

(٧) سورة الأعراف
مكية غير ثمان آيات من قوله : (وَسْئَلْهُمْ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ)
محكمة كلها. وقيل إلا قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وآيها مائتان وخمس أو ست آيات.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ)(٢)
(المص) سبق الكلام في مثله.
(كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر (المص) والمراد به السورة أو القرآن. (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفته. (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ مِنْهُ) أي شك ، فإن الشاك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة
أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم : لا
أرينك ها هنا. والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا أنزل إليك لتنذر به فلا
يحرج صدرك. (لِتُنْذِرَ بِهِ) متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر
على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر به وتذكر ذكرى فإنها
بمعنى التذكير ، والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على (كِتابٌ) أو خبر المحذوف.
(اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٣)
(اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). (وَلا تَتَّبِعُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يضلونكم من الجن والإنس. وقيل الضمير في (مِنْ دُونِهِ) ل (ما أُنْزِلَ) أي : ولا تتبعوا من دون دين الله أولياء. وقرئ «ولا تبتغوا».
(قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون حيث تتركون دين الله
وتتبعون غيره ، و «ما» مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب (قَلِيلاً) ب (تَذَكَّرُونَ). وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (تَذَكَّرُونَ) بحذف التاء ، وابن عامر «يتذكرون» على أن الخطاب بعد مع
النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ
دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)
(٥)
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) كثيرا من القرى. (أَهْلَكْناها) أردنا إهلاك أهلها ، أو أهلكناها بالخذلان. (فَجاءَها) فجاء أهلها. (بَأْسُنا) عذابنا. (بَياتاً) بائتين كقوم لوط ، مصدر وقع موقع الحال. (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) عطف عليه أي : قائلين نصف النهار كقوم شعيب ، وإنما حذفت
واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي عطف ، فإنها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء
بالضمير فإنه غير فصيح. وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب ، ولذلك
خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع.
(فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي دعاؤهم واستغاثتهم ، أو ما كانوا يدّعونه من دينهم. (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ
قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسرا عليهم.
(فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)
(فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل. (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عما أجيبوا به ، والمراد من هذا السؤال توبيخ للكفرة
وتقريعهم ، والمنفي في قوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام. أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم
على العقوبة.
(فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ) على الرسل حين يقولون (لا عِلْمَ لَنا
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه. (بِعِلْمٍ) عالمين بظواهرهم وبواطنهم ، أو بمعلومنا منهم. (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم.
(وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا
يَظْلِمُونَ)(٩)
(وَالْوَزْنُ) أي القضاء ، أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء.
والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان ، ينظر إليه الخلائق
إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد
بها جوارحهم. ويؤيده ما روي : أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة
وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات
في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة. وقيل توزن الأشخاص لما روي
أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند
الله جناح بعوضة». (يَوْمَئِذٍ) خبر المبتدأ الذي هو الوزن. (الْحَقُ) صفته ، أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) حسناته ، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان
وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن. (فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والثواب.
(وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها ، واقتراف ما عرضها
للعذاب. (بِما كانُوا
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) فيكذبون بدل التصديق.
(وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(١١)
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ
فِي الْأَرْضِ) أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أسبابا تعيشون بها ، جمع معيشة. وعن نافع أنه همزة تشبيها
بما الياء فيه زائدة كصحائف. (قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) فيما صنعت إليكم.
(وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه. نزل خلقه
وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم
صورناه. (ثُمَّ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وقيل ثم لتأخير الأخبار. (فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ممن سجد لآدم.
(قالَ ما مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ
مِنْها فَما
يَكُونُ
لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١٣)
(قالَ ما مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ) أي أن تسجد ولا صلة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبخ
عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى
ألا تسجد. (إِذْ أَمَرْتُكَ) دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لأن يكون مثله
مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد
للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به. فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين
أولا. (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله
باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي بغير واسطة ، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ ساجِدِينَ) وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما
بين لهم أنه أعلم منهم ، وأن له خواص ليست لغيره ، والآية دليل الكون والفساد وأن
الشياطين أجسام كائنة ، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار
باعتبار الجزء الغالب.
(قالَ فَاهْبِطْ
مِنْها) من السماء أو الجنة. (فَما يَكُونُ لَكَ) فما يصح. (أَنْ تَتَكَبَّرَ
فِيها) وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع. وفيه تنبيه على أن
التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد
عصيانه. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ
مِنَ الصَّاغِرِينَ) ممن أهانه الله لتكبره ، قال عليه الصلاة والسلام «من
تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله».
(قالَ أَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(١٤)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(١٥)
(قالَ أَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني ، أو لا تعجل عقوبتي.
(قالَ إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ) يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهرا لكنه محمول على ما جاء
مقيدا بقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخة الأولى ، أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه ،
وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
(قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ
وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١٧)
(قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي) أي بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني
بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية ، أو حملا على الغي ، أو تكليفا بما غويت لأجله
والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم :
(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله :
لدن بهزّ الكفّ
يعسل متنه
|
|
فيه كما عسل
الطّريق الثّعلب
|
وقيل تقديره على
صراطك كقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن.
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ
شَمائِلِهِمْ) أي من جميع الجهات الأربع. مثل قصده إياهم بالتسويل
والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم
ومن تحت أرجلهم. وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن
الإتيان منه يوحش الناس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من
قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل
الدنيا ، وعن
أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم. ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من
حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن
أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم
تيقظهم واحتياطهم. وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه
إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم
، ونظيره قولهم جلست عن يمينه. (وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) مطيعين ، وإنما قاله ظنا لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ) لما رأى فيهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحدا ، وقيل
سمعه من الملائكة.
(قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(١٩)
(قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً) مذءوما من ذأمه إذا ذمه. وقرئ «مذوما» كمسول في مسؤول أو
كمكول في مكيل ، من ذامه يذيمه ذيما. (مَدْحُوراً) مطرودا. (لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ) اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ) وهو ساد مسد جواب الشرط. وقرئ «لمن» بكسر اللام على أنه
خبر لأملأن على معنى : لمن تبعك هذا الوعيد ، أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف
ومعنى منكم منك ومنهم فغلب المخاطب.
(وَيا آدَمُ) أي وقلنا يا آدم. (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) وقرئ «هذي» وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من
الياء. (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ) فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا يحتمل الجزم على
العطف والنصب على الجواب.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما
نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ
تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(٢٠)
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ) أي فعل الوسوسة لأجلهما ، وهي في الأصل الصوت الخفي
كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي. وقد سبق في سورة «البقرة» كيفية وسوسته. (لِيُبْدِيَ لَهُما) ليظهر لهما ، واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضا
بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ، ولذلك عبر عنهما بالسوأة. وفيه دليل على أن
كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع. (ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ما غطي عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما
ولا أحدهما من الآخر ، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في
أويصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ «سوءاتهما» بحذف الهزة وإلقاء حركتها على
الواو و «سوءاتهما» بقلبها واوا وإدغام الواو الساكنة فيها. (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ
هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا) إلّا كراهة أن تكونا. (مَلَكَيْنِ أَوْ
تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة ، واستدل به على فضل
الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وجوابه : أنه كان من المعلوم أن
الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضا ما للملائكة من
الكمالات الفطرية ، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ، وذلك لا يدل على فضلهم
مطلقا.
(وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا
يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ
أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما
عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٢٢)
(وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي أقسم لهما على ذلك ، وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة.
وقيل أقسما له بالقبول. وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل
ذلك مقاسمة.
(فَدَلَّاهُما) فنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، نبه به على أنه أهبطهما
بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة ، فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى
إلى أسفل. (بِغُرُورٍ) بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحدا لا يحلف بالله
كاذبا ، أو ملتبسين بغرور. (فَلَمَّا ذاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة
وشؤم المعصية ، فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما. واختلف في أن الشجرة
كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما ، وأن اللباس كان نورا أو حلة أو ظفرا. (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل كان ورق التين ، وقرئ «يخصفان» من أخصف أي يخصفان
أنفسهما ويخصفان من خصف ويخصفان وأصله يختصفان. (وَناداهُما رَبُّهُما
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) عتاب على مخالفة النهي ، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو.
وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم.
(قالا رَبَّنا
ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ)
(٢٤)
(قالا رَبَّنا
ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة. (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر. وقالت
المعتزلة لا تجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك
على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات.
(قالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أو لهما ولإبليس. كرر الأمر
له تبعا ليعلم أنهم قرناء أبدا وأخبر عما قال لهم متفرقا. (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال أي معتادين. (وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) استقرار أي موضع استقرار. (وَمَتاعٌ) وتمتع. (إِلى حِينٍ) إلى أن تقضى آجالكم.
(قالَ فِيها
تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ
(٢٥) يا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً
وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ)(٢٦)
(قالَ فِيها
تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) للجزاء وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ، وفي «الزخرف» (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) بفتح التاء وضم الراء.
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره قوله
تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ) وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ). (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) التي قصد الشيطان إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق. روي :
أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ،
فنزلت. ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب
الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. (وَرِيشاً) ولباسا تتجملون به ، والريش الجمال. وقيل مالا ومنه تريش
الرجل إذا تموّل. وقرئ «رياشا» وهو جمع ريش كشعب وشعاب. (وَلِباسُ التَّقْوى) خشية الله. وقيل الإيمان. وقيل السمت الحسن. وقيل لباس
الحرب ورفعه بالابتداء وخبره : (ذلِكَ خَيْرٌ) أو خير وذلك صفته كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه
خير. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي (وَلِباسُ التَّقْوى) بالنصب عطفا على (لِباساً). (ذلِكَ) أي إنزال اللباس. (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على فضله ورحمته. (لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح.
(يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ
مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ)(٢٧)
(يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) لا يمحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم. (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ) كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها ، والنهي في اللفظ
للشيطان ، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به. (يَنْزِعُ عَنْهُما
لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) حال من (أَبَوَيْكُمْ) أو من فاعل (أَخْرَجَ) وإسناد النزع إليه للتسبب. (إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته ، وقبيله جنوده
ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بما أوجدنا بينهم من التناسب ، أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم
من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم. والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية.
(وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ
اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢٨)
(وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً) فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في
الطواف. (قالُوا وَجَدْنا
عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله
سبحانه وتعالى ، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ) لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال ،
والحث على مكارم الخصال. ولا دلالة عليه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه
آجلا عقلي ، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل
المستقيم. وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها : لم فعلتم؟
فقالوا : وجدنا عليها آباءنا. فقيل ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا : الله أمرنا بها.
وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا. (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى.
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
فَرِيقاً
هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣٠)
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ) بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط
والتفريط. (وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ) وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها ، أو
أقيموها نحو القبلة. (عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ) في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة ، أو في أي مسجد
حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. (وَادْعُوهُ) واعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي الطاعة فإن إليه مصيركم. (كَما بَدَأَكُمْ) كما أنشأكم ابتداء. (تَعُودُونَ) بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة ، وإنما
شبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقيل كما بدأكم من التراب
تعودون إليه. وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلا تعودون. وقيل كما بدأكم مؤمنا وكافرا
يعيدكم.
(فَرِيقاً هَدى) بأن وفقهم للإيمان. (وَفَرِيقاً حَقَّ
عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بمقتضى القضاء السابق. وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي
وخذل فريقا. (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعليل لخذلانهم أو تحقيق
لضلالهم. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم ،
وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر.
(يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)
(يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ) ثيابكم لمواراة عورتكم. (عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ) لطواف أو صلاة ، ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة
، وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ما طاب لكم. روي : أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا
يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به ،
فنزلت. (وَلا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال ، أو بالتعدي إلى الحرام ، أو بإفراط الطعام
والشره عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما
أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وقال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب في نصف
آية فقال : (كلوا واشربوا ولا تسرفوا). (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ) أي لا يرتضي فعلهم.
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٣٢)
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ) من الثياب وسائر ما يتجمل به. (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتان ، والحيوان كالحرير والصوف ،
والمعادن كالدروع. (وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ) المستلذات من المآكل والمشارب. وفيه دليل على أن الأصل في
المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة ، لأن الاستفهام في من للإنكار. (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع. (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم ، وانتصابها على الحال. وقرأ نافع
بالرفع على أنها خبر بعد خبر. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم.
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٣٤)
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ما تزايد قبحه ، وقيل ما يتعلق بالفروج. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) جهرها وسرها. (وَالْإِثْمَ) وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص ، وقيل شرب الخمر. (وَالْبَغْيَ) الظلم ، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة. (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق بالبغي مؤكد له معنى. (وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) تهكم بالمشركين ، وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه
برهان. (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته سبحانه وتعالى ، والافتراء عليه كقولهم (اللهُ أَمَرَنا بِها).
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ) مدة ، أو وقت لنزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) انقرضت مدتهم ، أو حان وقتهم. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت ، أو لا يطلبون التأخر
والتقدم لشدة الهول.
(يا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ
اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ)(٣٦)
(يا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز
غير واجب كما ظنه أهل التعليم ، وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها
بالنون وجوابه : (فَمَنِ اتَّقى
وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا
بآياتنا منكم ، وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد
والمسامحة في الوعيد.
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ
قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)(٣٧)
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتابِ) مما كتب لهم من الأرزاق والآجال. وقيل الكتاب اللوح
المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه. (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يتوفون أرواحهم ، وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم
وهي التي يبتدأ بعدها الكلام. (قالُوا) جواب إذا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ، وما وصلت بأين في خط
المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة. (قالُوا ضَلُّوا
عَنَّا) غابوا عنا. (وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه.
(قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ
لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٣٩)
(قالَ ادْخُلُوا) أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة ، أو أحد من الملائكة. (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة. (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني كفّار الأمم الماضية عن النوعين. (فِي النَّارِ) متعلق بادخلوا. (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ) أي في النار. (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي ضلت بالاقتداء بها. (حَتَّى إِذَا
ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار. (قالَتْ أُخْراهُمْ) دخولا أو منزلة وهم الأتباع. (لِأُولاهُمْ) أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم. (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ
النَّارِ) مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا. (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أما القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فبكفرهم
وتقليدهم. (وَلكِنْ لا
تَعْلَمُونَ) ما لكم أو ما لكل فريق. وقرأ عاصم بالياء على الانفصال.
(وَقالَتْ أُولاهُمْ
لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى «لأخراهم»
ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال
واستحقاق العذاب. (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة أو من قول الفريقين.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ
السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي
سَمِّ
الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٤١)
(إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي عن الإيمان بها. (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ) لأدعيتهم وأعمالهم أو لأزواجهم ، كما تفتح لأعمال المؤمنين
وأرواحهم لتتصل بالملائكة. والتاء في تفتح للتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها ،
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء ، لأن التأنيث غير حقيقي والفعل
مقدم. وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء
لأن الفعل لله. (وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو
مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإبرة ، وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه. وقرئ «الجمل»
كالقمل ، و «الجمل» كالنغر ، و «الجمل» كالقفل ، والجمل كالنصب ، و «الجمل» كالحبل
وهو الحبل الغليظ من القنب ، وقيل حبل السفينة. وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط
وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الجزاء الفظيع. (نَجْزِي
الْمُجْرِمِينَ).
(لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ) فراش. (وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَواشٍ) أغطية ، والتنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه ،
وللصرف عند غيره ، وقرئ «غواش» على إلغاء المحذوف. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعارا بأنهم
بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة ، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة
والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
وَنَزَعْنا
ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ
هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ
الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٤٣)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد ، ولا
نكلف نفسا إلا وسعها اعتراض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم
بما يسعه طاقتهم ويسهل عليهم. وقرئ «لا تكلف نفس». (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل ، أو نطهرها منه حتى لا يكون
بينهم إلا التواد. وعن علي كرم الله وجهه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة
والزبير منهم. (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) زيادة في لذتهم وسرورهم. (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) لما جزاؤه هذا. (وَما كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) لولا هداية الله وتوفيقه ، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا
محذوف دل عليه ما قبله. وقرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو على أنها مبينة للأولى. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فاهتدينا بإرشادهم. يقولون ذلك اغتباطا وتبجحا بأن ما
علموه يقينا في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) إذا رأوها من بعيد ، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات. (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم ، وهو حال من الجنة والعامل
فيها معنى الإشارة ، أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو
المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول.
(وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ
فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
كافِرُونَ)(٤٥)
(وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) إنما قالوه تبجحا بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيرا لهم
، وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال (ما وَعَدَنا) لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم ،
كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة. (قالُوا نَعَمْ) وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قيل هو صاحب الصور. (بَيْنَهُمْ) بين الفريقين. (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) وقرأ ابن كثير في رواية للبزي وابن عامر وحمزة والكسائي (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بالتشديد والنصب. وقرئ «إن» بالكسر على إرادة القول أو
إجراء أذن مجرى قال.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صفة للظالمين مقررة ، أو ذم مرفوع أو منصوب. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) زيغا وميلا عما هو عليه ، والعوج بالكسر في المعاني
والأعيان ما لم تكن منتصبة ، وبالفتح ما كان في المنتصبة ، كالحائط والرمح. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ).
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
وَإِذا
صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٧)
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الفريقين لقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى. (وَعَلَى الْأَعْرافِ) وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما
جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف
من غيره. (رِجالٌ) طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار
حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم ، أو خيار المؤمنين وعلمائهم ،
أو ملائكة يرون في صورة الرجال. (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار. (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده ، فعلى
من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه ،
وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة. (وَنادَوْا أَصْحابَ
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم. (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه
الباقية.
(وَإِذا صُرِفَتْ
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا) نعوذ بالله. (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي في النار.
(وَنادى أَصْحابُ
الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)(٤٩)
(وَنادى أَصْحابُ
الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) من رؤساء الكفرة. (قالُوا ما أَغْنى
عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) كثرتكم أو جمعكم المال. (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ) عن الحق ، أو على الخلق. وقرئ «تستكثرون» من الكثرة. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا
يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قولهم للرجال ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة
الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق
للوجوه الأخيرة ، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى
بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما
قالوا. قيل لما
عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه
وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم. وقرئ «أدخلوا» و «دخلوا» على
الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولا لهم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ).
(وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ)(٥١)
(وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي صبوه ، وهو دليل على أن الجنة فوق النار. (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة ، أو من الطعام كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا. (قالُوا إِنَّ اللهَ
حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) منعهما عنهم منع المحرم من المكلف.
(الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف
الهم بما لا يحسن أن يصرف به ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار. (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا منكرين أنها من عند الله.
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ
بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(٥٢)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا
مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ
بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة. (عَلى عِلْمٍ) عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما ، وفيه دليل على أنه
سبحانه وتعالى عالم بعلم ، أو مشتملا على علم فيكون حالا من المفعول. وقرئ «فضلناه»
أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك. (هُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) حال من الهاء.
(هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون. (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من
الوعد والوعيد. (يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) تركوه ترك الناسي. (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنا بِالْحَقِ) أي قد تبين أنهم جاءوا بالحق. (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا
لَنا) اليوم. (أَوْ نُرَدُّ) أو هل نرد إلى الدنيا. وقرئ بالنصب عطفا على (فَيَشْفَعُوا) ، أو لأن (أَوْ) بمعنى إلى أن ، فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أو
ردهم إلى الدنيا ، وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد
وهو الرد. (فَنَعْمَلَ غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) جواب الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل. (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف أعمارهم في الكفر. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) بطل عنهم فلم ينفعهم.
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٥٤)
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في ستة أوقات كقوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أو في مقدار ستة أيام ، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع
الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ ، وفي خلق
الأشياء مدرجا مع
القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استوى أمره أو استولى ، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش
صفة لله بلا كيف ، والمعنى : أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه
منزها عن الاستقرار والتمكن ، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه
، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملهما
ولذلك قرئ (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) بنصب (اللَّيْلَ) ورفع (النَّهارَ). وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه
وفي «الرعد» للدلالة على التكرير. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء ، والحثيث فعيل
من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثا ، أو المفعول بمعنى
محثوثا. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السموات ونصب مسخرات على
الحال. وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فإنه الموجد والمتصرف. (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ) تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية.
وتحقيق الآية
والله سبحانه وتعالى أعلم ، أن الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين لهم أن المستحق
للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه
وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب
كما أشار إليه بقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور
المتبدلة والهيئات المختلفة ، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار
إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين ، ثم أنشأ أنواع المواليد
الثلاثة بتركيب موادها أولا وتصويرها ثانيا كما قال تعالى بعد قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على
عرشه لتدبير المملكة ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير
الكواكب وتكوير الليالي والأيام ، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال :
(ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٥٦)
(ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ، نبه به على أن
الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،
والصعود إلى السماء. وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه. وعن النبيصلىاللهعليهوسلم ، «سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول :
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب
إليها من قول وعمل ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ)».
(وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) بالكفر والمعاصي. (بَعْدَ إِصْلاحِها) ببعث الأنبياء وشرع الأحكام. (وَادْعُوهُ خَوْفاً
وَطَمَعاً) ذوي خوف من الرد لقصور آمالكم وعدم استحقاقكم ، وطمع في
إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة ، وتذكير
قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب ، أو على تشبيهه
بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو الذي هو مصدر كالنقيض ، أو الفرق بين القريب من
النسب والقريب من غيره.
(وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً
ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٥٧)
(وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على الوحدة. (نَشْراً) جمع نشور بمعنى
ناشر ، وقرأ ابن عامر «نشرا» بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي «نشرا» بفتح النون
حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات ، أو مفعول مطلق فإن الإرسال
والنشر متقاربان. وعاصم (بُشْراً) وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به و (بُشْراً) بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات ، أو للبشارة وبشرى. (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قدام رحمته ، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال
تجمعه والجنوب؟؟؟؟؟ والدبور تفرقه. (حَتَّى إِذا
أَقَلَّتْ) أي حملت ، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله. (سَحاباً ثِقالاً) بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب. (سُقْناهُ) أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لأجله أو لإحيائه أو لسقيه. وقرئ «ميت». (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك. (فَأَخْرَجْنا بِهِ) ويحتمل فيه عود الضمير إلى (الْماءَ) ، وإذا كان ل (لِبَلَدٍ) فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني ، وإذا كان
لغيره فهي للسببية فيهما. (مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) من كل أنواعها. (كَذلِكَ نُخْرِجُ
الْمَوْتى) الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميت
أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات ، نخرج
الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى
والحواس. (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
(وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٥٨)
(وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ) الأرض الكريمة التربة. (يَخْرُجُ نَباتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره ، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة
نفعه لأنه أوقعه في مقابلة. (وَالَّذِي خَبُثَ) أي كالحرة والسبخة. (لا يَخْرُجُ إِلَّا
نَكِداً) قليلا عديم النفع ، ونصبه على الحال وتقدير الكلام ،
والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار
مرفوعا مستترا وقرئ «يخرج» أي يخرجه البلد فيكون (إِلَّا نَكِداً) مفعولا و (نَكِداً) على المصدر أي ذا نكد و (نَكِداً) بالإسكان للتخفيف. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ) نرددها ونكررها. (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، والآية مثل لمن
تدبر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها.
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٦٠)
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) جواب قسم محذوف ، ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها
مظنة التوقع ، فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها. ونوح بن لمك بن متوشلح
بن إدريس أول نبي بعده ، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي اعبدوه وحده لقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وقرأ الكسائي «غيره» بالكسر نعتا أو بدلا على اللفظ حيث
وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض. وقرئ بالنصب على الاستثناء. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) إن لم تؤمنوا ، وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته. واليوم
يوم القيامة ، أو يوم نزول الطوفان.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ) أي الأشراف فإنهم يملؤون العيون رواء. (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) زوال عن الحق.
(مُبِينٍ) بين.
(قالَ يا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٦٢)
(قالَ يا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي شيء من الضلال ، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات
وعرض لهم به. (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ) استدراك باعتبار ما يلزمه ، وهو كونه على هدى كأنه قال :
ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى.
(أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) صفات لرسول أو استئناف ، ومساقها على الوجهين لبيان كونه
رسولا. وقرأ أبو عمرو (أُبَلِّغُكُمْ) بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها
كالعقائد والمواعظ والأحكام ، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله
، كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم ، وفي أعلم من
الله تقريرا لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه ، أو من جهته بالوحي
أشياء لا علم لكم بها.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)(٦٤)
(أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم. (أَنْ جاءَكُمْ) من أن جاءكم. (ذِكْرٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) رسالة أو موعظة. (عَلى رَجُلٍ) على لسان رجل. (مِنْكُمْ) من جملتكم أو من جنسكم ، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال
البشر ويقولون (لَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). (لِيُنْذِرَكُمْ) عاقبة الكفر والمعاصي. (وَلِتَتَّقُوا) منهما بسبب الإنذار. (وَلَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) بالتقوى ، وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير
موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل ، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على
تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى.
(فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل
تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. (فِي الْفُلْكِ) متعلق بمعه أو بأنجيناه ، أو حال من الموصول أو من الضمير
في معه. (وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان. (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً عَمِينَ) عمي القلوب غير مستبصرين ، وأصله عميين فخفف وقرئ «عامين»
والأول أبلغ لدلالته على الثبات.
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا
لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٦٦)
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ) عطف على نوحا إلى قومه (هُوداً) عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم ، كقولهم يا أخا
العرب للواحد منهم ، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم
بن سام بن نوح. وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ، ابن عم أبي عاد ،
وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال : فما قال لهم حين
أرسل؟ وكذلك جوابهم. (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله ، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة
والسلام ولذلك قال أفلا تتقون (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد.
(إِنَّا لَنَراكَ فِي
سَفاهَةٍ) متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين قومك. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ).
(قالَ يا قَوْمِ
لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٦٩)
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) سبق تفسيره. وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة
وهضم النفس وحسن المجادلة ، وهكذا ينبغي لكل ناصح ، وفي قوله : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. وقرأ أبو عمرو أبلغكم في
الموضعين في هذه السورة وفي «الأحقاف» مخففا. (وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي في مساكنهم ، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن
عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان ، خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم
بإنعامه. (وَزادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَصْطَةً) قامة وقوة. (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ) تعميم بعد تخصيص. (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح.
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
قالَ
قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)
(٧١)
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به
آباؤهم انهماكا في التقليد وحبا لما ألفوه ، ومعنى المجيء في (أَجِئْتَنا) إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على
التهكم ، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني. (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) من العذاب المدلول عليه بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ). (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) فيه.
(قالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ) قد وجب وحق عليكم ، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع ،
(مِنْ رَبِّكُمْ
رِجْسٌ) عذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. (وَغَضَبٌ) إرادة انتقام. (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ) أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإلهية ، لأن
المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل ، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله
تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة ، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى
آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى ، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله
إظهارا لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم ، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات
توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل
الله بها سلطانا وضعفهما ظاهر. (فَانْتَظِرُوا) لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).
(فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)(٧٢)
(فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ) في الدين. (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) عليهم. (وَقَطَعْنا دابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلناهم. (وَما كانُوا
مُؤْمِنِينَ) تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا
وبين من هلك
هو الإيمان. روي
أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودا فكذبوه ، وازدادوا عتوا فأمسك
الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل
بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج ، فجهزوا إليه قيل بن عنز
ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن
لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم
، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان
قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه
مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
ألا يا قيل ويحك
قم فهينم
|
|
لعلّ الله
يسقينا الغماما
|
فيسقي أرض عاد
إن عادا
|
|
قد امسوا ما
يبينون الكلاما
|
حتى غنتا به ،
فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى
الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد
اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم
، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء
يا قيل : اختر لنفسك ولقومك. فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد
من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا : (هذا عارِضٌ
مُمْطِرُنا) فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ،
فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا.
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٣)
(وَإِلى ثَمُودَ) قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر
بن إرم بن سام بن نوح. وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل. وقرئ
مصروفا بتأويل الحي أو باعتبار الأصل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى
وادي القرى. (أَخاهُمْ صالِحاً) صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي وقوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) استئناف لبيانها ، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى
الإشارة ، ولكم بيان لمن هي له آية ، ويجوز أن تكون (ناقَةُ اللهِ) بدلا أو عطف بيان ولكم خبرا عاملا في (آيَةً) ، وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده
بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية. (فَذَرُوها تَأْكُلْ
فِي أَرْضِ اللهِ) العشب. (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ) نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع
الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر. (فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب للنهي.
(وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ
مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٧٥)
(وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض الحجر. (تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِها قُصُوراً) أي تبنون في سهولها ، أو من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن
والآجر. (وَتَنْحِتُونَ
الْجِبالَ
بُيُوتاً) وقرئ «تنحتون» بالفتح وتنحاتون بالإشباع ، وانتصاب (بُيُوتاً) على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتا من
الجبال ، أو تنحتون بمعنى تتخذون (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي عن الإيمان. (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) أي للذين استضعفوهم واستذلوهم. (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل
البعض إن كان للذين. وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو. (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ
مِنْ رَبِّهِ) قالوه على الاستهزاء. (قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيها على أن
إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذوي رأي ، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن
كفر فلذلك قال :
(قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٧٧)
(قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) على وجه المقابلة ، ووضعوا (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع (أُرْسِلَ بِهِ) ردا لما جعلوه معلوما مسلما.
(فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ) فنحروها. أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة ، أو لأنه
كان برضاهم. (وَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ) واستكبروا عن امتثاله ، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة
والسلام بقوله : (فَذَرُوها). (وَقالُوا يا صالِحُ
ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
(فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨)
فَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)(٧٩)
(فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ) الزلزلة. (فَأَصْبَحُوا فِي
دارِهِمْ جاثِمِينَ) خامدين ميتين. روي : أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا ، وعمروا
أعمارا طوالا لا تفي بها الأبنية ، فنحتوا البيوت من الجبال ، وكانوا في خصب وسعة
فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحا من أشرافهم
فأنذرهم ، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك
وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع ، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ، ثم أشار
سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال : له أخرج من هذه
الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن
فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ،
فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ، ثم نتجت ولدا مثلها في
العظم فآمن به جندع في جماعة ، ومنع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب
أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا
فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى
تمتلئ أوانيهم ، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى
بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة
أم غنم وصدقة بنت المختار ، فعقروها واقتسموا لحمها ، فرقى سقبها جبلا اسمه قارة
فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا
عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبح وجوهكم غدا مصفرة
وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ، ثم يصبحكم العذاب ، فلما رأوا العلامات طلبوا
أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين ، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر
وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ، ولعله
خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أهل قليب بدر وقال : «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل
وجدتم ما وعد ربكم حقا». أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ)(٨١)
(وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وقت قوله لهم أو واذكر لوطا وإذ بدل منه. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ) ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد
النفي والاستغراق ، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإنكار كأنه وبخهم
أولا بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.
(إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) بيان لقوله : (أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ) وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على
الإخبار المستأنف ، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم
بالبهيمية الصرفة ، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة
طلب الولد وبقاء النوع ، لا قضاء الوطر. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى
ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء ، أو عن الإنكار عليها إلى الذم على
جميع معايبهم ، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.
(وَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(٨٤)
(وَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي ما جاءوا بما يكون جوابا عن كلامه ، ولكنهم قابلوا نصحه
بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي من الفواحش.
(فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ) أي من آمن به. (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.
(وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي نوعا من المطر عجيبا وهو مبين بقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ). (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)
روي : أن لوط بن
هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليهالسلام إلى الشام نزل بالأردن ، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم
إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة ، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم
الحجارة فهلكوا. وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨٥)
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إليهم ، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله
شعيب بن ميكائيل
ابن يسجر بن مدين ،
وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي ،
وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها
إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها ، ووقوع عصا آدم على يده في المرات
السبع متأخرة عن هذه المقاولة ، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليهالسلام أو إرهاصا لنبوته. (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي آلة الكيل على الإضمار ، أو إطلاق الكيل على المكيال
كالعيش على المعاش لقوله : (وَالْمِيزانَ) كما قال في سورة «هود» (أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ) أو الكيل ووزن الميزان ، ويجوز أن يكون الميزان مصدرا
كالميعاد. (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيها
على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسبين لا
يدعون شيئا إلا مكسوة. (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) بالكفر والحيف. (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد ما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ،
أو أصلحوا فيها والإضافة إليها كالإضافة في (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، ومعنى الخيرية
إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.
(وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ
طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٧)
(وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وصراط الحق وإن كان
واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام ، وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها
منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا إنه كذاب فلا يفتنك
عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لكل
صراط ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله. (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي بالله ، أو بكل صراط على الأول ، ومن مفعول تصدون على
إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع
الحال من الضمير في تقعدوا. (وَتَبْغُونَها
عِوَجاً) وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه ، أو وصفها للناس
بأنها معوجة. (وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلاً) عددكم أو عددكم. (فَكَثَّرَكُمْ) بالبركة في النسل أو المال. (وَانْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَاصْبِرُوا) فتربصوا. (حَتَّى يَحْكُمَ
اللهُ بَيْنَنا) أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد
للمؤمنين ووعيد للكافرين. (وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ) إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه.
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ
كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ
مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)
(٨٩)
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)
أي ليكونن أحد
الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر ، وشعيب عليه الصلاة والسلام لم
يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقا ، لكن غلبوا الجماعة على
الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله. (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها ، أو أتعيدوننا في حال
كراهتنا.
(قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً) قد اختلقنا عليه. (إِنْ عُدْنا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) شرط جوابه محذوف دليله : (قَدِ افْتَرَيْنا) وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة
، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص
منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا ، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم
عليه حق. وقيل إنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا. (وَما يَكُونُ لَنا) وما يصح لنا. (أَنْ نَعُودَ فِيها
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله.
وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم. (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار. (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ
قَوْمِنا بِالْحَقِ) احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة.
أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل
إذا بينه. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) على المعنيين.
(وَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٩١)
(وَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) وتركتم دينكم. (إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ) لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس
والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام.
(فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ) الزلزلة وفي سورة «الحجر» (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ) ولعلها كانت من مباديها. (فَأَصْبَحُوا فِي
دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي في مدينتهم.
(الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا
هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)(٩٣)
(الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً) مبتدأ خبره (كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا) أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغني المنزل. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا
هُمُ الْخاسِرِينَ) دينا ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا ، فإنهم
الرابحون في الدارين. وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف
بالجملتين وأتى بهما اسميتين.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) قاله تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم ، أو قاله
اعتذارا عن عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي
في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي ، فكيف آسى عليكم. وقرئ «فكيف أيسي» بإمالتين.
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩٥)
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) بالبؤس والضر. (لَعَلَّهُمْ
يَضَّرَّعُونَ) حتى يتضرعوا ويتذللوا.
(ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة
والسعة ابتلاء لهم بالأمرين. (حَتَّى عَفَوْا) كثروا عددا وعددا يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء
اللحى. (وَقالُوا قَدْ مَسَّ
آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كفرانا لنعمة الله ونسيانا لذكره واعتقادا بأنه من عادة
الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا. (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فجأة. (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)(٩٧)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى) يعني القرى المدلول عليها بقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَبِيٍ) وقيل مكة وما حولها. (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) مكان كفرهم وعصيانهم. (لَفَتَحْنا
عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد
المطر والنبات. وقرأ ابن عامر (لَفَتَحْنا) بالتشديد. (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل. (فَأَخَذْناهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى) عطف على قوله : (فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وما بينهما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) تبييتا أو وقت بيات أو مبيتا أو مبيتين ، وهو في الأصل
مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم. (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا.
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٩٩)
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى) وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أو بالسكون على الترديد. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) ضحوة النهار ، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يلهون من فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم.
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ) تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى) و (مَكْرَ اللهِ) استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب. (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ
أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم ، وإنما عدي يهد
باللام لأنه بمعنى يبين. (أَنْ لَوْ نَشاءُ
أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم
، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولا. (وَنَطْبَعُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) عطف على ما دل عليه ، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو
منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على
أنه بمعنى وطبعنا
لأنه في سياقه جواب لو لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واعتبار.
(تِلْكَ الْقُرى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى
قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(١٠٢)
(تِلْكَ الْقُرى) يعني قرى الأمم المار ذكرهم. (نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبائِها) حال إن جعل (الْقُرى) خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها ، وخبر إن جعلت صفة ويجوز
أن يكونا خبرين و (مِنْ) للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصها. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات. (فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا) عند مجيئهم بها. (بِما كَذَّبُوا مِنْ
قَبْلُ) بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو
فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثر فيهم
قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم
ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ
الْكافِرِينَ) فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر. (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) لأكثر الناس ، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين. (مِنْ عَهْدٍ) من وفاء عهد ، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في
الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر
ومخافة مثل (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا
مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (وَإِنْ وَجَدْنا
أَكْثَرَهُمْ) أي علمناهم. (لَفاسِقِينَ) من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة ،
وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما ، وعند الكوفيين إن
للنفي واللام بمعنى إلا.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)
حَقِيقٌ
عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٠٥)
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى) الضمير للرسل في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ) أو للأمم. (بِآياتِنا) يعني المعجزات. (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) بأن كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ،
ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا. وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس
وكان اسمه قابوس ، وقيل الوليد بن مصعب بن الريان. (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
(وَقالَ مُوسى يا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليك ، وقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة ، وإنما لم يذكر
لدلالة قوله (فَظَلَمُوا بِها) عليه وكان أصله (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ) كما قرأ نافع فقلب لأمن الإلباس كقوله : وتشقى الرماح
بالضياطرة الحمر. أو لأن ما لزمك فقد لزمته ، أو للإغراق في الوصف بالصدق ،
والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقا به
، أو ضمن حقيق معنى حريص ، أو وضع على مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم : رميت على
القوس وجئت على حال حسنة ، ويؤيده قراءة أبي بالباء. وقرئ «حقيق أن لا أقول» بدون
على. (قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن
آبائهم ، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال.
(قالَ إِنْ كُنْتَ
جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
فَأَلْقى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ(١٠٧)
وَنَزَعَ
يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(١٠٨)
(قالَ إِنْ كُنْتَ
جِئْتَ بِآيَةٍ) من عند من أرسلك. (فَأْتِ بِها) فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى.
(فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة. روي :
أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه
الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر. ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث ،
وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، وصاح فرعون يا موسى أنشدك
بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.
(وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه أو من تحت إبطه. (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ) أي بيضاء بياضا خارجا عن العادة تجتمع عليها النظارة ، أو
بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها. روي : أنه عليهالسلام كان آدم شديد الأدمة ، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم
نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ
وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ
ساحِرٍ عَلِيمٍ)(١١٢)
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قيل قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره ، فحكى
عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا.
(يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) تشيرون في أن نفعل.
(قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ).
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ
ساحِرٍ عَلِيمٍ) كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون ، والإرجاء
التأخير أي أخر أمره ، وأصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب من أرجأت ،
وكذلك «أرجئهوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير ، أو أرجهي من أرجيت كما
قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي ، وأما قراءته في رواية قالون (أَرْجِهْ) بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها ، وأما قراءة حمزة
وعاصم وحفص (أَرْجِهْ) بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل (أَرْجِهْ) كإبل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه»
بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة
أو ياء ساكنة ، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها. وقرأ حمزة
والكسائي «بكل سحار» فيه وفي «يونس» ويؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء».
(وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(١١٤)
(وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم. (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ
كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) استأنف به كأنه جواب سائل قال : ما قالوا إذ جاءوا؟ وقرأ
ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) على الإخبار وإيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر ،
والتنكير للتعظيم.
(قالَ نَعَمْ) إن لكم لأجرا. (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) عطف على ما سد مسده (نَعَمْ) وزيادة على
الجواب لتحريضهم.
(قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١١٦)
(قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهارا للجلادة ، ولكن كانت
رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر
وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك :
(قالَ بَلْ أَلْقُوا) كرما وتسامحا ، أو ازدراء بهم ووثوقا على شأنه. (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ) بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم. (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في فنه. روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها
حيات ملأت الوادي ، وركب بعضها بعضا.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)
فَغُلِبُوا
هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ)(١١٩)
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فصارت حية. (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ
ما يَأْفِكُونَ) أي ما يزورونه من الإفك ، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه ،
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول. روي : أنها لما تلقفت حبالهم
وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ،
ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا
وعصينا.
وقرأ حفص عن عاصم (تَلْقَفُ) هاهنا وفي «طه» و «الشعراء».
(فَوَقَعَ الْحَقُ) فثبت لظهور أمره. (وَبَطَلَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من السحر والمعارضة.
(فَغُلِبُوا هُنالِكَ
وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي صاروا أذلاء مبهوتين ، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين
، والضمير لفرعون وقومه.
(وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ) (١٢٢)
(وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) جعلهم ملقين على وجوههم تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم
إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك ، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر
فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه ، أو مبالغة في سرعة خرورهم
وشدته.
(قالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعالَمِينَ).
(رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ) أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
(قالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٢٤)
(قالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ) بالله أو بموسى ، والاستفهام فيه للإنكار. وقرأ حمزة
والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل. وقرأ
حفص (آمَنْتُمْ بِهِ) على الإخبار ، وقرأ قنبل (قالَ فِرْعَوْنُ) ، و «آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا
مفتوحة ويمد بعدها مدة في تقدير ألفين وقرأ في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في
الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير
ألفين ، وقرأ
الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى. (فِي الْمَدِينَةِ) في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) يعني القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلتم ، وهو تهديد مجمل تفصيله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) من كل شق طرفا. (ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم. قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه
الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله ، ولكن على التعاقب لفرط
رحمته.
(قالُوا إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ
مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)(١٢٦)
(قالُوا إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك ، أو إنا منقلبون إلى
ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك ، كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله ، أو مصيرنا
ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا.
(وَما تَنْقِمُ مِنَّا) وما تنكر منا. (إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول
عنه طلبا لمرضاتك ، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما
يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون. (وَتَوَفَّنا
مُسْلِمِينَ) ثابتين على الإسلام. قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به. وقيل
إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ)(١٢٧)
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك. (وَيَذَرَكَ) عطف على يفسدوا ، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة :
ألم أك جاركم
ويكون بيني
|
|
وبينكم المودّة
والإخاء
|
على معنى أيكون
منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك. وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف
أو حال. وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) ، (وَآلِهَتَكَ) معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. وقيل صنع لقومه أصناما
وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى) وقرئ «إلا هتك» أي عبادتك. (قالَ) فرعون (سَنُقَتِّلُ
أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر
والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده.
وقرأ ابن كثير ونافع (سَنُقَتِّلُ) بالتخفيف. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ
قاهِرُونَ) غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا.
(قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٢٩)
(قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينا لهم (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في
الأمر. (وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ)
وعد لهم بالنصرة
وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له. وقرئ «والعاقبة»
بالنصب عطف على اسم إن واللام في (الْأَرْضَ) تحتمل العهد والجنس.
(قالُوا) أي بنو إسرائيل. (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَأْتِيَنا) بالرسالة بقتل الأبناء (وَمِنْ بَعْدِ ما
جِئْتَنا) بإعادته. (قالَ عَسى رَبُّكُمْ
أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) تصريحا بما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ،
ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. وقد روي أن
مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليهالسلام
(فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على
حسب ما يوجد منكم.
(وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
(١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا
لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا
إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣١)
(وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) بالجدوب لقلة الأمطار والمياه ، والسنة غلبت على عام القحط
لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا. (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بكثرة العاهات. (لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا ، أو
ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.
(فَإِذا جاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ) من الخصب والسعة. (قالُوا لَنا هذِهِ) لأجلنا ونحن مستحقوها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) جدب وبلاء. (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى
وَمَنْ مَعَهُ) يتشاءموا بهم ويقولوا : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا
إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة ، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل
التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوا وانهماكا
في الغي ، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها ، وتعلق الإرادة
بإحداثها بالذات ، ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد لها إلا
بالتبع. (أَلا إِنَّما
طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومشيئته ، أو سبب شؤمهم
عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. وقرئ «إنما
طيرهم» وهو اسم الجمع وقيل هو جمع. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم.
(وَقالُوا مَهْما
تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(١٣٣)
(وَقالُوا مَهْما) أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد ، ثم قلبت
ألفها هاء استثقالا للتكرير. وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية
ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره. (تَأْتِنا بِهِ) أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به. (مِنْ آيَةٍ) بيان لمهما ، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم
ولذلك قالوا : (لِتَسْحَرَنا بِها
فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا ، والضمير في به وبها
لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنثه بعده باعتبار المعنى.
(فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل. وقيل
الجدري ، وقيل الموتان وقيل الطاعون. (وَالْجَرادَ
وَالْقُمَّلَ) قيل هو كبار القردان ، وقيل أولاد الجراد قبل نبات
أجنحتها. (وَالضَّفادِعَ
وَالدَّمَ)
روي : أنهم مطروا
ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ، ودخل
الماء بيوتهم حتى
قاموا فيه إلى تراقيهم ، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها
قطرة ، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها ، ودام ذلك عليهم أسبوعا
فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا فكشف عنهم ونبت لهم من
الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم
وثمارهم ، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانيا فدعا وخرج إلى
الصحراء ، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم
يؤمنوا ، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل
بين أثوابهم وجلودهم فيمصها ، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر
، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه ، وكانت
تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي ، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه
وتضرعوا ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود ، ثم أرسل الله
عليهم الدم فصارت مياههم دما حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون
ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي ماء ، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير
دما في فيه. وقيل سلط الله عليهم الرعاف. (آياتٍ) نصب على الحال. (مُفَصَّلاتٍ) مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم ، أو
مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة
أسبوعا ، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على
مهل. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان. (وَكانُوا قَوْماً
مُجْرِمِينَ).
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ
الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)(١٣٥)
(وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) يعني العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم
بعد ذلك. (قالُوا يا مُوسَى
ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) بعهده عندك وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به
فيجيبك كما أجابك في آياتك ، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله
متوسلا إليه بما عهد عندك ، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى
ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله : (لَئِنْ كَشَفْتَ
عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن
ولنرسلن.
(فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون ، وهو
وقت الغرق أو الموت. وقيل إلى أجل عينوه لإيمانهم. (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل
وتوقف فيه.
(فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا
عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا
الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(١٣٧)
(فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ) فأردنا الانتقام منهم. (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي
الْيَمِ) أي البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل لجته. (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى
صاروا كالغافلين عنها. وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله : (فَانْتَقَمْنا).
(وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بالاستعباد وذبح الأبناء من مستضعفيهم. (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة
وتمكنوا في نواحيها. (الَّتِي بارَكْنا
فِيها) بالخصب وسعة العيش. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ومضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين
وهو قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَ) إلى قوله : (ما كانُوا
يَحْذَرُونَ) وقرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد (بِما صَبَرُوا) بسبب صبرهم على الشدائد. (وَدَمَّرْنا) وخربنا. (ما كانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من القصور والعمارات. (وَما كانُوا
يَعْرِشُونَ) من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ
ابن عامر وأبو بكر هنا وفي «النحل» (يَعْرِشُونَ) بالضم. وهذا آخر قصة فرعون وقومه.
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ
قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ)(١٣٨)
وقوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ
الْبَحْرَ) وما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد
أن منّ الله عليهم بالنعم الجسام ، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم مما رأى منهم ، وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة
أنفسهم ومراقبة أحوالهم. روي : أن موسى عليهالسلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا. (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ) فمروا عليهم. (يَعْكُفُونَ عَلى
أَصْنامٍ لَهُمْ) يقيمون على عبادتها ، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن
العجل ، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل من لخم ، وقرأ
حمزة والكسائي (يَعْكُفُونَ) بالكسر. (قالُوا يا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً) مثالا نعبده. (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) يعبدونها ، وما كافة للكاف. (قالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا
من الآيات الكبرى عن العقل.
(إِنَّ هؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١٤٠)
(إِنَّ هؤُلاءِ) إشارة إلى القوم. (مُتَبَّرٌ) مكسر مدمر. (ما هُمْ فِيهِ) يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم
ويجعلها رضاضا (وَباطِلٌ) مضمحل. (ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى ، وإنما
بالغ في هذا الكلام بإيقاع (هؤُلاءِ) اسم (إِنَ) والإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان ، وتقديم
الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لإن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا
محالة ، وأن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا.
(قالَ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أطلب لكم معبودا. (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ
عَلَى الْعالَمِينَ) والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم ، وفيه تنبيه على سوء
معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا
أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
(وَإِذْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ
مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١٤٢)
(وَإِذْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. وقرأ ابن عامر «أنجاكم».
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) استئناف لبيان ما أنجاهم منه ، أو حال من المخاطبين ، أو
من آل فرعون أو منهما.
(يُقَتِّلُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بدل منه مبين. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) وفي الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة.
(وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ذا القعدة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ووعدنا». (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجة. (فَتَمَّ مِيقاتُ
رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) بالغا أربعين. روي : أنه عليهالسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من
الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم
ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك
فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا. وقيل أمره بأن يتخلى
ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) كن خليفتي فيهم. (وَأَصْلِحْ) ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا. (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه.
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ
تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ)(١٤٣)
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا) لوقتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه
لميقاتنا. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليهالسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه
القديم ليس من جنس كلام المحدثين. (قالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو تتجلى لي فأنظر إليك
وأراك. وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء
محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليّ ، تنبيها على أنه
قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت
قومه الذين قالوا : (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً) خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم
كما فعل بهم حين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل
الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن
يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. (قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية
بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو
جبل زبير. (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره. وقيل أعطى له حياة
ورؤية حتى رآه. (جَعَلَهُ دَكًّا) مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق ، وقرأ حمزة
والكسائي «دكاء» أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها. وقرئ (دَكًّا) أي قطعا جمع دكاء. (وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً) مغشيا عليه من هول ما رأى. (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ) تعظيما لما رأى. (سُبْحانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ) من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) مر تفسيره. وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في
الدنيا.
(قالَ يا مُوسى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ
مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ)(١٤٥)
(قالَ يا مُوسى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك. (عَلَى النَّاسِ) أي الموجودين في زمانك ، وهارون وإن كان نبيا كان مأمورا
باتباعه ولم يكن كليما ولا صاحب شرع. (بِرِسالاتِي) يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي». (وَبِكَلامِي) وبتكليمي إياك. (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أعطيتك من الرسالة. (وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) على النعمة فيه. روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وإعطاء
التوراة كان يوم النحر.
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاجون إليه من أمر الدين. (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار والمجرور ، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ
وتفصيل الأحكام. واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة ، وكانت من زمرد أو زبرجد
، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان
فيها التوراة أو غيرها. (فَخُذْها) على إضمار القول عطفا على كتبنا أو بدل من قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو
للرسالات. (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة. (وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار ،
والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره ، ويجوز أن يراد
بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة ، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من
الشتاء. (سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ) دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ، أو منازل عاد
وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا ، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم. وقرئ «سأوريكم»
بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند و «سأورثكم» ، ويؤيده قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ).
(سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤٧)
(سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ) المنصوبة في الآفاق والأنفس. (الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل
سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بأعلائها أو بإهلاكهم. (بِغَيْرِ الْحَقِ) صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل ، أو
حال من فاعله. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ) منزلة أو معجزة. (لا يُؤْمِنُوا بِها) لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد
وهو يؤيد الوجه الأول. (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لاستيلاء الشيطنة عليهم. وقرأ حمزة والكسائي (الرُّشْدِ) بفتحتين وقرئ «الرشاد» وثلاثتها لغات كالسقم والسقم
والسقام ، (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات ، ويجوز أن
ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما.
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي ولقائهم الدار الآخرة ، أو ما وعد الله في الدار
الآخرة. (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) لا ينتفعون بها. (هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا جزاء أعمالهم.
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١٤٩)
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ذهابه للميقات. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروا من القبط حين هموا
بالخروج من مصر ،
وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم. وهو جمع حلي كثدي
وثدي. وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد. (عِجْلاً جَسَداً) بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه
على البدل. (لَهُ خُوارٌ) صوت البقر. روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من
تراب أثر فرس جبريل فصار حيا. وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ،
وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه
إلها. وقرئ «جوار» أي صياح. (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا
حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا
أنه خالق الأجسام والقوى والقدر. (اتَّخَذُوهُ) تكرير للذم أي اتخذوه إلها. (وَكانُوا ظالِمِينَ) واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا
منهم.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ) كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غما
فتصير يده مسقوطا فيها. وقرئ «سقط» على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها.
وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم. (وَرَأَوْا) وعلموا. (أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا) باتخاذ العجل. (قالُوا لَئِنْ لَمْ
يَرْحَمْنا رَبُّنا) بإنزال التوراة. (وَيَغْفِرْ لَنا) بالتجاوز عن الخطيئة. (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء و (رَبُّنا) على النداء.
(وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(١٥١)
(وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) شديد الغضب وقيل حزينا. (قالَ بِئْسَما
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل ، والخطاب للعبدة أو أقمتم
مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ، وما نكرة موصوفة تفسر
المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم
، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي ، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه
والحمل عليه والكف عما ينافيه. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ) أتركتموه غير تام
، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدي تعديته ، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من
الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين. روي : أن
التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان
فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام. (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) بشعر رأسه. (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) توهما بأنه قصر في كفهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين
وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل. (قالَ ابْنَ أُمَ) ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم. وقرأ ابن عامر
وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي «طه» «يا ابن أم» بالكسر وأصله يا ابن
أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء ، والباقون
بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر. (إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى بذلت وسعي في كفهم
حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي. (فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْداءَ) فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله. (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي) بما صنعت بأخي. (وَلِأَخِي) إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار
ترضية له ودفعا
للشماتة عنه. (وَأَدْخِلْنا فِي
رَحْمَتِكَ) بمزيد الإنعام علينا. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا.
(إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(١٥٢) وَالَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٥٣)
(إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم. (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهي خروجهم من ديارهم. وقيل الجزية. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم
وإله موسى ، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم.
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي. (ثُمَّ تابُوا مِنْ
بَعْدِها) من بعد السيئات. (وَآمَنُوا) واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة. (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل ، وكثر كجرائم بني
إسرائيل.
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(١٥٤)
(وَلَمَّا سَكَتَ) سكن وقد قرئ به. (عَنْ مُوسَى
الْغَضَبُ) باعتذار هارون ، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة
من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به والمغري عليه حتى عبر عن
سكونه بالسكوت. وقرئ «سكت» و «أسكت» على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين
تابوا. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها. (وَفِي نُسْخَتِها) وفيما نسخ فيها أي كتب ، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل
فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة. (هُدىً) بيان للحق. (وَرَحْمَةٌ) إرشاد إلى الصلاح والخير. (لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير ، أو حذف
المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم.
(وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْغافِرِينَ)(١٥٥)
(وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ) أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)
روي أنه تعالى
أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف
منكم رجلان فتشاجروا فقال : إن لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع وذهب مع
الباقين ، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا ، فسمعوه
تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً) فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة ، أو رجفة الجبل فصعقوا منها. (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) تمنى هلاكهم وهلاكه ، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر ، أو
عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر
وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم
إحسانك. (أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، وكان ذلك قاله بعضهم.
وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل ، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة
عنها فغشيتهم
هيبة قلقوا منها
ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم ، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا
فكشفها الله عنهم. (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ) ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية ، أو أوجدت
في العجل خوارا فزاغوا به. (تُضِلُّ بِها مَنْ
تَشاءُ) ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل. (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) هداه فيقوى بها إيمانه. (أَنْتَ وَلِيُّنا) القائم بأمرنا. (فَاغْفِرْ لَنا) بمغفرة ما قارفنا. (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْغافِرِينَ) تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
(وَاكْتُبْ لَنا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ)(١٥٦)
(وَاكْتُبْ لَنا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) حسن معيشة وتوفيق طاعة. (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة. (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع. وقرئ بالكسر من هاد يهيده
إذا أماله ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك
، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض. (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) تعذيبه. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره. (فَسَأَكْتُبُها) فسأثبتها في الآخرة ، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني
إسرائيل.
(لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي. (وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) فلا يكفرون بشيء منها.
(الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي
كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٥٧)
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَ) مبتدأ خبره يأمرهم ، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين ، أو
بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل ، والمراد من آمن منهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة
إلى العباد. (الْأُمِّيَ) الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه
مع حاله إحدى معجزاته. (الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) اسما وصفة. (يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مما حرم عليهم كالشحوم. (وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص
في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة ، وأصل الإصر الثقل
الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله. وقرأ ابن عامر «آصارهم». (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) وعظموه بالتقوية. وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير.
(وَنَصَرُوهُ) لي. (وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي مع نبوته يعني القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه
ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا
باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب
والسنة. (أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالرحمة الأبدية ، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلىاللهعليهوسلم.
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ)
(١٥٨)
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) الخطاب عام ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مبعوثا إلى كافة الثقلين ، وسائر الرسل إلى أقوامهم. (جَمِيعاً) حال من إليكم. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه
كالتقدم عليه ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهو على الوجوه. الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم
كان هو الإله لا غيره وفي : (يُحيِي وَيُمِيتُ) مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ «وكلمته»
على إرادة الجنس أو القرآن ، أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به
لم يعتبر إيمانه ، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى
الإيمان به والاتباع له. (وَاتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم
يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ
قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١٦٠)
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) يعنى من بني إسرائيل. (أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِ) يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق. (وَبِهِ) بالحق. (يَعْدِلُونَ) بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإيمان القائمون
بالحق من أهل زمانه ، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن
تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. وقيل مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج فآمنوا به. (وَقَطَّعْناهُمُ) وصيرناهم قطعا متميزا بعضهم عن بعض. (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير ، أو حال وتأنيثه
للحمل على الأمة أو القطعة. (أَسْباطاً) بدل منه ولذلك جمع ، أو تمييز له على أن كل واحدة من اثنتي
عشرة أسباط فكأنه قيل : اثنتي عشرة قبيلة. وقرئ بكسر الشين وإسكانها. (أُمَماً) على الأول بدل بعد بدل ، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من
أسباط. (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) في التيه. (أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ) أي فضرب فانبجست وحذفه للإيماء على أن موسى صلىاللهعليهوسلم لم يتوقف في الامتثال ، وأن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه
الفعل في ذاته (مِنْهُ اثْنَتا
عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط. (مَشْرَبَهُمْ
وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) ليقيهم حر الشمس. (وَأَنْزَلْنا
عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) أي وقلنا لهم كلوا. (مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) سبق تفسيره في سورة «البقرة».
(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
(١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٦٢)
(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بإضمار اذكر والقرية بيت المقدس. (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ
وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مثل ما في سورة «البقرة» معنى غير أن قوله (فَكُلُوا) فيها بالفاء أفاد تسبب
سكناهم للأكل منها
، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة ، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله
قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة
بينهما. (نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة ، وإنما أخرج الثاني
مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به. وقرأ نافع
وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول ، و (خَطِيئاتِكُمْ) بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو «خطاياكم».
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) مضى تفسيره فيها.
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(١٦٣)
(وَسْئَلْهُمْ) للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم ، والإعلام بما هو
من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم. (عَنِ الْقَرْيَةِ) عن خبرها وما وقع بأهلها. (الَّتِي كانَتْ
حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر ،
وقيل مدين ، وقيل طبرية. (إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ) يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت ، و (إِذْ) ظرف ل (كانَتْ) أو (حاضِرَةَ) أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال. (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ل «يعدون» أو بدل بعد بدل. وقرئ «يعدون» وأصله يعتدون
ويعدون من الإعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت ، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير
العبادة. (يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعاً) يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها
بالتجرد للعبادة. وقيل اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه ، ويؤيد الأول إن
قرئ يوم إسباتهم ، وقوله : (وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) وقرئ «لا يسبتون» من أسبت و «لا يسبتون» على البناء
للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ، و (شُرَّعاً) حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا
إذا دنا وأشرف. (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ
بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم. وقيل كذلك متصل
بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت ، والباء متعلق ب (يَعْدُونَ).
(وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
(١٦٤)
(وَإِذْ قالَتْ) عطف على (إِذْ يَعْدُونَ). (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في
موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم. (لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) مخترمهم. (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة لتماديهم في العصيان ، قالوه مبالغة في أن الوعظ
لا ينفع فيهم ، أو سؤالا عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن
الوعظ لمن لم يرعو منهم ، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم
ردا عليهم وتهكما بهم. (قالُوا مَعْذِرَةً
إِلى رَبِّكُمْ) جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر إلى الله حتى لا ننسب
إلى تفريط في النهي عن المنكر. وقرأ حفص (مَعْذِرَةً) بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم
معذرة. (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
(فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١٦٦)
(فَلَمَّا نَسُوا) تركوا ترك الناسي. (ما ذُكِّرُوا بِهِ) ما ذكرهم به صلحاؤهم. (أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالاعتداء ومخالفة أمر الله. (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤسا إذا
اشتد. وقرأ أبو
بكر (بَئِيسٍ) على فيعل كضيغم ، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز
على أنه بئس كحذر ، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد ،
وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به
فجعل اسما ، وقرئ «بيس» كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و «بيس» بالتخفيف كهين و «بائس»
كفاعل. (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم.
(فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ). (قُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) كقوله : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا
بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى. روي : أن
الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه
باب مطروق ، فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا : إن لهم شأنا
فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتي أنسباءهم
وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث.
وعن مجاهد مسخت
قلوبهم لا أبدانهم.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(١٦٨)
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ) أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإيعاد ، أو عزم
لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله وأجري مجرى فعل القسم ك (عَلِمَ اللهُ) و (شَهِدَ اللهُ). ولذلك أجيب بجوابه وهو : (لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. (مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) كالإذلال وضرب الجزية ، بعث الله عليهم بعد سليمان عليهالسلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم
وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر
الدهر. (إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقابِ) عاقبهم في الدنيا. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ) لمن تاب وآمن.
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَماً) وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم
حتى لا يكون لهم شوكة قط و (أُمَماً) مفعول ثان أو حال. (مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ) صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) تقديره ومنهم أناس من دون ذلك أي منحطون عن الصلاح ، وهم
كفرتهم وفسقتهم. (وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) بالنعم والنقم. (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ
الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ)(١٧٠)
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) من بعد المذكورين. (فَخَلَفَ) بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل
جمع وهو شائع في الشر والخلف بالفتح في الخير والمراد به الذين كانوا في عصر رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم (وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها ... (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا ، وهو من الدنو أو
الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في
الحكومة وعلى
تحريف الكلم ، والجملة حال من الواو. (وَيَقُولُونَ
سَيُغْفَرُ لَنا) لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف
والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ
يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير في (لَنا) أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير
تائبين عنه. (أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي في الكتاب. (أَنْ لا يَقُولُوا
عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد
توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج
عن ميثاق الكتاب. (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) من حيث المعنى فإنه تقرير ، أو على (وَرِثُوا) وهو اعتراض. (وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) مما يأخذ هؤلاء. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب
بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ
وَأَقامُوا الصَّلاةَ) عطف على الذين (يَتَّقُونَ) وقوله : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) اعتراض أو مبتدأ خبره : (إِنَّا لا نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) على تقدير منهم ، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على أن
الإصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر (يُمَسِّكُونَ) بالتخفيف وإفراد الإقامة لإنافتها على سائر أنواع
التمسكات.
(وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧١)
(وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب. (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) سقيفة وهي كل ما أظلك. (وَظَنُّوا) وتيقنوا. (أَنَّهُ واقِعٌ
بِهِمْ) ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون
به ، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة
لثقلها فرفع الله الطور فوقهم. وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم. (خُذُوا) على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا. (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب. (بِقُوَّةٍ) بجد وعزم على تحمل مشاقه ، وهو حال من الواو. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
(وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا
بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
وَكَذلِكَ
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(١٧٤)
(وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و
(مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل (مِنْ بَنِي آدَمَ) بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم».
(وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى
الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم (قالُوا بَلى) فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد
والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : (أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي كراهة أن تقولوا. (إِنَّا كُنَّا عَنْ
هذا غافِلِينَ) لم ننبه عليه بدليل.
(أَوْ تَقُولُوا) عطف على (أَنْ تَقُولُوا) ، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة.
(إِنَّما أَشْرَكَ
آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من
العلم به لا يصلح عذرا. (أَفَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) يعنى آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. وقيل لما خلق الله آدم
أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه
عمر رضي الله تعالى عنه ، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح» ،
والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا الزام
اليهود بمقتضى
الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج
السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال :
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي عن التقليد واتباع الباطل.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)(١٧٥)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي على اليهود. (نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا) هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان
قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما
بعث محمد عليهالسلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم
بعض كتب الله ، (فَانْسَلَخَ مِنْها) من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها. (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) حتى لحقه وقيل استتبعه. (فَكانَ مِنَ
الْغاوِينَ) فصار من الضالين. روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن
معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه.
(وَلَوْ شِئْنا
لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٧٧)
(وَلَوْ شِئْنا
لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار من العلماء. (بِها) بسبب تلك الآيات وملازمتها. (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا أو إلى السفالة. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ،
وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد ، تنبيها على أن
المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على
انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط
معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه أن يقول ولكنه
أعرض عنها فأوقع موقعه (أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) ، مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل
خطيئة. (فَمَثَلُهُ) فصفته التي هي مثل في الخسة. (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) كصفته في أخس أحواله وهو (إِنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم
يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده. واللهث إدلاع اللسان من التنفس
الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى : لاهثا في الحالتين ، والتمثيل واقع موقع
لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان. وقيل لما دعا على
موسى صلىاللهعليهوسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب. (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ.
(ساءَ مَثَلاً
الْقَوْمُ) أي مثل القوم ، وقرئ ساء مثل القوم على حذف المخصوص بالذم.
(الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا) بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها. (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إما أن يكون داخلا في الصلة معطوفا على كذبوا بمعنى :
الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم ، أو منقطعا عنها بمعنى : وما ظلموا
بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها ، ولذلك قدم المفعول.
(مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩)
(مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تصريح بأن الهدى والضلال من الله ، وأن هداية الله تختص
ببعض دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول والجمع في الثاني
باعتبار اللفظ ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين
، والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء ، وتنبيه على
أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز
بالنعم الآجلة والعنوان لها.
(وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا. (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله. (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار. (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الآيات والمواعظ
سماع تأمل وتذكر. (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في
أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها. (بَلْ هُمْ أَضَلُ) فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ،
وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند
فيقدم على النار. (أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَمِمَّنْ
خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(١٨١)
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ، والمراد بها
الألفاظ وقيل الصفات. (فَادْعُوهُ بِها) فسموه بتلك الأسماء. (وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف
فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه ، أو لا
تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو وذروهم
وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من «الله» ،
والعزى من «العزيز» ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقرأ حمزة هنا وفي «فصلت» (يُلْحِدُونَ) بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد.
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن
الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة أمة هادين بالحق عادلين في الأمر ، واستدل به
على صحة الإجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة
والسلام «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» ، إذ لو اختص بعهد
الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم.
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١٨٤)
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا ، وأصل الاستدراج
الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. (مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ) ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف
من الله تعالى بهم ، فيزدادوا بطرا وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.
(وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم عطف على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ). (إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ) إن أخذي شديد ، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه
خذلان.
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم. (مِنْ جِنَّةٍ) من جنون. روي : أنه صلىاللهعليهوسلم صعد على
الصفا فدعاهم فخذا
فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح ،
فنزلت. (إِنْ هُوَ إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦)
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال. (فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها
ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر
لهم صحة ما يدعوهم إليه. (وَأَنْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، واسمها
ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها
فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم ، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن. (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم
بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر. وقيل هو متعلق
بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان
بالقرآن ، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن
يؤمنوا به.
وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) كالتقرير والتعليل
له. ونذرهم في طغيانهم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء
لقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفا على محل (فَلا هادِيَ لَهُ) ، كأنه قيل : لا يهده أحد غيره (وَيَذَرُهُمْ). (يَعْمَهُونَ) حال من هم.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ
إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(١٨٧)
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ) أي عن القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها
إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها على طولها عند الله كساعة. (أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته
واستقراره ، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة ، واشتقاق (أَيَّانَ) من أي لأن معناه أي وقت ، وهو من أويت إليه لأن البعض أو
إلى الكل. (قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) لا يظهر أمرها في وقتها. (إِلَّا هُوَ) والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها ،
واللام للتأقيت كاللام في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). (ثَقُلَتْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة
إلى الحكمة في إخفائها. (لا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على غفلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «إن
الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في
سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه». (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ
حَفِيٌّ عَنْها) عالم بها ، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه ، فإن من
بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ، ولذلك عدي بعن. وقيل هي صلة
(يَسْئَلُونَكَ). وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له : إن
بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة ، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم
فتخصهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها. وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه ، من
حفى بالشيء إذا فرح أي تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها عند الله لم يؤته أحدا من خلقه.
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٨)
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) جلب نفع ولا دفع ضر ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء
العلم بالغيوب. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له ، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع
واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء. (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بهما ، ويجوز أن يكون متعلقا بال (بَشِيرٌ) ومتعلق ال (نَذِيرٌ) محذوف.
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ)(١٨٩)
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم. (وَجَعَلَ مِنْها) من جسدها من ضلع من أضلاعها ، أو من جنسها كقوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً). (زَوْجَها) حواء. (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه
، وإنما ذكر الضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب. (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها. (حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً) خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالبا من الأذى
، أو محمولا خفيفا وهو النطفة. (فَمَرَّتْ بِهِ) فاستمرت به أي قامت وقعدت ، وقرئ «فمرت» بالتخفيف و «فاستمرت
به» و «فمارت» من المور وهو المجيء والذهاب ، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت
منه. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرئ على البناء
للمفعول أي أثقلها حملها. (دَعَوَا اللهَ
رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) ولدا سويا قد صلح بدنه. (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) لك على هذه النعمة المجددة.
(فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(١٩١)
(فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد
العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، ويدل عليه قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
(أَيُشْرِكُونَ ما لا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يعني الأصنام. وقيل : لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة
رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ، فخافت
من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت
الله أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث ، وكان اسمه حارثا بين
الملائكة فتقبلت ، فلما ولدت سمياه عبد الحرث. وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء
ويحتمل أن يكون الخطاب في (خَلَقَكُمْ) لآل قصي من قريش ، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من
جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم : عبد مناف ،
وعبد شمس ، وعبد قصي ، وعبد الدار. ويكون الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما المقتدين بهما. وقرأ نافع وأبو بكر «شركا»
أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء ، وهم ضمير الأصنام جيء به على
تسميتهم إياها آلهة.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١٩٣)
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْراً) أي لعبدتهم. (وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي المشركين. (إِلَى الْهُدى) إلى الإسلام. (لا يَتَّبِعُوكُمْ) وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء ، وقيل الخطاب للمشركين وهم
ضمير الأصنام أي : إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما
يجيبكم الله. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث
إنه مسوى بالثبات على الصمات ، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل : سواء
عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٩٤) أَلَهُمْ
أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ
أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(١٩٥)
(إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة. (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) من حيث إنها مملوكة مسخرة. (فَادْعُوهُمْ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنهم آلهة ، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم
: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق
بعضكم عبادة بعض ، ثم عاد عليه بالنقض فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) وقرئ «إن الذين» بتخفيف «إن» ونصب «عباد» على أنها نافية
عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله ، و «يبطشون» بالضم ها هنا وفي «القصص» و «الدخان».
(قُلِ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي. (ثُمَّ كِيدُونِ) فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم. (فَلا تُنْظِرُونِ) فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى
وحفظه.
(إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ)(١٩٨)
(إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) القرآن. (وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ) أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن
أنبيائه.
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من
يواجهه.
(خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ)(٢٠٠)
(خُذِ الْعَفْوَ) أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق
عليهم ، من العفو الذي هو ضد الجهد أو (خُذِ الْعَفْوَ) عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل وجوب
الزكاة. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف المستحسن من الأفعال. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل
أفعالهم ، وهذه
الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.
(وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به
كاعتراء غضب وفكر ، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته للناس إغراء لهم على
المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ) يسمع استعاذتك. (عَلِيمٌ) يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه ، أو (سَمِيعٌ) بأقوال من آذاك (عَلِيمٌ) بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام ومشايعة
الشيطان.
(إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢)
(إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) لمة منه ، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت
حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم ، أو من طاف به الخيال يطيف طيفا. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو والكسائي ويعقوب «طيف» على أنه مصدر أو تخفيف طيف كلين وهين ، والمراد
بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره. (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه. (فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ) بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا
يتبعونه فيها ، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله :
(وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ) أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين. (فِي الغَيِ) بالتزيين والحمل عليه ، وقرئ «يمدونهم» من أمد و «يمادونهم»
كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال. (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ثم لا يمسكون عن اغوائهم حتى يردوهم ، ويجوز أن يكون
الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ، ويجوز أن يراد بال «الإخوان»
الشياطين ويرجع الضمير إلى (الْجاهِلِينَ) فيكون الخبر جاريا على ما هو له.
(وَإِذا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى
إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤)
(وَإِذا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من القرآن أو مما اقترحوه. (قالُوا لَوْ لا
اجْتَبَيْتَها) هلا جمعتها تقولا من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من
الله. (قُلْ إِنَّما
أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها. (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) سبق تفسيره.
(وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة
الإمام والإنصات له. وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقا ، وعامة
العلماء على استحبابهما خارج الصلاة. واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم
وهو ضعيف.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ
وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ) عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما ، أو أمر
للمأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله
تعالى عنه. (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) متضرعا وخائفا. (وَدُونَ الْجَهْرِ
مِنَ الْقَوْلِ) ومتكلما كلاما فوق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع
والإخلاص. (بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) بأوقات الغدو والعشيات. وقرئ «والإيصال» وهو مصدر آصل إذا
دخل في الأصيل وهو مطابق
للغدو. (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله.
(إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ) يعني ملائكة الملأ الأعلى. (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) وينزهونه. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ويخصونه بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره ، وهو تعريض
بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «إذا قرأ ابن آدم
السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول : يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة
وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» وعنه صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة
الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة».
(٨) سورة الأنفال
مدنية وآياتها خمس وسبعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١)
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ) أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها
عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على
سهمه. (قُلِ الْأَنْفالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به.
وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم
أو الأنصار. وقيل شرط رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين
وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم. وكان المال قليلا. فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا
عند الرايات : كنا ردءا لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما
وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال:
لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض
فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى
نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه. وقرئ «يسألونك
الأنفال» بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، و «يسألونك
الأنفال» أي يسألك الشبان ما شرطت لهم. (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاختلاف والمشاجرة. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ) الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله
وتسليم أمره إلى الله والرسول. (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) فيه. (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن
كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات
البين بالعدل والإحسان.
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ)(٤)
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان. (الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فزعت لذكره استعظاما له وتهيبا من جلاله. وقيل هو الرجل
يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفا من عقابه. وقرئ «وجلت» بالفتح وهي
لغة ، وفرقت أي خافت. (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) لزيادة المؤمن به ، أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر
الأدلة ، أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
بناء على أن العمل داخل فيه. (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
(أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من
الخشية والإخلاص والتوكل ، ومحاسن أفعال الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة
والصدقة ، و (حَقًّا) صفة مصدر محذوف أو مصدر مؤكد كقوله : «هو عبد الله حقا». (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) كرامة وعلو منزلة. وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. (وَمَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.
(كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ)(٥)
(كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال في كراهتهم إياها كحال
إخراجك للحرب في كراهتهم له ، وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة. أو صفة مصدر
الفعل المقدر في قوله : (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلىاللهعليهوسلم مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك ، يعني
المدينة لأنها مهاجره ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ) في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك أن عير قريش
أقبلت من الشأم وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن
العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل عليهالسلام رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال ،
فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء
النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ،
وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من
الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منها ، فحدثت بها العباس وبلغ
ذلك أبا جهل فقال : ما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل
بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما في
السنة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليهالسلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش ، فاستشار فيه
أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير ، فردد
عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا
رسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا ، ثم
قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض فيه فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف
عنك رجل من الأنصار ، ثم قال مقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما
أحببت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : «أشيروا عليّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار لأنهم
كانوا عددهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم
، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال
لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما
جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا
رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك
ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا ، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند
اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى ، فنشطه
قوله ثم قال : «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى
الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم». وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما
فرغ من بدر قيل له : عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له «لم»
فقال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله.
(يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ)(٦)
(يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِ) في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه. (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بإعلام الرسول عليه الصلاة
والسلام. (كَأَنَّما يُساقُونَ
إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد
أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم
إلا فارسان ، وفيه إيماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ
(٧) لِيُحِقَّ
الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) على إضمار اذكر ، وإحدى ثاني مفعولي (يَعِدُكُمُ) وقد أبدل منها. (أَنَّها لَكُمْ) بدل الاشتمال. (وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ولذلك
يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم ، وعددهم والشوكة الحدة مستعارة من
واحدة الشوك. (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُحِقَّ الْحَقَ) أي يثبته ويعليه. (بِكَلِماتِهِ) الموحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالإمداد ،
وقرئ «بكلمته». (وَيَقْطَعَ دابِرَ
الْكافِرِينَ) ويستأصلهم ، والمعنى : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا
تلقوا مكروها ، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي فعل ما فعل وليس بتكرير ، لأن الأول لبيان المراد وما
بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار
ذات الشوكة ونصره عليها. (وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ) ذلك.
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(١٠)
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو متعلق بقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ) ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا
محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن
عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليهالسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ،
فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه
العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله :
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُمْ) بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو
بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول. (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ) متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده
، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه. وقرأ
نافع ويعقوب (مُرْدِفِينَ) بفتح الدال أي متبعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة
الجيش أو ساقتهم. وقرئ «مردفين» بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين
فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على
الاتباع. وقرئ «بآلاف» ليوافق ما في سورة «آل عمران» ، ووجه التوفيق بينه وبين
المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم
، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها.
(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد (إِلَّا بُشْرى) إلا بشارة لكم بالنصر. (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ) فيزول ما بها
من الوجل لقلتكم
وذلتكم. (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا
تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها.
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى
قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(١١)
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ) بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ) لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله من
معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر. وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا
غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم
النعاس» بالرفع. (أَمَنَةً مِنْهُ) أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) متضمن معنى تنعسون ، و «يغشاكم» بمعناه ، وال (أَمَنَةً) فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ،
وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان
من حقه أن لا يغشاهم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم
يغشهم كقوله :
بهاب النّوم ان
يغشى عيونا
|
|
تهابك فهو نفّار
شرود
|
وقرئ «أمنة» كرحمة
وهي لغة. (وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الحدث والجنابة. (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطانِ) يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم
من العطش. روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا
فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف
تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله
، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا
الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين
العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة.
(وَلِيَرْبِطَ عَلى
قُلُوبِكُمْ) بالوثوق على لطف الله بهم. (وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدامَ) أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب
حتى تثبت في المعركة.
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(١٢)
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) بدل ثالث أو متعلق بيثبت. (إِلَى الْمَلائِكَةِ
أَنِّي مَعَكُمْ) في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول (يُوحِي). وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه. (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبشارة أو بتكثير سوادهم ، أو بمحاربة أعدائهم فيكون
قوله : (سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) كالتفسير لقوله (أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا) ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه
مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : (سَأُلْقِي) إلى قوله : (كُلَّ بَنانٍ) تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال : قولوا
لهم قولي هذا. (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ) أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ
وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(١٤)
(ذلِكَ) إشارة إلى الضرب أو الأمر به والخطاب للرسول ، أو لكل أحد
من المخاطبين قبل. (بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا
اللهَ وَرَسُولَهُ) بسبب مشاقتهم لهما واشتقاقه من الشق لأن كلّا من المتعادين
في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق
بهم في الدنيا.
(ذلِكُمْ) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع أي :
الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب يفعل دل عليه. (فَذُوقُوهُ) أو غيره مثل باشروا أو عليكم فتكون الفاء عاطفة. (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) عطف على ذلكم أو نصب على المفعول معه ، والمعنى ذوقوا ما
عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة. ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أن
الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما. وقرئ وإن بالكسر على الاستئناف.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ
فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٦)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) كثيرا بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون ، وهو مصدر زحف الصبي
إذا دب على مقعده قليلا قليلا ، سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال. (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) بالانهزام فضلا أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم ، والأظهر
أنها محكمة مخصوصة بقوله : (حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) الآية ، ويجوز أن ينتصب زحفا حالا من الفاعل والمفعول أي :
إذا لقيتموهم متزاحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا ، أو من الفاعل وحده
ويكون إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب. (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم
، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان في سرية
بعثهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ففروا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال
: «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم». وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا
عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو متحيزا ، ووزن متحير
متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز. (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية ، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في
الحرب.
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ
اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)(١٨)
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بقوتكم. (وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ) بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. روي : أنه
لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها
وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليهالسلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى
الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال «شاهت الوجوه» ، فلم يبق
مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما
انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت. والفاء جواب شرط
محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله
قتلهم. (وَما رَمَيْتَ) يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه. (إِذْ رَمَيْتَ) أي إذ أتيت بصورة الرمي. (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى
انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو
كماله والمقصود منه. وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى
بالرعب في قلوبهم. وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه
دم فجعل يخور حتى مات. أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي
الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (وَلكِنَ) بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ
بَلاءً حَسَناً) ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات
فعل ما فعل. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتهم ودعائهم. (عَلِيمٌ) بنياتهم وأحوالهم.
(ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل أو الرمي ، ومحله الرفع
أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله: (وَأَنَّ اللهَ
مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين
وإبطال حيلهم. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (مُوهِنُ) بالتشديد ، وحفص (مُوهِنُ كَيْدِ) بالإضافة والتخفيف.
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ
وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٩)
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا
الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين
وأكرم الحزبين. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة الرسول (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين. (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته. (نَعُدْ) لنصرته عليكم. (وَلَنْ تُغْنِيَ) ولن تدفع. (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) جماعتكم. (شَيْئاً) من الإغناء أو المضار. (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم. (وَأَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والمعونة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (وَإِنْ) بالفتح على تقدير
ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك. وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : إن تستنصروا
فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول
فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ، ولن تغني حينئذ
كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(٢١)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي ولا تتولوا عن الرسول ، فإن المراد من الآية الأمر
بطاعته والنهي عن الإعراض عنه ، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله
في طاعة الرسول لقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة. (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) كالكفرة والمنافقين الذين ادعوا السماع. (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماعا ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأسا.
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ)(٢٣)
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) شر ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم. (الصُّمُ) عن الحق. (الْبُكْمُ الَّذِينَ
لا يَعْقِلُونَ) إياه ، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا
به وفضلوا لأجله.
(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً) سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات. (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) وقد علم أن لا خير فيهم. (لَتَوَلَّوْا) ولم ينتفعوا به ، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لعنادهم. وقيل كانوا يقولون للنبي صلىاللهعليهوسلم : أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن
بك. والمعنى لأسمعهم كلام قصي.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بالطاعة. (إِذا دَعاكُمْ) وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول. وروي
أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال :
ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : «ألم تخبر فيما أوحي إلي» (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ). واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن
الصلاة أيضا إجابة. وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع
الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول. (لِما يُحْيِيكُمْ) من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته. قال :
لا تعجبنّ
الجهول حلّته
|
|
فذاك ميت وثوبه
كفن
|
أو مما يورثكم
الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب
بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ). (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه
صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى اخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه
وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه
ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى
شقاوته. وقرئ بين المرّ بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء
الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه. (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ)
(٢٥)
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) اتقوا ذنبا يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة
في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا
تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم ،
وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ
فيه كقوله تعالى : (ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) وأما صفة ل (فِتْنَةً) ، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير
القسم ، أو لنهي على إرادة القول كقوله :
حتى إذا جن
الظلام واختلط
|
|
جاءوا بمذق هل
رأيت الذئب قط
|
وإما جواب قسم
محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلفا في المعنى ، ويحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر
باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ، ومن في
منكم على الوجوه
الأول للتبعيض
وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح من غيركم. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ).
(وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢٦)
(وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أرض مكة يستضعفكم قريش ، والخطاب للمهاجرين. وقيل للعرب
كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم. (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ) كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعا معادين لهم
مضادين لهم. (فَآواكُمْ) إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم. (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) على الكفار أو بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم
بدر. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم. (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) هذه النعم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
(٢٨)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بتعطيل الفرائض والسنن ، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون ،
أو بالغلول في المغانم. وروي : (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى
وعشرين ليلة ، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى
إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام ، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ
فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم ،
فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ ، فأشار إلى حلقه أنه
الذبح ، قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت.
فشد نفسه على سارية في المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو
يتوب الله علي ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه فقيل له :
قد تيب عليك فحل نفسك فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن
أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام
يجزيك الثلث أن تتصدق به). وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام ، واستعماله
في ضد الأمانة لتضمنه إياه. (وَتَخُونُوا
أَماناتِكُمْ) فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على
الجواب بالواو. (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنكم تخونون ، أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب ، أو محنة من الله
تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة. (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم ، فأنيطوا هممكم
بما يؤديكم إليه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق
بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو
نجاة عما تحذرون في الدارين ، أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل
كذا حتى سطع الفرقان أي
الصبح. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ويسترها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بالتجاوز والعفو عنكم. وقيل السيئات الصغائر والذنوب
الكبائر. وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى
لهم. (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ،
وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٣٠)
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في
خلاصه. من مكرهم واستيلائه عليهم ، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك. (لِيُثْبِتُوكَ) بالوثاق أو الحبس ، أو الإثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى
أثبته لا حراك به ولا براح ، وقرئ (لِيُثْبِتُوكَ) بالتشديد و «ليبيتوك» من البيات و «ليقيدوك». (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بسيوفهم. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة ، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم
فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ
وقال : أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا فقال
أبو البحتري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه
وشرابه منها حتى يموت ، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من
أيديكم ، فقال هشام بن عمرو رأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما
صنع ، فقال بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم ، فقال أبو جهل أنا أرى أن
تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في
القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه. فقال صدق
هذا الفتى فتفرقوا على رأيه ، فأتى جبريل النبي عليهماالسلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة ، فبيت عليا رضي الله تعالى
عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) برد مكرهم عليهم ، أو بمجازاتهم عليه ، أو بمعاملة الماكرين
معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا مما يحسن
للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ
هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
وَإِذْ
قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)
(٣٢)
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) هو قول النضر بن الحرث ، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله
رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم ، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليهالسلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك فما
منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف فلم
يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) ما سطره الأولون من القصص.
(وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هذا أيضا من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود. روي أنه لما
قال النضر إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «ويلك إنه كلام الله» فقال ذلك. والمعنى إن كان هذا
القرآن حقا منزلا فأمطر الحجارة علينا عقوبة على
إنكاره ، أو ائتنا
بعذاب أليم سواه ، والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلا.
وقرئ «الحق» بالرفع على أن (هُوَ) مبتدأ غير فصل ، وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق
به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلىاللهعليهوسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع
غير منزل كأساطير الأولين.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ)(٣٤)
(وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) بيان لما كان الموجب لإمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم ،
واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبيصلىاللهعليهوسلم بين أظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قضائه ، والمراد
باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين ، أو قولهم اللهم غفرانك ، أو
فرضه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).
(وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون. (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) وحالهم ذلك ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية. (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) مستحقين ولاية أمره مع شركهم ، وهو رد لما كانوا يقولون
نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء. (إِنْ أَوْلِياؤُهُ
إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره ، وقيل الضميران لله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم
ويعاند ، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
(وَما كانَ صَلاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ)(٣٥)
(وَما كانَ صَلاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ) أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة ، أو ما يضعون موضعها. (إِلَّا مُكاءً) صفيرا فعال من مكا يمكو إذا صفر. وقرئ بالقصر كالبكا. (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا تفعله من الصدا ، أو من الصد على إبدال أحد حرفي
التضعيف بالياء. وقرئ «صلاتهم» بالنصب على أنه الخبر المقدم ، ومساق الكلام لتقرير
استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. روي : أنهم
كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون.
وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلىاللهعليهوسلم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضا. (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعني القتل والأسر يوم بدر ، وقيل عذاب الآخرة واللام
يحتمل أن تكون للعهد والمعهود : (ائْتِنا بِعَذابٍ). (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) اعتقادا وعملا.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)(٣٦)
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من قريش
يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من
العرب سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية. أو في أصحاب العير فإنه
لما أصيب قريش
ببدر قيل لهم
أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا ، والمراد ب (سَبِيلِ اللهِ) دينه واتباع رسوله. (فَسَيُنْفِقُونَها) بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو
إنفاق بدر ، والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد ، ويحتمل أن يراد
بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم
يقع بعد. (ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ندما وغما لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي
عاقبة إنفاقها مبالغة. (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم. (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يساقون.
(لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ
يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)(٣٨)
(لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح. واللام متعلقة ب (يُحْشَرُونَ) أو (يُغْلَبُونَ) أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (لِيَمِيزَ) من التمييز وهو أبلغ من الميز. (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى
بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو
يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كمال الكانزين. (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) كله. (أُولئِكَ) إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى
المنفقين. (هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم. (إِنْ يَنْتَهُوا) عن معاداة الرسولصلىاللهعليهوسلم بالدخول في الإسلام. (يُغْفَرْ لَهُمْ ما
قَدْ سَلَفَ) من ذنوبهم ، وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و «يغفر»
على البناء للفاعل وهو الله تعالى. (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتاله. (فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر
فليتوقعوا مثل ذلك.
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)
وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ)(٤٠)
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) لا يوجد فيهم شرك. (وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ) وتضمحل عنهم الأديان الباطلة. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر. (فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم. وعن يعقوب «تعملون»
بالتاء على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من
ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير ، فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه
كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا. (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَوْلاكُمْ) ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم. (نِعْمَ الْمَوْلى) لا يضيع من تولاه. (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لا يغلب من نصره.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ
قَدِيرٌ)(٤١)
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ) أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا. (مِنْ شَيْءٍ) مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط. (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه. وقرئ «فإن»
بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ). وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به.
وحكمه بعده ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه
إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما. وقيل إلى الإمام.
وقيل إلى الأصناف الأربعة. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي
القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية. وعن مالك رضي الله تعالى عنه
الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر
الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي (أنه عليه الصلاة
والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة). وقيل سهم
الله لبيت المال. وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلىاللهعليهوسلم. وذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب. لما روي أنه عليه
الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله
عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت
إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه
الصلاة والسلام : «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه». وقيل
بنو هاشم وحدهم. وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء. وقيل هو مخصوص بفقرائهم
كسهم بن السبيل. وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من
كان منهم والعطف للتخصيص. والآية نزلت ببدر. وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع
بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف دل عليه (وَاعْلَمُوا) أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء
فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم
يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل. (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد صلىاللهعليهوسلم من الآيات والملائكة والنصر. وقرئ عبدنا بضمتين أي الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين. (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) المسلمون والكافرون. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة.
(إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ
اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٤٢)
(إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) ، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها ،
والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) البعدى من المدينة ، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو
ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر
استعمالا من القصيا. (وَالرَّكْبُ) أي العير أو قوادها. (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل ، وهو منصوب على الظرف
واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله ، وفائدتها الدلالة على قوة العدو
واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا
مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم ، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم
عادة ، وكذا ذكر
مراكز الفريقين
فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها
ماء ، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم
لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ، ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق
لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله تعالى خارقا للعادة فيزدادوا إيمانا وشكرا. (وَلكِنْ) جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد. (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.
وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه أو متعلق بقوله مفعولا والمعنى: ليموت من يموت عن
بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر
من الآيات الواضحة. أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة
الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة ،
أو من هذا حاله في علم الله وقضائه.
وقرئ «ليهلك»
بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من حيي بفك الإدغام للحمل على
المستقبل. (وَإِنَّ اللهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه ، ولعل الجمع
بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ)
(٤٤)
(إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بعليم أي
يعلم المصالح إذ بقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم
وتشجيعا على عدوهم. (وَلَوْ أَراكَهُمْ
كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) لجبنتم. (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار. (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها.
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ
إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) الضميران مفعولا يرى و (قَلِيلاً) حال من الثاني ، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة ، تثبيتا لهم
وتصديقا لرؤيا الرسول صلىاللهعليهوسلم.
(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ) حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وقللهم في
أعينهم قبل التحام القتال ليجترؤوا عليهم ولا يستعدوا لهم ، ثم كثرهم حتى يرونهم
مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم ، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن
البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى
هذا الحد ، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في
الشروط.
(لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرره لاختلاف الفعل المعلل به ، أو لأن المراد بالأمر ثمة
الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)
وَأَطِيعُوا
اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤٦)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا
الكفار ، واللقاء مما غلب في القتال. (فَاثْبُتُوا) للقائهم. (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه تنبيه على أن
العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه
بشراشره فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.
(وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا) باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد. (فَتَفْشَلُوا) جواب النهي. وقيل عطف عليه ولذلك قرئ : «وتذهب ريحكم»
بالجزم ، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في
هبوبها ونفوذها. وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله
وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». (وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالكلاءة والنصرة.
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(٤٧)
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير. (بَطَراً) فخرا وأشرا. (وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا
الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله
حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب
، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح ، فنهى المؤمنين أن يكونوا
أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن
الشيء أمر بضده. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) معطوف على بطرا إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل
مفعولا له لكن على تأويل المصدر. (وَاللهُ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيجازيكم عليه.
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤٨)
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ) مقدر باذكر. (أَعْمالَهُمْ) في معاداة الرسول صلىاللهعليهوسلم وغيرها بأن وسوس إليهم. (وَقالَ لا غالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) مقالة نفسانية والمعنى : أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم
أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما
يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين ،
ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي تلاقى الفريقان. (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب
هلاكهم. (وَقالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله
المسلمين بالملائكة ، وقيل : لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة
من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم ،. فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال
لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان
يده في يد الحرث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما
لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس
سراقة فبلغه ذلك فقال : والله ما
شعرت بمسيركم حتى
بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله
: (إِنِّي أَخافُ اللهَ) إني أخافه أن يصيبني مكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون
الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، والأول ما قاله الحسن واختاره
ابن بحر. (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفا.
(إِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٩)
(إِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والذين لم يطمئنوا إلى الإيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة.
وقيل هم المشركون. وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين. (غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون المؤمنين. (دِينُهُمْ) حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة
عشر إلى زهاء ألف. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ) جواب لهم. (فَإِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ) غالب لا يذل من استجار به وإن قل (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.
(وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠)
ذلِكَ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٥١)
(وَلَوْ تَرى) ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضيا عكس إن. (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلائِكَةُ) ببدر ، وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو
حالهم حينئذ ، والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن
يكون الفاعل ضمير الله عزوجل وهو مبتدأ خبره (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ) والجملة حال من الذين كفروا ، واستغني فيه بالضمير عن
الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على الضميرين. (وَأَدْبارَهُمْ) ظهورهم أو أستاههم ، ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما
أقبل منهم وما أدبر. (وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا بشارة لهم
بعذاب الآخرة. وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها ، وجواب
(لَوْ) محذوف لتقطيع الأمر وتهويله.
(ذلِكَ) الضرب والعذاب. (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) بسبب ما كسبت من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) عطف على «ما» للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه
إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم. فإن ترك التعذيب
من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام التكثير
لأجل العبيد.
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ
اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ)(٥٤)
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ) أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي
دأبوا فيه أي داموا عليه. (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) من قبل آل فرعون. (كَفَرُوا بِآياتِ
اللهِ) تفسير لدأبهم. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ) كما أخذ هؤلاء. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ
شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يغلبه في دفعه شيء.
(ذلِكَ) إشارة إلى ما حل بهم. (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أن الله. (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً
نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) مبدلا إياها بالنقمة. (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ ، كتغيير قريش حالهم
في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول عليهالسلام ومن تبعه منهم ، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات
والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث ، وليس السبب عدم تغيير الله ما
أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى
يغيروا حالهم ، وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم
النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا. (وَأَنَّ اللهَ
سَمِيعٌ) لما يقولون. (عَلِيمٌ) بما يفعلون.
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم
بقوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) وبيان ما أخذ به آل فرعون. وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ
به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم. (وَكُلٌ) من الفرق المكذبة ، أو من غرقى القبط وقتلى قريش. (كانُوا ظالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي.
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥)
الَّذِينَ
عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا
يَتَّقُونَ)(٥٦)
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أصروا على الكفر ورسخوا فيه. (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) فلا يتوقع منهم إيمان ، ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على
الكفر بأنهم لا يؤمنون ، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي
تحقق المعطوف ، وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص ، وهم يهود
قريظة عاهدهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا :
نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة
فحالفهم. ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو
المحاربة. (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) سبة الغدر ومغبته ، أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين
وتسليطه إياهم عليهم.
(فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ)(٥٨)
(فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ) فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ، (فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ) ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب. وقرئ «فشرذ»
بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و (مَنْ خَلْفَهُمْ) ، والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في
الوراء. (لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) لعل المشردين يتعظون.
(وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ) معاهدين. (خِيانَةً) نقض عهد بأمارات تلوح لك. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم عهدهم. (عَلى سَواءٍ) على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون
خيانة منك ، أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من
النابذ على الوجه الأول أي ثابتا على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو
منهما على غيره ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه
بالحال على طريقة الاستئناف.
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩)
ولا تحسبن خطاب
للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا) مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص
بالياء على أن
الفاعل ضمير أحد أو (مَنْ خَلْفَهُمْ) ، أو (الَّذِينَ كَفَرُوا) والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار ، أو على تقدير أن (سَبَقُوا) وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع
الفعل على (إِنَّهُمْ لا
يُعْجِزُونَ) بالفتح على قراءة ابن عامر وأن (لا) صلة و (سَبَقُوا) حال بمعنى سابقين أي مفلتين ، والأظهر أنه تعليل للنهي أي
: لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا. عن
إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف ، ولعل الآية إزاحة لما
يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو ، وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ)(٦١)
(وَأَعِدُّوا) أيها المؤمنون (لَهُمْ) لناقضي العهد أو الكفار. (مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ) من كل ما يتقوى به في الحرب. وعن عقبة بن عامر سمعته عليه
الصلاة والسلام يقول على المنبر «ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا» ولعله عليه
الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه. (وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ) اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، فعال بمعنى مفعول أو
مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال.
وقرئ «ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل
وميكائيل على الملائكة. (تُرْهِبُونَ بِهِ) تخوفون به ، وعن يعقوب (تُرْهِبُونَ) بالتشديد والضمير ل (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو للإعداد. (عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ) يعني كفار مكة. (وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ) من غيرهم من الكفرة. قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل
الفرس. (لا تَعْلَمُونَهُمُ) لا تعرفونهم بأعيانهم. (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يعرفهم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه. (وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) بتضييع العمل أو نقص الثواب.
(وَإِنْ جَنَحُوا) مالوا ومنه الجناح. وقد يعدى باللام وإلى. (لِلسَّلْمِ) للصلح أو الاستسلام. وقرأ أبو بكر بالكسر. (فَاجْنَحْ لَها) وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه. قال
:
السّلم تأخذ منها
ما رضيت به
|
|
والحرب يكفيك من
أنفاسها جرع
|
وقرئ «فاجنح»
بالضم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه ، فإن الله يعصمك من مكرهم
ويحيقه. بهم. (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْعَلِيمُ) بنياتهم. والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل
عامة نسختها آية السيف.
(وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)
(وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) فإن محسبك الله وكافيك قال جرير :
إنّي وجدت من
المكارم حسبكم
|
|
أن تلبسوا حرّ
الثياب وتشبعوا
|
(هُوَ
الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) جميعا.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ) مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء ، والتهالك
على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة ، وهذا من
معجزاته صلىاللهعليهوسلم ، وبيانه : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي تناهى عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم
ما في الأرض
من الأموال لم
يقدر على الألفة والإصلاح. (وَلكِنَّ اللهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ، فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء. (إِنَّهُ عَزِيزٌ) تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده. (حَكِيمٌ) يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده ، وقيل الآية في
الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم الله
ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٦٤)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) كافيك. (وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما في محل النصب على المفعول معه كقوله :
إذا كانت
الهيجاء واشتجر القنا
|
|
فحسبك والضّحّاك
سيف مهنّد
|
أو الجر عطفا على
المكني عند الكوفيين ، أو الرفع عطفا على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون. والآية
نزلت بالبيداء في غزوة بدر ، وقيل أسلم مع النبي صلىاللهعليهوسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه
فنزلت. ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ
اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٦٦)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) بالغ في حثهم عليه ، وأصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى
يشفي على الموت وقرئ «حرص» من الحرص. (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة ، والوعد بأنهم
إن صبروا غلبوا بعون الله وتأييده. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «تكن» بالتاء في
الآيتين ووافقهم البصريان في وإن تكن منكم مائة. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ) بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثياب
المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا ولا يستحقون من الله إلا
الهوان والخذلان.
(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللهِ) لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك
عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما
كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم
القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن. وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها ،
وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون.
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٧)
(ما كانَ لِنَبِيٍ) وقرئ «للنبي» على العهد. (أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى) وقرأ البصريان بالتاء. (حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ) يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز
الإسلام ويستولي أهله ، من أثخنه المرض إذا
أثقله وأصله
الثخانة ، وقرئ «يثخن» بالتشديد للمبالغة. (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا) حطامها بأخذكم الفداء. (وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز
دينه وقمع أعدائه. وقرئ بجر (الْآخِرَةَ) على إضمار المضاف كقوله :
أكلّ امرئ
تحسبين امرأ
|
|
ونار توقد
باللّيل نارا
|
(وَاللهُ
عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه. (حَكِيمٌ) يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها ، كما أمر بالإثخان ومنع
عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت
الغلبة للمؤمنين. روي أنه عليهالسلام أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب
فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب
عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : اضرب
أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، مكني من فلان ـ لنسيب له ـ ومكن
عليا وحمزة من أخويهما فلنضرب أعناقهم ، فلم يهو ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين ،
وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل
إبراهيم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي
فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يا عمر مثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فخير أصحابه فأخذوا الفداء ، فنزلت فدخل عمر رضي الله
تعالى عنه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : «يا رسول الله أخبرني فإن
أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال : أبك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي
عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة». والآية دليل على أن الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه.
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦٩)
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ) لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو أن لا
يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما بما لم يصرح لهم بالنهي
عنه ، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم. (لَمَسَّكُمْ) لنالكم. (فِيما أَخَذْتُمْ) من الفداء. (عَذابٌ عَظِيمٌ)
روي أنه عليهالسلام قال : «لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ». وذلك
لأنه أيضا أشار بالإثخان.
(فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ) من الفدية فإنها من جملة الغنائم. وقيل أمسكوا عن الغنائم
فنزلت. والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره : أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وبنحوه تشبث
من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة. (حَلالاً) حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا ، وفائدته
إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفه
بقوله : (طَيِّباً وَاتَّقُوا
اللهَ) في مخالفته. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) غفر لكم ذنبكم (رَحِيمٌ) أباح لكم ما أخذتم.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
وَإِنْ
يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٧١)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) وقرأ أبو عمرو «من الأسارى». (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) إيمانا وإخلاصا. (يُؤْتِكُمْ خَيْراً
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء. روي (أنها نزلت في العباس رضي الله عنه
كلفه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث
فقال : يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال : أين الذهب الذي دفعته إلى أم
الفضل وقت خروجك وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو
لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم ، فقال العباس : وما يدريك ، قال : أخبرني
به ربي تعالى ، قال : فأشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسوله والله لم
يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، قال العباس فأبدلني الله
خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما
أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم) يعني الموعود بقوله
: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
(وَإِنْ يُرِيدُوا) يعني الأسرى. (خِيانَتَكَ) نقض ما عاهدوك. (فَقَدْ خانُوا اللهَ) بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل. (مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فان أعادوا الخيانة
فسيمكنك منهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ).
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ
عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)(٧٣)
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا) هم المهاجرون هاجروا أوطانهم حبا لله ولرسوله. (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج. (وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بمباشرة القتال. (وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا) هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على
أعدائهم. (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة
والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أو بالنصرة والمظاهرة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي من توليهم في الميراث ، وقرأ حمزة (وَلايَتِهِمْ) بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة كأنه
بتوليه صاحبه يزاول عملا. (وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد فإنه لا ينقض عهدهم لنصرهم عليهم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الميراث أو المؤازرة ، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث
أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم لبعض
حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار. (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ) تحصل فتنة فيها عظيمة ، وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر. (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) في الدين وقرئ «كثير».
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان
منهم هم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد
وبذل المال ونصرة
الحق ، ووعد لهم الموعد الكريم فقال. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تبعة له ولا منة فيه ، ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق
بهم ويتسم بسمتهم فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث من الأجانب. (فِي كِتابِ اللهِ) في حكمه ، أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث
ذوي الأرحام. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة ،
أولا واعتبار القرابة ثانيا. عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة ،
وشاهد أنه بريء من النفاق ، وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة ، وكان العرش
وحملته يستغفرون له أيام حياته».
(٩) سورة براءة
مدنية وقيل إلا آيتين من قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ)
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وهي آخر ما نزل
ولها أسماء أخر ، «التوبة» و «المقشقشة» و «البحوث» و «المبعثرة» و «المنقرة» و «المثيرة»
و «الحافرة» و «المخزية» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المدمدمة» و «سورة
العذاب» لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه ، والبحث
عن حال المنافقين وإثارتها ، والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم
ويدمدم عليهم.
وأيها مائة
وثلاثون وقيل تسع وعشرون ، وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم
الله أمان. وقيل كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها ، وتوفي ولم يبين
موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي
براءة نبذها فضمت إليها. وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة
السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله.
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)(٢)
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي هذه براءة ، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره واصلة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، ويجوز أن تكون (بَراءَةٌ) مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر (إِلَى الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة ، والمعنى : أن الله ورسوله
برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله
والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت
صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها ، وذلك أنهم عاهدوا مشركي
العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين
وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاؤوا فقال : (فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال.
وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن
التبليغ كان يوم النحر لما روي (أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ،
وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له : لو بعثت بها
إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه
سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال مأمور ، فلما كان قبل
التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه
يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا
بما ذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت
بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ،
وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده). ولعل قوله صلىاللهعليهوسلم «لا يؤدي عني إلا
رجل مني» ليس على العموم ، فإنه صلىاللهعليهوسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته ، بل هو مخصوص
بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل
منها ، ويدل عليه
أنه في بعض الروايات «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي». (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ) لا تفوتونه وإن أمهلكم. (وَأَنَّ اللهَ
مُخْزِي الْكافِرِينَ) بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ
يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ، ورفعه كرفع
(بَراءَةٌ) على الوجهين. (يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ) يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الإعلام
كان فيه ولما روي أنه صلىاللهعليهوسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم
الحج الأكبر» وقيل يوم عرفة لقوله صلىاللهعليهوسلم «الحج عرفة». ووصف
الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك
اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال ، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون
والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب ، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل
المشركين. (أَنَّ اللهَ) أي بأن الله. (بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) أي من عهودهم. (وَرَسُولِهِ) عطف على المستكن في (بَرِيءٌ) ، أو على محل (أَنَ) واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول ، وقرئ
بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه ، فإن قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك
علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين. (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر والغدر. (فَهُوَ) فالتوب (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء. (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ) لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) في الآخرة.
(إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين ، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن
أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم. (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم
قط. (وَلَمْ يُظاهِرُوا
عَلَيْكُمْ أَحَداً) من أعدائكم (فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.
(فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(٦)
(فَإِذَا انْسَلَخَ) انقضى ، وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة.
(الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ) التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. وقيل هي رجب وذو
القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة
الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها. (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) الناكثين. (حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) من حل أو حرم. (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم ، والأخيذ الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد ، وانتصابه على الظرف. (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك بالإيمان. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم.
(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك ، وفيه دليل على أن
تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد
سلف وعدلهم الثواب بالتوبة.
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) المأمور بالتعرض لهم. (اسْتَجارَكَ) استأمنك وطلب منك جوارك. (فَأَجِرْهُ) فأمنه. (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر. (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) موضع أمنه إن لم يسلم ، وأحد رفع بفعل يفسره ما بعده لا
بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل. (ذلِكَ) الأمن أو الأمر. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَعْلَمُونَ) ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم
ريثما يسمعون ويتدبرون.
(كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧)
(كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا
ينكثوه مع وغرة صدورهم ، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه ، وخبر يكون كيف
وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل (عَهْدٌ) أو ظرف له أو ل (يَكُونُ) ، و (يْفَ) على الأخيرين حال من ال (عَهْدٌ) و (لِلْمُشْرِكِينَ) إن لم يكن خبرا فتبيين. (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هم المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على
البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي : ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد
الحرام. (فَمَا اسْتَقامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على
الوفاء وهو كقوله (فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) سبق بيانه.
(كَيْفَ وَإِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(٨)
(كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه
على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله :
وخبرتماني أنّما
الموت بالقرى
|
|
فكيف وهاتا هضبة
وقليب
|
أي فكيف مات. (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم. (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) لا يراعوا فيكم. (إِلًّا) حلفا وقيل قرابة قال حسان :
لعمرك إنّ إلّك
من قريش
|
|
كإلّ السّقب من
رألّ النّعام
|
وقيل ربوبية ولعله
اشتق للحلف من الأل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ،
ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ، ثم للربوبية
والتربية. وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع. وقيل إنه
عبري بمعنى الإله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل. (وَلا ذِمَّةً) عهدا أو حقا يعاب على إغفاله. (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية
إلى عدم مراقبتهم عند الظفر ، ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد
ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء
بالعهد في الحال ، واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم
والحالية تنافيه (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ما تتفوه به أفواههم. (وَأَكْثَرُهُمْ
فاسِقُونَ) متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم ، وتخصيص الأكثر
لما في بعض
الكفرة من التفادي
عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء.
(اشْتَرَوْا بِآياتِ
اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي
مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١٠)
(اشْتَرَوْا بِآياتِ
اللهِ) استبدلوا بالقرآن. (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) دينه الموصل إليه ، أو سبيل بيته بحصر الحجاج والعمار ،
والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد. (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) عملهم هذا أو ما دل عليه قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا
وَلا ذِمَّةً) فهو تفسير لا تكرير. وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص
بالذين اشتروا وهم اليهود ، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) في الشرارة.
(فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢)
(فَإِنْ تابُوا) عن الكفر. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال
التائبين.
(وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود. (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على
أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل. وقيل المراد بالأئمة
رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم. وقرأ
عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل
والتصريح بالياء لحن. (إِنَّهُمْ لا
أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا ،
وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده ، واستشهد به الحنفية على
أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست
بأيمان لقوله تعالى ؛ (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ) وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام ،
وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على
الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله. (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق ب «بقاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا
عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ)(١٣)
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً) تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار
فأفادت المبالغة في الفعل. (نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها مع الرسول عليهالسلام والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على
خزاعة. (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ
الرَّسُولِ) حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره في قوله :
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا). وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من
المدينة. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالمعاداة والمقاتلة لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم
بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي
به ، فعدلوا عن
معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أتتركون قتالهم
خشية أن ينالكم مكروه منهم. (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَوْهُ) فقاتلوا أعداءه ولا تتركوا أمره. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه.
(قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)
(قاتِلُوهُمْ) أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعد
عليه. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم
وإذلالهم. (وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني بني خزاعة. وقيل بطونا من اليمن وسبأ قدموا مكة
فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فشكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أبشروا فإن الفرج قريب».
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ) لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من
المعجزات. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى
مَنْ يَشاءُ) ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا ،
وقرئ «ويتوب» بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال
كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما كان وما سيكون. (حَكِيمٌ) لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٦)
(أَمْ حَسِبْتُمْ) خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال. وقيل للمنافقين و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. (أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم ، نفى
العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به
مستلزم لوقوعه. (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) عطف على (جاهَدُوا) داخل في الصلة. (مِنْ دُونِ اللهِ
وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وما في (لَمَّا) من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ).
(ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)(١٧)
(ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ) ما صح لهم. (أَنْ يَعْمُرُوا
مَساجِدَ اللهِ) شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد
وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن
كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد. (شاهِدِينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، وهو حال من الواو والمعنى ما
استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره. روي (أنه
لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى
عنه في القول فقال : ما بالكم تذكرون «مساوينا» وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد
الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني) فنزلت. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك. (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لأجله.
(إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ
اللهَ
فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)
(إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) أي إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية
والعملية ومن عمارتها تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودرس
العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا ، وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «قال الله تعالى
إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم
زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره». وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلىاللهعليهوسلم لما علم أن الإيمان بالله قرينه وتمامه الإيمان به ولدلالة
قوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) عليه. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللهَ) أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد
العاقل يتمالك عنها. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء
والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم بالقطع بأنهم مهتدون ، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا
كان اهتداؤهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم ، ومنعا للمؤمنين أن يغتروا
بأحوالهم ويتكلوا عليها.
(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ
الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(١٩)
(أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا
بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج
كإيمان من آمن. ويؤيد الأول قراءة من قرأ «سقاة الحاج وعمرة المسجد» والمعنى إنكار
أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله :
(لا يَسْتَوُونَ
عِنْدَ اللهِ) وبين عدم تساويهم بقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام
منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب ، وقيل
المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
خالِدِينَ
فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من
أهل السقاية والعمارة عندكم. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ) بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم.
(يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها) في الجنات. (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم ، وقرأ حمزة (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف ، وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين
والتعريف.
(خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة
قالوا : إن هاجرنا
قطعنا آباءنا وأبنائنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين. وقيل نزلت نهيا عن
موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن
الإيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله : (إِنِ اسْتَحَبُّوا
الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن اختاروه وحرصوا عليه. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ
اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)
(قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أقرباؤكم مأخوذ من العشرة. وقيل من العشرة فإن العشيرة
جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. وقرأ أبو بكر «وعشيراتكم» وقرئ «وعشائركم». (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها. (وَتِجارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسادَها) فوات وقت نفاقها. (وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في
التحفظ عنه. (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل فتح مكة. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) لا يرشدهم ، وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(٢٥)
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) يعني مواطن الحرب وهي مواقفها. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر
الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ) منه أن يعطف على موضع في (مَواطِنَ) فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي
كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن. و (حُنَيْنٍ) واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون ـ وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا
فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ـ هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما
التقوا قال النبي صلىاللهعليهوسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن
نغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم
واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس أخذا بلجامه وابن عمه أبو
سفيان بن الحرث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس ـ وكان صيّتا ـ «صيح
بالناس» ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا
عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلىاللهعليهوسلم «هذا حين حمي
الوطيس» ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا. (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) أي الكثرة. (شَيْئاً) من الإغناء أو من أمر العدو. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من
شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) الكفار ظهوركم. (مُدْبِرِينَ) منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ
تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وأمنوا. (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما.
وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يفروا. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة
عشر على اختلاف الأقوال. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالقتل والأسر والسبي. (وَذلِكَ جَزاءُ
الْكافِرِينَ) أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.
(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم بالتوفيق للإسلام. (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم. روي (أن ناسا منهم جاءوا إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد
سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل
والغنم ما لا يحصى. فقال صلىاللهعليهوسلم : اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم؟ فقالوا ما كنا نعدل
بالأحساب شيئا فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري
والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن
لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه فقالوا : رضينا وسلمنا فقال
: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد
رضوا).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن
الأنجاس ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا.
وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
أعيانهم نجسة كالكلاب. وقرئ «نجس» بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما
جاء تابعا لرجس. (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لنجاستهم ، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن
دخول الحرم. وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب
أبو حنيفة رحمهالله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع
، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يعني سنة براءة وهي التاسعة. وقيل سنة حجة الوداع. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقرأ بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من
المكاسب والأرفاق. (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء
عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ، ثم فتح عليهم البلاد
والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض. وقرئ «عائلة» على أنها مصدر كالعافية
أو حال. (إِنْ شاءَ) قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على
أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغني الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم. (حَكِيمٌ) فيما يعطي ويمنع.
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في أول «البقرة»
فإن إيمانهم كلا إيمان. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون
اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا. (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها. (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للذين لا يؤمنون. (حَتَّى
يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ) ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه. (عَنْ يَدٍ) حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين ، أو عن يدهم
بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن
غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو
من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية
نعمة عظيمة. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ
الجزية من الذمي وتوجأ عنقه. ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن
عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن
عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه صلىاللهعليهوسلم أخذها من مجوس هجر. وأنه قال : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وذلك
لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية
عندنا ، وعند أبي حنيفة رحمهالله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلىاللهعليهوسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمهالله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، وأقلها في كل سنة
دينار سواء فيه الغني والفقير ، وقال أبو حنيفة رحمهالله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها
وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٣٠)
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة ،
وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو لما
أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا
إلا أنه ابن الله. والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم
يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب (عُزَيْرٌ) بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه
في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف ، أو لالتقاء الساكنين تشبيها
للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف
لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر. (وَقالَتِ النَّصارى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا
أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها. (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها ، أو
إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد
مفهومه في الأعيان. (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم
، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، أو اليهود على أن الضمير للنصارى
، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه. وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهياء على
فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض. (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، أو تعجب من
شناعة قولهم. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
(اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(٣٢)
(اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو
بالسجود لهم. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ) بأن جعلوه ابنا لله. (وَما أُمِرُوا) أي وما أمر المتخذون أو المتخذون
أربابا فيكون
كالدليل على بطلان الاتخاذ. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) ليطيعوا. (إِلهاً واحِداً) وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته
فهو في الحقيقة طاعة الله. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد. (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له عن أن يكون له شريك.
(يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا) يخمدوا. (نُورَ اللهِ) حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد ، أو القرآن أو
نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم. (بِأَفْواهِهِمْ) بشركهم أو بتكذيبهم. (وَيَأْبَى اللهُ) أي لا يرضى. (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ) بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام. وقيل إنه تمثيل لحالهم في
طلبهم إبطال نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد
الله أن يزيده بنفخه ، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي.
(وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ) محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه.
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ) كالبيان لقوله : (وَيَأْبَى اللهُ
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ولذلك كرر (وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا
الكفر بالرسول إلى الشرك بالله ، والضمير في (لِيُظْهِرَهُ) للدين الحق ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام واللام في (الدِّينِ) للجنس أي على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣٤)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض
الأعظم منه. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) دينه. (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة
في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال
ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ ، ويدل
عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من
أموالكم» ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «ما أدي زكاته فليس بكنز» أي بكنز أوعد عليه
، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه ، وأما قوله صلىاللهعليهوسلم : «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» ونحوه فالمراد منها ما
لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مرويا عن أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم
القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره» (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هو الكي بهما.
(يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ)(٣٥)
(يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها ، وأصله تحمى بالنار
فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها
على المقصود فانتقل من صيغة
التأنيث إلى صيغة
التذكير ، وإنما قال (عَلَيْها) والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال
علي رضي الله تعالى عنه : أربعة آلاف وما دونها نفقة وما فوقها كنز. وكذا قوله
تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها) وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فطن الحكم عام
وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول ، أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها
على أن الذهب أولى بهذا الحكم. (فَتُكْوى بِها
جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم
بالمطاعم الشهية والملابس البهية ، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه
ظهورهم ، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي
هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن
ومآخيره وجنباه. (هذا ما كَنَزْتُمْ) على إرادة القول. (لِأَنْفُسِكُمْ) لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها. (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ «تكنزون» بضم النون.
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ) أي مبلغ عددها. (عِنْدَ اللهِ) معمول عدة لأنها مصدر. (اثْنا عَشَرَ شَهْراً
فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ، وقوله
: (يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا
والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة. (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
(ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم
وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما. (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة
فيها منسوخة ، وأولوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في
الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر
الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف
وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة). (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة
وقع موقع الحال. (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم.
(إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ
اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ)(٣٧)
(إِنَّمَا النَّسِيءُ) أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام
وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد
العدد ، وعن نافع برواية ورش إنما النسي بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «النسي»
بحذفها و «النسء» و «النساء» وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره. (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر
ضموه إلى كفرهم. (يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ضلالا زائدا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (يُضَلُ) على البناء للمفعول ، وعن يعقوب (يُضَلُ) على أن الفعل لله تعالى. (يُحِلُّونَهُ عاماً) يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر.
(وَيُحَرِّمُونَهُ
عاماً) فيتركونه على حرمته. قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف
الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه
ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. والجملتان تفسير
للضلال أو حال. (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللهُ) أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة ، واللام متعلقة
بيحرمونه أو بما
دل عليه مجموع الفعلين (فَيُحِلُّوا ما
حَرَّمَ اللهُ) بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم
وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا. (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) هداية موصلة إلى الاهتداء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ) تباطأتم ، وقرئ «تثاقلتم» على الأصل و (اثَّاقَلْتُمْ) على الاستفهام للتوبيخ. (إِلَى الْأَرْضِ) متعلق به كأنه ضمن معنى الإخلاد والميل فعدى بإلى ، وكان
ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة
وكثرة العدو فشق عليهم. (أَرَضِيتُمْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وغرورها. (مِنَ الْآخِرَةِ) بدل الآخرة ونعيمها. (فَما مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) فما التمتع بها. (فِي الْآخِرَةِ) في جنب الآخرة. (إِلَّا قَلِيلٌ) مستحقر.
(إِلَّا تَنْفِرُوا) إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه. (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو. (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس. (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا فإنه الغني عن كل شيء
وفي كل أمر. وقيل الضمير للرسول صلىاللهعليهوسلم أي ولا تضروه فإن الله سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة
والنصر ووعده حق. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مددكما قال.
(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ
هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أي إن لم تنصره فسينصره الله كما نصره. (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثانِيَ اثْنَيْنِ) ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو
كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك
الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله
تسبب لإذن الله له بالخروج. وقرئ «ثاني اثنين» بالسكون على لغة من يجري المنقوص
مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال. (إِذْ هُما فِي
الْغارِ) بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ،
والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا. (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان أو ظرف لثاني. (لِصاحِبِهِ) وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بالعصمة والمعونة. روي (أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق
أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ، فأعماهم الله عن الغار
فجعلوا يترددون حوله فلم يروه). وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في
أسفله والعنكبوت فنسجت عليه. (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ) أمنته التي تسكن عندها القلوب. (عَلَيْهِ) على النبي صلىاللهعليهوسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا. (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على
العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله (نَصَرَهُ اللهُ). (وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يعني الشرك أو دعوة الكفر. (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص
الرسول صلىاللهعليهوسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، أو بتأييده
إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر. وقرأ يعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالنصب عطفا على كلمة (الَّذِينَ) ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن (كَلِمَةُ اللهِ) عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار
ولذلك وسط الفصل. (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) في أمره وتدبيره.
(انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١)
(انْفِرُوا خِفافاً) لنشاطكم له. (وَثِقالاً) عنه لمشقته عليكم ، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا
ومشاة ، أو خفافا وثقالا من السلاح ، أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن أم مكتوم
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أعلي أن أنفر قال «نعم». حتى نزل (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ). (وَجاهِدُوا
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه. (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) الخير علمتم أنه خير ، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار
الله تعالى به صدق فبادروا إليه.
(لَوْ كانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
عَفَا
اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣)
(لَوْ كانَ عَرَضاً) أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا. (قَرِيباً) سهل المأخذ. (وَسَفَراً قاصِداً) متوسطا. (لَاتَّبَعُوكَ) لوافقوك. (وَلكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرئ بكسر العين والشين. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين. (لَوِ اسْتَطَعْنا) يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن. وقرئ «لو
استطعنا» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ). (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابي القسم والشرط ، وهذا من المعجزات لأنه إخبار
عما وقع قبل وقوعه. (يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ) بإيقاعها في العذاب ، وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب
إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله. (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية لا عن خطئه في الإذن فإن العفو من روادفه. (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه ، والمعنى لأي شيء
أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) في الاعتذار. (وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ) فيه. قيل إنما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئين لم يؤمر بهما ، أخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه
الله عليهما.
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(٤٤) إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥)
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من عادة المؤمنون : أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن
الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الإذن فيه فضلا أن يستأذنوك في التخلف
عنه ، أو أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه. (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التخلف. (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تخصيص الإيمان بالله عزوجل
واليوم الآخر في
الموضعين للإشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإيمان وعدم الإيمان بهما. (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) يتحيرون.
(وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ)(٤٦)
(وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ) للخروج. (عُدَّةً) أهبة وقرئ «عده» بحذف التاء عند الإضافة كقوله :
إنّ الخليط
أجدّوا البين فانجردوا
|
|
وأخلفوك عدّا
الأمر الّذي وعدوا
|
و «عده» بكسر العين
بالإضافة و «عدة» بغيرها. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ) استدرك عن مفهوم قوله : (وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ) كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثهم أي
نهوضهم للخروج. (فَثَبَّطَهُمْ) فحبسهم بالجبن والكسل. (وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ الْقاعِدِينَ) تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم ، أو وسوسة
الشيطان بالأمر بالقعود ، أو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو إذن الرسول عليهالسلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا
يخلو عن ذم.
(لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧)
(لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ) بخروجهم شيئا. (إِلَّا خَبالاً) فسادا وشرا ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا
زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ، ولأجل هذا التوهم
جعل الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغا. (وَلَأَوْضَعُوا
خِلالَكُمْ) ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب ، أو الهزيمة
والتخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في
قلوبكم ، والجملة حال من الضمير في «أوضعوا». (وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ) ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم ، أو نمامون يسمعون حديثكم
للنقل إليهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ) فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم.
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)(٤٩)
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ) تشتيت أمرك وتفريق أصحابك. (مِنْ قَبْلُ) يعني يوم أحد فطن ابن أبي وأصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعد
ما خرجوا مع الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد. (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في إبطال أمرك. (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) بالنصر والتأييد الإلهي. (وَظَهَرَ أَمْرُ
اللهِ) وعلا دينه. (وَهُمْ كارِهُونَ) أي على رغم منهم ، والآيتان لتسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره
انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركا لما فوت الرسول صلىاللهعليهوسلم بالمبادرة إلى الإذن ولذلك عوتب عليه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في القعود. (وَلا تَفْتِنِّي) ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن
لي ، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم لم يأذن ، أو في الفتنة بسبب ضياع
المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة لنساء الروم لما روي : أن جد بن
قيس قال : قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر
ولكني أعينك بمالي
فاتركني. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا) أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور
النفاق لا ما احترزوا عنه. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) جامعا لهم يوم القيامة ، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم
كوجودها.
(إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا
مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ)(٥١)
(إِنْ تُصِبْكَ) في بعض غزواتك. (حَسَنَةٌ) ظفر وغنيمة. (تَسُؤْهُمْ) لفرط حسدهم. (وَإِنْ تُصِبْكَ) في بعضها. (مُصِيبَةٌ) كسر أو شدة كما أصاب يوم أحد. (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ
قَبْلُ) تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف. (وَيَتَوَلَّوْا) عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم له ، أو عن الرسول صلىاللهعليهوسلم. (وَهُمْ فَرِحُونَ) مسرورون.
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة ، أو الشهادة أو
ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم. وقرئ «هل يصيبنا»
و «هل يصيبنا» وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب
واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به. وقيل من الصوب. (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره.
(قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً
فاسِقِينَ)(٥٣)
(قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا) تنتظرون بنا. (إِلَّا إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ) إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب : النصرة
والشهادة. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ
بِكُمْ) أيضا إحدى السوأيين (أَنْ يُصِيبَكُمُ
اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقارعة من السماء. (أَوْ بِأَيْدِينا) أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر. (فَتَرَبَّصُوا) ما هو عاقبتنا (إِنَّا مَعَكُمْ
مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم.
(قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أمر في معنى الخبر ، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا
أو كرها. وفائدته المبالغة في تساوي الإنفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن
يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم. وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي.
ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وأن لا يثابوا عليه وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له.
(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ
كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٥٥)
(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم. وقرأ حمزة والكسائي «أن
يقبل» بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي. وقرئ «يقبل» على أن الفعل لله. (وَلا
يَأْتُونَ
الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلين. (وَلا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا.
(فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها
من الشدائد والمصائب. (وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون
ذلك استدراجا لهم. وأصل الزهوق الخروج بصعوبة.
(وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
(٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ
أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧)
(وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) إنهم لمن جملة المسلمين. (وَما هُمْ مِنْكُمْ) لكفر قلوبهم. (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ
يَفْرَقُونَ) يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون
الإسلام تقية.
(لَوْ يَجِدُونَ
مَلْجَأً) حصنا يلجئون إليه (أَوْ مَغاراتٍ) غيرانا. (أَوْ مُدَّخَلاً) نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب (مُدَّخَلاً) من مدخل. وقرئ «مدخلا» أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و «متدخلا»
و «مندخلا» من تدخل واندخل (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) لأقبلوا نحوه. (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح. وقرئ «يجمزون»
ومنه الجمازة.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا
مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
(٥٨) وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ
سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ) يعيبك. وقرأ يعقوب (يَلْمِزُكَ) بالضم وابن كثير «يلامزك». (فِي الصَّدَقاتِ) في قسمها. (فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى
صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل. وقيل في ابن ذي الخويصرة
رأس الخوارج ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم
عليهم فقال : اعدل يا رسول الله فقال : «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل». و (إِذا) للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة ، وذكر الله
للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كفانا فضله (سَيُؤْتِينَا اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ) صدقة أو غنيمة أخرى. (وَرَسُولُهُ) فيؤتينا أكثر مما آتانا. (إِنَّا إِلَى اللهِ
راغِبُونَ) في أن يغنينا من فضله ، والآية بأسرها في حيز الشرط ،
والجواب محذوف تقديره خيرا لهم. ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله
الرسول صلىاللهعليهوسلم فقال :
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن
المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم. والفقير من لا مال له ولا كسب
يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره. والمسكين من له مال أو كسب لا
يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه
قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ
لِمَساكِينَ) وأنه صلىاللهعليهوسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر. وقيل بالعكس لقوله
تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ). (وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها) الساعين في تحصيلها وجمعها. (وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد
يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك. وقيل
أشراف يستألفون على أن يسلموا فإنه صلىاللهعليهوسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان
خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة. وقيل
كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط. (وَفِي الرِّقابِ) وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء
النجوم. وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى.
والعدول عن اللام إلى (فِي) للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب. وقيل للإيذان
بأنهم أحق بها. (وَالْغارِمِينَ) والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن
لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء
لقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو
لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى
المسكين للغني أو لعامل عليها» (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع
والسلاح. وقيل وفي بناء القناطر والمصانع. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع عن ماله. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات
فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في (لِلْفُقَراءِ). وقرئ بالرفع على تلك فريضة. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق
الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم
قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس
وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه
قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهماالله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب
قسمها عليهم.
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١)
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، سمي بالجارحة للمبالغة كأنه
من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عينا لذلك ، أو اشتق له فعل
من أذن أذنا إذا استمع كأنف وشلل. روي أنهم قالوا محمد أذن سامعة نقول ما شئنا ثم
نأتيه فيصدقنا بما نقول. (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَكُمْ) تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من
حيث إنه يسمع الخير ويقبله ، ثم فسر ذلك بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدق به لما قام عنده من الأدلة. (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ويصدقهم لما علم من خلوصهم ، واللام مزيدة للتفرقة بين
إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان. (وَرَحْمَةٌ) أي وهو رحمة. (لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ) لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره ، وفيه تنبيه على
أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم. وقرأ حمزة (وَرَحْمَةٌ) بالجر عطفا على (خَيْرٍ). وقرئ بالنصب على أنها علة فعل دل عليه (أُذُنُ خَيْرٍ) أي يأذن لكم رحمة. وقرأ نافع (أُذُنٌ) بالتخفيف فيهما. وقرئ «أذن خير» على أن (خَيْرٍ) صفة له أو خبر ثان (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بإيذائه.
