بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) [آل عمران : ١٠٢].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) [النساء : ١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) [الأحزاب : ٧٠ ـ ٧١].

أما بعد ، فإن التفسير المسمى «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» (١) للعلامة القاضي المفسّر ناصر الدين أبي الخير ، عبد الله بن عمر بن علي البيضاوي الشيرازي ، الشافعي (ت ٦٨٥ ه‍ ـ) يعتبر من أهمّ كتب التفسير بالرأي (٢) ، فهو كتاب جليل دقيق ، جمع بين التفسير والتأويل على قانون اللغة العربية ، وقرّر الأدلة على أصول السّنّة.

وقد اختصره مؤلّفه من «كشاف» الزمخشري (٣) محمود بن عمر أبي القاسم (ت ٥٣٨ ه‍ ـ) مع ترك ما فيه من اعتزالات ، كما استمدّه من «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي (٤) محمد بن عمر بن حسين الشافعي الطبرستاني (ت ٦٠٦ ه‍ ـ) وبه تأثر عند عرضه للآيات الكونية ومباحث الطبيعة ، ومن تفسير الراغب الأصبهاني الحسين بن محمد بن المفضل أبي القاسم (ت ٥٠٢ ه‍ ـ) المسمى «تحقيق البيان في تأويل القرآن» ، فأصبح من أمهات كتب التفسير التي لا يستغني عنها الطالب لفهم كلام الله عزوجل.

والبيضاوي رحمه‌الله مقل جدّا من الروايات الإسرائيلية ، لكنه يذكر في نهاية كل سورة حديثا في فضلها ـ كما وقع فيه صاحب «الكشاف» ـ وهي موضوعة باتفاق أهل الحديث وهذا من هناته رحمه‌الله.

هذا وقد ضمّن البيضاوي تفسيره نكتا بارعة ، واستنباطات دقيقة ، كل هذا في أسلوب رائع موجز ، وهو يهتم أحيانا بذكر القراءات ، ولكنه لا يلتزم المتواتر منها ، فيذكر الشاذ ، كما أنه يتعرض لبعض المسائل الفقهية عند آيات الأحكام دون توسع منه ، مع عرض للصناعة النحوية.

ونظرا لما يحتله هذا الكتاب من أهمية في عالم التفاسير ، فقد وضع عليه العلماء الحواشي والتعليقات

__________________

(١) طبع مرات عديدة ، منها طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر عام ١٣٣٠ ه‍ / ١٩١٠ م وبهامشه حاشية العلامة الكازروني (ت ٩٤٥ ه‍ ـ) في خمس أجزاء في مجلدين ، وهي الأصل الذي اعتمدناه في طبعتنا هذه وعليه ختم المطبعة الميمنيّة بمصر عام ١٣٠٦.

(٢) كما أكده العلامة محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن» (١ / ٥٣٥).

(٣) طبع مؤخرا بدار إحياء التراث العربي في طبعته الأولى عام (١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٧ م) بتحقيق عبد الرزاق المهدي.

(٤) طبع بدار إحياء التراث العربي بحلّة قشيبة وملونة ومصححة عام (١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٥ م).


الكثيرة ، فمنهم من علّق تعليقة على سورة منه ، ومنهم من حشّى تحشية تامة ، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه (١).

وأحسن حواشيه المتداولة حاشية الشهاب الخفاجي المصري أحمد بن محمد بن عمر (ت ١٠٦٩ ه‍ ـ) وسماها «عناية القاضي وكفاية الراضي» وهي مطبوعة وتقع في ثمانية مجلدات (٢).

ونظرا لما يحتله هذا الكتاب من أهمية ، فقد رأت دار إحياء التراث العربي طبعه بهذه الحلة القشيبة ، بعد ما قامت بتصحيح ألفاظه وتجاربه ومراجعته بما قدّر الله به وأعان.

هذا وقد وضعنا وراء هذه الكلمة مقدمة : ترجمنا فيه لمؤلف هذا التفسير ، وعرّفنا به ، وبطريقة مؤلّفه فيه بشيء من التفصيل مع ذكر التعليقات والحواشي عليه.

ربّنا تقبّل منا هذا العمل خالصا لوجهك الكريم ، واجعله في صحائف أعمال أصحابه وانفع به ، إنك يا مولانا على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتبه محمد عبد الرحمن المرعشلي

بيروت ٢١ شوال ١٤١٨ ه‍

الموافق ١٨ شباط ١٩٩٨

__________________

(١) وقد وصلت هذه الحواشي والتعليقات إلى نحو خمسين حاشية وتعليقة انظرها في الصفحة (١٦).

(٢) انظرها في «أعلام» الزركلي (١ / ٢٣٨).


مقدمة

أولا : ترجمة صاحب التفسير....................................................... ٩

ثانيا : التعريف بأنوار التنزيل وطريقة مؤلفه فيه...................................... ١٢

ـ اختصار البيضاوي تفسيره من «الكشاف» للزمخشري.............................. ١٢

ـ استمداد البيضاوي تفسيره من «مفاتيح الغيب» للرازي ومن «تفسير الراغب الأصفهاني» ١٢

ـ اهتمامه بالقراءات وذكر الشاذ منها.............................................. ١٢

ـ عرضه للصناعة النحوية......................................................... ١٢

ـ تعرضه لبعض المسائل الفقهية دون توسّع.......................................... ١٢

ـ تقرير وترجيح مذهب أهل السّنّة................................................. ١٣

ـ التقليل من ذكر الروايات الإسرائيلية.............................................. ١٣

ـ الخوض في مباحث الكون والطبيعة تأثرا بالرازي.................................... ١٣

ـ تقريظ هذا التفسير............................................................. ١٤

ـ قول الإمام جلال الدين السيوطي في حاشيته «نواهد الأبكار وشواهد الأفكار»....... ١٤

ـ قول حاجي خليفة في «كشف الظنون».......................................... ١٤

ـ الحواشي المكتوبة على تفسير البيضاوي........................................... ١٦



أولا : ترجمة صاحب التفسير (١)

١ ـ اسمه ونسبه :

هو العلامة المفسّر قاضي القضاة ، ناصر الدين ، أبو الخير (وقيل أبو سعيد) عبد الله بن عمر بن علي البيضاوي الشيرازي ، الشافعي ـ بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحتها وفتح الضاد المعجمة وفي آخرها الواو ـ هذه النسبة إلى بيضاء وهي بلدة من بلاد فارس. لم تذكر المصادر سنة ولادته.

٢ ـ نبوغه :

قال السيوطي في «بغية الوعاة» : كان إماما علّامة ، عارفا بالفقه والأصلين والعربية. والمنطق ، نظّارا صالحا ، متعبّدا ، شافعيّا

وقال ابن قاضي شهبة في «طبقاته» : «صاحب المصنفات ، وعالم أذربيجان ، وشيخ تلك الناحية».

قال السبكي في «طبقاته الكبرى» :

ولي قضاء القضاء بشيراز ، ودخل تبريز ، وناظر بها ، وصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء ، فجلس القاضي ناصر الدين في أخريات القوم ، بحيث لم يعلم به أحد ، فذكر المدرّس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها ، وطلب من القوم حلّها ، والجواب عنها ، فإن لم يقدروا فالحلّ فقط ، فإن لم يقدروا فإعادتها.

فلما انتهى من ذكرها ، شرع القاضي ناصر الدين في الجواب ، فقال له : لا أسمع حتى أعلم أنك فهمتها. فخيّره بين إعادتها ، بلفظها أو معناها ، فبهت المدرّس ، وقال : أعدها بلفظها. فأعادها.

ثم حلّها وبيّن أن في تركيبه إيّاها خللا ، ثم أجاب عنها ، وقابلها في الحال بمثلها ، ودعا المدرّس إلى حلّها ، فتعذّر عليه ذلك ، فأقامه الوزير من مجلسه ، وأدناه إلى جانبه ، وسأله من أنت؟ فأخبره أنه البيضاويّ ، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز ، فأكرمه ، وخلع عليه في يومه ، وردّه وقد قضى حاجته.

وأهمله الذهبي ولم يذكره في «العبر» كما قال ابن شهبة.

٣ ـ ثناء العلماء عليه :

قال السبكي : «كان إماما مبرزا نظارا خيرا ، صالحا متعبدا».

__________________

(١) «البداية والنهاية» لابن كثير (١٣ / ٣٠٩) ، و«الفهرس التمهيدي» الصفحة (٢٠٥) و(٥٦١) ، وبروكلمان «دائرة المعارف الإسلامية» (٤ / ٤١٨) ، و«بغية الوعاة» للسيوطي (٢ / ٥٠ ـ ٥١) ترجمة رقم (١٤٠٦) ، و«نزهة الجليس ومنية الأديب النفيس» للموسوي (٢ / ٨٧) ، و«مفتاح السعادة» لطاش كبرى زاده (١ / ٤٣٦) ، و«طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (٨ / ١٥٧) بتحقيق الحلو ، ترجمة رقم (١١٥٣) و«طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (٢ / ٢٨) ترجمة (٤٦٩) بتحقيق عبد العليم خان ، و«طبقات الشافعية» للإسنوي (١ / ١٣٦) ترجمة (٢٦٠) ، و«شذرات الذهب» لابن العماد (٥ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣) ، و«مرآة الجنان» لليافعي (٤ / ٢٢٠) ، و«إيضاح المكنون» (٢ / ٥٦٩) ، و«هدية العارفين» للبغدادي (١ / ٤٦٢ ، ٤٦٣) و«كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحة (١٨٦ ، ١٠٣٢ ، ١١١٦ ، ١١٩٢ ، ١٢٧٣ ، ١٤٨١ ، ١٥٤٦ ، ١٦٩٨ ، ١٧٠٤ ، ١٧٠٥ ، ١٨٥٤ ، ١٨٥٨ ، ١٨٧٨) ، و«طبقات المفسرين» للداوودي الصفحة (١٠٢ ـ ١٠٣) ، و«معجم المؤلفين» لكحالة (٦ / ٩٧) ، و«الأعلام» للزركلي (٤ / ١١٠).


وقال ابن حبيب : «وتكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته ، ولو لم يكن له غير «المنهاج» الوجيز لفظه المحرر لكفاه».

ولي القضاء بشيراز.

٤ ـ ومن أهم مصنفاته :

١ ـ كتاب «المنهاج» مختصر من الحاصل والمصباح و«شرحه» (في أصول الفقه) وهو «منهاج الوصول إلى علم الأصول» وهو مطبوع (١).

٢ ـ وكتاب «الطوالع» وهو «طوالع الأنوار» ، مطبوع (في أصول الدين والتوحيد) قال السبكي : وهو أجلّ مختصر ألّف في علم الكلام.

٣ ـ و«أنوار التنزيل وأسرار التأويل» (في التفسير) وسماه بعضهم «مختصر الكشاف» ، وهو ما نحن بصدده الآن. وهذه الكتب الثلاثة من أشهر الكتب وأكثرها تداولا بين أهل العلم.

٤ ـ «المصباح» (في أصول الدين).

٥ ـ «شرح مختصر ابن الحاجب» (في الأصول).

٦ ـ «شرح المنتخب في الأصول» للإمام فخر الدين.

٧ ـ «شرح المطالع» (في المنطق).

٨ ـ «الإيضاح» (في أصول الدين).

٩ ـ «شرح الكافية» لابن الحاجب (في النحو).

١٠ ـ «لبّ اللباب في علم الإعراب».

١١ ـ «نظام التواريخ» كتبه باللغة الفارسية.

١٢ ـ «رسالة في موضوعات العلوم وتعاريفها» مخطوط.

١٣ ـ «الغاية القصوى في دراية الفتوى» مخطوط (في فقه الشافعية) مختصر «الوسيط».

١٤ ـ «شرح المصابيح» (أي مصابيح السّنّة للبغوي في الحديث) سماه «تحفة الأبرار».

١٥ ـ «شرح المحصول».

١٦ ـ «شرح التنبيه» (في أربعة مجلدات).

١٧ ـ «تهذيب الأخلاق» (في التصوف).

__________________

(١) وهو من أهم كتب الأصول عند الشافعية ، وله شروح كثيرة ، منها «نهاية السّول في شرح منهاج الأصول للبيضاوي» للإسنوي جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن (ت ٧٧٢ ه‍ ـ) وهو مطبوع في القاهرة عام (١٤٤٣ ه‍ ـ) ويقع في (٤) أجزاء بإدارة جمعية نشر الكتب العربية ، ومنها «معراج المنهاج شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي» تأليف شمس الدين الجزري ، محمد بن يوسف (ت ٧١١ ه‍ ـ) ، وهو مطبوع أيضا ويقع في جزءين بتحقيق د / شعبان محمد إسماعيل ، مطبعة الحسين الإسلامية الطبعة الأولى عام (١٤١٣ ه‍ ـ / ١٩٩٣ م) ، ومنها شرح البدخشي «مناهج العقول» للإمام محمد بن الحسن البدخشي وهو مطبوع في ثلاثة أجزاء في القاهرة وطبع بدار الكتب العلمية ـ بيروت في طبعته الأولى عام (١٤٠٥ ه‍ ـ / ١٩٨٤ م) وبأسفله «نهاية السّول» للإسنوي.


وفاته :

وتوفي بمدينة تبريز.

قال السّبكي والإسنوي : سنة (٦٩١ ه‍ ـ) إحدى وتسعين وستمائة.

وقال ابن كثير وغيره : سنة (٦٨٥ ه‍ ـ) خمس وثمانين وستمائة.


ثانيا : التعريف بأنوار التنزيل وطريقة مؤلّفه فيه (١)

تفسير العلامة البيضاوي ، تفسير متوسط الحجم ، جمع فيه صاحبه بين التفسير والتأويل ، على مقتضى قواعد اللغة العربية ، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السنة.

وقد اختصر البيضاوي تفسيره من «الكشاف» للزمخشري.

ولكنه ترك ما فيه من اعتزالات ، وإن كان أحيانا يذهب إلى ما ذهب إليه صاحب «الكشاف».

ومن ذلك أنه عند ما فسر قوله تعالى في الآية (٢٧٥) من سورة البقرة : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥) ... الآية ، وجدناه يقول : «إلّا قياما كقيام المصروع ، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع» .. ثم يفسّر المس بالجنون ويقول «وهذا أيضا من زعماتهم أن الجني يمس الرجل فيختلط عقله».

ولا شك أن هذا موافق لما ذهب إليه الزمخشري من أن الجن لا تسلّط لها على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء.

كما أننا نجد البيضاوي قد وقع فيما وقع فيه صاحب «الكشاف» ، من ذكره في نهاية كل سورة حديثا في فضلها وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله ، وقد عرفنا قيمة هذه الأحاديث ، وقلنا إنها موضوعة باتفاق أهل الحديث ، ولست أعرف كيف اغتربها البيضاوي فرواها وتابع الزمخشري في ذكرها عند آخر تفسيره لكل سورة ، مع ما له من مكانة علمية ، وسيأتي اعتذار بعض الناس عنه في ذلك ، وإن كان اعتذارا ضعيفا ، لا يكفي لتبرير هذا العمل الذي لا يليق بعالم كالبيضاوي له قيمته ومكانته.

* استمد البيضاوي تفسيره من التفسير الكبير المسمى «بمفاتيح الغيب» للفخر الرازي ، ومن تفسير الراغب الأصفهاني.

وضم لذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.

كما أنه أعمل فيه عقله ، فضمنه نكتا بارعة ، ولطائف رائعة ، واستنباطات دقيقة ، كل هذا في أسلوب رائع موجز ، وعبارة تدق أحيانا وتخفى إلّا على ذي بصيرة ثاقبة ، وفطنة نيرة.

* وهو يهتم أحيانا بذكر القراءات ، ولكنه لا يلتزم المتواتر منها فيذكر الشاذ.

* كما أنه يعرض للصناعة النحوية.

ولكن بدون توسع واستفاضة.

* كما أنه يتعرض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون توسع منه في ذلك :

وإن كان يظهر لنا أنه يميل غالبا لتأييد مذهبه وترويجه ، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٢٢٨) من سورة البقرة (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) يقول ما نصه : وقروء جمع قرء ، وهو يطلق للحيض

__________________

(١) اقتبسنا هذا من كلام الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» (١ / ٢٩٦) وما بعدها.


كقوله عليه الصلاة والسلام : دعي الصلاة أيام أقرائك ، وللطهر الفاصل بين الحيضتين ، كقول الأعشى :

مورثة مالا وفي الحي رفعة

لما ضاع فيها من قروء نائكا

وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض ، وهو المراد في الآية ؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض كما قاله الحنفية ، لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] أي وقت عدتهن ، والطلاق المشروع لا يكون في الحيض.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام : طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ، فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر : مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ... إلخ.

* كذلك نجد البيضاوي كثيرا ما يقرر مذهب أهل السنة :

عند ما يعرض لتفسير آية لها صلة بنقطة من نقط النزاع بينهم وبين مذهب المعتزلة.

فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (٢ ، ٣) من سورة البقرة (... هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) نراه يعرض لبيان معنى الإيمان والنفاق عند أهل السنة والمعتزلة والخوارج ، بتوسع ظاهر ، وترجيح منه لمذهب أهل السنة.

ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في أول سورة البقرة أيضا : (... وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] نراه يتعرض للخلاف الذي بين أهل السنة والمعتزلة فيما يطلق عليه اسم الرزق ، ويذكر وجهة نظر كل فريق ؛ مع ترجيحه لمذهب أهل السنة.

* والبيضاوي رحمه‌الله مقلّ جدا من ذكر الروايات الإسرائيلية :

وهو يصدر الرواية بقوله : روي أو قيل ، إشعارا منه بضعفها.

فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية : (٢٢) من سورة النمل (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) [النمل : ٢٢] يقول بعد فراغه من تفسيرها : روي أنه عليه‌السلام لما أتمّ بناء بيت المقدس تجهز للحج. إلخ القصة التي يقف البيضاوي بعد روايتها موقف المجوز لها. غير القاطع بصحتها ، حيث يقول ما نصه «ولعل في عجائب قدرة لله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك ، يستكبرها من يعرفها ، ويستنكرها من ينكرها».

* ثم إن البيضاوي إذا عرض للآيات الكونية ، فإنه لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث الكون والطبيعة ولعل هذه الظاهرة سرت إليه من طريق «التفسير الكبير» للفخر الرازي ، الذي استمد منه كما قلنا.

فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ ... شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] نراه يعرض لحقيقة الشهاب فيقول : الشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض. ثم يرد على من يخالف ذلك فيقول : وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين ، إن صح لم يناف ذلك ..» إلى آخر كلامه في هذا الموضوع.

قال البيضاوي نفسه في مقدمة «تفسيره» هذا بعد الديباجة ما نصه :

«... ولطالما أحدّث نفسي بأن أصنف في هذا الفن ـ يعني التفسير ـ كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة ، وعلماء التابعين ومن دونهم من السّلف الصالحين ، وينطوي على نكات بارعة ، ولطائف رائعة ، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين ، وأماثل المحققين ، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين ، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين ، إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام ، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام ، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على


الشروع فيما أردته ، والإتيان بما قصدته ، ناويا أن أسميه «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ...» (١).

ويقول في آخر الكتاب (٢) ما نصه : «وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فوائد ذوي الألباب ، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة ، وصفوة آراء أعلام الأمة ، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه ، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه ، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، والتلخيص العاري عن الإضلال ، المرسوم «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ...».

وكأني به في هذه الجملة الأخيرة ، يشير إلى أنه اختصر من تفسير «الكشاف» ولخص منه ، ضمن ما اختصره ولخصه من كتب التفسير الأخرى ، غير أنه ترك ما فيه من نزعات الضلال ، وشطحات الاعتزال.

تقريظ هذا التفسير :

١ ـ قول الإمام السيوطي في هذا التفسير :

ويقول الجلال السيوطي ـ رحمه‌الله ـ في حاشيته على هذا التفسير المسماة ب «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار» ما نصه :

«وإن القاضي ناصر الدين البيضاوي لخّص هذا الكتاب فأجاد ، وأتى بكل مستجاد ، وماز فيه أماكن الاعتزال ، وطرح موضع الدسائس وأزال ، وحرر مهمات ، واستدرك تتمات ، فظهر كأنه سبيكة نضار ، واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ، وعكف عليه العاكفون ، ولهج بذكر محاسنه الواصفون ، وذاق طعم دقائقه العارفون ، فأكبّ عليه العلماء تدريسا ومطالعة ، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة» (٣).

٢ ـ ويقول صاحب «كشف الظنون» (٤) ما نصه :

وتفسيره هذا ـ يريد تفسير البيضاوي ـ كتاب عظيم الشأن ، غني عن البيان ، لخص فيه من «الكشاف» ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان ، ومن «التفسير الكبير» ما يتعلق بالحكمة والكلام ، ومن «تفسير الراغب» ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات.

