ ، على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل (من الله) في أيمن. وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين ، أو الإعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث ، أو إعرابا على هذه (يس) وأمال الياء حمزة والكسائي وروح وأبو بكر ، وأدغم النون في واو : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ابن عامر والكسائي وأبو بكر وورش ويعقوب ، وهي واو القسم أو العطف إن جعل (يس) مقسما به.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لمن الذين أرسلوا.

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو التوحيد والاستقامة في الأمور ، ويجوز أن يكون (عَلى صِراطٍ) خبرا ثانيا أو حالا من المستكن في الجار والمجرور ، وفائدته وصف الشرع صريحا بالاستقامة وإن دل عليه (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) التزاما.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ)(٦)

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) خبر محذوف والمصدر بمعنى المفعول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله ، وقرئ بالجر على البدل من القرآن.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً) متعلق ب (تَنْزِيلَ) أو بمعنى (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) قوما غير منذر آباؤهم يعني آباءهم الأقربين لتطاول مدة الفترة ، فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله ، أو الّذي أنذر به أو شيئا أنذر به آباؤهم الأبعدون ، فيكون مفعولا ثانيا (لِتُنْذِرَ) ، أو إنذار آبائهم على المصدر. (فَهُمْ غافِلُونَ) متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين ، أو بقوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(٩)

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) يعني قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون.


(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم. (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فالأغلال ، واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص سدا بالفتح وهو لغة فيه ، وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم. وقرئ «فأعشيناهم» من العشاء. وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)(١١)

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) سبق في «البقرة» تفسيره.

(إِنَّما تُنْذِرُ) إنذارا يترتب عليه البغية المرومة. (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به. (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله ، أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن ، منتقم قهار. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. (وَآثارَهُمْ) الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه ، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١٤)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له ، والقرية أنطاكية. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل من أصحاب القرية ، و (الْمُرْسَلُونَ) رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله :

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس ، وقيل غيرهما. (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا) فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به. (بِثالِثٍ) وهو شمعون. (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه‌السلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية


فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟

قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ؛ قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فآنس به ، فقال له يوما : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ، قال لا ، فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الّذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال وما آيتكما ، قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف ، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، ثم قال إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا.

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(١٧)

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون ، ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) وحي ورسالة. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) في دعوى الرسالة.

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم ، وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم.

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته ، وهو المحسن للاستشهاد فإنه لا يحسن إلا ببينة.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)(١٩)

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) تشاءمنا بكم ، وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم هذه. (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) سبب شؤمكم معكم وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم ، وقرئ «طيركم معكم».

(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) وعظتم ، وجواب الشرط محذوف مثل تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب ، وقد قرئ بألف بين الهمزتين وبفتح أن بمعنى أتطيرتم لأن ذكرتم وإن وأن بغير الاستفهام و «أين ذكرتم» بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) قوم عادتكم الإسراف في العصيان فمن ثم جاءكم الشؤم ، أو في الضلال ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم ويتبرك به.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٢١)


(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام وبينهما ستمائة سنة ، وقيل كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) على النصح وتبليغ الرسالة. (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى خير الدارين.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٤)

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) على قراءة غير حمزة فإنه يسكن الياء في الوصل ، تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح ، حيث أراد لهم ما أراد لها والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال :

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لا تنفعني شفاعتهم. (وَلا يُنْقِذُونِ) بالنصرة والمظاهرة.

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل ، وقرأ نافع ويعقوب وأبو عمرو بفتح الياء.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧)

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) الّذي خلقكم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء. (فَاسْمَعُونِ) فاسمعوا إيماني ، وقيل الخطاب للرسل فإنه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحوهم قبل أن يقتلوه.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة ، أو إكراما وإذنا في دخولها كسائر الشهداء ، أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم ، والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه في نصر دينه وكذلك : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).

(بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء ، أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق ، وقرئ «المكرّمين» و «ما» خبرية أو مصدرية والباء صلة (يَعْلَمُونَ) أو استفهامية جاء على الأصل ، والباء صلة غفر أي بأي شيء (غَفَرَ) لي ، يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ)(٢٨)

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إهلاكه أو رفعه. (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك ، وفيه استحقار لإهلاكهم وإيماء بتعظيم الرسولعليه‌السلام. (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) وما صح في حكمتنا أن ننزل جندا لإهلاك قومه إذ قدرنا لكل شيء سببا وجعلنا ذلك سببا لانتصارك من قومك ، وقيل (ما) موصولة معطوفة على (جُنْدٍ) أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من


حجارة وريح وأمطار شديدة.

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٠)

(إِنْ كانَتْ) ما كانت الأخذة أو العقوبة. (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها جبريل عليه‌السلام ، وقرئت بالرفع على كان التامة. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ميتون ، شبهوا بالنار رمزا إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد :

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) تعالي فهذه من الأحوال الّتي من حقها أن تحضري فيها ، وهي ما دل عليها : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم ، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ، ويجوز أن يكون تحسرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة (يا حَسْرَتى) ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها ، وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف ، وقرئ «يا حسرة العباد» بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، و «يا حسره» بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

(أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا وهو معلق عن قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) لأن (كَمْ) لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام. (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من (كَمْ) على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، وقرئ بالكسر على الاستئناف.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) يوم القيامة للجزاء ، و (إِنْ) مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و «ما» مزيدة للتأكيد ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة (لَمَّا) بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول ، و (لَدَيْنا) ظرف له أو ل (مُحْضَرُونَ).

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ)(٣٤)

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) وقرأ نافع بالتشديد. (أَحْيَيْناها) خبر ل (الْأَرْضُ) ، والجملة خبر (آيَةٌ) أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها ، أو استئناف لبيان كونها (آيَةٌ). (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) جنس الحب. (فَمِنْهُ) (يَأْكُلُونَ) قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) من أنواع النخل والعنب ، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع ، وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع. (وَفَجَّرْنا فِيها) وقرئ بالتخفيف ، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى. (مِنَ الْعُيُونِ) أي شيئا من العيون ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، أو (الْعُيُونِ) و (مِنْ) مزيدة عند الأخفش.


(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) ثمر ما ذكر وهو الجنات ، وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإضافة إليه لأن الثمر بخلقه ، وقرأ حمزة والكسائي بضمتين وهو لغة فيه ، أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون. (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما ، وقيل (ما) نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم ، ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) الأنواع والأصناف. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من النبات والشجر. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) الذكر والأنثى. (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) وأزواجا مما لم يطلعهم الله تعالى عليه ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٣٨)

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق. (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) لحد معين ينتهي إليه دورها ، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال :

والشّمس حيرى لها بالجوّ تدويم

أو لاستقرار لها على نهج مخصوص ، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين مشرقا ومغربا ، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل ، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. وقرئ «لا مستقر لها» أي لا سكون فإنها متحركة دائما و «لا مستقر» على أن «لا» بمعنى ليس. (ذلِكَ) الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم الّتي تكل الفطن عن إحصائها. (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب بقدرته على كل مقدور. (الْعَلِيمِ) المحيط علمه بكل معلوم.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٤٠)

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) قدرنا مسيره. (مَنازِلَ) أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون : الشرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانا ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا ، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، فإذا كان في آخر منازله وهو الّذي يكون فيه قبيل الاجتماع دق واستقوس ، وقرأ الكوفيون وابن عامر (وَالْقَمَرَ) بنصب الراء. (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ) كالشمراخ المعوج ، فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج ، وقرئ «كالعرجون» وهما لغتان كالبزيون والبزيون. (الْقَدِيمِ) العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعدا.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) يصح لها ويتسهل. (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون


النبات وتعيش الحيوان ، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله ، أو سلطانه فتطمس نوره ، وإيلاء حرف النفي (الشَّمْسُ) للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه ، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران ، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكسا للأول وتبديل الإدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره. (وَكُلٌ) وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه ، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات ، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما. (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسيرون فيه بانبساط.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ)(٤٢)

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم ، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها. وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب ، وقرأ نافع وابن عامر ذرياتهم. (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء ، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام ، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل الفلك. (ما يَرْكَبُونَ) من الإبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق.