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا
مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ) على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلفوا. (لِيُرْضُوكُمْ) لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين. (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق ، وتوحيد الضمير لتلازم
الرضاءين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلىاللهعليهوسلم وإرضائه ، أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه والرسول
كذلك. (إِنْ كانُوا
مُؤْمِنِينَ) صدقا.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ) أن الشأن وقرئ بالتاء. (مَنْ يُحادِدِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) يشاقق مفاعلة من الحد. (فَأَنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد
ويحتمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله
يهلك ، وقرئ «فإن» بالكسر. (ذلِكَ الْخِزْيُ
الْعَظِيمُ) يعني الهلاك الدائم.
(يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي
قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ(٦٤) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)(٦٥)
(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) على المؤمنين. (سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وتهتك عليهم أستارهم ، ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين
فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم ، وذلك يدل على
ترددهم أيضا في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم بشيء. وقيل إنه خبر في معنى الأمر. وقيل كانوا يقولونه
فيما بينهم استهزاء لقوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا
إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) مبرز أو مظهر. (ما تَحْذَرُونَ) أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون إظهاره
من مساويكم.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)
روي : أن ركب
المنافقين مروا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح
قصور الشام وحصونه هيهات هيهات ، فأخبر الله تعالى به نبيه فدعاهم فقال : «قلتم
كذا وكذا» فقالوا لا والله ما كنا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما
يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر. (قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به ، وإلزاما
للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب.
(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ
كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ
طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)
(لا تَعْتَذِرُوا) لا تشتغلوا باعتذارتكم فإنها معلومة الكذب. (قَدْ كَفَرْتُمْ) قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلىاللهعليهوسلم والطعن فيه. (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بعد إظهاركم الإيمان. (إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لتوبتهم وإخلاصهم ، أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء.
تعذّب طائفة بأنّهم كانوا مجرمين مصرين على النفاق أو مقدمين على الإيذاء
والاستهزاء. وقرأ عاصم بالنون فيهما. وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله «وإن
تعف» بالتاء والبناء على المفعول ذهابا إلى المعنى كأنه قال : إن ترحم طائفة.
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
وَعَدَ
اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨)
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء
الواحد. وقيل إنه
تكذيب لهم في حلفهم بالله (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) وتقرير لقولهم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) وما بعده كالدليل عليه ، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال
المؤمنين وهو قوله : (يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ) بالكفر والمعاصي. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمَعْرُوفِ) عن الإيمان والطاعة. (وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ) عن المبار ، وقبض اليد كناية عن الشح. (نَسُوا اللهَ) أغفلوا ذكر الله وتركوا طاعته. (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من لطفه وفضله. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
(وَعَدَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود. (هِيَ حَسْبُهُمْ) عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها. (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وأهانهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُقِيمٌ) لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب
النفاق.
(كَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٩)
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنتم مثل الذين ، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً
وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم. (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من ملاذ الدنيا ، واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإنه
ما قدر لصاحبه. (فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية
والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم
المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم. (وَخُضْتُمْ) ودخلتم في الباطل. (كَالَّذِي خاضُوا) كالذين خاضوا ، أو كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي
خاضوه. (أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا الدنيا والآخرة.
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ
إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ)(٧٠)
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطوفان. (وَعادٍ) أهلكوا بالريح. (وَثَمُودَ) أهلكوا بالرجفة. (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) أهلك نمروذ ببعوض وأهلك أصحابه. (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة. (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها
سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل ، وقيل قريات المكذبين المتمردين وائتفاكهن انقلاب
أحوالهن من الخير إلى الشر. (أَتَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ) يعني الكل. (بِالْبَيِّناتِ فَما
كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
(وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٧١)
(وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله (الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)
(يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر الأمور. (أُولئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كل شيء لا يمتنع
عليه ما يريده. (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها.
(وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ
أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢)
(وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث أنها قصور
من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر. (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة وخلود. وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي
لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء
يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك. ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد
الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع ، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولا
بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع
أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن
شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ثم وصفه بأنه دار
إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر
من ذلك فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول
والفوز باللقاء ، وعنه صلىاللهعليهوسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون : وما
لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ،
فيقولون : وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا. (ذلِكَ) أي الرضوان أو جميع ما تقدم. (هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٧٤)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف. (وَالْمُنافِقِينَ) بإلزام الحجة وإقامة الحدود. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في ذلك ولا تحابهم. (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم.
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا)
روي أنه صلىاللهعليهوسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين
فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير ،
فبلغ ذلك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت
توبته. (وَلَقَدْ قالُوا
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من فتك الرسول ، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه
من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن
ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة
بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ، أو
إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول
الله صلىاللهعليهوسلم. (وَما نَقَمُوا) وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم. (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فلما
قدمهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى. والاستثناء مفرغ من أعم
المفاعيل أو العلل. (فَإِنْ يَتُوبُوا
يَكُ خَيْراً لَهُمْ) وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في (يَكُ)
للتوب. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) بالإصرار على النفاق. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالقتل والنار. (وَما لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فينجيهم من العذاب.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٧٦)
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ)
نزلت في ثعلبة بن
حاطب أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : ادع الله أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة والسلام
: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق
لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمى
الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال : يا ويح ثعلبة ، فبعث
رسول الله صلىاللهعليهوسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا
بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال : ما هذه إلا جزية ما
هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت ، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه
فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فقبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها ، ثم
جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله
تعالى عنه.
(فَلَمَّا آتاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) منعوا حق الله منه. (وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم عادتهم الإعراض عنها.
(فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما
وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(٧٨)
(فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم
، ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) يلقون الله بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم
القيامة (بِما أَخْلَفُوا
اللهَ ما وَعَدُوهُ) بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح. (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب مستقبح من
الوجهين أو المقال مطلقا وقرئ «يكذّبون» بالتشديد.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء على الالتفات. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف. (وَنَجْواهُمْ) وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن ، أو تسمية الزكاة
جزية. (وَأَنَّ اللهَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فلا يخفى عليه ذلك.
(الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٩)
(الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ) ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم. وقرئ «يلمزون»
بالضم. (الْمُطَّوِّعِينَ) المتطوعين. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الصَّدَقاتِ)
روي : أنه صلىاللهعليهوسلم حث على الصدقة ، فجاء عبد الرحمن ابن عوف بأربعة آلاف درهم
وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بارك الله لك
فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على
ثمانين ألف درهم ، وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري
بصاع
تمر فقال بت ليلتي
أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع ، فأمره رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى
عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب
أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات. فنزلت : (وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) إلا طاقتهم. وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ
فيه. (فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ) يستهزئون بهم. (سَخِرَ اللهُ
مِنْهُمْ) جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) على كفرهم.
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠)
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص
عليه بقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ وكان من المخلصين
سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ، ففعل عليه الصلاة والسلام
فنزلت ، فقال عليه الصلاة والسلام : لأزيدن على السبعين فنزلت : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد
المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه ، فبين له أن المراد
به التكثير دون التحديد ، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في
التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنّه العدد بأسره. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس
لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) المتمردين في كفرهم ، وهو كالدليل على الحكم السابق فإن
مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق ، والمنهمك في كفره المطبوع
عليه لا ينقلع ولا يهتدي ، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من
إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة ، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم
لقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).
(فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٢)
(فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم ،
ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال. (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إيثارا للدعة والخفض على طاعة الله ، وفيه تعريض بالمؤمنين
الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج. (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا
فِي الْحَرِّ) أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطا. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) وقد آثرتموها بهذه المخالفة. (لَوْ كانُوا
يَفْقَهُونَ) أن مآبهم إليها ، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة
على الطاعة.
(فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على
صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب ، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن
السرور والغم والمراد من القلة العدم.
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣)
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني
منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين ، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر
رجلا. (فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ) إلى غزوة أخرى بعد تبوك (فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) إخبار في معنى النهي للمبالغة. (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على
تخلفهم و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) هي الخرجة إلى غزوة تبوك. (فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخالِفِينَ) أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان. وقرئ
مع «الخلفين» على قصر (الْخالِفِينَ).
(وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
وَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ
بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٨٥)
(وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً)
روي : (أن عبد
الله بن أبيّ دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرضه ، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في
شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه)
فنزلت. وقيل صلى عليه ثم نزلت ، وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة
عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم ولأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين
أسر ببدر ، والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر
ولذلك رتب النهي على قوله : (ماتَ أَبَداً) يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع
فكأنه لم يحي. (وَلا تَقُمْ عَلى
قَبْرِهِ) ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة. (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) تعليل للنهي أو لتأبيد الموت.
(وَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى
الأموال والأولاد والنفوس مغتبطة عليها. ويجوز أن تكون هذه في طريق غير الأول.
(وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦)
رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ)(٨٧)
(وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ) من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها. (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) بأن آمنوا بالله ويجوز أن تكون أن المفسرة. (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) ذوو الفضل والسعة. (وَقالُوا ذَرْنا
نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) الذين قعدوا لعذر.
(رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مع النساء جمع خالفة وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ) ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه
من الشقاوة.
(لكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ
لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٨٩)
(لكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة
في الآخرة. وقيل الحور لقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ) وهي جمع خيرة تخفيف خيرة. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمطالب.
(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) يعني أسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة
العيال. وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا
ومواشينا. والمعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له ،
أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ، ويجوز
كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما. وقرأ يعقوب (الْمُعَذِّرُونَ) من أعذر إذا اجتهد في العذر. وقرئ «المعذّرون» بتشديد
العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين ،
وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في ادعاء
الإيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ) من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا
لكفره (عَذابٌ أَلِيمٌ) بالقتل والنار.
(لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)
وَلا
عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً
أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)(٩٢)
(لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) كالهرمى والزمنى. (وَلا عَلَى الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة. (حَرَجٌ) إثم في التأخر. (إِذا نَصَحُوا
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بالإيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح
، أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وإنما وضع
المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك.
(وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) لهم أو للمسيء فكيف للمحسن.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) عطف على (الضُّعَفاءِ) أو على (الْمُحْسِنِينَ) ، وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار وصخر بن
خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن
زيد ، أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة
والنعال المخصوفة نغز معك ، فقال عليهالسلام : «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون. وقيل هم بنو
مقرن : معقل وسويد والنعمان. وقيل أبو موسى وأصحابه. (قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) حال من الكاف في (أَتَوْكَ) بإضمار قد. (تَوَلَّوْا) جواب إذا. (وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ) تسيل. (مِنَ الدَّمْعِ) أي دمعا فإن من
للبيان وهي مع
المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنه يدل على أن العين
صارت دمعا فياضا. (حَزَناً) نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. (أَلَّا يَجِدُوا) لئلا يجدوا متعلق ب (حَزَناً) أو ب (تَفِيضُ). (ما يُنْفِقُونَ) في مغزاهم.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا
مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٤)
(إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة. (عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) واجدون الأهبة. (رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو
رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثارا للدعة. (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. (فَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) مغبته.
(يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ) في التخلف. (إِذا رَجَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ) من هذه السفرة. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) بالمعاذير الكاذبة لأنه : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم لأنه : (قَدْ نَبَّأَنَا
اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من
الشر والفساد. (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أتتوبون عن الكفر
أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة. (ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على
سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بالتوبيخ والعقاب عليه.
(سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ)(٩٦)
(سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تعاتبوهم (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ) ولا توبخوهم. (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) لا ينفع فيهم
التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير
فهو علة لإعراض وترك المعاتبة. (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ) من تمام التعليل وكأنه قال : إنهم أرجاس من أهل النار لا
ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة ، أو تعليل ثان والمعنى : أن النار كفتهم
عتابا فلا تتكلفوا عتابهم.
(جَزاءً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة.
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم
إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه ، وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن
يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم ، والمقصود من الآية النهي عن
الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم.
(الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(٩٧)
وَمِنَ
الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٩٨)
(الْأَعْرابُ) أهل البدو. (أَشَدُّ كُفْراً
وَنِفاقاً) من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم
وقلة استماعهم للكتاب والسنة. (وَأَجْدَرُ أَلَّا
يَعْلَمُوا) وأحق بأن لا يعلموا. (حُدُودَ ما أَنْزَلَ
اللهُ عَلى رَسُولِهِ) من الشرائع فرائضها وسنتها. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر. (حَكِيمٌ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ) يعدّ (ما يُنْفِقُ) يصرفه في سبيل الله ويتصدق به. (مَغْرَماً) غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه قربة عند الله ولا يرجو عليه
ثوابا وإنما ينفق رياء أو تقية. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوائِرَ) دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق.
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ) اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإخبار عن وقوع
ما يتربصون عليهم ، والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور وسمي به عقبة
الزمان ، و (السَّوْءِ) بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو (السَّوْءِ) هنا. وفي الفتح بضم السين. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقولون عند الانفاق. (عَلِيمٌ) بما يضمرون.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٩)
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ) سبب (قُرُباتٍ) وهي ثاني مفعولي (يَتَّخِذُ) ، و (عِنْدَ اللهِ) صفتها أو ظرف ل (يَتَّخِذُ). (وَصَلَواتِ
الرَّسُولِ) وسبب صلواته لأنه صلىاللهعليهوسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن
يدعو للمصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلىاللهعليهوسلم «اللهم صل على آل
أبي أوفى» ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره. (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ
لَهُمْ) شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف
مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش (قُرْبَةٌ) بضم الراء. (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ
فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لتقريره. وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في
عبد الله ذي البجادين وقومه.
(وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ)(١٠٠)
(وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين
أسلموا قبل الهجرة. (وَالْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى. وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة
الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة صعب بن عمير. وقرئ
بالرفع عطفا على (وَالسَّابِقُونَ). (وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) اللاحقون بالسابقين من القبيلتين ، أو من اتبعوهم بالإيمان
والطاعة إلى يوم القيامة. (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» كما في سائر المواضع. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(١٠١)
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة. (مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها. (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أو خبر لمحذوف صفته. (مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ) ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله :
أنّا ابن جلّا
وطلّاع الثنايا
وعلى الأول صفة
للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم وتمهرهم
في النفاق. (لا تَعْلَمُهُمْ) لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه وتنوقهم في
تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك. (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ونطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن
يلبسوا علينا. (سَنُعَذِّبُهُمْ
مَرَّتَيْنِ) بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر ، أو بأخذ الزكاة
ونهك الأبدان. (ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) إلى عذاب النار.
(وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٠٢)
(وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة ، وهم طائفة من
المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فقدم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر
له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر
فيهم فنزلت فأطلقهم. (خَلَطُوا عَمَلاً
صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب
بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق ، والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم :
بعت الشاء شاة ودرهما. أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر. (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ). (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
(خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)
(خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)
روي : أنهم لما أطلقوا
قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال : «ما أمرت أن
آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت. (تُطَهِّرُهُمْ) من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله. وقرئ «تطهرهم»
من أطهره بمعنى طهره و «تطهرهم» بالجزم جوابا للأمر. (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم. (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم ، وجمعها لتعدد
المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد. (وَاللهُ سَمِيعٌ) باعترافهم. (عَلِيمٌ) بندامتهم.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول
توبتهم والاعتداد بصدقاتهم ، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما. (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ) إذا صحت وتعديته ب (عَنْ) لتضمنه معنى التجاوز. (وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ) يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم.
(وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)
(وَقُلِ اعْمَلُوا) ما شئتم. (فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ) فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا. (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم. (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) بالموت. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه.
(وَآخَرُونَ) من المتخلفين. (مُرْجَوْنَ) مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته. وقرأ نافع
وحمزة والكسائي وحفص (مُرْجَوْنَ) بالواو وهما لغتان. (لِأَمْرِ اللهِ) في شأنهم. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن أصروا على النفاق. (وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ) إن تابوا والترديد للعباد ، وفيه دليل على أن كلا الأمرين
بإرادة الله تعالى. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم. (حَكِيمٌ) فيما يفعل بهم. وقرئ «والله غفور رحيم» ، والمراد بهؤلاء
كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، فلما رأوا ذلك
أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهمالله تعالى.
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٠٧)
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على (وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ) ، أو مبتدأ خبره محذوف أي وفيمن وصفنا الذين اتخذوا أو
منصوب على الاختصاص. وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو (ضِراراً) مضارة للمؤمنين. وروي : (أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد
قباء سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف
، فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه
أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إنا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة والليلة
المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت ، فدعا بمالك
بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد
الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة). (وَكُفْراً) وتقوية للكفر الذي يضمرونه. (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ) يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء. (وَإِرْصاداً) ترقبا. (لِمَنْ حارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل
يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب
بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومات بقنسرين وحيدا ، وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب
فلما انهزموا خرج إلى الشام. و (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب (حارَبَ) أو ب (اتَّخَذُوا) أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ، لما روي
أنه بني قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يأتيه فقال : أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله
صلينا فيه فلما قفل كرر عليه. فنزلت (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى وهي
الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.
(لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ)(١٠٨)
(لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً) للصلاة. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى) يعني مسجد قباء أسسه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه
أوفق للقصة ، أو مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم
لقول أبي سعيد رضي
الله عنه : «سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة». (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله :
لمن الدّيار
بقنة الحجر
|
|
أقوين من حجج
ومن دهر
|
(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ
فِيهِ) أولى بأن تصلي فيه. (فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله سبحانه
وتعالى ، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها. (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه. قيل
لما نزلت مشى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار
جلوس فقال عليه الصلاة والسلام : «أمؤمنون أنتم»؟ فسكتوا .. فأعادها فقال عمر :
إنهم مؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أترضون بالقضاء»؟ قالوا :
نعم. قال عليه الصلاة والسلام : «أتصبرون على البلاء»؟ قالوا : نعم ، قال : «أتشكرون
في الرخاء»؟ قالوا : نعم. فقال صلىاللهعليهوسلم : «أنتم مؤمنون ورب الكعبة». فجلس ثم قال : «يا معشر
الأنصار إن الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط»؟
فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا).
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ
عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠٩)
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ) بنيان دينه. (عَلى تَقْوى مِنَ
اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) على قاعدة محكمة هي التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة. (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا
جُرُفٍ هارٍ) على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها. (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار ، وإنما
وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلا لما بنوا عليه
أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس ، ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في
مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان
الله ومقتضياته التي الجنة أدناها ، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في
النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة. وقرأ نافع وابن عامر (أُسِّسَ) على البناء للمفعول. وقرئ «أساس بنيانه» و «أسس بنيانه»
على الإضافة و «أسس» و «آساس» بالفتح والمد و «إساس» بالكسر وثلاثتها جمع أس ، و «تقوى»
بالتنوين على أن الألف للإلحاق لا للتأنيث كتترى ، وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر (جُرُفٍ) بالتخفيف. (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
(لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)
(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ
الَّذِي بَنَوْا) بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد
تدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله : (رِيبَةً فِي
قُلُوبِهِمْ) أي شكا ونفاقا ، والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم
وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلىاللهعليهوسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك والإضمار وهو في
غاية المبالغة والاستثناء. من أعم الأزمنة. وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل
أو في القبر أو في النار. وقيل التقطع بالتوبة ندما وأسفا. وقرأ يعقوب «إلى» بحرف
الانتهاء و (تَقَطَّعَ) بمعنى تتقطع وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. وقرئ «يقطع»
بالياء و «تقطع» بالتخفيف و «تقطع قلوبهم» على خطاب الرسول ، أو كل مخاطب ولو قطعت
ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنياتهم. (حَكِيمٌ) فيما أمر بهدم بنيانهم.
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ
فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في
سبيله. (يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) استئناف ببيان ما لأجله الشراء. وقيل يقاتلون في معنى
الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب
وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل. (وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا) مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد. (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ) مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما
قال : (وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢)
(التَّائِبُونَ) رفع على المدح أي هم التائبون ، والمراد بهم المؤمنون
المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم
يجاهدوا لقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) أو خبره ما بعده أي
التائبون عن الكفر
على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة
للمؤمنين. (الْعابِدُونَ) الذين عبدوا الله مخلصين له الدين. (الْحامِدُونَ) لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء. (السَّائِحُونَ) الصائمون لقوله صلىاللهعليهوسلم «سياحة أمتي الصوم»
شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على
حفايا الملك والملكوت ، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلاة. (الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة. (وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي ، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف
عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وفي قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما
قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها. وقيل إنه للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع من
حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو
الثمانية. (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ، ووضع (الْمُؤْمِنِينَ) موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن
المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن
إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ
(١١٣)
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها
إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(١١٤)
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)
روي : أنه صلىاللهعليهوسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : «قل كلمة أحاج لك بها
عند الله» فأبى فقال عليه الصلاة والسلام : «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه»
فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : «إني
استأذنت رب في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي
وأنزل علي الآيتين». (وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر ، وفيه دليل على جواز الاستغفار
لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة
والسلام لأبيه الكافر فقال :
(وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) وعدها إبراهيم أباه بقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ) أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله ،
ويدل عليه قراءة من قرأ «أباه» ، أو «وعدها إبراهيم أبوه» وهي الوعد بالإيمان (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ) بأن مات على الكفر ، أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قطع استغفاره. (إِنَّ إِبْراهِيمَ
لَأَوَّاهٌ) لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه. (حَلِيمٌ) صبور على الأذى ، والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له
مع شكاسته عليه.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ
إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
إِنَّ
اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
(١١٦)
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً) أي ليسميهم ضلّالا ويؤاخذهم مؤاخذتهم (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام. (حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) حتى يبين لهم حظر ما يجب اتقاؤه ، وكأنه بيان عذر الرسول
عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع. وقيل
إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك ، وفي الجملة دليل على
أن الغافل غير مكلف. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أمرهم في الحالين.
(إِنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى
وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأسا ، بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره
والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه ، ليتوجهوا بشراشرهم إليه
ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧)
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله
تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو
محتاج إلى التوبة حتى النبي صلىاللهعليهوسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي
إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده. (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ
الْعُسْرَةِ) في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر تعتقب
العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى
شربوا الفظ. من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم عن الثبات على الإيمان أو اتباع
الرسول عليهالسلام وفي (كادَ) ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في (مِنْهُمْ). وقرأ حمزة وحفص (يَزِيغُ) بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي. وقرئ «من بعد ما زاغت
قلوب فريق منهم» يعني المتخلفين. (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا
من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم. (إِنَّهُ بِهِمْ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ
إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١١٩)
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ) وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن
الربيع. (الَّذِينَ خُلِّفُوا) تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجؤون. (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة.
(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنْفُسُهُمْ) قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور. (وَظَنُّوا) وعلموا. (أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللهِ) من سخطه. (إِلَّا إِلَيْهِ) إلا إلى استغفاره. (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ) بالتوفيق للتوبة. (لِيَتُوبُوا) أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين ، أو رجع
عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. (الرَّحِيمُ) المتفضل عليهم بالنعم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فيما لا يرضاه (وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ) في إيمانهم
وعهودهم ، أو في دين الله نية وقولا وعملا. وقرئ «من الصادقين» أي في توبتهم
وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم.
(ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١٢٠)
(ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ) نهي عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة. (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ) ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما
يكابده من الأهوال. روي : (أن أبا خيثمة بلغ بستانه ، وكانت له زوجة حسناء فرشت له
في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظل ظليل ،
ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول اللهصلىاللهعليهوسلم في الضح والريح ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه
ورمحه ومر كالريح ، فمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال : كن أبا
خيثمة فكأنه ففرح به رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستغفر له) وفي (لا يَرْغَبُوا) يجوز النصب والجزم. (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو
وجوب المشايعة. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ) شيء من العطش. (وَلا نَصَبٌ) تعب. (وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة. (فِي سَبِيلِ اللهِ
وَلا يَطَؤُنَ) ولا يدوسون. (مَوْطِئاً) مكانا. (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يغضبهم وطؤه. (وَلا يَنالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلاً) كالقتل والأسر والنهب. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلا استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة. (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم ، وهو تعليل ل (كُتِبَ) وتنبيه على أن الجهاد إحسان ، أما في حق الكفار فلأنه سعى
في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة
لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم.
(وَلا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ
لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١)
(وَلا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو علّاقة. (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة. (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي
إذا سال فشاع بمعنى الأرض. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أثبت لهم ذلك. (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بذلك. (أَحْسَنَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم.
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما
لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش. (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ) فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة.
(لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ) ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم
وإنذارهم ، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض
الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس
والتبسط في البلاد. (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه ، واستدل به على أن أخبار
الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى
التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا ، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم
يفد ذلك ، وقد أشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي «المرصاد». وقد قيل للآية
معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا
عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون
حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود
من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة
للغزو ، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم
بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة
والاستصلاح. وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر. وقيل الروم فإنهم
كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ
غِلْظَةً) شدة وصبرا على القتال. وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان
فيها. (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالحراسة والإعانة.
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ)(١٢٥)
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ) فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ) انكار واستهزاء. (أَيُّكُمْ زادَتْهُ
هذِهِ) السورة. (إِيماناً) وقرئ «أيكم» بالنصب على إضمار فعل يفسره (زادَتْهُ). (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها
وبما فيها إلى إيمانهم. (وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر. (فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها. (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه.
(أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا
يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
(١٢٦) وَإِذا ما
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ
ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(١٢٧)
(أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين وقرئ بالتاء. (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يبتلون بأصناف البليات ، أو بالجهاد مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات. (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ
مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم. (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يعتبرون.
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا لما فيها من
عيوبهم. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ
أَحَدٍ) أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا. (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن حضرته مخافة الفضيحة. (صَرَفَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان وهو يحتمل الإخبار والدعاء. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ) لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم.
(لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)
(لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم عربي مثلكم. وقرئ «من أنفسكم» أي من أشرفكم. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) شديد شاق. (ما عَنِتُّمْ) عنتكم ولقاؤكم المكروه. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم. (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة
على الفواصل.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان بك. (فَقُلْ حَسْبِيَ
اللهُ) فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كالدليل عليه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجو ولا أخاف إلا منه. (وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الملك العظيم ، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه
الأحكام والمقادير. وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : أن
آخر ما نزل هاتان الآيتان وعن النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما نزل القرآن علي إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة
براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» والله
أعلم.
(١٠) سورة يونس
مكية وهي مائة وتسع آيات
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)
(الر) فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين
اللفظين ، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من
الكتاب أحدهما ، ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم ، أو محكم
آياته لم ينسخ شيء منها. (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً) استفهام إنكار للتعجب و (عَجَباً) خبر كان واسمه : (أَنْ أَوْحَيْنا) وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على «أن كان» تامة و (أَنْ أَوْحَيْنا) بدل من (عَجَباً) ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه
إنكارهم واستهزاءهم. (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. قيل كانوا يقولون
العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط
حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة. هذا وإنه
عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة
الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله
كذلك. وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة «الأنعام». (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول
أوحينا. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا) عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه
، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة (أَنَّ لَهُمْ) بأن لهم (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) سابقة ومنزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت
النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما
ينالونها بصدق القول والنية. (قالَ الْكافِرُونَ
إِنَّ هذا) يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وقرأ ابن كثير والكوفيون «لساحر» على أن الإشارة إلى
الرسولصلىاللهعليهوسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلىاللهعليهوسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة. وقرئ «ما هذا
إلا سحر مبين».
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ
ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٣)
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي هي أصول الممكنات. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته
ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه ، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة
العاقبة. (ما مِنْ شَفِيعٍ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع
لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له (ذلِكُمُ اللهُ) أي
الموصوف بتلك
الصفات المقتضية للألوهية والربوبية. (رَبَّكُمُ) لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك. (فَاعْبُدُوهُ) وحدوه بالعبادة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية
والعبادة لا ما تعبدونه.
(إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ)
(٤)
(إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه. (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله (إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ) وعد من الله. (حَقًّا) مصدر آخر مؤكد لغيره وهو ما دل عليه (وَعْدَ اللهِ). (إِنَّهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد بدئه وإهلاكه. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم أو
بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم وهو الأوجه لمقابلة قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم
بسبب كفرهم ، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن
المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض ، وأنه تعالى
يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة
فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم. والآية كالتعليل لقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله
المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة ، ويؤيده قراءة من قرأ (إِنَّهُ يَبْدَؤُا) بالفتح أي لأنه ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا بما نصب (وَعْدَ اللهِ) أو بما نصب (حَقًّا).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
إِنَّ
فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً) أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء
فيه منقلبة عن الواو. وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي «الأنبياء» وفي «القصص» :
«ضئاء» بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين. (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي ذا نور أو سمي نورا للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت
، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق
الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل ، أو قدره
ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع
به ولذلك علله بقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ) حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة. نفصل
الآيات لقوم يعلمون فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان وحفص (يُفَصِّلُ) بالياء.
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الكائنات. (لَآياتٍ) على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته. (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر.
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧)
أُولئِكَ
مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨)
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما
وراءها. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ
الدُّنْيا) من الآخرة لغفلتهم عنها. (وَاطْمَأَنُّوا بِها) وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، أو
سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. (وَالَّذِينَ هُمْ
عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير
الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في
الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين
من أنكر البعث ولم ير إلّا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل
في الآجل والإعداد له.
(أُولئِكَ مَأْواهُمُ
النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٩) دَعْواهُمْ فِيها
سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لإدراك
الحقائق كما قال عليه الصلاة والسلام «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». أو
لما يريدونه في الجنة ، ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان
والعمل الصالح لكن دل منطوق قوله: (بِإِيمانِهِمْ) على استقلال الإيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة
والرديف له. (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى
الأخير ، وقوله : (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) خبر أو حال أخرى منه ، أو من (الْأَنْهارُ) أو متعلق ب (تَجْرِي) أو بيهدي.
(دَعْواهُمْ فِيها) أي دعاؤهم. (سُبْحانَكَ اللهُمَ) اللهم إنا نسبحك تسبيحا. (وَتَحِيَّتُهُمْ) ما يحيى به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم. (فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ) وآخر دعائهم. (أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أن يقولوا ذلك ، ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة
وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، ثم حياهم الملائكة
بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه
بصفات الإكرام ، و (أَنِ) هي المخففة من الثقيلة وقد قرئ بها وينصب «الحمد».
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ)(١١)
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) ولو يسرعه إليهم. (اسْتِعْجالَهُمْ
بِالْخَيْرِ) وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في
الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ
السَّماءِ) وتقدير الكلام ، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير
حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير ، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه. (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأميتوا وأهلكوا وقرأ ابن عامر ويعقوب لقضى على البناء
للفاعل وهو الله تعالى وقرئ «لقضينا». (فَنَذَرُ الَّذِينَ
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل : ولكن لا
نعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالا لهم واستدراجا.
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا) لإزالته مخلصا فيه. (لِجَنْبِهِ) ملقى لجنبه أي مضطجعا. (أَوْ قاعِداً أَوْ
قائِماً) وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف
المضار. (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) يعني مضى على طريقته واستمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء
لا يرجع إليه. (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما قال :
ونحر مشرق
اللّون
|
|
كأن ثدياه حقّان
|
(إِلى
ضُرٍّ مَسَّهُ) إلى كشف ضر. (كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين. (زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الانهماك في الشهوات والإعراض عن العبادات.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ
خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة. (لَمَّا ظَلَمُوا) حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما
ينبغي (وَجاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو
عطف على ظلموا. (وَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا) وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم
وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم ، واللام لتأكيد النفي. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم
عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم (نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ) نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة
على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.
(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ
خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من
يختبر. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) أتعملون خيرا أو
شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم ، وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن
يعمل فيه ما قبله ، وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال
وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥)
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) يعني المشركين. (ائْتِ بِقُرْآنٍ
غَيْرِ هذا) بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب
والعقاب بعد الموت ، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا. (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم
سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه. (قُلْ ما يَكُونُ لِي) ما يصح لي. (أَنْ أُبَدِّلَهُ
مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا ، وإنما اكتفى بالجواب
عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف
فيه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن
القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصيانا فقال : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بالتبديل. (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ
ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً
مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦)
(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ) غير ذلك. (ما تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني ، وعن ابن كثير «ولأدراكم» بلام
التأكيد أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري. والمعنى أنه
الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري. وقرئ «ولا أدرأكم» «ولا أدرأتكم»
بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة ، أو على أنه من الدرء
بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال ، والمعنى أن الأمر
بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) مقدارا عمر أربعين سنة. (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه ، فإنه إشارة إلى أن
القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم
يشاهد عالما ولم ينشئ قريضا ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا بزت فصاحته فصاحة كل
منطيق وعلا من كل منثور ومنظوم ، واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن
أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلوم به من الله تعالى. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه
ليس إلا من الله.
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(١٨)
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تفاد مما أضافوه إليه كناية ، أو تظليم للمشركين بافترائهم
على الله تعالى في قولهم إنه لذو شريك وذو ولد. (أَوْ كَذَّبَ
بِآياتِهِ) فكفر بها. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ) فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر ، والمعبود ينبغي أن
يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأوثان. (شُفَعاؤُنا عِنْدَ
اللهِ) تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن
بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار
النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم
عنده. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللهَ) أتخبرونه. (بِما لا يَعْلَمُ) وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم
بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم. (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون
من دون الله إما سماوي وإما أرضي ، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور
مثلهم لا يليق أن يشرك به. (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة
والكسائي هنا وفي الموضعين في أول «النحل» و «الروم» بالتاء.
(وَما كانَ النَّاسُ
إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ
لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢٠)
(وَما كانَ النَّاسُ
إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق ، وذلك في عهد آدم عليهالسلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان ، أو على الضلال في
فترة من الرسل. (فَاخْتَلَفُوا) باتباع الهوى والأباطيل ، أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة
والسلام فتبعتهم طائفة وأصرت أخرى. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم
القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء. (لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ) عاجلا. (فِيما فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) بإهلاك المبطل وإبقاء المحق.
(وَيَقُولُونَ لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي من الآيات التي اقترحوها. (فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلَّهِ) هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من
مفاسد تصرف عن إنزالها. (فَانْتَظِرُوا) لنزول ما اقترحتموه. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام
واقتراحكم غيره.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١)
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً) صحة وسعة. (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ
مَسَّتْهُمْ) كقحط ومرض. (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ
فِي آياتِنا) بالطعن فيها والاحتيال في دفعها. قيل قحط أهل مكة سبع سنين
حتى كادوا يهلكون ثم رحمهمالله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم ، وإنما دل على
سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية والمكر إخفاء الكيد
، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر. (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما
تَمْكُرُونَ) تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف
على الحفظة فضلا أن يخفى على الله تعالى ، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما
قبله.
(هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)
فَلَمَّا
أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ
إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)
(هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ) يحملكم على السير ويمكنكم منه. وقرأ ابن عامر «ينشركم»
بالنون والشين من النشر. (فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) في السفن ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) بمن فيها ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة
لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة الهبوب. (وَفَرِحُوا بِها) بتلك الريح. (جاءَتْها) جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة ، بمعنى تلقتها. (رِيحٌ عاصِفٌ) ذات عصف شديدة الهبوب. (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ
مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يجيء الموج منه. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
أُحِيطَ بِهِمْ) أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف ،
وهو بدل من (ظَنُّوا) بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم. (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول أو مفعول (دَعَوُا) لأنه من جملة القول.
(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) إجابة لدعائهم. (إِذا هُمْ يَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ) فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه. (بِغَيْرِ الْحَقِ) مبطلين فيه وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة
وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها إفساد بحق. (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم. (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى عقابها ، ورفعه على أنه
خبر (بَغْيُكُمْ) و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلته ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و
(عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبر (بَغْيُكُمْ) ، ونصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة
الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته والخبر محذوف تقديره
بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال ، أو مفعول
فعل دل عليه البغي
وعلى أنفسكم خبره. (ثُمَّ إِلَيْنا
مَرْجِعُكُمْ) في القيامة. (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأجزاء عليه.
(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها
أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
(٢٤)
(إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها
واغترار الناس بها. (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الزروع والبقول والحشيش. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَها) حسنها وبهجتها. (وَازَّيَّنَتْ) تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس
أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها ، (وَازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فأدغم وقد قرئ على الأصل «وازينت» على أفعلت من
غير إعلال كأغيلت ، والمعنى صارت ذات زينة «وازيانت» كابياضت. (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ
عَلَيْها) متمكنون من حصدها ورفع غلتها. (أَتاها أَمْرُنا) ضرب زرعها ما يجتاحه. (لَيْلاً أَوْ نَهاراً
فَجَعَلْناها) فجعلنا زرعها. (حَصِيداً) شبيها بما حصد من أصله. (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث ، والمضاف محذوف في الموضعين
للمبالغة وقرئ بالياء على الأصل. (بِالْأَمْسِ) فيما قبيله وهو مثل في الوقت القريب والممثل به مضمون
الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعد ما كان غضا والتف ، وزين
الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن وليه حرف
التشبيه لأنه من التشبيه المركب. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإنهم المنتفعون به.
(وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٦)
(وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ) دار السلامة من التقضي والآفة ، أو دار الله وتخصيص هذا
الاسم أيضا للتنبيه على ذلك ، أو دار يسلم الله والملائكة فيها على من يدخلها
والمراد الجنة. (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) بالتوفيق. (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) هو طريقها وذلك الإسلام والتدرع بلباس التقوى ، وفي تعميم
الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن المصر على
الضلالة لم يرد الله رشده.
(لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى) المثوبة الحسنى. (وَزِيادَةٌ) وما يزيد على المثوبة تفضلا لقوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة
ضعف وأكثر ، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان ، وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي
اللقاء. (وَلا يَرْهَقُ
وُجُوهَهُمْ) لا يغشاها. (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد. (وَلا ذِلَّةٌ) هوان ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم
ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال. (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا
وزخارفها.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ
مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا
تَعْبُدُونَ)(٢٨)
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) عطف على قوله (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى) على مذهب من يجوز : في الدار زيد والحجرة عمرو ، أو (الَّذِينَ) مبتدأ ، والخبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِها) على تقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ،
أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل
أو التضعيف أو (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ) ، أو (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ) وما بينهما اعتراض ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ خبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع ، أو بمثلها
على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها. (وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ) وقرئ بالياء. (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ عاصِمٍ) ما من أحد يعصمهم من سخط الله ، أو من جهة الله ومن عنده
كما يكون للمؤمنين. (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) غطيت. (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً
مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لفرط سوادها وظلمتها ومظلما حال من الليل والعامل فيه (أُغْشِيَتْ) لأنه العامل في (قِطَعاً) وهو موصوف بالجار والمجرور ، والعامل في الموصوف عامل في
الصفة أو معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ). وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطَعاً) بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون (مُظْلِماً) صفة له أو حالا منه. (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مما يحتج به الوعيدية. والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال
السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة
فلا يتناولهم قسيمه.
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني الفريقين جميعا. (ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم. (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله. (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه وقرئ بالنصب على المفعول معه. (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم. (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ
إِيَّانا تَعْبُدُونَ) مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في
الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به. وقيل ينطق الله الأصنام
فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها. وقيل المراد بالشركاء الملائكة
والمسيح وقيل الشياطين.
(فَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩)
هُنالِكَ
تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)
(فَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فإنه العالم بكنه الحال. (إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. (هُنالِكَ) في ذلك المقام. (تَبْلُوا كُلُّ
نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه وضره. وقرأ حمزة
والكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت ، أو من التلو أي تتبع عملها
فيقودها إلى الجنة أو إلى النار. وقرئ «نبلو» بالنون ونصب (كُلُ) وإبدال (ما) منه والمعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها
المتعرف لسعادتها وشقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها ، ويجوز أن يراد به نصيب
بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون (ما) منصوبة بنزع الخافض. (وَرُدُّوا إِلَى
اللهِ) إلى جزائه إياهم بما أسلفوا. (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى ، وقرئ «الحقّ»
بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم. (ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) من أن آلهتهم تشفع لهم ، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ)(٣٢)
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد
أرضية أو (مَنْ) كل واحد منهما توسعة عليكم. وقيل من لبيان من على حذف
المضاف أي من أهل السماء
والأرض. (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ) أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما ، أو من يحفظهما من الآفات
مع كثرتها وسرعة انفعالها من أدنى شيء. (وَمَنْ يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ومن يحيي ويميت ، أو من ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة
منه. (وَمَنْ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ) ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه. (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
(فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت
ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم. (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
الضَّلالُ) استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق
الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال.
(كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣٤)
(كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي كما حقت الربوبية لله أو أن الحق بعده الضلال ، أو أنهم
مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة الله وحكمه. وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» هنا وفي
آخر السورة وفي «غافر» (عَلَى الَّذِينَ
فَسَقُوا) تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح. (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من الكلمة ، أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة
بالعذاب.
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ
مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) جعل الإعادة كالابداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن لم
يساعدوا عليها ، ولذلك أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم أن ينوب عنهم في الجواب فقال (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن قصد السبيل.
(قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ
يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)
(قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام والتوفيق
للنظر والتدبر ، وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على
أن المنتهى غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك عدى بها ما
أسند إلى الله تعالى. (قُلِ اللهُ يَهْدِي
لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا
يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم :
هدي بنفسه إذا
اهتدى ، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة
والمسيح وعزير ، وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر يهدي بفتح الهاء وتشديد
الدال. ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد والأصل يهتدي فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء
أو كسرت لالتقاء الساكنين. وروى أبو بكر يهدي باتباع الياء الهاء. وقرأ أبو عمرو
بالإدغام المجرد ولم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك. وعن نافع
برواية قالون مثله وقرئ «إلا أن يهدي» للمبالغة (فَما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) بما يقتضي صريح العقل بطلانه. (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) فيما يعتقدونه. (إِلَّا ظَنًّا) مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على
الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ، والمراد بالأكثر الجميع أو من
ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف. (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) من العلم والاعتقاد
الحق. (شَيْئاً) من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به و (مِنَ الْحَقِ) حالا منه ، وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب
والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما يَفْعَلُونَ) وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان.
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣٨)
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) افتراء من الخلق. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها ولا
يكون كذبا كيف وهو لكونه معجزا دونها عيّار عليها شاهد على صحتها ، ونصبه بأنه خبر
لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره : ولكن أنزله الله تصديق الذي. وقرئ بالرفع
على تقدير ولكن هو تصديق. (وَتَفْصِيلَ
الْكِتابِ) وتفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. (لا رَيْبَ فِيهِ) منتفيا عنه الريب وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك ،
ويجوز أن يكون حالا من الكتاب فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر آخر تقديره كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو
تفصيل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض أو بالفعل المعلل بهما ويجوز أن يكون حالا من
الكتاب أو من الضمير في (فِيهِ) ، ومساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب
اتباعه والبرهان عليه.
(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون. (افْتَراهُ) محمد صلىاللهعليهوسلم ومعنى الهمزة فيه للإنكار. (قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم
مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا في النظم والعبارة. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى فإنه وحده قادر على ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه اختلقه.
(بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(٣٩)
(بَلْ كَذَّبُوا) بل سارعوا إلى التكذيب. (بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ) بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم
بشأنه ، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم.
(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ) ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، أو
ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ،
والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن
يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه
لما كرر عليهم التحدي
فزادوا قواهم في
معارضته فتضاءلت دونها ، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم
يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا. (كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ) فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٤١)
(وَمِنْهُمْ) ومن المكذبين. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) من يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند ، أو من
سيؤمن به ويتوب عن
الكفر. (وَمِنْهُمْ مَنْ لا
يُؤْمِنُ بِهِ) في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره ، أو فيما يستقبل بل يموت
على الكفر ، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين أو المصرين.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة. (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) فتبرأ منهم فقد أعذرت ، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء
عملكم حقا كان أو باطلا. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، ولما فيه من إيهام
الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا
يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)(٤٣)
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي
لا يسمع أصلا. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَ) تقدر على إسماعهم. (وَلَوْ كانُوا لا
يَعْقِلُونَ) ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم. وفيه تنبيه على أن حقيقة
استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم ، وهو لا يتأتى
إلا باستعمال العقل السليم في تدبره وعقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة
الإلف والتقليد ، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ
عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْظُرُ إِلَيْكَ) يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) تقدر على هدايتهم. (وَلَوْ كانُوا لا
يُبْصِرُونَ) وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من
الإبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة ، ولذلك يحدس الأعمى
المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري
والإعراض عنهم.
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ
بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ)
(٤٥)
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بسلب حواسهم وعقولهم. (وَلكِنَّ النَّاسَ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإفسادها وتفويت منافعها عليهم ، وفيه دليل على أن للعبد
كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة ، ويجوز أن يكون وعيدا
لهم بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم
ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالتخفيف ورفع الناس.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون ،
والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة ، أو صفة
ليوم والعائد محذوف تقديره : كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف ، أي : حشرا كأن
لم يلبثوا قبله. (يَتَعارَفُونَ
بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا ، وهذا أول
ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة ، أو بيان لقوله :
(كَأَنْ لَمْ
يَلْبَثُوا) أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ) استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه ، ويجوز أن يكون
حالا من الضمير في يتعارفون على إرادة القول. (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف
فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم.
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)
وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ
رَسُولٌ
فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٤٧)
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) نبصرنك. (بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك. (فَإِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة وهو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ) وجواب (نُرِيَنَّكَ) محذوف مثل فذاك. (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ) مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها
على الرجوع ب (ثُمَ) ، أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية. (رَسُولٌ) يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحق. (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) بالبينات فكذبوه. (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الرسول ومكذبيه. (بِالْقِسْطِ) بالعدل فأنجي الرسول وأهلك المكذبون. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وقيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء
رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين وعقاب
الكفار لقوله : (وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ) استبعادا له واستهزاء به. (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) خطاب منهم للنبيصلىاللهعليهوسلم والمؤمنين.
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن أملكه أو ولكن ما شاء الله من ذلك كائن. (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مضروب لهلاكهم. (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخرون ولا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم وينجز
وعدكم.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(٥١)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) الذي تستعجلون به. (بَياتاً) وقت بيات واشتغال بالنوم. (أَوْ نَهاراً) حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم. (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ) أي شيء من العذاب يستعجلونه ، وكله مكروه لا يلائم
الاستعجال وهو متعلق ب (أَرَأَيْتُمْ) لأنه بمعنى أخبروني ، والمجرمون وضع موضع الضمير للدلالة
على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه ، وجواب الشرط
محذوف وهو تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا خطأه ، ويجوز أن يكون الجواب ماذا
كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني وتكون الجملة متعلقة ب (أَرَأَيْتُمْ) أو بقوله :
(أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم
الإيمان ، وماذا يستعجل اعتراض ودخول حرف الاستفهام على «ثم» لإنكار التأخير. (آلْآنَ) على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب
آلآن آمنتم به. وعن نافع (آلْآنَ) بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام. (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) تكذيبا واستهزاء.
(ثُمَّ قِيلَ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٥٣)
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) عطف على قيل المقدر. (ذُوقُوا عَذابَ
الْخُلْدِ) المؤلم على الدوام. (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) ويستخبرونك. (أَحَقٌّ هُوَ) أحق ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة تقوله بجد أم باطل
تهزل به قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة ، والأظهر أن الاستفهام فيه على أصله لقوله
: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) وقيل إنه للإنكار ويؤيده أنه قرئ «آلحق هو» فإن فيه تعريضا
بأنه باطل ، وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر أو خبر مقدم والجملة في
موضع النصب ب (يَسْتَنْبِئُونَكَ). (قُلْ إِي وَرَبِّي
إِنَّهُ لَحَقٌ) إن العذاب لكائن أو ما ادعيته لثابت. وقيل كلا الضميرين
للقرآن ، وإي بمعنى نعم وهو من لوازم القسم ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال إي
والله ولا يقال إي وحده. (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) بفائتين العذاب.
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٥٤)
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالشرك أو التعدي على الغير (ما فِي الْأَرْضِ) من خزائنها وأموالها.
(لَافْتَدَتْ بِهِ) لجعلته فدية لها من العذاب ، من قولهم افتداه بمعنى فداه. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) لأنهم بهتوا بما عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الأمر
وهوله فلم يقدروا أن ينطقوا. وقيل (أَسَرُّوا النَّدامَةَ) أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها ، أو لأنه يقال سر الشيء
لخالصته من حيث إنها تخفى ويضن بها. وقيل أظهروها من قولهم أسر الشيء وأشره إذا
أظهره. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ليس تكريرا لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم والثاني
مجازاة المشركين على الشرك أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين ، والضمير إنما
يتناولهم لدلالة الظلم عليهم.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٥٦)
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يعلمون لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.
(هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ) في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا
تزول قدرته ، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت لهما أبدا. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالموت أو النشور.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن
الأعمال ومقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح ، والحكمة النظرية التي
هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة
للمؤمنين ، حيث أنزلت عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان ، وتبدلت
مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان ، والتنكير فيها للتعظيم.
(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ) بإنزال القرآن ، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته
فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا ، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد
الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه (قَدْ جاءَتْكُمْ) ، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى
الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا
أو للربط بما
قبلها ، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها
للتأكيد كقوله :
وإذا هلكت فعند
ذلك فاجزعي
وعن يعقوب «فلتفرحوا»
بالتاء على الأصل المرفوض ، وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرئ «فافرحوا». (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك. وقرأ
ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها
المخاطبون.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) جعل الرزق منزلا لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها ،
وما في موضع النصب ب (أَنْزَلَ) أو ب (أَرَأَيْتُمْ) فإنه بمعنى أخبروني ، ولكم دل على أن المراد منه ما حل
ولذلك وبخ على التبعيض فقال : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَراماً وَحَلالاً) مثل : (هذِهِ أَنْعامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [وعند قوله تعالى] (ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا)
(قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ) في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه. (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب (أَرَأَيْتُمْ) وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار ، و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله.
(وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي شيء ظنهم. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أيحسبون أن لا
يجازوا عليه ، وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن ، وفي
إبهام الوعيد تهديد عظيم (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة.
(وَما تَكُونُ فِي
شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ
مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦١)
(وَما تَكُونُ فِي
شَأْنٍ) ولا تكون في أمر ، وأصله الهمز من شأنت شأنه إذا قصدت قصده
والضمير في (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول ، أو لأن القراءة
تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو (مِنْ قُرْآنٍ) على أن (مِنْ) تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل (قُرْآنٍ) ، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله. (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ، ولذلك ذكر حيث خص
ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير. (إِلَّا كُنَّا
عَلَيْكُمْ شُهُوداً) رقباء مطلعين عليه. (إِذْ تُفِيضُونَ
فِيهِ) تخوضون فيه وتندفعون. (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ) ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي
هنا وفي «سبأ». (مِنْ مِثْقالِ
ذَرَّةٍ) موازن نملة صغيرة أو هباء. (فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ) أي في الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف ممكنا غيرهما
ليس فيهما ولا متعلقا بهما ، وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه
البرهان على إحاطة علمه بها. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كلام برأسه مقرر لما قبله و (لا) نافية و (أَصْغَرَ) اسمها و (فِي كِتابٍ) خبرها. وقرأ
حمزة ويعقوب
بالرفع على الابتداء والخبر ، ومن عطف على لفظ (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار
جعل الاستثناء منقطعا ، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
(أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
الَّذِينَ
آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٦٤)
(أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ) الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه. (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) لفوات مأمول. والآية كمجمل فسره قوله :
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) وقيل الذين آمنوا وكانوا يتقون بيان لتوليهم إياه.
(لَهُمُ الْبُشْرى فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما بشر به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم وما يريهم من الرؤيا الصالحة وما يسنح لهم من المكاشفات ،
وبشرى الملائكة عند النزع. (وَفِي الْآخِرَةِ) بتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة بيان
لتوليه لهم ، ومحل (الَّذِينَ آمَنُوا) النصب أو الرفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على
الابتداء وخبره (لَهُمُ الْبُشْرى). (لا تَبْدِيلَ
لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده. (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم
شأنه ، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
(وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٥)
(وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم. وقرأ نافع (يَحْزُنْكَ) من أحزنه وكلاهما بمعنى. (إِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل
لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو
يقهرهم وينصرك عليهم. (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْعَلِيمُ) بعزماتهم فيكافئهم عليها.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٦٧)
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف
الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندا
أو شريكا فهو كالدليل على قوله : (وَما يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء ، ويجوز أن
يكون (شُرَكاءَ) مفعول (يَدْعُونَ) ومفعول (يَتَّبِعُ) محذوف دل عليه. (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ، ويجوز
أن تكون (ما) استفهامية منصوبة ب (يَتَّبِعُ) أو موصولة معطوفة على من وقرئ «تدعون» بالتاء الخطابية
والمعنى : أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، أي إنهم لا
يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابه لبيان
سندهم ومنشأ رأيهم. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء
تقديرا باطلا.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) تنبيه على كمال قدرته وعظم نعمته المتوحد هو
بهما ليدلهم على
تفرده باستحقاق العبادة ، وإنما قال (مُبْصِراً) ولم يقل لتبصروا فيه تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي
هو سبب. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واعتبار.
(قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ)(٦٨)
(قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً) أي تبناه. (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد
وتعجب من كلمتهم الحمقاء. (هُوَ الْغَنِيُ) علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) تقرير لغناه. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ بِهذا) نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا
لبطلان قولهم ، و (بِهذا) متعلق ب (سُلْطانٍ) أو نعت (لَهُ) أو ب (عِنْدَكُمْ) كأنه قيل : إن عندكم في هذا من سلطان. (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم. وفيه دليل على أن كل
قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير
سائغ.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي
الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ
بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه. (لا يُفْلِحُونَ) لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة.
(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف أي افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به
رئاستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم ، (مَتاعٌ) مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت فيلقون الشقاء المؤبد. (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ
بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي
وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(٧١)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ) خبره مع قومه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) عظم عليكم وشق. (مَقامِي) نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان ، أو كوني وإقامتي بينكم
مدة مديدة أو قيامي على الدعوة. (وَتَذْكِيرِي) إياكم. (بِآياتِ اللهِ
فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) وثقت به. (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ) فأعزموا عليه.
(وَشُرَكاءَكُمْ) أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على الضمير
المتصل ، وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على (أَمْرَكُمْ) بحذف المضاف أي وأمر شركائكم. وقيل إنه منصوب بفعل محذوف
تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به ، وعن نافع (فَأَجْمِعُوا) من الجمع ، والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده
والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم. (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) في قصدي. (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا واجعلوه ظاهرا مكشوفا ، من غمه إذا ستره أو ثم لا
يكن حالكم عليكم غما إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. (ثُمَّ اقْضُوا) أدوا. (إِلَيَ) ذلك الأمر الذي تريدون بي ، وقرئ «ثم أفضوا إليّ» بالفاء
أي انتهوا إليّ بشركم أو ابرزوا إلي ، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء. (وَلا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(٧٢) فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)(٧٣)
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيري. (فَما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ) يوجب توليكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله ، أو يفوتني
لتوليكم. (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي على الدعوة والتذكير. (إِلَّا عَلَى اللهِ) لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره. (فَكَذَّبُوهُ) فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة وبين أن توليهم ليس
إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب. (فَنَجَّيْناهُ) من الغرق. (وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ) وكانوا ثمانين. (وَجَعَلْناهُمْ
خَلائِفَ) من الهالكين به. (وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان. (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلىاللهعليهوسلم وتسلية له.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)
(ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح. (رُسُلاً إِلى
قَوْمِهِمْ) كل رسول إلى قومه. (فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان
الله إياهم. (بِما كَذَّبُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ) أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل
عليهم الصلاة والسلام. (كَذلِكَ نَطْبَعُ
عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف ، وفي أمثال
ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
فَلَمَّا
جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)(٧٦)
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ) من بعد هؤلاء الرسل. (مُوسى وَهارُونَ إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) بالآيات التسع. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعهما. (وَكانُوا قَوْماً
مُجْرِمِينَ) معتادين الإجرام فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترءوا على
ردها.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك. (قالُوا) من فرط تمردهم. (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ
مُبِينٌ) ظاهر أنه سحر ، أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوانه.
(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)(٧٧)
(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) إنه لسحر فحذف المحكي المقول لدلالة ما قبله عليه ، ولا
يجوز أن يكون. (أَسِحْرٌ هذا) لأنهم بتوا القول بل هو استئناف بإنكار ما قالوه اللهم إلا
أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكي مفهوم قولهم ، ويجوز أن يكون معنى (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) أتعيبونه من قولهم
فلان يخاف القالة كقوله تعالى : (سَمِعْنا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ) فيستغني عن المفعول.
(وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر فإنه لو كان
سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة ، ولأن العالم بأنه لا يفلح الساحر لا يسحر ، أو
من تمام قولهم إن جعل أسحر هذا محكيا كأنهم قالوا أجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح
ولا يفلح الساحرون.
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ
فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ(٧٨)
وَقالَ
فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(٨٠)
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا واللفت والفتل أخوان. (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام. (وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر ، أو التكبر على
الناس باستتباعهم. (وَما نَحْنُ لَكُما
بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين فيما جئتما به.
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ) وقرأ حمزة والكسائي بكل «سحار». (عَلِيمٍ) حاذق فيه. (فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).
(فَلَمَّا أَلْقَوْا
قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)
وَيُحِقُّ
اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢)
(فَلَمَّا أَلْقَوْا
قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا.
وقرأ أبو عمرو (السِّحْرُ) على أن (ما) استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها و (السِّحْرُ) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر ، أو مبتدأ
خبره محذوف أي السحر هو. ويجوز أن ينتصب ما بفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء
أتيتم. (إِنَّ اللهَ
سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه أو سيظهر بطلانه. (إِنَّ اللهَ لا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه
لا حقيقة له.
(وَيُحِقُّ اللهُ
الْحَقَ) ويثبته. (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه وقرئ «بكلمته». (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.
(فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ
يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ)(٨٣)
(فَما آمَنَ لِمُوسى) أي في مبدأ أمره. (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ
مِنْ قَوْمِهِ) إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه
خوفا من فرعون إلا طائفة من شبانهم ، وقيل الضمير ل (فِرْعَوْنَ) والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به ، أو مؤمن آل فرعون
وامرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطته (عَلى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي مع خوف منهم ، والضمير ل (فِرْعَوْنَ) وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء ، أو على أن
المراد ب (فِرْعَوْنَ) آله كما يقال : ربيعة ومضر ، أو لل (ذُرِّيَّةٌ) أو للقوم. (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أن يعذبهم فرعون ، وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده
بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ
لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فيها. (وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ) في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء.
(وَقالَ مُوسى يا
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى
اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)
(وَقالَ مُوسى) لما رأى تخوف المؤمنين به. (يا قَوْمِ إِنْ
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فثقوا به واعتمدوا عليه. (إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ) مستسلمين لقضاء الله مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم
بشرطين ، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام
حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت.
(فَقالُوا عَلَى اللهِ
تَوَكَّلْنا) لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً)
موضع فتنة. (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
(وَنَجِّنا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم ، وفي تقديم التوكل على الدعاء
تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا لتجاب دعوته.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
(٨٧)
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) أي اتخذا مباءة. (لِقَوْمِكُما
بِمِصْرَ بُيُوتاً) تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة. (وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما. (بُيُوتَكُمْ) تلك البيوت. (قِبْلَةً) مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة ، وكان
موسى صلىاللهعليهوسلم يصلي إليها. (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) فيها ، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة
فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى ، وإنما ثنى الضمير
أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ، ثم جمع لأن
جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم وحد لأن البشارة في
الأصل وظيفة صاحب الشريعة.
(وَقالَ مُوسى رَبَّنا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)
(وَقالَ مُوسى رَبَّنا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما. (وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وأنواعا من المال. (رَبَّنا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا
يكون غيره كقولك : لعن الله إبليس. وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب (آتَيْتَ) ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج
وتثبيت على الضلال ، ولأنهم لما جعلوها سببا للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون (رَبَّنا) تكريرا للأول تأكيدا وتنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم
وكفرانهم تقدمة لقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أهلكها ، والطمس المحق وقرئ (اطْمِسْ) بالضم. (وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ) أي واقسها اطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي ، أو عطف على (لِيُضِلُّوا) وما بينهم دعاء معترض.
(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُما) يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن. (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ، ولا
تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته. روي : أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين
سنة. (وَلا تَتَّبِعانِّ
سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد
الله تعالى ، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان (وَلا تَتَّبِعانِ) بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ، (وَلا تَتَّبِعانِ) من تبع (وَلا تَتَّبِعانِ) أيضا.
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً
حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٩١)
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم ، وقرئ
«جوّزنا» وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف. (فَأَتْبَعَهُمْ) فأدركهم يقال تبعته حتى أتبعته. (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْياً
وَعَدْواً) باغين وعادين ، أو للبغي والعدو وقرئ «وعدوّا». (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) لحقه. (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي بأنه. (لا إِلهَ إِلَّا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقرأ حمزة والكسائي أنه بالكسر على إضمار القول أو
الاستئناف بدلا وتفسيرا ل (آمَنْتُ) فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل.
(آلْآنَ) أتؤمن الآن وقد
أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. (وَقَدْ عَصَيْتَ
قَبْلُ) قبل ذلك مدة عمرك. (وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ) الضالين المضلين عن الإيمان.
(فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)
(فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ) ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ، أو
نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل. وقرأ يعقوب (نُنَجِّيكَ) من أنجى ، وقرئ «ننحيك» بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل.
(بِبَدَنِكَ) في موضع الحال أي ببدنك عاريا عن الروح ، أو كاملا سويا أو
عريانا من غير لباس. أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرئ «بأبدانك» أي
بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها. (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من
عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك ، حتى كذبوا موسى عليهالسلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل
، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن
الطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء
الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية. وقرئ «لمن خلقك» أي لخالقك آية أي كسائر
الآيات فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك
وإماطة الشبهة في أمرك. وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته ، وهذا الوجه أيضا
محتمل على المشهور. (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا
اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا. (بَنِي إِسْرائِيلَ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلا صالحا مرضيا وهو الشأم ومصر. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ. (فَمَا اخْتَلَفُوا
حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرءوا التوراة
وعلموا أحكامها ، أو في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ
(٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٩٥)
(فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من القصص على سبيل الفرض والتقدير. (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك ،
والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها ،
أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه ، أو تهييج الرسول صلىاللهعليهوسلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة
والسلام : «لا أشك ولا أسأل». وقيل الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها
السامع في شك مما
نزلنا على لسان نبينا إليك ، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي
أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم. (لَقَدْ جاءَكَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) واضحا أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ).
(إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧)
(إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) ثبتت عليهم. (كَلِمَتُ رَبِّكَ) بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب. (لا يُؤْمِنُونَ) إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
(وَلَوْ جاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ) فإن السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به
مفقود. (حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون.
(فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ)(٩٨)
(فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ) فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة
العذاب ، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون. (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لكن قوم يونس عليهالسلام. (لَمَّا آمَنُوا) أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض
معناه ، فيكون الاستثناء متصلا لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال : ما آمن أهل
قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ، ويؤيده قراءة الرفع على
البدل. (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) إلى آجالهم. روي : (أن يونس عليهالسلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل ، فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم
بالعذاب إلى ثلاث. وقيل إلى ثلاثين. وقيل إلى أربعين ، فلما دنا الموعد أغامت
السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم ، فهابوا فطلبوا يونس فلم
يجدوه فأيقنوا صدقه ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم
ودوابهم ، وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج
وأخلصوا التوبة وأظهروا الإيمان وتضرعوا إلى الله تعالى ، فرحمهم وكشف عنهم وكان
يوم عاشوراء يوم الجمعة).
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٩٩)
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) بحيث لا يشذ منهم أحد. (جَمِيعاً) مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه ، وهو دليل على
القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين ، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة ،
والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ) بما لم يشأ الله منهم. (حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام
للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن
تحصيله بالإكراه عليه فضلا عن الحث والتحريض عليه ؛ إذ روي أنه كان حريصا على
إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت. ولذلك قرره بقوله :
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ)(١٠١)
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ) بالله. (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه
إلى الله. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب أو الخذلان فإنه سببه. وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر «ونجعل»
بالنون. (عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ) لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات ، أو لا
يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله :
(قُلِ انْظُرُوا) أي تفكروا. (ما ذا فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال قدرته ، و (ما ذا) إن جعلت استفهامية علقت (انْظُرُوا) عن العمل. (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله وحكمه (وَما) نافية أو استفهامية في موضع النصب.
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ
إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
ثُمَّ
نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ
إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من
قولهم أيام العرب لوقائعها. (قُلْ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لذلك أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم.
(ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على محذوف دل عليه (إِلَّا مِثْلَ
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم ، على
حكاية الحال الماضية. (كَذلِكَ حَقًّا
عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) كذلك الإنجاء أو إنجاء كذلك ننجي محمدا وصحبه حين نهلك
المشركين ، و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض ونصبه بفعله المقدر. وقيل بدل من كذلك. وقرأ حفص
والكسائي (نُنَجِّي) مخففا.
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٥)
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ) خطاب لأهل مكة. (إِنْ كُنْتُمْ فِي
شَكٍّ مِنْ دِينِي) وصحته. (فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ) فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا فاعرضوها على العقل الصرف
وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ،
ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) بما دل عليه العقل ونطق به الوحي ، وحذف الجار من أن يجوز
أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله:
أمرتك الخير
فافعل ما أمرت به
|
|
فقد تركتك ذا
مال وذا نسب
|
(وَأَنْ
أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف على (أَنْ أَكُونَ) غير (أَنْ) صلة (أَنْ) محكية بصيغة الأمر ، ولا فرق بينهما في الغرض لأن المقصود
وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه ، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر
منها والطلب ، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض ،
والانتهاء عن القبائح ، أو في الصلاة باستقبال القبلة. (حَنِيفاً) حال من الدين أو الوجه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ).
(وَلا تَدْعُ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً
مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ
بِضُرٍّ
فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ
يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧)
(وَلا تَدْعُ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بنفسه إن دعوته أو خذلته. (فَإِنْ فَعَلْتَ) فإن دعوته (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ
الظَّالِمِينَ) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء.