وضم إليه ما روى زناد فكره من الوجوه المعقولة ، فجلا رين الشك عن السريرة ، وزاد في العلم بسطة وبصيرة ، كما قال مولانا المنشي :

أولوا الألباب لم يأتوا

بكشف قناع ما يتلى

ولكن كان للقاضي

يد بيضاء لا تبلى

ولكونه متبحرا جال في ميدان فرساون الكلام ، فأظهر مهارته في العلوم حسبما يليق بالمقام. كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الإشارة ، وملح الاستعارة ، وهتك الأستار أخرى عن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها ، وترجمان المناطقة وميزانها ، فحل ما أشكل على الأنام ، وذلّل لهم صعاب المرام ، وأورد في المباحث الدقيقة ما يؤمن به عن الشبه المضلة وأوضح لهم مناهج الأدلة.

والذي ذكره من وجوه التفسير ثانيا أو ثالثا أو رابعا بلفظ قيل ، فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود.

__________________

(١) انظر مقدمة الجزء الأول.

(٢) من الجزء الخامس.

(٣) «المدخل المنير» للشيخ مخلوف الصفحة (٤١).

(٤) «كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحة (١٨٧).


وأما الوجه الذي تفرد فيه ، وظن بعضهم أنه مما لا ينبغي أن يكون من الوجوه التفسيرية السنية ، كقوله : وحمل الملائكة العرش وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له (١) ، ونحوه ، فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه ، ولا يبلغ علمه إلى الإحاطة بما فيه ، فمن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء ، ويروم أن يقنص نسر السماء ؛ لأنه مالك زمام العلوم الدينية ، والفنون اليقينية ، على مذهب أهل السنة والجماعة.

وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق ، وسلموا إليه قصب السبق ، فكان تفسيره يحتوي فنونا من العلم وعرة المسالك ، وأنواعا من القواعد المختلفة الطرائق ، وقل من برز في فن إلّا وصده عن سواه وشغله ، والمرء عدوّ لما جهله ، فلا يصل إلى مرامه إلا من نظر إليه بعين فكره ، وأعمى عين هواه ، واستعبد نفسه في طاعة مولاه ، حتى يسلم من الغلط والزلل ، ويقتدر على رد السفسطة والجدل.

وأما أكثر الأحاديث التي أوردها في أواخر السور ، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه ، وتعرض لنفحات ربّه ، تسامح فيه ، وأعرض عن أسباب التجريح والتعديل ، ونحا نحو الترغيب والتأويل ، عالما بأنها مما فاه صاحبه بزور ، ودلى بغرور.

ثم إن هذا الكتاب رزق من عند الله سبحانه وتعالى بحسن القبول عند جمهور الأفاضل والفحول ، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية ، فمنهم من علق تعليقه على سورة منه ، ومنهم من حشى تحشية تامة ، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه» (٢) انتهى.

وأشهر هذه الحواشي وأكثرها تداولا ونفعا : «حاشية قاضي زاده» ، و«حاشية الشهاب الخفاجي» ، و«حاشية القونوي».

وجملة القول ، فالكتاب من أمهات كتب التفسير ، التي لا يستغني عنها من يريد أن يفهم كلام الله تعالى.

__________________

(١) انظر تفسير البيضاوي عند قوله تعالى في الآية (٧) من سورة غافر (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ...) الآية».

(٢) «كشف الظنون» : لحاجي خليفة (١ / ١٨٧ ـ ١٨٨).


الحواشي والتعليقات المكتوبة على تفسير البيضاوي (١)

وهي كثيرة جدا ، وصل بها صاحب «كشف الظنون» إلى نحو خمسين ، منها ما يقع في مجلدات ، ومنها دون ذلك ، وهي تعكس أهمية هذا التفسير ، ومنها :

١ ـ حاشية العالم الفاضل محيي الدين محمد بن الشيخ مصلح الدين مصطفى القوجوي المتوفى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة (ت ٩٥١ ه‍ ـ).

وهي أعظم الحواشي فائدة وأكثرها نفعا وأسهلها عبارة ، كتبها أولا على سبيل الإيضاح والبيان للمبتدئ في ثماني مجلدات ، ثم استأنفها ثانيا بنوع تصرف فيه وزيادة عليه ، فانتشر هاتان النسختان وتلاعب بهما أيدي النسّاخ حتى كاد أن لا يفرق بينهما. ولبعض الفضول منتخب تلك الحاشية ، ولا يخفى أنها من أعزّ الحواشي وأكثرها قيمة واعتبارا وذلك لبركة زهده وصلاحه.

٢ ـ حاشية العالم مصلح الدين مصطفى بن إبراهيم المشهور بابن التمجيد (ت نحو ٨٨٠ ه‍ ـ).

معلم السلطان محمد خان الفاتح وهي مفيدة جامعة أيضا لخّصها من حواشي «الكشاف» في ثلاث مجلدات.

٣ ـ حاشية الفاضل القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المصري (٢) المتوفى سنة ست وعشرين وتسعمائة (٩٢٦ ه‍ ـ).

وهي في مجلد سماها «فتح الجليل ببيان خفي أنوار التنزيل» ، أولها : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، نبه فيها على الأحاديث الموضوعة التي في أواخر السور.

٤ ـ حاشية الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة (ت ٩١١ ه‍ ـ).

وهي في مجلد أيضا سماه «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار».

٥ ـ حاشية الفاضل أبي الفضل القرشي الصديقي الخطيب المشهور بالكازروني المتوفى في حدود سنة أربعين وتسعمائة (٩٤٥ ه‍ ـ).

وهي حاشية لطيفة في مجلد ، أورد فيها من الدقائق والحقائق ما لا يحصى ، أولها الحمد لله الذي أنزل آيات بينات محكمة.

٦ ـ حاشية شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفى سنة ست وثمانين وسبعمائة (٧٨٦ ه‍ ـ).

في مجلد أيضا أولها الحمد لله الذي وفقنا للخوض.

٧ ـ حاشية العالم الفاضل محمد بن جمال الدين بن رمضان الشرواني (ت ١٠٦٣ ه‍ ـ).

في مجلدين أولها : قال الفقير بعد حمد الله العليم العلام.

__________________

(١) انظر «كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحات (١٨٨ ـ ١٩٣).

(٢) ذكر الشعراني في «المنن» أن القاضي زكريا علّقه إملاء بعد أن كفّ بصره لما قرأ عليه ، قال : وغالبها بخطي وخط ولده جمال الدين ، انتهى منه.


٨ ـ حاشية الشيخ الفاضل صبغة الله بن إبراهيم الحيدري شيخ مشايخ بغداد في عصره (ت ١١٨٧ ه‍ ـ).

وهي كبرى وصغرى ، جمع من ثماني عشرة حاشية.

٩ ـ وحاشية صبغة الله بن روح الله بن جمال الله البروجي الحسيني النقشبندي الفقيه المتصوّف (ت ١٠١٥ ه‍ ـ) وسمّاها «إراءة الدقائق».

١٠ ـ حاشية الشيخ الفاضل جمال الدين إسحاق القراماني المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة (ت ٩٣٣ ه‍ ـ) وهي حاشية مفيدة جامعة.

١١ ـ حاشية العالم المشهور بروشني الآيديني.

١٢ ـ حاشية الشيخ محمود بن الحسين الأفضلي الحاذقي الشهير بالصادقي الكيلاني المتوفى في حدود سنة سبعين وتسعمائة (ت ٩٧٠ ه‍ ـ).

وهي من سورة الأعراف إلى آخر القرآن سماها «هداية الرواة إلى الفاروق المداوي للعجز عن تفسير البيضاوي» وفرغ من تحريرها سنة ثلاث وخمسين تسعمائة.

١٣ ـ حاشية الشيخ بابا نعمة الله بن محمد النخجواني المتوفى في حدود سنة تسعمائة (ت ٩٠٠ ه‍ ـ).

١٤ ـ حاشية العالم مصطفى بن شعبان الشهير بالسروري المتوفى سنة تسع وستين وتسعمائة (ت ٩٦٩ ه‍ ـ).

وهي كبرى وصغرى ، أول الكبرى الحمد لله الذي جعلني كشاف القرآن ، ذكر العاشق في ذيل الشقائق أنه كان يكتب كل ما يخطر بالبال في بادي النظر والمطالعة ولا ينظر إليه بعد ذلك.

١٥ ـ وحاشية المولى الشهير بمنا وعوض المتوفى سنة أربع وتسعين وتسعمائة (ت ٩٩٤ ه‍ ـ).

وهو في نحو ثلاثين مجلدا.

١٦ ـ وحاشية الشيخ أبي بكر بن أحمد بن الصائغ الحنبلي المتوفى سنة أربع عشرة وسبعمائة (ت ٧١٤ ه‍ ـ).

وسماه «الحسام الماضي في إيضاح غريب القاضي» شرح فيه غريبه ، وضم إليه فوائد كثيرة.

وأما التعليقات والحواشي الغير التامة فكثيرة جدا :

فنذكر منها ما وصل إلينا خبره ، ونقدم الأشهر فالأشهر فمنها :

١٧ ـ حاشية المولى المحقق محمد بن فرامرز الشهير بملا خسرو المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة (ت ٨٨٥) ه ـ.

وهي من أحسن التعليقات عليه بل أرجحها إلى قوله سبحانه وتعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) وذيلها إلى تمام سورة البقرة لمحمد بن عبد الملك البغدادي (الحنفي المتوفى بدمشق سنة ١٠١٦ ذكره «خلاصة الأثر») ألّفه سنة اثنتي عشرة وألّف ، أوله الحمد لله هادي المتقين.

١٨ ـ وحاشية العالم الفاضل نور الدين حمزة «بن محمود» القراماني المتوفى سنة إحدى وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧١ ه‍ ـ).

وهي على الزهراوين سماها «تقشير التفسير».


١٩ ـ وتعليقة سنان الدين يوسف البردعي الشهير بعجم سنان المحشي لشرح الفرائض.

كتبها إلى قوله سبحانه وتعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وهي كالخسروية حجما عبر فيها عن ملا حمزة بالأستاذ الأوسط وعن ملا خسرو بالأستاذ الأخير ، أوله الحمد لله الذي نور قلوبنا.

٢٠ ـ وحاشية الفاضل المحقق عصام الدين إبراهيم بن محمد بن عربشاه الإسفرايني المتوفى سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة (ت ٩٤٣ ه‍ ـ).

وهي مشحونة بالتصرفات اللائقة والتحقيقات الفائقة من أول القرآن إلى آخر الأعراف ومن أول سورة النبأ إلى آخر القرآن ، أهداها إلى السلطان سليمان خان أوله : الحمد لله الذي عم بارفاد إرشاد الفرقان.

٢١ ـ وحاشية المولى العلامة سعد الله بن عيسى الشهير بسعدي أفندي المتوفى سنة خمس وأربعين وتسعمائة (ت ٩٤٥ ه‍ ـ).

وهي من أول سورة هود إلى آخر القرآن.

وأما التي وقعت على الأوائل فجمعها ولده پير محمد من الهوامش فألحقها إلى ما علقه ، وفيها تحقيقات لطيفة ومباحث شريفة لخصها من حواشي «الكشاف» وضم إليها ما عنده من تصرفاته المسلمة فوقع اعتماد المدرسين عليها ورجوعهم عند البحث والمذاكرة إليها ، وقد علقوا عليها رسائل لا تحصى.

٢٢ ـ وحاشية الفاضل سنان الدين يوسف بن حسام المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة (ت ٩٨٦ ه‍ ـ).

وهي أيضا حاشية مقبولة من أول الأنعام إلى آخر الكهف ، وعلق على سورة الملك والمدثر والقمر وألحقها وأهداها إلى السلطان السليم خان الثاني.

٢٣ ـ وحاشية المولى محمد بن عبد الوهاب الشهير بعبد الكريم زاده المتوفى سنة خمس وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٥ ه‍ ـ).

وهي من أول القرآن إلى سورة طه ولم تنتشر.

٢٤ ـ وتعليقة المولى مصطفى بن محمد الشهير ببستان أفندي المتوفى سنة سبع وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٧ ه‍ ـ).

وهي على سورة الأنعام خاصة.

٢٥ ـ وتعليقة محمد بن مصطفى بن الحاج حسن المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة (ت ٩١١ ه‍ ـ).

وهي أيضا على سورة الأنعام.

٢٦ ـ وتعليقة العالم الفاضل مصلح الدين محمد اللاري المتوفى سنة سبع وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٧ ه‍ ـ).

وهي إلى آخر الزهراوين مشحونة بالمباحث الدقيقة.

٢٧ ـ وتعليقة نصر الله الرومي.

وفي «أعلام» الزركلي (٨ / ٣١) : نصر الله بن محمد العجمي الخلخالي الشافعي (ت ٩٦٢ ه‍ ـ) له «حاشية على أنوار التنزيل» للبيضاوي.

٢٨ ـ وتعليقة الشيخ الأديب غرس الدين الحلبي الطبيب.

٢٩ ـ وتعليقة المحقق الملا حسين (حسن) الخلخالي الحسيني (ت ١٠١٤ ه‍ ـ).

من سور يس إلى آخر القرآن ، أولها : الحمد لله الذي توله العرفاء في كبرياء ذاته.


٣٠ ـ وتعليقة محيي الدين محمد الإسكليبي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة (ت ٩٢٢ ه‍ ـ).

٣١ ـ وتعليقة محيي الدين محمد بن القاسم الشهير بالأخوين المتوفى سنة أربع وتسعمائة (ت ٩٠٤ ه‍ ـ).

وهي على الزهراوين.

٣٢ ـ وتعليقة السيد أحمد بن عبد الله القريمي المتوفى سنة خمسين وثمانمائة (٨٥٠).

وهي إلى قريب من تمامه.

٣٣ ـ وتعليقة الفاضل محمد بن كمال الدين التاشكندي.

على سورة الأنعام أهداها إلى السلطان سليم خان.

٣٤ ـ وتعليقة المولى زكريا بن بيرام الأنقروي المتوفى سنة إحدى وألف (ت ١٠٠١ ه‍ ـ).

وهي على سورة الأعراف.

٣٥ ـ وتعليقة المولى محمد بن عبد الغني المتوفى سنة ست وثلاثين وألف (ت ١٠٣٦ ه‍ ـ).

إلى نصف البقرة في نحو خمسين جزءا.

٣٦ ـ وتعليقة الفاضل محمد أمين الشهير بابن صدر الدين الشرواني المتوفى سنة عشرين وألف (ت ١٠٢٠ ه‍ ـ).

وهي إلى قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) أورد عبارة البيضاوي تماما بقوله وبدأ بما بدأ في الصفدي في «شرح لامية العجم» وهو قوله : الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب.

٣٧ ـ وتعليقة المولى هداية الله العلائي المتوفى سنة تسع وثلاثين وألف (ت ١٠٣٩ ه‍ ـ).

٣٨ ـ وتعليقة الفاضل محمد الشرانشي.

وهي على جزء النبأ.

٣٩ ـ وتعليقة الفاضل محمد أمين بن محمود الشهير بأمير بادشاه البخاري الحسيني نزيل مكة المتوفى سنة (٩٧٢ ه‍ ـ).

وهي إلى سورة الأنعام.

٤٠ ـ وتعليقة الفاضل محمد بن موسى البسنوي المتوفى سنة ست وأربعين وألف (ت ١٠٤٦ ه‍ ـ).

وهي إلى آخر سورة الأنعام كتبها على طريق الإيجاز ، بل على سبيل التعمية والألغاز ، أولها : الحمد لله الذي فضل بضله العالمين على الجاهلين.

٤١ ـ وتعليقة الفاضل المشهور بالعلائي ابن محبّي الشيرازي «علاء الدين علي بن محيي الدين محمد المتوفى سنة (٩٤٥) الشريف.

وهي على الزهراوين ، أولها : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، فرغ عنها في رجب سنة خمس وأربعين وتسعمائة وسماها «مصباح التعديل في كشف أنوار التنزيل».

٤٢ ـ وتعليقة المولى أحمد بن روح الله الأنصاري المتوفى سنة تسع وألف (ت ١٠٠٩ ه‍ ـ).

وهي إلى آخر الأعراف.

٤٣ ـ وتعليقة محمد بن إبراهيم ابن الحنبلي الحلبي المتوفى سنة إحدى وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧١ ه‍ ـ).


٤٤ ـ وصنف الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف (ت ٩٤٢ ه‍ ـ) الشامي الشافعي مختصرا سماه «الإتحاف بتمييز ما تبع فيه البيضاوي صاحب الكشاف».

أوله الحمد لله الهادي للصواب.

٤٥ ـ والشيخ عبد الرؤوف المناوي خرج أحاديثه في كتاب أوله : الله أحمد أن جعلني من خدام أهل الكتاب ، وسماه «الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي».

٤٦ ـ وممن علق عليه كمال الدين محمد بن محمد بن أبي شريف القدسي المتوفى سنة ثلاث وتسعمائة (ت ٩٠٣ ه‍ ـ).

٤٧ ـ والشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧٩ ه‍ ـ).

كتب إلى قوله سبحانه وتعالى (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

٤٨ ـ والعلامة السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة عشرة وثمانمائة (ت ٨١٦ ه‍ ـ).

ذكره السخاوي نقلا عن سبطه.

٤٩ ـ ومن التعليقات عليه مع الكشاف وتفسير أبي السعود تعليقة الشيخ رضي الدين محمد بن يوسف الشهير بابن أبي اللطف القدسي (المتوفى سنة ١٠٢٨).

وهي في مجلد ضخم أوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، علقها في درسه عند الصخرة إلى آخر الأنعام ، فبيضها وأرسلها إلى المولى أسعد المفتي.

٥٠ ـ و«مختصر تفسير البيضاوي» لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بإمام الكاملية الشافعي القاهري المتوفى سنة أربع وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧٤ ه‍ ـ).




بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)

«قرآن كريم»

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، فتحدى بأقصر سورة من سورة مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرا ، وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسوا أنهم سحروا تسحيرا ، ثم بين للناس ما نزل إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب تذكيرا ، فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات هن رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا ، وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق ، ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا ، ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ، ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا ، فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فهو في الدارين حميد وسعيد ، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه ، يعش ذميما ويصل سعيرا فيا واجب الوجود ، ويا فائض الجود ، ويا غاية كل مقصود ، صل عليه صلاة توازي غناءه ، وتجازي غناءه ، وعلى من أعانه وقرر تبيانه تقريرا ، وأفض علينا من بركاتهم واسلك بنا مسالك كراماتهم ، وسلم عليهم وعلينا تسليما كثيرا.

وبعد ، فإن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا ، علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها ، ومبنى قواعد الشرع وأساسها ، لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها ، وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها.

ولطالما أحدث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة مما بلغني من عظماء الصحابة ، وعلماء التابعين ، ومن دونهم من السلف الصالحين ، وينطوي على نكت بارعة ، ولطائف رائعة ، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين ، وأماثل المحققين ، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوّة إلى الأئمة الثمانية المشهورين ، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين.

إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام ، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته ، والإتيان بما قصدته ، ناويا أن أسميه بعد أن أتممه «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل».

فها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه ، أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.