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤)

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق ، أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ. (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ينجون من الموت به.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة. (إِلى حِينٍ) زمان قدر لآجالهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٤٦)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) الوقائع الّتي خلت أو العذاب المعد في الآخرة ، أو نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه ، أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لتكونوا راجين رحمة الله ، وجواب إذا محذوف دل عليه قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) كأنه قال وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤٧)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) على محاويجكم. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة. (لِلَّذِينَ آمَنُوا) تهكما بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته. (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) على زعمكم ، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاما بأن الله تعالى لما كان قادرا أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك ، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله ، ويجوز أن


يكون جوابا من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنون وعد البعث.

(ما يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون. (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى. (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وأصله يختصمون فسكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين ، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع ، وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه ، وأبو عمرو وقالون به مع الاختلاس وعن نافع الفتح فيه والإسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما ، وقرأ حمزة (يَخِصِّمُونَ) من خصمه إذا جادله.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) في شيء من أمورهم. (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)(٥٢)

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة «المؤمنين». (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء. (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يسرعون وقرئ بالضم.

(قالُوا يا وَيْلَنا) وقرئ «يا ويلتنا» (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وقرئ «من أهبنا» من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا بمعنى أهبنا ، وفيه ترشيخ ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياما ، و (مَنْ بَعَثَنا) و «من هبنا» على من الجارة والمصدر ، وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن. (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) مبتدأ وخبر و (ما) مصدرية ، أو موصولة محذوفة الراجع ، أو (هذا) صفة ل (مَرْقَدِنا) و (ما وَعَدَ) خبر محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) ، أو (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) حق وهو من كلامهم ، وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم ، معدول عن سننه تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها بأن الّذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا : بعثكم الرحمن الّذي وعدكم البعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون ، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال.

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤)

(إِنْ كانَتْ) ما كانت الفعلة. (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأخيرة ، وقرئت بالرفع على كان التامة.

(فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب الّتي ينوطان بها فيما يشاهدونه.

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حكاية لما يقال لهم حينئذ تصويرا للموعود


وتمكينا له في النفوس وكذا قوله :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ)(٥٦)

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) متلذذون في النعمة من الفكاهة ، وفي تنكير (شُغُلٍ) وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (فِي شُغُلٍ) بالسكون ، ويعقوب في رواية «فكهون» للمبالغة وهما خبران ل (إِنَ) ، ويجوز أن يكون (فِي شُغُلٍ) صلة ل (فاكِهُونَ) ، وقرئ «فكهون» بالضم وهو لغة كنطس ونطس «وفاكهين» «وفكهين» على الحال من المستكن في الظرف ، و (شُغُلٍ) بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات.

(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي في «ظلل». (عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر المزينة. (مُتَّكِؤُنَ) و (هُمْ) مبتدأ خبره (فِي ظِلالٍ) ، و (عَلَى الْأَرائِكِ) جملة مستأنفة أو خبر ثان أو (مُتَّكِؤُنَ) والجارّان صلتان له ، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون ، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإن وأزواجهم عطف على (هُمْ) للمشاركة في الأحكام الثلاثة ، و (فِي ظِلالٍ) حال من المعطوف والمعطوف عليه.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥٨)

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه ، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه ، أو يتمنون من قولهم ادّع علي ما شئت بمعنى تمنه علي ، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و (ما) موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء ، و (لَهُمْ) خبرها وقوله :