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ) وإن يصبك به. (فَلا كاشِفَ لَهُ) يرفعه. (إِلَّا هُوَ) إلا الله. (وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ) فلا دافع. (لِفَضْلِهِ) الذي أرادك به ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر
مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد
الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا
استحقاق لهم عليه ، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. (يُصِيبُ بِهِ) بالخير. (مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) رسوله أو القرآن ولم يبق لكم عذر. (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان والمتابعة. (فَإِنَّما يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ) لأن نفعه لها. (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر بهما. (فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) لأن وبال الضلال عليها. (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ موكول إلى أمركم ، وإنما أنا بشير ونذير.
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ) بالامتثال والتبليغ. (وَاصْبِرْ) على دعوتهم وتحمل أذيتهم. (حَتَّى يَحْكُمَ
اللهُ) بالنصرة أو بالأمر بالقتال. (وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على
الظواهر. عن النبي صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة يونس
أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون».
(١١) سورة هود
مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(١)
(الر كِتابٌ) مبتدأ وخبر أو (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف. (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ،
أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ ، أو أحكمت
بالحجج والدلائل أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لأنها مشتملة على
أمهات الحكم النظرية والعملية. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار ، أو
بجعلها سورا أو بالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه. وقرئ «ثمّ
فصّلت» أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته (ثُمَّ فُصِّلَتْ) على البناء للمتكلم ، و (ثُمَ) للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار. (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة أخرى ل (كِتابٌ) ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل (أُحْكِمَتْ) أو (فُصِّلَتْ) ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار
ما ظهر أمره وما خفي.
(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(٣)
(أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) لأن لا تعبدوا. وقيل أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى
القول ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة
الغير كأنه قيل : ترك عبادة غير الله بمعنى ألزموه أو اتركوها تركا. (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) من الله. (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. (وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عطف على ألا تعبدوا. (ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ) ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا
بد له من الرجوع. وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة ، ويجوز أن
يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين. (يُمَتِّعْكُمْ
مَتاعاً حَسَناً) يعيشكم في أمن ودعة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو آخر أعماركم المقدرة ، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال
والأرزاق والآجال ، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإضافة إلى كل أحد فلا
تتغير. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلَهُ) ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة ، وهو
وعد للموحد التائب بخير الدارين. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تتولوا. (فَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة ، وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف. وقرئ (وَإِنْ تَوَلَّوْا) من ولي.
(إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
أَلا
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ)(٥)
(إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم في ذلك اليوم وهو شاذ عن القياس. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر
على تعذيبكم أشد
عذاب وكأنه تقدير لكبر اليوم.
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يثنونها عن الحق وينحرفون عنه ، أو يعطفونها على الكفر
وعداوة النبيصلىاللهعليهوسلم ، أو يولون ظهورهم. وقرئ «يثنوني» بالياء والتاء من اثنوني
، وهو بناء مبالغة. و «تثنون» ، وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف أراد به
ضعف قلوبهم أو مطاوعة صدورهم للثني ، و «يثنئن» من اثنأن كأبياض بالهمزة و «تثنوي».
(لِيَسْتَخْفُوا
مِنْهُ) من الله بسرهم فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل إنها
نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا
صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم. وقيل نزلت في المنافقين وفيه نظر إذ الآية مكية والنفاق حدث
بالمدينة. (أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) ألا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم. (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في قلوبهم. (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى
يظهرونه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) بالأسرار ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها.
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)
(٦)
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه تفضلا ورحمة ، وإنما أتى بلفظ
الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه. (وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أماكنها في الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام أو
مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة.
(كُلٌ) كل واحد من الدواب وأحوالها. (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) مذكور في اللوح المحفوظ ، وكأنه أريد بالآية بيان كونه
عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا
للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ
مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)
(وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي خلقهما وما فيهما كما مر بيانه في «الأعراف» ، أو ما في
جهتي العلو والسفل وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون
السفليات. (وَكانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما لا أنه كان موضوعا على متن
الماء ، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا
العالم. وقيل كان الماء على متن الريح والله أعلم بذلك. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) متعلق ب (خَلَقَ) أي خلق ذلك كخلق من خلق ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم
كيف تعملون ، فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم
ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها ، وإنما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه
من معنى العلم من حيث إنه طريق إليه كالنظر والاستماع ، وإنما ذكر صيغة التفضيل
والاختبار شامل لفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح للتحريض على أحاسن المحاسن ،
والتحضيض على الترقي دائما في مراتب العلم والعمل فإن المراد بالعمل ما يعم عمل
القلب والجوارح ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم «أيكم أحسن عقلا
وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله». والمعنى أيكم أكمل علما وعملا. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ
مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) أي ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا
كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» على أن الإشارة إلى
القائل. وقرئ (إِنَّكُمْ) بالفتح على تضمن قلت معنى ذكرت أو أن يكون أن بمعنى على أي
ولئن قلت علّكم مبعوثون ، بمعنى توقعوا بعثكم ولا تبتوا بإنكاره لعدوه من قبيل ما
لا حقيقة له مبالغة في إنكاره.
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا
يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ) الموعود. (إِلى أُمَّةٍ
مَعْدُودَةٍ) إلى جماعة من الأوقات قليلة. (لَيَقُولُنَ) استهزاء. (ما يَحْبِسُهُ) ما يمنعه من الوقوع. (أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ) كيوم بدر. (لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ) ليس العذاب مدفوعا عنهم ، و (يَوْمَ) منصوب بخبر (لَيْسَ) مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها. (وَحاقَ بِهِمْ) وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في
التهديد. (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون ، فوضع (يَسْتَهْزِؤُنَ) موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء.
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)
إِلاَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ)(١١)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها. (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) ثم سلبنا تلك النعمة منه. (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به. (كَفُورٌ) مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة.
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم ، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا
تخفى. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي المصائب التي ساءتني. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بطر بالنعم مغتر بها. (فَخُورٌ) على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها ، وفي لفظ الإذاقة
والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده
في الآخرة ، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس
مبتدأ الوصول.
(إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا) على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) شكرا لآلائه سابقها ولاحقها. (أُولئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس
فإذا كان محلى باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل
الاستثناء منقطعا.
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٢)
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين
مخافة ردهم واستهزائهم به ، ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه
لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ
ها هنا. (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) وعارض لك أحيانا ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة. (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه في الاستتباع كالملوك. (أَوْ جاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ) يصدقه وقيل الضمير في (بِهِ) مبهم يفسره (أَنْ يَقُولُوا). (إِنَّما أَنْتَ
نَذِيرٌ) ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو
اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم
وأفعالهم.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ
(١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٤)
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ أَمْ) منقطعة والهاء ل (ما يُوحى). (قُلْ فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في البيان وحسن النظم تحداهم أولا بعشر سور ثم لما عجزوا
عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة ، وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة. (مُفْتَرَياتٍ) مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي
فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم أقدر لتعلمكم القصص
والأشعار وتعودكم القريض والنظم. (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى المعاونة على المعارضة. (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أنه مفترى (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) بإتيان ما دعوتم إليه ، وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلىاللهعليهوسلم أو لأن المؤمنين كانوا أيضا يتحدونهم ، وكان أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم متناولا لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا ما
خصه الدليل ، وللتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم فلا يغفلون
عنه ولذلك رتب عليه قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما
أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) واعلموا أن لا إله إلا الله لأنه العالم القادر بما لا
يعلم ولا يقدر عليه غيره ، ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة
بإعجازه عليه ، وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إذا تحقق عندكم
إعجازه مطلقا ، ويجوز أن يكون الكل خطابا للمشركين والضمير في (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) لمن استطعتم أي فإن لم يستجيبوا لكم إلى المظاهرة لعجزهم
وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا أنه نظم لا يعلمه إلا الله ، وأنه
منزل من عنده وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد
قيام الحجة القاطعة ، وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب
والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٦)
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بإحسانه وبره. (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمالَهُمْ فِيها) نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة
الرزق وكثرة الأولاد. وقرئ «يوف» بالياء أي يوف الله و «توف» على البناء للمفعول و
«نوف» بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله :
وإن أتاه كريم
يوم مسغبة
|
|
يقول لا غائب
مالي ولا حرم
|
(وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون شيئا من أجورهم. والآية في أهل الرياء. وقيل في
المنافقين. وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) مطلقا في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور
أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها) لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة ، أو لم يكن لأنهم لم
يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص ، ويجوز تعليق الظرف ب (صَنَعُوا) على أن الضمير ل (الدُّنْيا). (وَباطِلٌ) في نفسه. (ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) لأنه لم يعمل على ما ينبغي ، وكأن كل واحدة من الجملتين
علة لما قبلها. وقرئ «باطلا» على أنه مفعول يعملون و (ما) إبهامية أو في معنى المصدر كقوله :
ولا خارجا من في
زور كلام
وبطل على الفعل.
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى
إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١٧)
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ،
والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن
يقارب بينهم في المنزلة ، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة
كمن كان يريد الحياة الدنيا ، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص. وقيل المراد به النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب. (وَيَتْلُوهُ) ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل. (شاهِدٌ مِنْهُ) شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن. (وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن. (كِتابُ مُوسى) يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق ، أو البينة هو
القرآن (وَيَتْلُوهُ) من التلاوة والشاهد جبريل ، أو لسان الرسول صلىاللهعليهوسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه. والضمير
في (يَتْلُوهُ) إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) جملة مبتدأة. وقرئ كتاب بالنصب عطفا على الضمير في (يَتْلُوهُ) أي يتلو القرآن
شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق كقوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ) ويقرأ من قبل القرآن التوراة. (إِماماً) كتابا مؤتما به في الدين. (وَرَحْمَةً) على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين. (أُولئِكَ) إشارة إلى من كان على بينة. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزابِ) من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. (فَالنَّارُ
مَوْعِدُهُ) يردها لا محالة. (فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ) من الموعد ، أو القرآن وقرئ (مِرْيَةٍ) بالضم وهما الشك. (إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لقلة نظرهم واختلال فكرهم.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ
وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ
اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)
الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ)(١٩)
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله. (أُولئِكَ) أي الكاذبون. (يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ) في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم. (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم ، وهو جمع شاهد كأصحاب
أو شهيد كأشراف جمع شريف. (هؤُلاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه. (وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن
يعوجوا بالردة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم
واختصاصهم به.
(أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما
كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(٢٢)
(أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ) يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون
أشد وأدوم. (يُضاعَفُ
لَهُمُ
الْعَذابُ) استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضّعف بالتشديد. (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لتصامهم عن الحق وبغضهم له. (وَما كانُوا
يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله ، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب. وقيل
هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله : (وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراض.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها ، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما
حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا أحد أبين وأكثر خسرانا منهم.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت وهو الأرض المطمئنة. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) دائمون.
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الكافر والمؤمن. (كَالْأَعْمى
وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات
الله ، وبالأصم لتصامه عن إسماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه ، وتشبيه
المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين باعتبار
وصفين ، أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما
والعاطف لعطف الصفة على الصفة كقوله :
الصّائح فالغانم
فالآئب
وهذا من باب اللف
والطباق. (هَلْ يَسْتَوِيانِ) هل يستوي الفريقان. (مَثَلاً) أي تمثيلا أو صفة أو حالا. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بضرب الأمثال والتأمل فيها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٢٦)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ) بأني لكم. قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالكسر على
إرادة القول. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص.
(أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) بدل من (إِنِّي لَكُمْ) ، أو مفعول مبين ، ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة ب (أَرْسَلْنا) أو ب (نَذِيرٌ). (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب لكن يوصف به العذاب وزمانه
على طريقة جد جده ونهاره صائم للمبالغة.
(فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ
اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧)
(فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أخساؤنا جمع أرذل فإنه بالغلبة صار مثل الاسم كالأكبر ، أو
أرذل جمع رذل. (بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهر الرأي من غير تعمق من البدو ، أو أول الرأي من البدء
، والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها. وقرأ أبو عمرو بالهمزة وانتصابه
بالظرف على حذف المضاف أي : وقت حدوث بادي الرأي ، والعامل فيه (اتَّبَعَكَ). وإنما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا
ظاهرا من
الحياة الدنيا كان
الأحظ بها أشرف عندهم والمحروم منها أرذل. (وَما نَرى لَكُمْ) لك ولمتبعيك. (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) إياك في دعوى النبوة وإياهم في دعوى العلم بصدقك فغلب
المخاطب على الغائبين.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
وَيا
قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما
أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي
أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٩)
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ كُنْتُ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) حجة شاهدة بصحة دعواي. (وَآتانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ) بإيتاء البينة أو النبوة. (فَعُمِّيَتْ
عَلَيْكُمْ) فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها
هي الرحمة ، أو لأن خفاءها يوجب خفاء النبوة ، أو على تقدير فعميت بعد البينة
وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (فَعُمِّيَتْ) أي أخفيت. وقرئ «فعماها» على أن الفعل لله. (أَنُلْزِمُكُمُوها) أنكرهكم على
الاهتداء بها. (وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ) لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، وحيث اجتمع ضميران وليس
أحدهما مرفوعا وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل.
(وَيا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. (مالاً) جعلا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا
عَلَى اللهِ) فإنه المأمول منه. (وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا) جواب لهم حين سألوا طردهم. (إِنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ) فيخاصمون طاردهم عنده ، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه
فكيف أطردهم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) بلقاء ربكم أو بأقدارهم أو في التماس طردهم ، أو تتسفهون
عليهم بأن تدعوهم أراذل.
(وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
وَلا
أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ
إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ
اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ)(٣١)
(وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) بدفع انتقامه. (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) وهم بتلك الصفة والمثابة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) رزقه وأمواله حتى جحدتم فضلي. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عطف على (عِنْدِي خَزائِنُ
اللهِ) أي : ولا أقول لكم أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعادا ،
أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ، وعلى الثاني
يجوز عطفه على أقول. (وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ) حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ) ولا أقول في شأن من استرذلتموهم لفقرهم. (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) فإن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ
إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن قلت شيئا من ذلك ، والازدراء به افتعال من زرى عليه إذا
عابه قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر وإسناده إلى الأعين للمبالغة ،
والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرؤية من غير روية بما عاينوا من رثاثة حالهم
وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم.
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ
بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٣٣)
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا) خاصمتنا. (فَأَكْثَرْتَ
جِدالَنا) فأطلته أو أتيت بأنواعه. (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) من
العذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر فينا.
(قالَ إِنَّما
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) عاجلا أو آجلا. (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) بدفع العذاب أو الهرب منه.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ
نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(٣٤)
أَمْ
يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا
بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)
(وَلا يَنْفَعُكُمْ
نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب قوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ) وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم ، فإن أردت أن
أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، ولذلك نقول لو قال الرجل أنت طالق إن دخلت الدار إن
كلمت زيدا فدخلت ثم كلمت لم تطلق ، وهو جواب لما أوهموا من جداله كلام بلا طائل.
وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده محال. وقيل (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم فهلك. (هُوَ رَبُّكُمْ) هو خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) وباله وقرئ «أجرامي» على الجمع. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي.
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ)(٣٧)
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن ولا تتأسف. (بِما كانُوا
يَفْعَلُونَ) أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من
التكذيب والإيذاء.
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا) ملتبسا بأعيننا ، عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء
ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل. (وَوَحْيِنا) إليك كيف تصنعها. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى كفه.
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ)(٣٨)
(تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٩)
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية. (وَكُلَّما مَرَّ
عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة
من الماء أوان عزته ، وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل المراد
بالسخرية الاستجهال.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يعني به إياهم وبالعذاب الغرق. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) وينزل عليه ، أو يحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه. (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم وهو عذاب النار.
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)(٤٠)
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا) غاية لقوله (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ
بعدها الكلام. (وَفارَ التَّنُّورُ) نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور ، و (التَّنُّورُ) تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في
الكوفة في موضع مسجدها ، أو في الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه
الأرض أو أشرف موضع فيها. (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها) في السفينة. (مِنْ كُلٍ) من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها. (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى
احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى. (وَأَهْلَكَ) عطف على (زَوْجَيْنِ) أو (اثْنَيْنِ) ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا
كافرين. (وَمَنْ آمَنَ) والمؤمنين من غيرهم. (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام
وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم. روي أنه عليه الصلاة
والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين
وسمكها ثلاثين ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها
الإنس وفي أعلاها الطير.
(وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٤١)
(وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها) أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في
الأرض. (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها) متصل ب (ارْكَبُوا) حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم
الله وقت إجرائها وإرسائها ، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو
المصدر ، والمضاف محذوف كقولهم : آتيك خفوق النجم ، وانتصابهما بما قدرناه حالا
ويجوز رفعهما ب (بِسْمِ اللهِ) على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر ، أي
إجراؤها (بِسْمِ اللهِ) على أن (بِسْمِ اللهِ) خبر أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها
بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء. وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم
الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست. ويجوز أن يكون الاسم مقحما
كقوله : ثمّ اسم السّلام عليكما. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص (مَجْراها) بالفتح من جرى وقرئ «مرساها» أيضا من رسا وكلاهما يحتمل
الثلاثة و «مجريها ومرسيها» بلفظ الفاعل صفتين لله. (إِنَّ رَبِّي
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
(وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا
بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)(٤٢)
(وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ) متصل بمحذوف دل عليه (ارْكَبُوا) فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها. (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) في موج من الطوفان ، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل
موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها ، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء
والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت ، والمشهور أنه علا شوامخ الجبال
خمسة عشر ذراعا وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق. (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان ، وقرئ «ابنها» و «ابنه» بحذف الألف على أن الضمير
لامرأته ، وكان ربيبه وقيل كان لغير رشدة لقوله تعالى : (فَخانَتاهُما) وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة
في الدين ، وقرئ «ابناه» على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف. (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه
إذا أبعده. (يا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنا) في السفينة ، والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء الإضافة
المحذوفة في جميع القرآن ، غير ابن كثير فإنه وقف عليها في «لقمان» في الموضع
الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل وعاصم فإنه فتح ها هنا اقتصارا على
الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة ، واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد
أدغم الباء في الميم أبو عمرو والكسائي وحفص لتقاربهما. (وَلا
تَكُنْ
مَعَ الْكافِرِينَ) في الدين والانعزال.
(قالَ سَآوِي إِلى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٤)
(قالَ سَآوِي إِلى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أن يغرقني (قالَ لا عاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) إلا الراحم وهو الله تعالى أو إلّا مكان من رحمهمالله وهم المؤمنون ، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه
يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة. وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة
كقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمهالله يعصمه. (وَحالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ) بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل. (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) فصار من المهلكين بالماء.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) نوديا بما ينادي به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به ،
تمثيلا لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر
المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره ، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه ،
والبلع النشف والإقلاع الإمساك. (وَغِيضَ الْماءُ) نقص. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين. (وَاسْتَوَتْ) واستقرت السفينة. (عَلَى الْجُودِيِ) جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل. روي أنه ركب السفينة
عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة. (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) هلاكا لهم ، يقال : بعد بعدا وبعدا ، إذا بعد بعدا بعيدا
بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، والآية في غاية الفصاحة
لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ،
وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه
مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر
عليها سوى الواحد القهار.
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ
أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٤٦)
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) وأراد نداءه بدليل عطف قوله : (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فإنه النداء. (وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُ) وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف ، وقد وعدت أن
تنجي أهلي فما حاله ، أو فما له لم ينج ، ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه. (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنك أعلمهم وأعدلهم ، أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على
أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع.
(قالَ يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد
فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
ترتع ما رتعت
حتى إذا ادّكرت
|
|
فإنّما هي إقبال
وإدبار
|
ثم بدل الفاسد
بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيهما وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله
عنه. وقرأ الكسائي ويعقوب (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) أي عمل عملا غير صالح. (فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا
لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه
في شأن ولده أو
استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال
وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر. وقرأ ابن كثير
بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله
تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء
بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل.
(قالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ(٤٧) قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٨)
(قالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) فيما يستقبل. (ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ) ما لا علم لي بصحته. (وَإِلَّا تَغْفِرْ
لِي) وإن لم تغفر لي ما فرط مني في السؤال. (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة والتفضل علي. (أَكُنْ مِنَ
الْخاسِرِينَ) أعمالا.
(قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) انزل من السفينة مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك.
(وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) ومباركا عليك أو زيادات في نسلك حتى تصير آدما ثانيا. وقرئ
«اهبط» بالضم «وبركة» على التوحيد وهو الخير النامي. (وَعَلى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ) وعلى أمم هم الذين معك ، سموا أمما لتحزبهم أو لتشعب الأمم
منهم ، أو وعلى أمم ناشئة ممن معك والمراد بهم المؤمنون لقوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا. (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة والمراد بهم الكفار من ذرية من معه. وقيل هم قوم
هود وصالح ولوط وشعيب ، والعذاب ما نزل بهم.
(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ
هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)
(تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي بعضها. (نُوحِيها إِلَيْكَ) خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك ، أو حال من ال (أَنْباءِ) أو هو الخبر و (مِنْ أَنْباءِ) متعلق به أو حال من الهاء في (نُوحِيها). (ما كُنْتَ تَعْلَمُها
أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك ،
أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في (إِلَيْكَ) أي : جاهلا أنت وقومك بها ، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم
يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم. (فَاصْبِرْ) على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح. (إِنَّ الْعاقِبَةَ) في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز. (لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك والمعاصي.
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠)
يا
قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٥١)
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً) عطف على قوله (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) و (هُوداً) عطف بيان (قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ) وحده. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) وقرئ بالجر حملا على المجرور وحده. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.
(يا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خاطب كل رسول به قومه إزاحة للتهمة
وتمحيضا للنصيحة
فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من
الخطأ.
(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
قالُوا
يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ
وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٥٣)
(وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اطلبوا مغفرة الله بالإيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضا
التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده. (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) كثير الدر. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً
إِلى قُوَّتِكُمْ) ويضاعف قوتكم ، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة
لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم
ثلاثين سنة فوعدهم هود عليهالسلام على الإيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل.
(وَلا تَتَوَلَّوْا) ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه. (مُجْرِمِينَ) مصرين على إجرامكم.
(قالُوا يا هُودُ ما
جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما
جاءهم من المعجزات. (وَما نَحْنُ
بِتارِكِي آلِهَتِنا) بتاركي عبادتهم. (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إقناط له من الإجابة والتصديق.
(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ
دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥)
إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٦)
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ) ما نقول إلا قولنا (اعْتَراكَ) أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه. (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات ،
والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ
اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي
جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على
براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيدا لذلك وتثبيتا له ، وأمرهم بأن يشهدوا
عليه استهانة بهم ، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا
فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن
آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاما منه ، وهذا من
جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة
دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك
عقبه بقوله :
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) تقريرا له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني
فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده ، ولا
تقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها
والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. (إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته
ظالم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي
قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي
عَلى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٨)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن تتولوا. (فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني
ولا عذر لكم فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. (وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم ويستخلف قوما آخرين
في ديارهم وأموالهم ، أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع
كأنه قيل : وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف. (وَلا تَضُرُّونَهُ) بتوليكم. (شَيْئاً) من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه. (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم ، أو
حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء.
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا) عذابنا أو أمرنا العذاب. (نَجَّيْنا هُوداً
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وكانوا أربعة آلاف. (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ
عَذابٍ غَلِيظٍ) تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم ، كانت تدخل أنوف
الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضاءهم ، أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة
أيضا ، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة
بالعذاب الغليظ.
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا
رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)
(وَتِلْكَ عادٌ) أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى
قبورهم وآثارهم. (جَحَدُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ) كفروا بها. (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسولا فكأنما عصى الكل لأنهم
أمروا بطاعة كل رسول. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ
كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) يعني كبراءهم الطاغين و (عَنِيدٍ) من عند عندا وعندا وعنودا إذا طغى ، والمعنى عصوا من دعاهم
إلى الإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب. (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار. (أَلا بُعْداً لِعادٍ) دعاء عليهم بالهلاك ، والمراد به الدلالة على أنهم كانوا
مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم ، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعا
لأمرهم وحثا على الاعتبار بحالهم. (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد ، وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم ،
والإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(٦١)
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق
نسله منها من التراب. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيها) عمركم فيها واستبقاكم من العمر ، أو أقدركم على عمارتها
وأمركم بها ، وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام
أعماركم ، أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم. (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) قريب الرحمة. (مُجِيبٌ) لداعيه.
(قالُوا يا صالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ
آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)
قالَ
يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ
رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ
إِنْ
عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)(٦٣)
(قالُوا يا صالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد أن تكون لنا سيدا
ومستشارا في الأمور ، أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع
رجاؤنا عنك. (أَتَنْهانا أَنْ
نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) على حكاية الحال الماضية. (وَإِنَّنا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد والتبري عن الأوثان. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة من أرابه ، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي
من أراب في الأمر.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) بيان وبصيرة وحرف الشك باعتبار المخاطبين. (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة. (فَمَنْ يَنْصُرُنِي
مِنَ اللهِ) فمن يمنعني من عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ رسالته والمنبع عن الإشراك به. (فَما تَزِيدُونَنِي) إذن باستتباعكم إياي. (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه ،
أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.
(وَيا قَوْمِ هذِهِ
ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ(٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)(٦٥)
(وَيا قَوْمِ هذِهِ
ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإشارة ، ولكم حال منها
تقدمت عليها لتنكيرها. (فَذَرُوها تَأْكُلْ
فِي أَرْضِ اللهِ) ترع نباتها وتشرب ماءها. (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا وهو ثلاثة
أيام.
(فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا. (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه باجرائه مجرى المفعول به كقوله
:
ويوم شهدناه سليما
وعامرا
أو غير مكذوب على
المجاز ، وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقة وإلا كذبه ، أو وعد غير كذب
على أنه مصدر كالمجلود والمعقول.
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ
خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)
وَأَخَذَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧)
كَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً
لِثَمُودَ)(٦٨)
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ
خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم
وفضيحتهم يوم القيامة. وعن نافع (يَوْمِئِذٍ) بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي «المعارج»
في قوله : (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ)
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر على كل شيء والغالب عليه.
(وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) قد سبق تفسير ذلك في سورة «الأعراف».
(كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) نوّنه أبو بكر ها هنا وفي «النجم» والكسائي في جميع القرآن
وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في قوله : (أَلا بُعْداً
لِثَمُودَ) ذهابا إلى الحي أو الأب الأكبر.
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩)
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) يعني الملائكة ، قيل : كانوا تسعة ، وقيل ثلاثة جبريل
وميكائيل وإسرافيل. (بِالْبُشْرى) ببشارة الولد. وقيل بهلاك قوم لوط. (قالُوا سَلاماً) سلمنا عليك سلاما ويجوز نصبه ب (قالُوا) على معنى ذكروا سلاما. (قالَ سَلامٌ) أي أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام ، رفعه إجابة بأحسن
من تحيتهم. وقرأ حمزة والكسائي «سلم» وكذلك في «الذاريات» وهما لغتان كحرم وحرام
وقيل المراد به الصلح. (فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) فما أبطأ مجيئه به ، أو فما أبطأ في المجيء به ، أو فما
تأخر عنه والجار في (أَنْ) مقدر أو محذوف والحنيذ المشوي بالرضف. وقيل الذي يقطر ودكه
من حنذت الفرس إذا عرفته بالجلال لقوله : (بِعِجْلٍ سَمِينٍ).
(فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ(٧٠)
وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٧١)
(فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدون إليه أيديهم. (نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروها ، ونكر وأنكر
واستنكر بمعنى والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار (قالُوا) له لما أحسوا منه أثر الخوف. (لا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب ، وإنما لم نمد إليه
أيدينا لأنا لا نأكل.
(وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ) وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة. (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها
فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء
القوم. وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر :
وعهدي بسلمى
ضاحكا في لبابة
|
|
ولم يعد حقا
ثديها أن تحلّما
|
ومنه ضحكت السمرة
إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء. (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ
وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام
وتقديره : ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب. وقيل إنه معطوف على موضع (بِإِسْحاقَ) أو على لفظ (إِسْحاقَ) ، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف
عليه بالظرف. وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ.
وخبره الظرف أي و (يَعْقُوبَ) مولود من بعده. وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه
بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى (إِسْحاقَ) ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه ، بل من
حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى
، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به ، وتوجيه البشارة إليها للدلالة
على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد.
(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢)
قالُوا
أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ
الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(٧٣)
(قالَتْ يا وَيْلَتى) يا عجبا ، وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ
بالياء على الأصل. (أَأَلِدُ وَأَنَا
عَجُوزٌ) ابنة تسعين أو تسع وتسعين. (وَهذا بَعْلِي) زوجي وأصله القائم بالأمر. (شَيْخاً) ابن مائة أو مائة وعشرين ، ونصبه على الحال والعامل فيها
معنى اسم الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ ، أو خبر بعد خبر أو
هو الخبر و (بَعْلِي) بدل. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عَجِيبٌ) يعني الولد من هرمين ، وهو استعجاب من حيث العادة دون
القدرة ولذلك :
(قالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) منكرين عليها فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة
ومهبط المعجزات ، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه
عاقل فضلا عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات ، وأهل البيت نصب على المدح أو النداء
لقصد التخصيص كقولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. (إِنَّهُ حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب به الحمد. (مَجِيدٌ) كثير الخير والإحسان.
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ
غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم. (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بدل الورع. (يُجادِلُنا فِي
قَوْمِ لُوطٍ) يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) وهو إما جواب لما جيء به مضارعا على حكاية الحال أو لأنه
في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو ، أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على
خطابنا أو شرع في جدالنا ، أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام من المسيء إليه. (أَوَّاهٌ) كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس. (مُنِيبٌ) راجع إلى الله ، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على
المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه.
(يا إِبْراهِيمُ) على إرادة القول أي قالت الملائكة (يا إِبْراهِيمُ). (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ) قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم. (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ) مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا
قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ
فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)(٧٨)
(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا
لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) ساءه مجيئهم لأنهم جاءوه في صورة غلمان فظن أنهم أناس فخاف
عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم. (وَضاقَ بِهِمْ
ذَرْعاً) وضاق بمكانهم صدره ، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن
مدافعة المكروه والاحتيال فيه. (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد من عصبه إذا شده.
(وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه. (وَمِنْ قَبْلُ) أي ومن قبل ذلك الوقت. (كانُوا يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ) الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاءوا يهرعون
لها مجاهرين. (قالَ يا قَوْمِ
هؤُلاءِ بَناتِي) فدى بهن أضيافه كرما وحمية ، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن
، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على
الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه ، أو
إظهارا لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له. وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي
أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) وهو أب لهم (هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ) أنظف فعلا وأقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحل
منه. وقرئ (أَطْهَرُ) بالنصب على الحال على أن (هُنَ) خبر (بَناتِي) كقولك : هذا أخي هو لا فصل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها.
(فَاتَّقُوا اللهَ) بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم. (وَلا تُخْزُونِ) ولا تفضحوني من الخزي ، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى
الحياء. (فِي ضَيْفِي) في شأنهم فإن
إخزاء ضيف الرجل
إخزاؤه. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
(قالُوا لَقَدْ
عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(٨٠)
(قالُوا لَقَدْ
عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) من حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ
ما نُرِيدُ) وهو إتيان الذكران.
(قالَ لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً) لو قويت بنفسي على دفعكم. (أَوْ آوِي إِلى
رُكْنٍ شَدِيدٍ) إلى قوي أتمنع به عنكم. شبهه بركن الجبل في شدته. وعن
النبي صلىاللهعليهوسلم «رحم الله أخي
لوطا كان يأوي إلى ركن شديد». وقرئ «أو آوى» بالنصب بإضمار أن كأنه قال : لو أن لي
بكم قوة أو أويا وجواب لو محذوف تقديره لدفعتكم روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ
يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار ، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.
(قالُوا يا لُوطُ
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها
ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)
(٨١)
(قالُوا يا لُوطُ
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم ،
فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليهالسلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم ، فخرجوا يقولون النجاء
النجاء فإن في بيت لوط سحرة. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع
في القرآن من السري. (بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ) بطائفة منه. (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ) ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي
المعنى للوط. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ،
وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في
الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد ، ولا يجوز حمل
القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب
التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها ، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني
المتناقضة ، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : (وَلا يَلْتَفِتْ) مثله في قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا
قَلِيلٌ) ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح ، ولا يلزم
من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا ولذلك علل على طريقة الاستئناف
بقوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما
أَصابَهُمْ) ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) كأنه علة الأمر بالإسراء. (أَلَيْسَ الصُّبْحُ
بِقَرِيبٍ) جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا) عذابنا أو أمرنا به ، ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسببا عنه
بقوله : (جَعَلْنا عالِيَها
سافِلَها) فإنه جواب لما وكان حقه : جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة
المأمورون به ، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيما للأمر فإنه روي : (أن
جبريل عليهالسلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل
السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم). (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْها) على المدن أو على شذاذها. (حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ) من طين متحجر لقوله : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) وأصله سنك كل فعرب. وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر
عطيته ، والمعنى من مثل الشيء المرسل أو من مثل العطية في الإدرار ،
أو من السجل أي
مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما. (مَنْضُودٍ) نضد معدا لعذابهم ، أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا
كقطار الأمطار ، أو نضد بعضه على بعض وألصق به.
(مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب. وقيل معلمة ببياض وحمرة. أو بسيما تتميز به
عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها. (عِنْدَ رَبِّكَ) في خزائنه. (وَما هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم ، وفيه وعيد لكل ظالم. وعنه
عليه الصلاة والسلام «أنه سأل جبريل عليهالسلام فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر
يسقط عليه من ساعة إلى ساعة». وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون
بها في أسفارهم إلى الشام ، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)(٨٤)
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو أهل
مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه. (قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أمرهم بالتوحيد أولا فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه
من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض. (إِنِّي أَراكُمْ
بِخَيْرٍ) بسعة تغنيكم عن البخس ، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على
الناس شكرا عليها لا أن تنقصوا حقوقهم ، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في
الجملة علة للنهي. (وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) لا يشذ منه أحد منكم. وقيل عذاب مهلك من قوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ). والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ، ووصف اليوم
بالإحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٨٥)
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على
أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا
يتأتى بدونها. (بِالْقِسْطِ) بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان ، فإن الازدياد
إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظورا. (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار ، أو في
غيره وكذا قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل
المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات ، والعثو السرقة وقطع الطريق
والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليهالسلام. وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم
ومصالح آخرتكم.
(بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(٨٦)
(بَقِيَّتُ اللهِ) ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم. (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تجمعون بالتطفيف. (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة
وذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل البقية الطاعة كقوله
: (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) وقرئ «تقية الله» بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي.
(وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح ، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها
وإنما أنا
ناصح مبلغ وقد
أعذرت حين أنذرت ، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا
ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٨٧)
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام ، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به
والتهكم بصلواته والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات
ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة
بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى : أصلواتك تأمرك بتكليف أن
نترك ، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ
فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. وقرئ
بالتاء فيهما على أن العطف على (أَنْ نَتْرُكَ) وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء. وقيل كان
ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك. (إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك ، أو عللوا إنكار ما سمعوا
منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما
أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٨٨)
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال ، وجواب الشرط
محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن
أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير
المألوف والنهي عن دين الآباء ، والضمير في (مِنْهُ) لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله. (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما
أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم ، فلو
كان صوابا لآثرته ولم أعرض عنه فضلا عن أن أنهي عنه ، يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا
قصدته وهو مول عنه ، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ) ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما
دمت أستطيع الإصلاح ، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه ، ولهذه
الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن : وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في
كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، وثانيها حق النفس
، وثالثها حق الناس. وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم
عنه. و (ما) مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من (الْإِصْلاحَ) أي المقدار الذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته فحذف
المضاف. (وَما تَوْفِيقِي
إِلَّا بِاللهِ) وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته ،
بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار ، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب
العلم بالمبدأ. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم
الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتيه ويذره من
الله تعالى ، والاستعانة به في مجامع أمره والإقبال عليه بشراشره ، وحسم أطماع
الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله
للجزاء.
(وَيا قَوْمِ لا
يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ
قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(٩٠)
(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنكم. (شِقاقِي) معاداتي. (أَنْ يُصِيبَكُمْ
مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق. (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح. (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة و (أَنْ) بصلتها ثاني مفعولي جرم ، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين
ككسب. وعن ابن كثير (يَجْرِمَنَّكُمْ) بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد ، والأول أفصح
فإن أجرم أقل دورانا على ألسنة الفصحاء. وقرئ مثل بالفتح لإضافته إلى المبنى كقوله
:
لم يمنع الشّرب
منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في غصون
ذات أرقال
|
(وَما
قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم ،
أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم ، وإفراد البعيد
لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ، ولا يبعد أن يسوى في أمثاله بين
المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق.
(وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عما أنتم عليه. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرحمة للتائبين. (وَدُودٌ) فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن
يوده ، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
(قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا
رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(٩١)
(قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ) ما نفهم. (كَثِيراً مِمَّا
تَقُولُ) كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما ، وذلك
لقصور عقولهم وعدم تفكرهم. وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه ، أو لأنهم لم يلقوا
إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه. (وَإِنَّا لَنَراكَ
فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا ، أو مهينا لا عزّ
لك ، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف ، ومنع بعض
المعتزلة استنباء الأعمى قياسا على القضاء والشهادة والفرق بين. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم ،
فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة. (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فتمنعنا عزتك عن الرجم ، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل
الحجج والآيات بالسب ، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام
فيه لا في ثبوت العزة ، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ
رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)
وَيا
قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)(٩٣)
(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإهانة
برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي ، وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد
والتكذيب ، و (ظِهْرِيًّا) منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
(وَيا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) سبق مثله في سورة «الأنعام» والفاء في ف (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ثمة للتصريح بأن الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك ،
وحذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال : فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل. (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك : ستعلم الكاذب
والصادق ، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال : سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني
ومنكم. وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم
لما كانوا يدعونه
كاذبا قال : ومن هو كاذب على زعمهم. (وَارْتَقِبُوا) وانتظروا ما أقول لكم. (إِنِّي مَعَكُمْ
رَقِيبٌ) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم ، أو المراقب كالعشير أو
المرتقب كالرفيع.
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ
(٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا
بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري
مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ) فلذلك جاء بفاء السببية. (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قيل صاح بهم جبريل عليهالسلام فهلكوا. (فَأَصْبَحُوا فِي
دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين ، وأصل الجثوم اللزوم في المكان.
(كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يقيموا فيها. (أَلا بُعْداً
لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أن صيحتهم
كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرئ «بعدت» بالضم على الأصل فإن الكسر
تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك ، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر
المكسور.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)
(٩٧)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا) بالتوراة أو المعجزات. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهو المعجزات القاهرة أو العصا ، وإفرادها بالذكر لأنها
أبهرها ، ويجوز أن يراد بهما واحد أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا
وسلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها ، فإن أبان جاء لازما ومتعديا
، والفرق بينهما أن الآية تعم الإمارة ، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع
والمبين يخص بما فيه جلاء.
(إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى
الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال
والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم
وعدم استبصارهم. (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مرشد أو ذي رشد ، وإنما هو غي محض وضلال صريح.
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
وَأُتْبِعُوا
فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم
بمعنى تقدم. (فَأَوْرَدَهُمُ
النَّارَ) ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة
الماء فسمى إتيانها موردا ثم قال : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ
الْمَوْرُودُ) أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين
العطش والنار بالضد ، والآية كالدليل على قوله : (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد ، أو تفسير له
على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي يلعنون في الدنيا والآخرة. (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) بئس العون المعان أو العطاء المعطى ، وأصل الرفد ما يضاف
إلى غيره ليعمده ، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)
وَما
ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما
زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(١٠١)
(ذلِكَ) أي ذلك النبأ. (مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى) المهلكة. (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) مقصوص عليك. (مِنْها قائِمٌ) من تلك القرى باق كالزرع القائم. (وَحَصِيدٌ) ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود ، والجملة مستأنفة وقيل
حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير.
(وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم. (وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه. (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم. (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) حين جاءهم عذابه ونقمته. (وَما زادُوهُمْ
غَيْرَ تَتْبِيبٍ) هلاك أو تخسير.
(وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(١٠٣)
(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الأخذ. (أَخْذُ رَبِّكَ) وقرئ «أخذ ربك» بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على
المصدر. (إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي أهلكها وقرئ «إذ» لأن المعنى على المضي. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من (الْقُرى) وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها
، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه ، أو غيره من
وخامة العاقبة. (إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع غير مرجو الخلاص منه ، وهو مبالغة في التهديد
والتحذير.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من
قصصهم. (لَآيَةً) لعبرة. (لِمَنْ خافَ عَذابَ
الْآخِرَةِ)
يعتبر به عظمته
لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة ، أو ينزجر به عن
موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة
وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار ، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية
اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها. (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه. (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي يجمع له الناس ، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع
لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف
مجرى المفعول به كقوله : في محفل من نواصي النّاس مشهود ، أي كثير شاهدوه ، ولو
جعل اليوم مشهودا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام
كذلك.
(وَما نُؤَخِّرُهُ
إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(١٠٥)
(وَما نُؤَخِّرُهُ) أي اليوم. (إِلَّا لِأَجَلٍ
مَعْدُودٍ) إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة
التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.
(يَوْمَ يَأْتِ) أي الجزاء أو اليوم كقوله : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ) على أن (يَوْمَ) بمعنى حين أو الله عزوجل كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ) ونحوه. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة (يَأْتِ)
بحذف الياء اجتزاء
عنها بالكسر. (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة ، وهو الناصب
للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إلا بإذن الله كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) وهذا في موقف وقوله : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع
عنه هي الأعذار الباطلة. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) وجبت له النار بمقتضى الوعيد. (وَسَعِيدٌ) وجبت له الجنة بموجب الوعد والضمير لأهل الموقف وإن لم
يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أو للناس.
(فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ
لِما يُرِيدُ)(١٠٧)
(فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس والشهيق رده ، واستعمالهما في أول النهيق
وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة
على قلبه وانحصر فيه روحه ، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ (شَقُوا) بالضم.
(خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على
تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب
يعبرون به عنه على سبيل التمثيل ، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضا من زوال السموات
والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم ، لأن دوامهما
كالملزوم لدوامه ، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. وقيل المراد سموات
الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل ، وفيه نظر لأنه
تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على
دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين
يخرجون منها ، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن
البعض ، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم ، فإن
التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء
وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن
قسيمه ، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد
أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك
لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين ، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى
الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة
كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه ، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان
توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم ، أو
مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم ، وعلى هذا
التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت. وقيل هو من قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وقيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان
القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات
والأرض. (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير اعتراض.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١٠٨)
(وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن
المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب
بالتأبيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (سُعِدُوا) على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده ، و (عَطاءً) نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)(١٠٩)
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ) شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس. (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل
بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم ، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا
ينفع. (ما يَعْبُدُونَ
إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء
في الشرك ، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما
عبدوه من الأوثان ، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله ، لأن التماثل في
الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ، ومعنى (كَما يَعْبُدُ) كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من العذاب كآبائهم ، أو من الرزق فيكون عذرا لتأخير
العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول : وفيته حقه وتريد
به وفاء بعضه ولو مجازا.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
وَإِنَّ
كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ)(١١١)
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ) يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق. (وَإِنَّهُمْ) وإن كفار قومك. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة.
(وَإِنَّ كُلًّا) وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين ، والتنوين بدل
من المضاف إليه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل.
(لَمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما
مزيدة بينهما للفصل. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة (لَمَّا) بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميما للادغام ،
فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم.
وقرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله : (أَكْلاً لَمًّا
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) على أن (إِنْ) نافية و (لَمَّا) بمعنى إلا وقد قرئ به. (إِنَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
(فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٢)
(فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب في شرح
الوعد والوعيد أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد
كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، والأعمال من
تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط
وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «شيبتني
هود». (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك ، وهو عطف على المستكن في
استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عما حد لكم. (إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو
مجازيكم عليه ،
وهو في معنى التعليل للأمر والنهي. وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير
تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان.
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(١١٣)
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير
كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته. (فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ) بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى
ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم كل
الميل ، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه ، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن
الظلم والتهديد عليه ، وخطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي
العدل ، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو
غيره بل ظلم في نفسه. وقرئ «تركنوا» «فتمسّكم» بكسر التاء على لغة تميم و «تركنوا»
على البناء للمفعول من أركنه. (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار يمنعون
العذاب عنكم والواو للحال. (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي
عليكم ، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم ، ويجوز أن
يكون منزلا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد ، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره
لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ(١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وساعات منه قريبة من النهار ، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو
جمع زلفة ، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار ، وصلاة
العشية صلاة العصر ، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب
والعشاء. وقرئ «زلفا» بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و «زلفى» بمعنى زلفة
كقربى وقربة. (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يكفرنها. وفي الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما
بينهما ما اجتنبت الكبائر» وفي سبب النزول «أن رجلا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت». (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (فَاسْتَقِمْ) وما بعده وقيل إلى القرآن. (ذِكْرى
لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين.
(وَاصْبِرْ) على الطاعات وعن المعاصي. (فَإِنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلا على أن
الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي
الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
وَما
كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)
(فَلَوْ لا كانَ) فهلا كان. (مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) من الرأي والعقل ، أو أولو فضل وإنما سمي (بَقِيَّةٍ) لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ، ومنه يقال فلان من بقية
القوم أي من خيارهم ، ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة
لها من العذاب ، ويؤيده أنه قرئ «بقية» وهي المرة
من مصدر بقاه
يبقيه إذا راقبه. (يَنْهَوْنَ عَنِ
الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ، ولا يصح
اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما
أُتْرِفُوا فِيهِ) ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا
عما وراء ذلك. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم
السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ،
وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذا المعنى : فلم ينهوا عن الفساد
واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على (اتَّبَعَ) أو اعترض. وقرئ «وأتبع» أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون
الواو للحال ، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء.
(وَما كانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) بشرك. (وَأَهْلُها
مُصْلِحُونَ) فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا ، وذلك لفرط
رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد. وقيل
الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ
(١١٨)
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مسلمين كلهم ، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة
وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين
يتفقان مطلقا.
(إِلَّا مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ) إلا ناسا هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين
الحق والعمدة فيه.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) إن كان الضمير ل (النَّاسِ) فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة أو إليه وإلى
الرحمة ، وإن كان لمن فإلى الرحمة. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ) وعيد أو قوله
للملائكة. (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي من عصاتهما (أَجْمَعِينَ) أو منهما أجمعين لا من أحدهما.
(وَكُلاًّ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ
الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١٢٠)
(وَكُلًّا) وكل نبأ. (نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) نخبرك به. (ما نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤادَكَ) بيان لكلّا أو بدل منه ، وفائدته التنبيه على المقصود من
الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى
الكفار ، أو مفعول (وَكُلًّا) منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك
ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة أو الأنباء المقتصة عليك. (الْحَقُ) ما هو حق. (وَمَوْعِظَةٌ
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى سائر فوائده العامة.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٢٢)
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم. (إِنَّا عامِلُونَ) على حالنا.
(وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر. (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ)(١٢٣)
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه. وقرأ نافع وحفص (يُرْجَعُ) على البناء للمفعول. (فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك. وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه
على أنه إنما ينفع العابد. (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنت وهم فيجازي كلا ما يستحقه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص
بالياء هنا وفي آخر «النمل». عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق
بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من
السعداء إن شاء الله تعالى».
(١٢) سورة يوسف
مكية وآيها مائة وإحدى عشرة آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(٢)
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب (الْكِتابِ) ، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإعجاز أو
الواضحة معانيها ، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله ، أو لليهود ما سألوا
إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم انتقل
آل يعقوب من الشأم إلى مصر وعن قصة يوسف عليهالسلام فنزلت :
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) سمى البعض (قُرْآناً) لأنه في الأصل اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل
بالغلبة ، ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطئة للحال التي هي (عَرَبِيًّا) أو حال لأنه مصدر بمعنى مفعول ، و (عَرَبِيًّا) صفة له أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال وفي كل ذلك
خلاف. (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) علة لإنزاله بهذه الصفة أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا
بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه ، أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أن اقتصاصه
كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء.
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما
يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقض والسلب ،
واشتقاقه من قص أثره إذا تبعه (بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) أي بإيحائنا. (هذَا الْقُرْآنَ) يعني السورة ، ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن
نصب على المصدر. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط ، وهو تعليل
لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
(إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٤)
(إِذْ قالَ يُوسُفُ) بدل من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) إن جعل مفعولا بدل الاشتمال ، أو منصوب بإضمار اذكر و (يُوسُفُ) عبري ولو كان عربيا لصرف. وقرئ بفتح السين وكسرها على
التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت
بعجمته. (لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهمالسلام وعنه عليه الصلاة
السلام «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم». (يا أَبَتِ) أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في
الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكسرها لأنها عوض حرف
يناسبها ، وفتحها ابن عامر في كل القرآن
لأنها حركة أصلها
أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة ، وإنما جاز يا أبتا ولم يجز يا أبتي
لأنه جمع بين العوض والمعوض. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من
غير اعتبار التعويض ، وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب
تحريكها ككاف الخطاب. (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) ولقوله : (هذا تَأْوِيلُ
رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ)
(أَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). روي عن جابر رضي الله تعالى عنه (أن يهوديا جاء إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف ، فسكت فنزل
جبريل عليهالسلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم ، قال جريان
والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين
رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها
لأسماؤها) (رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما
أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.
(قالَ يا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ
لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٥)
(قالَ يا بُنَيَ) تصغير ابن ، صغّره
للشفقة أو لصغر السن ، لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة. وقرأ حفص هنا وفي «الصافات»
بفتح الياء. (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فيحتالوا لإهلاكك حيلة ، فهم يعقوب عليهالسلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته ، فخاف
عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، فرق بينهما
بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى
الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب
عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني
الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك
فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا
بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه ، وإنما عدى كاد
باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به تأكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعلله
بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ
لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليهالسلام وحواء فلا يألوا جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى
يحملهم على الكيد.
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(٦)
(وَكَذلِكَ) أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال
نفس. (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوة والملك أو لأمور عظام ، والاجتباء من جبيت الشيء
إذا حصلته لنفسك. (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك. (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة ،
وأحاديث النفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن
الأنبياء وكلمات الحكماء ، وهو اسم جمع للحديث كأباطيل اسم جمع للباطل. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة. (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) يريد به سائر بنيه ، ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب
أو نسله. (كَما أَتَمَّها عَلى
أَبَوَيْكَ) بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار وعلى
إسحاق بإنقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت. (إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك. (إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ) بمن يستحق الاجتباء. (حَكِيمٌ) يفعل الأشياء على ما ينبغي.
(لَقَدْ كانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)
(٧)
(لَقَدْ كانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم. (آياتٌ) دلائل قدرة الله تعالى وحكمته ، أو علامات نبوتك وقرأ ابن
كثير «آية». (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصتهم ، والمراد بإخوته بنو علاته العشرة وهم :
يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وزبالون ويشخر ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب
أولا فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. وقيل جمع بينهما ولم
يكن الجمع محرما حينئذ وأربعة آخرون : دان ونفتالي وجاد وأشر من سريتين زلفة
وبلهة.
(إِذْ قالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨)
(إِذْ قالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من الطرفين. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) وحده لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ،
والمذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية
فيهما ، والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لتفضيله المفضول أو لترك التعديل في المحبة. روي أنه كان
أحب إليه لما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له
المحبة بحيث لم يصبر عنه ، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له.
(اقْتُلُوا يُوسُفَ
أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
قالَ
قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(١٠)
(اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك
الأمر إلا من قال (لا تقتلوا يوسف). وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون.
(أَوِ اطْرَحُوهُ
أَرْضاً) منكورة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإبهامها
ولذلك نصبت كالظروف المبهمة. (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ) جواب الأمر. والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم
ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد. (وَتَكُونُوا) جزم بالعطف على (يَخْلُ) أو نصب بإضمار أن. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه. (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح
ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه ، أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو
وجه أبيكم.
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا. وقيل روبيل. (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإن القتل عظيم. (وَأَلْقُوهُ فِي
غَيابَتِ الْجُبِ) في قعره ، سمي بها لغيبوبته عن أعين الناظرين. وقرأ نافع
في «غيابات» في الموضعين على الجمع كأنه لتلك الجب غيابات. وقرئ «غيبة» و «غيابات»
بالتشديد. (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه. (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) بعض الذين يسيرون في الأرض. (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه.
(قالُوا يا أَبانا ما
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
أَرْسِلْهُ
مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١٢)
(قالُوا يا أَبانا ما
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) لم تخافنا عليه. (وَإِنَّا لَهُ
لَناصِحُونَ) ونحن نشفق عليه ونريد له الخير ، أرادوا به استنزاله عن
رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم ، والمشهور (تَأْمَنَّا) بالإدغام بإشمام. وعن نافع بترك الإشمام ومن الشواذ ترك
الإدغام لأنهما من كلمتين و «تيمنا» بكسر التاء.
(أَرْسِلْهُ مَعَنا
غَداً) إلى الصحراء. نرتع نتسع في أكل الفواكه ونحوها من الرتعة
وهي الخصب. ونلعب بالاستباق والانتضال. وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من
ارتعى يرتعي ونافع بالكسر والياء فيه وفي (يَلْعَبْ). وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى
يوسف. وقرئ (يَرْتَعْ) من أرتع ماشيته و «يرتع» بكسر العين و (يَلْعَبْ) بالرفع على الابتداء. (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.
(قالَ إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ)(١٤)
(قالَ إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لأن الأرض كانت مذأبة. وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد
على يوسف وكان يحذره عليه ، وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون ،
وفي رواية اليزيدي وأبو عمرو وقفا وعاصم وابن عامر وحمزة درجا واشتقاقه من تذاءبت
الريح إذا هبت من كل جهة. (وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غافِلُونَ) لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
(قالُوا لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) اللام موطئة للقسم وجوابه : (إِنَّا إِذاً
لَخاسِرُونَ) ضعفاء مغبونون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والواو
في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) للحال.
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٥)
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) وعزموا على إلقائه فيها ، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر
بأرض الأردن أو بين مصر ومدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف
مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى. فقد روي (أنهم لما برزوا به إلى الصحراء أخذوا
يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا : أما
عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر ، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا
يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردوا
علي قميصي أتوارى به فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك ،
فلما بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام
عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي) كما قال : (وَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ) وكان ابن سبع عشرة سنة. وقيل كان مراهقا أوحي إليه في صغره
كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. وفي القصص : أن إبراهيم عليهالسلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليهالسلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى
إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليهالسلام وألبسه إياه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هذا) لتحدثنهم بما فعلوا بك (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير
للحلى والهيئات ، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). بشره بما يؤول إليه أمره إيناسا له
وتطييبا لقلبه.
وقيل (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) متصل ب (أَوْحَيْنا) أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.
(وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)
(١٧)
(وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً) أي آخر النهار. وقرئ «عشيا» وهو تصغير عشى و «عشى» بالضم
والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء. (يَبْكُونَ) متباكين. روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني
وأين يوسف.
(قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق في العدو أو في الرمي ، وقد يشترك الافتعال
والتفاعل كالانتضال والتناضل. (وَتَرَكْنا يُوسُفَ
عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا
صادِقِينَ) لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.
(وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)
(وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه ، ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر
للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاءوا كاذبين و «كدب» بالدال غير
المعجمة أي كدر أو طري. وقيل : أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم
اللاصق على القميص ، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على
الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور. روي : أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل
عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : ما رأيت
كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. ولذلك (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمرا عظيما من السول
وهو الاسترخاء. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل ، وفي الحديث «الصبر
الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق». (وَاللهُ
الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل
استنبائهم إن صح.
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ)(١٩)
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان
ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا
أوانك. وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيين «يا
بشراي» بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي. وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ «يا
بشرى» بالإدغام وهو لغة و «بشراي» بالسكون على قصد الوقف. (وَأَسَرُّوهُ) أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا
لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا
كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبره إخوته فأتوا الرفقة
وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. (بِضاعَةً) نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع
فإنه ما
بضع من المال
للتجارة. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما
يَعْمَلُونَ) لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٢٠)
(وَشَرَوْهُ) وباعوه ، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من إخوته. (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس لزيفه أو نقصانه. (دَراهِمَ) بدل من الثمن. (مَعْدُودَةٍ) قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها. قيل
كان عشرين درهما وقيل كان اثنين وعشرين درهما. (وَكانُوا فِيهِ) في يوسف. (مِنَ الزَّاهِدِينَ) الراغبين عنه والضمير في (وَكانُوا) إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم
فيه ، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه ،
وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام
للتعريف ، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف يبينه (الزَّاهِدِينَ) لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول.
(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ
مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير ،
وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليهالسلام ومات في حياته. وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة
بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ). والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف. والآية من قبيل خطاب
الأولاد بأحوال الآباء. روي : أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في
منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة
وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول : عشرون دينارا
وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل ملؤه فضة وقيل ذهبا. (لِامْرَأَتِهِ) راعيل أو زليخا. (أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا والمعنى أحسني تعهده. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نتبناه وكان عقيما لما تفرس فيه من الرشد ، ولذلك قيل :
أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ) وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو
كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان
القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس ، ويعلم معاني كتب
الله تعالى وأحكامه فينفذها ، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة
ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به
إخوته شيئا وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كله بيده ، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢)
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين
والأربعين ، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم. (آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل ، أو حكما بين الناس. (وَعِلْماً) يعني علم تأويل الأحاديث. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء
على إحسانه في
عمله وإتقانه في عنفوان أمره.
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ
قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) طلبت منه وتمحلت أن يواقعها ، من راد يرود إذا جاء وذهب
لطلب شيء ومنه الرائد. (وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوابَ) قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي أقبل وبادر ، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني
على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك. وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء
تشبيها له بحيث ، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط. وقرأ هشام كذلك إلا أنه
يهمز. وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه. وقرئ «هيت» كجير و «هئت» كجئت من هاء يهئ
إذا تهيأ وقرئ «هيئت» وعلى هذا فاللام من صلته. (قالَ مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله معاذا. (إِنَّهُ) إن الشأن. (رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوايَ) سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في (أَكْرِمِي مَثْواهُ) فما جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل الضمير لله تعالى أي إنه
خالقي أحسن منزلتي بأن عطف علي قلبه فلا أعصيه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ) المجازون الحسن بالسيئ. وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على
الزاني والمزني بأهله.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٢٤)
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها) وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء قصده والعزم
عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ، والمراد بهمه عليهالسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما
لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل
عند قيام هذا الهم ، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله. (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة
المبالغة ، ولا يجوز أن يجعل (وَهَمَّ بِها) جواب (لَوْ لا) فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها ، بل
الجواب محذوف يدل عليه. وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل تمثل له يعقوب
عاضا على أنامله. وقيل قطفير. وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل
السفهاء. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو الأمر مثل ذلك. (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) خيانة السيد. (وَالْفَحْشاءَ) الزنا. (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن
عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا
دينهم لله.
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما
جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٥)
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى
الابتدار. وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولا والقط الشق
عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) وصادفا زوجها. (لَدَى الْبابِ قالَتْ
ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) إيهاما بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على
يوسف وإغراءه به انتقاما منه ، و (ما) نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن.
(قالَ هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢٧)
(قالَ هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) طالبتني بالمؤاتاة ، وإنما قال ذلك دفعا لما عرضته له من
السجن أو العذاب الأليم ، ولو لم تكذب عليه لما قاله. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل ابن عم لها. وقيل ابن خال لها صبيا في المهد. وعن
النبي صلىاللهعليهوسلم «تكلم أربعة صغارا
ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليهالسلام» وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم
عليها. (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها ،
أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
(وَإِنْ كانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته. والشرطية
محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول ، وتسميتها شهادة لأنها أدت
مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل إن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك : إن
أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل ، فإن معناه إن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك
بإحساني لك السابق. وقرئ «من قبل» «ومن دبر» بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبل
وبعد ، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين.
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ) إن قولك (ما جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أو إن السوء أو إن هذا الأمر. (مِنْ كَيْدِكُنَ) من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس
ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة.
(يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث. (أَعْرِضْ عَنْ هذا) اكتمه ولا تذكره. (وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ) يا راعيل. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخاطِئِينَ) من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا والتذكير
للتغليب.
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها
حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣٠)
(وَقالَ نِسْوَةٌ) هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد
فعله وضم النون لغة فيها. (فِي الْمَدِينَةِ) ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر ، أو صفة نسوة وكن خمسا
زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ
تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) تطلب مواقعة غلامها إياها. و (الْعَزِيزِ) بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة
شاذة. (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ، ونصبه
على التمييز لصرف الفعل عنه. وقرئ «شعفها» من شعف البعير إذا هنأه بالقطران
فأحرقه. (إِنَّا لَنَراها فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا
بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٣١)
(فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَ) باغتيابهن ، وإنما سماه مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر
مكره ، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها. (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) ما يتكئن عليه من الوسائد. (وَآتَتْ كُلَّ
واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن
عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة ، أو يهاب يوسف مكرها
إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر. وقيل متكأ طعاما أو مجلس طعام
فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفا ولذلك نهي عنه. قال جميل :
فظللنا بنعمة
واتكأنّا
|
|
وشربنا الحلال
من قلله
|
وقيل المتكأ طعام
يحز حزا كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين. وقرئ «متكا» بحذف الهمزة و «متكاء» بإشباع
الفتحة كمنتزاح و «متكا» وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و «متكأ» من
تكئ يتكأ إذا اتكأ. (وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) عظمنه وهبن حسنه الفائق. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر» وقيل كان يرى
تلألؤ وجهه على الجدران. وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها
تدخل الكبر بالحيض ، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف
اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي :
خف الله واستر
ذا الجمال ببرقع
|
|
فإن لحت حاضت في
الخدور العواتق
|
(وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَ) جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له من صفات العجز وتعجبا من قدرته على خلق مثله ،
وأصله «حاشا» كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا وهو حرف يفيد
معنى التنزيه في باب الاستثناء ، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك
سقيا لك.
وقرئ «حاش الله»
بغير لام بمعنى براءة الله ، و «حاشا لله» بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر. وقيل
«حاشا» فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما
يتوهم فيه. (ما هذا بَشَراً) لأن هذا الجمال غير معهود للبشر ، وهو على لغة الحجاز في
إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال. وقرئ «بشر» بالرفع على لغة تميم و «بشرى»
أي بعبد مشترى لئيم. (إِنْ هذا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ) فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة
البالغة من خواص الملائكة ، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إلا الملك.
(قالَتْ فَذلِكُنَّ
الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(٣٢)
(قالَتْ فَذلِكُنَّ
الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل
أن تتصورنه حق تصوره ، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني
فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) فامتنع طلبا للعصمة ، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي
يعاونها على إلانة عريكته. (وَلَئِنْ لَمْ
يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي ما آمر به ، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري
فيكون الضمير ليوسف. (لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) من الأذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرا وصغارا والصغير من
صغر بالضم صغرا. وقرئ «ليكونن» وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف «كنسفعا»
على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين.
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)
فَاسْتَجابَ
لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤)
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ) وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ) أي آثر عندي من مؤاتاتها زنا نظرا إلى العاقبة وإن كان هذا
مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه ، وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأنهن خوفنه من
مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن ، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله
هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على من كان يسأل الصبر. (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي) وإن لم تصرف عني. (كَيْدَهُنَ) في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ،
والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ (أَصْبُ) من الصبابة وهي الشوق. (وَأَكُنْ مِنَ
الْجاهِلِينَ) من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل
القبيح ، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.
(فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ) فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ). (فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَ) فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على
اللذة المتضمنة للعصيان. (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ) لدعاء الملتجئين إليه. (الْعَلِيمُ) بأحوالهم وما يصلحهم.
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
وَدَخَلَ
مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً
وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٣٦)
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على
براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل (بَدا) مضمر يفسره.
(لَيَسْجُنُنَّهُ
حَتَّى حِينٍ) وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانا حتى تبصر ما
يكون منه ، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم
خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه ، و «عتى» بلغة هذيل.
(وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيانِ) أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد
الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. (قالَ أَحَدُهُما) يعني الشرابي. (إِنِّي أَرانِي) أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. (أَعْصِرُ خَمْراً) أي عنبا وسماه خمرا باعتبار ما يؤول إليه. (وَقالَ الْآخَرُ) أي الخباز. (إِنِّي أَرانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) تنهش منه. (نَبِّئْنا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أو من العالمين وإنما قالا
ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل
السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
(قالَ لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما
ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ
بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٣٨)
(قالَ لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) أي بتأويل ما قصصتما علي ، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته
وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل ، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى
الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين
منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد ، فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار
بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. (قَبْلَ أَنْ
يَأْتِيَكُما ذلِكُما) أي
ذلك التأويل. (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة
لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه ، ولذلك جوز للحامل أن يصف نفسه حتى
يعرف فيقتبس منه ، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة. (ما كانَ لَنا) ما صح لنا معشر الأنبياء. (أَنْ نُشْرِكَ
بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء كان. (ذلِكَ) أي التوحيد. (مِنْ فَضْلِ اللهِ
عَلَيْنا) بالوحي. (وَعَلَى النَّاسِ) وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) المبعوث إليهم. (لا يَشْكُرُونَ) هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون ، أو من فضل الله علينا
وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها
فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها.
(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ)(٤٠)
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ) أي يا ساكنيه ، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع
كقوله :
يا سارق الليلة
أهل الدّار
(أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ) شتى متعددة متساوية الأقدام. (خَيْرٌ أَمِ اللهُ
الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية. (الْقَهَّارُ) الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.
(ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ) خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر. (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل
على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة. والمعنى أنكم سميتم
ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما
تطلقون عليها. (إِنِ الْحُكْمُ) ما الحكم في أمر العبادة. (إِلَّا لِلَّهِ) لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد
للكل والمالك لأمره. (أَمَرَ) على لسان أنبيائه. (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) الذي دلت عليه الحجج. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم ، وهذا من التدرج
في الدعوة وإلزام الحجة ، بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق
الخطابة ، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق
العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها ، ثم نص على ما هو الحق
القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) فيخبطون في جهالاتهم.