(١) سورة الفاتحة

مكية وآيها سبع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

وتسمى أم القرآن ، لأنها مفتتحة ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساسا. أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى ، والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده. أو على جملة معانيه من الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء. وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك. وسورة الحمد والشكر والدعاء. وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها. والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام : «هي شفاء من كل داء». و«السبع المثاني» لأنها سبع آيات بالاتفاق ، إلا أن منهم من عد التسمية دون (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ومنهم من عكس ، وتثنى في الصلاة ، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة ، وبالمدينة حين حولت القبلة ، وقد صح أنها مكية لقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ، وهو مكي بالنص.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وعليه قراءة مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه‌الله تعالى والشافعي. وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ، ولم ينص أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده. وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى. ولنا أحاديث كثيرة : منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه عليه الصلاة والسلام قال : «فاتحة الكتاب سبع آيات ، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم». وقول أم سلمة رضي الله عنها «قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاتحة وعد «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها ، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى ، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين. والباء متعلقة بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه. أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه ، وتقديم المعمول هاهنا أوقع كما في قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنه أهم وأدل على الاختصاص ، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة ، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» ، وقيل الباء للمصاحبة ، والمعنى متبركا باسم الله تعالى أقرأ ، وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ، ويحمد على نعمه ، ويسأل من فضله ، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر ، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء ، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال ، وبنيت أوائلها على السكون ، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل ، لأن من دأبهم أن يبتدئوا


بالمتحرك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال:

والله أسماك سمى مباركا

آثرك الله به إيثاركا

والقلب بعيد غير مطرد ، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له. ومن السمة عند الكوفيين ، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم ، ومن لغاته سم وسم قال :

بسم الذي في كلّ سورة سمه

والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى ، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ويتعدد تارة ويتحد أخرى. والمسمى لا يكون كذلك ، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) و (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص ، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وإن أريد به الصفة ، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري ، انقسم انقسام الصفة عنده : إلى ما هو نفس المسمى ، وإلى ما هو غيره ، وإلى ما ليس هو ولا غيره. وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله ، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه. أو للفرق بين اليمين والتيمن. ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها. والله أصله إله ، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل : يا الله ، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. والإله في الأصل لكل معبود ، ثم غلب على المعبود بالحق. واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ، ومنه تأله واستأله ، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه ، لأن القلوب تطمئن بذكره ، والأرواح تسكن إلى معرفته. أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه ، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه ، فقيل إله كإعاء وإشاح ، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها ، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر :

كحلفة من أبي رباح

يشهدها لاهه الكبار

وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ، ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول : لا إله إلا الله ، توحيدا مثل : لا إله إلا الرحمن ، فإنه لا يمنع الشركة ، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل : الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه ، وامتناع الوصف به ، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر ، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) معنى صحيحا ، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب ، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة ، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة ، وإدخال اللام عليه ، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ، وقيل مطلقا ، وحذف ألفه لحن تفسد به


الصلاة ، ولا ينعقد به صريح اليمين ، وقد جاء لضرورة الشعر :

ألا لا بارك الله في سهيل

إذا ما الله بارك في الرّجال

و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة : رقة القلب ، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرّحم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. و (الرَّحْمنِ) أبلغ من (الرَّحِيمِ) ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطّع وقطع وكبّار وكبار ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة ، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتقدم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها ، والقدرة على إيصالها ، والداعية الباعثة عليه ، والتمكن من الانتفاع بها ، والقوى التي بها يحصل الانتفاع ، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتمة والرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي.

والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه. وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور ، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها ، جليلها وحقيرها ، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ، ويتمسك بحبل التوفيق ، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، والمدح : هو الثناء على الجميل مطلقا. تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته. وقيل هما أخوان. والشكر : مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضّمير المحجّبا

فهو أعم منهما من وجه ، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة ، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام : «الحمد رأس الشكر ، وما شكر الله من لم يحمده».

والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر. ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه. وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها ، والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق ، إذ الحمد في الحقيقة كله له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم. إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه. وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.


(رَبِّ الْعالَمِينَ) الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل : هو نعت من ربّه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه. ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل : عني به الناس هاهنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ). وقرئ (رَبِّ الْعالَمِينَ) بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(٤)

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كرره للتعليل على ما سنذكره.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). وقرأ الباقون : ملك. وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟). ولما فيه من التعظيم. والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك. والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك. وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الفعل. ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ، ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وملك مضافا بالرفع والنصب. ويوم الدين يوم الجزاء ومنه «كما تدين تدان» وبيت الحماسة :

ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ، ملك الأمور يوم الدين على طريقة (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ). أوله الملك في هذا اليوم ، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة ، وقيل : (الدِّينِ) الشريعة ، وقيل : الطاعة. والمعنى يوم جزاء الدين ، وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه ، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه ، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها ، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب ، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد ، فيكون دليلا على ما بعده ، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية. والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٥)

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر


الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا ، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها.

اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) وقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) وقول امرئ القيس :

تطاول ليلك بالإثمد

ونام الخليّ ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني

وخبرته عن أبي الأسود

وإيا ضمير منصوب منفصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك. وقال الخليل : إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه. وقيل : هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع. وقرئ (إِيَّاكَ) بفتح الهمزة و«هياك» بقلبها هاء.

والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبّد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى.

والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية ، أو غير ضرورية. والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل. وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي ، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه ، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها ، أو في أداء العبادات ، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة ، وحاضري صلاة الجماعة. أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (معناه نعبدك ولا نعبد غيرك) وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا). على ما حكاه عن كليمه حين قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ). وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير ، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.

وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أو هم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه ، فعقبه بقوله:


(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق ، وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك. وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٦)

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا (اهْدِنَا). أو إفراد لما هو المقصود الأعظم. والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) وارد على التهكم. ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها ، والفعل منه هدى ، وأصله أن يعدى باللام ، أو إلى ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وهداية الله تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :

الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.

الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

الرابع : أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عني بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به : أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل ، وقيل : بالرتبة.

والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ، ولذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم. و (الصِّراطَ) من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق ، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه. وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ، ورويس عن يعقوب بالأصل ، وحمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد وهو لغة قريش ، والثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث.

و (الْمُسْتَقِيمَ) المستوي والمراد به طريق الحق ، وقيل : هو ملة الإسلام.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(٧)

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بدل من الأول بدل الكل ، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين. وقيل : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الأنبياء ، وقيل : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ. وقرئ : «صراط من أنعمت عليهم» والإنعام : إيصال النعمة ، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ، ونعم الله وإن كانت


لا تحصى كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي.

والأول قسمان : موهبي وكسبي والموهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المستحسنة وحصول الجاه والمال.

والثاني : أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين. والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) بدل من (الَّذِينَ) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين ، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلي في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

وقولهم : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليهم ، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.

وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين ، والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر ، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، فكأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب ، كما جاز أنا زيدا لا ضارب ، وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب ، وقرئ «وغير الضالين» والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير.

قيل : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود لقوله تعالى فيهم : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ). و (الضَّالِّينَ) النصارى لقوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً). وقد روي مرفوعا ، ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله ، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به ، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة. والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ). والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ). وقرئ : ولا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.

ـ آمين ـ اسم الفعل الذي هو استجب. وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معناه فقال : «افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين» ، وجاء مد ألفه وقصرها قال :

ويرحم الله عبدا قال آمينا

وقال :

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وليس من القرآن وفاقا ، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام «علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب». وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده. يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته».


وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله : والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس ، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا قال الإمام «ولا الضالين» فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ «ألا أخبرك بسورة لم ينزّل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها». قال : قلت بلى يا رسول الله. قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته».

وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة».


(٢) سورة البقرة

مدنية وآيها مائتان وسبع وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم)(١)

(الم) وسائر الألفاظ التي يتهجى بها ، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم ، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها ، وبه صرح الخليل وأبو علي. وما روي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه ، فإن تخصيصه به عرف مجدّد بل المعنى اللغوي ، ولعله سماه باسم مدلوله.

ولما كانت مسمياتها حروفا وحدانا وهي مركبة ، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضية ، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذ لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل : (ص) و (ق) مجموعا فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدى بالقرآن وتنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه ، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز ، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس ، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه ، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم ، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها ، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف ، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه (لن يقطع أمر). ومن الشديدة الثمانية المجموعة في (أجدت طبقك) أربعة يجمعها (أقطك). ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها «خمس» على نصره ، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها ، ومن البواقي المنفتحة نصفها ، ومن القلقلة وهي : حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها ، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا ، ومن المستعلية وهي : التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى ، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل ، ومن البواقي المنخفضة نصفها ، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه ، واختاره ابن جني ويجمعها (أجد طويت) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها (أهطمين) وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في (أصيلال) والصاد والزاي في (صراط وزراط) والفاء في (أجداف) والعين في (أعن) والثاء في (ثروغ الدلو) والباء في «باسمك» حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة


واللام والصاد والعين. ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر : الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل. ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر : الحاء والقاف والكاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة ، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي : الميم والزاي والسين والفاء نصفها.

ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان وهي ستة يجمعها (رب منفل) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة ، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما. ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك ، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ، إيذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ، ومركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة ، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف (كبل) ، وفي الفعل بحذف ثقل (كقل). وفي الاسم بغير حذف (كمن) ، وبه (كدم) في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه : ففي الأسماء من وإذ وذو. وفي الأفعال قل وبع وخف. وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها. وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر ، عشرة منها للأسماء ، وثلاثة للأفعال ، ورباعيتين وخماسيتين تنبيها على أن لكل منهما أصلا : كجعفر وسفرجل ، وملحقا : كقردد وجحنفل ، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه.

والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف. أو المؤلف منها ، كذا وقيل : هي أسماء للسور ، وعليه إطباق الأكثر. سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها ، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى. ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة ، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها ، أو غير ذلك. والثاني باطل لأنه ؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك ، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.

لا يقال : لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر؟ كما قاله قطرب ، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله :

قلت لها قفي فقالت قاف

كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الألف آلاء الله ، واللام لفظه ، والميم ملكه. وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن الم معناه : أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد أي : القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكا بما روى : «أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة. فحسبوه وقالوا : كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : فهل غيره ، فقال : المص والر والمر ، فقالوا : خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ». فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك ، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل


والقسطاس ، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه.

هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب ، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى ، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة ، لأنا نقول : إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور ، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم ، أما الشعر فشاذ ، وأما قول ابن عباس ، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة ، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير ، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظا ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات ، والحديث لا دليل فيه ، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم ، وجعلها مقسما بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها ، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا على طريقة بعلبك ، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا ، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم ، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد ، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسما ، فلا دور لاختلاف الجهتين. والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية ، وقيل : إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن.

وقيل : إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن عليا كرم الله وجهه كان يقول : يا كهيعص ، ويا حمعسق ، ولعله أراد يا منزلهما.

وقيل الألف : من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام : من طرف اللسان وهو أوسطها ، والميم : من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى.

وقيل : إنه سر استأثر الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه ، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد. فإن جعلتها أسماء الله تعالى ، أو القرآن ، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء ، أو الخبر ، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر ، أو الجر على إضمار حرف القسم ، ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل ، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك ، وسيعود إليك ذكره مفصلا إن شاء الله تعالى ، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر ، وإن جعلتها مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن ، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له ، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها ، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم ف (الم) في مواقعها ، و (المص) و (كهيعص) و (طه) و (طسم) و (طس) و (يس) و (حم) آية ، و (حم عسق) آيتان ، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٢)

(ذلِكَ الْكِتابُ) ذلك إشارة إلى (الم) إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد


وتذكيره ، متى أريد ب (الم) السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). أو في الكتب المتقدمة. وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة.

وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب. وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة.

(لا رَيْبَ فِيهِ) معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا). الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة.

وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين. وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه.

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة.

وقيل : الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب. واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ). أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً). ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه.

والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى. والوقاية : فرط الصيانة. وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب : الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى).

الثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعني بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا).

الثالثة : أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وقد فسر قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) هاهنا على الأوجه الثلاثة.

واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون (الم) مبتدأ على أنه اسم للقرآن. أو السورة. أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك.

وأن يكون (الم) خبر مبتدأ محذوف و (ذلِكَ) خبرا ثانيا. أو بدلا و (الْكِتابُ) صفته ، و (لا رَيْبَ) في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إنّ ، لأنها


نقيضتها ولازمة للأسماء لزومها. وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره. وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في (لا ضَيْرَ) ، فلذلك وقف على (لا رَيْبَ) ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و (الْكِتابُ) خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر (الم).

والأولى أن يقال إنها أربع جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينها. ف (الم) ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية مقررة لجهة التحدي ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريف ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣)

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل. أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). وقوله عليه الصلاة والسلام : «الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام». أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين. وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى. أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين. وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاما.

والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدّق أمن المصدّق من التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب.

وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج. فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ،


(وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقا. ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر ، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه.

والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا ، أو فيعل خفف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به. وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا (لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية.

وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. فالباء على الأول للتعدية. وعلى الثاني للمصاحبة. وعلى الثالث للآلة.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قوّمه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال :

أقامت غزالة سوق الضراب

لأهل العراقين حولا قميطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد. أو يؤدونها. عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح. والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب ، وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا المصلون (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.

وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه.

وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق هاهنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق. فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ


ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً). وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة. وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عمرو بن قرة : «لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله». وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها).

وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالّا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل. ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها. وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه. ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه». وإليه ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه ، معطوفون على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم ، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا (لِلْمُتَّقِينَ) ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. أو على المتقين وكأنه قال (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك ، والذين آمنوا من أهل الملل. ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ، ووسّط العاطف كما وسط في قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقوله :

يا لهف ذؤابة للحارث الص

ائح فالغانم فالآئب

على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع. وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين. أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم.

والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول. والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد. أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). فإن الجنّ لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزّلا حينئذ. وبما (أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة ، والإيمان بها جملة فرض عين ، وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية. لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش.

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا


أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في نعيم الجنة : أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ وفي دوامه وانقطاعه ، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب ، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان. واليقين : إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا ، ولذلك لا يوصف به علم البارئ ، ولا العلوم الضرورية. والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) فغلبت كالدنيا ، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام ، وقرئ «يوقنون» بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره :

لحبّ المؤقد إن إلى مؤسى

وجعدة إذ أضاءهما الوقود

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له ، فكأنه لما قيل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قيل ما بالهم خصوا بذلك؟ فأجيب بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى آخر الآيات. وإلا فاستئناف لا محل لها ، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة. أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان ، فإن اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه ، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له. ومعنى الاستعلاء في (عَلى هُدىً) تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى ، وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. ونكر هدى للتعظيم. فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره ، ونظيره قول الهذلي :

فلا وأبي الطير المربّة بالضّحى

على خالد لقد وقعت على لحم

وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له ، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كرر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين هاهنا بخلاف قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ، فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف. وهم : فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ، ويفيد اختصاص المسند إليه ، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك. والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق. والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة. أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم.

تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى ، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم ، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح له رأسا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٦).


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما ذكر خاصة عباده ، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ؛ (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) لتباينهما في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و(إن) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين. ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه.

وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان ، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقّى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ، (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال المبرد (قولك : عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبد الله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبد الله لقائم ، جواب منكر لقيامه). وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود. أو للجنس ، متناولا من صمم على الكفر ، وغيرهم. فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه. والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور. وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وإنما عدّ لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا لأنها كفر في أنفسها.

واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) وقوله : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه.

وإنما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة.

والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.

(لا يُؤْمِنُونَ) جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة. أو بدل عنه. أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم.


والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا. وشمل إيمانهم بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان ، والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ولم يقل سواء عليك. كما قال لعبدة الأصنام (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ). وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٧)

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) تعليل للحكم السابق وبيان لما يقتضيه. والختم الكتم ، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. والغشاوة : فعالة من غشاه إذا غطاه ، بنيت لما يشتمل على الشيء ، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة ، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي ، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم ، وانهماكهم في التقليد ، وإعراضهم عن النظر الصحيح ، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق ، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم ، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين ، فتصير كأنها غطي عليها. وحيل بينها وبين الإبصار ، وسماه على الاستعارة ختما وتغشية. أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختما وتغطية ، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ). وبالاغفال في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) ، وبالإقساء في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوها من التأويل :

الأول : أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم ، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

الثاني : أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم الله عليها ، ونظيره : سال به الوادي إذا هلك. وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته.

الثالث : أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر ، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب.

الرابع : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر ، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف ، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي.

الخامس : أن يكون حكاية لما كانت الكفرة يقولون مثل : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) تهكما واستهزاء بهم كقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) الآية.


السادس : أن ذلك في الآخرة ، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا).

السابع : أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة ، فيبغضونهم وينفرون عنهم ، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما.

و (عَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على قلوبهم لقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) وللوفاق على الوقف عليه ، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات ، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة ، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين واستقلال كل منهما بالحكم. ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل ، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم.

والأبصار جمع بصر وهو : إدراك العين ، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة ، وعلى العضو وكذا السمع ، ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية ، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ). وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. وغشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه ، وبالجار والمجرور عند الأخفش ، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية. وقرئ بالنصب على تقدير ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى : وختم على أبصارهم بغشاوة ، وقرئ بالضم والرفع ، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها. و«غشوة» بالكسر مرفوعة ، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة و«عشاوة» بالعين الغير المعجمة.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناء ، ومعنى تقول : عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك ، ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخا وفراتا ، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالا ، أي : عقابا يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكما أن الحقير دون الصغير ، فالعظيم فوق الكبير ، ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس ، وهو التعامي عن الآيات ، ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٨)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه ، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ولم يلتفتوا لفتة رأسا ، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين ، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم ، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا واستهزاء ، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم ، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم ، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرّين.

والناس أصله أناس لقولهم : إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما. وقوله :


إنّ المنايا يطّلعن على الإناس الآمنينا

شاذ. وهو اسم جمع كرجال ، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون ، ولذلك سموا بشرا كما سمي الجن جنا لاجتنابهم. واللام فيه للجنس ، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون. أو للعهد والمعهود : هم الذين كفروا ، ومن موصولة مراد بها ابن أبيّ وأصحابه ونظراؤه ، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم ، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس ، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.

واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر ، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه ، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه ، فكيف بما يقصدون به النفاق ، لأن القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا كلا إيمان ، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد ، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وغيرها ، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم ، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيمانا ، فكيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم. وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام.

والقول هو التلفظ بما يفيد ، ويقال بمعنى المقول ، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازا. والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة.

(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته ، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيدا. أو مبالغة في التكذيب ، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء ، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه.

والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا ، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا. والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٩)

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه ، وعما هو بصدده من قولهم : خدع الضب. إذ توارى في جحره ، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارش إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة ، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق ، والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ). وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار ، استدراجا لهم وامتثال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين. ويحتمل أن يراد ب (يُخادِعُونَ) يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه ، إلا أنه أخرج


في زنة فاعل للمغالبة ، فإن الزنة لما كانت للمغالبة والفعل متى غولب فيه ، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ، ويعضده قراءة من قرأ (يَخْدَعُونَ). وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة ، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد.

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. والمعنى : أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم. أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك. وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.

وقرأ الباقون (وَما يَخْدَعُونَ) ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ و«يخدعون» من خدع و«يخدعون» بمعنى يختدعون و«يخدعون» و«يخادعون» على البناء للمفعول ، ونصب أنفسهم بنزع الخافض ، والنفس ذات الشيء وحقيقته ، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به ، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه ، وللدم لأن قوامها به ، وللماء لفرط حاجتها إليه ، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.

(وَما يَشْعُرُونَ) لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. والشعور : الإحساس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، وأصله الشعر ومنه الشعار.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(١٠)

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي ، لأنها مانعة من نيل الفضائل ، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. والآية الكريمة تحتملهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة ، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستعلاء شأنه يوما فيوما ، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره ، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوها ، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع. أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر ، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) لكونها سببا.

ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة ، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرة على الأعداء وتبسطا في البلاد.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم يقال : ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ، وصف به العذاب للمبالغة كقوله :

تحية بينهم ضرب وجيع

على طريقة قولهم : جد جده. (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قرأها عاصم وحمزة والكسائي ، والمعنى بسبب كذبهم ، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا. وقرأ الباقون (يَكْذِبُونَ) ، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم. أو من كذّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم. أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد. والكذب : هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث


رتب عليه. وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض. ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(١١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) عطف على (يَكْذِبُونَ) أو (يَقُولُ). وما روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط ، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها. والفساد : خروج الشيء عن الاعتدال. والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع.

وكان من فسادهم في الأرض هيج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين ، وممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم ، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث.

ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل بنظام العالم. والقائل هو الله تعالى ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بعض المؤمنين. وقرأ الكسائي وهشام (قيل) بإشمام الضم الأول.

(قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب ل (إِذا) رد للناصح على سبيل المبالغة ، والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك ، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح ، وإن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد ، لأن (إنما) تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده. مثل : إنما زيد منطلق ، وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك : لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(١٢)

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) رد لما ادعوه أبلغ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد : (ألا) المنبهة على تحقيق ما بعدها ، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا ، ونظيره (أليس ذلك بقادر) ، ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم ، وأختها أما التي هي من طلائع القسم : وإن المقررة للنسبة ، وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم (إنما نحن مصلحون) من التعريض للمؤمنين ، والاستدراك ب (لا يَشْعُرُونَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : (لا تُفْسِدُوا) ، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله : (آمَنُوا).