(سَلامٌ) بدل منها أو صفة أخرى ، ويجوز أن يكون خبرها أو خبرها محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام ، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصا. (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي يقول الله أو يقال لهم قولا كائنا من جهته ، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم ، ويحتمل نصبه على الاختصاص.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦١)

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ). وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتا ينفرد به لا يرى ولا يرى.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة ، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان ، لأنه الآمر بها والمزين لها ، وقرئ «اعهد» بكسر حرف المضارعة و «أحهد» و «أحد» على لغة بني تميم. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيما يحملهم عليه.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على (أَنْ لا تَعْبُدُوا). (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته ، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر ، والتنكير للمبالغة والتعظيم ، أو للتبعيض


فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٦٤)

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي ، والجبل الخلق ، وقرأ يعقوب بضمتين وابن كثير وحمزة والكسائي بهما مع تخفيف اللام وابن عامر وأبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات ، وقرئ «جبلا» جمع جبلة كخلقة وخلق و «جيلا» واحد الأجيال.

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)(٦٦)

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) نمنعها عن الكلام. (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها ، أو إنطاق الله إياها وفي الحديث «إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم».

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) فاستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه ، وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار ، أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتساع أو بالظرف. (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الطريق وجهة السلوك فضلا عن غيره.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨)

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) بتغيير صورهم وإبطال قواهم. (عَلى مَكانَتِهِمْ) مكانهم بحيث يجمدون فيه ، وقرأ أبو بكر «مكاناتهم». (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) ذهابا. (وَلا يَرْجِعُونَ) ولا رجوعا فوضع الفعل موضعه للفواصل ، وقيل (لا يَرْجِعُونَ) عن تكذيبهم ، وقرئ «مضيا» بإتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالعتي والعتي و «مضيا» كصبي ، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) ومن نطل عمره. (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله ، وقرأ عاصم وحمزة (نُنَكِّسْهُ) من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة غير أنه على تدرج ، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠)


(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) رد لقولهم إن محمّدا شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن ، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها. (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحوا من أربعين سنة ، وقوله عليه الصلاة والسلام :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب»

وقوله :

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

اتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك ، وقد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرا ، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية ، وقيل الضمير لل (قُرْآنٌ) أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة وإرشاد من الله تعالى. (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) وكتاب سماوي يتلى في المعابد ، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز.

(لِيُنْذِرَ) القرآن أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء. (مَنْ كانَ حَيًّا) عاقلا فهما فإن الغافل كالميت ، أو مؤمنا في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به. (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) وتجب كلمة العذاب. (عَلَى الْكافِرِينَ) المصرين على الكفر ، وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٧٣)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا ، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص ، والتفرد بالإحداث. (أَنْعاماً) خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) متملكون لها بتمليكنا إياها ، أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال :

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) وصيرناها منقادة لهم. (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) مركوبهم ، وقرئ «ركوبتهم» ، وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة ، وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها (رَكُوبُهُمْ). (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي ما يأكلون لحمه.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الجلود والأصواف والأوبار. (وَمَشارِبُ) من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع ، أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ(٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة ، وعلموا أنه المتفرد بها. (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم.


(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ) لآلهتهم. (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) معدون لحفظهم والذب عنهم ، أو (مُحْضَرُونَ) أثرهم في النار.

(فَلا يَحْزُنْكَ) فلا يهمك ، وقرئ بضم الياء من أحزن. (قَوْلُهُمْ) في الله بالإلحاد والشرك ، أو فيك بالتكذيب والتهجين. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به ، وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ (إِنَّا) بالفتح على حذف لام التعليل جاز.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٧٨)

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب. روي «أن أبي بن خلف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت. وقيل معنى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أمرا عجيبا وهو نفي القدرة على إحياء الموتى ، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه. (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) خلقنا إياه. (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) منكرا إياه مستبعدا له ، والرميم ما بلي من العظام ، ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة ولذلك لم يؤنث ، أو بمعنى مفعول من رممته. وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠)

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها ، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها ، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى الّتي كانت فيها أو إحداث مثلها.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) كالمرخ والعفار. (ناراً) بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار. (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) لا تشكون في أنها نار تخرج منه ، فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضا فيبس وبلي ، وقرئ «من الشجر الخضراء» على المعنى كقوله (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٨٢)

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مع كبر جرمهما وعظم شأنهما. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما ، أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد ، وعن يعقوب «يقدر». (بَلى) جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه. (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) كثير


المخلوقات والمعلومات.