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيانِ)(٤١)
(يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) يعني الشرابي. (فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً) كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه. (وَأَمَّا الْآخَرُ) يريد به الخباز. (فَيُصْلَبُ
فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) فقالا كذبنا فقال (قُضِيَ الْأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه ، وهو ما يؤول إليه أمركما
ولذلك وحده ، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل
بهما.
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو
الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين. (اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ) اذكر حالي عند الملك كي يخلصني. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فأنسى الشرابي أن يذكره لربه ، فأضاف إليه المصدر لملابسته
له أو على تقدير ذكر أخبار ربه ، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره ، ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس». والاستعانة بالعباد في
كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع.
(وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)(٤٤)
(وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) لما دنا فرجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس
وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ) قد انعقد حبها. (وَأُخَرَ يابِساتٍ) وسبعا أخر يابسات قد أدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى
غلبت عليها ، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات ، وأجرى السمان
على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز
بها مجردا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس ، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على (سِمانٍ) لأنه نقيضه. (يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) عبروها. (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور
الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة ، وعبرت
الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما
أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل ، أو لتضمن (تَعْبُرُونَ) معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة
الرؤيا.
(قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ) أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من
أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة ، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم
بالبطلان كقولهم : فلان يركب الخيل ، أو لتضمنه أشياء مختلفة. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ
بِعالِمِينَ) يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل
عندنا ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم
بتأويله.
(وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
(٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا
فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ)(٤٦)
(وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما) من صاحبي السجن وهو الشرابي. (وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ) وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة. وقرئ
«إمة» بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة ، و «أمه» أي نسيان
يقال أمه يأمه أمها إذا نسي ، والجملة اعتراض ومقول القول. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ) أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن.
(يُوسُفُ أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ) أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف ، وإنما وصفه
بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا
صاحبه. (أَفْتِنا فِي سَبْعِ
بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يابِساتٍ) أي في رؤيا ذلك. (لَعَلِّي أَرْجِعُ
إِلَى النَّاسِ) أعود إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد إذ قيل إن
السجن لم يكن فيه. (لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ) تأويلها أو فضلك ومكانك ، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه
لم يكن جازما بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم.
(قالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً
مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)
(قالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين ،
أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأبا وتكون الجملة حالا. وقرأ حفص (دَأَباً) بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل. وقيل (تَزْرَعُونَ) أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله : (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي
سُنْبُلِهِ) لئلا يأكله السوس ، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة.
(إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السنين.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز
تطبيقا بين المعبر والمعبر به. (إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون لبذور الزراعة.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار. وقيل يحلبون
الضروع. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من
عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا
، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر. وهذه بشارة
بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف
واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في
السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة
الإلهية على أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ
ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)(٥٠)
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ) بعد ما جاءه الرسول بالتعبير (فَلَمَّا جاءَهُ
الرَّسُولُ) ليخرجه. (قالَ ارْجِعْ إِلى
رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر
براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلما فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه
دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقى مواقعها. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «لو كنت مكانه
ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة» وإنما قال (فَسْئَلْهُ ما بالُ
النِّسْوَةِ) ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجا له على البحث
وتحقيق الحال ، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب وقرئ «النسوة»
بضم النون. (إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) حين قلن لي أطع مولاتك ، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم
الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن.
(قالَ ما خَطْبُكُنَّ
إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ
مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ
الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(٥٢)
(قالَ ما خَطْبُكُنَ) قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه
صاحبه. (إِذْ راوَدْتُنَّ
يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) من ذنب. (قالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ قال :
فحصحص في صمّ
الصفا ثفناته
|
|
وناء بسلمى نوأة
ثمّ صمّما
|
أو ظهر من حص شعره
إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. وقرئ على البناء للمفعول. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي
عَنْ نَفْسِي)
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ) قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك
التثبت ليعلم العزيز. (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ) بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا
غائب عنه ، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة.
(وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) لا ينفذه ولا يسدده ، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع
الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك
عقبه بقوله :
(وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٣)
(وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي) أي لا أنزهها تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه
والعجب بحاله ، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق. وعن ابن عباس أنه
لما قال : (لِيَعْلَمَ أَنِّي
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبريل ولا حين هممت فقال ذلك. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ) من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها ، وتستعمل
القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات. (إِلَّا ما رَحِمَ
رَبِّي) إلا وقت رحمة ربي ، أو إلا ما رحمهالله من النفوس فعصمه من ذلك. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن
رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف
وأضرابه. وعن ابن كثير ونافع (بِالسُّوءِ) على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر همّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر
لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)(٥٤)
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أجعله خالصا لنفسي. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء. (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا
مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة. (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء. روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف
ولبس ثيابا جددا ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك
وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك : ما هذا اللسان قال : لسان
آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال :
أحب أن أسمع رؤياي منك ، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها
فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره. وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه
وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا.
(قالَ اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها
حَيْثُ
يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)
(قالَ اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ) ولني أمرها والأرض أرض مصر. (إِنِّي حَفِيظٌ) لها ممن لا يستحقها. (عَلِيمٌ) بوجوه التصرف فيه ، ولعله عليهالسلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده
وتجل عوائده ، وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد
الكافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن
مجاهد أن الملك أسلم على يده.
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) في أرض مصر. (يَتَبَوَّأُ مِنْها
حَيْثُ يَشاءُ) ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) في الدنيا والآخرة. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا. (وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك والفواحش لعظمه ودوامه.
(وَجاءَ إِخْوَةُ
يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٨)
(وَجاءَ إِخْوَةُ
يُوسُفَ)
روي : أنه لما
استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات ، حتى دخلت السنون
المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما ، وتوجه إليه الناس فباعها أولا بالدراهم
والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع
والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا ثم عرض الأمر على الملك فقال : الرأي رأيك
فأعتقهم ورد عليهم أموالهم ، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب
بنيه ـ غير بنيامين ـ إليه للميرة. (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن
الحداثة ونسيانهم إياه ، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه
وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)
فَإِنْ
لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ
عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)(٦١)
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ) أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، والجهاز ما
يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة
إلى زوجها وقرئ «بجهازهم» بالكسر. (قالَ ائْتُونِي
بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ)
روي : أنهم لما
دخلوا عليه قال : من أنتم وما أمركم لعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله إنما نحن بنو
أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب ، قال كم أنتم؟ قالوا كنا
اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك ، قال : فكم أنتم ها هنا قالوا عشرة ، قال :
فأين الحادي عشر؟ قالوا : عند أبينا يتسلى به عن الهالك ، قال : فمن يشهد لكم.
قالوا : لا يعرفنا أحد ها هنا فيشهد لنا قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني
بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصابت شمعون. وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر
حملا فسألوه حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم
صدقهم. (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ) أتمه. (وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ) للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.
(فَإِنْ لَمْ
تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري ، وهو إما نهي أو
نفي معطوف على
الجزاء.
(قالُوا سَنُراوِدُ
عَنْهُ أَباهُ) سنجتهد في طلبه من أبيه. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا نتوانى فيه.
(وَقالَ لِفِتْيانِهِ
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)
(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيالين جمع فتى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (لِفِتْيانِهِ) على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإنه وكل بكل رحل واحدا يعبي فيه بضاعتهم التي شروا بها
الطعام ، وكانت نعالا وأدما وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضلا عليهم وترفعا من أن يأخذ
ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) لعلهم يعرفون حق ردها. أو لكي يعرفوها. (إِذَا انْقَلَبُوا) انصرفوا ورجعوا. (إِلى أَهْلِهِمْ) وفتحوا أوعيتهم. (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.
(فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا
أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
قالَ
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٦٤)
(فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين. (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ حمزة
والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.
(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ
عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم في يوسف : (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ). (فَاللهُ خَيْرٌ
حافِظاً) فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه ، وانتصاب «حفظا» على التمييز
و (حافِظاً) على قراءة حمزة والكسائي وحفص يحتمله والحال كقوله : لله
دره فارسا ، وقرئ «خير حافظ» و «خير الحافظين». (وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين.
(وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا
وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)(٦٥)
(وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) وقرئ «ردت» بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في
بيع وقيل. (قالُوا يا أَبانا ما
نَبْغِي) ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع
منا ورد علينا متاعنا. أو لا نطلب وراء ذلك إحسانا أو لا نبغي في القول ولا نزيد
فيما حكينا لك من إحسانه. وقرئ «ما تبغي» على الخطاب أي : أي شيء تطلب وراء هذا من
الإحسان ، أو من الدليل على صدقنا؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا
رُدَّتْ إِلَيْنا) استئناف موضح لقوله (ما نَبْغِي). (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا
بالرجوع إلى الملك. (وَنَحْفَظُ أَخانا) عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا. (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) وسق بعير باستصحاب أخينا ، هذا إذا كانت (ما) استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن أن
تكون الجمل معطوفة على (ما نَبْغِي) ، أي لا نبغي فيما نقول (وَنَمِيرُ أَهْلَنا
وَنَحْفَظُ أَخانا). (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي مكيل قليل لا يكفينا ، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن
يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، ويجوز أن تكون الإشارة
إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه
الملك ولا يتعاظمه
، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه ، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.
(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ
يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٦٦)
(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ) إذ رأيت منكم ما رأيت. (حَتَّى تُؤْتُونِ
مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي عهدا مؤكدا بذكر
الله. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وهو
استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير : لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة
بكم ، أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به ، في تأويل النفي أي لا تمتنعون من
الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت بالله إلا فعلت ، أي ما أطلب إلا فعلك.
(فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ) عهدهم. (قالَ اللهُ عَلى ما
نَقُولُ) من طلب الموثق وإتيانه. (وَكِيلٌ) رقيب مطلع.
(وَقالَ يا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
وَلَمَّا
دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ
لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)
(وَقالَ يا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة
والكرامة عند الملك ، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا ، ولعله لم يوصهم
بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ ، أو كان الداعي إليها خوفه على
بنيامين. وللنفس آثار منها العين والذي يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في
عوذته «اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة». (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) مما قضى عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر.
(إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا ولا ينفعكم ذلك. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص
كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب ، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.
(وَلَمَّا دَخَلُوا
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من أبواب متفرقة في البلد. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) رأي يعقوب واتباعهم له. (مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليهالسلام. فسرقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت
المصيبة على يعقوب. (إِلَّا حاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ) استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه ، يعني شفقته عليهم
وحرازته من أن يعانوا. (قَضاها) أظهرها ووصى بها. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ
لِما عَلَّمْناهُ) بالوحي ونصب الحجج ، ولذلك قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) ولم يغتر بتدبيره. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر.
(وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٩)
(وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل روي : (أنه
أضافهم
فأجلسهم مثنى مثنى
فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لجلس معي ، فأجلسه معه على
مائدته ثم قال : لينزل كل اثنين منكم بيتا وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده
وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ، قال : من يجد أخا مثلك ولكن لم
يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا
تَبْتَئِسْ) فلا تحزن افتعال من البؤس. (بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) في حقنا فيما مضى.
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ)(٧١)
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة. (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) قيل كانت مشربة جعلت صاعا يكال به وقيل. كانت تسقى الدواب
بها ويكال بها وكانت من فضة. وقيل من ذهب وقرئ «وجعل» على حذف جواب فلما تقديره
أمهلهم حتى انطلقوا. (ثُمَّ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ) نادى مناد. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام أو كان تعبية
السقاية والنداء عليها برضا بنيامين. وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أإنكم
لسارقون ، والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تتردد ،
فقيل لأصحابها كقوله عليه الصلاة والسلام «يا خيل الله اركبي». وقيل جمع عير وأصله
فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير ، ثم استعير لكل قافلة.
(قالُوا وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) أي شيء ضاع منكم؟ والفقد : غيبة الشيء عن الحس بحيث لا
يعرف مكانه ، وقرئ «تفقدون» من أفقدته إذا وجدته فقيدا.
(قالُوا نَفْقِدُ
صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ
لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ)(٧٣)
(قالُوا نَفْقِدُ
صُواعَ الْمَلِكِ) وقرئ «صاع» و «صوع» بالفتح والضم والعين والغين و «صواغ»
من الصياغة. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام جعلا له. (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان
الجعل قبل تمام العمل.
(قالُوا تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب ، التاء بدل من الباء مختصة باسم الله
تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما
جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي
مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم
وكعم الدواب لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد.
(قالُوا فَما جَزاؤُهُ
إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤)
قالُوا
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٧٥)
(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) فما جزاء السارق أو السرق أو ال (صُواعَ) على حذف المضاف. (إِنْ كُنْتُمْ
كاذِبِينَ) في ادعاء البراءة.
(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ
وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه ، هكذا كان
شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام. وقوله (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم وإلزام له ، أو خبر (مَنْ) والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطية.
والجملة كما هي خبر (جَزاؤُهُ) على إقامة الظاهر فيها
مقام الضمير كأنه
قيل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. (كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) بالسرقة.
(فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ
أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ)(٧٦)
(فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ) فبدأ المؤذن. وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر. (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين نفيا للتهمة. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة. (كَذلِكَ) مثل ذلك الكيد. (كِدْنا لِيُوسُفَ) بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ) ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق
وهو بيان للكيد. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال
ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم كما رفعنا درجته. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ
لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه. والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق
لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ
لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص.
(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)
(٧٧)
(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين. (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ
لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف. قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليهالسلام وكانت تحضن يوسف وتحبه ، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها
فشدت المنطقة على وسطه ، ثم أظهرت ضياعها فتفحص عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق
به في حكمهم. وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف. وقيل كان في
البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أكنها ولم يظهرها لهم ، والضمير للإجابة أو المقالة أو
نسبة السرقة إليه وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) فإنه بدل من أسرها. والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكانا أي
منزلة في السرقة لسرقتكم أخاكم ، أو في سوء الصنيع مما كنتم عليه ، وتأنيثها
باعتبار الكلمة أو الجملة ، وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.
(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ
إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ
أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ)(٧٩)
(قالُوا يا أَيُّهَا
الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي في السن أو القدر ، ذكروا له حاله استعطافا له عليه. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) بدله فإن أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به. (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فأتمم إحسانك ، أو من المتعودين بالإحسان فلا تغير
عادتك.
(قالَ مَعاذَ اللهِ
أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم فلو أخذنا أحدكم مكانه. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في مذهبكم هذا ، وإن مراده أن الله أذن في أخذ من وجدنا
الصاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه فلو أخذت غيره كنت ظالما.
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ
أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ
اللهِ
وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى
يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٠)
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يئسوا من يوسف وإجابته إياهم ، وزيادة السين والتاء
للمبالغة. (خَلَصُوا) انفردوا واعتزلوا. (نَجِيًّا) متناجين ، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هو صديق
، وجمعه أنجية كندي وأندية. (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السن وهو روبيل ، أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا. (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ
أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا وثيقا ، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه لأنه بإذن
منه وتأكيد من جهته.
(وَمِنْ قَبْلُ) ومن قبل هذا. (ما فَرَّطْتُمْ فِي
يُوسُفَ) قصرتم في شأنه ، و (ما) مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على
مفعول تعلموا ، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف ، أو على اسم (أَنَ) وخبره في (يُوسُفَ) أو (مِنْ قَبْلُ) أو الرفع بالابتداء والخبر (مِنْ قَبْلُ) وفيه نظر ، لأن (قَبْلُ) إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتى لا ينقص وأن
تكون موصولة أي : ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي
أَبِي) في الرجوع. (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ
لِي) أو يقضي لي بالخروج منها ، أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة
معهم لتخليصه. روي : أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل : أيها الملك والله
لتتركنّا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ، ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال
يوسف عليهالسلام لابنه : قم إلى جنبه فمسه ، وكان بنو يعقوب عليهالسلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه. فقال روبيل من هذا إن
في هذا البلد لبزرا من بزر يعقوب. (وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ) لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
(ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا
لَصادِقُونَ)(٨٢)
(ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ما شاهدناه من ظاهر الأمر. وقرئ «سرق» أي نسب إلى
السرقة. (وَما شَهِدْنا) عليه. (إِلَّا بِما عَلِمْنا) بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) لباطن الحال. (حافِظِينَ) فلا ندري أنه سرق أو سرق ودس الصواع في رحله ، أو وما كنا
للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق ، أو أنك تصاب به كما أصبت
بيوسف.
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها ، والمعنى
أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة. (وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنا فِيها) وأصحاب العير التي توجهنا فيهم وكنا معهم. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد في محل القسم.
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ)(٨٤)
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) أي فلما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم قال :
(بَلْ سَوَّلَتْ) أي سولت وسهلت. (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْراً) أردتموه فقدرتموه ، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ
بسرقته. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ
جَمِيعاً) بيوسف وبنيامين وأخيهما الذي توقف بمصر. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي وحالهم. (الْحَكِيمُ) في تدبيرهما.
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم. (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا أسفا تعال فهذا أوانك ، والأسف أشد الحزن والحسرة ،
والألف بدل من ياء المتكلم ، وإنما تأسف على يوسف دون
أخويه والحادث
رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضا آخذا بمجامع قلبه ، ولأنه كان واثقا
بحياتهما دون حياته ، وفي الحديث : «لم تعط أمة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) عند المصيبة إلا أمة محمدصلىاللهعليهوسلم». ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام حين أصابه ما
أصابه لم يسترجع وقال (يا أَسَفى). (وَابْيَضَّتْ
عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما. وقيل ضعف
بصره. وقيل عمي ، وقرئ «من الحزن» وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع ،
ولعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ، ولقد بكى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ولده إبراهيم وقال : «القلب يجزع والعين تدمع ، ولا
نقول ما يسخط الرب ، وإنما عليك يا إبراهيم لمحزونون». (فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ،
فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى فاعل كقوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) من كظم الغيظ إذا اجترعه ، وأصله كظم البعير جرته إذا ردها
في جوفه.
(قالُوا تَاللهِ
تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهالِكِينَ)(٨٥)
(قالُوا تَاللهِ
تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعا عليه ، فحذف لا كما في
قوله :
فقلت يمين الله
أبرح قاعدا
لأنه لا يلتبس
بالإثبات ، فإن القسم إذا لم يكن معه علامات الإثبات كان على النفي. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك. وقيل الحرض الذي أذا به هم أو مرض
، وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع والنعت بالكسر كدنف ودنف. وقد قرئ به
وبضمتين كجنب. (أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهالِكِينَ) من الميتين.
(قالَ إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
يا
بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ)(٨٧)
(قالَ إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي) همي الذي لا أقدر الصبر عليه من البث بمعنى النشر. (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد منكم ومن غيركم ، فخلوني وشكايتي. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه ،
أو من الله بنوع من الإلهام. (ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف. قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال
هو حي. وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجدا.
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. وقرئ «من روح الله» أي من
رحمته التي يحيي بها العباد. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء
من الأحوال.
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا
بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)(٨٨)
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) بعد ما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية. (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) شدة الجوع. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ
مُزْجاةٍ) رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها ، من أزجيته إذا دفعته
ومنه تزجية الزمان.
قيل كانت دراهم
زيوفا وقيل صوفا وسمنا. وقيل الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل الأقط وسويق المقل. (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فأتمم لنا الكيل. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على
ما يساويها. واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص
بنبينا صلىاللهعليهوسلم. (إِنَّ اللهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ) أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقا ، ومنه قوله عليه الصلاة
والسلام في القصر «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». لكنه اختص عرفا
بما يبتغى به ثواب من الله تعالى.
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ
ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)(٨٩)
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ
ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف
وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة. (إِذْ أَنْتُمْ
جاهِلُونَ) قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته ، وإنما قال ذلك تنصيحا
لهم وتحريضا على التوبة ، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة
وتثريبا. وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن
على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك ، وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال ، أو
لأنهم كانوا حينئذ صبيانا طياشين.
(قالُوا أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ)(٩١)
(قالُوا أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه. وقرأ ابن
كثير على الإيجاب. قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به ، وقيل تبسم فعرفوه
بثناياه. وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت
لسارة ويعقوب مثلها. (قالَ أَنَا يُوسُفُ
وَهذا أَخِي) من أبي وأمي ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه وإدخالا
له في قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا) أي بالسلامة والكرامة. (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) أي يتق الله. (وَيَصْبِرْ) على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع
بين التقوى والصبر.
(قالُوا تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك.
(قالَ لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩٣)
(قالَ لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ) لا تأنيب عليكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش
للإزالة كالتجليد ، فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه. (الْيَوْمَ) متعلق بال (تَثْرِيبَ) أو بالمقدر للجار الواقع خبرا ل (لا تَثْرِيبَ) والمعنى لا أثربكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر
الأيام أو بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ
لَكُمْ) لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب ، ومن كرم
يوسف عليهالسلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا : إنك تدعونا بالبكرة
والعشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال إن أهل مصر كانوا ينظرون
إلي بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد
شرفت بكم وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليهالسلام.
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هذا) القميص الذي كان عليه. وقيل القميص المتوارث الذي كان في
التعويذ. (فَأَلْقُوهُ عَلى
وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي يرجع بصيرا أي ذا بصر. (وَأْتُونِي) أنتم وأبي. (بِأَهْلِكُمْ
أَجْمَعِينَ) بنسائكم وذراريكم ومواليكم.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ
(٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ)(٩٥)
(وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ) من مصر وخرجت من عمرانها. (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره. (إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ) أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حين أقبل به إليه
يهوذا من ثمانين فرسخا. (لَوْ لا أَنْ
تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم ، ولذلك لا
يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي. وجواب (لَوْ لا) محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب.
(قالُوا) أي الحاضرون. (تَاللهِ إِنَّكَ
لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف وإكثار
ذكره والتوقع للقائه.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٩٦)
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ) يهوذا. روي : أنه قال كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم
إليه فأفرحه بحمل هذا إليه. (أَلْقاهُ عَلى
وَجْهِهِ) طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليهالسلام أو يعقوب نفسه. (فَارْتَدَّ بَصِيراً) عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوة. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف عليهالسلام ، وإنزال الفرح.
وقيل إني أعلم كلام مبتدأ والمقول (لا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ) ، أو (إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ).
(قالُوا يا أَبانَا
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)
(قالُوا يا أَبانَا
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأله المغفرة.
(قالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة
تحريا لوقت الإجابة ، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو يعلم أنه عفا عنهم فإن عفو
المظلوم شرط المغفرة. ويؤيده ما روي : أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف
خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبريل وقال : إن الله قد أجاب دعوتك في
ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة ، وهو إن صح فدليل على نبوتهم ، وأن ما صدر
عنهم كان قبل استنبائهم.
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ)(٩٩)
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ)
روي أنه وجه إليه
رواحل وأموالا ليتجهز إليه بمن معه ، واستقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده
الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلا وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه
الصلاة والسلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى. (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل
العم منزلة الأب في قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ
إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ) أو لأن يعقوب عليهالسلام تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أما (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ) من القحط وأصناف المكاره ، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف
بالأمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم.
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ
مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١٠٠)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحية وتكرمة له
فإن السجود كان عندهم يجري مجراها. وقيل معناه خروا لأجله سجدا لله شكرا. وقيل
الضمير لله تعالى والواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظا
للاهتمام بتعظيمه لهما. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) التي رأيتها أيام الصبا. (قَدْ جَعَلَها رَبِّي
حَقًّا) صدقا. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريبا عليهم. (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أفسد بيننا وحرش ، من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها
على الجري. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ
لِما يَشاءُ) لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهل
دونها. (إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ) بوجود المصالح والتدابير. (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء
في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة. روي : أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة والسلام في
خزائنه فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما
كتبت إلي على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل عليهالسلام قال : أو ما تسأله قال : أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال
جبريل : الله أمرني بذلك. لقولك : (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قال فهلا خفتني.
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١٠١)
(رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) بعض الملك وهو ملك مصر. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الكتب أو الرؤيا ، ومن أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل
التأويل. (فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه. (أَنْتَ وَلِيِّي) ناصري ومتولي أمري. (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) اقبضني. (وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة. روي أن
يعقوب عليهالسلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام
إلى جنب أبيه ، فذهب به ودفنه ثمة ثم عاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة ، ثم تاقت
نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر في
مدفنه حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث
يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ، ثم نقله موسى عليه الصلاة
والسلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقد ولد له من راعيل افرائيم
وميشا وهو جد يوشع بن نون ، ورحمة امرأة أيوب عليهالسلام.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)
(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليهالسلام ، والخطاب فيه للرسول صلىاللهعليهوسلم وهو مبتدأ. (مِنْ
أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبران له. (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) كالدليل عليهما والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا
بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة
الجب ، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم ، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك
أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه ، وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير
هذه القصة كقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها
أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا).
(وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم. (بِمُؤْمِنِينَ) لعنادهم وتصميمهم على الكفر.
(وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٠٥)
(وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ) على الإنباء أو القرآن. (مِنْ أَجْرٍ) من جعل كما يفعله حملة الأخبار. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة من الله تعالى. (لِلْعالَمِينَ) عامة.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ) وكم من آية. والمعنى وكأي عدد شئت من الدلائل الدالة على
وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده. (فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) على الآيات ويشاهدونها. (وَهُمْ عَنْها
مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقرئ (وَالْأَرْضِ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره (يَمُرُّونَ) ، فيكون لها الضمير في (عَلَيْها) وبالنصب على ويطئون الأرض. وقرئ و «الأرض يمشون عليها» أي
يترددون فيها فيرون آثار الأمم الهالكة.
(وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٨)
(وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) في إقرارهم بوجوده وخالقيته. (إِلَّا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ) بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أربابا. ونسبة التبني إليه
تعالى ، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك. وقيل الآية في
مشركي مكة ، وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب.
(أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) عقوبة تغشاهم وتشملهم. (أَوْ تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة من غير سابقة علامة. (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) بإتيانها غير مستعدين لها.
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) يعني الدعوة إلى التوحيد والإعداد للمعاد ولذلك فسر السبيل
بقوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) وقيل هو حال من الياء. (عَلى بَصِيرَةٍ) بيان وحجة واضحة غير عمياء. (أَنَا) تأكيد للمستتر في (أَدْعُوا) أو (عَلى بَصِيرَةٍ) لأنه حال منه أو مبتدأ خبره (عَلى بَصِيرَةٍ). (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه. (وَسُبْحانَ اللهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأنزهه تنزيها من الشركاء.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠٩)
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) رد لقولهم (لَوْ شاءَ رَبُّنا
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) وقيل معناه نفي استنباء النساء يوحي إليهم كما يوحي إليك
ويميزون بذلك عن غيرهم. وقرأ حفص (نُوحِي) في كل القرآن ووافقه
حمزة والكسائي في
سورة «الأنبياء». (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأن أهلها أعلم وأحلم من أهل البدو. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ، أو من من
المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا عن حبها. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة. (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم ليعرفوا أنها خير. وقرأ نافع وابن عامر
وعاصم ويعقوب بالتاء حملا على قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي قل لهم أفلا تعقلون.
(حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠)
(حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن
من قبلهم أمهلوا حتى أى الرسل عن النصر عليهم في الدنيا ، أو عن إيمانهم لانهماكهم
في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا) أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذبهم
القوم بوعد الإيمان. وقيل الضمير للمرسل إليهم أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد
كذبوهم بالدعوة والوعيد. وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل
قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وما روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، إن صح فقد
أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة. هذا وإن المراد به المبالغة في
التراخي والإمهال على سبيل التمثيل. وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن
القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم. وقرئ «كذبوا» بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم
قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا. (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ
نَشاءُ) النبي والمؤمنين وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين
يستأهلون إن يشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب على
لفظ الماضي المبني للمفعول وقرئ «فنجا» (وَلا يُرَدُّ
بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا نزل بهم وفيه بيان للمشيئين.
(لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)
(لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ) في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته. (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول. المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما كان القرآن حديثا يفترى. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الإلهية. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من
القرآن بوسط أو بغير وسط. (وَهُدىً) من الضلال. (وَرَحْمَةً) ينال بها خير الدارين. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقونه. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «علموا أرقاءكم
سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات
الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما».
(١٣) سورة الرعد
مدنية وقيل مكية إلا قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية
وهي ثلاث وأربعون آية.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١)
(المر) قيل معناه أنا الله أعلم وأرى. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يعني بالكتاب السورة و (تِلْكَ) إشارة إلى آياتها أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو
القرآن. (وَالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على (الْكِتابِ) عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى ، أو
الرفع بالابتداء وخبره (الْحَقُ) والجملة كالحجة على الجملة الأولى ، وتعريف الخبر وإن دل
على اختصاص المنزل بكونه حقا فهو أعم من المنزل صريحا أو ضمنا ، كالمثبت بالقياس
وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(٢)
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ) مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون الموصول صفة والخبر (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ). (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أساطين جمع عماد كإهاب وأهب ، أو عمود كأديم وأدم وقرئ «عمد»
كرسل. (تَرَوْنَها) صفة ل (عَمَدٍ) أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك ، وهو دليل على
وجود الصانع الحكيم فإن ارتفاعها على سائر الأجسام السماوية لها في حقيقة الجرمية
، واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض
الممكنات على بعض بإرادته وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بالحفظ والتدبير. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة
ينفع في حدوث الكائنات وبقائها. (كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لمدة معينة يتم فيها أدواره ، أو لغاية مضروبة ينقطع دونها
سيره وهي (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر ملكوته من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وغير
ذلك. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) ينزلها ويبينها مفصلة أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد. (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ
تُوقِنُونَ) لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر
على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء.
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ
فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤)
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ) بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام وينقلب عليها
الحيوان. (وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ) جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت ، جمع راسية والتاء
للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة. (وَأَنْهاراً) ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال
أسباب لتولدها. (وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) متعلق بقوله : (جَعَلَ فِيها
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين كالحلو
والحامض ، والأسود والأبيض والصغير والكبير. (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ، وقرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر (يُغْشِي) بالتشديد. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع
حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها.
(وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بعضها طيبة وبعضها سبخة ، وبعضها رخوة وبعضها صلبة ،
وبعضها تصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس. ولو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على
وجه دون وجه لم تكن كذلك ، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها ويعرض
لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية ، من حيث إنها متضامة متشاركة في النسب
والأوضاع. (وَجَنَّاتٌ مِنْ
أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع ، وتوحيد الزرع لأنه
مصدر في أصله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) بالرفع عطفا على (وَجَنَّاتٌ). (صِنْوانٌ) نخلات أصلها واحد. (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) متفرقات مختلفات الأصول. وقرأ حفص بالضم وهو لغة بني تميم
ك (قِنْوانٌ) في جمع قنو. تسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل
في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما ، وذلك أيضا مما يدل على الصانع الحكيم ، فإن
اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وقرأ ابن عامر
وعاصم ويعقوب (يُسْقى) بالتذكير على تأويل ما ذكر ، وحمزة والكسائي يفضل بالياء
ليطابق قوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالتفكر.
(وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٥)
(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من إنكارهم البعث. (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت
الإعادة أيسر شيء عليه ، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة
على إمكان الإعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع
تصرفاته. (أَإِذا كُنَّا
تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بدل من قولهم أو مفعول له ، والعامل في إذا محذوف دل عليه
: (أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ). (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) لأنهم كفروا بقدرته على البعث. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) لا ينفكون عنها ، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ)(٦)
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالعقوبة قبل العافية ، وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به
من عذاب الدنيا استهزاء. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بها ولم
يجوزوا حلول مثلها عليهم ، والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصدقة والصدقة ، العقوبة
لأنها مثل المعاقب عليه ، ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته
منه. وقرئ «المثلات» بالتخفيف و «المثلات» بإتباع الفاء العين و «المثلات»
بالتخفيف بعد الاتباع ، و «المثلات» بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة
وركبات. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) مع ظلمهم أنفسهم ، ومحله النصب على الحال والعامل فيه
المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ،
ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر ، أو أول المغفرة بالستر
والإمهال. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للكفار أو لمن شاء ، وعن النبي صلىاللهعليهوسلم : «لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده
وعقابه لا تكل كل أحد».
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه واقتراحا لنحو ما أوتي
موسى وعيسى عليهماالسلام. (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما تصح
به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هادٍ) نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى
الحق ويدعوهم إلى الصواب ، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى لكن لا يهدي إلا من
يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات. ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته
وشمول قضائه وقدره ، تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم
ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد ، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم
يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال :
(اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)
(٨)
(اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة
والمترقبة. (وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد ، وأقصى مدة
الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة. روي أن الضحاك ولد
لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له. وقيل نهاية ما عرف به أربعة
وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال الشافعي رحمهالله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة.
وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده ، وغاض جاء متعديا ولازما وكذا ازداد قال
تعالى : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية. وإسنادهما
إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ) فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين ، وهيأ له أسبابا
مسوقة إليه تقتضي ذلك. وقرأ ابن كثير (هادٍ) و (والٍ) وو (واقٍ وَما عِنْدَ
اللهِ باقٍ) بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف
الأربعة حيث وقعت لا غير ، والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء.
(عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
سَواءٌ
مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ
بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ)
(١٠)
(عالِمُ الْغَيْبِ) الغائب عن الحس. (وَالشَّهادَةِ) الحاضر له. (الْكَبِيرُ) العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء. (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن نعت
المخلوقين وتعالى عنه.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ) في نفسه. (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) لغيره. (وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) طالب للخفاء في مختبأ بالليل. (وَسارِبٌ) بارز. (بِالنَّهارِ) يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز ، وهو عطف على من أو
مستخف على أن من في معنى الاثنين كقوله :
نكن مثل من يا ذئب
يصطحبان
كأنه قال سواء
منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار ، والآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه
وشموله.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ
اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا
أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
والٍ)(١١)
(لَهُ) لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب. (مُعَقِّباتٌ) ملائكة تعتقب في حفظه ، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا
جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها ،
أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة ، أو لأن المراد بالمعقبات
جماعات. وقرئ «معاقيب» جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر. (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له ، أو يحفظونه
من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى. وقد قرئ به وقيل من بمعنى
الباء. وقيل من أمر الله صفة ثانية ل (مُعَقِّباتٌ). وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في
توهمه من قضاء الله تعالى. (إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة. (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً
فَلا مَرَدَّ لَهُ) فلا راد له فالعامل في (إِذا) ما دل عليه الجواب. (وَما لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ والٍ) ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء ، وفيه دليل على أن خلاف
مراد الله تعالى محال.
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ
فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ)(١٣)
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من أذاه. (وَطَمَعاً) في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف ، أي إرادة خوف
وطمع أو التأويل بالإخافة والإطماع ، أو الحال من (الْبَرْقَ) أو المخاطبين على إضمار ذو ، أو إطلاق المصدر بمعنى
المفعول أو الفاعل للمبالغة. وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه. (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) الغيم المنسحب في الهواء. (الثِّقالَ) وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى
الجمع.
(وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ) ويسبح سامعوه. (بِحَمْدِهِ) ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله ، أو يدل الرعد
بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته. وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : سئل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الرعد فقال : «ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق
بها السحاب». (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ) من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل (الرَّعْدُ). (وَيُرْسِلُ
الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه. (وَهُمْ يُجادِلُونَ
فِي اللهِ) حيث يكذبون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية
وإعادة الناس ومجازاتهم ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل ، والواو
إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة
أخا لبيد وفدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاصدين لقتله ، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه
ليضربه بالسيف ، فتنبه له رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة
فقتلته ، ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية ، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في
بيت سلولية ، فنزلت. (وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ) المماحلة المكايدة لأعدائه ، من محل فلان بفلان إذا كايده
وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ،
ولعل أصله المحل
بمعنى القحط. وقيل فعال من المحل بمعنى القوة. وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل
على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ،
ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد
وموساه أحد.
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ
إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ
وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)
(١٤)
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِ) الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته دون
غيره ، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ، ويؤيده ما بعده و (الْحَقِ) على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال (دَعْوَةُ) لما بينهما من الملابسة ، أو على تأويل دعوة المدعو الحق.
وقيل (الْحَقِ) هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق ، والمراد بالجملتين
إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة
لدعوة رسوله صلىاللهعليهوسلم أو دلالة على أنه على الحق ، وإن كانت عامة فالمراد وعيد
الكفرة على مجادلة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلىاللهعليهوسلم عليهم ، أو بيان ضلالهم وفساد رأيهم. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون ، فحذف الراجع أو
والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة (مِنْ دُونِهِ) عليه. (لا يَسْتَجِيبُونَ
لَهُمْ بِشَيْءٍ) من الطلبات. (إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ) إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه. (إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) يطلب منه أن يبلغه. (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان
بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم. وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن
يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه. وقرئ «تدعون» بالتاء وباسط بالتنوين. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ) في ضياع وخسار وباطل.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ)(١٥)
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة
والمؤمنون من الثقلين ، طوعا حالتي الشدة والرخاء والكفرة كرها حال الشدة
والضرورة. (وَظِلالُهُمْ) بالعرض وأن يراد به انقيادهم لإحداث ما أراده منهم شاؤوا
أو كرهوا ، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص وانتصاب (طَوْعاً وَكَرْهاً) بالحال أو العلة وقوله : (بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) ظرف ل (يَسْجُدُ) والمراد بهما الدوام أو حال من الظلال ، وتخصيص الوقتين
لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما ، والغدو جمع غداة كقنى جمع قناة ، و (الْآصالِ) جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب. وقيل الغدو مصدر
ويؤيده أنه قد قرئ و «الإيصال» وهو الدخول في الأصيل.
(قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(١٦)
(قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومتولي أمرهما. (قُلِ اللهُ) أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه ، ولأنه البين الذي لا
يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ
مِنْ دُونِهِ) ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل. (أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعا أو يدفعوا عنها ضرا
فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه ، وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم
في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المشرك
الجاهل بحقيقة
العبادة والموجب لها والموحد العالم بذلك. وقيل المعبود الغافل عنكم والمعبود
المطلع على أحوالكم. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي
الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) الشرك والتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) بل أجعلوا والهمزة للإنكار وقوله : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار. (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) خلق الله وخلقهم ، والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء
خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا
العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه
الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق. (قُلِ اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ) أي لا خالق غيره فيشاركه في العبادة ، جعل الخلق موجب
العبادة ولازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله : (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية. (الْقَهَّارُ) الغالب على كل شيء.
(أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)(١٧)
(أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن
المبادئ منها. (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع
فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع. (بِقَدَرِها) بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو
بمقدارها في الصغر والكبر. (فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَداً) رفعه والزبد وضر الغليان. (رابِياً) عاليا. وممّا توقدون عليه في النّار يعم الفلزات كالذهب
والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه. (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي طلب حلي. (أَوْ مَتاعٍ) كالأواني وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان
منافعها. (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه ، و (مِنَ) للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على
أن الضمير للناس وإضماره للعلم به. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
الْحَقَّ وَالْباطِلَ) مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء
الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع
المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى
العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة
المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين
ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفاءً) يجفأ به أي يرمي به السبيل والفلز المذاب وانتصابه على
الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ
النَّاسَ) كالماء وخلاصة الفلز. (فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ) ينتفع به أهلها. (كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللهُ الْأَمْثالَ) لا لايضاح المشتبهات.
(لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ
أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)
(لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا) للمؤمنين الذين استجابوا. (لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى) الاستجابة الحسنى. (وَالَّذِينَ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل
لشأن الفريقين ضرب المثل لهما. وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوبة أو
الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره. (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مال غير المستجيبين. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء. (وَمَأْواهُمْ) مرجعهم. (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ) المستقر والمخصوص بالذم محذوف.
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
الَّذِينَ
يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ)(٢٠)
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيستجيب. (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب لا يستبصر فيستجيب ، والهمزة لإنكار أن تقع شبهة
في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف ومعارضة الوهم.
(الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ) ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى ،
أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. (وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثاقَ) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد
وهو تعميم بعد تخصيص.
(وَالَّذِينَ
يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ
سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(٢٢)
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ
ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وعيده عموما. (وَيَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى. (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) طلبا لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه. (سِرًّا) لمن لم يعرف بالمال. (وَعَلانِيَةً) لمن عرف به. (وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان ، أو يتبعون
السيئة الحسنة فتمحوها. (أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة ،
والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف
بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
(٢٤)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى الدَّارِ) أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها) والعدن الإقامة أي جنات يقيمون فيها ، وقيل هو بطنان
الجنة. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) عطف على المرفوع في يدخلون ، وإنما ساغ للفصل بالضمير
الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم
تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين
بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في
أنسهم ، وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين.
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بشارة بدوام السلامة. (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق ب (عَلَيْكُمْ) أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب (سَلامٌ) ، فإن الخبر فاصل والباء للسببية أو للبدلية. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وقرئ «فنعم» بفتح
النون والأصل نعم
فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء وبغيره.
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٢٥)
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) يعني مقابلي الأولين. (مِنْ بَعْدِ
مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ
أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم وتهييج الفتن. (أُولئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة (عُقْبَى الدَّارِ).
(اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ)(٢٦)
(اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسعه ويضيقه. (وَفَرِحُوا) أي أهل مكة. (بِالْحَياةِ
الدُّنْيا) بما بسط لهم في الدنيا. (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أي في جنب الآخرة. (إِلَّا مَتاعٌ) إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي ، والمعنى
أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا
بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشاءُ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أقبل إلى الحق ورجع عن العناد ، وهو جواب يجري مجرى التعجب
من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم ،
فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى
منه من الآيات.
(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مِنْ) أو خبر مبتدأ محذوف. (وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أنسا به واعتمادا عليه ورجاء منه ، أو بذكر رحمته بعد
القلق من خشيته ، أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني
القرآن الذي هو أقوى المعجزات. (أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تسكن إليه.
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ خبره (طُوبى لَهُمْ) وهو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها مصدر لطاب
كبشرى وزلفى ، ويجوز فيه الرفع والنصب ولذلك قرئ (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالنصب.
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ
فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)(٣٠)
(كَذلِكَ) مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك. (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِها) تقدمتها. (أُمَمٌ) أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته
ووسعت كل شيء رحمته ، فلم يشكروا نعمه وخصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم ،
وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنياوية عليهم. وقيل نزلت في مشركي
أهل مكة حين قيل لهم (اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ). (قُلْ هُوَ رَبِّي) أي الرحمن خالقي ومتولي أمري. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا مستحق للعبادة سواه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم. (وَإِلَيْهِ مَتابِ) مرجعي ومرجعكم.
(وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ
حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)
(وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن ، أو المبالغة
في عناد الكفرة وتصميمهم أي : ولو أن كتابا زعزعت به الجبال عن مقارها. (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهارا
وعيونا. (أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتى) فتسمع فتقرؤه ، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن
لأنه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار ، أو لما آمنوا به كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ) الآية. وقيل إن قريشا قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير
بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع ، أو سخر لنا به
الريح لنركبها ونتجر إلى الشأم ، أو ابعث لنا به قصي ابن كلاب وغيره من آبائنا
ليكلمونا فيك ، فنزلت. وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير. وقيل الجواب مقدم وهو
قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ) وما بينهما اعتراض وتذكير (كُلِّمَ) خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل لله القدرة على كل شيء وهو إضراب عما تضمنته (لَوْ) من معنى النفي أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه
من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك ، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك
قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم ، وذهب أكثرهم إلى أن
معناه أفلم يعلم لما روي أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان
الله عليهم أجمعين قرءوا «أفلم يتبين» ، وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى
العلم لأنه مسبب عن العلم ، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوما ولذلك علقه بقوله
: (أَنْ لَوْ يَشاءُ
اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم
، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علما منهم
أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو ب (آمَنُوا). (وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من الكفر وسوء الأعمال. (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم وتقلقلهم. (أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها. وقيل الآية في كفار مكة
فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يزال يبعث السرايا
عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول
عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) الموت أو القيامة أو فتح مكة. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لامتناع الكذب في كلامه.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه ، والإملاء أن يترك
ملاوة من الزمان في دعة وأمن. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي عقابي إياهم.
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
واقٍ)(٣٤)
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ) رقيب عليها (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده
شيء من جزائهم ، والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ) استئناف أو عطف على (كَسَبَتْ) إن جعلت «ما» مصدرية ، أو لم يوحدوه وجعلوا عطف عليه ويكون
الظاهر فيه موضع الضمير لتنبيه على أنه المستحق للعبادة وقوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) تنبيه على أن هؤلاء الشركاء لا يستحقونها ، والمعنى صفوهم
فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) بل أتنبئونه. وقرئ «تنبئونه» بالتخفيف. (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم ، أو بصفات لهم
يستحقونها لأجلها لا يعلمها وهو العالم بكل شيء. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ) أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار
معنى كتسمية الزنجي كافورا وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه
بالإعجاز. (بَلْ زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها حقا ، أو كيدهم للإسلام
بشركهم. (وَصُدُّوا عَنِ
السَّبِيلِ) سبيل الحق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (وَصُدُّوا) بالفتح أي وصدوا الناس عن الإيمان ، وقرئ بالكسر «وصد»
بالتنوين. (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) يخذله. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يوفقه للهدى.
(لَهُمْ عَذابٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) لشدته ودوامه. (وَما لَهُمْ مِنَ
اللهِ) من عذابه أو من رحمته. (مِنْ واقٍ) حافظ.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) صفتها التي هي مثل في الغرابة ، وهو مبتدأ خبره محذوف عند
سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره. (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) على طريقة قولك صفة زيد أسمر ، أو على حذف موصوف أي مثل
الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من
العائد أو المحذوف أو من الصلة. (أُكُلُها دائِمٌ) لا ينقطع ثمرها. (وَظِلُّها) أي وظلها وكذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس (تِلْكَ) أي الجنة الموصوفة. (عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا) مآلهم ومنتهى أمرهم.
(وَعُقْبَى
الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير ، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط
للكافرين.
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ
بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)
(٣٦)
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه ومن آمن من
النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة ،
أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. (وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعني كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب
وأشياعهما. (مَنْ يُنْكِرُ
بَعْضَهُ) وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرفوه منها. (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) جواب للمنكرين أي قل لهم إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد
الله وأوحده ، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره ، وأما ما تنكرونه لما
يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام. وقرئ «ولا
أشرك» بالرفع على الاستئناف. (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره. (وَإِلَيْهِ مَآبِ) وإليه مرجعي للجزاء لا إلى غيره ، وهذا هو القدر المتفق
عليه بين الأنبياء ، وأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا
معنى لإنكاركم المخالفة فيه.
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)(٣٨)
(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها.
(أَنْزَلْناهُ حُكْماً) يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة. (عَرَبِيًّا) مترجما بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على
الحال. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ) التي يدعونك إليها ، كتقرير دينهم والصلاة إلى قبلتهم بعد
ما حولت عنها.
(بَعْدَ ما جاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ) بنسخ ذلك. (ما لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ينصرك ويمنع العقاب عنك وهو حسم لأطماعهم وتهييج للمؤمنين
على الثبات في دينهم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) بشرا مثلك. (وَجَعَلْنا لَهُمْ
أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) نساء وأولادا كما هي لك. (وَما كانَ لِرَسُولٍ) وما يصح له ولم يكن في وسعه. (أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ) تقترح عليه وحكم يلتمس منه. (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) فإنه الملي بذلك. (لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ) لكل وقت وأمد حكم يكتب على العباد على ما يقتضيه
استصلاحهم.
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٤٠)
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه. (وَيُثْبِتُ) ما تقتضيه حكمته. وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات
مكانها. وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتا أو يثبت
ما رآه وحده في صميم قلبه. وقيل يمحو قرنا ويثبت آخرين. وقيل يمحو الفاسدات
الكائنات. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي (وَيُثْبِتُ) بالتشديد. (وَعِنْدَهُ أُمُّ
الْكِتابِ) أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب
فيه.
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم أو توفيناك
قبله. (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ) لا غير. (وَعَلَيْنَا
الْحِسابُ) للمجازاة لا عليك فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم
فإنا فاعلون له وهذا طلائعه.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٤٢)
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفرة. (نَنْقُصُها مِنْ
أَطْرافِها) بما نفتحه على المسلمين منها.
(وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد له وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه قيل
لصاحب الحق معقب لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء ، والمعنى أنه حكم للإسلام بالقبال
وعلى الكفر بالإدبار وذلك كائن لا يمكن تغييره ، ومحل (لا) مع المنفي النصب على الحال أي يحكم نافذا حكمه. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والاجلاء
في الدنيا.
(وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بأنبيائهم والمؤمنين منهم. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
جَمِيعاً) إذ لا يؤبه بمكر دون مكره فإنه القادر على ما هو المقصود
منه دون غيره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ) فيعد جزاءها. (وَسَيَعْلَمُ
الْكُفَّارُ
لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ) من الحزبين حيثما يأتيهم العذاب المعد لهم وهم في غفلة منه
، وهذا كالتفسير لمكر الله تعالى بهم ، واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة
المحمودة. مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو الكافر
على إرادة الجنس ، وقرئ «الكافرون» و «الذين كفروا» و «الكفر» أي أهله وسيعلم من
أعلمه إذا أخبره.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل المراد بهم رؤساء اليهود. (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ) فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد
عليها. (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز ، أو علم التوراة
وهو ابن سلام وأضرابه ، أو علم اللوح المحفوظ وهو الله تعالى ، أي كفى بالذي يستحق
العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيدا بيننا فيخزي الكاذب منا
، ويؤيده قراءة من قرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ) بالكسر و (عِلْمُ الْكِتابِ) وعلى الأول مرتفع بالظرف فإنه معتمد على الموصول ، ويجوز
أن يكون مبتدأ والظرف خبره وهو متعين على الثاني. وقرئ «ومن عنده علم الكتاب» على
الحرف والبناء للمفعول. عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة
الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى ، وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة
وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله».
(١٤) سورة إبراهيم
مكية وهي اثنتان وخمسون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(١)
(الر كِتابٌ) أي هو كتاب. (أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. (مِنَ الظُّلُماتِ) من أنواع الضلال. (إِلَى النُّورِ) إلى الهدى. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتوفيقه وتسهيله مستعار من الاذن الذي هو تسهيل الحجاب ،
وهو صلة (لِتُخْرِجَ) أو حال من فاعله أو مفعوله. (إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله : (إِلَى النُّورِ) بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه ،
وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه
على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله.
(اللهِ الَّذِي لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ
شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها
عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)
(٣)
(اللهِ الَّذِي لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على قراءة نافع وابن عامر مبتدأ وخبر ، أو (اللهِ) خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان ل
(الْعَزِيزِ) لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ
شَدِيدٍ) وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور ،
والويل نقيض الوأل وهو النجاة ، وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل
لكنه رفع لإفادة الثبات.
(الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون
أحب إليها من غيره. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) بتعويق الناس عن الإيمان. وقرئ «ويصدون» من أصده وهو منقول
من صد صدودا إذا تنكب وليس فصيحا ، لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويبغون لها زيغا ونكوبا عن الحق ليقدحوا فيه ، فحذف الجار
وأوصل الفعل إلى الضمير والموصول بصلته يحتمل الجر صفة للكافرين والنصب على الذم
والرفع عليه أو على أنه مبتدأ خبره. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ) أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل ، والبعد في الحقيقة
للضال فوصف به فعله للمبالغة ، أو للأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٤)
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم. (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه ويترجموه
إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ، ولذلك أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بإنذار عشيرته أولا ، ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة
كتب على
ألسنتهم استقل ذلك
بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ
ومعانيها ، والعلوم المتشعبة منها وما في اتعاب القرائح وكد النفوس من القرب
المقتضية لجزيل الثواب. وقرئ «بلسن» وهو لغة فيه كريش ورياش ، ولسن بضمتين وضمة
وسكون على الجمع كعمد وعمد. وقيل الضمير في قومه لمحمد صلىاللهعليهوسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ، ثم ترجمها
جبريل عليهالسلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فإنه ضمير القوم ، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل
لتبين للعرب. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ) فيخذله عن الإيمان. (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) بالتوفيق له. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب على مشيئته. (الْحَكِيمُ) الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمة.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٥)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا) يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ) بمعنى أي أخرج لأن في الإرسال معنى القول ، أو بأن أخرج
فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأيام العرب حروبها.
وقيل بنعمائه وبلائه. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه ، فإنه إذا سمع بما أنزل
على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر
والشكر. وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيها على أن الصبر والشكر
عنوان المؤمن.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦)
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ) أي اذكروا نعمته عليكم وقت إنجائه إياكم ، ويجوز أن ينتصب
ب (عَلَيْكُمْ) إن جعلت مستقرة غير صلة للنعمة ، وذلك إذا أريدت بها
العطية دون الأنعام ، ويجوز أن يكون بدلا من (نِعْمَةَ اللهِ) بدل الاشتمال. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أحوال من آل فرعون ، أو من ضمير المخاطبين والمراد بالعذاب
ها هنا غير المراد به في سورة «البقرة» و «الأعراف» لأنه مفسر بالتذبيح والقتل ثمة
ومعطوف عليه التذبيح ها هنا ، وهو إما جنس العذاب أو استعبادهم أو استعمالهم
بالأعمال الشاقة. (وَفِي ذلِكُمْ) من حيث إنه بإقدار الله إياهم وإمهالهم فيه. (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ابتلاء منه ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء والمراد
بالبلاء النعمة.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي
لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ)(٨)
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ) أيضا من كلام موسى صلىاللهعليهوسلم ، و (تَأَذَّنَ) بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى
التكلف والمبالغة. (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الإنجاء وغيره بالإيمان
والعمل الصالح. (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ما أنعمت عليكم. (إِنَّ عَذابِي
لَشَدِيدٌ) فلعلي أعذبكم على الكفران عذابا شديدا ومن عادة أكرم
الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، والجملة مقول قول مقدر أو مفعول (تَأَذَّنَ) على أنه جار مجرى قال لأنه ضرب منه.
(وَقالَ مُوسى إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين. (فَإِنَّ اللهَ
لَغَنِيٌ) عن شكركم. (حَمِيدٌ) مستحق للحمد في ذاته ، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمته
ذرات المخلوقات ، فما ضررتم
بالكفر إلا أنفسكم
حيث حرمتموها مزيد الأنعام وعرضتموها للعذاب الشديد.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ
مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا
بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٩)
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) من كلام موسى عليه الصلاة والسلام أو كلام مبتدأ من الله. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) جملة وقعت اعتراضا ، أو الذين من بعدهم عطف على ما قبله
ولا يعلمهم اعتراض ، والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله ، ولذلك قال ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون. (جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله
تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ). أو وضعوها عليها تعجبا منه أو استهزاء عليه كمن غلبه
الضحك ، أو إسكاتا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرا لهم بإطباق الأفواه ، أو
أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : (إِنَّا كَفَرْنا) تنبيها على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه
الأنبياء يمنعونهم من التكلم ، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلا. وقيل الأيدي بمعنى
الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحي إليهم من الحكم والشرائع
في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه. (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم. (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ
مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان وقرئ «تدعونا» بالإدغام. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى
الشيء.
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا
فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١٠)
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللهِ شَكٌ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه
لا في الشك. أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور
دلالتها عليه. وأشاروا إلى ذلك بقولهم : (فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) وهو صفة أو بدل ، و (شَكٌ) مرتفع بالظرف. (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان ببعثه إيانا. (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) أو يدعوكم إلى المغفرة كقولك : دعوته لينصرني ، على إقامة
المفعول له مقام المفعول به. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى ، فإن الإسلام يجبه
دون المظالم ، وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين
الخطابين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان
وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول
الخروج عن المظالم. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم. (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو شاء الله أن
يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل. (تُرِيدُونَ أَنْ
تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) بهذه الدعوى. (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية ، أو على صحة
ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا عليهم آية
أخرى تعنتا ولجاجا.
(قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما
آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١٢)
(قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) سلموا مشاركتهم في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة
فضل الله ومنه عليهم ، وفيه دليل على أن النبوة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على
بعض بمشيئة الله تعالى. (وَما كانَ لَنا أَنْ
نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ليس إلينا الإتيان بالآيات ولا تستبد به استطاعتنا حتى
نأتي بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى فيخص كل نبي بنوع من
الآيات. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، عمموا
الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ألا ترى قوله تعالى :
(وَما لَنا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي : أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه. (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) التي بها نعرفه ونعلم أن الأمور كلها بيده. وقرأ أبو عمرو
بالتخفيف هاهنا وفي «العنكبوت». (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى
ما آذَيْتُمُونا) جواب قسم محذوف أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من
الكفار عليهم. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن
إيمانهم.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١٤)
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا) حلفوا على أن يكون أحد الأمرين ، إما إخراجهم للرسل أو
عودهم إلى ملتهم ، وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط ، ويجوز أن
يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي إلى رسلهم. (لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ) على إضمار القول ، أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه.
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أرضهم وديارهم كقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا). وقرئ «ليهلكن» «وليسكننكم» بالياء اعتبارا لأوحى كقولك :
أقسم زيد ليخرجن. (ذلِكَ) إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين. (لِمَنْ خافَ مَقامِي) موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة
، أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل المقام مقحم. (وَخافَ وَعِيدِ) أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار.
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ
جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا
يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ
وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧)
(وَاسْتَفْتَحُوا) سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين
أعدائهم من الفتاحة كقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) وهو معطوف على (فَأَوْحى) والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل للكفرة وقيل
للفريقين. فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل. وقرئ بلفظ الأمر عطفا على «ليهلكن».
(وَخابَ كُلُّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على
الله معاند للحق فلم يفلح ، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من
القبيلين كان أوقع.
(مِنْ وَرائِهِ
جَهَنَّمُ) أي من بين يديه فطنة مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا
مبعوث إليها في الآخرة. وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك. (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ) عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ). (صَدِيدٍ) عطف بيان ل (ماءٍ) وهو ما يسيل من جلود أهل النار.
(يَتَجَرَّعُهُ) يتكلف جرعه وهو صفة لماء ، أو حال من الضمير في (يُسْقى وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه ،
والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول
نفس. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ
مَكانٍ) أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات. وقيل من كل
مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح. (وَمِنْ وَرائِهِ) ومن بين يديه. (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي يستقبل في كل وقت عذابا أشد مما هو عليه. وقيل هو
الخلود في النار. وقيل حبس الأنفاس. وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل
مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله ،
فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار.
(مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ)(١٨)
(مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في
الغرابة ، أو قوله (أَعْمالُهُمْ
كَرَمادٍ) وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم. وقيل (أَعْمالُهُمْ) بدل من ال (مَثَلُ) والخبر (كَرَمادٍ). (اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ) حملته وأسرعت
الذهاب به وقرأ نافع «الرياح». (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم : نهاره
صائم وليله قائم ، شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب
ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا ، لبنائها على غير أساس من
معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه ، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح
العاصف. (لا يَقْدِرُونَ) يوم القيامة. (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم. (عَلى شَيْءٍ) لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وهو فذلكة التمثيل. (ذلِكَ) إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون. (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠)
(أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والمراد به أمته. وقيل لكل واحد من الكفرة على التلوين. (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة والوجه الذي يحق أن تخلق عليه ، وقرأ حمزة
والكسائي «خالق السموات». (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يعدمكم ويخلق خلقا آخر مكانكم ، رتب ذلك على كونه خالقا
للسموات والأرض استدلالا به عليه ، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم ثم
كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر ولم يمتنع عليه ذلك كما
قال :
(وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون
مقدور ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد رجاء لثوابه وخوفا من عقابه
يوم الجزاء.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ
هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا
مِنْ مَحِيصٍ)(٢١)
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً) أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته
، أو (لِلَّهِ) على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها
تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم ، وإنما
ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. (فَقالَ الضُّعَفاءُ) الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف
الرأي ، وإنما
كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لرؤوسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب
وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا) دافعون عنا. (مِنْ عَذابِ اللهِ
مِنْ شَيْءٍ) من الأولى للبيان واقعة موقع الحال ، والثانية للتبعيض
واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي
بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والإعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا
والثانية مصدرا ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء. (قالُوا) أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذارا عما
فعلوا بهم. (لَوْ هَدانَا اللهُ) للإيمان ووفقنا له. (لَهَدَيْناكُمْ) ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ،
أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له ،
لكن سد دوننا طريق الخلاص. (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا
أَمْ صَبَرْنا) مستويان علينا الجزع والصبر. (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) منجى ومهرب من العذاب ، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار
، وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ، ويجوز أن يكون قوله (سَواءٌ عَلَيْنا) من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع
فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون (سَواءٌ عَلَيْنا).
(وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٢)
(وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أحكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنّة وأهل النار النار
خطيبا في الأشقياء من الثقلين. (إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا أنجزه وهو الوعد بالبعث
والجزاء. (وَوَعَدْتُكُمْ) وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب وإن كانا فالأصنام تشفع
لكم. (فَأَخْلَفْتُكُمْ) جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلط فألجئكم إلى الكفر والمعاصي. (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي وهو ليس من جنس السلطان
ولكنه على طريقة قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أسرعتم إجابتي. (فَلا تَلُومُونِي) بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك. (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث أطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم ،
واحتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه ، إذ
يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله وهو الكسب الذي يقوله أصحابنا. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) بمغيثكم من العذاب. (وَما أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَ) بمغيثي وقرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين
، وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه. من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع أن حركة ياء
الإضافة الفتح ، فإذا لم تكسر وقبلها ألف فبالحري أن لا تكسر وقبلها ياء ، أو على
لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء والكاف في : ضربته ،
وأعطيتكه ، وحذف الياء اكتفاء بالكسرة. (إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) «ما» إما مصدرية و
(مِنْ) متعلقة بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا
اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ). أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا
، و (مِنْ) متعلقة ب (كَفَرْتُ) أي كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى بطاعتكم إياي
فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم ، حين رددت أمره بالسجود
لآدم عليه الصلاة والسلام وأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال
ذلك لطف للسامعين
وإيقاظ لهم حتى
يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم.
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بإذن الله تعالى وأمره والمدخلون هم الملائكة. وقرئ «وأدخل»
على التكلم فيكون قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلقا بقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ)(٢٥)
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) كيف اعتمده ووضعه. (كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ويجوز أن تكون (كَلِمَةً) بدلا من (مَثَلاً) و (كَشَجَرَةٍ) صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي (كَشَجَرَةٍ) ، وأن تكون أول مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل وقد قرئت
بالرفع على الابتداء. (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض ضارب بعروقه فيها. (وَفَرْعُها) وأعلاها. (فِي السَّماءِ) ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس
لاكتسابه الاستغراق من الإضافة. وقرئ «ثابت أصلها» والأول على أصله ولذلك قيل إنه
أقوى ولعل الثاني أبلغ.
(تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي ثمرها. (كُلَّ حِينٍ) وقته الله تعالى لإثمارها. (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادة خالقها وتكوينه. (وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير ، فإنه تصوير للمعاني
وإدناء لها من الحس.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ
قَرارٍ)(٢٦)
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) كمثل شجرة خبيثة (اجْتُثَّتْ) استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية. (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لأن عروقها قريبة منه. (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار. واختلف في الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة :
بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى
والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما
أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة
الطيبة بالنخلة. وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة ، والخبيثة بالحنظلة والكشوث ،
ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك.
(يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢٧)
(يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهماالسلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود. (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ، ولا تدهشهم
أهوال يوم القيامة. وروي (أنهصلىاللهعليهوسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه
ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي
الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلىاللهعليهوسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ). (وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ) الذين
ظلموا أنفسهم
بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ
الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى
النَّارِ)(٣٠)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) أي شكر نعمته كفرا بأن وضعوه مكانه ، أو بدلوا نفس النعمة
كفرا ، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة
، خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم
بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر
وصاروا أذلاء ، فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر ، وعن عمر وعلي رضي الله
تعالى عنهما : هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة
فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. (وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ) الذين شايعوهم في الكفر. (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك بحملهم على الكفر.
(جَهَنَّمَ) عطف بيان لها. (يَصْلَوْنَها) حال منها أو من القوم ، أي داخلين فيها مقاسين لحرها ، أو
مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم. (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي وبئس المقر جهنم.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب
بفتح الياء ، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته
جعل كالغرض. (قُلْ تَمَتَّعُوا) بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي
يتمتع بها ، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى
المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع.
(قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)(٣١)
(قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا) خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق
العبودية ، ومفعول (قُلْ) محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا
الصلاة وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلىاللهعليهوسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ،
ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في
قوله :
محمّد تفد نفسك
كلّ نفس
|
|
إذا ما خفت من
أمر تبالا
|
لدلالة قل عليه.
وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما ، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما
بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا. (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي
ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، والأحب إعلان الواجب وإخفاء
المتطوع به. (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدي به نفسه. (وَلا خِلالٌ) ولا مخالة فيشفع لك خليل ، أو من قبل أن يأتي يوم لا
انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام.
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ
(٣٢)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مبتدأ وخبر (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر
فينتصب بالعلة ، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بمشيئته إلى حيث توجهتم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهارَ) فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء
تعليم كيفية اتخاذها.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من
المكونات. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن
الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب (ما سَأَلْتُمُوهُ) ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل
، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول. وقرئ «من
كل» بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن
تكون «ما» نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن أفرادها ، فإنها
غير متناهية. وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو يظلم نفسه بأن يعرضها
للحرمان. (كَفَّارٌ) شديد الكفران. وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في
النعمة يجمع ويمنع.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٦)
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) بلدة مكة. (آمِناً) ذا أمن لمن فيها ، والفرق بينه وبين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمنا ، وفي
الثاني جعله من البلاد الآمنة. (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَ) بعدني وإياهم ، (أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنامَ) واجعلنا منها في جانب وقرئ «وأجنبني» وهما على لغة نجد
وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره. وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله
وحفظه إياهم وهو بظاهره ، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته. وزعم ابن عيينة أو أولاد
إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجا به وإنما كانت لهم حجارة
يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد
الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا)
(فَمَنْ تَبِعَنِي) على ديني. (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة.
وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين
غيره.
(رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ)(٣٧)
(رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل
ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم. (بِوادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ) يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظما ممنعا
يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقا أي أعتق منه.
ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه. روي
أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليهالسلام فولدت منه إسماعيل عليهالسلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى
أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على
الماء ، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا
ففعلت. (رَبَّنا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) اللام لام كي وهي متعلقة ب (أَسْكَنْتُ) أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا
لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنها المقصودة
بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها. وقيل لام الأمر والمراد
هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم
لها. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ) أي أفئدة من أفئدة الناس ، و (مِنْ) للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس
والروم ولحجت اليهود والنصارى ، أو للابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس.
وقرأ هشام «أفئيدة» بخلف عنه بياء بعد الهمزة. وقرئ «آفدة» وهو يحتمل أن يكون
مقلوب «أفئدة» كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة
يعجلون نحوهم «وأفدة» بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجها بين بين
ويجوز أن يكون من أفد. (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم شوقا وودادا. وقرئ «تهوى» على البناء للمفعول
من أهوى إليه غيره و «تهوى» من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى
النزوع. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ) مع سكناهم واديا لا نبات فيه. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة ، فأجاب الله عزوجل دعوته فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد
فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.
(رَبَّنا إِنَّكَ
تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨)
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٣٩)
(رَبَّنا إِنَّكَ
تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تعلم سرنا كما تعلم علننا ، والمعنى إنك أعلم بأحوالنا
ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارا
لعبوديتك وافتقارا إلى رحمتك واستعجالا لنيل ما عندك. وقيل ما نخفي من وجد الفرقة
وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك ، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجأ
إلى الله تعالى. (وَما يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم ، ومن
للاستغراق.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر
استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيها من آلائه. (إِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ). روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة وإسحاق لمائة
واثنتي عشرة سنة. (إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به ، وهو من
أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى
دعاء الله تعالى على المجاز ، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب
له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها.
(رَبِّ اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠)
رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)
(رَبِّ اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلاةِ) معدلا لها مواظبا عليها. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على المنصوب في (اجْعَلْنِي) ، والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم
الماضية أن يكون في ذريته كفار. (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ
دُعاءِ) واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) وقرئ «ولأبويّ» ، وقد تقدم عذر استغفاره لهما. وقيل أراد
بهما آدم وحواء. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ
يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم : قامت الحرب على
ساق ، أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازا.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٤٣)
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على
أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية ، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا
محالة ، أو لكل من توهم غفلته جهلا بصفاته واغترارا بإمهاله. وقيل إنه تسلية
للمظلوم وتهديد للظالم. (إِنَّما
يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخر عذابهم وعن أبي عمرو بالنون. (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى.
(مُهْطِعِينَ) أي مسرعين إلى الداعي ، أو مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة
وخوفا ، وأصل الكلمة هو الإقبال على الشيء. (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها. (لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف ، أو لا يرجع إليهم نظرهم
فينظروا إلى أنفسهم. (وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ) خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه يقال
للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير :
من الظلمان جؤجؤه
هواء
وقيل خالية عن
الخير خاوية عن الحق.
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)(٤٤)
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمد. (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذابُ) يعني يوم القيامة ، أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم ،
وهو مفعول ثان ل (أَنْذِرِ). (فَيَقُولُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) بالشرك والتكذيب. (رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من
الزمان قريب ، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك. (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ
الرُّسُلَ) جواب للأمر ونظيره (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)
(أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) على إرادة القول و (ما لَكُمْ) جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية ،
والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت ، ولعلهم أقسموا بطرا
وغرورا أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا. وقيل أقسموا أنهم لا
ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى
كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).
(وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥)
وَقَدْ
مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبالُ)(٤٦)
(وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي كعاد وثمود ، وأصل سكن أن يعدى بفي كقرّ
وغني وأقام ، وقد يستعمل بمعنى التبويء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ) بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر
عندكم من أخبارهم. (وَضَرَبْنا لَكُمُ
الْأَمْثالَ) من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق
العذاب ، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.
(وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ) المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه ، أو عنده ما يمكرهم
به جزاء لمكرهم وإبطالا له. (وَإِنْ كانَ
مَكْرُهُمْ) في العظم والشدة. (لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ) مسوى لإزالة الجبال. وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله
: (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ) على أن الجبال مثل لأمر النبي صلىاللهعليهوسلم ونحوه. وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا
ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا من آيات الله تعالى وشرائعه. وقرأ الكسائي (لِتَزُولَ) بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ،
ومعناه تعظيم مكرهم. وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و «إن كاد
مكرهم».
(فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)(٤٧)
(فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) مثل قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا) ، (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا
يخلف الوعد أصلا كقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر قادر لا يدافع. (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.
(يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ)(٤٨)
(يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) بدل من (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ) أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده. ولا
يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل إن لا يعمل فيما بعده. (وَالسَّماواتُ) عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات ، والتبديل
يكون في الذات كقولك : بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) وفي الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وغيرت شكلها
، وعليه قوله : (يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) والآية تحتملهما ، فعن علي رضي الله تعالى عنه : تبدل أرضا
من فضة وسموات من ذهب ، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما : يحشر الناس على
أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك
الأرض وإنما تغير صفاتها. ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه
الصلاة والسلام قال : «تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) واعلم أنه لا يلزم على الوجه الأول أن يكون الحاصل
بالتبديل أرضا وسماء على الحقيقة ، ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم
والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) وقوله : (إِنَّ كِتابَ
الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ). (وَبَرَزُوا) من أجداثهم (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) لمحاسبته ومجازاته ، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن
الأمر في غاية الصعوبة كقوله :
(لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد
إلى غيره ولا مستجار.
(وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)(٥٠)
(وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال
كقوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة
والملكات الباطلة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ، وهو يحتمل أن
يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم. (فِي الْأَصْفادِ) متعلق ب (مُقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره ، والصفد القيد. وقيل الغل قال سلامة بن
جندل :
وزيد الخيل قد
لاقى صفادا
|
|
يعضّ بساعد
وبعظم ساق
|
وأصله الشد.
(سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم. (مِنْ قَطِرانٍ) وجاء قطران لغتين فيه ، وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ
فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته ، وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة
تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص ، ليجتمع عليهم لذع القطران
ووحشة لونه ونتن ريحه مع إسراع النار في جلودهم ، على أن التفاوت بين القطرانين
كالتفاوت بين النارين ، ويحتمل أن يكون تمثيلا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات
الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعا من الغموم والآلام ، وعن يعقوب (قَطِرانٍ) والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره ،
والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في (مُقَرَّنِينَ). (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في
تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله ، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة
عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ).
(لِيَجْزِيَ اللهُ
كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٥١)
(لِيَجْزِيَ اللهُ
كُلَّ نَفْسٍ) أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة. (ما كَسَبَتْ) أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا بين أن المجرمين
يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم ، ويتعين ذلك أن علق اللام ب (بَرَزُوا). (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) لأنه لا يشغله حساب عن حساب.
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)
(هذا) إشارة إلى القرآن أو السورة أو ما فيه العظة والتذكير أو
ما وصفه من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ). (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) كفاية لهم في الموعظة. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ ، فتكون
اللام متعلقة بالبلاغ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره : ولينذروا به أنزل أو تلي.
وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعد له.
(وَلِيَعْلَمُوا
أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المنبهة
على ما يدل عليه (وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم ، واعلم أنه
سبحانه وتعالى ذكر لهذا
البلاغ ثلاث فوائد
هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب ، تكميل الرسل للناس ، واستكمال القوة النظرية
التي منتهى كمالها التوحيد ، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى
، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة
إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها».
(١٥) سورة الحجر
مكية وهي تسع وتسعون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)
(٢)
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى آيات السورة و (الْكِتابِ) هو السورة ، وكذا القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات الجامع
لكونه كتابا كاملا وقرآنا يبين الرشد من الغي بيانا غريبا.
(رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر أو حلول الموت أو
يوم القيامة. وقرأ نافع وعاصم (رُبَما) بالتخفيف ، وقرئ «ربما» بالفتح والتخفيف وفيه ثمان لغات ضم
الراء وفتحها مع التشديد والتخفيف وبتاء التأنيث ودونها ، وما كافة تكفه عن الجر
فيجوز دخوله على الفعل وحقه أن يدخل الماضي لكن لما كان المترقب في إخبار الله
تعالى كالماضي في تحققه أجري مجراه. وقيل : ما نكرة موصوفة كقوله :
ربّما تكره
النّفوس من الأم
|
|
ر له فرجة كحلّ
العقال
|
ومعنى التقليل فيه
الإيذان بأنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة فبالحري أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم
يودونه كل ساعة. وقيل تدهشهم أهوال القيامة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات
تمنوا ذلك ، والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك : حلف بالله ليفعلن.
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٣)
(ذَرْهُمْ) دعهم. (يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم. (وَيُلْهِهِمُ
الْأَمَلُ) ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن
الاستعداد للمعاد. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ، والغرض إقناط الرسول صلىاللهعليهوسلم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان ، وأن نصحهم بعد
اشتغال بما لا طائل تحته ، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن إيثار التنعم وما يؤدي إليه
طول الأمل.
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
ما
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ، والمستثنى جملة واقعة صفة
لقرية ، والأصل أن لا تدخلها الواو كقوله : (إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ) ولكن لما شابهت صورتها الحال أدخلت تأكيدا للصوقها
بالموصوف.
(ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي وما يستأخرون عنه ، وتذكير ضمير (أُمَّةٍ) فيه للحمل على المعنى.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٧)
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) نادوا به النبي صلىاللهعليهوسلم على التهكم ، ألا ترى إلى ما نادوه له وهو قولهم. (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ونظير ذلك قول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ، والمعنى إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى
نزل عليك الذكر ، أي القرآن.
(لَوْ ما تَأْتِينا) ركب (لَوْ) مع (ما) كما ركبت مع لا لمعنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض.
(بِالْمَلائِكَةِ) ليصدقوك ويعضدوك على الدعوة كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). أو للعقاب على تكذيبنا لك كما أتت الأمم المكذبة قبل. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.
(ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)
ما ينزّل الملائكة
بالياء ونصب (الْمَلائِكَةَ) على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون
وأبو بكر بالتاء والبناء للمفعول ورفع الملائكة. وقرئ «تنزل» بمعنى تتنزل. (إِلَّا بِالْحَقِ) إلا تنزيلا ملتبسا بالحق أي بالوجه الذي قدره واقتضته
حكمته ، ولا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا ، ولا في
معاجلتكم بالعقوبة فإن منكم ومن ذراريكم من سبقت كلمتنا له بالإيمان. وقيل الحق
الوحي أو العذاب. (وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ إِذاً) جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا الملائكة ما كانوا
منظرين.
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه وقرره بقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي من التحريف والزيادة والنقص بأن جعلناه معجزا مباينا
لكلام البشر ، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان ، أو نفي تطرق الخلل إليه
في الدوام بضمان الحفظ له كما نفى أن يطعن فيه بأنه المنزل له. وقيل الضمير في (لَهُ) للنبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم ، جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من
شاعه إذا تبعه ، وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار ، والمعنى نبأنا
رجالا فيهم وجعلناهم رسلا فيما بينهم.
(وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما يفعل هؤلاء ، وهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام و (ما) للحال لا يدخل إلا مضارعا بمعنى الحال ، أو ماضيا قريبا
منه وهذا على حكاية الحال الماضية.
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢)
لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(١٣)
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) ندخله. (فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ) والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، والرمح في
المطعون والضمير للاستهزاء. وفيه دليل على أن الله يوجد الباطل في قلوبهم. وقيل ل (الذِّكْرَ) فإن الضمير الآخر في قوله :
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) له وهو حال من هذا الضمير ، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك
الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به ، أو بيان للجملة المتضمنة له ، وهذا
الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب
الضمائر توافقها
في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من
المجرمين ، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه. (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم ، أو
بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة.
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا
إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المقترحين. (باباً مِنَ السَّماءِ
فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون
، أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم.
(لَقالُوا) من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق. (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) سدت عن الإبصار بالسحر من السكر ، ويدل عليه قراءة ابن
كثير بالتخفيف ، أو حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ «سكرت». (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات ،
وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل
إليهم بنوع من السحر.
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦)
وَحَفِظْناها
مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)(١٨)
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً) اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة
مع بساطة السماء. (وَزَيَّنَّاها) بالأشكال والهيئات البهية. (لِلنَّاظِرِينَ) المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها.
(وَحَفِظْناها مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها
ويطلع على أحوالها.
(إِلَّا مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ) بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سرا ، شبه به
خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من
أوضاع الكواكب وحركاتها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنهم كانوا لا
يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سموات ،
فلما ولد محمد صلىاللهعليهوسلم منعوا من كلها بالشهب. ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد
لجواز أن يكون لها أسباب أخر. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع. (فَأَتْبَعَهُ) فتبعه ولحقه. (شِهابٌ مُبِينٌ) ظاهر للمبصرين ، والشهاب شعلة نار ساطعة ، وقد يطلق للكوكب
والسنان لما فيهما من البريق.
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)(٢٠)
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها) بسطناها. (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) جبالا ثوابت. (وَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض أو فيها وفي الجبال. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته ، أو مستحسن ، مناسب من
قولهم كلام موزون ، أو ما يوزن ويقدر أو له وزن في أبواب النعمة والمنفعة.
(وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والملابس. وقرئ «معائش» بالهمزة على
التشبيه بشمائل : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ) عطف على (مَعايِشَ) أو على محل (لَكُمْ) ، ويريد به العيال والخدم
والمماليك وسائر
ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا ، فإن الله يرزقهم وإياهم ، وفذلكة الآية
الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة
فيا أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا تكون كذلك على
كمال قدرته وتناهي حكمته ، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم
عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه ، ثم بالغ في ذلك وقال :
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١)
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف
ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي
لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. (وَما نُنَزِّلُهُ) من بقاع القدرة. (إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ) حده الحكمة وتعلقت به المشيئة ، فإن تخصيص بعضها بالإيجاد
في بعض الأوقات مشتملا على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم.
(وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما
أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)
وَإِنَّا
لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ)(٢٣)
(وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ) حوامل ، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر
بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم ، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى
المطيحات في قوله :
ومختبط ممّا تطيح
الطوائح
وقرئ «وأرسلنا
الريح» على تأويل الجنس. (فَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فجعلناه لكم سقيا. (وَما أَنْتُمْ لَهُ
بِخازِنِينَ) قادرين متمكنين من إخراجه ، نفى عنهم ما أثبته لنفسه ، أو
حافظين في الغدران والعيون والآبار ، وذلك أيضا يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة
الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس ، فإن طبيعة الماء
تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي) بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها. (وَنُمِيتُ) بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير
الضمير للدلالة على الحصر. (وَنَحْنُ
الْوارِثُونَ) الباقون إذا مات الخلائق كلها.
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)
وَإِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) من استقدم ولادة وموتا ومن استأخر ، أو من خرج من أصلاب
الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، أو
تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم ، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال
قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل رغب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت. وقيل إن امرأة حسناء
كانت تصلي خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت.
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ) لا محالة للجزاء ، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر
والمتولي لحشرهم لا غير ، وتصدير الجملة ب (إِنَ) لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال
قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله : (إِنَّهُ حَكِيمٌ) باهر الحكمة متقن في أفعاله. (عَلِيمٌ) وسع علمه كل شيء.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢٧)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. وقيل هو من صلصل إذا
أنتن تضعيف صل. (مِنْ حَمَإٍ) طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء ، وهو صفة صلصال أي
كائن (مِنْ حَمَإٍ). (مَسْنُونٍ) مصور من سنة الوجه ، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر
المذابة تصب في القوالب ، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان
أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من
روحه ، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ، فإن ما يسيل بينهما يكون
منتنا ويسمى السنين.
(وَالْجَانَ) أبا الجن. وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو
الظاهر من الإنسان ، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كأن
الجنس بأسره مخلوقا منها وانتصابه بفعل يفسره. (خَلَقْناهُ مِنْ
قَبْلُ) من قبل خلق الإنسان. (مِنْ نارِ السَّمُومِ) من نار الحر الشديد النافذ في المسام ، ولا يمتنع خلق
الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة ، فضلا عن
الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري ، فإنها أقبل لها من التي الغالب
فيها الجزء الأرضي ، وقوله : (مِنْ نارِ) باعتبار الغالب كقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى
وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان
الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء.
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨)
فَإِذا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢٩)
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) واذكر وقت قوله : (لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي ، وأصل النفخ إجراء
الريح في تجويف جسم آخر ، ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من
القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ،
جعل تعلقه بالبدن نفخا وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في «النساء». (فَقَعُوا لَهُ) فاسقطوا له. (ساجِدِينَ) أمر من وقع يقع.
(فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ
إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(٣١)
(فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص ، وقيل أكد
بالكل للإحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة ، وفيه نظر إذ لو كان
الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا.
(إِلَّا إِبْلِيسَ) إن جعل منقطعا اتصل به قوله : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي ولكن إبليس أبى وإن جعل متصلا كان استئنافا على أنه
جواب سائل قال هلا سجد.
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما
لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ
لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٣٣)
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما
لَكَ أَلَّا تَكُونَ) أي غرض لك في أن لا تكون. (مَعَ السَّاجِدِينَ) لآدم.
(قالَ لَمْ أَكُنْ
لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد. (لِبَشَرٍ) جسماني كثيف وأنا ملك روحاني. (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ) وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهي أشرفها ، استنقص آدم عليهالسلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة «الأعراف».
(قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤)
وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٣٥)
(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من الخير والكرامة ، فإن من يطرد يرجم بالحجر أو
شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
(وَإِنَّ عَلَيْكَ
اللَّعْنَةَ) هذا الطرد والإبعاد. (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) فإنه منتهى أمد اللعن ، فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان
الجزاء وما في قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى آخر ينسى عنده هذه. وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد
غاية يضر بها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل.
(قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(٣٦)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧)
إِلى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٣٨)
(قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي) فأخرني ، والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). (إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) أراد أن يجد فسحة في الإغواء أو نجاة من الموت ، إذ لا موت
بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني.
(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) المسمى فيه أجلك عند الله ، أو انقراض الناس كلهم وهو
النفخة الأولى عند الجمهور ، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة ،
واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولا بيوم الجزاء لما عرفته وثانيا
بيوم البعث ، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل ، وثالثا
بالمعلوم لوقوعه في الكلامين ، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم
ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه ، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب
إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال.
(قالَ رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ)(٤٠)
(قالَ رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم وما مصدرية وجوابه. (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا
التي هي دار الغرور كقوله : (أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ) وفي انعقاد القسم بأفعال الله تعالى خلاف. وقيل للسببية
والمعتزلة أوّلوا الإغواء بالنسبة إلى الغي ، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود
لآدم عليهالسلام ، أو بالإضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له ،
وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه
أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل ، وأن في إمهاله تعريضا
لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب ، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب. (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ولأحملنهم أجمعين على الغواية.
(إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم
كيدي. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا
نفوسهم لله تعالى.
(قالَ هذا صِراطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٤٢)
(قالَ هذا صِراطٌ
عَلَيَ) حقّ علي أن أراعيه. (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف عنه ، والإشارة إلى ما تضمنه
الاستثناء وهو
تخليص المخلصين من إغوائه ، أو الإخلاص على معنى أنه طريق (عَلَيَ) يؤدي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج وضلال. وقرئ (عَلَيَ) من علو الشرف.
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) تصديق لإبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم (الْمُخْلَصِينَ) ، ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم ،
أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده ، فإن منتهى تزيينه
التحريض والتدليس كما قال : (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، وعلى الأول يدفع قول من
شرط أن يكون المستثنى أقل من الباقي لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين.
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)
(٤٤)
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ) لموعد الغاوين أو المتبعين. (أَجْمَعِينَ) تأكيد للضمير أو
حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف ، ومعنى الإضافة إن جعلته
اسم مكان فإنه لا يعمل.
(لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ) يدخلون منها لكثرتهم ، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في
المتابعة وهي : جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ،
ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة
الشهوية والغضبية ، أو لأن أهلها سبع فرق. (لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ) من الأتباع. (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أفرز له ، فأعلاها للموحدين العصاة ، والثاني لليهود
والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع
للمنافقين ، وقرأ أبو بكر «جزء» بالتثقيل. وقرئ «جز» على حذف الهمزة وإلقاء حركتها
على الزاي ، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف ، ومنهم حال منه أو
من المستكن في الظرف لا في (مَقْسُومٌ) لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ
آمِنِينَ)(٤٦)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لكل واحد جنة وعين أو لكل عدة منهما كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ثم قوله : (وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) وقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية ، وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وهشام (وَعُيُونٍ) والعيون بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين. (ادْخُلُوها) على إرادة القول ، وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه
ماض فلا يكسر التنوين. (بِسَلامٍ) سالمين أو مسلما عليكم. (آمِنِينَ) من الآفة والزوال.
(وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧)
لا
يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)
(وَنَزَعْنا) في الدنيا بما ألف بين قلوبهم ، أو في الجنة بتطييب
نفوسهم. (ما فِي صُدُورِهِمْ
مِنْ غِلٍ) من حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه : أرجو
أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب
القرب. (إِخْواناً) حال من الضمير في جنات ، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في
آمنين أو الضمير المضاف إليه ، والعامل فيها معنى الإضافة وكذا قوله : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ويجوز أن يكونا صفتين لإخوانا أو حال من ضميره لأنه بمعنى
متصافين ، وأن يكون متقابلين حالا من المستقر في على سرر.
(لا يَمَسُّهُمْ فِيها
نَصَبٌ) استئناف أو حال بعد حال ، أو حال من الضمير في متقابلين. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فإن تمام النعمة بالخلود.
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ
عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
وَنَبِّئْهُمْ
عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ)
(٥١)
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له ، وفي ذكر
المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها ، وفي
توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) على (نَبِّئْ عِبادِي) تحقيق لهما بما يعتبرون به.
(إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٥٣)
(إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليك سلاما أو سلمنا سلاما. (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت ، ولأنهم
امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
(قالُوا لا تَوْجَلْ) وقرئ «لا تأجل» من أوجله «ولا تواجل» من واجله بمعنى
أوجله. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، فإن المبشر لا
يخاف منه. وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر. (بِغُلامٍ) هو إسحاق عليهالسلام لقوله : (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ). (عَلِيمٍ) إذا بلغ.
(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤)
قالُوا
بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ
يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)
(٥٦)
(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه ، أو إنكار لأن يبشر
به في مثل هذه الحالة وكذا قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأي أعجوبة تبشرون ، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة
بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء ، وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل
القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف
نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بما يكون لا محالة ، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة
هي حق وهو قول الله تعالى وأمره. (فَلا تَكُنْ مِنَ
الْقانِطِينَ) من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من
غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر ، وكان استعجاب إبراهيم عليهالسلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك :
(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى
وكمال علمه وقدرته كما قال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقرأ أبو عمرو والكسائي (يَقْنَطُ) بالكسر ، وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح.
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)(٥٨)
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ، ولعله علم
أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى العدد ،
ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهماالسلام ، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت
تمام المقصود لابتدؤوا بها.
(قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني قوم لوط.
(إِلاَّ آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)(٦٠)
(إِلَّا آلَ لُوطٍ) إن كان استثناء من (قَوْمٍ) كان منقطعا إذ ال (قَوْمٍ) مقيد بالإجرام وإن كان استثناء من الضمير في (مُجْرِمِينَ) كان متصلا ، والقوم والإرسال شاملين للمجرمين ، و (آلَ لُوطٍ) المؤمنين به وكأن المعنى : إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم
إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم ، ويدل عليه قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي مما يعذب به القوم ، وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء
ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز أن يكون قوله :
(إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من (آلَ لُوطٍ) ، أو من ضميرهم ، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف
الحكمين اللهم إلا أن يجعل (إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ) اعتراضا ، وقرأ حمزة والكسائي (لَمُنَجُّوهُمْ) مخففا. (قَدَّرْنا إِنَّها
لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم (قَدَّرْنا) هنا وفي «النمل» بالتخفيف ، وإنما علق والتعليق من خواص
أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم. ويجوز أن يكون (قَدَّرْنا) أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأصله جعل
الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم. وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما
لهم من القرب والاختصاص به.
(فَلَمَّا جاءَ آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ
جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٦٤)
(فَلَمَّا جاءَ آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بشر.
(قالُوا بَلْ جِئْناكَ
بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك
من عدوك ، وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه.
(وَأَتَيْناكَ
بِالْحَقِ) باليقين من عذابهم. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به.
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥)
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) فاذهب بهم في الليل ، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السري
وهما بمعنى وقرئ «فسر» من السير. (بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ) في طائفة من الليل وقيل في آخره قال :
افتحي الباب
وانظري في النّجوم
|
|
كم علينا من قطع
ليل بهيم
|
(وَاتَّبِعْ
أَدْبارَهُمْ) وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما
أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب. وقيل نهوا عن
الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة. (وَامْضُوا حَيْثُ
تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه ، وهو الشام أو مصر فعدي (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) و (تُؤْمَرُونَ) إلى ضميره ٠ المحذوف على الاتساع.
(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)(٦٧)
(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أي وأوحينا إليه مقضيا ، ولذلك عدي بإلى. (ذلِكَ الْأَمْرَ) مبهم يفسره. (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ
مَقْطُوعٌ) ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم للأمر وتعظيم له.
وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.
(مُصْبِحِينَ) داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء ، أو من الضمير في مقطوع
وجمعه للحمل على المعنى. ف (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) في معنى مدبري هؤلاء.
(وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ) سدوم. (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط طمعا فيهم.
(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ
ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ
وَلا تُخْزُونِ)(٦٩)
(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ
ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.
(وَاتَّقُوا اللهَ) في ركوب الفاحشة. (وَلا تُخْزُونِ) ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان ، أو لا تخجلوني
فيهم من الخزاية وهو الحياء.
(قالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ
بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)
(٧١)
(قالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) على أن تجير منهم أحدا أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا
يتعرضون لكل أحد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه ، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم.
(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم ، وفيه وجوه
ذكرت في سورة «هود». (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) قضاء الوطر أو ما أقول لكم.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٢)
(لَعَمْرُكَ) قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة
والسلام وقيل لوط عليهالسلام قالت الملائكة له ذلك ، والتقدير لعمرك قسمي ، وهو لغة في
العمر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم. (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين
خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم. (يَعْمَهُونَ) يتحيرون فكيف يسمعون نصحك. وقيل الضمير لقريش والجملة
اعتراض.
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)
فَجَعَلْنا
عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)(٧٤)
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ) يعني صيحة هائلة مهلكة. وقيل صيحة جبريل عليهالسلام. (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس.
(فَجَعَلْنا عالِيَها) عالي المدينة أو عالي قراهم. (سافِلَها) وصارت منقلبة بهم. (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل ، وقد تقدم مزيد
بيان لهذه القصة في سورة «هود».
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبّتون في نظرهم حتى يعرفوا
حقيقة الشيء بسمته.
(وَإِنَّها) وإن المدينة أو القرى. (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله.
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨)
فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩)
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه
فأهلكوا بالظلة ، و (الْأَيْكَةِ) الشجرة المتكاثفة.
(فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ) بالإهلاك. (وَإِنَّهُما) يعني سدوم والأيكة. وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثا
إليهما فكان ذكر إحداهما منبها على الأخرى. (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح ، والإمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق
ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به.
(وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ
آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٨١)
(وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني ثمود ، كذّبوا صالحا ، ومن كذّب واحدا من الرسل
فكأنما كذب الجميع ، ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحا ومن معه من المؤمنين ، و
(الْحِجْرِ) واد بين المدينة والشأم يسكنونه.
(وَآتَيْناهُمْ
آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم ، أو معجزاته كالناقة
وسقيها وشربها ودرها ، أو ما نصب لهم من الأدلة.
(وَكانُوا يَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤)
(وَكانُوا يَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها ، أو من
العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه.
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)(٨٦)
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقا ملتبسا بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام
الشرور ، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فينتقم الله لك فيها ممن كذبك. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وقيل
هو منسوخ بآية السيف.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم. (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم ، أو
هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح ، وفي مصحف عثمان
وأبيّ رضي الله عنهما «هو الخالق» ، وهو يصلح للقليل والكثير و (الْخَلَّاقُ) يختص بالكثير.
(وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(٨٧)
(وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً) سبع آيات وهي الفاتحة. وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها «الأنفال»
و «التوبة» فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وقيل «التوبة» وقيل
«يونس» أو الحواميم السبع. وقيل سبع صحائف وهي الأسباع. (مِنَ الْمَثانِي) بيان للسبع والمثاني من التثنية ، أو الثناء فإن كل ذلك
مثنى تكرر قراءته ، أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مثني عليه بالبلاغة والإعجاز ،
أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته
العظمى وأسمائه
الحسنى ، ويجوز أن يراد ب (الْمَثانِي) القرآن أو كتب الله كلها فتكون (مِنَ) للتبعيض. (وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ) إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو
العام على الخاص ، وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر.
(لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
وَقُلْ
إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(٨٩)
(لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب. (إِلى ما مَتَّعْنا
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفار ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته
فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه
«من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم
صغيرا». وروي «أنه عليه الصلاة والسلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة
والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت
هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم : لقد أعطيتم سبع
آيات هي خير من هذه القوافل السبع». (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) أنهم لم يؤمنوا. وقيل إنهم المتمتعون به. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وتواضع لهم وارفق بهم.
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.
(كَما أَنْزَلْنا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)(٩٠)
(كَما أَنْزَلْنا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم ، فهو وصف لمفعول النذير
أقيم مقامه والمقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا
الناس عن الإيمان بالرسول صلىاللهعليهوسلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا أي
تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل
عليه. (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) فإنه بمعنى أنزلنا إليك ، والمقتسمون هم الذين جعلوا
القرآن عضين حيث قالوا عنادا : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف
لهما ، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض
كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرءون من كتبهم ، فيكون ذلك تسلية لرسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، وقوله (لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) إلخ اعتراضا ممدا لها.
(الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ)(٩٣)
(الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ) أجزاء جمع عضة ، وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها
أعضاء.
وقيل فعلة من
عضهته إذا بهته ، وفي الحديث «لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم العاضهة والمستعضهة» وقيل أسحارا وعن عكرمة المعضة السحر ،
وإنما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ
خبره.
(فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). (عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) من التقسيم أو النسبة إلى السحر فنجازيهم عليه. وقيل هو
عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي.
(فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(٩٤)
(فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) فاجهر به ، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا ، أو فافرق
به بين الحق والباطل ، وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة ، والراجع
محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تلتفت إلى ما يقولون.
(إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٩٦)
(إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ) بقمعهم وإهلاكهم. قيل كانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد
بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن
المطلب ، يبالغون في إيذاء النبي صلىاللهعليهوسلم والاستهزاء به فقال جبريل عليهالسلام لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق
بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى
أخمص العاص فدخل فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى أنف عدي
بن قيس فامتخط قيحا فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل
ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، وإلى عيني الأسود بن المطلب فعمي :
(الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم في الدارين.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧)
فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك.
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك
ويكشف الغم عنك ، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق. (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) من المصلين ، وعنه عليه الصلاة والسلام (أنه كان إذا حزبه
أمر فزع إلى الصلاة).
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق ، والمعنى فاعبده
ما دمت حيا ولا تخلّ بالعبادة لحظة. عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة
الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلىاللهعليهوسلم» والله أعلم.
(١٦) سورة النحل
مكية غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١)
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلىاللهعليهوسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم
بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه
فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع
، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم. وقرأ حمزة
والكسائي بالتاء على وفق قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب
للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلىاللهعليهوسلم ورفع الناس رؤوسهم
فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).
(يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)
(يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) بالوحي أو القرآن ، فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل ،
أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، وذكره عقيب ذلك إشارة إلى الطريق الذي به
علم الرسول صلىاللهعليهوسلم ما تحقق موعدهم به ودنوه وإزاحة لاستبعادهم اختصاصه بالعلم
به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل من أنزل ، وعن يعقوب مثله وعنه «تنزل» بمعنى
تتنزل. وقرأ أبو بكر «تنزل» على المضارع المبني للمفعول من التنزيل. (مِنْ أَمْرِهِ) بأمره أو من أجله. (عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ) أن يتخذه رسولا. (أَنْ أَنْذِرُوا) بأن أنذروا أي اعلموا من نذرت بكذا إذا علمته. (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاتَّقُونِ) أن الشأن (لا إِلهَ إِلَّا
أَنَا فَاتَّقُونِ) ، أو خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وقوله (فَاتَّقُونِ) رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود ، و (أَنْ) مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول ، أو مصدرية
في موضع الجر بدلا من الروح أو النصب بنزع الخافض ، أو مخففة من الثقيلة. والآية
تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو
منتهى كمال القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية. وأن
النبوة عطائية والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته من حيث إنها تدل على أنه
تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ، ولو كان له شريك
لقدر على ذلك فيلزم التمانع.
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤)
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها
وخصصها بحكمته. (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) منهما أو مما يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما ومما لا يقدر
على خلقهما. وفيه دليل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام.
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ نُطْفَةٍ) جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل. (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) منطيق مجادل. (مُبِينٌ) للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد
رمّ. فنزلت.
(وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)
(٦)
(وَالْأَنْعامَ) الإبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره. (خَلَقَها لَكُمْ) أو بالعطف على الإنسان ، وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله
وما بعده تفصيل له. (فِيها دِفْءٌ) ما يدفأ به فيقي البرد. (وَمَنافِعُ) نسلها ودرها وظهورها ، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول
عوضها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان ،
وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي ، أو لأن الكل منها هو المعتاد المعتمد عليه
في المعاش ، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه.
(وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ) زينة. (حِينَ تُرِيحُونَ) تردونها من
مراعيها إلى مراحها بالعشي. (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في
الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها ، وتقديم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر
فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرئ «حينا»
على أن (تُرِيحُونَ) و (تَسْرَحُونَ) وصفان له بمعنى (تُرِيحُونَ) فيه و (تَسْرَحُونَ) فيه.
(وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
(٧)
(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أحمالكم. (إِلى بَلَدٍ لَمْ
تَكُونُوا بالِغِيهِ) أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلا أن تحملوها على ظهوركم
إليه. (إِلَّا بِشِقِّ
الْأَنْفُسِ) إلا بكلفة ومشقة. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. وقيل المفتوح
مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمعنى النصف ، كأنه ذهب نصف قوته بالتعب.
(إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم.
(وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨)
(وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على (الْأَنْعامَ). (لِتَرْكَبُوها
وَزِينَةً) أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة. وقيل هي معطوفة على محل (لِتَرْكَبُوها) وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ،
ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض. وقرئ بغير واو وعلى
هذا يحتمل أن يكون علة (لِتَرْكَبُوها) أو مصدرا في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو
متزينا بها ، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل
بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل عليه أن الآية مكية وعامة
المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالبا احتياجا ضروريا
أو غير ضروري أجمل غيرها ، ويجوز أن يكون إخبارا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا
به ، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر.
(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩)
(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ) بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق ، أو إقامة السبيل
وتعديلها رحمة وفضلا ، أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل
قصد وقاصد أي مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه ، والمراد
من (السَّبِيلِ) الجنس ولذلك أضاف إليه ال (قَصْدُ) وقال : (وَمِنْها جائِرٌ) حائد عن القصد أو عن الله ، وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق
على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة ، أو لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل
إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وقرئ و «منكم جائر» أي عن القصد. (وَلَوْ شاءَ) الله. (لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ) أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية
مستلزمة للاهتداء.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ)(١٠)
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من السحاب أو من جانب السماء. (ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) ما تشربونه ، و (لَكُمْ) صلة (أَنْزَلَ) أو خبر (شَرابٌ) و (مِنَ) تبعيضية متعلقة به ، وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه ولا
بأس به لأن مياه العيون والآبار منه لقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ). (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ومنه يكون شجر يعني الشجر الذي ترعاه المواشي. وقيل كل ما
نبت على الأرض شجر قال :
يعلفها اللّحم
إذا عزّ الشّجر
|
|
والخيل في
إطعامها اللّحم ضرر
|
(فِيهِ
تُسِيمُونَ) ترعون ، من سامت الماشية وأسامها صاحبها ، وأصله السومة
وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات.
(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١١)
(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ) وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم. (وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار ،
ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانيا هو أشرف الأغذية
، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) على وجود الصانع وحكمته ، فإن من تأمل أن الحبة تقع في
الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة ، وينشق
أسفلها فيخرج منه عروقها. ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ،
ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع
السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس
عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به لذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ)(١٣)
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) بأن هيأها لمنافعكم. (مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ) حال من الجميع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لله تعالى
خلقها ودبرها كيف شاء ، أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه ، وفيه إيذان
بالجواب عما عسى أن يقال إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب
وأوضاعها ، فإن
ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضا ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه
المحتملة ، فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل ، أو
مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع. وقرأ حفص والنجوم مسخرات على الابتداء والخبر
فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامر الشمس والقمر أيضا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) جمع الآية ، وذكر العقل لأنها تدل أنواعا من الدلالة ظاهرة
لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات.
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ) عطف على (اللَّيْلَ) ، أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أصنافه فإنها تتخالف باللون غالبا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ) أن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع
صانع حكيم.
(وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(١٤)
(وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ) جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد
والغوص. (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه
الفساد فيسارع إلى أكله ، ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق ، وتمسك به
مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك. وأجيب عنه بأن مبنى
الأيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر
دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه. (وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنهن من
جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم. (وَتَرَى الْفُلْكَ) السفن. (مَواخِرَ فِيهِ) جواري فيه تشقه بحيزومها ، من المخر وهو شق الماء. وقيل صوت
جري الفلك. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) من سعة رزقه بركوبها للتجارة. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها ، ولعل تخصيصه
بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث إنه جعل المهالك سببا للانتفاع
وتحصيل المعاش.
(وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ)(١٥)
(وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا رواسي. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب ، وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق
فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع ، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة
كالأفلاك ، أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت
جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة.
وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها
فأصبحت وقد أرسيت بالجبال. (وَأَنْهاراً) وجعل فيها أنهارا لأن ألقى فيه معناه. (وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لمقاصدكم ، أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.
(وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)
(١٦)
(وَعَلاماتٍ) معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك. (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بالليل في البراري والبحار ، والمراد بالنجم الجنس ويدل
عليه قراءة (وَبِالنَّجْمِ) بضمتين وضمة وسكون على الجمع. وقيل الثريا والفرقدان وبنات
نعش والجدي ، ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين
بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام
الضمير
للتخصيص كأنه قيل
: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون ، فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب
عليهم.
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(١٧)
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) إنكار بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته وتناهي
حكمته ، والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته لأن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على
خلق شيء من ذلك بل على إيجاد شيء ما ، وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكنه
عكس تنبيها على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة
شبيها بها ، والمراد بمن لا يخلق كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى مغلبا فيه
أولو العلم منهم أو الأصنام ، وأجروها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق
الإله أن يعلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق أو للمبالغة وكأنه قيل : إن من
يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعرفوا فساد ذلك فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يحضر
عنده بأدنى تذكر والتفات.
(وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ)(١٩)
(وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تضبطوا عددها فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها ، أتبع ذلك
تعداد النعم وإلزام الحجة على تفرده باستحقاق العبادة تنبيها على أن وراء ما عدّد
نعما لا تنحصر ، وأن حق عبادته تعالى غير مقدور. (إِنَّ اللهَ
لَغَفُورٌ) حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها. (رَحِيمٌ) لا يقطعها لتفريطكم فيه ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
(وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) من عقائدكم وأعمالكم ، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار
العلم بعد تزييفه باعتبار القدرة.
(وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ
أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٢١)
والّذين تدعون من
دون الله أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه. وقرأ أبو بكر (يَدْعُونَ) بالياء. وقرأ حفص ثلاثتها بالياء. (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا
يخلقون شيئا لينتج أنهم لا يشاركونه ، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي
الألوهية فقال : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق ، والإله
ينبغي أن يكون واجب الوجود.
(أَمْواتٌ) هم أموات لا تعتريهم الحياة ، أو أموات حالا أو مآلا. (غَيْرُ أَحْياءٍ) بالذات ليتناول كل معبود ، والإله ينبغي أن يكون حيا
بالذات لا يعتريه الممات. (وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ولا يعلمون وقت بعثهم ، أو بعث عبدتهم فكيف يكون لهم وقت
جزاء على عبادتهم ، والإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب مقدرا للثواب والعقاب ،
وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ)
(٢٣)
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) تكرير للمدعى بعد إقامة الحجج. (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ). بيان لما اقتضى إصرارهم بعد وضوح الحق وذلك عدم إيمانهم
بالآخرة ، فإن المؤمن بها يكون طالبا للدلائل متأملا فيما يسمع فينتفع به ،
والكافر بها يكون حالة بالعكس وإنكار قلوبهم ما لا يعرف إلا بالبرهان اتباعا
للأسلاف وركونا إلى المألوف ، فإنه ينافي النظر والاستكبار عن اتباع الرسول
وتصديقه والالتفات إلى قوله ، والأول هو العمدة في الباب ولذلك رتب عليه ثبوت
الآخرين.
(لا جَرَمَ) حقا. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فيجازيهم ، وهو في موضع الرفع ب (جَرَمَ) لأنه مصدر أن فعل. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ) فضلا عن الذين استكبروا عن توحيده أو اتباع الرسول.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢٥)
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) القائل بعضهم على التهكم أو الوافدون عليهم أو المسلمون. (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما تدعون نزوله ، أو المنزل أساطير الأولين ، وإنما
سموه منزلا على التهكم أو على الفرض أي على تقدير أنه منزل فهو أساطير الأولين لا
تحقيق فيه ، والقائلون قيل هم المقتسمون.
(لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قالوا ذلك إضلالا للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن
إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال. (وَمِنْ أَوْزارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال ، وفائدتها
الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ، إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق
والمبطل. (أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ) بئس شيئا يزرونه فعلهم.
(قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ)(٢٦)
(قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة
والسلام. (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ) وصار سبب هلاكهم. (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل. وقيل
المراد به نمروذ بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء
، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا.
(ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢٧)
(ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ). (وَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ) أضاف إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم زيادة في
توبيخهم. (الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تعادون المؤمنين في شأنهم. وقرأ نافع بكسر النون بمعنى
تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عزوجل. (قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) أي الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد
فيشاقونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة. (إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) الذلة والعذاب. (عَلَى الْكافِرِينَ) وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة ، وحكايته
لأن يكون لطفا ووعظا لمن سمعه.
(الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما
كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما
كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٢٩)
(الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ حمزة بالياء. وقرئ بإدغام التاء في التاء وموضع
الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بأن عرضوها للعذاب المخلد. (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت. (ما كُنَّا) قائلين ما كنا. (نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) كفر وعدوان ، ويجوز أن يكون تفسيرا ل (السَّلَمَ) على أن المراد به القول الدال على الاستسلام. (بَلى) أي فتجيبهم الملائكة بلى. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهو يجازيكم عليه ، وقيل قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة ،
وعلى هذا أول من لم يجوّز الكذب يومئذ (ما كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ) بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءا ، واحتمل أن
يكون الراد عليهم هو الله تعالى ، أو أولوا العلم.
(فَادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ) كل صنف بابها المعد له. وقيل أبواب جهنم أصناف عذابها. (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) جهنم.
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ)(٣٠)
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا) يعني المؤمنين. (ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) أي أنزل خيرا ، وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في
الجواب ، وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة. روي أن أحياء
العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإذا جاء الوافد من المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا
جاء المؤمنين قالوا له ذلك. (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) مكافأة في الدنيا. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ) أي ولثوابهم في الآخرة خير منها ، وهو عدة للذين اتقوا على
قولهم ، ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلا وتفسيرا ل (خَيْراً) على أنه منتصب ب (قالُوا). (وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ) دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ
كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ)(٣١)
وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح. (يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من أنواع المشتهيات ، وفي تقديم الظرف تنبيه على أن
الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة. (كَذلِكَ يَجْزِي
اللهُ الْمُتَّقِينَ) مثل هذا الجزاء يجزيهم وهو يؤيد الوجه الأول.
(الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)
(الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ). وقيل فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة ، أو طيبين بقبض
أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس. (يَقُولُونَ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ) لا يحيقكم بعد مكروه. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم. وقيل هذا التوفي
وفاة الحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٤)
(هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظر الكفار المار ذكرهم. (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء. (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) القيامة أو العذاب المستأصل. (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب. (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأصابهم ما أصابوا. (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) بتدميرهم. (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بكفرهم ومعاصيهم المؤدية إليه. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف ، أو تسمية الجزاء باسمها.
(وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وأحاط بهم جزاؤه والحيق لا يستعمل إلا في الشر.
(وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٣٥)
(وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعا للبعثة والتكليف متمسكين
بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها ، أو إنكارا لقبح ما أنكر
عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله
صدورها عنهم ولشاء خلافه ، ملجئا إليه لا اعتذارا إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم ،
وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين. (كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إلا الإبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله
هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط ، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا
مطلقا بل بأسباب قدرها له ، ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم
كلها سببا لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله ، كالغذاء الصالح فإنه
ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى :
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٣٦)
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) وفقهم للإيمان بإرشادهم. (وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم ، وفيه تنبيه على فساد الشبهة
الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل الله تعالى وإرادته من
حيث إنه قسم من هدى الله ، وقد صرح به في الآية الأخرى. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يا معشر قريش. (فَانْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون.
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى
هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً
عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣٨)
(إِنْ تَحْرِصْ) يا محمد. (عَلى هُداهُمْ
فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) من يريد ضلاله وهو المعني بمن حقت عليه الضلالة. وقرأ غير
الكوفيين (لا يَهْدِي) على البناء للمفعول وهو أبلغ. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) من ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) عطف على (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) إيذانا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه
زيادة في البت على فساده ، ولقد رد الله عليهم أبلغ رد فقال : (بَلى) يبعثهم. (وَعْداً) مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه (بَلى) فإن يبعث موعد من الله. (عَلَيْهِ) إنجازه لامتناع الخلف في وعده ، أو لأن البعث مقتضى حكمته.
(حَقًّا) صفة أخرى للوعد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ) أنهم يبعثون إما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي جرت
عادته بمراعاتها ، وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه ، ثم إنه تعالى بين
الأمرين فقال :
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٠)
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أي يبعثهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ). (الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وهو الحق. (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) فيما يزعمون ، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث
المقتضي له من حيث الحكمة ، وهو المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب
والعقاب ثم قال :
(إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهو بيان إمكانه وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته
لا توقف له على سبق المواد والمدد ، وإلّا لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء
ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده ، ونصب ابن عامر والكسائي
ها هنا وفي «يس» فيكون عطفا على نقول أو جوابا للأمر.
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٤٢)
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) هم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم
إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة ، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي
الله تعالى عنهم ، وقوله. (فِي اللهِ) أي في حقه ولوجهه. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما يعجل لهم في الدنيا. وعن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه
كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله
في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين
خير الدارين لوافقوهم ، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
(الَّذِينَ صَبَرُوا) على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن ، ومحله النصب أو
الرفع على المدح. (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣)
بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٤٤)
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) رد لقول قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، أي جرت
السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحي إليه على ألسنة الملائكة ،
والحكمة في ذلك قد ذكرت في سورة «الأنعام» فإن شككتم فيه. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم. (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكا
للدعوة العامة وقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام. وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورد بما روي :
أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها
مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.
(بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ) أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب ، كأنه
جواب : قائل قال : بم أرسلوا؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلا في الاستثناء مع
رجالا أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط ، أو
صفة لهم أي رجالا ملتبسين بالبينات ، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم
مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض ، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت
والإلزام. (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه. (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ) في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه ، أو
مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه
كالقياس. ودليل العقل. (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق.
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٤٦)
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء ، أو
الذين مكروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم وراموا صد أصحابه عن الإيمان. (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ).
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ
عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤٧)
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ
عَلى تَخَوُّفٍ) على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب
وهم متخوفون ، أو على أن ينقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأحوالهم حتى يهلكوا من
تخوفته إذا تنقصته. روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر : ما تقولون
فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص ، فقال هل تعرف
العرب ذلك في أشعارها قال نعم ، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته :
تخوّف الرحل
منها تامكا قردا
|
|
كما تخوف عود
النبعة السّفن
|
فقال عمر عليكم
بديوانكم لا تضلوا قالوا : وما ديواننا قال : شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم
ومعاني كلامكم. (فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)(٤٨)
(أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم
يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه ، وما موصولة مبهمة بيانها. (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة. وقرأ
حمزة والكسائي «تروا» بالتاء وأبو عمرو «تتفيؤ» بالتاء. (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها ،
استعارة من يمين الإنسان وشماله ، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ
والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله : (سُجَّداً لِلَّهِ
وَهُمْ داخِرُونَ) وهما حالان من الضمير في ظلاله ، والمراد من السجود
الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل
وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب أو سجدا حال من الظلال (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من الضمير. والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس
وانحدارها ، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب
منقادة لما قدر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد
والأجرام في أنفسها أيضا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى
فيها ، وجمع (داخِرُونَ) بالواو لأن من جملتها من يعقل ، أو لأن الدخور من أوصاف
العقلاء. وقيل المراد ب (الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ) يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في
الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض ، فإن الظلال في
أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال تبتدئ
من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٥٠)
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينقاد انقيادا يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعا
والانقياد لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله : (مِنْ دابَّةٍ) بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في
أرض أو سماء. (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم ، أو
عطف المجردات على الجسمانيات ، وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان
لما في الأرض والملائكة تكرير لما في السموات وتعيين له إجلالا وتعظيما ، أو
المراد بها ملائكتها من الحفظة وغيرهم ، و (ما) لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث
اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا للعقلاء. (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته.
(يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم ، أو يخافونه وهو فوقهم
بالقهر كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ). والجملة حال من الضمير في (لا يَسْتَكْبِرُونَ) ، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن
عبادته. (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) من الطاعة والتدبير ، وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون
مدارون بين الخوف والرجاء.
(وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ)(٥٢)
(وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي
إليه ، أو إيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإلهية ، أو
للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإلهية. (فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحا
بالمقصود فكأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد فإياي فارهبون لا غير.
(وَلَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَلَهُ الدِّينُ) أي الطاعة. (واصِباً) لازما لما تقرر من أنه الإله وحده والحقيق بأن يرهب منه.
وقيل (واصِباً) من الوصب أي وله الدين ذا كلفة. وقيل الدين الجزاء أي وله
الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر. (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى :
(وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ
الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٥٥)
(وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، (وَما) شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون
الحصول ، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله لا لحصولها منه.
(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار رفع الصوت في الدعاء
والاستغاثة.
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ
الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) وهم كفاركم. (بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ) بعبادة غيره ، هذا إذا كان الخطاب عاما ، فإن كان خاصا
بالمشركين كان من للبيان كأنه قال : إذا فريق وهم أنتم ، ويجوز أن تكون من للتبعيض
على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ).
(لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ) من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو
إنكار كونها من الله تعالى. (فَتَمَتَّعُوا) أمر تهديد. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أغلظ وعيده ، وقرئ فيمتعوا مبنيا للمفعول عطفا على (لِيَكْفُرُوا) ، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد
والفاء للجواب.
(وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(٥٧)
(وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ) أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير (لِما) ، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها
تنفعهم وتشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف ، أو لجهلهم على أن ما مصدرية
والمجعول له محذوف للعلم به. (نَصِيباً مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) من الزروع والأنعام. (تَاللهِ
لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من أنها آلهة حقيقة بالتقرب إليها وهو وعيد لهم عليه.
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. (سُبْحانَهُ) تنزيه له من قولهم ، أو تعجب منه. (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني البنين ، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب
بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار ، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير
الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف.
(وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٥٩)
(وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أخبر بولادتها. (ظَلَّ وَجْهُهُ) صار أو دام النهار كله. (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحياء من الناس. واسوداد الوجه كناية عن
الاغتمام والتشوير. (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء غيظا من
المرأة.
(يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ) يستخفي منهم. (مِنْ سُوءِ ما
بُشِّرَ بِهِ). من سوء المبشر به عرفا. (أَيُمْسِكُهُ) محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه. (عَلى هُونٍ) ذل (أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ) أي يخفيه فيه ويئده ، وتذكير الضمير للفظ (ما) وقرئ بالتأنيث فيهما. (أَلا ساءَ ما
يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم.
(لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦٠)
(لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء
الذكور استظهارا بهم وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة
عن صفات المخلوقين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) المنفرد بكمال القدرة والحكمة.
(وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٦١)
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ
النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) بكفرهم ومعاصيهم. (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض ، وإنما أضمرها من غير ذكر للدلالة الناس
والدابة عليها. (مِنْ دَابَّةٍ) قط بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : كاد
الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة. وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم
يكن الأبناء. (وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة ، ولا يلزم من عموم
الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(٦٢)
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة ،
والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال. (وَتَصِفُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مع ذلك وهو. (أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنى) أي عند الله كقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى
رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وقرئ «الكذب» جمع كذوب صفة للألسنة. (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) رد لكلامهم وإثبات لضده. (وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ) مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. وقرأ
نافع بكسر الراء على أنه من الإفراط في المعاصي. وقرئ بالتشديد مفتوحا من فرطته في
طلب الماء ومكسورا من التفريط في الطاعات.
(تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦٣)
(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي في الدنيا ، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين
كان يزين لهم ، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية ، ويجوز أن يكون
الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم
ويغويهم ، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم ، والولي القرين أو الناصر فيكون نفيا
للناصر لهم على أبلغ الوجوه. (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) في القيامة.
(وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٦٥)
(وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) للناس. (الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ) من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين.
(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) سماع تدبر وإنصاف.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)(٦٦)
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا
للفظ وأنثه في سورة «المؤمنين» للمعنى ، فإن (الْأَنْعامِ) اسم
جمع ولذلك عده
سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع نعم جعل
الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحدة أو له على المعنى ، فإن
المراد به الجنس. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب (نُسْقِيكُمْ) بالفتح هنا وفي «المؤمنين». (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً) فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة
التي في الفرث ، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش. وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما : أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان
أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة
اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد
يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ، ويبقي ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما
يهضمها هضما ثانيا فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية ، فتميز القوة المميزة تلك
المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ،
ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم
العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد
والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب
ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبنا ،
ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها
والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى
الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و (مِنْ) الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية
ابتدائية كقولك : سقيت من الحوض ، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء
وهي متعلقة ب (نُسْقِيكُمْ) أو حال من (لَبَناً) قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة. (خالِصاً) صافيا لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ، أو مصفى عما
يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. (سائِغاً
لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في حلقهم ، وقرئ «سيّغا» بالتشديد والتخفيف.
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٦٧)
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من
عصيرهما ، وقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً) استئناف لبيان الإسقاء أو ب (تَتَّخِذُونَ) ، ومنه تكرير للظرف تأكيدا أو خبر لمحذوف صفته (تَتَّخِذُونَ) ، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير
الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو لأن ال (ثَمَراتِ) بمعنى الثمر والسكر مصدر سمي به الخمر. (وَرِزْقاً حَسَناً) كالتمر والزبيب والدبس والخل ، والآية إن كانت سابقة على
تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة. وقيل السكر النبيذ
وقيل الطعم قال :
جعلت أعراض الكرام
سكرا
أي تنقلت
بأعراضهم. وقيل ما يسد الجوع من السكر فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات.
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها
شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٦٩)
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وقذف في قلوبها ، وقرئ «إلى النحل» بفتحتين. (أَنِ اتَّخِذِي) بأن اتخذي ويجوز أن تكون (أَنِ) مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول ، وتأنيث الضمير على
المعنى فإن النحل مذكر. (مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ذكر بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل
شجر وكل ما يعرش
من كرم أو سقف ، ولا في كل مكان منها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتا تشبيها
ببناء الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة التي لا يقوى عليها حذاق
المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة ، ولعل ذكره لتنبيه على ذلك وقرئ بيوتا بكسر
الباء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر / يعرشون بضم الراء.
(ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها. (فَاسْلُكِي) ما أكلت. (سُبُلَ رَبِّكِ) في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من
أجوافك ، أو (فَاسْلُكِي) الطرق التي ألهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي راجعة إلى
بيوتك (سُبُلَ رَبِّكِ) لا تتوعر عليك. ولا تلتبس. (ذُلُلاً) جمع ذلول وهي حال من السبل ، أي مذللة ذللها الله تعالى
وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به. (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ، لأنه محل
الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم. (شَرابٌ) يعني العسل لأنه مما يشرب ، واحتج به من زعم أن النحل تأكل
الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ، ثم تقيء ادخارا للشتاء ، ومن زعم
أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها
في بيوتها ادخارا فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل فسر البطون
بالأفواه. (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف سن النحل والفصل. (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في
سائر الأمراض ، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه ، مع أن التنكير فيه مشعر
بالتبعيض ، ويجوز أن يكون للتعظيم. وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : «اسقه العسل» ، فذهب ثم
رجع فقال : قد سقيته فما نفع فقال : «اذهب واسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك».
فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال. وقيل الضمير للقرآن أو لما بين
الله من أحوال النحل. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال
العجيبة حق التدبر علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها
عليه.
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٧٠)
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بآجال مختلفة. (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ) يعاد. (إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ) أخسه يعني الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة
والعقل. وقيل هو خمس وتسعون سنة وقيل خمس وسبعون. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ
بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية في النسيان وسوء
الفهم. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمقادير أعماركم. (قَدِيرٌ) يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني ، وفيه تنبيه على أن
تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر
معلوم ، ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.
(وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ
اللهِ يَجْحَدُونَ)(٧١)
(وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فمنكم غني ومنكم فقير ، ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق
غيرهم ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك. (فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) بمعطي رزقهم. (عَلى ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم فإن ما يردون عليهم رزقهم الذي جعله الله في
أيديهم. (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم ، فالجملة لازمة
للجملة المنفية أو مقررة لها ، ويجوز أن تكون
واقعة موقع الجواب
كأنه قيل : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق ،
على أنه رد وإنكار على المشركين فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ولا
يرضون أن يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه. (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) حيث يتخذون له شركاء ، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما
أنعم الله عليهم ويجحدوا أنه من عند الله ، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما
أنعم الله عليهم بإيضاحها ، والباء لتضمن الجحود معنى الكفر. وقرأ أبو بكر «تجحدون»
بالتاء لقوله : (خَلَقَكُمْ) و (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ).
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)(٧٢)
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي من جنسكم لتأنسوا بها ولتكون أولادكم مثلكم. وقيل هو
خلق حواء من آدم. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) وأولاد أولاد أو بنات ، فإن الحافد هو المسرع في الخدمة
والبنات يخدمن في البيوت أتم خدمة. وقيل هم الأختان على البنات. وقيل الربائب
ويجوز أن يراد بها البنون أنفسهم والعطف لتغاير الوصفين. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ أو الحلالات و (مِنْ) للتبعيض فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو أن الأصنام تنفعهم ، أو أن من الطيبات ما يحرم
كالبحائر والسوائب. (وَبِنِعْمَتِ اللهِ
هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام ، أو حرموا ما أحل الله لهم ،
وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام أو لإيهام التخصيص مبالغة ، أو للمحافظة على
الفواصل.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ)(٧٣)
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) من مطر ونبات ، و (رِزْقاً) إن جعلته مصدرا فشيئا منصوب به وإلا فبدل منه. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلا ، وجمع الضمير فيه
وتوحيده في (لا يَمْلِكُ) لأن (ما) مفرد في معنى الألهة ، ويجوز أن يعود إلى الكفار أي ولا
يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون شيئا من ذلك فكيف بالجماد.
(فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٧٥)
(فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فلا تجعلوا له مثلا تشركونه به ، أو تقيسونه عليه فإن ضرب
المثل تشبيه حال بحال. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فساد ما تعولون عليه من القياس على أن عبادة عبيد الملك
أدخل في التعظيم من عبادته وعظم جرمكم فيما تفعلون. (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو تعليل للنهي ، أو أنه
يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم دون نصه ، ويجوز أن يراد فلا
تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون. ثم علمهم كيف
يضرب فضرب مثلا لنفسه ولمن عبد دونه فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ومثل نفسه
بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء ، واحتج
بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية على امتناع
التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات وبين الله الغني القادر على الإطلاق.
وقيل هو تمثيل
للكافر المخذول والمؤمن الموفق ، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر فإنه
أيضا عبد الله وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون وجعله قسيما للمالك
المتصرف يدل على أن المملوك لا يملك ، والأظهر أن (مَنْ) نكرة موصوفة ليطابق (عَبْداً) ، وجمع الضمير في (يَسْتَوُونَ) لأنه للجنسين فإن المعنى هل يستوي الأحرار والعبيد؟. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كل الحمد له ، لا يستحقه غيره فضلا عن العبادة لأنه مولى
النعم كلها. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) فيضيفون نعمه إلى غيره ويعبدونه لأجلها.
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ
عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٧٦)
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم. (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) من الصنائع والتدابير لنقصان عقله. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) عيال وثقل على من يلي أمره. (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) حيثما يرسله مولاه في أمر ، وقرئ «يوجه» على البناء
للمفعول و «يوجه» بمعنى يتوجه كقوله أينما أوجه ألق سعدا «وتوجه» بلفظ الماضي. (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) بنجح وكفاية مهم. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ومن هو فهم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على
العدل الشامل لمجامع الفضائل. (وَهُوَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) وهو في نفسه على طريق مستقيم لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه
بأقرب سعي ، وإنما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلهما ، وهذا
تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام لإبطال المشاركة بينه وبينها أو للمؤمن
والكافر.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ
هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٨)
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يختص به علمه لا يعلمه غيره ، وهو ما غاب فيهما عن العباد
بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس. وقيل يوم القيامة فإن علمه غائب عن أهل
السموات والأرض. (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ) وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته. (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو أمرها أقرب منه بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة بل في
الآن الذي تبتدئ فيه ، فإنه تعالى يحيي الخلائق دفعة وما يوجد دفعة كان في آن ، و (أَوْ) للتخيير أو بمعنى بل. وقيل معناه أن قيام الساعة وإن تراخى
فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة في
استقرابه. (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر أن يحيي الخلائق دفعة كما قدر أن أحياهم متدرجا ، ثم
دل على قدرته فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) وقرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنه لغة أو اتباع لما قبلها
، أو حمزة بكسرها وكسر الميم والهاء مزيدة مثلها في إهراق. (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) جهالا مستصحبين جهل الجمادية. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أداة تتعلمون بها فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء
فتدركونها ثم تتنبهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها بتكرر الإحساس حتى تتحصل
لكم العلوم البديهية ، وتتمكنوا من تحصيل المعالم الكسبية بالنظر فيها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كي تعرفوا ما أنعم عليكم طورا بعد طور فتشكروه.
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٧٩)
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ) قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بالتاء على أنه خطاب للعامة. (مُسَخَّراتٍ) مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية
له. (فِي جَوِّ السَّماءِ) في الهواء المتباعد من الأرض. (ما يُمْسِكُهُنَ) فيه. (إِلَّا اللهُ) فإن ثقل جسدها يقتضي سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة
تحتها تمسكها. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة يمكن معها الطيران ،
وخلق الجو بحيث يمكن الطيران فيه وإمساكها في الهواء على خلاف طبعها. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بها.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)(٨٠)
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتخذة من الحجر
والمدر ، فعل بمعنى مفعول. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) هي القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من
الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من
جلودها. (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) وقت تر حالكم. (وَيَوْمَ
إِقامَتِكُمْ) ووضعها أو ضربها وقت الحضر أو النزول. وقرأ الحجازيان
والبصريان (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) بالفتح وهو لغة فيه. (وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) الصوف للضائنة والوبر للإبل والشعر للمعز ، وإضافتها إلى
ضمير (الْأَنْعامِ) لأنها من جملتها. (أَثاثاً) ما يلبس ويفرش. (وَمَتاعاً) ما يتجر به. (إِلى حِينٍ) إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة ، أو إلى
حين ، مماتكم أو إلى أن تقضوا منه أوطاركم.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(٨١)
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الشجر والجبل والأبنية وغيرها. (ظِلالاً) تتقون بها حر الشمس. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبالِ أَكْناناً) مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها جمع كن.
(وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ) ثيابا من الصوف والكتان والقطن وغيرها. (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) خصه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين أو لأن وقاية الحر كانت أهم
عندهم. (وَسَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعني الدروع والجواشن ، والسربال يعم كل ما يلبس. (كَذلِكَ) كإتمام هذه النعم التي تقدمت. (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي تنظرون في نعمه فتؤمنون به وتنقادون لحكمه. وقرئ «تسلمون»
من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب ، أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك. وقيل «تسلمون»
من الجراح بلبس الدروع.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)(٨٣)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا ولم يقبلوا منك. (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فلا يضرك فإنما عليك البلاغ وقد بلغت ، وهذا من إقامة
السبب مقام المسبب.
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللهِ) أي يعرف المشركون نعمة الله التي عددها عليهم وغيرها حيث
يعترفون بها وبأنها من الله تعالى. (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم إنها بشفاعة آلهتنا ، أو
بسبب كذا أو بإعراضهم عن أداء حقوقها. وقيل نعمة الله نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم استبعاد
الإنكار بعد المعرفة. (وَأَكْثَرُهُمُ
الْكافِرُونَ) الجاحدون عنادا ، وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق
لنقصان العقل أو
التفريط في النظر ، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف وإما لأنه يقام
مقام الكل كما في قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ).
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ)
(٨٤)
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار إذ لا عذر لهم. وقيل في الرجوع إلى الدنيا. و (ثُمَ) لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من
الإقناط الكلي على ما يمنون به من شهادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون ، من العتبى وهي الرضا وانتصاب يوم بمحذوف
تقديره اذكر ، أو خوّفهم أو يحيق بهم ما يحيق وكذا قوله :
(وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ
كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ)(٨٦)
(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا الْعَذابَ) عذاب جهنم. (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ) أي العذاب. (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) يمهلون. (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أوثانهم التي ادعوها شركاء ، أو الشياطين الذين شاركوهم في
الكفر بالحمل عليه. (قالُوا رَبَّنا
هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) نعبدهم أو نطيعهم ، وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك
، أو التماس لأن يشطر عذابهم. (فَأَلْقَوْا
إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله ، أو أنهم ما
عبدوهم حقيقة وإنما عبدوا أهواءهم كقوله تعالى : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ) ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به حينئذ ، أو في أنهم
حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله : (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
(وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ)(٨٨)
(وَأَلْقَوْا) وألقى الذين ظلموا. (إِلَى اللهِ
يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم وبطل. (ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا
منهم.