(كَما آمَنَ النَّاسُ) في حيز النصب على المصدر ، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما ، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل ، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ، ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله :

إذ الناس ناس والزمان زمان

أو للعهد ، والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه. أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه ،


والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم ، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الهمزة فيه للإنكار ، واللام مشار بها إلى الناس ، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم ، وإنما سفّهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم ، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي : كصهيب وبلال ، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه : خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل ، والحلم يقابله.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) رد ومبالغة في تجهيلهم ، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله ، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر ، وإنما فصلت الآية ب (لا يَعْلَمُونَ) والتي قبلها ب (لا يَشْعُرُونَ) لأنه أكثر طباقا لذكر السفه ، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(١٤)

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار ، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير. روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة ، فقال لقومه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم ، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه ، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال : مرحبا يا ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه سيد بني هاشم ، ما خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزلت. واللقاء المصادفة يقال ؛ لقيته ولاقيته ، إذا صادفته واستقبلته ، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى.

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه. أو من خلاك ذمّ أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية. أو من خلوت به إذا سخرت منه ، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء ، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم ، وهم المظهرون كفرهم ، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم. وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح ، ويشهد له قولهم : تشيطن. وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل ، ومن أسمائه الباطل.

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي في الدين والاعتقاد ، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ، والشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار.

(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد لما قبله ، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه. أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما (قالوا إنا معكم) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك. والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال : هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال : هزأ فلان إذا مات على مكانه ، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف.


(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٥)

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم ، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو الغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم ، وأنّ استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ويتجدد حينا بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ).

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه ، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له. ويدل عليه قراءة ابن كثير (ويمدهم). والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا ، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا ، أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ). أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغيانا وعمها ، فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ). أو التقدير يمدهم استصلاحا ، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم. والطغيان بالضم والكسر كلقيان ، والطغيان : تجاوز الحد في العتو ، والغلو في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ). والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ، وأرض عمهاء لا منار بها ، قال :

أعمى الهدى بالجاهلين العمه

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اختاروها عليه واستبدلوها به ، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء ، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع ، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد ، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره ، سواء كان من المعاني أو الأعيان ، ومنه قول الشاعر :

أخذت بالجملة رأسا أزعرا

وبالثّنايا الواضحات الدّردرا

وبالطّويل العمر عمرا جيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصّرا

ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها. أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى.


(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ). ترشيح للمجاز ، لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم ، ونحوه :

ولمّا رأيت النسر عزّ ابن دأية

وعشّش في وكريه جاش له صدري

والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء. والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي شفا ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل ، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة ، والعقل الصرف ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم ، واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ، ونيل الكمال ، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١٧)

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء. والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشيبه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ، ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى).

والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا ، والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا تجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد. والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا.

(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي : النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما ، والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران. وقيل للعام حول لأنه يدور.

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا إنما قال : (بِنُورِهِمْ) ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من إيقادها. أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان. والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) للإيجاز وأمن الالتباس. وإسناد الذهاب


إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان. وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير ، فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ).

وقول الشاعر :

فتركته جزر السّباع ينشنه

يقضمن حسن بنانه والمعصم

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول (لا يُبْصِرُونَ) من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد.

والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعد ما آمن ، ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثّل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم. والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(١٨)

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم ، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وكقوله :

أصمّ عن الشيء الّذي لا أريده

وأسمع خلق الله حين أريد

وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل ، لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له ، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لو لا القرينة كقول زهير :

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلم

ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحا كما قال أبو تمام الطائي :

ويصعد حتى يظنّ الجهول

بأنّ له حاجة في السّماء

وهاهنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوق به ، ونظيره :

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصّافر


هذا إذا جعلت الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكة التمثيل ونتيجته ، وإن جعلته للمستوقدين ، فهي على حقيقتها. والمعنى : أنهم لما أوقدوا نارا فذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم. وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من مفعول تركهم. والصمم : أصله صلابة من اكتناز الأجزاء ، ومنه قيل حجر أصم وقناة صماء ، وصمام القارورة ، سمي به فقدان حاسة السمع لأن سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزا لا تجويف فيه ، فيشتمل على هواء يسمع الصوت بتموجه. والبكم الخرس. والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وقد يقال لعدم البصيرة.

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه. أو عن الضلالة التي اشتروها ، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، وإلى حيث ابتدءوا منه كيف يرجعون. والفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم واحتباسهم.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(١٩)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) عطف على الذي استوقد أي : كمثل ذوي صيب لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) و (أَوْ) في الأصل للتساوي في الشك ، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً). فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين ، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت. والصيب : فيعل من الصوب ، وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب. قال الشماخ :

وأسحم دان صادق الرعد صيّب

وفي الآية يحتملهما ، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد. وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء ، وقال :

ومن بعد أرض بيننا وسماء

أمد به ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير ، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية.

(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إن أريد بالصيب المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وجعله مكانا للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به. وإن أريد به السحاب ، فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل. وارتفاعها بالظرف وفاقا لأنه معتمد على موصوف. والرعد : صوت يسمع من السحاب. والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد. والبرق ما يلمع من السحاب ، من برق الشيء بريقا ، وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق ، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى ، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك؟ فأجيب بها ، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة.

(مِنَ الصَّواعِقِ) متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون ، كقولهم سقاه من الغيمة. والصاعقة قصفة رعد


هائل معها نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، من الصعق وهو شدة الصوت ، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد ، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت ، وقرئ من «الصواقع» وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك ، وخطيب مصقع ، وصقعته الصاقعة ، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد. والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة. (حَذَرَ الْمَوْتِ) نصب على العلة كقوله :

وأغفر عوراء الكريم ادخاره

وأصفح عن شتم اللئيم تكرّما

والموت : زوال الحياة ، وقيل عرض يضادها لقوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) ، وردّ بأن الخلق بمعنى التقدير ، والاعدام مقدرة.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلصهم الخداع والحيل ، والجملة اعتراضية لا محل لها.

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) استئناف ثان كأنه جواب لمن يقول : ما حالهم مع تلك الصواعق؟ وكاد من أفعال المقاربة ، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد ، إما لفقد شرط ، أو لوجود مانع وعسى موضوعة لرجائه ، فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى ، وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب من غير أن ، لتوكيد القرب بالدلالة على الحال ، وقد تدخل عليه حملا لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة. والخطف الأخذ بسرعة وقرئ (يخطف) بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف ، فنقلت فتحة التاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء ، ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها ، ويخطف ويتخطف.

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) استئناف ثالث كأنه قيل : ما يفعلون في تارتي خفوق البرق ، وخفيته؟ فأجيب بذلك. وأضاء إما متعد والمفعول محذوف بمعنى كلما نور لهم ممشى أخذوه ، أو لازم بمعنى ، كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ، وكذلك أظلم فإنه جاء متعديا منقولا من ظلم الليل ، ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول ، وقول أبي تمام :

هما أظلما حالي ثمّة أجليا

ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

فإنه وإن كان من المحدثين لكنه من علماء العربية ، فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. وإنما قال مع الإضاءة (كُلَّما) ومع الإظلام (إِذا) لأنهم حراص على المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف. ومعنى (قاموا) وقفوا ، ومنه قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء إذا جمد. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه ، ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب كقوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

(ولو) من حروف الشرط ، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني ، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه ، وقرئ : لأذهب بأسماعهم ، بزيادة الباء كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه ، والتنبيه على أن تأثير


الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى ، وأن وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته وقوله.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتصريح به والتقرير له. والشيء يختص بالموجود ، لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة ، وحينئذ يتناول البارئ تعالى كما قال : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) وبمعنى مشيء أخرى ، أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فهما على عمومهما بلا مثنوية. والمعتزلة لما قالوا الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن ، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا ، لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل.

والقدرة : هو التمكن من إيجاد الشيء. وقيل صفة تقتضي التمكن ، وقيل قدرة الإنسان ، هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى : عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى ، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته ، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته. وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، لأنه شيء وكل شيء مقدور لله تعالى. والظاهر أن التمثيلين من جملة التمثيلات المؤلفة ، وهو أن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى مثلها ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) الآية ، فإنه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدة ، بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة ، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق. ويمكن جعلهما من قبيل التمثيل المفرد ، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) وقول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

بأن يشبه في الأول : ذوات المنافقين بالمستوقدين ، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين ، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وبإفشاء حالهم وإبقائهم في الخسار الدائم ، والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورهم. وفي الثاني : أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيب فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرا ونفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين ، وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت ، من حيث إنه لا يرد من قدر الله تعالى شيئا ، ولا يخلص مما يريد بهم من المضار وتحيرهم لشدة الأمر وجهلهم بما يأتون ، ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم فخطوا خطىّ يسيرة ، ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك بهم. وقيل : شبه الإيمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيّب الذي به حياة الأرض. وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة ، واعترضت دونها من الاعتراضات المشككة بالظلمات. وشبه ما فيها من الوعد والوعيد بالرعد ، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق ، وتصامهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنيه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهو معنى قوله تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه ، أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم ، وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة ، أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم.

ونبه سبحانه بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصار


ليتوسلوا بها إلى الهدى والفلاح ، ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة ، وسدوها عن الفوائد الآجلة ، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها لأنفسهم ، فإنه على ما يشاء قدير.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزّا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة ، وتفخيما لشأنها ، وجبرا لكلفة العبادة بلذة المخاطبة. و(يا) حرف وضع لنداء البعيد ، وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد. إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ، ويا الله ، هو أقرب إليه من حبل الوريد. أو لغفلته وسوء فهمه. أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه. وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنه نائب مناب فعل. وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام ، فإن إدخال «يا» عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا له ، والتزام رفعه إشعارا بأنه المقصود ، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقه ، أي من المضاف إليه ، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام ، من حقها أن يتفطنوا إليها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ، ويدل عليه صحة الاستثناء منها. أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) واستدلال الصحابة بعمومها شائعا وذائعا ، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل ، وما روي عن علقمة والحسن أن كل شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فمكي و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمدني ، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ، ولا أمرهم بالعبادة ، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة ، والزيادة فيها ، والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة ، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه. ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : (رَبَّكُمُ) تنبيها على أن الموجب للعبادة هي الربوبية.

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرّب أعم من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أربابا. والخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو بالزمان. منصوب معطوف على الضمير المنصوب في (خَلَقَكُمْ). والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر! وقرئ «من قبلكم» على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله :

يا تيم تيم عديّ لا أبا لكمو

تيما ، الثاني بين الأول وما أضيف إليه.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حال من الضمير في (اعْبُدُوا) كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى. نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى إلى الله ، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف


ورجاء قال تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ). أو من مفعول (خَلَقَكُمْ) والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه ، وكثرة الدواعي إليه. وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهم جميعا. وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله.

والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة ، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا ، فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٢)

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) صفة ثانية ، أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله :

فقد جعلت قلوص بني سهيل

من الأكوار مرتعها قريب

وبمعنى أوجد فيتعدّى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى. ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلاة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها. واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.

(وَالسَّماءَ بِناءً) قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر ، سمي به المبنى بيتا كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) عطف على (جعل) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا ، وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و (مِنَ) الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر. أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا. و (مِنَ) الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثمارا. أو للتبيين ، ورزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا. وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيده قراءة من قرأ : «من الثمرة» على التوحيد. أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وقوله : (ثَلاثَةَ


قُرُوءٍ). أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة. و (لَكُمُ) صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقا إياكم.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه. أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له. أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به. والند : المثل المناوئ ، قال جرير :

أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد

من ند يند ندودا : إذا نفر ، وناددت الرجل خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله (أندادا) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند. ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :

أربّا واحدا أم ألف ربّ

أدين إذا تقسّمت الأمور

تركت اللات والعزّى جميعا

كذلك يفعل الرجل البصير

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات. أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.

واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى. وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكول والمشروب. ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى ، رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة ، إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣)


(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ) لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطيق وإفحامه ، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة ، وتهالكهم على المعازة والمعارة ، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه. وإنما قال : (مِمَّا نَزَّلْنا) لأن نزوله نجما منجما بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله عنهم فقال (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً). فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة ، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويها بذكره ، وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى ، وقرئ «عبادنا» يريد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها ، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة ، قال النابغة :

ولرهط حراب وقدّ سورة

في المجد ليس غرابها بمطار

لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة. وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء. والحكمة في تقطيع القرآن سورا : إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم ، وتنشيط القارئ ، وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه. فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا ، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما ، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها ، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد.

(مِنْ مِثْلِهِ) صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ، و(من) للتبعيض أو للتبيين.

وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم. أو لعبدنا ، و(من) للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم. أو صلة (فَأْتُوا) ، والضمير للعبد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولسائر آيات التحدي ، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أتى به هذا آخر مثله ، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ). ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله تعالى.

(وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) فإنه أمر بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أو الإمام. وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور ، إذ التركيب للحضور ، إما بالذات أو بالتصور ، ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه. ومعنى (دُونِ) أدنى مكان من الشيء ومنه تدوين الكتب ، لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر ، قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. قال أمية :

يا نفس ما لك دون الله من واق


أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره ، و (مِنْ) متعلقة ب (ادْعُوا). والمعنى (وَادْعُوا) للمعارضة من حضركم ، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله. أو : (وَادْعُوا) من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة. أو ب (شُهَداءَكُمْ) أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة. أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه

ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم. وقيل : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من دون أوليائه ، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله ، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه من كلام البشر ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله. والصدق : الإخبار المطابق ، وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم (نَشْهَدُ) ، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٢٤)

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ، وميز لهم الحق عن الباطل ، رتب عليه ما هو كالفذلكة له ، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب ، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب ، فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازا ، ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية تقريرا للمكنى عنه ، وتهويلا لشأن العناد ، وتصريحا بالوعيد مع الإيجاز ، وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب ، فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكا في عجزهم ، ولذلك نفى إتيانهم معترضا بين الشرط والجزاء تهكما بهم وخطابا معهم على حسب ظنهم ، فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققا عندهم. و (تَفْعَلُوا) جزم ب (لَمْ) لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال : فإن تركتم الفعل ، ولذلك ساغ اجتماعهما. (وَلَنْ) كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أصله لا أن ، وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نونا. والوقود بالفتح ما توقد به النار ، وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه : وسمعنا من يقول وقدت النار وقودا عاليا ، والاسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل : فلان فخر قومه وزين بلده ، وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم ، وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي : وقودها احتراق الناس ، والحجارة : وهي جمع حجر. كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس ، وا لمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم ، ويدل عليه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه. أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم. وقيل : الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها ، وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه ، وقيل : حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود ، إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا


يتقد به غيرها ، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت ، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كالحجارة الكبريت لسائر النيران. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). وسمعوه صح تعريف النار. ووقوع الجملة صلة «بإزائها» فإنها يجب أن تكون قصة معلومة.

(أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم. وقرئ : «أعتدت» من العتاد بمعنى العدة ، والجملة استئناف ، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها ، وإن جعلته مصدرا للفصل بينهما بالخبر. وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه :

الأول : ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن ، ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته ، والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج.

الثاني : أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به ، فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر.

الثالث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة ، مخافة أن يعارض فتدحض حجته. وقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) عطف على الجملة السابقة ، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه ، على حال من كفر به ، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب ، تنشيطا لاكتساب ما ينجي ، وتثبيطا عن اقتراف ما يردي ، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا ، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه ، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب ، ومن آمن به استحق الثواب ، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء ، وإنما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عالم كل عصر ، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم. ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة ، تفخيما لشأنهم وإيذانا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم.

وقرئ «وبشّر» على البناء للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا. والبشارة : الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البشرة ، ولذلك قال الفقهاء البشارة : هي الخبر الأول ، حتى لو قال الرجل لعبيده : من بشرني بقدوم ولدي فهو حر ، فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ، ولو قال : من أخبرني ، عتقوا جميعا ، وأما قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فعلى التهكم أو على طريقة قوله : تحيّة بينهم ضرب وجيع.

و (الصَّالِحاتِ) جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة ، قال الخطيئة:

كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه ، وتأنيثها على تأويل الخصلة ، أو الخلة ، واللام فيها للجنس ، وعطف العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين


والجمع بين الوصفين ، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أسّ ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا غناء بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا منفردين. وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان ، إذ الأصل أن الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.

(أَنَّ لَهُمْ) منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه ، أو مجرور بإضماره مثل : الله لأفعلن. والجنة : المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر ، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير :

كأنّ عيني في غربي مقتلة

من النواضح تسقي جنّة سحقا

أي نخلا طوالا ، ثم البستان ، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة ، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان ، وقيل : سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعلّيون ، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في (لَهُمْ) تدل على استحقاقهم إياها ، لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح ، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة ، فضلا عن أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع ، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق ، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وأشباه ذلك ، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد هاهنا استغناء بها.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها ، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود : واللام في (الْأَنْهارُ) للجنس ، كما في قولك لفلان : بستان في الماء الجاري ، أو للعهد ، والمعهود : هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية. والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، كالنيل والفرات ، والتركيب للسعة ، والمراد بها ماؤها على الإضمار ، أو المجاز ، أو المجاري أنفسها. وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) الآية.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا) صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة. كأنه لما قيل : إن لهم جنات ، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا ، أو أجناس أخر فأزيح بذلك ، و (كُلَّما) نصب على الظرف ، و (رِزْقاً) مفعول به ، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال ، وأصل الكلام ومعناه : كل حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة ، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات ، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال ، ويحتمل أن يكون من ثمره ، بيانا تقدم كما في قولك : رأيت منك أسدا ، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيرا إلى نهر جار : هذا الماء لا ينقطع ، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه ، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه ، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة.

(مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل هذا في الدنيا ، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى ، فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره ، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه ، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك ، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة ، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما : (أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول


ذلك ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف). أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه ، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها». فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، والأول أظهر لمحافظته على عموم (كُلَّما) فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا ، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة.

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) اعتراض يقرر ذلك ، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ونظيره قوله عزوجل : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي بجنسي الغني والفقير ، وعلى الثاني إلى الرزق. فإن قيل : التشابه هو التماثل في الصفة ، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. قلت : التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم ، وهو كاف في إطلاق التشابه. هذا : وإن للآية الكريمة محملا آخر ، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات ، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها ، فيحتمل أن يكون المراد من (هذَا الَّذِي رُزِقْنا) أنه ثوابه ، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة ، فيكون هذا في الوعد نظير قوله : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الوعيد.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن ، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق ، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال. وقرئ : «مطهرات» وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن ، وهن فاعلة وفواعل ، قال :

وإذا العذارى بالدّخان تقنّعت

واستعجلت نصب القدور فملّت

فالجمع على اللفظ ، والإفراد على تأويل الجماعة ، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهرا طهرهن وليس هو إلا الله عزوجل. والزوج يقال للذكر والأنثى ، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف ، فإن قيل : فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع ، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع ، وهي مستغنى عنها في الجنة. قلت : مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات ، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها.

(وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون. والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم ، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد ، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيا خلد ، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لغوا واستعماله حيث لا دوام ، كقولهم وقف مخلد ، يوجب اشتراكا ، أو مجازا. والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار ، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) لكن المراد به هاهنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.

فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية ، معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان. قلت : إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفية ، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر ، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن.

هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. واعلم أنه


لما كان معظم اللذات الحسية مقصورا على : المساكن والمطاعم ، والمناكح ، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات ، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم ، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها ، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية بالحصاة. ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير. وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض. لا ما قالت الجهلة ، من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدرا منه؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت. وأيضا ، لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا. واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه. وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث «إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه». «إن الله حي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلا :

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

كرعن بسبت في إناء من الورد

وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة. وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شيء على آخر ، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه. وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتابا ما ، أي : أي كتاب كان. أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. وبعوضة عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب ، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه


نكرة. أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل. وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل ما وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) وموصوفة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين. واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك. ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران. والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش.

(فَما فَوْقَها) عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسما ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه. والمعنى : أنه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خرّ على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة». فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة».