(إِنَّما أَمْرُهُ) إنّما شأنه. (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أي تكون. (فَيَكُونُ) فهو يكون أي يحدث ، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة ، وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق ، ونصبه ابن عامر والكسائي عطفا على (يَقُولَ).

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) تنزيه عما ضربوا له ، وتعجيب عما قالوا فيه معللا بكونه مالكا للأمر كله قادرا على كل شيء. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وعد ووعيد للمقرين والمنكرين ، وقرأ يعقوب بفتح التاء.

وعن ابن عباس رضي الله عنه : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية.

وعنه عليه الصلاة والسلام «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة ، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ، ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة ، فيشربها وهو على فراشه ، فيقبض روحه وهو ريان ، ويمكث في قبره وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان».

تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع الجزء الرابع

من تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت

الزاهرة ، أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة ، وآخر

دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتّقين

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم



محتوى الجزء الرابع من تفسير البيضاوي

تفسير سورة مريم................................................................. ٥

بيان الحكم الّذي آتاه الله يحيى عليه‌السلام وهو صبي....................................... ٧

بيان ما ذهبت إليه النسطورية والملكانية في السيد عيسى عليه‌السلام........................ ١٠

بيان ما قام به إبراهيم عليه‌السلام مع أبيه من النصيحة والأدب............................ ١١

بيان ما يلزم قارئ القرآن من البكاء................................................ ١٤

بيان ورود المؤمنين وغيرهم على النار.............................................. ١٧

تفسير سورة طه................................................................ ٢٢

بيان سبب العقدة الّتي كانت في لسان سيدنا موسى عليه‌السلام........................... ٢٦

بيان المحبة الّتي أعطاها الله لسيدنا موسى في صغره................................... ٢٧

بيان الخطأ والنسيان واستحالتهما على الله تعالى..................................... ٢٩

بيان ما صنعته السحرة من السحر لموسى عليه‌السلام..................................... ٣١

بيان أصل موسى السامريّ وما فعله............................................... ٣٤

بيان ما كان عليه آدم عليه‌السلام من الحلم.............................................. ٤٠

تفسير سورة الأنبياء............................................................. ٤٥

بيان الفرق بين إلا الاستثنائية والّتي بمعنى غير....................................... ٤٨

بيان معنى رتق الأرض والسموات وفتقهما.......................................... ٥٠

بيان ما فعل بإبراهيم عليه‌السلام حين رمي في النار وما قاله................................ ٥٥

بيان الخصومة الّتي عرضت على داود وسليمان وحكم كل فيها وبيان الحكم في شريعتنا... ٥٧

تفسير سورة الحج............................................................... ٦٤

بيان الخلاف في جواز بيع دور الحرم وإجارتها وبسط الدليل لكل...................... ٦٩

بيان ما كان يفعله أهل الجاهلية مع المسلمين في ابتداء الأمر.......................... ٧٢

بيان الفرق بين النبي والرسول وبيان عدد الأنبياء.................................... ٧٥

بيان ما قيل في الغرانيق.......................................................... ٧٦

بيان السجدة الثانية من تلك السورة............................................... ٨٠

تفسير سورة المؤمنون............................................................ ٨٢


بيان ما في عصا موسى عليه‌السلام من الآيات........................................... ٨٨

بيان معنى فساد السموات عند اتباع الحق الأهواء................................... ٩٢