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر. (زِدْناهُمْ عَذاباً) لصدهم. (فَوْقَ الْعَذابِ) المستحق بكفرهم. (بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ) بكونهم مفسدين بصدهم.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً
عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٨٩)
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني نبيهم فإن نبي كل أمة بعث منهم. (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد. (شَهِيداً عَلى
هؤُلاءِ) على أمتك. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ) استئناف أو حال بإضمار قد. (تِبْياناً) بيانا بليغا. (لِكُلِّ شَيْءٍ) من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال بالإحالة إلى السنة
أو القياس. (وَهُدىً وَرَحْمَةً) للجميع وإنما حرمان المحروم من تفريطه. (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) خاصة.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٩٠)
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ) بالتوسط في الأمور اعتقادا كالتوحيد المتوسط بين التعطيل
والتشريك ، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملا كالتعبد بأداء
الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير.
(وَالْإِحْسانِ) إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو
بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة والسلام «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فإنه يراك». (وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى) وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص بعد تعميم
للمبالغة. (وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ) عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا فإنه أقبح
أحوال الإنسان وأشنعها. (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية. (وَالْبَغْيِ) والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، فإنها
الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية ، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في
هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه
: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر. وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله
تعالى عنه ، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى
ورحمة للعالمين ، ولعل إيرادها عقيب قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ) للتنبيه عليه. (يَعِظُكُمْ) بالأمر والنهي والميز بين الخير والشر. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتعظون.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ
جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٩١)
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ) يعني البيعة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم على الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ). وقيل كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله : (إِذا عاهَدْتُمْ) وقيل النذور ، وقيل الأيمان بالله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) أي أيمان البيعة أو مطلق الأيمان. (بَعْدَ تَوْكِيدِها) بعد توثيقها بذكر الله تعالى ، ومنه أكد بقلب الواو همزة (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلاً) شاهدا بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب
عليه (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما تَفْعَلُونَ) من نقض الأيمان والعهود.
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٩٢)
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) ما غزلته ، مصدر بمعنى المفعول. (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) متعلق ب (نَقَضَتْ) أي نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام. (أَنْكاثاً) طاقات نكث فتلها جمع نكث ، وانتصابه على الحال من (غَزْلَها) أو المفعول الثاني لنقضت فإنه بمعنى صيرت ، والمراد به
تشبيه الناقض بمن هذا شأنه. وقيل هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية فإنها كانت خرقاء
تفعل ذلك. (تَتَّخِذُونَ
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من الضمير في (وَلا تَكُونُوا) ، أو في الجار الواقع موقع الخبر أي لا تكونوا متشبهين
بامرأة هذا شأنها ، متخذي أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم ، وأصل الدخل ما يدخل الشيء
ولم يكن منه. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) لأن تكون جماعة أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة ، والمعنى
لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة منابذتهم وقوتهم كقريش ، فإنهم كانوا إذا
رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم. (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) الضمير لأن تكون أمة لأنه بمعنى المصدر أي يختبركم بكونهم
أربى لينظر. أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تغترون بكثرة قريش
وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم. وقيل
الضمير للرباء
وقيل للأمر بالوفاء. (وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
وَلا
تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٩٤)
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على الإسلام. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ
يَشاءُ) بالخذلان. (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) بالتوفيق. (وَلَتُسْئَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سؤال تبكيت ومجازاة.
(وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة في قبح
المنهي. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) أي عن محجة الإسلام. (بَعْدَ ثُبُوتِها) عليها والمراد أقدامهم ، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن
زلل قدم واحدة عظيم فكيف بأقدام كثيرة. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) العذاب في الدنيا. (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) بصدكم عن الوفاء أو صدكم غيركم عنه ، فإن من نقض البيعة
وارتد جعل ذلك سنة لغيره. (وَلَكُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) في الآخرة.
(وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٩٥)
(وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ) ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلىاللهعليهوسلم. (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا ، وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين
ويشترطون لهم على الارتداد. (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة. (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) مما يعدونكم. (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
(ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٦)
(ما عِنْدَكُمْ) من أعراض الدنيا. (يَنْفَدُ) ينقضي ويفنى. (وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته. (باقٍ) لا ينفد ، وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل
الجنة باق. وليجزينّ الّذين صبروا أجرهم على الفاقة وأذى الكفار ، أو على مشاق
التكاليف. وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون. (بِأَحْسَنِ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) بما يرجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء
أحسن من أعمالهم.
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٧)
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بينه بالنوعين دفعا للتخصيص. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما
المتوقع عليها تخفيف العذاب. (فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَياةً طَيِّبَةً) في الدنيا يعيش عيشا طيبا فإنه إن كان موسرا فظاهر وإن كان
معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة ، بخلاف
الكافر فإنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ
بعيشه. وقيل في الآخرة. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعة.
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
إِنَّما
سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(١٠٠)
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ) إذا أردت قراءته كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ). (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فاسأل الله أن يعيذك من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة ،
والجمهور على أنه للاستحباب. وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم
المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا ، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه
إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل. وعن ابن مسعود(قرأت على رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال : قل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ) (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) تسلط وولاية (عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم
لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا
بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر باستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا.
(إِنَّما سُلْطانُهُ
عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يحبونه ويطيعونه. (وَالَّذِينَ هُمْ
بِهِ) بالله أو بسبب الشيطان. (مُشْرِكُونَ).
(وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١)
(وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ) بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظا أو حكما. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده
فينسخه ، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه. وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو (يُنَزِّلُ) بالتخفيف. (قالُوا) أي الكفرة. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، وهو جواب
(إِذا). (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما يُنَزِّلُ) ، اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم
ويجوز أن يكون حالا. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب.
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً
وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(١٠٢)
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ) يعني جبريل عليه الصلاة والسلام ، وإضافة الروح إلى القدس
وهو الطهر كقولهم : حاتم الجود وقرأ ابن كثير (رُوحُ الْقُدُسِ) بالتخفيف وفي (يُنَزِّلُ) و (نَزَّلَهُ) تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح بما يقتضي
التبديل. (مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِ) ملتبسا بالحكمة. (لِيُثَبِّتَ
الَّذِينَ آمَنُوا) ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه ، وأنهم
إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت
قلوبهم. (وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه ، وهما معطوفان على محل (لِيُثَبِّتَ) أي تثبيتا وهداية وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك
لغيرهم وقرئ (لِيُثَبِّتَ) بالتخفيف.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(١٠٣)
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يعنون جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي. وقيل جبرا ويسارا
كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان الرسول صلىاللهعليهوسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرءانه.
وقيل عائشا غلام
حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب. وقيل سلمان الفارسي. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌ) لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه ، مأخوذ من
لحد القبر. وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء ، لسان أعجمي غير بين. (وَهذا) وهذا القرآن. (لِسانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة ، والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم ،
وتقريره يحتمل وجهين أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم
والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما : هب أنه
تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ ، لأن ذلك أعجمي وهذا عربي
والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ ، مع أن العلوم الكثيرة
التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة ،
فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية
لعلهما لم يعرفا معناها ، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على
غاية عجزهم.
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٠٥)
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) لا يصدقون أنها من عند الله. (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى الحق أو إلى سبيل النجاة. وقيل إلى الجنة. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، هددهم على كفرهم بالقرآن بعد ما أماط شبهتهم
ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم فقال :
(إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه. (وَأُولئِكَ) إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش. (هُمُ الْكاذِبُونَ) أي الكاذبون على الحقيقة ، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب
آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب ، أو الذين عادتهم الكذب لا
يصرفهم عنه دين ولا مروءة ، أو الكاذبون في قولهم : (إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ) ، (إِنَّما يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ).
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠٦)
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض ، أو من (أُولئِكَ) أو من (الْكاذِبُونَ) ، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوفة الجواب دل
عليه قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على الافتراء أو كلمة الكفر ، استثناء متصل لأن الكفر لغة
يعم القول والعقد كالإيمان. (وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لم تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق
بالقلب. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً) اعتقده وطاب به نفسا. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) إذ لا أعظم من جرمه. روي (أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه
ياسرا وسمية على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا :
إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام ،
وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر فقال : كلا
إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار :
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت.
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا
للدين كما فعله أبواه لما روي (أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في
محمد؟ قال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : فما تقول فيّ ؛ فقال : أنت أيضا فخلاه ، وقال للآخر
ما تقول في محمد قال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قال فما تقول في؟ قال : أنا أصم ، فأعاد عليه
ثلاثا فأعاد جوابه
فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد
صدع بالحق فهنيئا له).
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)
(١٠٩)
(ذلِكَ) إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد. (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا
عَلَى الْآخِرَةِ) بسبب أنهم آثروها عليها. (وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم
من الزيغ.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه. (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر
العواقب.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب
المخلد.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي
كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ)(١١١)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر ، و (ثُمَ) لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك ، وقرأ ابن عامر (فُتِنُوا) بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه
جبرا ، حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا. (ثُمَّ جاهَدُوا
وَصَبَرُوا) على الجهاد وما أصابهم من المشاق. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد الهجرة والجهاد والصبر. (لَغَفُورٌ) ، لما فعلوا قبل. (رَحِيمٌ) منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد.
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ) منصوب ب (رَحِيمٌ) أو باذكر. (تُجادِلُ عَنْ
نَفْسِها) تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول
نفسي نفسي. (وَتُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) جزاء ما عملت. (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) لا ينقصون أجورهم.
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)(١١٢)
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً) أي جعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة
فكفروا ، فأنزل الله بهم نقمته ، أو لمكة. (كانَتْ آمِنَةً
مُطْمَئِنَّةً) لا يزعج أهلها خوف. (يَأْتِيها رِزْقُها) أقواتها. (رَغَداً) واسعا. (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من نواحيها. (فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ) بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو
جمع نعم كبؤس وأبؤس. (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) استعار الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لما غشيهم واشتمل
عليهم من الجوع والخوف ، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير :
غمر الرّداء إذا
تبسّم ضاحكا
|
|
غلقت لضحكته
رقاب المال
|
فإنه استعار
الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لمّا يلقى عليه ، وأضاف إليه الغمر
الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظرا إلى المستعار له ، وقد ينظر إلى
المستعار كقوله :
ينازعني ردائي
عبد عمرو
|
|
رويدك يا أخا
عمرو بن بكر
|
لي الشّطر الّذي
ملكت يميني
|
|
ودونك فاعتجر منه
بشطر
|
استعار الرداء
لسيفه ثم قال فاعتجر نظرا إلى المستعار. (بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ) بصنيعهم.
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ)(١١٣)
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ
وَهُمْ ظالِمُونَ) أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد
، أو وقعة بدر.
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٥)
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعد ما
زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم ، صدا لهم عن
صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) تطيعون ، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة
عبادته.
(إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما أمرهم بتناول ما أحل لهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن
ما عداها حل لهم ، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال :
(وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١١٧)
(وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) كما قالوا (ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) الآية ، ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر
المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل : كالسباع والحمر الأهلية ،
وانتصاب (الْكَذِبَ) ب (لا تَقُولُوا) و (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي : ولا تقولوا
الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام ، أو مفعول (لا تَقُولُوا) ، و (الْكَذِبَ) منتصب ب (تَصِفُ) وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم
الكذب أي : لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل ، ووصف
ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم
تصفها وتعرفها بكلامهم هذا ، ولذلك عد من فصيح الكلام كقولهم : وجهها يصف الجمال
وعينها تصف السحر. وقرئ «الكذب» بالجر بدلا من «ما» ، و (الْكَذِبَ) جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو
بمعنى الكلم الكواذب. (لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) تعليل لا يتضمن الغرض. (إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) لما كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب نفى عنهم الفلاح وبينه
بقوله :
(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن
قريب. (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة.
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٨)
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) أي في سورة «الأنعام» في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ). (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب (قَصَصْنا) أو ب (حَرَّمْنا). (وَما ظَلَمْناهُمْ) بالتحريم. (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه ، وفيه تنبيه على الفرق بينهم
وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) بسببها أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم
التدبر في العواقب لغلبة الشهوة ، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة. (لَغَفُورٌ) لذلك السوء. (رَحِيمٌ) يثيب على الإنابة.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(١٢٠)
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٢٢)
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً) لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص
كثيرة كقوله :
ليس من الله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
وهو رئيس الموحدين
وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ،
ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله ،
أو لأنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا. وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة
والنخبة من أمه إذا قصده ، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون
بسيرته كقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً). (قانِتاً لِلَّهِ) مطيعا له قائما بأوامره. (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل. (وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) كما زعموا فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم.
(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة
فكيف بالكثيرة. (اجْتَباهُ) للنبوة. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) في الدعوة إلى الله. (وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً) بأن حببه إلى الناس حتى إن أرباب الملل يتولونه ويثنون
عليه ، ورزقه أولادا طيبة وعمرا طويلا في السعة والطاعة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ) لمن أهل الجنة كما سأله بقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
(ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)(١٢٣)
(ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) يا محمد ، و (ثُمَ) إما لتعظيمه والتنبيه على أن أجلّ ما أوتي إبراهيم اتباع
الرسولعليهالسلام ملته ، أو لتراخي أيامه. (أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد
أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) بل كان قدوة الموحدين.
(إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٢٤)
(إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ) تعظيم السبت ، أو التخلي فيه للعبادة. (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي على نبيهم ، وهم اليهود أمرهم موسى عليهالسلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا : نريد يوم
السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض ، فألزمهم الله السبت وشدد الأمر
عليهم. وقيل معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، فأحلوا
الصيد فيه تارة وحرموه أخرى واحتالوا له الحيل ، وذكرهم هنا لتهديد المشركين كذكر
القرية التي كفرت بأنعم الله. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بالمجازاة على الاختلاف ، أو بمجازاة كل فريق بما يستحقه.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١٢٥)
(ادْعُ) من بعثت إليهم. (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) إلى الإسلام. (بِالْحِكْمَةِ) بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة.
(وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ) الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، فالأولى لدعوة خواص
الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوة عوامهم. (وَجادِلْهُمْ) وجادل معانديهم. (بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين
وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم وتبيين
شغبهم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إنما عليك البلاغ والدعوة ، وأما حصول الهداية والضلال
والمجازاة عليهما فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم.
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ)(١٢٦)
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه
بترك المخالفة ، ومراعاة العدل مع من يناصبهم ، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث
إنها تتضمن رفض العادات ، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر
والضلال. وقيل إنه عليهالسلام لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : «والله لئن أظفرني الله
بهم لأمثلن بسبعين مكانك» ، فنزلت. فكفر عن يمينه ، وفيه دليل على أن للمقتص أن
يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه ، وحث على العفو تعريضا بقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) وتصريحا على الوجه الآكد بقوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ) أي الصبر. (خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ) من الانتقام للمنتقمين ، ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه
أولى الناس به لزيادة علمه بالله ووثوقه عليه فقال :
(وَاصْبِرْ وَما
صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)
(وَاصْبِرْ وَما
صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) إلا بتوفيقه وتثبيته. (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ) في ضيق صدر من مكرهم ، وقرأ ابن كثير في (ضَيْقٍ) بالكسر هنا وفي «النمل» وهما لغتان كالقول والقيل ، ويجوز
أن يكون الضيق تخفيف ضيق.
(إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) المعاصي. (وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ) في أعمالهم بالولاية والفضل ، أو مع الذين
اتقوا الله بتعظيم
أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. عن النبي صلىاللهعليهوسلم «من قرأ سورة
النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة
كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية».
(١٧) سورة بني
إسرائيل
مكية وقيل إلا قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى آخر ثمان آيات
وهي مائة وإحدى عشرة آية.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ)(١)
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) سبحان اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه وقد يستعمل علما
له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
قد قلت لمّا
جاءني فخره
|
|
سبحان من علقمة
الفاخر
|
وانتصابه بفعل
متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد. و (أَسْرى) وسرى بمعنى ، و (لَيْلاً) نصب على الظرف. وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة
الإسراء ، ولذلك قرئ : «من الليل» أي بعضه كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ). (مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «بينا أنا في
المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذا أتاني جبريل بالبراق». أو
من الحرم وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ
المنتهى. لما روي أنه صلىاللهعليهوسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع
من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : «مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت
بهم» ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس
ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق
، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ،
واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلي له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا
: أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال
تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا
العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة
بسنة. واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه
أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السموات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ،
ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي
قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل
يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية
في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة
السريعة في بدن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد. (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار
والأشجار. (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا)
كذهابه في برهة من
الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ،
ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات
والآيات. وقرئ «ليريه» بالياء. (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ) لأقوال محمد صلىاللهعليهوسلم. (الْبَصِيرُ) بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ
إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)(٣)
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) على أن لا تتخذوا كقولك : كتبت إليك أن افعل كذا. وقرأ أبو
عمرو بالياء على «أن لا يتخذوا». (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربا تكلون إليه أموركم غيري.
(ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص أو النداء إن قرئ «أن لا تتخذوا» بالتاء
على النهي يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا ، أو على أنه أحد مفعولي (أَلَّا تَتَّخِذُوا) و (مِنْ دُونِي) حال من (وَكِيلاً) فيكون كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو (تَتَّخِذُوا) ، و «ذرية» بكسر الذال. وفيه تذكير بأنعام الله تعالى
عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح عليهالسلام في السفينة. (إِنَّهُ) إن نوحا عليهالسلام. (كانَ عَبْداً شَكُوراً) يحمد الله تعالى على مجامع حالاته ، وفيه إيماء بأن انجاءه
ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به. وقيل الضمير لموسى عليه
الصلاة والسلام.
(وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
فَإِذا
جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً)(٥)
(وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ) وأوحينا إليهم وحيا مقتضيا مبتوتا. (فِي الْكِتابِ) في التوراة. (لَتُفْسِدُنَّ فِي
الْأَرْضِ) جواب قسم محذوف ، أو قضينا على إجراء القضاء المبتوت مجرى
القسم. (مَرَّتَيْنِ) إفسادتين أولادهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شعياء وقيل
أرمياء. وثانيهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهمالسلام. (وَلَتَعْلُنَّ
عُلُوًّا كَبِيراً) ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ
أُولاهُما) وعد عقاب أولاهما. (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا) بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده. وقيل جالوت الجزري.
وقيل سنحاريب من أهل نينوى. (أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ) ذوي قوة وبطش في الحرب شديد. (فَجاسُوا) فترددوا لطلبكم. وقرئ بالحاء المهملة وهما أخوان. (خِلالَ الدِّيارِ) وسطها للقتل والغارة فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرقوا
التوراة وخربوا المسجد. والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا
البعث بالتخلية وعدم المنع. (وَكانَ وَعْداً
مَفْعُولاً) وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل.
(ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)(٦)
(ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي الدولة والغلبة. (عَلَيْهِمْ) على الذين بعثوا عليكم ، وذلك بأن ألقى الله في قلب بهمن
بن إسفنديار لما ورث الملك من جده كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم ، فرد أسراهم إلى
الشام وملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، أو بأن سلط
الله داود عليه الصلاة والسلام على جالوت فقتله (وَأَمْدَدْناكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) مما كنتم ، والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفر
وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو.
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ
كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)(٧)
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن ثوابه لها. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَها) فإن وباله عليها ، وإنما ذكرها باللام ازدواجا. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وعد عقوبة المرة الآخرة. (لِيَسُوؤُا
وُجُوهَكُمْ) أي بعثناهم (لِيَسُوؤُا
وُجُوهَكُمْ) أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها ، فحذف لدلالة ذكره
أولا عليه. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «ليسوء» على التوحيد ، والضمير فيه للوعد
أو للبعث أو لله ، ويعضده قراءة الكسائي بالنون. وقرئ «لنسوأن» بالنون والياء
والنون المخففة والمثقلة ، و «لنسوأن» بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب
إذا واللام في قوله : (وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ) متعلق بمحذوف هو بعثناهم. (كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) ليهلكوا. (ما عَلَوْا) ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم. (تَتْبِيراً) ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من
ملوك الطوائف اسمه جودرز ، وقيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرا بينهم فوجد فيه
دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقوني فقتل عليه
ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا ، فقالوا :
إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما
أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ.
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ) بعد المرة الآخرة. (وَإِنْ عُدْتُمْ) نوبة أخرى. (عُدْنا) مرة ثالثة إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقصد قتله فعاد الله تعلى بتسليطه عليهم فقتل قريظة
وأجلى بني النضير ، وضرب الجزية على الباقين هذا لهم في الدنيا. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ
حَصِيراً) محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبدا الآباد. وقيل بساطا
كما يبسط الحصير.
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٠)
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للحالة أو الطريقة التي هي أقوم الحالات أو الطرق. (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) وقرأ حمزة والكسائي (وَيُبَشِّرُ) بالتخفيف.
(وَأَنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) عطف على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً) ، والمعنى أنه يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب
أعدائهم ، أو على (يُبَشِّرُ) بإضمار يخبر.
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(١١)
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ) ويدعو الله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ،
أو يدعوه بما يحسبه خيرا وهو شر. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) مثل دعائه بالخير. (وَكانَ الْإِنْسانُ
عَجُولاً) يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته. وقيل المراد
آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط. روي : أنه
عليهالسلام دفع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت كتافه ،
فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليهالسلام : اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له
فنزلت. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول
النضر بن الحرث : اللهم انصر خير الحزبين ، (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية. فأجيب له فضرب عنقه صبرا يوم بدر.
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١٢)
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) تدلان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد بإمكان
غيره. (فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ) أي الآية التي هي الليل ، بالإشراق والإضافة فيهما للتبيين
كإضافة العدد إلى المعدود. (وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً) مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر ، أو مبصرا أهله
كقولهم : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء. وقيل الآيتان القمر والشمس ، وتقدير
الكلام وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين ومحو
آية الليل التي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور ، أو نقص نورها شيئا
فشيئا إلى المحاق ، وجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر
الأشياء بضوئها. (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ) لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم وتتوصلوا به إلى
استبانة أعمالكم. (وَلِتَعْلَمُوا) باختلافهما أو بحركاتهما. (عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) وجنس الحساب. (وَكُلَّ شَيْءٍ) تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا. (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيناه بيانا غير ملتبس.
(وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً)(١٣)
(وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) عمله وما قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب ووكر القدر ،
لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه ، استعير لما هو سبب الخير والشر
من قدر الله تعالى وعمل العبد. (فِي عُنُقِهِ) لزوم الطوق في عنقه. (وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) هي صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله ، فإن
الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالا ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات ، ونصبه
بأنه مفعول أو حال من مفعول محذوف ، وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة يعقوب ويخرج من
خرج و «يخرج» وقرئ «ويخرج» أي الله عزوجل (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) لكشف الغطاء ، وهما صفتان للكتاب ، أو (يَلْقاهُ) صفة و (مَنْشُوراً) حال من مفعوله. وقرأ ابن عامر (يَلْقاهُ) على البناء للمفعول من لقيته كذا.
(اقْرَأْ كِتابَكَ
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١٥)
(اقْرَأْ كِتابَكَ) على إرادة القول. (كَفى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي كفى نفسك ، والباء مزيدة و (حَسِيباً) تمييز وعلى صلته لأنه إما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى
الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي فوضع موضع
الشهيد ، لأنه يكفي المدعي ما أهمه ، وتذكيره على أن الحساب والشهادة مما يتولاه
الرجال أو على تأويل النفس بالشخص.
(مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لا ينجي اهتداؤه غيره ولا يردي ضلاله سواه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا تحمل نفس حاملة وزرا وزر نفس أخرى ، بل إنما تحمل
وزرها. (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبين الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة ، وفيه دليل على
أن لا وجوب قبل الشرع.
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١٦)
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً) وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق ، أو
دنا وقته المقدر كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة. (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) متنعميها بالطاعة على لسان رسول
بعثناه إليهم ،
ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان
، فيدل على الطاعة من طريق المقابلة ، وقيل أمرناهم بالفسق لقوله : (فَفَسَقُوا فِيها) كقولك أمرته فقرأ ، فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة
على أن الأمر مجاز من الحمل عليه ، أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم
وأفضى بهم إلى الفسوق ، ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم : أمرته فعصاني.
وقيل معناه كثرنا يقال : أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته ، وفي الحديث «خير
المال سكة مأبورة ، ومهرة مأمورة» ، أي كثيرة النتاج. وهو أيضا مجاز من معنى الطلب
، ويؤيده قراءة يعقوب «آمرنا» ورواية (أَمَرْنا) عن أبي عمرو ، ويحتمل أن يكون منقولا من أمر بالضم أمارة
أي جعلناهم أمراء ، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة
وأقدر على الفجور. (فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ) يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله ، أو بظهور معاصيهم أو
بانهماكهم في المعاصي. (فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ
عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً)(١٨)
(وَكَمْ أَهْلَكْنا) وكثيرا أهلكنا. (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم وتمييز له. (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) كعاد وثمود. (وَكَفى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يدرك بواطنها وظواهرها فيعاقب عليها ، وتقديم الخبير لتقدم
متعلقه.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ) مقصورا عليها همه. (عَجَّلْنا لَهُ فِيها
ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل
متمن ما يتمناه ، ولا كل واجد جميع ما يهواه وليعلم أن الأمر بالمشيئة والهم فضل. و
(لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من له بدل البعض. وقرئ «ما يشاء» والضمير فيه لله
تعالى حتى يطابق المشهورة. وقيل (لِمَنْ) فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك. وقيل الآية في
المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في
الغنائم ونحوها. (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله تعالى.
(وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(٢٠)
(وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) حقها من السعي وهو الإتيان بما أمر به ، والانتهاء عما نهى
عنه لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيمانا صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة. (فَأُولئِكَ) الجامعون للشروط الثلاثة. (كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً) من الله تعالى أي مقبولا عنده مثابا عليه ، فطن شكر الله
الثواب على الطاعة.
(كُلًّا) كل واحد من الفريقين ، والتنوين بدل من المضاف إليه. (نُمِدُّ) بالعطاء مرة بعد أخرى ونجعل آنفه مددا لسالفه. (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل من (كُلًّا). (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) من معطاه متعلق ب (نُمِدُّ). (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر تفضلا.
(انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)
(انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الرزق ، وانتصاب (كَيْفَ) ب (فَضَّلْنا) على الحال.
(وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي التفاوت في الآخرة أكبر ، لأن التفاوت فيها بالجنة
ودرجاتها والنار ودركاتها.
(لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم والمراد به أمته أو لكل أحد. (فَتَقْعُدَ) فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أو فتعجز
من قولهم قعد عن الشيء إذا عجز عنه. (مَذْمُوماً
مَخْذُولاً) جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من
الله تعالى ، ومفهومه أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً)(٢٣)
(وَقَضى رَبُّكَ) وأمر أمرا مقطوعا به. (أَلَّا تَعْبُدُوا) بأن لا تعبدوا. (إِلَّا إِيَّاهُ) لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية
الإنعام ، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة. ويجوز أن تكون أن مفسرة ولا ناهية. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وبأن تحسنوا ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب
الظاهر للوجود والتعيش ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم
عليه. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إِمَّا) هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا ولذلك صح لحوق النون
المؤكدة للفعل ، وأحدهما فاعل (يَبْلُغَنَ) وبدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف «يبلغان» الراجع إلى «الوالدين»
، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف ،
ومعنى (عِنْدَكَ) أن يكونا في كنفك وكفالتك. (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت
يدل على تضجر. وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر ، وهو مبني على الكسر لالتقاء
الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب
بالفتح على التخفيف. وقرئ به منونا وبالضم للاتباع كمنذ منونا وغير منون ، والنهي
عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى. وقيل عرفا كقولك
: فلان لا يملك النقير والقطمير ، ولذلك منع رسول الله صلىاللهعليهوسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين ، نهى عما يؤذيهما
بعد الأمر بالإحسان بهما. (وَلا تَنْهَرْهُما) ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ. وقيل النهي والنهر
والنهم أخوات. (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر. (قَوْلاً كَرِيماً) جميلا لا شراسة فيه.
(وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي
صَغِيراً)(٢٤)
(وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِ) تذلل لهما وتواضع فيهما ، وجعل للذل جناحا كما جعل لبيد في
قوله :
وغداة ريح قد
كشفت وقرة
|
|
إذ أصبحت بيد
الشّمال زمامها
|
للشمال يدا أو
للقرة زماما ، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى
الجود ، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل. وقرئ «الذل» بالكسر وهو الانقياد والنعت
منه ذلول. (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله
تعالى إليهما بالأمس. (وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُما) وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف
برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما. (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء
بوعدك للراحمين. روي : أن رجلا قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في
الصغر فهل قضيتهما حقهما. قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت
تفعل ذلك وتريد موتهما).
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
غَفُوراً)(٢٥)
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من قصد البر إليهما واعتقاد ما يجب لهما من التوقير ،
وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا. (إِنْ تَكُونُوا
صالِحِينَ) قاصدين للصلاح. (فَإِنَّهُ كانَ
لِلْأَوَّابِينَ) للتوابين. (غَفُوراً) ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير ، وفيه تشديد
عظيم ، ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ، ويندرج فيه الجاني على أبويه التائب من
جنايته لوروده على أثره.
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً)(٢٧)
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ) من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم. وقال أبو حنيفة :
حقهم إذا كانوا محارم فقراء أن ينفق عليهم. وقيل المراد بذي القربى أقارب الرسول صلىاللهعليهوسلم. (وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) بصرف المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف ، وأصل
التبذير التفريق. «وعن النبيصلىاللهعليهوسلم أنه قال لسعد وهو يتوضأ : ما هذا السرف قال : أو في الوضوء
سرف؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار».
(إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أمثالهم في الشرارة فإن التضييع والإتلاف شر ، أو أصدقاءهم
وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف والصرف في المعاصي. روي : أنهم كانوا ينحرون
الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم
بالإنفاق في القربات. (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِرَبِّهِ كَفُوراً) مبالغا في الكفر به فينبغي أن لا يطاع.
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً
مَيْسُوراً)(٢٨)
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ) وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد
، ويجوز أن يراد بالإعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية. (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ
تَرْجُوها) لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، أو منتظرين
له وقيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك فوضع الابتغاء موضعه لأنه مسبب
عنه ، ويجوز أن يتعلق بالجواب الذي هو قوله تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلاً مَيْسُوراً) أي فقل لهم قولا لينا ابتغاء رحمة الله برحمتك عليهم
بإجمال القول لهم ، والميسور من يسر الأمر مثل سعد الرّجل ونحس ، وقيل القول
الميسور الدعاء لهم بالميسور وهو اليسر مثل أغناكم الله تعالى ورزقنا الله وإياكم.
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً)(٣٠)
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر ، نهى عنهما آمرا
بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التدبير. (مَحْسُوراً) نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا بلغ
منه. وعن جابر(بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعا ، فقال صلىاللهعليهوسلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا ، فذهب إلى أمه فقالت : قل له
إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل صلىاللهعليهوسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروه
للصلاة فلم يخرج فأنزل الله ذلك) ثم سلاه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)
يوسعه ويضيقه
بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإضافة إلا لمصلحتك. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً) يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ، ويجوز
أن يراد أن البسط
والقبض من أمر
الله تعالى العالم بالسرائر والظواهر ، فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا ، أو أنه
تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط
، وأن يكون تمهيدا لقوله تعالى :
(وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)(٣١)
(وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) مخافة الفاقة ، وقتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم مخافة
الفقر فنهاهم عنه وضمن لهم أرزاقهم فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) ذنبا كبيرا لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع ، وال (خِطْأً) الإثم يقال خطئ خطأ كأثم إثما ، وقرأ ابن عامر (خِطْأً) وهو اسم من أخطأ يضاد الصواب ، وقيل لغة فيه كمثل ومثل
وحذر وحذر. وقرأ ابن كثير «خطاء» بالمد والكسر وهو إما لغة فيه أو مصدر خاطأ وهو
وإن لم يسمع لكنه جاء تخاطأ في قوله :
تخاطأه القناص
حتّى وجدته
|
|
وخرطومه في منقع
الماء راسب
|
وهو مبني عليه
وقرئ «خطاء» بالفتح والمد وخطا بحذف الهمزة مفتوحا ومكسورا.
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٣٢)
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى) بالعزم والإتيان بالمقدمات فضلا عن أن تباشروه. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) فعلة ظاهرة القبح زائدته. (وَساءَ سَبِيلاً) وبئس طريقا طريقه ، وهو الغصب على الأبضاع المؤدي إلى قطع
الأنساب وهيج الفتن.
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً)(٣٣)
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان : وزنا بعد إحصان ، وقتل
مؤمن معصوم عمدا. (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً) غير مستوجب للقتل. (فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ) للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث. (سُلْطاناً) تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه ، أو بالقصاص
على القاتل فإن قوله تعالى (مَظْلُوماً) بدل على أن القتل عمد عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما. (فَلا يُسْرِفْ) أي القاتل. (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل من لا يستحق قتله ، فإن العاقل لا يفعل ما يعود
عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي «فلا
تسرفوا». وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» على خطاب أحدهما. (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور
في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب ، وإما لوليه فإن الله تعالى
نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته ، وإما للذي يقتله الولي إسرافا
بإيجاب القصاص أو التعزير والوزر على المسرف.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)(٣٤)
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ) فضلا أن تتصرفوا فيه. (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) إلا بالطريقة التي هي أحسن. (حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ) غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) بما عاهدكم الله من تكاليفه ، أو ما عاهدتموه وغيره. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو مسؤولا
عنه يسأل الناكث ويعاتب عليه لم نكثت ، أو يسأل العهد تبكيتا للناكث كما يقال
للموءودة (بِأَيِّ ذَنْبٍ
قُتِلَتْ) ، فيكون تخييلا ويجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسؤولا.
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً)(٣٥)
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
إِذا كِلْتُمْ) ولا تبخسوا فيه (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السوي ، وهو روميّ عرّب ولا يقدح ذلك في عربية
القرآن ، لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف
والتنكير ونحوها صار عربيا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف هنا وفي «الشعراء».
(ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وأحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع.
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٣٦)
(وَلا تَقْفُ) ولا تتبع وقرئ «ولا تقف» من قاف أثره إذا قفاه ومنه
القافة. (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب ، واحتج به من
منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ،
سواء كان قطعا أو ظنا واستعماله بهذا المعنى سائغ شائع. وقيل إنه مخصوص بالعقائد.
وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «من قفا مؤمنا بما ليس
فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج». وقول الكميت :
ولا أرمي البريء
بغير ذنب
|
|
|
ولا أقفو
الحواصن إن قفينا
|
(إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة
عن أحوالها شاهدة على صاحبها ، هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه
اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله :
والعيش بعد أولئك
الأيام
(كانَ عَنْهُ
مَسْؤُلاً) في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه ،
يعني عما فعل به صاحبه ، ويجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر (لا تَقْفُ) أو لصاحب السمع والبصر. وقيل (مَسْؤُلاً) مسند إلى (عَنْهُ) كقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) والمعنى يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم
مقامه لا يتقدم ، وفيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية. وقرئ (وَالْفُؤادَ) بقلب الهمزة واوا بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح.
(وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ
طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً)(٣٨)
(وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ذا مرح وهو الاختيال. وقرئ (مَرَحاً) وهو باعتبار الحكم أبلغ وإن كان المصدر آكد من صريح النعت.
(إِنَّكَ لَنْ
تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تجعل فيها خرقا بشدة وطأتك. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) بتطاولك وهو تهكم بالمختال ، وتعليل للنهي بأن الاختيال
حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل.
(كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى الخصال الخمس والعشرين المذكورة. من قوله تعالى
: (لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنها المكتوبة في
ألواح موسى عليهالسلام. (كانَ سَيِّئُهُ) يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات ومناه. وقرأ
الحجازيان والبصريان (سَيِّئُهُ) على أنها خبر (كانَ) والاسم ضمير (كُلُ) ، و (ذلِكَ) إشارة إلى ما نهى عنه خاصة وعلى هذا قوله : (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) بدل من (سَيِّئُهُ) أو صفة لها محمولة على المعنى ، فإنه بمعنى سيئا وقد قرئ
به ، ويجوز أن ينتصب مكروها على الحال من المستكن في (كانَ) أو في الظرف على أنه صفة (سَيِّئُهُ) ، والمراد به المبغوض المقابل
للمرضى لا ما
يقابل المراد لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى.
(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(٣٩)
(ذلِكَ) إشارة إلى الأحكام المتقدمة. (مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به. (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه ، فإن من
لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله أو تركه غيره ضاع سعيه ، وأنه رأس الحكمة
وملاكها ، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا وثانيا ما هو نتيجته في
العقبى فقال تعالى : (فَتُلْقى فِي
جَهَنَّمَ مَلُوماً) تلوم نفسك.
(مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله تعالى.
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)(٤٠)
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) خطاب لمن قالوا الملائكة بنات الله ، والهمزة للإنكار
والمعنى : أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد وهم البنون. (وَاتَّخَذَ مِنَ
الْمَلائِكَةِ إِناثاً) بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه عقولكم وعادتكم. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً
عَظِيماً) بإضافة الأولاد إليه ، وهي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها
، ثم بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون ثم بجعل الملائكة الذين هم من
أشرف خلق الله أدونهم.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً)(٤٢)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير. (فِي هذَا الْقُرْآنِ) في مواضع منه ، ويجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة
البنات إليه على تقدير : ولقد صرفنا هذا القول في هذا المعنى أو أوقعنا التصريف
فيه ، وقرئ «صرفنا» بالتخفيف. (لِيَذَّكَّرُوا) ليتذكروا وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الفرقان (لِيَذَّكَّرُوا) من الذكر الذي هو بمعنى التذكر. (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) عن الحق وقلة طمأنينة إليه. قل لو كان معه آلهة كما تقولون
أيها المشركون ، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بالياء فيه وفيما بعده على أن الكلام
مع الرسولصلىاللهعليهوسلم ، ووافقهما نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب في
الثانية على أن الأولى مما أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، أن يخاطب به المشركين ، والثانية مما نزه به نفسه عن
مقالتهم. (إِذاً لَابْتَغَوْا
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) جواب عن قولهم وجزاء ل (لَوْ) والمعنى : لطلبوا إلى من هو مالك الملك سبيلا بالمعازة كما
يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، أو بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته وعجزهم كقولهم
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
(سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
تُسَبِّحُ
لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً)(٤٤)
(سُبْحانَهُ) ينزه تنزيها. (وَتَعالى عَمَّا
يَقُولُونَ عُلُوًّا) تعاليا. (كَبِيراً) متباعدا غاية البعد عما يقولون ، فإنه في أعلى مراتب
الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته ، واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من
خواص ما يمتنع بقاؤه.
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ
السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) ينزهه عما هو من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث بلسان الحال
حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب لذاته. (وَلكِنْ
لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم
تسبيحهم ، ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما
يتصور منه اللفظ وإلى ما لا يتصور منه وعليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وأبو بكر «يسبح» بالياء. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم. (غَفُوراً) لمن تاب منكم.
(وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)(٤٦)
(وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً) يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم. (مَسْتُوراً) ذا ستر كقوله تعالى : (وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) وقولهم سيل مفعم ، أو مستورا عن الحس ، أو بحجاب آخر لا
يفهمون ولا يفهمون أنهم لا يفهمون نفى عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعد
ما نفى عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس والآفاق تقريرا له وبيانا لكونهم
مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله :
(وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) تكنها وتحول دونها عن إدراك الحق وقبوله. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه ، ويجوز أن يكون مفعولا لما دل عليه قوله
: (وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي منعناهم أن يفقهوه. (وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) يمنعهم عن استماعه. ولما كان القرآن معجزا من حيث اللفظ
والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ) واحدا غير مشفوع به آلهتهم ، مصدر وقع موقع الحال وأصله
يحد وحده بمعنى واحدا وحده. (وَلَّوْا عَلى
أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) هربا من استماع التوحيد ونفرة أو تولية ، ويجوز أن يكون
جمع نافر كقاعد وقعود.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)(٤٧)
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَسْتَمِعُونَ بِهِ) بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن. (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ظرف ل (أَعْلَمُ) وكذا. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك
مضمرون له وحين هم ذوو نجوى يتناجون به ، و (نَجْوى) مصدر ويحتمل أن يكون جمع نجي. (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) مقدر باذكر ، أو بدل من (إِذْ هُمْ نَجْوى) على وضع (الظَّالِمُونَ) موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب
الظلم ، والمسحور هو الذي سحر فزال عقله. وقيل الذي له سحر وهو الرئة أي إلا رجلا
يتنفس ويأكل ويشرب مثلكم.
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)
(٤٩)
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) مثلوك بالشاعر والساحر والكاهن والمجنون. (فَضَلُّوا) عن الحق في جميع ذلك. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) إلى طعن موجه فيتهافتون ويخبطون كالمتحير في أمره لا يدري
ما يصنع أو إلى الرشاد. (وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) حطاما. (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) على الإنكار والاستبعاد لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم
، من المباعدة والمنافاة ، والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد
إن لا يعمل فيما قبلها و (خَلْقاً) مصدر أو حال.
(قُلْ كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ
الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ
مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً)(٥١)
(قُلِ) جوابا لهم. (كُونُوا حِجارَةً
أَوْ حَدِيداً).
(أَوْ خَلْقاً مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها ،
فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض ، فكيف إذا
كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما
لم يعهد. (فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وكنتم ترابا وما هو أبعد منه من الحياة. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء. (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً) فإن كل ما هو آت قريب ، وانتصابه على الخبر أو الظرف أي
يكون في زمان قريب ، و (أَنْ يَكُونَ) اسم (عَسى) أو خبره والاسم مضمر.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً)(٥٢)
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ) أي يوم يبعثكم فتنبعثون ، استعار لهما الدعاء والاستجابة
للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما ، وأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء. (بِحَمْدِهِ) حال منهم أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته كما قيل
إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، أو منقادين لبعثه
انقياد الحامدين عليه. (وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مر على قرية ، أو مدة
حياتكم لما ترون من الهول.
(وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)
رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(٥٤)
(وَقُلْ لِعِبادِي) يعني المؤمنين. (يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) الكلمة التي هي أحسن ولا يخاشنوا المشركين. (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يهيج بينهم المراء والشر فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى
العناد وازدياد الفساد. (إِنَّ الشَّيْطانَ
كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة.
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) تفسير ل (الَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) وما بينهما اعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا
تصرحوا بأنهم من أهل النار ، فإنه يهيجهم على الشر مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه
إلا الله. (وَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإيمان وإنما أرسلناك مبشرا
ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالاحتمال منهم. وروي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم
فشكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. وقيل شتم عمر رضي الله تعالى عنه رجل منهم فهم به
فأمره الله بالعفو.
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى
بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)(٥٥)
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ، وهو رد
لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ، وأن يكون العراة الجوع أصحابه. (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية ، لا
بكثرة الأموال والأتباع حتى داود عليهالسلام فإن شرفه بما أوحي إليه من الكتاب لا بما أوتيه من الملك.
قيل هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير
الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وتنكيره
ها هنا وتعريفه في قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ) لأنه في الأصل فعول للمفعول كالحلوب ، أو المصدر كالقبول
ويؤيده قراءة حمزة بالضم وهو
كالعباس أو الفضل
، أو لأن المراد وآتينا داود بعض الزبر ، أو بعضا من الزبور فيه ذكر الرسول عليه
الصلاة والسلام.
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)(٥٧)
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنها آلهة. (مِنْ دُونِهِ) كالملائكة والمسيح وعزير. (فَلا يَمْلِكُونَ) فلا يستطيعون. (كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ) كالمرض والفقر والقحط. (وَلا تَحْوِيلاً) ولا تحويل ذلك منكم إلى غيركم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القرابة بالطاعة. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدل من واو (يَبْتَغُونَ) أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب.
(وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كسائر العباد فكيف تزعمون أنهم آلهة. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة.
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً
شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
وَما
مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ
بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً)(٥٩)
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالموت والاستئصال. (أَوْ مُعَذِّبُوها
عَذاباً شَدِيداً) بالقتل وأنواع البلية. (كانَ ذلِكَ فِي
الْكِتابِ) في اللوح المحفوظ. (مَسْطُوراً) مكتوبا.
(وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ) وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش. (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ) إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود ،
وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ، واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنتنا
وقد قضينا أن لا نستأصلهم ، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم
المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال :
(وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ) بسؤالهم. (مُبْصِرَةً) بينة ذات أبصار أو بصائر ، أو جاعلتهم ذوي بصائر وقرئ
بالفتح. (فَظَلَمُوا بِها) فكفروا بها ، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) أي بالآيات المقترحة. (إِلَّا تَخْوِيفاً) من نزول العذاب المستأصل ، فإن لم يخافوا نزل أو بغير
المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة ، فإن أمر من بعثت إليهم
مؤخر إلى يوم القيامة ، والباء مزيدة أو في موقع الحال والمفعول محذوف.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً)(٦٠)
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ) واذكر إذ أوحينا إليك. (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ
بِالنَّاسِ) فهم في قبضة قدرته ، أو أحاط بقريش بمعنى أهلكهم من أحاط
بهم العدو ، فهي بشارة بوقعة بدر والتعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه ، (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْناكَ) ليلة المعراج وتعلق به من قال إنه كان في المنام ، ومن قال
إنه كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية. أو عام الحديبية حين رأى أنه دخل مكة. وفيه
أن الآية مكية إلا أن يقال رآها بمكة وحكاها حينئذ،
ولعله رؤيا رآها
في وقعة بدر لقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) ولما روي (أنه لما ورد ماءه قال لكأني أنظر إلى مصارع
القوم هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، فتسامعت به قريش واستسخروا منه). وقيل رأى
قوما من بني أمية يرقون منبره وينزون عليه نزو القردة فقال : «هذا حظهم من الدنيا
يعطونه بإسلامهم» ، وعلى هذا كان المراد بقوله : (إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ) ما حدث في أيامهم. (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على (الرُّؤْيَا) وهي شجرة الزقوم ، لما سمع المشركون ذكرها قالوا إن محمدا
يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر ، ولم يعلموا أن من قدر أن
يحمي وبر السمندل من أن تأكله النار ، وأحشاء النعامة من أذى الجمر وقطع الحديد
المحماة الحمر التي تبتلعها ، قدر أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. ولعنها في
القرآن لعن طاعميها وصفت به على المجاز للمبالغة ، أو وصفها بأنها في أصل الجحيم
فإنه أبعد مكان من الرحمة ، أو بأنها مكروهة مؤذية من قولهم طعام ملعون لما كان
ضارا ، وقد أولت بالشيطان وأبي جهل والحكم بن أبي العاصي ، وقرأت بالرفع على
الابتداء والخبر محذوف أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. (وَنُخَوِّفُهُمْ) بأنواع التخويف. (فَما يَزِيدُهُمْ
إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) إلا عتوا متجاوز الحد.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ
هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً)(٦٢)
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) لمن خلقته من طين ، فنصب بنزع الخافض ، ويجوز أن يكون حالا
من الراجع إلى الموصول أي خلقته وهو طين ، أو منه أي أأسجد له وأصله طين. وفيه على
الوجوه الثلاثة إيماء بعلة الإنكار.
(قالَ أَرَأَيْتَكَ
هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب ، وهذا مفعول
أول والذي صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة صلته عليه ، والمعنى أخبرني عن هذا
الذي كرمته علي بأمري بالسجود له لم كرمته علي. (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا
قَلِيلاً) أي لأستأصلنهم بالإغواء إلا قليلا لا أقدر أن أقاوم
شكيمتهم ، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا ، مأخوذ من الحنك وإنما
علم أن ذلك يتسهل له إما استنباطا من قول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) مع التقرير ، أو تفرسا من خلقه ذا وهم وشهوة وغضب.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً)(٦٤)
(قالَ اذْهَبْ) امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه. (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب ، ويجوز أن يكون
الخطاب للتابعين على الالتفات. (جَزاءً مَوْفُوراً) مكملا من قولهم فر لصاحبك عرضه ، وانتصاب جزاء على المصدر
بإضمار فعله أو بما في (جَزاؤُكُمْ) من معنى تجازون ، أو حال موطئة لقوله (مَوْفُوراً).
(وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف. (مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ) أن تستفزه والفز الخفيف. (بِصَوْتِكَ) بدعائك إلى الفساد. (وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ) وصح عليهم من الجلبة وهي الصياح. (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) بأعوانك من راكب وراجل ، والخيل الخيالة ومنه قوله عليه
الصلاة والسلام «يا خيل الله اركبي» والرجل اسم جمع للراجل
كالصحب والركب ،
ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم
وأجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم. وقرأ حفص (وَرَجِلِكَ) بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه : وجمعك
الرجل. وقرئ «ورجالك» «ورجالك». (وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ) بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا
ينبغي. (وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم ، والإشراك فيه
بتسميته عبد العزيز ، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة
والأفعال القبيحة. (وَعِدْهُمْ) المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء
وتأخير التوبة لطول الأمل. (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) اعتراض لبيان مواعيده الباطلة ، والغرور تزيين الخطأ بما
يوهم أنه صواب.
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥)
(إِنَّ عِبادِي) يعني المخلصين ، وتعظيم الإضافة والتقييد في قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ) يخصصهم (لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي على إغوائهم قدرة. (وَكَفى بِرَبِّكَ
وَكِيلاً) يتوكلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة.
(رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)(٦٧)
(رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي) هو الذي يجري. (لَكُمُ الْفُلْكَ فِي
الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) الريح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم. (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما تعسر من
أسبابه.
(وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) خوف الغرق. (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) ذهب عن خواطركم كل من تدعونه في حوادثكم. (إِلَّا إِيَّاهُ) وحده فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه فلا تدعون لكشفه إلا
إياه ، أو ضل كل من تعبدونه عن إغاثتكم إلا الله. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق. (إِلَى الْبَرِّ
أَعْرَضْتُمْ) عن التوحيد. وقيل اتسعتم في كفران النعمة كقول ذي الرمة :
عطاء فتى تمكّن
في المعالي
|
|
فأعرض في
المكارم واستطالا
|
(وَكانَ
الْإِنْسانُ كَفُوراً) كالتعليل للإعراض.
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)(٦٨)
(أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره :
أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق
قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ
جانِبَ الْبَرِّ) أن يقلبه الله وأنتم عليه ، أو يقلبه بسببكم فبكم حال أو
صلة ليخسف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيه وفي الأربعة التي بعده ، وفي ذكر
الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل كفروا وأعرضوا وأن الجوانب والجهات في
قدرته سواء لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. (أَوْ يُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ حاصِباً) ريحا تحصب أي ترمي بالحصباء (ثُمَّ لا تَجِدُوا
لَكُمْ وَكِيلاً) يحفظكم من ذلك فإنه لا راد لفعله.
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ
فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩)
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ) في البحر. (تارَةً أُخْرى) بخلق دواع تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ
الرِّيحِ) لا تمر بشيء إلا قصفته أي كسرته. (فَيُغْرِقَكُمْ) وعن يعقوب بالتاء على إسناده إلى ضمير (الرِّيحِ). (بِما كَفَرْتُمْ) بسبب إشراككم أو كفرانكم نعمة الإنجاء. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ
تَبِيعاً) مطالبا يتبعنا بانتصار أو صرف.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧٠)
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز
بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي ، أو أسباب المعاش والمعاد والتسلط
على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية
إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره
ابن عباس وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلّا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ) على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو
حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنا تَفْضِيلاً) بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة ، والمستثنى جنس
الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم
تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر ، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف.
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٧١)
(يَوْمَ نَدْعُوا) نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه (وَلا يُظْلَمُونَ) ، وقرئ «يدعو» و «يدعي» و «يدعو» على قلب الألف واوا في
لغة من يقول أفعو في أفعى ، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها
فإنها ليست إلا علامة الرفع ، وهو قد يقدر كما في «يدعي». (كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين.
وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا ، أي تنقطع علقة الأنساب
وتبقى نسبة الأعمال. وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم. وقيل بأمهاتهم
جمع أم كخف وخفاف ، والحكمة في ذلك ، إجلال عيسى عليهالسلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأن لا يفتضح
أولاد الزنا. (فَمَنْ أُوتِيَ) من المدعوين. (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي كتاب عمله. (فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، وجمع اسم الإشارة والضمير
لأن من أوتي في معنى الجمع ، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من
أوتي كتابه بشماله إذا اطلع على ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن
القراءة ، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله :
(وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)
(وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ، والمعنى ومن
كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق
النجاة. (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة. وقيل
لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار
من فاقد الحاسة.
وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب
، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف
النعت ، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظا وحكما فكانت معرضة للإمالة من حيث إنها تصير
ياء في التثنية ، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر ، وقرأ ورش بين بين فيهما.
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٧٣)
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ) نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا
نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا ، وكل ربا لنا فهو لنا
وكل ربا علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وأدينا كما حرمت
مكة ، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني. وقيل في قريش قالوا لا نمكنك
من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك. وإن هي المخففة واللام هي الفارقة
والمعنى : أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال. (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأحكام (لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنا غَيْرَهُ) غير ما أوحينا إليك. (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً) ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم بريئا من
ولايتي.
(وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ
ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥)
(وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ) ولولا تثبيتنا إياك. (لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم ، والمعنى أنك كنت على
صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من
الركون فضلا أن تركن إليهم ، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم
مع قوة الدواعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.
(إِذاً لَأَذَقْناكَ) أي لو قاربت لأذقناك. (ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما نعذب به في الدارين بمثل
هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر ، وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة
وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، ثم
أضيفت كما يضاف موصوفها. وقيل الضعف من أسماء العذاب. وقيل المراد ب (ضِعْفَ الْحَياةِ) عذاب الآخرة (وَضِعْفَ الْمَماتِ) عذاب القبر. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع العذاب عنك.
(وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)
(٧٧)
(وَإِنْ كادُوا) وإن كاد أهل مكة. (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجوك بمعاداتهم. (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة. (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها
وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك. (إِلَّا قَلِيلاً) إلا زمانا قليلا ، وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد
هجرته بسنة. وقيل الآية : نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا :
الشام مقام الأنبياء فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك ، فوقع ذلك في قلبه فخرج
مرحلة فنزلت ، فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلي بنو النضير بقليل. وقرئ «لا
يلبثوا» منصوبا ب (إِذاً) على أنه معطوف على جملة قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمد ما بعدها
على ما قبلها وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص (خِلافَكَ) وهو لغة فيه قال الشاعر :
عفت الديار
خلافهم فكأنّما
|
|
بسط الشّواطب
بينهنّ حصيرا
|
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة ، وهو أن يهلك كل أمة
أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم ، فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل
عليه. (وَلا تَجِدُ
لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي تغييرا.
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)
(٧٨)
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لزوالها ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «أتاني جبريل
لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر». وقيل لغروبها وأصل التركيب للانتقال ومنه
الدالك فإن الدالك لا تستقر يده ، وكذا كل ما تركب من الدال واللام : كدلج ودلح
ودلع ودلف ودله. وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها ،
واللام للتأقيت مثلها في : لثلاث خلون (إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ) إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وصلاة الصبح ، سميت قرآنا لأنه ركنها كما سميت ركوعا
وسجودا ، واستدل به على وجوب القراءة فيها ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز
لكونها مندوبة فيها ، نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر دل الأمر بإقامتها على
الوجوب فيها نصا وفي غيرها قياسا. (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أو شواهد القدرة من
تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من
حقه أن يشهده الجم الغفير ، والآية جامعة للصلوات الخمس إن فسر الدلوك بالزوال
ولصلوات الليل وحدها إن فسر بالغروب. وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب وقوله (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ) بيان لمبدأ الوقت ومنتهاه ، واستدل به على أن الوقت يمتد إلى
غروب الشفق.
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٧٩)
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل (قُرْآنَ). (نافِلَةً لَكَ) فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة ، أو فضيلة لك
لاختصاص وجوبه بك. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه ، وهو مطلق في كل مقام
يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة. لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه
عليه الصلاة والسلام قال : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» ولإشعاره بأن الناس
يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة ، وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي
فيقيمك مقاما أو بتضمين (يَبْعَثَكَ) معناه ، أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام.
(وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)
وَقُلْ
جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٨١)
(وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي) أي في القبر. (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخالا مرضيا. (وَأَخْرِجْنِي) أي منه عند البعث. (مُخْرَجَ صِدْقٍ) إخراجا ملقى بالكرامة. وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج
من مكة. وقيل إدخاله مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل إدخاله
الغار وإخراجه منه سالما. وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه
مؤديا حقه. وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه. وقرئ «مدخل» و
«مخرج» بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولا وأخرجني فأخرج خروجا. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً
نَصِيراً) حجة تنصرني على من خالفني أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر
، فاستجاب له بقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ
هُمُ الْغالِبُونَ) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ). (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) الإسلام (وَزَهَقَ الْباطِلُ) وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)
مضمحلا غير ثابت ،
عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها
ثلاثمائة وستون صنما ينكت بمخصرته في عين كل واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل
، فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال : يا
علي ارم به فصعد فرمى به فكسره).
(وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ خَساراً)(٨٢)
(وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي
للمرضى ، و (مِنَ) للبيان فإن كله كذلك. وقيل إنه للتبعيض والمعنى أن منه ما
يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وقرأ البصريان (نُنَزِّلُ) بالتخفيف. (وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لتكذيبهم وكفرهم به.
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ
يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٨٤)
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والسعة (أَعْرَضَ) عن ذكر الله. (وَنَأى بِجانِبِهِ) لوى عطفه وبعد بنفسه عنه كأنه مستغن مستبد بأمره ، ويجوز
أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ، وقرأ ابن عامر برواية ابن
ذكوان هنا وفي «فصلت» وناء على القلب أو على أنه بمعنى نهض. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر. (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله.
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ) قل كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى
والضلالة ، أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدى سَبِيلاً) أسد طريقا وأبين منهجا ، وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة
والعادة والدين.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً)(٨٥)
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من الإبداعيات الكائنة بكن من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء
جسده ، أو وجد بأمره وحدث بتكوينه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه. وقيل مما استأثر
الله بعلمه. لما روي : أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين
وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو
نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة. وقيل الروح جبريل
وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن ، ومن أمر ربي معناه من وحيه. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) تستفيدونه بتوسط حواسكم ، فإن اكتساب العقل للمعارف
النظرية. إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ، ولذلك قيل من فقد
حسا فقد فقد علما. ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئا من أحواله المعروفة
لذاته ، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما
يلتبس به ، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب : وما رب العالمين
بذكر بعض صفاته. روي : أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا : أنحن
مختصون بهذا الخطاب؟ فقال : بل نحن وأنتم ، فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). وساعة تقول هذا فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) وما قالوه لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من
الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده ، وهو بالإضافة
إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه
كثيرا.
(وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)(٨٧)
(وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اللام الأولى موطئة للقسم و (لَنَذْهَبَنَ) جوابه النائب مناب جزاء الشرط. والمعنى إن شئنا ذهبنا
بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ) فإنها إن نالتك فلعلها تسترده عليك ، ويجوز أن يكون
استثناء منقطعا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، فيكون امتنانا
بإبقائه بعد المنة في تنزيله. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ
عَلَيْكَ كَبِيراً) كإرساله وإنزال الكتاب عليه وإبقائه في حفظه.
(قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
وَلَقَدْ
صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٨٩)
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى. (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وفيهم العرب العرباء وأرباب البيان وأهل التحقيق ، وهو
جواب قسم محذوف دل عليه اللام الموطئة ، ولولا هي لكان جواب الشرط بلا جزم لكون
الشرط ماضيا كقول زهير :
وإن أتاه خليل
يوم مسألة
|
|
يقول لا غائب
مالي ولا حرم
|
(وَلَوْ
كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ولو تظاهروا على الإتيان به ، ولعله لم يذكر الملائكة لأن
إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزا ، ولأنهم كانوا وسائط في إتيانه ، ويجوز أن
تكون الآية تقريرا لقوله : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً).
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان. (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعها في الأنفس. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا
كُفُوراً) إلا جحودا ، وإنما جاز ذلك ولم يجز : ضربت إلا زيدا لأنه
متأول بالنفي.
(وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠)
أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها
تَفْجِيراً)(٩١)
(وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) تعنتا واقتراحا بعد ما لزمتهم الحجة ببيان إعجاز القرآن
وانضمام غيره من المعجزات إليه. وقرأ الكوفيون ويعقوب تفجر بالتخفيف والأرض أرض
مكة والينبوع عين لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر.
(أَوْ تَكُونَ لَكَ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أو يكون لك بستان يشتمل على ذلك.
(أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً
رَسُولاً)(٩٣)
(أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) يعنون قوله تعالى : (أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) وهو كقطع لفظا ومعنى ، وقد سكنه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة
والكسائي ويعقوب في جميع القرآن إلا في «الروم»
وابن عامر إلا في
هذه السورة ، وأبو بكر ونافع في غيرهما وحفص فيما عدا «الطور» ، وهو إما مخفف من
المفتوح كسدرة وسدر أو فعل بمعنى مفعول كالطحن. (أَوْ تَأْتِيَ
بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) كفيلا بما تدعيه أي شاهدا على صحته ضامنا لدركه ، أو
مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر وهو حال من الله وحال الملائكة محذوفة لدلالتها
عليها كما حذف الخبر في قوله : فإني وقيّار بها لغريب. أو جماعة فيكون حالا من (الْمَلائِكَةِ).
(أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة. (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) في معارجها. (وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ) وحده. (حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) وكان فيه تصديقك. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) تعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم
عليه أو يشاركه أحد في القدرة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر : «قال سبحان ربي» أي قال
الرسول : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا
بَشَراً) كسائر الناس. (رَسُولاً) كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله
عليهم على ما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على
الله حتى تتخيروها عليّ هذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر
كقوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) ، (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً).
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ
مَلَكاً رَسُولاً)(٩٥)
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق. (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ
بَشَراً رَسُولاً) إلا قولهم هذا ، والمعنى أنه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن
الإيمان بمحمدصلىاللهعليهوسلم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا.
(قُلْ) جوابا لشبهتهم. (لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) كما يمشي بنو آدم. (مُطْمَئِنِّينَ) ساكنين فيها. (لَنَزَّلْنا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه ، وأما الإنس فعامتهم
عماة عن إدراك الملك والتلقف منه ، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس ،
وملكا يحتمل أن يكون حالا من رسولا وأن يكون موصوفا به وكذلك بشرا والأول أوفق.
(قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(٩٦)
(قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني رسول الله إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي ،
أو على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم وشهيدا نصب على الحال أو التمييز.
(إِنَّهُ كانَ
بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يعلم أحوالهم الباطنة منها والظاهرة فيجازيهم عليها ، وفيه
تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم وتهديد للكفار.
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
ذلِكَ
جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(٩٨)
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يهدونه. (وَنَحْشُرُهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يسحبون عليها أو يمشون بها. روي (أنه قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم
قادر على أن يمشيهم على وجوههم) (عُمْياً وَبُكْماً
وَصُمًّا) لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا
ينطقون بما يقبل منهم ، لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصاموا عن
استماع الحق وأبوا أن ينطقوا بالصدق ، ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى
النار مؤفي القوى
والحواس. (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ
كُلَّما خَبَتْ) سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم. (زِدْناهُمْ سَعِيراً) توقدا بأن نبدل جلودهم ولحومهم فتعود ملتهبة مستعرة ،
كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإعادة
والإفناء وإليه أشار بقوله :
(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) لأن الإشارة إلى ما تقدم من عذابهم.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ
كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ
الْإِنْسانُ قَتُوراً)(١٠٠)
(أَوَلَمْ يَرَوْا) أو لم يعلموا. (أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإنهم ليسوا أشد خلقا منهن ولا الإعادة أصعب عليه من
الإبداء. (وَجَعَلَ لَهُمْ
أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) هو الموت أو القيامة. (فَأَبَى
الظَّالِمُونَ) مع وضوح الحق. (إِلَّا كُفُوراً) إلا جحودا.
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) خزائن رزقه وسائر نعمه ، وأنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده
كقول حاتم : لو ذات سوار لطمتني. وفائدة هذا الحذف والتفسير المبالغة مع الإيجاز
والدلالة على الاختصاص. (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق إذ لا أحد إلا ويختار النفع
لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود
الله تعالى وكرمه هذا وإن البخلاء أغلب فيهم. (وَكانَ الْإِنْسانُ
قَتُوراً) بخيلا لأن بناء أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه
وملاحظة العوض فيما يبذله.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً)(١٠١)
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار
الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل. وقيل الطوفان والسنون
ونقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة. وعن صفوان أن يهوديا سأل النبي صلىاللهعليهوسلم عنها فقال : أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ، ولا
تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة
اليهود أن لا تعدوا في السبت ، فقبل اليهودي يده ورجله. فعلى هذا المراد بالآيات
الأحكام العامة للملل الثابتة في كل الشرائع ، سميت بذلك لأنها تدل على حال من
يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة أو الشقاوة. وقوله وعليكم خاصة اليهود أن لا
تعدوا ، حكم مستأنف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ
جاءَهُمْ) فقلنا له سلهم من فرعون ليرسلهم معك ، أو سلهم عن حال
دينهم ويؤيده قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فسأل» على لفظ
المضي بغير همز وهو لغة قريش و (إِذْ) متعلق بقلنا أو سأل على هذه القراءة أو فاسأل يا محمد بني
إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم ، أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك أو
لتتسلى نفسك ، أو لتعلم أنه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصروا على العناد والمكابرة
كمن قبلهم ، أو ليزداد يقينك لأن تظاهر الأدلة يوجب قوة اليقين وطمأنينة القلب
وعلى هذا كان (إِذْ) نصبا ب (آتَيْنا) أو بإضمار يخبروك على أنه جواب الأمر ، أو بإضمار اذكر على
الاستئناف. (فَقالَ لَهُ
فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) سحرت فتخبط عقلك.
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي
لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)(١٠٢)
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون وقرأ الكسائي بالضم على إخباره عن نفسه. (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعني الآيات. (إِلَّا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) بينات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وانتصابه على الحال. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ
مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك عن
هذا ، أي ما صرفك أو هالكا قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون كذب
بحت وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر أماراته. وقرئ «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا»
على إن المخففة واللام هي الفارقة.
(فَأَرادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣)
وَقُلْنا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١٠٤)
(فَأَرادَ) فرعون. (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أن يستخف موسى وقومه وينفيهم. (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مصر أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال. (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فعكسنا عليه مكره فاستفززناه وقومه بالإغراق.
(وَقُلْنا مِنْ
بَعْدِهِ) من بعد فرعون أو إغراقه. (لِبَنِي إِسْرائِيلَ
اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التي أراد أن يستفزكم منها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ) الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام
القيامة. (جِئْنا بِكُمْ
لَفِيفاً) مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من
أشقيائكم ، واللفيف الجماعات من قبائل شتى.
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
(١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)(١٠٦)
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله ،
وما نزل على الرسول إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه. وقيل وما أنزلناه من السماء
إلا محفوظا بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين.
ولعله أراد به نفي اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع بالثواب. (وَنَذِيراً) للعاصي بالعقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار.
(وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ) نزلناه مفرقا منجما. وقيل فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف
الجار كما في قوله : ويوما شهدناه ، وقرئ بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في تضاعيف
عشرين سنة. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) على مهل وتؤدة فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وقرئ بالفتح
وهو لغة فيه. (وَنَزَّلْناهُ
تَنْزِيلاً) على حسب الحوادث.
(قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً)(١٠٧)
(قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا وامتناعكم عنه لا
يورثه نقصا وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) تعليل له أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم
وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة ،
وتمكنوا من الميز بين المحق والمبطل ، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك
الكتب ، ويجوز أن يكون تعليلا ل (قُلْ) على سبيل التسلية كأنه قيل. تسل بإيمان العلماء عن إيمان
الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم. (إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ) القرآن. (يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله أو شكرا لإنجاز وعده
في تلك الكتب ببعثة محمدصلىاللهعليهوسلم على فترة من الرسل وإنزال القرآن عليه.
(وَيَقُولُونَ
سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(١٠٩)
(وَيَقُولُونَ
سُبْحانَ رَبِّنا) عن خلف الموعد. (إِنْ كانَ وَعْدُ
رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إنه كان وعده كائنا لا محالة.
(وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) كرره لاختلاف الحال والسبب فإن الأول للشكر عند إنجاز
الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله ، وذكر
الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد ، واللام فيه لاختصاص الخرور به. (وَيَزِيدُهُمْ) سماع القرآن (خُشُوعاً) كما يزيدهم علما ويقينا بالله.
(قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)(١١٠)
(قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)
نزلت حين سمع
المشركون رسول الله يقول : يا الله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إليهن وهو
يدعو إلها آخر. أو قالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة ،
والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف
اعتبار إطلاقهما ، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني
أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف
أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في (أَيًّا) عوض عن المضاف إليه ، و (ما) صلة لتأكيد ما في (أَيًّا) من الإبهام ، والضمير في (فَلَهُ) للمسمى لأن التسمية له لا للاسم ، وكان أصل الكلام (أَيًّا ما تَدْعُوا) فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة
والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب
واللغو فيها. (وَلا تُخافِتْ بِها) حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) بين الجهر والمخافتة. (سَبِيلاً) وسطا فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب. روي أن أبا بكر
رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وعمر رضي الله عنه كان
يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا. وقيل معناه لا
تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالإخفات نهارا والجهر
ليلا.
(وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)
(وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) في الألوهية. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) ولي يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته نفى عنه أن
يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا واضطرارا ، وما يعاونه ويقويه ،
ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه الكامل الذات المنفرد
بالإيجاد ، المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة ، أو منعم عليه ولذلك عطف
عليه قوله : (وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً) وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد
واجتهد في العبادة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ،
وعنه عليهالسلام «من قرأ سورة بني
إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين ، كان له قنطار في الجنة» والقنطار ألف أوقية
ومائتا أوقية. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
(١٨) سورة الكهف
مكية وقيل إلا قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ) الآية
وهي مائة وإحدى عشرة آية.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)(١)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) يعني القرآن ، رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على
أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما به
ينتظم صلاح المعاش والمعاد. (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) شيئا من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى ، أو
انحراف من الدعوة إلى جناب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان.
(قَيِّماً لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً(٢) ماكِثِينَ فِيهِ
أَبَداً)(٣)
(قَيِّماً) مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، أو (قَيِّماً) بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال ،
أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها ، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال
من الضمير في (لَهُ) ، أو من (الْكِتابَ) على أن الواو (وَلَمْ يَجْعَلْ) للحال دون العطف ، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين
أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير وقرئ «قيما». (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) أي لينذر الذين كفروا عذابا شديدا ، فحذف المفعول الأول
اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه. (مِنْ لَدُنْهُ) صادرا من عنده ، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء
من سبع مع الإشمام ليدل على أصله ، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء
للإتباع. (وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) هو الجنة.
(ماكِثِينَ فِيهِ) في الأجر. (أَبَداً) بلا انقطاع.
(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤)
ما
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(٥)
(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) خصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقا بهم استعظاما لكفرهم ،
وإنما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدم ذكره.
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ، والمعنى أنهم يقولونه عن
جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي
أرادوا به ، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر. أو بالله إذ لو
علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه. (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين تقولوه بمعنى
التبني. (كَبُرَتْ كَلِمَةً) عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك ،
وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ ، و (كَلِمَةً) نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ
وأدل على المقصود. (تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم ،
والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها. وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبر ها
هنا بمعنى بئس وقرئ «كبرت» بالسكون مع الإشمام. (إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِباً).
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٦)
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ) قاتلها. (عَلى آثارِهِمْ) إذا ولوا عن الإيمان ، شبهه لما يداخله من الوجد على
توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم. وقرئ «باخع
نفسك» على الإضافة. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهذَا الْحَدِيثِ) بهذا القرآن. (أَسَفاً) للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم ، والأسف فرط الحزن والغضب.
وقرئ «أن» بالفتح على لأن فلا يجوز إعمال (باخِعٌ) إلا إذا جعل حكاية حال ماضية.
(إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)
وَإِنَّا
لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)
(إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ) من الحيوان والنبات والمعادن. (زِينَةً لَها) ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في تعاطيه ، وهو من زهد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما يزجي
به أيامه وصرفه على ما ينبغي ، وفيه تسكين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) تزهيد فيه ، والجرز الأرض التي قطع نباتها. مأخوذ من الجرز
وهو القطع ، والمعنى إنا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض ونجعله
كصعيد أملس لا نبات فيه.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)(٩)
(أَمْ حَسِبْتَ) بل أحسبت. (أَنَّ أَصْحابَ
الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) في إبقاء حياتهم مدة مديدة. (انُوا مِنْ آياتِنا
عَجَباً) وقصتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع
الفائتة للحصر على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة ، ثم
ردها إليها ليس بعجيب مع أنه من آيات الله كالنزر الحقير. و (الْكَهْفِ) الغار الواسع في الجبل. و (الرَّقِيمِ) اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم ، أو اسم قريتهم أو
كلبهم. قال أمية بن أبي الصلت :
وليس بها إلّا
الرّقيم مجاورا
|
|
وصيدهمو والقوم
في الكهف هجّد
|
أو لوح رصاصي أو
حجري رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف. وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا
ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم ، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت
بابه. فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته ، فقال أحدهم :
استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل
أجرهم ، فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت ، ثم مر بي بقر فاشتريت به
فصيلة فبلغت ما شاء الله ، فرجع إلي بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إن لي
عندك حقا وذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك
فافرج عنا ، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء. وقال آخر : كان فيّ فضل وأصابت الناس
شدة ، فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم
رجعت ثلاثا ، ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له وأغيثي عيالك ، فأتت وسلمت إلي نفسها
فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت : ما لك قالت أخاف الله ،
فقلت لها : خفته
في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها ، اللهم إن كنت فعلته لوجهك
فافرج عنا ، فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم
وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غني فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت ،
فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما ، فوجدتهما نائمين فشق علي أن
أوقظهما ، فتوقعت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن كنت
فعلته لوجهك فافرج عنا. ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك نعمان بن بشير.
(إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)(١١)
(إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا
وهربوا إلى الكهف ، (فَقالُوا رَبَّنا
آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو. (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار. (رَشَداً) نصير بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا كله رشدا كقولك
: رأيت منك أسدا وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء.
(فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ) أي ضربنا عليهم حجابا يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا
تنبههم فيها الأصوات ، فحذف المفعول كما حذف في قولهم : بنى على امرأته. (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ) ظرفان لضربنا. (عَدَداً) أي ذوات عدد ، ووصف السنين به يحتمل التكثير والتقليل ،
فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده.
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
نَحْنُ
نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً)(١٣)
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم. (لِنَعْلَمَ) ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا
استقباليا. (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم. (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ضبط أمد الزمان لبثهم وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه
لنعلم ، فهو مبتدأ و (أَحْصى) خبره. وهو فعل ماض و (أَمَداً) مفعول له و (لِما لَبِثُوا) حال منه أو مفعول له ، وقيل إنه المفعول واللام مزيدة وما
موصولة و (أَمَداً) تمييز ، وقيل (أَحْصى) اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم : هو أحصى للمال
وأفلس من ابن المذلق ، و (أَمَداً) نصب بفعل دل عليه (أَحْصى) كقوله :
واضرب منّا
بالسّيوف القوانسا
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) بالصدق. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شبان جمع فتى كصبي وصبية. (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً) بالتثبيت.
(وَرَبَطْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ
نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)(١٥)
(وَرَبَطْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال ، والجراءة
على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار. (إِذْ قامُوا) بين يديه. (فَقالُوا رَبُّنا
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا
إِذاً شَطَطاً) والله لقد قلنا قولا ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في
الظلم.
(هؤُلاءِ) مبتدأ. (قَوْمُنَا) عطف بيان. (اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً) خبره ، وهو إخبار في معنى إنكار. (لَوْ لا يَأْتُونَ) هلا يأتون. (عَلَيْهِمْ) على عبادتهم. (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، وفيه دليل على أن
ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه.
(وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقاً)(١٦)
(وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب بعضهم لبعض. (وَما يَعْبُدُونَ
إِلَّا اللهَ) عطف على الضمير المنصوب ، أي وإذ اعتزلتم القوم ومعبوديهم
إلا الله ، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين. ويجوز أن
تكون (ما) مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله
، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين (إِذِ) وجوابه لتحقيق اعتزالهم. (فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم. (مِنْ رَحْمَتِهِ) في الدارين. (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما ترتفقون به أي تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة
وثوقهم بفضل الله تعالى ، وقرأ نافع وابن عامر (مِرْفَقاً) بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذا كالمرجع والمحيض
فإن قياسه الفتح.
(وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ
مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً)(١٧)
(وَتَرَى الشَّمْسَ) لو رأيتهم ، والخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل أحد. (إِذا طَلَعَتْ
تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم ، لأن الكهف كان
جنوبيا ، أو لأن الله تعالى زورها عنهم. وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي ،
وقرأ الكوفيون بحذفها وابن عامر ويعقوب «تزورّ» كتحمر ، وقرئ «تزوار» كتحمار وكلها
من الزور بمعنى الميل. (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين. (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم وتصرم عنهم. (ذاتَ الشِّمالِ) يعني يمين الكهف وشماله لقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي وهم في متسع من الكهف ، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح
الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات
نعش ، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه ، والشمس إذا
كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذي يلي المغرب ،
وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه ، ويحلل عفونته ويعدل هواءه
ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم. (ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ) أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك ، أو إخبارك قصتهم ،
أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغاربة من آيات الله. (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بالتوفيق. (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي أصاب الفلاح ، والمراد به إما الثناء عليهم أو
التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها
والاستبصار بها. (وَمَنْ يُضْلِلْ) ومن يخذله. (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً) من يليه ويرشده.
(وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)
(وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً) لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم. (وَهُمْ رُقُودٌ) نيام. (وَنُقَلِّبُهُمْ) في رقدتهم.
(ذاتَ الْيَمِينِ
وَذاتَ الشِّمالِ) كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. وقرئ
«ويقلبهم» بالياء والضمير لله تعالى ، و «تقلبهم» على المصدر منصوبا بفعل يدل عليه
تحسبهم أي وترى تقلبهم. (وَكَلْبُهُمْ) هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال :
أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم. أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب ،
ويؤيده قراءة من قرأ : «وكالبهم» أي وصاحب كلبهم. (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل. (بِالْوَصِيدِ) بفناء الكهف ، وقيل الوصيد الباب ، وقيل العتبة. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) فنظرت إليهم ، وقرئ «لو اطّلعت» بضم الواو. (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) لهربت منهم ، و (فِراراً) يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) خوفا يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم
وانفتاح عيونهم. وقيل لوحشة مكانهم. وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر
بالكهف فقال : لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ
مِنْهُمْ فِراراً) فلم يسمع وبعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم. وقرأ
الحجازيان (لَمُلِئْتَ) بالتشديد للمبالغة وابن عامر والكسائي ويعقوب (رُعْباً) بالتثقيل.
(وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ
تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)
(وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ) وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا. (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا
يقينا على كمال قدرة الله تعالى ، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به
عليهم. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك
أحالوا العلم إلى الله تعالى. (قالُوا رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم.
وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي
بعده قالوا ذلك ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن
الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ
هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وقرأ أبو بكر
وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف. وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف
وبالتخفيف مكسور الواو مدغما وغير مدغم ، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده
، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس. (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أهلها. (أَزْكى طَعاماً) أحل وأطيب أو أكثر وأرخص. (فَلْيَأْتِكُمْ
بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن ، أو في التخفي حتى
لا يعرف. (وَلا يُشْعِرَنَّ
بِكُمْ أَحَداً) ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
(إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم ، والضمير للأهل المقدر في (أَيُّها). (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم بالرجم. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ
فِي مِلَّتِهِمْ) أو يصيروكم إليها كرها من العود بمعنى الصيرورة. وقيل
كانوا أولا على دينهم فآمنوا. (وَلَنْ تُفْلِحُوا
إِذاً أَبَداً) إن دخلتم في ملتهم.
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ
فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ
أَمْرَهُمْ
فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)
(٢١)
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ) وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم. (لِيَعْلَمُوا) ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم. (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث أو الموعود الذي هو البعث. (حَقٌ) لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث. (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) وأن القيامة لا ريب في إمكانها ، فإن من توفى نفوسهم
وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظا أبدانها عن التحلل والتفتت ، ثم أرسلها إليها قدر أن
يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها. (إِذْ يَتَنازَعُونَ) ظرف ل (أَعْثَرْنا) أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون. (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أمر دينهم ، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم
يقول يبعثان معا ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معا ، أو أمر الفتية حين
أماتهم الله ثانيا بالموت فقال بعضهم ، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة ، أو
قالت طائفة نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذونه قرية ، وقال آخرون لنتخذن
عليهم مسجدا يصلى فيه كما قال تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا
عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ
بِهِمْ) اعتراض إما من الله ردا على الخائضين في أمرهم من أولئك
المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم ، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم
وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك. حكي أن المبعوث لما دخل
السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى
الملك. وكان نصرانيا موحدا. فقص عليه القصص ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن
فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن
وكافر وأبصروهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن
والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليهم مسجدا. وقيل
لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا ، فدخل فعمي
عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدا.
(سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢٢)
(سَيَقُولُونَ) أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلىاللهعليهوسلم من أهل الكتاب والمؤمنين. (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ) أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل هو قول
اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيا. (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطوريا. (رَجْماً بِالْغَيْبِ) يرمون رميا بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به
، أو ظنا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على
ما هو فيه. (وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما
الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن اتبعه قوله (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وأتبع الأولين قوله رجما بالغيب وبأن أثبت العلم بهم
لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة ، فإن عدم إيراد رابع في نحو
هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه ، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة
للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة ، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف
والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت. وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم
وأسماؤهم : يمليخا ومكشلينيا
ومشلينيا هؤلاء
أصحاب يمين الملك ، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم ، والسابع
الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس. وقيل الأقوال الثلاثة
لأهل الكتاب والقليل منهم. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلَّا مِراءً ظاهِراً) فلا تجادل في شأن الفتية إلّا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه ،
وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ
أَحَداً) ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي
إليك لمندوحة من غيره ، مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول
وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق.
(وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)(٢٤)
(وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش :
سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ، فسألوه فقال : «ائتوني غدا أخبركم» ولم
يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما حتى شق عليه وكذبته قريش. والاستثناء من
النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب (أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، أي إلا ملتبسا بمشيئته قائلا إن شاء الله أو إلا وقت أن
يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه ، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء
اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) مشيئة ربك وقل إن شاء الله. كما روي أنه لما نزل قال عليه
الصلاة والسلام : «إن شاء الله». (إِذا نَسِيتَ) إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته. وعن ابن عباس ولو بعد
سنة ما لم يحنث ، ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه. وعامة الفقهاء على خلافه لأنه لو
صح ذلك لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب ، وليس في الآية
والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه ،
ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في
الحث عليه ، أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك ، أو
اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. (وَقُلْ عَسى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي) يدلني. (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا
رَشَداً) لأقرب رشدا وأظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف.
وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم ، والإخبار بالغيوب
والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ، أو لأقرب رشدا وأدنى
خيرا من المنسي.
(وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(٢٥)
(وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) يعني لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم ، وهو بيان لما
أجمل قبل. وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا
في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة وقال بعضهم ثلاثمائة وتسع سنين. وقرأ حمزة والكسائي (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد ، ويحسنه ها هنا أن
علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع ومن
لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة.
(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)(٢٦)
(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما ، فلا خلق يخفى عليه
علما. (أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ) ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما
عليه إدراك
السامعين والمبصرين ، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير
وخفي وجلي ، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند
سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ،
فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى (وَكَفى بِهِ) والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو
كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة. (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السموات والأرض. (مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَلِيٍ) من يتولى أمورهم. (وَلا يُشْرِكُ فِي
حُكْمِهِ) في قضائه. (أَحَداً) منهم ولا بجعل له فيه مدخلا. وقرأ ابن عامر وقالون عن
يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإشراك ، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة
أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال :
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً)(٢٨)
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) من القرآن ، ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ
بَدِّلْهُ). (لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ عليه إن هممت به.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) واحبسها وثبتها. (مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار. وقرأ ابن عامر «بالغدوة»
وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رضا الله وطاعته. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، وتعديته بعن لتضمينه معنى
نبا. وقرئ «ولا تعد عينيك» «ولا تعد» من أعداه وعداه. والمراد نهي الرسولصلىاللهعليهوسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا
إلى طراوة زي الأغنياء. (تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا. (عَنْ ذِكْرِنا) كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد
قريش. وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات
وانهماكه في المحسوسات ، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنه
لو أطاعه كان مثله في الغباوة. والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى
قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه ، أو من أغفل إبله إذا تركها
بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، واحتجوا على أن
المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وجوابه ما مر غير مرة. وقرئ «أغفلنا» بإسناد الفعل إلى
القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة. (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي تقدما على الحق ونبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي
متقدم للخيل ومنه الفرط.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا
بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ) الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن
يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و (مِنْ رَبِّكُمْ) حالا. (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي
استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته. (إِنَّا أَعْتَدْنا)
هيأنا. (لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها) فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار. وقيل السرادق
الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من العطش. (يُغاثُوا بِماءٍ
كَالْمُهْلِ) كالجسد المذاب. وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله :
فأعتبوا بالصيلم. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال
من المهل أو الضمير في الكاف. (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل. (وَساءَتْ) النار. (مُرْتَفَقاً) متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة
قوله (وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٣٠)
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) خبر إن الأولى هي الثانية بما في حيزها ، والراجع محذوف
تقديره من أحسن عملا منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملا كما هو مستغنى عنه في
قولك : نعم الرجل زيد ، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على
الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(أُولئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ
أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)
(أُولئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر
ثان. (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة ل (أَساوِرَ) ، وتنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به وهو جمع أسورة أو
أسوار في جمع سوار. (وَيَلْبَسُونَ
ثِياباً خُضْراً) لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة. (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) نمارق من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على
أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. (مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر كما هو هيئة المتنعمين. (نِعْمَ الثَّوابُ) الجنة ونعيمها. (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) متكأ.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً)(٣٢)
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً) للكافر والمؤمن. (رَجُلَيْنِ) حال رجلين مقدرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل
كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا ، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا ،
فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا وصرفها المؤمن في وجوه الخير ، وآل أمرهما إلى ما
حكاه الله تعالى. وقيل الممثل بهما أخوان من بني مخزوم كافر وهو الأسود بن عبد
الأشد ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم (جَعَلْنا
لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) بستانين. (مِنْ أَعْنابٍ) من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة للرجلين. (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) وجعلنا النخل محيطة بهما مؤزرا بها كرومهما ، يقال حفه
القوم إذا أطافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا ثانيا
كقولك : غشيته به. (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُما) وسطهما. (زَرْعاً) ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه متواصل العمارة على
الشكل الحسن والترتيب الأنيق.
(كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ
فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ
نَفَراً)(٣٤)
(كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ثمرها ، وإفراد الضمير لإفراد (كِلْتَا) وقرئ «كل الجنتين آتى أكله». (وَلَمْ
تَظْلِمْ
مِنْهُ) ولم تنقص من أكلها. (شَيْئاً) يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام
غالبا. (وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً) ليدوم شربهما فإنه الأصل ويزيد بهاؤهما ، وعن يعقوب (وَفَجَّرْنا) بالتخفيف.
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله إذا كثره. وقرأ
عاصم بفتح الثاء والميم ، وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم والباقون بضمهما وكذلك
في قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)
(فَقالَ لِصاحِبِهِ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يراجعه في الكلام من حار إذا رجع. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ
نَفَراً) حشما وأعوانا. وقيل أولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه.
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥)
وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً)(٣٦)
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها ، وإفراد الجنة لأن
المراد ما هو جنته وما متع به من الدنيا تنبيها على أن لا جنة له غيرها ولا حظ له
في الجنة التي وعد المتقون ، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى ، أو لأن الدخول
يكون في واحدة واحدة. (وَهُوَ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) ضار لها بعجبه وكفره (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ
تَبِيدَ) أن تفنى. (هذِهِ) الجنة. (أَبَداً) لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته.
(وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً) كائنة. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلى رَبِّي) بالبعث كما زعمت. (لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها) من جنته ، وقرأ الحجازيان والشامي «منهما» أي من الجنتين. (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية ، وإنما أقسم على ذلك
لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه لاستئهاله واستحقاقه إياه لذاته وهو معه
أينما تلقاه.
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧)
لكِنَّا
هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)(٣٨)
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فإنها مادتك القريبة. (ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلاً) ثم عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعل كفره
بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ، ولذلك رتب
الإنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه.
(لكِنَّا هُوَ اللهُ
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أصله لكن أنا فحذفت الهمزة بنقل الحركة أو دونه فتلاقت
النونان فكان الإدغام ، وقرأ ابن عامر ويعقوب في رواية بالألف في الوصل لتعويضها
من الهمزة أو لإجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد قرئ «لكنا أنا» على الأصل وهو ضمير
الشأن وهو بالجملة الواقعة خبرا له خبر «أنا» أو ضمير (اللهُ) و (اللهُ) بدله وربي خبره والجملة خبر «أنا» والاستدراك من أكفرت
كأنه قال : أنت كافر بالله لكني مؤمن به ، وقد قرئ «لكن هو الله ربي ولكن أنا لا
إله إلا هو ربي».
(وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)(٣٩)
(وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ) وهلا قلت عند دخولها. (ما شاءَ اللهُ) الأمر ما شاء أو ما شاء كائن على أن ما موصولة ، أو أي شيء
شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف إقرارا بأنها وما فيها بمشيئة الله إن
شاء أبقاها وإن شاء أبادها. (لا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللهِ) وقلت لا قوة إلا بالله اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة
لله ، وإن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونته وإقداره. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «من رأى شيئا
فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره». (إِنْ تَرَنِ أَنَا
أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) يحتمل أن يكون فصلا وأن يكون
تأكيدا للمفعول
الأول ، وقرئ «أقل» بالرفع على أنه خبر (أَنَا) والجملة مفعول ثاني ل (تَرَنِ) ، وفي قوله (وَوَلَداً) دليل لمن فسر النفر بالأولاد.
(فَعَسى رَبِّي أَنْ
يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ
فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠)
أَوْ
يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)(٤١)
(فَعَسى رَبِّي أَنْ
يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) في الدنيا أو في الآخرة لإيماني وهو جواب الشرط. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) على جنتك لكفرك. (حُسْباناً مِنَ
السَّماءِ) مرامي جمع حسبانة وهي الصواعق. وقيل هو مصدر بمعنى الحساب
والمراد به التقدير بتخريبها أو عذاب حساب الأعمال السيئة. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال نباتها وأشجارها.
(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها
غَوْراً) أي غائرا في الأرض مصدر وصف به كالزلق. (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) للماء الغائر ترددا في رده.
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً)(٤٣)
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه وأنذره منه ، وهو مأخوذ من
أحاط به العدو فإنه إذا أحاط به غلبه وإذا غلبه أهلكه ، ونظيره أتى عليه إذا أهلكه
من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ) ظهرا لبطن تلهفا وتحسرا. (عَلى ما أَنْفَقَ
فِيها) في عمارتها وهو متعلق ب (يُقَلِّبُ) لأن تقليب الكفين كناية عن الندم فكأنه قيل : فأصبح يندم ،
أو حال أي متحسرا على ما أنفق فيها. (وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة. (عَلى عُرُوشِها) بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها عليها. (وَيَقُولُ) عطف على (يُقَلِّبُ) أو حال من ضميره. (يا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه أتى من قبل شركه فتمنى لو
لم يكن مشركا فلم يهلك الله بستانه ، ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما على ما
سبق منه.
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ) وقرأ حمزة والكسائي بالياء لتقدمه. (يَنْصُرُونَهُ) يقدرون على نصره بدفع الإهلاك أو رد المهلك أو الإتيان
بمثله. (مِنْ دُونِ اللهِ) فإنه القادر على ذلك وحده. (وَما كانَ
مُنْتَصِراً) وما كان ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه.
(هُنالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)(٤٤)
(هُنالِكَ) في ذلك المقام وتلك الحال. (الْوَلايَةُ لِلَّهِ
الْحَقِ) النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره تقديرا لقوله (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ) أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر فيما
فعل بالكافر أخاه المؤمن ويعضده قوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً
وَخَيْرٌ عُقْباً) أي لأوليائه. وقرأ حمزة والكسائي بالكسر ومعناها السلطان
والملك أي هنالك السلطان له لا يغلب ولا يمنع منه ، أو لا يعبد غيره كقوله تعالى (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فيكون تنبيها على أن قوله (يا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ) كان عن اضطرار وجزع مما دهاه. وقيل (هُنالِكَ) إشارة إلى الآخرة وقرأ أبو عمرو والكسائي الحق بالرفع صفة
للولاية ، وقرئ بالنصب على المصدر المؤكد ، وقرأ عاصم وحمزة (عُقْباً) بالسكون ، وقرئ «عقبى» وكلها بمعنى العاقبة.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ
الرِّياحُ
وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)
(٤٥)
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها
أو صفتها الغريبة. (كَماءٍ) هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل (اضْرِبْ) على أنه بمعنى صير. (أَنْزَلْناهُ مِنَ
السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، أو نجع
في النبات حتى روي ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من
المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته. (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) مهشوما مكسورا. (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرقه ، وقرئ «تذريه» من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا
حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر
وارفا ثم هشيما تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن. (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ) من الإنشاء والإفناء. (مُقْتَدِراً) قادرا.
(الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(٤٦)
(الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتزين بها الإنسان في دنياه وتفنى عنه عما قريب. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وأعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الآباد ، ويندرج
فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر والكلام الطيب. (خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ) من المال والبنين. (ثَواباً) عائدة. (وَخَيْرٌ أَمَلاً) لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يؤمل بها في الدنيا.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً)(٤٧)
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ) واذكر يوم نقلعها ونسيرها في الجو ، أو نذهب بها فنجعلها
هباء منبثا. ويجوز عطفه على (عِنْدَ رَبِّكَ) أي الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير بالتاء والبناء للمفعول وقرئ «تسير» من سارت. (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) بادية برزت من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها ، وقرئ «وترى»
على بناء المفعول. (وَحَشَرْناهُمْ) وجمعناهم إلى الموقف ، ومجيئه ماضيا بعد (نُسَيِّرُ وَتَرَى) لتحقق الحشر أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا
ويشاهدوا ما وعد لهم ، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار قد. (فَلَمْ نُغادِرْ) فلم نترك. (مِنْهُمْ أَحَداً) يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر لترك الوفاء
والغدير لما غادره السيل ، وقرئ بالياء.
(وَعُرِضُوا عَلى
رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ
زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً(٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٤٩)
(وَعُرِضُوا عَلى
رَبِّكَ) شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل
ليأمر فيهم. (صَفًّا) مصطفين لا يحجب أحد أحدا. (لَقَدْ جِئْتُمُونا) على إضمار القول على وجه يكون حالا أو عاملا في يوم نسير. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ
لَكُمْ مَوْعِداً) وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به
، وبل للخروج من قصة إلى أخرى.
(وَوُضِعَ الْكِتابُ) صحائف الأعمال في الأيمان والشمائل أو في الميزان وقيل هو
كناية عن وضع
الحساب. (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين. (مِمَّا فِيهِ) من الذنوب. (وَيَقُولُونَ يا
وَيْلَتَنا) ينادون هلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات. (ما لِهذَا الْكِتابِ) تعجبا من شأنه. (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً) هنة صغيرة. (وَلا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصاها) إلا عددها وأحاط بها. (وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في الصحف. (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) فيكتب عليه ما لم يفعل أو يزيد في عقابه الملائم لعمله.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(٥٠)
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك
المحال ، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس
، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات
وتسويل الشيطان. زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة
خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة
القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن. (كانَ مِنَ الْجِنِ) حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم
يسجد فقيل كان من الجن. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ) فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب ، وفيه دليل على أن
الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنيا في أصله والكلام المستقصى فيه
في سورة «البقرة». (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) أعقيب ما وجد منه
تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب. (وَذُرِّيَّتَهُ) أولاده أو أتباعه
، وسماهم ذرية مجازا. (أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِي) فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي. (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) من الله تعالى ، إبليس وذريته.
(ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١)
(ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ). نفي إحضار إبليس وذريته خلق السموات والأرض وإحضار بعضهم
خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً) أي أعوانا ردا لاتخاذهم أولياء من دون الله شركاء له في
العبادة ، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك
فيها ، فوضع (الْمُضِلِّينَ) موضع الضمير ذما لهم واستبعادا للاعتضاد بهم. وقيل الضمير
للمشركين والمعنى : ما أشهدتهم خلق ذلك وما خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم حتى لو
آمنوا تبعهم الناس كما يزعمون ، فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا
ينبغي لي أن أعتضد بالمضلين لديني. ويعضده قراءة من قرأ (وَما كُنْتُ) على خطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وقرئ «متخذا المضلين» على الأصل و «عضدا» بالتخفيف و «عضدا»
بالاتباع و «عضدا» كخدم جمع عاضد من عضده إذا قواه.
(وَيَوْمَ يَقُولُ
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)(٥٢)
(وَيَوْمَ يَقُولُ) أي الله تعالى للكافرين وقرأ حمزة بالنون. (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شركائي وشفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي ، وإضافة الشركاء
على زعمهم للتوبيخ والمراد ما عبد من دونه ، وقيل إبليس وذريته. (فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للإغاثة. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ) فلم يغيثوهم. (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ) بين الكفار وآلهتهم. (مَوْبِقاً) مهلكا يشتركون فيه وهو النار ، أو عداوة هي في شدتها هلاك
كقول عمر رضي الله عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا. وموبقا اسم مكان أو مصدر
من وبق يوبق وبقا إذا هلك. وقيل البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا
يوم القيامة.
(وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها
مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً)(٥٤)
(وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا) فأيقنوا. (أَنَّهُمْ
مُواقِعُوها) مخالطوها واقعون فيها. (وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْها مَصْرِفاً) انصرافا أو مكانا ينصرفون إليه.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل جنس يحتاجون إليه. (وَكانَ الْإِنْسانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ) يتأتى منه الجدل. (جَدَلاً) خصومة بالباطل وانتصابه على التمييز.
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً)(٥٥)
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا) من الإيمان. (إِذْ جاءَهُمُ
الْهُدى) وهو الرسول الداعي والقرآن المبين.
(وَيَسْتَغْفِرُوا
رَبَّهُمْ) ومن الاستغفار من الذنوب. (إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين ، وهي
الاستئصال فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ) عذاب الآخرة. (قُبُلاً) عيانا. وقرأ الكوفيون (قُبُلاً) بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع ، وقرئ
بفتحتين وهو أيضا لغة يقال لقيته مقابلة وقبلا وقبلا وقبليا ، وانتصابه على الحال
من الضمير أو (الْعَذابُ).
(وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا
هُزُواً)(٥٦)
(وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) للمؤمنين والكافرين. (وَيُجادِلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالْباطِلِ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ، والسؤال عن قصة أصحاب
الكهف ونحوها تعنتا. (لِيُدْحِضُوا بِهِ) ليزيلوا بالجدال. (الْحَقَ) عن مقره ويبطلوه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وذلك قولهم
للرسل (ما أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ونحو ذلك. (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني القرآن. (وَما أُنْذِرُوا) وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. (هُزُواً) استهزاء. وقرئ «هزأ» بالسكون وهو ما يستهزأ به على
التقديرين.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
وَرَبُّكَ
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ
الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً)(٥٨)
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) بالقرآن. (فَأَعْرَضَ عَنْها) فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. (وَنَسِيَ ما
قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتهما. (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً) تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه ، وتذكير الضمير وإفراده للمعنى. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ
يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) تحقيقا ولا تقليدا لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون وإذا كما
عرفت جزاء وجواب للرسول صلىاللهعليهوسلم على تقدير قوله ما لي لا أدعوهم ، فإن حرصه صلىاللهعليهوسلم على إسلامهم يدل عليه.
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) البليغ المغفرة. (ذُو الرَّحْمَةِ) الموصوف بالرحمة. (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ
بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) استشهاد على ذلك بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم
بدر أو يوم
القيامة. (لَنْ يَجِدُوا مِنْ
دُونِهِ مَوْئِلاً) منجأ ولا ملجأ ، يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.
(وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)
(٥٩)
(وَتِلْكَ الْقُرى) يعني قرى عاد وثمود وأضرابهم ، (وَتِلْكَ) مبتدأ خبره. (أَهْلَكْناهُمْ) أو مفعول مضمر مفسر به ، و (الْقُرى) صفته ولا بد من تقدير مضاف في أحدهما ليكون مرجع الضمائر. (لَمَّا ظَلَمُوا) كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) لإهلاكهم وقتا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ،
فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم ، وقرأ أبو بكر (لِمَهْلِكِهِمْ) بفتح الميم واللام أي لهلاكهم ، وحفص بكسر اللام حملا على
ما شذ من مصادر يفعل كالمرجع والمحيض.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً)(٦٠)
(وَإِذْ قالَ مُوسى) مقدر باذكر. (لِفَتاهُ) يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام فإنه
كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه وقيل لعبده. (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر وقوله :
(حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه ، ويجوز أن يكون أصله لا
يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه ، فانقلب الضمير والفعل وأن يكون (لا أَبْرَحُ) هو بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه
فلا يستدعي الخبر ، و (مَجْمَعَ
الْبَحْرَيْنِ) ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وعد لقاء الخضر
فيه. وقيل البحران موسى وخضر عليهما الصلاة والسلام فإن موسى كان بحر علم الظاهر
والخضر كان بحر علم الباطن. وقرئ «مجمع» بكسر الميم على الشذوذ من يفعل كالمشرق
والمطلع (أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً) أو أسير زمانا طويلا ، والمعنى حتى يقع إما بلوغ المجمع أو
مضي الحقب أو حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع ، والحقب الدهر وقيل
ثمانون سنة وقيل سبعون. روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب الناس بعد هلاك
القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له : هل تعلم أحدا أعلم منك فقال : لا
، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين ، وكان الخضر في
أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى. وقيل إن موسى عليهالسلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني ،
قال فأي عبادك أقضى ، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال فأي عبادك أعلم
قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى
، فقال إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه ، قال أعلم منك الخضر قال : أين
أطلبه ، قال على الساحل عند الصخرة ، قال كيف لي به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيث
فقدته فهو هناك ، فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان.
(فَلَمَّا بَلَغا
مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً
(٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً)(٦٢)
(فَلَمَّا بَلَغا
مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي مجمع البحرين و (بَيْنِهِما) ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل. (نَسِيا حُوتَهُما) نسي موسى عليه الصلاة والسلام أن يطلبه ويتعرف حاله ،
ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. روي : أن موسى عليهالسلام رقد فاضطرب الحوت المشوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو
الخضر. وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء. وقيل
نسيا تفقد أمره وما يكون منه أمارة على الظفر بالمطلوب (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
سَرَباً) فاتخذ الحوت
طريقه في البحر
مسلكا من قوله (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ). وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه ،
ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ.
(فَلَمَّا جاوَزا) مجمع البحرين. (قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا) ما نتغدى به. (لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هذا نَصَباً) قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسار الليلة والغد
إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب. وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد
باسم الإشارة.
(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً)(٦٣)
(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا) أرأيت ما دهاني إذ
أوينا. (إِلَى الصَّخْرَةِ) يعني الصخرة التي رقد عندها موسى. وقيل هي الصخرة التي دون
نهر الزيت. (فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ) فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه. (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الضمير ، وقرئ «أن أذكركه». وهو اعتذار عن نسيانه
بشغل الشيطان له بوساوسه ، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى
بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها ، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في
الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة ،
وإنما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها
بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ عَجَباً) سبيلا عجبا وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجبا ، والمفعول
الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه ، أو موسى في جوابه
عجبا تعجبا من تلك الحال. وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر
عجبا.
(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً)(٦٥)
(قالَ ذلِكَ) أي أمر الحوت. (ما كُنَّا نَبْغِ) نطلب لأنه أمارة المطلوب. (فَارْتَدَّا عَلى
آثارِهِما) فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه. (قَصَصاً) يقصان قصصا أي يتبعان آثارهما اتباعا ، أو مقتصين حتى أتيا
الصخرة.
(فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا) الجمهور على أنه الخضر عليهالسلام واسمه بليا بن ملكان ، وقيل اليسع ، وقيل إلياس. (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) هي الوحي والنبوة. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْماً) مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب.
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)(٦٦)
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) على شرط أن تعلمني ، وهو في موضع الحال من الكاف. (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) علما ذا رشد وهو إصابة الخير ، وقرأ البصريان بفتحتين وهما
لغتان كالبخل والبخل ، وهو مفعول (تُعَلِّمَنِ) ومفعول (عُلِّمْتَ) العائد المحذوف وكلاهما منقولان من علم الذي له مفعول واحد
، ويجوز أن يكون رشدا علة لأتبعك أو مصدرا بإضمار فعله ، ولا ينافي نبوته وكونه
صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين ، فإن الرسول ينبغي أن
يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقا ، وقد راعى في
ذلك غاية التواضع والأدب ، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له ، وسأل منه أن
يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.
(قالَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)(٦٨)
(قالَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها مما
لا يصح ولا يستقيم وعلل ذلك واعتذر عنه بقوله.
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي وكيف تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور ظواهرها
مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك ، وخبرا تمييز أو مصدر لأن لم تحط به بمعنى لم
تخبره.
(قالَ سَتَجِدُنِي
إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)(٧٠)
(قالَ سَتَجِدُنِي
إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك غير منكر عليك. (وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً) عطف على صابرا أي ستجدني صابرا وغير عاص ، أو على ستجدني.
وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن وخلفه ناسيا لا يقدح في عصمته أو لعلمه بصعوبة
الأمر ، فإن مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد فلا خلف ، وفيه دليل على
أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى.
(قالَ فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني ولم تعلم وجه صحته.
(حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً) حتى أبتدئك ببيانه ، وقرأ نافع وابن عامر (فَلا تَسْئَلْنِي) بالنون الثقيلة.
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١)
قالَ
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)(٧٢)
(فَانْطَلَقا) على الساحل يطلبان السفينة ، (حَتَّى إِذا رَكِبا
فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أخذ الخضر فأسا فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها. (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها.
وقرئ «لتغرّق» بالتشديد للتكثير. وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» على إسناده إلى
الأهل. (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً) أتيت أمرا عظيما من أمر الأمر إذا عظم.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) تذكير لما ذكره قبل.
(قالَ لا تُؤاخِذْنِي
بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)(٧٣)
(قالَ لا تُؤاخِذْنِي
بِما نَسِيتُ) بالذي نسيته أو بشيء نسيته ، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه
أو بنسياني إياها ، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام
المانع لها. وقيل أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة.
وقيل إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه. (وَلا تُرْهِقْنِي
مِنْ أَمْرِي عُسْراً) ولا تغشني عسرا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي ،
فإن ذلك يعسر على متابعتك و (عُسْراً) مفعول ثان لترهق فانه يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه ،
وقرئ (عُسْراً) بضمتين.
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)(٧٤)
(فَانْطَلَقا) أي بعد ما خرجا من السفينة. (حَتَّى إِذا لَقِيا
غُلاماً فَقَتَلَهُ) قيل فتل عنقه ، وقيل ضرب برأسه الحائط ، وقيل أضجعه فذبحه
والفاء للدلالة على أنه كما لقيه قتله من غير ترو واستكشاف حال ولذلك : (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي طاهرة من الذنوب ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ورويس
عن يعقوب «زاكية» والأول أبلغ ، وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب قط والزكية
التي أذنبت ثم غفرت ، ولعله اختار
الأول لذلك فإنها
كانت صغيرة ولم تبلغ الحلم أو أنه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها ، أو قتلت
نفسا فتقاد بها ، نبه به على أن القتل إنما يباح حدا أو قصاصا وكلا الأمرين منتف ،
ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه الصلاة والسلام مستأنفا
في الأولى وفي الثانية قتله من جملة الشرط واعتراضه جزاء ، لأن القتل أقبح
والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ولذلك فصله بقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي منكرا ، وقرأ نافع في رواية قالون وورش وابن عامر
ويعقوب وأبو بكر (نُكْراً) بضمتين.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)
قالَ
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً)(٧٦)
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زاد فيه (لَكَ) مكافحة بالعتاب على رفض الوصية ، ووسما بقلة الثبات والصبر
لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في
الاستنكار ثاني مرة.
(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) وإن سألت صحبتك ، وعن يعقوب «فلا تصحبني» أي فلا تجعلني
صاحبك. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً) قد وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات. وعن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم «رحم الله أخي
موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب». وقرأ نافع (مِنْ لَدُنِّي) بتحريك النون والاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله : قدني
من نصر الحبيبين قدى. وأبو بكر (لَدُنِّي) بتحريك النون وإسكان الضاد من عضد.
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(٧٧)
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) قرية أنطاكية وقيل أبلة البصرة. وقيل باجروان أرمينية. (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُما) وقرئ (يُضَيِّفُوهُما) من أضافه يقال ضافه إذا نزل به ضيفا وأضافه وضيفه أنزله ،
وأصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال. (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها
الهم والعزم قال :
يريد الرّمح صدر
أبي براء
|
|
ويعدل عن دماء
بني عقيل
|
وقال :
إنّ دهرا يلمّ
شملي بجمل
|
|
لزمان يهمّ
بالإحسان
|
وانقض انفعل من
قضضته إذا كسرته ، ومنه انقضاض الطير والكواكب لهويه ، أو أفعل من النقض.
وقرئ «أن ينقض» و
«أن ينقاص» بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولا. (فَأَقامَهُ) بعمارته أو بعمود عمده به ، وقيل مسحه بيده فقام. وقيل
نقضه وبناه. (قالَ لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) تحريضا على أخذ الجعل لينتعشا به ، أو تعريضا بأنه فضول
لما في (لَوْ) من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما
لا يعنيه لم يتمالك نفسه ، واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند
البصريين ، وقرأ ابن كثير والبصريان «لتخذت» أي لأخذت وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص
الدال وأدغمه الباقون.
(قالَ هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْراً)(٧٨)
(قالَ هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ) الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله (فَلا تُصاحِبْنِي) أو إلى الاعتراض
الثالث ، أو الوقت
أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته ، وإضافة الفراق إلى البين إضافة
المصدر إلى الظرف على الاتساع ، وقد قرئ على الأصل. (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ
ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا من
حيث الظاهر.
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٧٩)
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) لمحاويج ، وهو دليل على أن المسكين يطلق على من يملك شيئا
إذا لم يكفه. وقيل سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك أو لزمانتهم فإنها كانت لعشرة
إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر. (فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها) أن أجعلها ذات عيب. (وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ) قدامهم أو خلفهم وكان رجوعهم عليه ، واسمه جلندى بن كركر ،
وقيل منوار بن جلندي الأزدي. (يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْباً) من أصحابها. وكان حق النظم أن يتأخر قوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) عن قوله (وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ) لأن إرادة التعيب مسببة عن خوف الغصب وإنما قدم للعناية أو
لأن السبب لما كان مجموع الأمرين خوف الغصب ومسكنة الملاك رتبه على أقوى الجزأين
وأدعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم ، وقرئ «كل سفينة صالحة» والمعنى
عليها.
(وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠)
فَأَرَدْنا
أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)(٨١)
(وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) أن يغشيهما. (طُغْياناً وَكُفْراً) لنعمتهما بعقوقه فيلحقهما شرا ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه
وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، أو يعديهما بعلته فيرتدا بإضلاله ،
أو بممالأته على طغيانه وكفره حبّا له. وإنما خشي ذلك لأن الله تعالى أعلمه. وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله وقد نهى النبي
صلىاللهعليهوسلم عن قتل الولدان ، فكتب إليه إن كنت علمت من حال الولدان ما
علمه عالم موسى فلك أن تقتل. وقرئ «فخاف ربك» أي فكره كراهة من خاف سوء عاقبته ،
ويجوز أن يكون قوله (فَخَشِينا) حكاية قول الله عزوجل.
(فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) أن يرزقهما ولدا خيرا منه. (زَكاةً) طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة. (وَأَقْرَبَ رُحْماً) رحمة وعطفا على والديه. قيل ولدت لهما جارية فتزوجها نبي
فولدت له نبيا هدى الله به أمة من الأمم ، وقرأ نافع وأبو عمرو (يُبْدِلَهُما) بالتشديد وابن عامر ويعقوب وعاصم (رُحْماً) بالتخفيف ، وانتصابه على التمييز والعامل اسم التفضيل
وكذلك (زَكاةً).
(وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢)
(وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور. (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق. وقيل من كتب
العلم. وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت
لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ،
وعجبت لمن يؤمن
بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا
وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله. (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه. قيل كان بينهما وبين
الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا
أَشُدَّهُما) أي الحلم وكمال الرأي. (وَيَسْتَخْرِجا
كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن
إرادة الخير رحمة. وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل
إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن
التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له
في بلوغ الغلامين. أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج. أو
لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط. (وَما فَعَلْتُهُ) وما فعلت ما رأيته. (عَنْ أَمْرِي) عن رأيي وإنما فعلته بأمر الله عزوجل ، ومبني ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما
لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً) أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا.
ومن فوائد هذه
القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا
لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن
ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)(٨٣)
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ) يعني إسكندر الرومي ملك فارس والروم. وقيل المشرق والمغرب
ولذلك سمي ذا القرنين ، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها ، وقيل لأنه انقرض
في أيامه قرنان من الناس ، وقيل كان له قرنان أي ضفيرتان ، وقيل كان لتاجه قرنان.
ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه. واختلف في
نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه ، والسائلون هم اليهود سألوه امتحانا أو مشركو
مكة. (قُلْ سَأَتْلُوا
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) خطاب للسائلين والهاء لذي القرنين. وقيل لله.
(إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)(٨٤)
(إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف شاء فحذف المفعول. (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أراده وتوجه إليه. (سَبَباً) وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة.
(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥)
حَتَّى
إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ
عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا
أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)(٨٦)
(فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه ، وقرأ
الكوفيون وابن عامر بقطع الألف مخففة التاء.
(حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ذات حمأ من حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة. وقرأ ابن عامر
وحمزة والكسائي وأبو بكر «حامية» أي حارة ، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين
جامعة للوصفين أو «حمية» على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها. ولعله بلغ
ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال (وَجَدَها تَغْرُبُ) ولم يقل كانت تغرب. وقيل إن ابن عباس سمع معاوية يقرأ «حامية»
فقال «حمئة» فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك
نجده في التوراة (وَوَجَدَ عِنْدَها) عند تلك العين. (قَوْماً) قيل كان لباسهم جلود
الوحش وطعامهم ما
لفظه البحر ، وكانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما
حكى بقوله (قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) أي بالقتل على كفرهم. (وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) بالإرشاد وتعليم الشرائع. وقيل خيره الله بين القتل والأسر
وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيده الأول قوله :
(قالَ أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً
نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً)(٨٨)
(قالَ أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً
نُكْراً) أي فاختار الدعوة وقال : أما من دعوته فظلم نفسه بالإصرار
على كفره أو استمر على ظلمه الذي هو الشرك فنعذبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل ،
ثم يعذبه الله في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) وهو ما يقتضيه الإيمان. (فَلَهُ) في الدارين. (جَزاءً الْحُسْنى) فعلته الحسنى. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص (جَزاءً) منونا منصوبا على الحال أي فله المثوبة الحسنى مجزيا بها ،
أو على المصدر لفعله المقدر حالا أي يجزي بها جزاء أو التمييز ، وقرئ منصوبا غير
منون على أن تنوينه حذف لالتقاء الساكنين ومنونا مرفوعا على أنه المبتدأ و (الْحُسْنى) بدله ، ويجوز أن يكون (أَمَّا) و (أَمَّا) للتقسيم دون التخيير أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما
الإحسان ، فالأول لمن أصر على الكفر والثاني لمن تاب عنه ، ونداء الله إياه إن كان
نبيا فبوحي وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبي. (وَسَنَقُولُ لَهُ
مِنْ أَمْرِنا) بما نأمر به. (يُسْراً) سهلا ميسرا غير شاق وتقديره ذا يسر ، وقرئ بضمتين.
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠)
كَذلِكَ
وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً)(٩١)
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً) ثم أتبع طريقا يوصله إلى المشرق.
(حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ) يعني الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من معمورة الأرض ،
وقرئ بفتح اللام على إضمار مضاف أي مكان مطلع الشمس فإنه مصدر. (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ
نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) من اللباس أو البناء ، فإن أرضهم لا تمسك الأبنية أو أنهم
اتخذوا الأسراب بدل الأبنية.
(كَذلِكَ) أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك
، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار. ويجوز أن يكون صفة مصدر
محذوف لوجد أو (نَجْعَلْ) أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم
الشمس في الكفر والحكم. (وَقَدْ أَحَطْنا بِما
لَدَيْهِ) من الجنود والآلات والعدد والأسباب. (خُبْراً) علما تعلق بظواهره وخفاياه ، والمراد أن كثرة ذلك بلغت
مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ
وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)(٩٣)
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً) يعني طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من
الجنوب إلى الشمال.
(حَتَّى إِذا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين المبني بينهما سده وهما جبلا أرمينية
وأذربيجان. وقيل جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما
يأجوج ومأجوج. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بالضم وهما لغتان. وقيل المضموم لما خلقه الله تعالى
والمفتوح لما عمله الناس لأنه في الأصل مصدر سمي به حدث يحدثه الناس. وقيل بالعكس
وبين ها هنا مفعول به
وهو من الظروف
المتصرفة. (وَجَدَ مِنْ
دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم. وقرأ حمزة والكساء «لا يفقهون»
أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم فيه.
(قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)
قالَ
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا
جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(٩٦)
(قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ) قال مترجمهم وفي مصحف ابن مسعود قال «الذين من دونهم». (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) قبيلتان من ولد يافث بن نوح ، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج
من الجبل. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع
وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث. (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع. قيل كانوا
يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه ، وقيل كانوا
يأكلون الناس. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ
خَرْجاً) جعلا نخرجه من أموالنا. وقرأ حمزة والكسائي «خراجا»
وكلاهما واحد كالنول والنوال. وقيل الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر. (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ
سَدًّا) يحجز دون خروجهم علينا وقد ضمه من ضم (السَّدَّيْنِ) غير حمزة والكسائي.
(قالَ ما مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما جعلني فيه مكينا من المال والملك خير مما تبذلون لي من
الخراج ولا حاجة بي إليه. وقرأ ابن كثير «مكنني» على الأصل. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي بقوة فعلة أو بما أتقوى به من الآلات. (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْماً) حاجزا حصينا وهو أكبر من السد من قولهم ثوب مردم إذا كان
رقاعا فوق رقاع.
(آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ) قطعه والزبرة القطعة الكبيرة ، وهو لا ينافي رد الخراج
والاقتصار على المعونة لأن الإيتاء بمعنى المناولة ، ويدل عليه قراءة أبي بكر ردما
ائتوني بكسر التنوين موصولة الهمزة على معنى جيئوني بزبر الحديد ، والباء محذوفة
حذفها في أمرتك الخير ولأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل. (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) بين جانبي الجبلين بتنضيدها. وقرأ ابن كثير وابن عامر
والبصريان بضمتين ، وأبو بكر بضم الصاد وسكون الدال ، وقرئ فتح الصاد وضم الدال
وكلها لغات من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف
للتقابل. (قالَ انْفُخُوا) أي قال للعملة انفخوا في الأكوار والحديد. (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) جعل المنفوخ فيه. (ناراً) كالنار بالإحماء. (قالَ آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي آتوني قطرا أي نحاسا مذابا أفرغ عليه قطرا ، فحذف الأول
لدلالة الثاني عليه. وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني من العاملين المتوجهين
نحو معمول واحد أولى ، إذ لو كان قطرا مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذرا من
الإلباس. وقرأ حمزة وأبو بكر قال أتوني موصولة الألف.
(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)(٩٧)
(فَمَا اسْطاعُوا) بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. وقرأ حمزة بالإدغام
جامعا بين الساكنين على غير حده. وقرئ بقلب السين صادا. (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وانملاسه. (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لثخنه وصلابته. وقيل حفر للأساس حتى بلغ الماء ، وجعله من
الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى ساوى أعلى
الجبلين ، ثم وضع المنافيخ حتى صارت كالنار فصب النحاس المذاب عليه فاختلط والتصق
بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد
ونحاس مذاب في تجاويفها.
(قالَ هذا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا)(٩٨)
(قالَ هذا) هذا السد أو الأقدار على تسويته. (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) على عباده. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي) وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف
يوم القيامة. (جَعَلَهُ دَكًّا) مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، مصدر بمعنى مفعول ومنه جمل
أدك لمنبسط السنام. وقرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية. (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) كائنا لا محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.
(وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)(١٠١)
(وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون مما وراء السد يموجون
في بعض مزدحمين في البلاد ، أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم
وجنهم حيارى ويؤيده قوله : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) لقيام الساعة. (فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً) للحساب والجزاء.
(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) وأبرزناها وأظهرناها لهم.
(الَّذِينَ كانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتوحيد والتعظيم. (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) استماعا لذكري وكلامي لإفراط صممهم عن الحق ، فإن الأصم قد
يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصمت مسامعهم بالكلية.
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا
جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)(١٠٢)
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أفظنوا والاستفهام
للإنكار. (أَنْ يَتَّخِذُوا
عِبادِي) اتخاذهم الملائكة والمسيح. (مِنْ دُونِي
أَوْلِياءَ) معبودين نافعهم ، أو لا أعذبهم به فحذف المفعول الثاني كما
يحذف الخبر للقرينة ، أوسد أن يتخذوا مسد مفعوليه وقرئ «أفحسب الذين كفروا» أي أفكافيهم
في النجاة ، وأن بما في حيزها مرتفع بأنه فاعل حسب ، فإن النعت إذا اعتمد على
الهمزة ساوى الفعل في العمل أو خبر له. (إِنَّا أَعْتَدْنا
جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) ما يقام للنزيل ، وفيه تهكم وتنبيه على أن لهم وراءها من
العذاب ما تستحقر دونه.
(قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣)
الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(١٠٤)
(قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) نصب على التمييز وجمع لأنه من أسماء الفاعلين أو لتنوع
أعمالهم.
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ضاع وبطل لكفرهم وعجبهم كالرهابنة فإنهم خسروا دنياهم
وأخراهم ، ومحله الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال أو الجر على البدل أو
النصب على الذم. (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) بعجبهم واعتقادهم أنهم على الحق.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥)
ذلِكَ
جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)(١٠٦)
(أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بالقرآن أو بدلائله المنصوبة على التوحيد والنبوة. (وَلِقائِهِ) بالبعث على ما هو عليه أو لقاء عذابه. (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بكفرهم فلا يثابون عليها. (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا ، أو لا نضع لهم
ميزانا يوزن به أعمالهم لانحباطها.
(ذلِكَ) أي الأمر ذلك وقوله : (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) جملة مبينة له ويجوز أن يكون (ذلِكَ) مبتدأ والجملة خبره والعائد محذوف أي جزاؤهم به ، أو
جزاؤهم بدله و (جَهَنَّمُ) خبره أو (جَزاؤُهُمْ) خبره و (جَهَنَّمُ) عطف بيان للخبر. (بِما كَفَرُوا
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي بسبب ذلك.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا
يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً)(١٠٨)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) فيما سبق من حكم الله ووعده ، و (الْفِرْدَوْسِ) أعلى درجات الجنة ، وأصله البستان الذي يجمع الكرم والنخل.
(خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة. (لا يَبْغُونَ عَنْها
حِوَلاً) تحولا إذ لا يجدون أطيب منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم ،
ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود.
(قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(١٠٩)
(قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً) ما يكتب به ، وهو اسم ما يمد الشيء كالحبر للدواة والسليط
للسراج. (لِكَلِماتِ رَبِّي) لكلمات علمه وحكمته. (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) لنفد جنس البحر بأمره لأن كل جسم متناه. (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) فإنها غير متناهية لا تنفد كعلمه ، وقرأ حمزة والكسائي
بالياء. (وَلَوْ جِئْنا
بِمِثْلِهِ) بمثل البحر الموجود. (مَدَداً) زيادة ومعونة ، لأن مجموع المتناهين متناه بل مجموع ما
يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد
، والمتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة. وقرئ «ينفد» بالياء و «مددا»
بكسر الميم جمع مدة وهي ما يستمده الكاتب ومدادا. وسبب نزولها أن اليهود قالوا في
كتابكم (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وتقرؤون (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ
يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ
رَبِّهِ أَحَداً)(١١٠)
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا أدعي الإحاطة على كلماته. (يُوحى إِلَيَّ
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وإنما تميزت عنكم بذلك. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) يؤمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه. (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) يرتضيه الله. (وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) بأن يرائيه أو يطلب منه أجرا. روي أن جندب بن زهير قال
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إني لأعمل العمل لله فإذا أطلع عليه سرني فقال : «إن
الله لا يقبل ما شورك فيه». فنزلت تصديقا له وعنه عليه الصلاة والسلام «اتقوا
الشرك الأصغر» قالوا وما الشرك الأصغر قال «الرياء». والآية جامعة لخلاصتي العلم
والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم «من قرأها عند
مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى
يقوم ، فإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك
النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ». وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة
الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا من
الأرض إلى السماء».
محتوى الجزء الثالث من تفسير البيضاوي
تفسير
سورة الأعراف............................................................. ٥
بيان أن الوزن في
الآخرة هل هو لصحائف الأعمال أم للأشخاص؟..................... ٦
بيان غلط إبليس في
دعواه الأفضلية على آدم........................................ ٧
بيان ما استدلّ به على
أن الملائكة أفضل من الأنبياء والجواب عنه...................... ٨
بيان معنى السرف
المذموم........................................................ ١١
بيان معنى إخراج الغل
من صدور أهل الجنة......................................... ١٣
بيان الأعراف وأهلها............................................................ ١٤
بيان الإبداع الذي
تفرّد به الباري في مخلوقاته....................................... ١٥
بيان نسب نوح عليهالسلام........................................................... ١٧
بيان نسب هود عليهالسلام........................................................... ١٨
بيان ما فعل الله بعاد
وما فعلوا.................................................... ١٩
بيان نسب صالح عليهالسلام.......................................................... ٢٠
بيان ما فعلت ثمود وما
فعل بهم................................................... ٢١
قوم لوط وعملهم............................................................... ٢٢
بيان نسب مدين وشعيب عليهالسلام.................................................. ٢٢
بيان حال عصا موسى حين
ألقاها عند فرعون...................................... ٢٧
بيان ما أرسل على قوم
فرعون من الآيات.......................................... ٣٠
بيان الدليل على جواز
رؤية الله تعالى.............................................. ٣٣
بيان ما فعله السامري
من صوغ العجل............................................ ٣٤
بيان أن بعثته صلىاللهعليهوسلم
إلى كافة الثقلين................................................ ٣٧
بيان القرية التي
أهلكت بسبب الصيد في السبت................................... ٣٩
بيان ما عذب به أهل
القرية من المسخ............................................. ٤٠
بيان أخذ الله الميثاق
على بني آدم وما قيل في ذلك.................................. ٤١
بيان الذي آتاه الله
آياته فانسلخ منها وكيفية ضلاله................................. ٤٢
بيان ما فعله إبليس مع
حواء حين حملت والطعن في ذلك............................ ٤٥
تفسير سورة الأنفال............................................................. ٤٩
بيان السبب في غزوة
بدر........................................................ ٥١
بيان محاصرة بني قريظة........................................................... ٥٦
بيان قسمة المغانم وما
فيها من الخلاف............................................. ٦٠
بيان ما فعله إبليس مع
قريش حين أرادوا غزوة بدر.................................. ٦٢
بيان ما فعله النبي مع
عمه العباس حين دفعه الفداء في غزوة بدر...................... ٦٧
تفسير سورة براءة............................................................... ٧٠
بيان غزوة حنين وما
أصاب المؤمنين فيها........................................... ٧٦
بيان الجزية ومن تؤخذ
منه........................................................ ٧٧
بيان التشديد على منع
الزكاة..................................................... ٧٩
بيان الغار الذي ذهب
إليه صلىاللهعليهوسلم وما فعله المشركون.................................. ٨١
بيان الأصناف الذين
تصرف إليهم الزكاة وذكر الخلاف في تعميمهم.................. ٨٥
بيان الصدقات التي
تصدق بها المؤمنون وعابهم عليها المنافقون........................ ٩٠
بيان مسجد الضرار وما
بني لأجله................................................ ٩٧
بيان الدليل على أن
أخبار الآحاد حجة......................................... ١٠٢
تفسير سورة يونس............................................................ ١٠٤
بيان جملة ما احتوى
عليه القرآن................................................. ١٠٧
بيان الدليل على أن
للعبد كسبا................................................. ١١٣
بيان أن الإنسان وإن
عظم شأنه بعيد عن مظان الربوبية............................ ١٢٢
بيان بعث يونس عليهالسلام إلى أهل نينوى وما فعلوه................................... ١٢٤
تفسير سورة هود.............................................................. ١٢٧
بيان حكم التعليق
بشرطين..................................................... ١٣٣
بيان ما أبداه هود عليهالسلام من المعجزة.............................................. ١٣٨
بيان أن حال أهل
الموقف لا يخلو عن السعادة والشقاوة وربما اجتمع الأمران لواحد..... ١٤٨
تفسير سورة يوسف عليهالسلام...................................................... ١٥٤
بيان جهة البئر الذي
رمي به يوسف عليهالسلام....................................... ١٥٦
بيان ما كان عليه يوسف
عليهالسلام من الحسن........................................ ١٦٢
بيان ما كان عليه يوسف
عليهالسلام من معرفة اللغات.................................. ١٦٧
بيان ما كان عليه يوسف
عليهالسلام من كرم الأخلاق.................................. ١٧٥
تفسير سورة الرعد............................................................. ١٨٠
بيان ما فعله أربد
وعامر بن الطفيل مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم
وما فعل بهما.................. ١٨٣
بيان ما اقترحته قريش
على النبي صلىاللهعليهوسلم
من الآيات.................................. ١٨٨
تفسير سورة إبراهيم عليهالسلام...................................................... ١٩٢
بيان حال هاجر أمّ
إسماعيل عليهالسلام............................................... ٢٠١
تفسير سورة الحجر............................................................ ٢٠٦
بيان قبول المواد
للجمع والإحياء................................................. ٢٠٩
بيان ما ورد في فضل من
أوتي القرآن............................................. ٢١٧
تفسير سورة النحل............................................................ ٢١٩
بيان ما يعتري الحبة
عند بذرها مما يدل على عجيب صنع الحكيم جل شأنه........... ٢٢١
بيان حال الغذاء بعد
استقراره في الجوف إلى أن يكون دما ولبنا..................... ٢٣١
بيان ما فعلته قريش من
التعذيب لعمار وأبويه..................................... ٢٤١
بيان حصر المحرمات في
أجناس أربعة وما ضم إليها................................. ٢٤٣
تفسير سورة بني
إسرائيل (الإسراء)............................................... ٢٤٧
بيان ما فعله بختنصر
ببني إسرائيل............................................... ٢٤٧
بيان حجة من منع
التقليد والرد عليه............................................. ٢٥٥
بيان حجة من قال : إن
الإسراء كان مناما والردّ عليه.............................. ٢٥٨
بيان ما قالته ثقيف
للنبي صلىاللهعليهوسلم وأباه.............................................. ٢٦٢
بيان أن المقام
المحمود هو مقام الشفاعة........................................... ٢٦٤
تفسير سورة الكهف........................................................... ٢٧٢
بيان من دخلوا غارا
فسد عليهم وخلصوا بتوسلهم بأعمالهم الصالحة.................. ٢٧٣
بيان ما طلبته صناديد
قريش من إبعاد فقراء المهاجرين عن مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم............ ٢٧٩
بيان حال الأخوين
اللذين مات والدهما وافترق حالهما في اليسار والفقر............... ٢٨٠
بيان الذي دعا موسى عليهالسلام إلى سؤاله الاجتماع بالخضر........................... ٢٨٦
تم بحمد الله وحسن
توفيقه طبع الجزء الثالث
من تفسير البيضاوي في
مطابع دار إحياء التراث
العربي ـ بيروت
الزاهرة أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة
ويليه الجزء الرابع
وأوله سورة مريم ولله الحمد والمنة
|