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء. قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وفي تصديره الجملتين به إحماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في (أَنَّهُ) للمثل ، أو لأن يضرب. و (الْحَقُ) الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) كان من حقه : وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه.

(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يحتمل وجهين : أن تكون «ما» استفهامية و«ذا» بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما. وأن تكون «ما» مع «ذا» اسما واحدا بمعنى : أي شيء ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال. والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال. و (مَثَلاً) نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً).

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جواب ماذا ، أي : إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان ، وأن الجعل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ ما
هُمْ) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :

قليل إذا عدّوا كثير إذا شدّوا وقال :

إنّ الكرام كثير في البلاد وإن

قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت. وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :

فواسقا عن قصدها جوائرا

والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث:

الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها.

الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.

الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولابس الكفر. وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحق وجحوده. جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال. وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزءوا به. وقرئ (يضل) بالبناء للمفعول و«الفاسقون» بالرفع.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق. والنقض : فسخ التركيب ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر ، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحا للمجاز ، وإن ذكر مع العهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في ثبات الوصلة بين المتعاهدين كقولك شجاع يفترس أقرانه وعالم يفترق منه الناس فإن فيه تنبيها على أنه أسد في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته. والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ، ويقال للدار ، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها. والتاريخ لأنه يحفظ ، وهذا العهد : إما العهد المأخوذ بالعقل ، وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله ، وعليه أوّل قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ). أو : المأخوذ بالرسل على الأمم ، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وإليه أشار بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ونظائره. وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه.

(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق


الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر. و (مِنْ) للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى ، كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم‌السلام ، والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير. أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، والأمر هو للقول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلو ، وقيل : مع الاستعلاء ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر ، فإنه مما يؤمر به كما قيل : له شأن وهو الطلب. والقصد يقال : شأنت شأنه ، إذا قصدت قصده. و (أَنْ يُوصَلَ) يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما ، أو ضميره. والثاني أحسن لفظا ومعنى.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية ، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتراء النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨)

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) استخبار فيه إنكار ، وتعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني ، فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده ، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر ، من (أتكفرون) وأوفق لما بعده من الحال ، والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال ، خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك ، والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون.

(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أي أجساما لا حياة لها ، عناصر وأغذية ، وأخلاطا ونطفا ، ومضغا مخلفة وغير مخلفة.

(فَأَحْياكُمْ) بخلق الأرواح ونفخها فيكم ، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي.

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند ما تقضي آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم. أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب ، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون. قلت : تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر ،. سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو : أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته. أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة ، ووعدهم على الإيمان ، وأوعدهم على الكفر ، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة ، واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة ، فإن عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم ، فإن قيل : كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ قلت : لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) ، كانت من النعم العظيمة


مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها ، كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل ، فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا. أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم ، وتبعيد الكفر عنهم على معنى ، كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتا جهالا ، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ، ثم يميتكم الموت المعروف ، ثم يحييكم الحياة الحقيقية ، ثم إليه ترجعون ، فيثيبكم بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. والحياة حقيقة في القوة الحساسة ، أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوة النامية ، لأنها من طلائعها ومقدماتها ، وفيما يخص الإنسان من الفضائل ، كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها ، والموت بإزائها يقال على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ). وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا ، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة. وقرأ يعقوب (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء في جميع القرآن.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم. ومعنى (لَكُمْ) لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد. وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو. وجميعا : حال من الموصول الثاني.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و (ثُمَ) لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر.

(فَسَوَّاهُنَ) عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور. وهن ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع. أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا.

(سَبْعَ سَماواتٍ) بدل أو تفسير. فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف.


(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليما ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعد ما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

واعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير. وأما الثانية والثالثة : فإنه عزوجل عالم بها وبمواقعها ، قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراعي فيه مصالحهم وسد حاجاتهم. وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته. وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٠)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته. وإذ : ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذا لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذ كان كذا ، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة. وعن معمر أنه مزيد. والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله. أو كالرسل إليهم. واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك. وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان. وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع.

والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن


كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال. وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في (الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه. ويجوز أن يكون بمعنى خالق. والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمة بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه‌السلام في الميقات ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك. أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا. وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم. أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشّر عزوجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك.

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر. والسّفك والسّبك والسّفح والشّنّ أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ «يسفك» على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى (مَنْ) ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم.

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) حال مقررة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم. والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم. على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر. وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة. ونظروا إليها مفردة وقالوا : ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد. وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف. ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا


تَعْلَمُونَ) والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار. و (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال ، أي : متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ، ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣١)

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاء في روعه ، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل. والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم. و (آدَمَ) اسم أعجمي كآزر وشالح ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة ، أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة والسلام «أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم» فلذلك يأتي بنوه أخيافا ، أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة ، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ، ويعقوب من العقب ، وإبليس من الإبلاس. والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا أو مفردا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما. واصطلاحا : في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. والمراد في الآية إما الأول أو الثاني وهو يستلزم الأول ، لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني ، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة ، مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، والمتخيلات والموهومات. وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ ، والمراد به ذوات الأشياء ، أو مدلولات الألفاظ ، وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء ، وقرئ «عرضهن» و«عرضها» على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها.

(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة ، والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال ، والإنباء : إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم ، أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم ، وهو وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم. والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار ، وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات.

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٣٢)

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتراف بالعجز والقصور ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا ، وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه ، وإظهار لشكر نعمته


بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم ، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه. وسبحان : مصدر كغفران ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله ، كمعاذ الله. وقد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قوله : سبحان من علقمة الفاخر. وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال ، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) وقال يونس : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) الذي لا يخفي عليه خافية. (الْحَكِيمُ) المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة. وأنت فصل ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت ، وإن لم يجز : مررت بأنت ، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، ولذلك جاز : يا هذا الرجل ، ولم يجز : يا الرجل ، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٣٣)

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي : أعلمهم ، وقرئ بقلب الهمزة ياء وحذفها بكسر الهاء فيهما.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) استحضار لقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه ، فإنه تعالى لما علم ما خفي عليهم من أمور السماوات والأرض ، وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون ، وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم ، وقيل : (ما تُبْدُونَ) قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها. وما (تَكْتُمُونَ) استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة ، وأنه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم. وقيل : ما أظهروا من الطاعة ، وأسر إبليس منهم من المعصية ، والهمزة للإنكار دخلت حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير.

واعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ، ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى ، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به ، وأن اللغات توقيفية ، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم ، وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها ، وذلك يستدعي سابقة وضع ، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم فيكون من الله سبحانه وتعالى ، وأن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم وإلا لتكرر قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وأن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٣٤)

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) امتحانا لهم وإظهارا لفضله. والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم. والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر :


ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر

وقال آخر :

وقلن له اسجد لليلى فاسجدا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه. وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف الناس بالقرآن والسّنن

أو في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ).

وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم. والكلام في أن المأمورين بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه. والإباء : امتناع باختيار. والتكبر : أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره. والاستكبار طلب ذلك بالتشبع.

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جوابا لقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). لا بترك الواجب وحده. والآية تدل على أن آدم عليه‌السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس. ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة ، وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به. والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما. وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ، كما أشار إليه بقوله عز وعلا : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار؟ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : «خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار» لأنه كالتمثيل لما ذكرنا ، فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما


يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره ، وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه‌الله تعالى.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(٣٥)

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) السكنى من السكون لأنها استقرار ولبث ، و (أَنْتَ) تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه ، وإنما لم يخاطبهما أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له. والجنة دار الثواب ، لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها. ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال إنه بستان كان بأرض فلسطين ، أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحانا لآدم ، وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً)(وَكُلا مِنْها رَغَداً) واسعا رافها ، صفة مصدر محذوف.

(حَيْثُ شِئْتُما) أي مكان من الجنة شئتما ، وسع الأمر عليهما إزاحة للعلة ، والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فيه مبالغات ، تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ، ووجوب الاجتناب عنه ، وتنبيها على أن القرب من الشيء يورث داعية ، وميلا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع ، كما روي «حبك الشيء يعمي ويصم» فينبغي أن لا يحوما حول ما حرم الله عليهما مخافة أن يقعا فيه ، وجعله سببا لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ، أو بنقص حظهما بالإتيان بما يخل بالكرامة والنعيم ، فإن الفاء تفيد السببية سواء جعلت للعطف على النهي أو الجواب له. والشجرة هي الحنطة ، أو الكرمة ، أو التينة ، أو شجرة من أكل منها أحدث ، والأولى أن لا تعين من غير قاطع كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود عليه. وقرئ بكسر الشين ، و«تقربا» بكسر التاء و«هذي» بالياء.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٣٦)

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها ، ونظير «عن» هذه في قوله تعالى (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما ، ويعضده قراءة حمزة «فأزالهما» وهما متقاربان في المعنى ، غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال ، وإزلاله قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ومقاسمته إياها بقوله : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما بذلك ، أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة ، وأنه كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). فقيل : إنه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وقيل : قام عند الباب فناداهما. وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة. وقيل : دخل في فم الحية


حتى دخلت به. وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الكرامة والنعيم.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) خطاب لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً). وجمع الضمير لأنهما أصلا الجنس فكأنهما الإنس كلهم. أو هما وإبليس أخرج منها ثانيا بعد ما كان يدخلها للوسوسة ، أو دخلها مسارقة أو من السماء.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال استغني فيها عن الواو بالضمير ، والمعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار ، أو استقرار.

(وَمَتاعٌ) تمتع. (إِلى حِينٍ) يريد به وقت الموت أو القيامة.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٣٧)

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرأ ابن كثير بنصب (آدَمُ) ورفع الكلمات على أنها استقبلته وبلغته وهي قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ، وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يا رب ألم تخلقني بيدك ، قال : بلى ، قال : يا رب ألم تنفخ في الروح من روحك ، قال : بلى ، قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك ، قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ، قال : بلى ، قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال : نعم. وأصل الكلمة : الكلم ، وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر كالكلام والجراحة والحركة.

(فَتابَ عَلَيْهِ) رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة ، وإنما رتبة بالفاء على تلقي الكلمات لتضمنه معنى التوبة : وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه. وأكتفي بذكر آدم لأن حواء كانت تبعا له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الرجاع على عباده بالمغفرة ، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة ، وأصل التوبة : الرجوع ، فإذا وصف بها العبد كان رجوعا عن المعصية ، وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.

(الرَّحِيمُ) المبالغ في الرحمة ، وفي الجمع بين الوصفين ، وعد للتائب بالإحسان مع العفو.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٨)

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) كرر للتأكيد ، أو لاختلاف المقصود فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون ، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف ، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك ، والتنبيه على أن مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى ، فكيف بالمقترن بهما ، ولكنه نسي ولم نجد له عزما ، وأن كل واحد منهما كفى به نكالا لمن أراد أن يذكر. وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى. و (جَمِيعاً) حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك : جاءوا جميعا (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ


يَحْزَنُونَ) الشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول ، وما مزيدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب ، والمعنى : إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال ، فمن تبعه منكم نجا وفاز ، وإنما جيء بحرف الشك ، وإتيان الهدى كائن لا محالة لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا ، وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول ، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل ، أي : فمن تبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلا عن أن يحل بهم مكروه ، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه ، فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه. وقرئ «هدى» على لغة هذيل و«لا خوف» بالفتح.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) عطف على (فَمَنْ تَبِعَ) إلى آخره قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبع بل كفروا بالله ، وكذبوا بآياته ، أو كفروا بالآيات جنانا ، وكذبوا بها لسانا فيكون الفعلان متوجهين إلى الجار والمجرور. والآية في الأصل العلامة الظاهرة ، ويقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل ، واشتقاقها من آي لأنها تبين آيا من أي أو من أوى إليه ، وأصلها أية أو أوية كتمرة ، فأبدلت عينها ألفا على غير قياس. أو أيية. أو أوية كرمكة فأعلت. أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا. والمراد (بِآياتِنا) الآيات المنزلة ، أو ما يعمها والمعقولة. وقد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجوه :

الأول : أن آدم صلوات الله عليه كان نبيا ، وارتكب المنهي عنه والمرتكب له عاص.

والثاني : أنه جعل بارتكابه من الظالمين والظالم ملعون لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

والثالث : أنه تعالى أسند إليه العصيان ، فقال (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة ، وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه.

والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله تعالى إياه بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) والخاسر من يكون ذا كبيرة.

والسادس : أنه لو لم يذنب لم يجر عليه ما جرى. والجواب من وجوه.

الأول : أنه لم يكن نبيا حينئذ ، والمدعي مطالب بالبيان.

والثاني : أن النهي للتنزيه ، وإنما سمي ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى له. وأما إسناد الغي والعصيان إليه ، فسيأتي الجواب عنه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإنما أمر بالتوبة تلافيا لما فات عنه ، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى ، ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه.

والثالث : أنه فعله ناسيا لقوله سبحانه وتعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان ، ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم كما قال عليه الصلاة والسلام «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل». أو أدى فعله إلى ما جرى عليه على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة على تناوله ، كتناول السم على الجاهل بشأنه. لا يقال إنه باطل لقوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما) ، و (قاسَمَهُما) الآيتين ، لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس ، فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا ، ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك ، وزال المانع فحمله الطبع عليه.


والرابع : أنه عليه‌السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، فإنه ظن أن النهي للتنزيه ، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتتناول من غيرها من نوعها وكان المراد بها الإشارة إلى النوع ، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام «أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : «هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها». وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده. وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية ، وأن التوبة مقبولة ، وأن متبع الهدى مأمون العاقبة ، وأن عذاب النار دائم ، وأن الكافر فيه مخلد ، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقبها تعداد النعم العامة تقريرا لها وتأكيدا ، فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ، ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها ، ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها ، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك ، تدل على أنه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء ، خاطب أهل العلم والكتاب منهم ، وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم ، ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه فقال :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٤٠)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أولاد يعقوب ، والابن من البناء لأنه مبني أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال : أبو الحرب ، وبنت الفكر. وإسرائيل لقب يعقوب عليه‌السلام ومعناه بالعبرية : صفوة الله ، وقيل : عبد الله وقرئ «إسرائل» بحذف الياء و«إسرال» بحذفهما و«إسراييل» بقلب الهمزة ياء.

(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ، وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر. وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ، ومن العفو عن اتخاذ العجل ، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرئ (اذْكُرُوا) والأصل اذتكروا. ونعمتي بإسكان الياء وقفا وإسقاطها درجا هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) بالإيمان والطاعة.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد ، ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقن الدم والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أوف بعهدكم في رفع الآصار والإغلال. وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب. أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم ، أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط. وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة ، أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة. وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله : (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). وقرئ «أوفّ» بالتشديد للمبالغة.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيما تأتون وتذرون وخصوصا في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك


نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول ، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. والرهبة : خوف مع تحرز. والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله تعالى.

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٤١)

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود ، وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش ، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها ، مراعى فيها صلاح من خوطب بها ، حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» ، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به ، بل يوجبه ولذلك عرض بقوله :

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به ، ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه. و (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) وقع خبرا عن ضمير الجمع بتقدير : أول فريق أو فوج ، أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به ، كقولك كسانا حلة فإن قيل كيف نهوا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركوا العرب؟ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل أو لا تكونوا أول كافر به. من أهل الكتاب ، أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه ، أو مثل من كفر من مشركي مكة. و (أَوَّلَ) : أفعل لا فعل له ، وقيل : أصله أو أل من وأل ، فأبدلت همزته واوا تخفيفا غير قياسي أو أأول من آل فقلبت همزته واوا وأدغمت.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا ، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان. قيل : كان لهم رئاسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم ، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختاروها عليه. وقيل : كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا. ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية ، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى ، ولأن الخطاب بها عم العالم والمقلد. أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم ، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤٢)

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) عطف على ما قبله. واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره ، والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما ، أو ولا تجعلوا الحق ملتبسا بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله ، أو تذكرونه في تأويله.

(وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) جزم داخل تحت حكم النهي كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ، ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه ، أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع بمعنى مع ، أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه ، وبعضده أنه في مصحف ابن مسعود «وتكتمون» أي وأنتم


تكتمون بمعنى كاتمين ، وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عالمين بأنكم لابسون كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل قد يعذر.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)(٤٣)

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة. أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها. و (الزَّكاةَ) من زكا الزرع ، إذا نما ، فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم. أو من الزكاة بمعنى : الطهارة ، فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي في جماعتهم ، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس ، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود. وقيل الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع ، قال الأضبط السعدي :

لا تذلّ الضّعيف علّك أن تر

كع يوما والدهر قد رفعه

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤٤)

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) تقرير مع توبيخ وتعجيب. والبر : التوسع في الخير ، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ، ولذلك قيل البر ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى ، وبر في مراعاة الأقارب. وبر في معاملة الأجانب.

(وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البر كالمنسيات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يتبعونه. وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون. (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) تبكيت كقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم فيصدكم عنه ، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته.

والعقل في الأصل الحبس ، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن ، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك. والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤٥)

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) متصل بما قبله ، كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك ، والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلا على الله ، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة ، وتصفية النفس. والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها ، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ، من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النية بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الحق ، وقراءة القرآن ، والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ويجوز أن يراد بها الدعاء :


(وَإِنَّها) : أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها ، لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر. أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها.

(لَكَبِيرَةٌ) لثقيلة شاقة كقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).

(إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي المخبتين ، والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة. والخضوع اللين والانقياد ، ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده ، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود «يعلمون» وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع ، قال أوس بن حجر :

فأرسلته مستيقن الظن أنّه

مخالط ما بين الشّراسيف جائف

وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها ، متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها ، ومن ثمة قال عليه الصلاة والسلام «وجعلت قرة عيني في الصلاة».

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(٤٧)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كرره للتأكيد وتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم خصوصا ، وربطه بالوعيد الشديد تخويفا لمن غفل عنها وأخل بحقوقها.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) عطف على نعمتي.

(عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم ، يريد به تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى عليه الصلاة والسلام وبعده ، قبل ان يضروا بما منحهم الله تعالى من العلم والإيمان والعمل الصالح ، وجعلهم أنبياء وملوكا مقسطين. واستدل به على تفضيل البشر على الملك وهو ضعيف.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤٨)

(وَاتَّقُوا يَوْماً) أي ما فيه من الحساب والعذاب.

(لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) لا تقضي عنها شيئا من الحقوق ، أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدر ، وقرئ لا «تجزئ» من أجزأ عنه إذا أغنى وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا ، وإيراده منكرا مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي والجملة صفة ليوما ، والعائد فيها محذوف تقديره لا تجزي فيه ، ومن لم يجوز حذف العائد المجرور قال : اتسع فيه فحذف عنه الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف من قوله : أم مال أصابوا.

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي من النفس الثانية العاصية ، أو من الأولى ، وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل ، فإنه إما أن يكون قهرا أو غيره ، والأول النصرة ، والثاني إما أن يكون مجانا أو غيره. والأول أن يشفع له والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه ، أو بغيره وهو أن يعطى عنه عدلا. والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضم نفسه إليه ، والعدل الفدية. وقيل : البدل وأصله التسوية سمي به الفدية لأنها سويت بالمفدى ، وقرأ ابن


كثير وأبو عمرو ولا تقبل بالتاء.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله ، والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفس من النفوس الكثيرة ، وتذكيره بمعنى العباد. أو الأناسي والنصر أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضر. وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ، ويؤيده أن الخطاب معهم ، والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٤٩)

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) تفصيل لما أجمله في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وعطف على (نِعْمَتِيَ) ، وقرئ «أنجيتكم». وأصل (آلِ) أهل لأن تصغيره أهيل ، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك. و (فِرْعَوْنَ) لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم. ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر ، وكان فرعون موسى ، مصعب بن ريان ، وقيل ابنه وليد من بقايا عاد. وفرعون يوسف عليه‌السلام ، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة.

(يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم ، من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء.

(سُوءَ الْعَذابِ) أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره ، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم ، والجملة حال من الضمير في نجيناكم ، أو من (آلِ فِرْعَوْنَ) ، أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل واحد منهما.

(يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف ، وقرئ «يذبحون» بالتخفيف. وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام ، أو قال له الكهنة : سيولد منهم من يذهب بملكه ، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئا.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) محنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم ، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وأصله الاختبار لكن لما كان اختبار الله تعالى عباده تارة بالمنحة أطلق عليهما ، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما.

(مِنْ رَبِّكُمْ) بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى عليه‌السلام وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما. (عَظِيمٌ) صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر اختبار من الله تعالى ، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٠)

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه. أو بسبب إنجائكم ، أو ملتبسا بكم كقوله :

تدوس بنا الجماجم والتّريبا

وقرئ «فرّقنا» على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط.

(فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أراد به فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ،


وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد : أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك ، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضا. روي أنه تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده ، وصادفوهم على شاطئ البحر ، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين.

واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ونحو ذلك ، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه المشاهدة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دقيقة تدركها الأذكياء ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٥١)

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (واعَدْنا) لأنه تعالى وعده الوحي. ووعده موسى عليه‌السلام المجيء للميقات إلى الطور.

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها أو معبودا.

(مِنْ بَعْدِهِ) من بعد موسى عليه‌السلام ، أو مضيّه.

(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) حين تبتم ، والعفو محو الجريمة ، من عفا إذا درس. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي الاتخاذ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا عفوه.

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا منزلا وحجة تفرق بين الحق والباطل. وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى ، أو بين الكفر والإيمان. وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يريد به يوم بدر.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا


أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم برآء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم برئ المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها. وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا. وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة. روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا. والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه‌السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم. وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٥)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لأجل قولك ، أو لن نقر لك.

(حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) عيانا وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة ، استعيرت للمعاينة ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، أو الحال من الفاعل ، أو المفعول. وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة ، أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالا من الفاعل قطعا ، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه‌السلام للميقات. وقيل عشرة آلاف من قومه. والمؤمن به : إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك ، أو إنك نبي.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل ، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي ، وهي محال ، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية ، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا. قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم. وقيل صيحة. وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ما أصابكم بنفسه أو أثره.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بسبب الصاعقة ، وقيد للبعث لأنه قد يكون عن إغماء ، أو نوم كقوله


تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ).

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث ، أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) الترنجبين والسماني. قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) على إرادة القول.

(وَما ظَلَمُونا) فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)(٥٨)

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) يعني بيت المقدس ، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه.

(فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) واسعا ، ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو.

(وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية ، أو القبة التي كانوا يصلون إليها ، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام.

(سُجَّداً) متطامنين مخبتين ، أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي مسألتنا ، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة ، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، أو على أنه مفعول (قُولُوا) أي قولوا هذه الكلمة. وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول. وخطايا أصله خطايىء كخطائع ، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء. وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا ، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن ، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاما بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله ، فكيف إذا فعله ، وأنه تعالى يفعل لا محالة.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩)

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه ، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.


(رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم ، والرجز في الأصل : ما يعاف عنه ، وكذلك الرجس. وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون. روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفا.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) لما عطشوا في التيه.

(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرا طوريا. مكعبا حمله معه ، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، تسيل كل عين في جدول إلى سبط ، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، أو حجرا أهبطه آدم من الجنة ، ووقع إلى شعيب عليه‌السلام فأعطاه لموسى مع العصا ، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة ، فأشار إليه جبريل عليه‌السلام بحمله ، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة. قيل لم يأمره بأن يضرب حجرا بعينه ، ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟ حمل حجرا في مخلاته ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس ، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون. وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعا في ذراع ، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه‌السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة.

(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت ، أو فضرب فانفجرت ، كما مر في قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ). وقرئ «عشرة» بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه.

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط. (مَشْرَبَهُمْ) عينهم التي يشربون منها. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) على تقدير القول :

(مِنْ رِزْقِ اللهِ) يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون. وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تعتدوا حال إفسادكم ، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد ، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر عليه‌السلام الغلام وخرقه السفينة ، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا ، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه ، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه. (فَادْعُ لَنا


رَبَّكَ) سله لنا بدعائك إياه (يُخْرِجْ لَنا) يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض. (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ «قثّائها» بالضم ، وهو لغة فيه. (قالَ) أي الله ، أو موسى عليه‌السلام. (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أقرب منزلة وأدون قدرا. وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ «أدنأ» من الدناءة. (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. (اهْبِطُوا مِصْراً) انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود. وقيل أصله مصرائيم فعرب. (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة. واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة. (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر. أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل ، والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي: جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين. فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها. وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى. وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للاختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة (وَالَّذِينَ هادُوا) تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه‌السلام (وَالنَّصارى) جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها. (وَالصَّابِئِينَ) قوم بين النصارى والمجوس. وقيل أصل دينهم دين نوح


عليه‌السلام. وقيل هم عبدة الملائكة. وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج. وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء ، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ. مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه. وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ، ودخل في الإسلام دخولا صادقا : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب. و (مَنْ) مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) باتباع موسى والعمل بالتوراة. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حتى أعطيتم الميثاق ، روي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر جبريل عليه‌السلام فقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا. (خُذُوا) على إرادة القول : (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ادرسوه ولا تنسوه ، أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب ، أو اعملوا به. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تكونوا متقين. ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف ، أي : قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه. (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة ، أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه. (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) المغبونين بالانهماك في المعاصي ، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل. ولو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فإذا دخل على لا أفاد إثباتا وهو امتناع الشيء لثبوت غيره ، والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسده ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) اللام موطئة لقسم ، والسبت مصدر قولك سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت ، وأصله القطع أمروا بأن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه‌السلام ، واشتغلوا بالصيد ، وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على ساحل يقال لها أيلة ، وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) جامعين بين صورة القردة والخسوء : وهو الصغار والطرد ، وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم ، فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) وقوله : (كُونُوا) ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه ، وإنما المراد به سرعة التكوين ، وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم ، وقرئ «قردة» بفتح القاف وكسر الراء ، و«خاسين» بغير همزة.


(فَجَعَلْناها) أي المسخة ، أو العقوبة. (نَكالاً) عبرة تنكل المعتبر بها ، أي تمنعه. ومنه النكل للقيد. (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين ، واشتهرت قصتهم في الآخرين ، أو لمعاصريهم ومن بعدهم ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) من قومهم ، أو لكل متق سمعها.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٦٧)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أول هذه القصة قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال. وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه ، وطرحوه على باب المدينة ، ثم جاءوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله. (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي مكان هزؤ ، أو أهله ومهزوءا بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعادا لما قاله واستخفافا به ، وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع بالسكون ، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الهزء في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان ، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ)(٦٨)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما حالها وصفتها ، وكان حقهم أن يقولوا : أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ لأن (ما) يسأل به عن الجنس غالبا ، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه ، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله. (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) لا مسنة ولا فتية ، يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض وهو القطع ، كأنها فرضت سنها ، وتركيب البكر للأولية ومن البكرة والباكورة.

(عَوانٌ) نصف. قال شعر : نواعم بين أبكار وعون.

(بَيْنَ ذلِكَ) أي بين ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين ، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد ، وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة ، ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ، ويلزمه النسخ قبل الفعل ، فإن التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص والحق جوازهما ، ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام «لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم». وتقريعهم بالتمادي وزجرهم على المراجعة بقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي ما تؤمرونه ، بمعنى تؤمرون به من قولهم : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ، أو أمركم بمعنى مأموركم.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (٦٩)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) الفقوع نصوع الصفرة


ولذلك تؤكد به ، فيقال : أصفر فاقع كما يقال أسود حالك ، وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد كأنه قيل ؛ صفراء شديدة الصفرة صفرتها ، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ، وبه فسر قوله تعالى: (جِمالَتٌ صُفْرٌ). قال الأعشى :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هن صفر أولادها كالزّبيب

ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته ، أو لأن سواد الإبل تعلوه صفرة وفيه نظر ، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجبهم ، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع ، أو توقعه من السر.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ)(٧٠)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تكرير للسؤال الأول واستكشاف زائد. وقوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) اعتذار عنه ، أي إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا ، وقرئ «إن الباقر» وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر ، ويتشابه وتتشابه بالياء والتاء ، وتشابه ويشابه وتشّابه بطرح التاء وإدغامها في الشين على التذكير والتأنيث ، وتشابهت وتشّابهت مخففا ومشددا ، وتشبّه بمعنى تتشبّه وتشبّه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبّه ومتشبّهة. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى المراد ذبحها ، أو إلى القاتل ، وفي الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد». واحتج به أصحابنا على أن الحوادث بإرادة الله سبحانه وتعالى ، وأن الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة ، وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٧١)

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث ، و (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، وقرئ «لا ذلول» بالفتح أي حيث هي ، كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان ، أي حيث هو ، وتسقي من أسقى. (مُسَلَّمَةٌ) سلمها الله تعالى من العيوب ، أو أهلها من العمل ، أو أخلص لونها ، من سلم له كذا إذا خلص له (لا شِيَةَ فِيها) لا لون فيها يخالف لون جلدها ، وهي في الأصل مصدر ، وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا ، وقرئ «آلأن» بالمد على الاستفهام ، و«لان» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام. (فَذَبَحُوها) فيه اختصار ، والتقدير : فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها. (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل ، أو لغلاء ثمنها. إذ روي : أن شيخا صالحا منهم كان له عجلة ، فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات ، فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير. وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولا ، فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقا. وقيل ماضيا ، والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قوله (فَذَبَحُوها) لاختلاف وقتيهما ، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم ، وانقطعت تعللاتهم ، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ


الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خطابا للجميع لوجود القتل فيهم (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) اختصمتم في شأنها ، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا ، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه ، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مظهره لا محالة ، وأعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) لأنه حكاية حال ماضية.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض ، والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل (بِبَعْضِها) أي بعض كان ، وقيل : بأصغريها ، وقيل بلسانها ، وقيل بفخذها اليمنى ، وقيل بالأذن ، وقيل بالعجب (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي ، والخطاب مع من حضر حياة القتيل ، أو نزول الآية (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله على كمال قدرته. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها ، أو تعملوا على قضيته. ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب ، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد ، وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ، والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار. وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى ، والأسباب أمارات لا إثر لها ، وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي ، فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبا ، ولم يلحقها ضعف الكبر ، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا ، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه ، فتحيا حياة طيبا ، وتعرب عما به ينكشف الحال ، ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر. وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم لاستبعاد القسوة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في قسوتها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة ، وإنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و (أَوْ) للتخيير ، أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها.

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى. والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ (إِنَ) على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده ، والباقون بالتاء.


(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

(أَفَتَطْمَعُونَ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم. يعني اليهود. (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) يعني التوراة. (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون. وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه‌السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا. (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني منافقيهم. (قالُوا آمَنَّا) بأنكم على الحق ، وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق. (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهارا للتصلب في اليهودية ، ومنعا لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم ، فينافقون الفريقين. فالاستفهام على الأول تقريع وعلى الثاني إنكار ونهي (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده كما يقال عند الله كذا ، ويراد به أنه جاء في كتابه وحكمه ، وقيل عند ذكر ربكم ، أو بين يدي رسول ربكم. وقيل عند ربكم في القيامة وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إما من تمام كلام اللائمين وتقديره : أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم ، أو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) ، والمعنى : أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ) يعني هؤلاء المنافقين ، أو اللائمين ، أو كليهما ، أو إياهم والمحرفين. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ومن جملتهما إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، وإخفاء ما فتح الله عليهم ، وإظهار غيره ، وتحريف الكلم عن مواضعه ومعانيه.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها. أو التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) استثناء منقطع. والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة. سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل إلا ما يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

تمني داود الزبور على رسل


وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة.

(فَوَيْلٌ) أي تحسر وهلك. ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه : أن فيها موضعا يتبوأ فيه من جعل له الويل ، ولعله سماه بذلك مجازا. وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء. (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) يعني المحرفين ، ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة. (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد كقولك : كتبته بيميني (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كي يحصلوا به عرضا من أعراض الدنيا ، فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم. (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني المحرف. (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) يريد به الرشى.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٠)

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) المس اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به ، واللمس كالطلب له ولذلك يقال ألمسه فلا أجده. (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) محصورة قليلة ، روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما ، وبعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) خبرا أو وعد بما تزعمون. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال. والباقون بإدغامه (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ، وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال.

(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن ، على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما ، أو منقطعة بمعنى : بل أتقولون ، على التقرير والتقريع.

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

(بَلى) إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم ، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم ، وتختص بجواب النفي (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) قبيحة ، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات ، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ ، والكسب : استجلاب النفع. وتعليقه بالسيئة على طريق قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي استولت عليه ، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه ، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به ، ولذلك فسرها السلف بالكفر. وتحقيق ذلك : أن من أذنب ذنبا ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه ، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي ، مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها ، مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها ، كما قال الله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ). وقرأ نافع خطيئاته. وقرئ «خطيته» و«خطياته» على القلب والإدغام فيهما. (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون ، أو لابثون لبثا طويلا. والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها.


(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده ، لترجى رحمته ويخشى عذابه ، وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة : «لا تعبدوا». وعطف (قُولُوا) عليه فيكون على إرادة القول. وقيل : تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله :

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ويدل عليه قراءة : «ألا تعبدوا» ، فيكون بدلا عن الميثاق ، أو معمولا له بحذف الجار. وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال : وحلفناهم لا يعبدون. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به ، والباقون بالياء لأنهم غيب (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تعلق بمضمر تقديره : وتحسنون ، أو أحسنوا (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين. (وَالْيَتامى) جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل. ومسكين مفعيل من السكون ، كأن الفقر أسكنه (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولا حسنا ، وسماه (حُسْناً) للمبالغة. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حُسْناً) بفتحتين. وقرئ «حسنا» بضمتين وهو لغة أهل الحجاز ، وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على طريقة الالتفات ، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبلهم على التغليب ، أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ، ومن أسلم منهم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة. وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٨٤)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء عن الوطن. وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه ، لاتصاله به نسبا. أو دينا ، أو لأنه يوجبه قصاصا. وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم ، فإنه الجلاء الحقيقي (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) توكيد كقولك.

أقر فلان شاهدا على نفسه. وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم ، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ


وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه. وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون ، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا ، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات ، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا. وقوله تعالى : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) إما حال والعامل فيها معنى الإشارة ، أو بيان لهذه الجملة. وقيل : هؤلاء تأكيد ، والخبر هو الجملة. وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر ، وقرئ «تقتّلون» على التكثير. (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) حال من فاعل تخرجون ، أو من مفعوله ، أو كليهما. والتظاهر التعاون من الظهر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين. وقرئ بإظهارها ، وتظهرون بمعنى تتظهرون (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. وقيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). وقرأ حمزة أسرى وهو جمع أسير كجريح وجرحى ، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى. وقيل هو أيضا جمع أسير ، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر «تفدوهم» (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) متعلق بقوله (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) ، وما بينهما اعتراض ، والضمير للشأن ، أو مبهم ويفسره إخراجهم ، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر. وإخراجهم بدل أو بيان (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) يعني الفداء.

(وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) يعني حرمة المقاتلة والإجلاء. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كقتل قريظة وسبيهم. وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية على غيرهم. وأصل الخزي ذل يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كل منهما. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) لأن عصيانهم أشد. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تأكيد للوعيد ، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم. وقرأ عاصم في رواية المفضل ، «تردون» على الخطاب لقوله (مِنْكُمْ). وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وخلف ويعقوب «يعملون» على أن الضمير لمن.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) بنقض الجزية في الدنيا ، والتعذيب في الآخرة. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بدفعهما عنهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أرسلنا على أثره الرسل ، كقوله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا). يقال قفاه إذا تبعه ، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا ، نحو ذنبه من الذنب (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، والإخبار بالمغيبات. أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرية أبشوع. ومريم بمعنى الخادم ، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال ، قال رؤبة : قلت لزير لم تصله مريمه. ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل (وَأَيَّدْناهُ) وقويناه ،


وقرئ «آيدناه» بالمد (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق ، وأراد به جبريل. وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو الإنجيل ، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ، وقرأ ابن كثير (الْقُدُسِ) بالإسكان في جميع القرآن (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) بما لا تحبه. يقال هوي بالكسر هوى إذا أحب وهوى بالفتح هويا بالضم إذا سقط. ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا من شأنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر ، (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان واتباع الرسل. (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهما‌السلام ، والفاء للسببية أو للتفصيل (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس ، فإن الأمر فظيع. أو مراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لولا أني أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف ، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته ، ولا تعي ما تقول. أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره. (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) رد لما قالوه ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه ، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، أو هم كفرة ملعونون ، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك؟ (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فإيمانا قليلا يؤمنون ، وما مزيده للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب. وقيل : أراد بالقلة العدم.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من كتابهم ، وقرئ بالنصب على الحال من كتاب لتخصصه بالوصف ، وجواب لما ، محذوف دل عليه جواب لما الثانية. (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يستنصرون على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت ، في التوراة. أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم ، وقد قرب زمانه ، والسين للمبالغة والإشعار أن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق. (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على الرياسة. (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي عليهم ، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم ، فتكون اللام للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيهم.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن ، واشتروا صفته ومعناه باعوا ، أو اشتروا بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو المخصوص بالذم (بَغْياً) طلبا لما ليس لهم وحسدا ، وهو علة (أَنْ يَكْفُرُوا) دون (اشْتَرَوْا)


للفصل. (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) لأن ينزل ، أي حسدوه على أن ينزل الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب بالتخفيف. (مِنْ فَضْلِهِ) يعني الوحي. (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على من اختاره للرسالة (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق. وقيل : لكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عيسى عليه‌السلام ، أو بعد قولهم عزير ابن الله (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يراد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعم الكتب المنزلة بأسرها. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي بالتوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) حال من الضمير في قالوا ، ووراء في الأصل جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد. (وَهُوَ الْحَقُ) الضمير لما وراءه ، والمراد به القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم ، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغه ، وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم ، وأنهم راضون به عازمون عليه. وقرأ نافع وحده (أَنْبِياءَ اللهِ) مهموزا في جميع القرآن.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ)(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي إلها (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد مجيء موسى ، أو ذهابه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال ، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله تعالى ، أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم. ومساق الآية أيضا لإبطال قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام ، لا لتكرير القصة وكذا ما بعدها.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩٣)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة. (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن. وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقرير للقدح. في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين.


(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٩٥)

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) خاصة بكم كما قلتم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) ونصبها على الحال من الدار. (مِنْ دُونِ النَّاسِ) سائرهم ، واللام للجنس ، أو المسلمين واللام للعهد (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها ، وأحب التخلص إليها من الدار ذات الشوائب ، كما قال على رضي الله تعالى عنه : (لا أبالي سقطت على الموت ، أو سقط الموت علي). وقال عمار رضي الله تعالى عنه بصفين : (الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه). وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر : (جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم) أي : على التمني ، سيما إذا علم أنها سالمة له لا يشاركه فيها غيره.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موجبات النار ، كالكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن ، وتحريف التوراة. ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان ، آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه ، عبر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى ، وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر ، لأنهم لو تمنوا لنقل واشتهر ، فإن التمني ليس من عمل القلب ليخفى ، بل هو أن يقول : ليت لي كذا ، ولو كان بالقلب لقالوا : تمنينا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهودي» (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) من وجد بعقله الجاري مجرى علم ، ومفعولاه هم وأحرص الناس ، وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة ، وقرئ باللام. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا. وإفراده بالذكر للمبالغة ، فإن حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة ، والزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنهم لما زاد حرصهم. وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين. دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ، ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة الأول عليه ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) حكاية لودادتهم ، ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر ، فأجرى على الغيبة لقوله : يود ، كقولك حلف بالله ليفعلن (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) الضمير لأحدهم ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره ، أو لما دل عليه يعمر. وأن يعمر بدل منه. أو مبهم ، وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات. وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، والزحزحة التبعيد (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٩٧)

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) نزل في عبد الله بن صوريا ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن ينزل عليه بالوحي؟


فقال : جبريل ، فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا ، وأشدّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل. وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه؟. وقيل : دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما ، فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام ، فقال : وما منزلتهما من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة ، فقال ؛ لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدو أحدهما فهو عدو الله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام «لقد وافقك ربك يا عمر». وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في : المشهور جبرئل كسلسبيل قراءة حمزة والكسائي ، و«جبريل» بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير ، و«جبرئل» كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر ، و«جبريل» كقنديل قراءة الباقين. وأربع في الشواذ : جبرئل و«جبرائيل» كجبراعيل ، و«جبريل» وجبرين ومنع صرفه للعجمة ، والتعريف ، ومعناه عبد الله. (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) البارز الأول لجبريل ، والثاني للقرآن ، وإضماره غير مذكور يدل على فخامة شأنه كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره. (عَلى قَلْبِكَ) فإنه القابل الأول للوحي ، ومحل الفهم والحفظ ، وكان حقه على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال : قل ما تكلمت به. (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره ، أو تيسيره حال من فاعله نزله. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أحوال من مفعوله ، والظاهر أن جواب الشرط (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) ، والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقه الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي ، لأنه نزول كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزله عليك. وقيل محذوف مثل : فليمت غيظا ، أو فهو عدو لي وأنا عدو له.