تفسير سورة النور............................................................... ٩٨

بيان معنى الإحصان وبيان الخلاف في أن التائب عن القذف تقبل شهادته أم لا؟....... ٩٩

بيان أسباب حديث الإفك..................................................... ١٠٠

بيان أن القاذف لأزواج النبي هل له توبة أم لا؟................................... ١٠٣

بيان الأربعة الذين برأهم الله.................................................... ١٠٤

بيان ما يجوز إظهاره للمرأة من زينتها وبدنها....................................... ١٠٤

بيان الكتابة للأرقاء........................................................... ١٠٦

بيان معنى النور ووجه إطلاقه على الله تعالى....................................... ١٠٧

بيان ما قيل في المطر والسحاب والبرد والثلج...................................... ١١٠

تفسير سورة الفرقان........................................................... ١١٧

بيان السبب في إحباط أعمال الكفار............................................ ١٢٢

بيان السبب الّذي يدعو إلى التوكل.............................................. ١٢٩

تفسير سورة الشعراء........................................................... ١٣٣

بيان أنّ الواجب تعالى لا يمكن تعريفه إلّا بلوازمه الخارجية........................... ١٣٦

بيان أنّ الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب................................. ١٤١

بيان أن المعاني الروحانية تتنزل أولا على الروح ، ثم منها إلى القلب ، ثم منه إلى الدماغ.. ١٤٩

تفسير سورة النمل............................................................. ١٥٤

بيان ما أوتيه سليمان عليه‌السلام من معرفة منطق الطير................................. ١٥٦

بيان السبب في تفقد سليمان الطير حتى علم بغياب الهدهد........................ ١٥٧

بيان أنّ إحضار عرش بلقيس من المعجزات....................................... ١٦١

بيان الدابة الّتي تخرج آخر الزمان تكلّم النّاس..................................... ١٦٧

تفسير سورة القصص.......................................................... ١٧١

بيان المدينة الّتي دخلها موسى عليه‌السلام............................................. ١٧٤

بيان الشروط الّتي جرى عقد زواج موسى عليها................................... ١٧٥

بيان معنى الاختيار............................................................ ١٨٣

بيان نسب قارون وأسباب حسده............................................... ١٨٥


تفسير سورة العنكبوت......................................................... ١٨٨

بيان معنى المجادلة بالتي هي أحسن.............................................. ١٩٦

تفسير سورة الروم............................................................. ٢٠١

بيان أن آية فسبحان الله ، جامعة للصلوات الخمس وبيان فضلها.................... ٢٠٣

بيان الأسباب الّتي تقتضي عدم التوكل........................................... ٢١١

تفسير سورة لقمان............................................................ ٢١٢

بيان نسب لقمان ومعنى الحكمة................................................ ٢١٣

تفسير سورة السجدة.......................................................... ٢١٩

تفسير سورة الأحزاب.......................................................... ٢٢٤

بيان معنى كون (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)............................. ٢٢٥

بيان غزوة الخندق............................................................. ٢٢٦

بيان غزوة بني قريظة........................................................... ٢٢٩

بيان زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش.............................................. ٢٣٢

بيان وجوب الصلاة والسلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................... ٢٣٧

تفسير سورة سبأ.............................................................. ٢٤١

بيان معنى تسبيح الجبال والطير مع داود عليه‌السلام..................................... ٢٤٣

بيان كيفية موت سليمان عليه‌السلام وما فيه من الآيات................................. ٢٤٤

بيان نسب سبأ ومسكنهم..................................................... ٢٤٤

بيان ما فعل بسبإ وتخريب ديارهم............................................... ٢٤٥

تفسير سورة فاطر الملائكة...................................................... ٢٥٣

تفسير سورة يس.............................................................. ٢٦٣

بيان رسل عيسى عليه‌السلام إلى أنطاكية وما فعلوه..................................... ٢٦٤

بيان العذاب الّذي فعل بأصحاب القرية......................................... ٢٦٧

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ٤

المؤلف:
الصفحات: 279