كما قال :

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٩٨)

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أراد بعداوة الله مخالفته عنادا ، أو معاداة المقربين من عباده ، وصدر الكلام بذكره تفخيما لشأنهم كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). وأفرد الملكين بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر ، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وأن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر. وقرأ نافع (مِيكالَ) كميكاعل ، وأبو عمرو ويعقوب وعاصم برواية حفص (مِيكالَ) كميعاد ، والباقون (مِيكالَ) بالهمزة والياء بعدها. وقرئ «ميكئل» كميكعل ، و«ميكئيل» كميكعيل ، وميكايل.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠٠)

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي المتمردون من الكفرة ، والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كأنه متجاوز عن حده. نزل في ابن صوريا حين قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية فنتبعك.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا ، وقرئ بسكون الواو على أن التقدير إلا الذين فسقوا ، (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) ، وقرئ «عوهدوا» و


«عهدوا». (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) نقضه ، وأصل النبذ الطرح ، لكنه يغلب فيما ينسى ، وإنما قال فريق لأن بعضهم لم ينقض (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) رد لما يتوهم من أن الفريق هم الأقلون ، أو أن من لم ينبذ جهارا فهم مؤمنون به خفاء.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ) يعني التوراة ، لأن كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات. وقيل ما مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القرآن.

(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لإعراضهم عنه رأسا ، بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه. (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عنادا. واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا ، وهم المعنيون بقوله : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون. وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال ، بغيا وعنادا وهم المتجاهلون.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على نبذ ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها ، أو تتبعها الشياطين من الجن ، أو الإنس ، أو منهما. (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي عهده ، وتتلو حكاية حال ماضية ، قيل : كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس ، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه‌السلام حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب ، وأن ملك سليمان تمّ بهذا العلم ، وأنه تسخّر به الجن والإنس والريح له. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تكذيب لمن زعم ذلك ، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما منه. (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعماله ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي و«لكن» بالتخفيف ، ورفع (الشَّياطِينُ). (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواء وإضلالا ، والجملة حال من الضمير ، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس. فإن التناسب شرط في التضام والتعاون ، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا عمل التجوز ، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار ، أو المراد به نوع أقوى منه ، أو على ما تتلو. وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس ، وتمييزا بينه وبين المعجزة. وما روي أنهما مثلا بشرين ، وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها : زهرة ،


فحملتهما على المعاصي والشرك ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفي على ذوي البصائر. وقيل : رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده قراءة «الملكين» بالكسر. وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة. (بِبابِلَ) ظرف ، أو حال من الملكين ، أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة. «هاروت وماروت» عطف بيان للملكين ، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ، ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا. ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض ، وما بينهما اعتراض. وقرئ بالرفع على هما «هاروت وماروت». (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فمعناه على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به. وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور ، وإنما المنع من اتباعه والعمل به. وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا. (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) الضمير لما دل عليه من أحد. (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات ، بل بأمره تعالى وجعله. قرئ «بضاري» على الإضافة إلى أحد ، وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف. (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنهم يقصدون به العمل ، أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين. وفيه أن التحرز عنه أولى (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي اليهود. (لَمَنِ اشْتَراهُ) أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى ، والأظهر أن اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يحتمل المعنيين على ما مر. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يتفكرون فيه ، أو يعلمون قبحه على التعيين ، أو حقية ما يتبعه من العذاب ، والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل ، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بالرسول والكتاب. (وَاتَّقَوْا) بترك المعاصي ، كنبذ كتاب الله واتباع السحر (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) جواب لو ، وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية لتدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وتنكير المثوبة لأن المعنى لشيء من الثواب خير ، وقيل : لو للتمني ، و«لمثوبة» كلام مبتدأ. وقرئ «لمثوبة» كمشورة ، وإنما سمي الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير مما هم فيه ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك التدبر ، أو العمل بالعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) الرعي حفظ الغير لمصلحته ، وكان المسلمون يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام راعنا أي راقبنا وتأن بنا فيما تلقننا حتى نفهمه ، وسمع اليهود فافترصوه وخاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن ، أو سبه بالكلمة العبرانية التي كانوا يتسابون بها وهي راعينا ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ولا يقبل التلبيس ، وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا. أو انتظرنا من نظره إذا انتظره. وقرئ «أنظرنا» من الإنظار أي أمهلنا لنحفظ. وقرئ «راعونا» على لفظ الجمع للتوقير ، وراعنا بالتنوين أي قولا ذا رعن نسبة إلى الرعن وهو الهوج ، لما شابه قولهم راعينا وتسبب للسب. (وَاسْمَعُوا) وأحسنوا


الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه‌السلام وسبوه.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير. والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي. والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشعار بأن النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ. ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب.

ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا. وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية. وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة. وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» أي نؤخرها من النسء. وقرئ «ننسها» أي ننس أحدا إياها ، و«ننسها» أي أنت ، و«تنسها» على البناء للمفعول ، و«ننسكها» بإضمار المفعولين (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب. وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه. والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره. واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل. ونسخ الكتاب بالسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح. والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ. والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه. وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو وأمته ، لقوله : (وَما لَكُمْ) وإنما أفرده لأنه أعلمهم ، ومبدأ علمهم. (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو كالدليل على قوله: (أَنَّ اللهَ


عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أو على جواز النسخ ولذلك ترك العاطف. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم ، والفرق بين الولي والنصير. أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أم معادلة للهمزة في (أَلَمْ تَعْلَمْ) أي: ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد ، أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه‌السلام. أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه. قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل الله عليهم كتابا من السماء. وقيل : في المشركين لما قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ)(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ومن ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها ، فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان. ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ، ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان. وقرئ «يبدل» من أبدل.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني أحبارهم. (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أن يردوكم ، فإن لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ : (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين (حَسَداً) علة ود. (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يتعلق بود ، أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق. أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة. (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ، وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الانتقام منهم.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر والمخالفة واللجأ إلى الله تعالى بالعبادة والبر (وَما «تُقَدِّمُوا» لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة وصدقة. وقرئ «تقدموا» من أقدم (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي ثوابه.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يضيع عنده عمل. وقرئ بالياء فيكون وعيدا.

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)


(وَقالُوا) عطف على (وَدَّ) ، والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) لف بين قولي الفريقين كما في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ثقة بفهم السامع ، وهود جمع هائد كعوذ وعائذ ، وتوحيد الاسم المضمر في كان ، وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) إشارة إلى الأماني المذكورة ، وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ، أو إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، والجملة اعتراض والأمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة والأعجوبة. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على اختصاصكم بدخول الجنة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت.

(بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص له نفسه ، أو قصده ، وأصله العضو (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي وعد له على عمله (عِنْدَ رَبِّهِ) ثابتا عن ربه لا يضيع ولا ينقص ، والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة. والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله : بلى وحده ، ويحسن الوقف عليه. ويجوز أن يكون من أسلم فاعل فعل مقدر مثل بلى يدخلها من أسلم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون) في الآخرة.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) أي على أمر يصح ويعتد به. نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال ، والكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب. (كَذلِكَ) مثل ذلك (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) كعبدة الأصنام ، والمعطلة. وبخهم على المكابرة والتشبه بالجهال. فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا ، فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء؟. قلت : لم يقصدوا ذلك ، وإنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله ، والكفر بنبيه وكتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به (فَاللهُ يَحْكُمُ) يفصل (بَيْنَهُمْ) بين الفريقين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب. وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) عام لكل من خرب مسجدا ، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة. وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله. أو في المشركين لما منعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ثاني مفعولي منع (وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم ، أو التعطيل (أُولئِكَ) أي المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها ، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن يمنعوهم منها ، أو ما كان لهم في علم الله وقضائه ، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز وعده. وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في المسجد ، واختلف الأئمة فيه فجوز أبو حنيفة ومنع مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قتل وسبي ، أو ذلة بضرب الجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) بكفرهم وظلمهم.


(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يريد بهما ناحيتي الأرض ، أي له الأرض كلها لا يختص به مكان ، دون مكان ، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا. (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان. أو (فَثَمَ) ذاته : أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) بإحاطته بالأشياء. أو برحمته يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنها أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة : وقيل : في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم ، وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك. وقيل ؛ هي توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(١١٦)

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) نزلت لما قال اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، والنصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله ، وعطفه على قالت اليهود ، أو منع ، أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم. وقرأ ابن عامر بغير واو (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك ، فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، ألا ترى أن الأجرام الفلكية. مع إمكانها وفنائها. لما كانت باقية ما دام العالم ، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والنبات ، اختيارا أو طبعا. (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد لما قالوه ، واستدلال على فساده ، والمعنى أنه تعالى خالق ما في السموات والأرض ، الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد ، لأن من حق الولد أن يجانس والده ، وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم ، وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم ، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما فيهما. ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون مقرون بالعبودية ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة ، والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ، واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه ، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما ، ونظيره السميع في قوله :

أمن ريحانة الداعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع

أو بديع سماواته وأرضه ، من بدع فهو بديع ، وهو حجة رابعة. وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه ، والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها ، فاعل على الإطلاق ، منزه عن الانفعال ، فلا يكون والدا. والإبداع : اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة ، وهو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو : تركيب الصور لا بالعنصر ، والتكوين الذي يكون بتغيير وفي زمان غالبا. وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له. وبديع منصوبا على المدح.

(وَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا ، وأصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) ، أو فعلا كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث ، وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ، بل


تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وفيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى مستغن عن ذلك. وقرأ ابن عامر «فيكون» بفتح النون. واعلم أن السبب في هذه الضلالة ، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفّر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي جهلة المشركين ، أو المتجاهلون من أهل الكتاب. (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة ، أو يوحي إلينا بأنك رسوله. (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجة على صدقك ، والأول استكبار والثاني جحود ، لأن ما أتاهم آيات الله استهانة به وعنادا ، (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد. وقرئ بتشديد الشين. (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين ، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين ، وإنما قالوه عتوا وعنادا.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) متلبسا مؤيدا به. (بَشِيراً وَنَذِيراً) فلا عليك إن أصروا وكابروا. (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. وقرأ نافع ويعقوب : (لا تُسْئَلُ) ، على أنه نهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه. أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها ، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. والجحيم : المتأجج من النار.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مبالغة في إقناط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إسلامهم ، فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، فكيف يتبعون ملته. ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله عنهم ولذلك قال : (قُلْ) تعليما للجواب. (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق ، لا ما تدعون إليه. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) آراءهم الزائفة. والملة ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ، من أمللت الكتاب إذا أمليته ، والهوى : رأي يتبع الشهوة (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي ، أو الدين المعلوم صحته. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه وهو جواب لئن.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٢١)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد به مؤمني أهل الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا


أهل الكتاب (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بكتابهم دون المحرفين. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والكفر بما يصدقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر من إضاعتها ، والخوف من الساعة وأهوالها ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح ، وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) كلفه بأوامر ونواه ، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء ، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما ، والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدمه لفظا وإن تأخر رتبة ، لأن الشرط أحد المتقدمين ، والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) إلى آخر الآية ، وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) كما فسرت بها في قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وبالعشر التي هي من سننه ، وبمناسك الحج ؛ وبالكواكب ، والقمرين ، والختان ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة. على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها. وقرئ «إبراهيم ربه» على أنه دعا ربه بكلمات مثل (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). و (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ليرى هل يجيبه. وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة. (فَأَتَمَّهُنَ) فأداهن كملا وقام بهن حق القيام ، لقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه ، أي أعطاه جميع ما دعاه. (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن ، فأجيب بذلك. أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام. وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها ، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه. (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف أي وبعض ذريتي ، كما تقول : وزيدا ، في جواب : سأكرمك ، والذرية نسل الرجل ، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت. من الذر بمعنى التفريق ، أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق. وقرئ «ذريتي» بالكسر وهي لغة. (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة ، وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم. وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة. وقرئ «الظالمون» والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا. (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مرجعا يثوب إليه أعيان


الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره. وقرئ : «مثابات» أي لأنه مثابة كل أحد. (وَأَمْناً) وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : (حَرَماً آمِناً). ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله ، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملا لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ، أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم. روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : «هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت» وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ، لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين وقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وللشافعي رحمه‌الله تعالى في وجوبهما قولان. وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله. وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعي فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى. وقرأ نافع وابن عامر (وَاتَّخِذُوا) بلفظ الماضي عطفا على (جَعَلْنَا) ، أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما. (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) بأن طهرا بيتي ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه. (لِلطَّائِفِينَ) حوله. (وَالْعاكِفِينَ) المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). أي المصلين ، جمع راكع وساجد.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) يريد به البلد ، أو المكان. (بَلَداً آمِناً) ذا أمن كقوله تعالى ؛ (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أو آمنا أهله كقولك : ليل نائم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أبدل من (مَنْ آمَنَ أَهْلَهُ) بدل البعض للتخصيص (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (آمَنَ) والمعنى وارزق من كفر ، قاس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الإمامة ، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة والتقدم في الدين. أو مبتدأ متضمن معنى الشرط (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) خبره ، والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله ، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ، ولذلك عطف عليه (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم ، وقليلا نصب على المصدر ، أو الظرف. وقرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم وفي قال ضميره. وقرأ ابن عامر (فَأُمَتِّعُهُ) من أمتع. وقرئ «فنمتعه» ثم نضطره ، و«اضطره» بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة ، و«أطره» بإدغام الضاد وهو ضعيف لأن حروف (ضم شفر) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف ، وهو العذاب.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٢٧)

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) حكاية حال ماضية ، و (الْقَواعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع


فوقه ويرفعها بناؤها. وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجه. وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها. (وَإِسْماعِيلُ) كان يناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه. وقيل: كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما. (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعاتنا (الْعَلِيمُ) بنياتنا.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) مخلصين لك ، من أسلم وجهه ، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد ، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ، أو الثبات عليه. وقرئ «مسلمين» على أن المراد أنفسهما وهاجر. أو أن التثنية من مراتب الجمع. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل بعض ذريتنا ، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة ، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى ، فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لو لا الحمقى لخربت الدنيا ، وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ). (وَأَرِنا) من رأى بمعنى أبصر ، أو عرف ، ولذلك لم يتجاوز مفعولين (مَناسِكَنا) متعبداتنا في الحج ، أو مذابحنا. والنسك في الأصل غاية العبادة ، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. وقرأ ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ويعقوب (أَرِنا) ، قياسا على فخذ في فخذ ، وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها. وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس (وَتُبْ عَلَيْنا) استتابة لذريتهما ، أو عما فرط منهما سهوا. ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشاد لذريتهما (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) لمن تاب.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) ولم يبعث من ذريتهما غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي». (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد والنبوة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن. (وَالْحِكْمَةَ) ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام. (وَيُزَكِّيهِمْ) عن الشرك والمعاصي (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد (الْحَكِيمُ) المحكم له.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء ، أي لا يرغب أحد من ملته. (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها. قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ، ويشهد له ما جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق ، وتغمص الناس». وقيل : أصله سفه نفسه على الرفع ، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ، وقول جرير :

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظّهر ليس له سنام

أو سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض. والمستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في


يرغب لأنه في معنى النفي. (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) حجة وبيان لذلك ، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه ، أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(١٣١)

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف ل (اصْطَفَيْناهُ) ، أو تعليل له ، أو منصوب بإضمار اذكر. كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم ، وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين ، دعاه ربه وأخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام. روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه : سلمة ومهاجرا إلى الإسلام ، فأسلم سلمة وأبي مهاجر.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة ، وأصلها الوصل يقال: وصاه إذا وصله ، وفصاه : إذا فصله ، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى ، والضمير في بها للملة ، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة ، أو الجملة وقرأ نافع وابن عامر (وَوَصَّى) والأول أبلغ (وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، أي ووصى هو أيضا بها بنيه. وقرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم (يا بَنِيَ). على إضمار القول عند البصريين ، متعلق بوصي عند الكوفيين لأنه نوع منه ونظيره :

رجلان من ضبّة أخبرانا

أنّا رأينا رجلا عريانا

بالكسر ، وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان. وقيل : ثمانية. وقيل : أربعة عشر : وبنو يعقوب إثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون ونفتوني ودون وكوذا وأوشير وبنيامين ويوسف (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا ، والأمر بالثبات على الإسلام كقولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن من حقه أن لا يحل بهم ، ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد. وروي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه ، أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين. وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شاهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي وقرئ «حضر» بالكسر.

(إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من (إِذْ حَضَرَ). (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي : أي شيء تعبدونه ، أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما ، وما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف ، فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه ، وإن سئل عن وصفه قيل : ما زيد أفقيه أم طبيب؟. (قالُوا نَعْبُدُ


إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) المتفق على وجوده وألوهيته ووجوب عبادته ، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب والجد ، أو لأنه كالأب لقوله عليه الصلاة والسلام : «عم الرجل صنو أبيه». كما قال عليه الصلاة والسلام في العباس رضي الله عنه «هذا بقية آبائي». وقرئ «إله أبيك» ، على أنه جمع بالواو والنون كما قال :

ولما تبيّن أصواتنا

بكين وفديننا بالأبينا

أو مفرد وإبراهيم وحده عطف بيان.

(إِلهاً واحِداً) بدل من إله آبائك كقوله تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ). وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل نعبد ، أو مفعوله ، أو منهما ، ويحتمل أن يكون اعتراضا.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) يعني إبراهيم ويعقوب وبينهما ، والأمة في الأصل المقصود وسمي بها الجماعة ، لأن الفرق تؤمها. (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) لكل أجر عمله ، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٣٥)

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) الضمير الغائب لأهل الكتاب وأو للتنويع ، والمعنى مقالتهم أحد هذين القولين. قالت اليهود كونوا هودا. وقال النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) جواب الأمر. (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملته ، أو بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ بالرفع أي ملته ملتنا ، أو عكسه ، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته. (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل إلى الحق. حال من المضاف ، أو المضاف إليه كقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً). (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ). (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) القرآن ، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا ، أو سبب للإيمان بغيره (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الصحف ، وهي وإن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم ، كما أن القرآن منزل إلينا ، وال. سباط جمع سبط وهو الحافد ، يريد به حفدة يعقوب ، أو أبناءه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) التوراة والإنجيل ، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق ، والنزاع وقع فيهما (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) جملة المذكورين منهم وغير المذكورين. (مِنْ رَبِّهِمْ) منزلا عليهم من ربهم. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كاليهود ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض ، وأحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين. (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله. (مُسْلِمُونَ) مذعنون مخلصون.


(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧)

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) من باب التعجيز والتبكيت ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ، ولا دين كدين الإسلام. وقيل : الباء للآلة دون التعدية ، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها). والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، أو المثل مقحم كما في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أي عليه ، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي إن أعرضوا عن الإيمان ، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناوأة والمخالفة ، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إما من تمام الوعد ، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، أو وعيد للمعرضين ، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه.

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)

(صِبْغَةَ اللهِ) أي صبغنا الله صبغته ، وهي فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ ، أو هدانا الله هدايته وأرشدنا حجته ، أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره ، وسماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب ، أو للمشاكلة ، فإن النصارى كانوا يغسمون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون : هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم ، ونصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله (آمَنَّا) ، وقيل على الإغراء ، وقيل على البدل من ملة إبراهيم عليه‌السلام.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) لا صبغة أحسن من صبغته (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) تعريض بهم ، أي لا نشرك به كشرككم. وهو عطف على آمنا ، وذلك يقتضي دخول قوله (صِبْغَةَ اللهِ) في مفعول (قُولُوا) ولمن ينصبها على الإغراء ، أو البدل أن يضمر قولوا معطوفا على الزموا ، أو اتبعوا ملة إبراهيم و (قُولُوا آمَنَّا) بدل اتبعوا ، حتى لا يلزم فك النظم وسوء الترتيب.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(١٣٩)

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أتجادلوننا. (فِي اللهِ) في شأنه واصطفائه نبيا من العرب دونكم ، روي أن أهل الكتاب قالوا : الأنبياء كلهم منا ، لو كنت نبيا لكنت منا. فنزلت : (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم ، يصيب برحمته من يشاء من عباده. (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا ، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاما وتبكيتا ، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء والكل فيه سواء ، وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص. وكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها ، فلنا أيضا أعمال. (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موحدون نخصه بالإيمان والطاعة دونكم.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٤٠)


(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) أم منقطعة والهمزة للإنكار. وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنا) ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة ، أو ادعاء اليهودية ، أو النصرانية على الأنبياء. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) وقد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) واحتج عليه بقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ). وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) يعني شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية ، والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب ، لأنهم كتموا هذه الشهادة. أو منا لو كتمنا هذه الشهادة ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة في كتبهم وغيرها ، ومن للابتداء كما في قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ). (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم ، وقرئ بالياء.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم. قيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم. وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء ، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٤٢)

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) الذين خفت أحلامهم ، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر. يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الإخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة. (ما وَلَّاهُمْ) ما صرفهم. (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني بيت المقدس ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه ، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ما ترتضيه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى.

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

(وَكَذلِكَ) إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على


أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا. ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم. روي «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ. وهو أعلم بهم. إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم» وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه‌السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم. (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ. والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله. وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه. فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما. قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا. وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب. (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة. وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا. والضمير لما دل عليه قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة. وقرئ «لكبيرة» بالرفع فتكون كان زائدة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي ثباتكم على الإيمان. وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه‌السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)

(قَدْ نَرى) ربما نرى (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها (تَرْضاها) تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته. (فَوَلِّ وَجْهَكَ) اصرف وجهك. (شَطْرَ


الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحوه. وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام وكان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب. روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين. (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتحضيضا للأمة على المتابعة. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب للقسم المضمر ، والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط ، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعنادا. (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبتّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ، تعزيرا له وطمعا في رجوعه ، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق. (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإن اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس. لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلب كل حزب فيما هو فيه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر. ثالثها : حرف التحقيق وهو أن. رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية. وخامسها : الإتيان باللام في الخبر. وسادسها : جعله من (الظَّالِمِينَ) ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم. وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم ، وتحريصا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني علماءهم (يَعْرِفُونَهُ) الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه. وقيل للعلم ، أو القرآن ، أو التحويل (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يشهد للأول : أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم. عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني قال : ولم ، قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته قد خانت. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد ، والإشارة إلى ما عليه


الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الحق الذي يكتمونه ، أو للجنس. والمعنى أن (الْحَقُ) ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو (الْحَقُ). ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر. وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو مفعول (يَعْلَمُونَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين في أنه من ربك ، أو في كتمانهم الحق عالمين به ، وليس المراد به نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فيه ، لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار ، بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ)(١٤٨)

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ولكل أمة قبلة ، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ، والتنوين بدل الإضافة (هُوَ مُوَلِّيها) أحد المفعولين محذوف ، أي هو موليها وجهه ، أو الله تعالى موليها إياه. وقرئ : «ولكل وجهة» بالإضافة ، والمعنى وكل وجهة الله موليها أهلها ، واللام مزيدة للتأكيد جبرا لضعف العامل. وقرأ ابن عامر : «مولاها» أي هو مولى تلك الجهة أي قد وليها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين ، أو الفاضلات من الجهات وهي المسامتة للكعبة (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف مجتمع الأجزاء ومفترقها ، يحشركم الله إلى المحشر للجزاء ، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال ، يقبض أرواحكم ، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة ، يأت بكم الله جميعا ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٥٠)

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أي مكان خرجت للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا الأمر (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وقرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل. تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابتغاء مرضاته ، وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها. ودفع حجج المخالفين على ما نبينه. وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريبا وتقريرا ، مع أن القبلة لها شأن. والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) علة لقوله (فَوَلُّوا) ، والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمدا يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا. والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء من الناس ، أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وسمى هذه حجة كقوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنهم يسوقونها


مساقها. وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج. وقيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

للعلم بأن الظالم لا حجة له ، وقرئ : «ألا الذين ظلموا منهم». على أنه استئناف بحرف التنبيه. (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوهم ، فإن مطاعنهم لا تضركم. (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما أمرتكم به. (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) علة محذوف أي وأمرتكم لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتدائكم ، أو عطف على علة مقدرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ولأتم نعمتي عليكم ، أو لئلا يكون وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة». وعن علي رضي الله تعالى عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام».

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١٥٢)

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متصل بما قبله ، أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة ، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم ، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني. (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) يحملكم على ما تصيرون به أزكياء ، قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه‌السلام باعتبار الفعل (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بالفكر والنظر ، إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر.

(فَاذْكُرُونِي) بالطاعة. (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب. (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم. (وَلا تَكْفُرُونِ) يجحد النعم وعصيان الأمر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وحظوظ النفس ، (وَالصَّلاةِ) التي هي أم العبادات ومعراج المؤمنين ، ومناجاة رب العالمين. (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر وإجابة الدعوة. (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أي هم أموات (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء. (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ما حالهم ، وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات ، وأنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي ، وعن الحسن (إن الشهداء أحياء عند ربهم تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع). والآية نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر ، وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت داركة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين ، وبه نطقت الآيات والسنن ، وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ، ومزيد البهجة والكرامة.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(١٥٥)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم ، هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء؟

(بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي بقليل من ذلك ، وإنما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم منه ليخفف عليهم ، ويريهم أن رحمته لا تفارقهم ، أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة ، وإنما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) عطف شيء ، أو الخوف ، وعن الشافعي رضي


الله عنه الخوف : خوف الله ، والجوع : صوم رمضان ، والنقص : من الأموال الصدقات والزكوات ، ومن الأنفس: الأمراض ، ومن : الثمرات موت الأولاد. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم روح ولد عبدي؟ فيقولون نعم ، فيقول الله : أقبضتم ثمرة فؤاده ، فيقولون نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع ، فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لمن تتأتى منه البشارة. والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة». وليس الصبر بالاسترجاع باللسان ، بل به وبالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله ، وأنه راجع إلى ربه ، ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ، ويستسلم له. والمبشر به محذوف دل عليه.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة في الأصل الدعاء ، ومن الله تعالى التزكية والمغفرة. وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها. والمراد بالرحمة اللطف والإحسان. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) هما علما جبلين بمكة. (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام مناسكه ، جمع شعيرة وهي العلامة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج لغة القصد ، والاعتمار الزيارة. فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) كان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت. والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة ، وإنما الخلاف في وجوبه. فعن أحمد أنه سنة ، وبه قال أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف ، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب ، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى أنه واجب ، يجبر بالدم. وعن مالك والشافعي رحمهما‌الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا ، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة ، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة. و (خَيْراً) نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب يطوع ، وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) مثيب على الطاعة لا تخفى عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠).


(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) كأحبار اليهود. (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) كالآيات الشاهدة على أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَالْهُدى) وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإيمان به. (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) لخصناه. (فِي الْكِتابِ) في التوراة. (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالتدارك. (وَبَيَّنُوا) ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم. وقيل ما أحدثوه من التوبة ليمحوا به سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بالقبول والمغفرة. (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) استقر عليهم اللعن من الله ، ومن يعتد بلعنه من خلقه. وقيل ؛ الأول لعنهم أحياء ، وهذا لعنهم أمواتا. وقرئ و«الملائكة والناس أجمعون» عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى ، كقولك أعجبني ضرب زيد وعمرو ، أو فاعلا لفعل مقدر نحو وتلعنهم الملائكة.

(خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة ، أو النار. وإضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها وتهويلا ، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليه. (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) خطاب عام ، أي المستحق منكم العبادة واحد لا شريك له يصح أن يعبد أو يسمى إلها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانية ، وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلها ولكن لا يستحق منهم العبادة. (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) كالحجة عليها ، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره ، وهما خبران آخران لقوله إلهكم ، أو لمبتدأ محذوف. قيل لما سمعه المشركون تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فائت بآية نعرف بها صدقكك فنزلت.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إنما جمع السموات وأفرد الأرض ، لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما كقوله تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً). (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي بنفعهم ، أو بالذي ينفعهم ، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله ، وتخصيص (الْفُلْكِ) بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب ، لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وتأنيث (الْفُلْكِ) لأنه بمعنى السفينة. وقرئ بضمتين على الأصل ، أو الجمع وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين. (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) من الأولى للابتداء ، والثانية للبيان. والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو. (فَأَحْيا بِهِ


الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالنبات (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف على أنزل ، كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض ، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. والبث النشر والتفريق. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في مهابها وأحوالها ، وقرأ حمزة والكسائي على الإفراد. (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا ينزل ولا يتقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى. وقيل : مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضا. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكّر فيها.

واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا ، والكلام المجمل أنها : أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة ، وأنحاء مختلفة ، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات ، أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين ، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا ، وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها ، فلا بد لها من موجد قادر حكيم ، يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره. إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما : فالفعل إن كان لهما ، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وإن كان لأحدهما ، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته. وإن اختلفت : لزم التمانع والتطارد ، كما أشار إليه بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله ، وحث على البحث والنظر فيه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله (يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويطيعونهم (كَحُبِّ اللهِ) كتعظيمه والميل إلى طاعته ، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة ، والمحبة : ميل القلب من الحب ، استعير لحبة القلب ، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها ، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه ، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة ، وصونه عن المعاصي. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى ، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ، ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) إذ عاينوه يوم القيامة. وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ).

(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولي (يَرَى) ، وجواب (لَوْ) محذوف. أي لو يعلمون أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم. وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان ، والتقدير : ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع ، لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: و«لو ترى» على أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما ، وابن عامر : «إذ يرون» على البناء للمفعول ، ويعقوب إن بالكسر وكذا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف ، أو إضمار القول.


(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ) ، أي إذ تبرأ المتبوعون من الأتباع. وقرئ بالعكس ، أي تبرأ الأتباع من الرؤساء (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي رائين له ، والواو للحال ، وقد مضمرة. وقيل ؛ عطف على تبرأ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) يحتمل العطف على تبرأ ، أو رأوا والواو للحال ، والأوّل أظهر. و (الْأَسْبابُ) : الوصل التي كانت بينهم من الاتّباع والاتفاق على الدين ، والأغراض الداعية إلى ذلك. وأصل السبب : الحبل الذي يرتقي به الشجر. وقرئ و (تَقَطَّعَتْ) على البناء للمفعول.

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا لَوْ) للتمني ولذلك أجيب بالفاء ، أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم (كَذلِكَ) مثل ذلك الاراء الفظيع. (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ندامات ، وهي ثالث مفاعيل يرى أن كان من رؤية القلب وإلّا فحال (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أصله وما يخرجون ، فعدل به إلى هذه العبارة ، للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٦٨)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس ، وحلالا مفعول كلوا ، أو صفة مصدر محذوف ، أو حال مما في الأرض ومن للتبعيض إذ لا يؤكل كل ما في الأرض (طَيِّباً) يستطيبه الشرع ، أو الشهوة المستقيمة. إذ الحلال دل على الأول. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والبزي وأبو بكر حيث وقع بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة ، وهي ما بين قدمي الخاطي. وقرئ بضمتين وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها ، وبفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سماه وليا في قوله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١٦٩)

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) بيان لعداوته ، ووجوب التحرز عن متابعته. واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم ، والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به ، وفحشاء باستقباحه إياه. وقيل : السوء يعم القبائح ، والفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر. وقيل : الأول ما لا حد فيه ، والثاني ما شرع فيه الحد (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كاتخاذ الأنداد وتحليل المحرمات وتحريم الطيبات ، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا. وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي فوجوبه قطعي ، والظن في طريقه كما بيناه في الكتب الأصولية.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٧٠)


(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) الضمير للناس ، وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم ، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقي ماذا يجيبون. (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات ، فجنحوا إلى التقليد. وقيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا وأعلم. وعلى هذا فيعم ما أنزل الله التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام. (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الواو للحال ، أو العطف. والهمزة للرد والتعجيب. وجواب (لَوْ) محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ، ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد. وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام ، فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق. والمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ، ولا يتأملون فيما يقرر معهم ، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه. وقيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها ، بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته. أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام ، بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم ، وهذا يغني الإضمار ولكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء ، لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) رفع على الذم. (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي بالفعل للإخلال بالنظر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم وأحل لكم. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صح أنكم تخصونه بالعبادة ، وتقرون أنه مولى النعم ، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر. فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه ، وهو عدم عند عدمه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى : إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري».

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أكلها ، أو الانتفاع بها. وهي التي ماتت من غير ذكاة. والحديث ألحق بها ما أبين من حي. والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع. والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ. (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له. (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي رفع به


الصوت عند ذبحه للصنم. والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال : أهل الهلال وأهللته. لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) بالاستيثار على مضطر آخر. وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون. (وَلا عادٍ) سد الرمق ، أو الجوعة. وقيل ؛ غير باغ على الوالي. ولا عاد بقطع الطريق. فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما‌الله تعالى. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تناوله. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعل (رَحِيمٌ) بالرخصة فيه. فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر. قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(١٧٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا حقيرا. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إما في الحال ، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النّشر

يعني الدية. أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار. ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم. يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :

كلوا في بعض بطنكمو تعفوا

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يثني عليهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في الدنيا. (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ، بكتمان الحق للمطامع والأغراض الدنيوية. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة. وما تامة مرفوعة بالابتداء ، وتخصيصها كتخصيص قولهم :

شرّ أهرّ ذا ناب

أو استفهامية وما بعدها الخبر ، أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) اللام فيه إما للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض. أو للعهد ، والإشارة إما إلى التوراة ، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه ، أي حرفوا ما فيها. وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر ، وتقوّل ، وكلام علمه بشر ، وأساطير الأولين. (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحق.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ


وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ) كل فعل مرض ، والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت ، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد الله تعالى عليهم وقال ؛ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ، ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون. وقيل عام لهم وللمسلمين ، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة ، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها ، وقرأ حمزة وحفص البر بالنصب (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله ، أو لكن ذا البر من آمن ، ويؤيده قراءة من قرأ ولكن «البار». والأول أوفق وأحسن. والمراد بالكتاب الجنس ، أو القرآن. وقرأ نافع وابن عامر (وَلكِنَ) بالتخفيف ورفع (الْبِرَّ). (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي على حب المال ، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر». وقيل الضمير لله ، أو للمصدر. والجار والمجرور في موضع الحال. (ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) يريد المحاويج منهم ، ولم يقيد لعدم الالتباس. وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة والسلام «صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان ، صدقة وصلة». (وَالْمَساكِينَ) جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة ، وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر. (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر ، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق. وقيل الضيف لأن السبيل يرعف به. (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، وقال عليه‌السلام «للسائل حق وإن جاء على فرسه». (وَفِي الرِّقابِ) وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأسارى ، أو ابتياع الرقاب لعتقها. (وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتَى الزَّكاةَ) يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : (وَآتَى الْمالَ) الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأول بيان مصارفها ، ومن الثاني أداؤها والحث عليها. ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة. وفي الحديث «نسخت الزكاة كل صدقة». (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عطف على (مَنْ آمَنَ). (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) نصبه على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال. وعن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر ، والضراء في الأنفس كالمرض. (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت مجاهدة العدو. (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في الدين واتباع الحق وطلب البر. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر وسائر الرذائل. والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها ، دالة عليها صريحا أو ضمنا ، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأول بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إلى (وَالنَّبِيِّينَ). وإلى الثاني بقوله : (وَآتَى الْمالَ) إلى (وَفِي الرِّقابِ) وإلى الثالث بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده بالتقوى ، اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق. وإليه أشار بقوله عليه‌السلام «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء ، وكان لأحدهما طول على الآخر ، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد


والذكر بالأنثى. فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وأمرهم أن يتباوءوا. ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بيّنا ما كان الغرض وإنما منع مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما. قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن رجلا قتل عبده فجلده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفاه سنة ولم يقده به. وروي عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد ولأن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير. وللقياس على الأطراف ، ومن سلم دلالته فليس له دعوى نسخه بقوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن. واحتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده ، وهو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب وكتب ، ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه. وقرئ «كتب» على البناء للفاعل و«القصاص» بالنصب ، وكذلك كل فعل جاء في القرآن. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي شيء من العفو ، لأن عفا لازم. وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص. وقيل عفا بمعنى ترك ، وشيء مفعول به وهو ضعيف ، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه. وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، قال الله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقال (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ). فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة ، أخيه ، يعني ولي الدم. وذكره بلفظ الإخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام ليرق له ويعطف عليه. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع. والمراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف ، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإحسان : وهو أن لا يمطل ولا يبخس. وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد ، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو. وللشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة قولان. (ذلِكَ) أي الحكم المذكور في العفو والدية. (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما فيه من التسهيل والنفع ، قيل كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو مطلقا. وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية تيسيرا عليهم وتقديرا للحكم على حسب مراتبهم. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي قتل بعد العفو وأخذ الدية. (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. وقيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه‌السلام «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية».

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده ، وعرف القصاص ونكر الحياة ، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين. ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم. فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم. وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص. وقيل : المراد بها الحياة الأخروية ، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة. (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) يحتمل أن يكونا خيرين لحياة وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له ، أو حالا من الضمير المستكن فيه. وقرئ في «القصص» أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة ، أو في القرآن حياة للقلوب. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) ذوي العقول الكاملة. ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى


الْمُتَّقِينَ)(١٨٠)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حضرت أسبابه وظهرت أماراته. (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا. وقيل مالا كثيرا ، لما روي عن على رضي الله تعالى عنه : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم ، فمنعه وقال قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير هو المال الكثير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك ، فقال : ثلاثة آلاف فقالت : كم عيالك قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك. (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع بكتب ، وتذكير فعلها للفصل ، أو على تأويل أن يوصي ، أو الإيصاء ولذلك ذكر الراجع في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ). والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها. وقيل مبتدأ خبره (لِلْوالِدَيْنِ) ، والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّر عند الله مثلان

وردّ بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر. وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث». وفيه نظر : لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد ، وتلقي الأمة له بالقبول لا يحلقه بالمتواتر. ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين بقوله (يُوصِيكُمُ اللهُ). أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله عليهم (بِالْمَعْرُوفِ) بالعدل فلا يفضل الغنى ، ولا يتجاوز الثلث. (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) غيره من الأوصياء والشهود. (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي وصل إليه وتحقق عنده ، (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل ، إلا على مبدليه لأنهم الذين خافوا وخالفوا الشرع. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد للمبدل بغير حق.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر (مُوصٍ) مشددا. (جَنَفاً) ميلا بالخطإ في الوصية. (أَوْ إِثْماً) تعمدا للحيف. (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه‌السلام ، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس. والصوم في اللغة : الإمساك عما تنازع إليه النفس ، وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات بياض النهار ، فإنها معظم ما تشتهيه النفس. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء» أو الإخلال بأدائه لأصالته وقدمه.


(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل. فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد بها رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو بكما كتب على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان ل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) على السعة. وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله. وقيل زادوا ذلك لموتان ـ أصابهم. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يضره الصوم أو يعسر معه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر. (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها. وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة. وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا. (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز. رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ. وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع «المساكين». وقرأ ابن عامر برواية هشام «مساكين» بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ «يطوقونه» أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ، و«يطيقونه» و«يطيقونه» على أن أصلهما يطيوقونه ويتطوقونه من فيعل وتفعيل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده. وهم الشيوخ والعجائز. في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد في الفدية. (فَهُوَ) فالتطوع أو الخير. (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم. أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر. (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه. وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

(شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان ، أو بدل من الصيام على حذف المضاف أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان. وقرئ بالنصب على إضمار صوموا ، أو على أنه مفعول ، (وَأَنْ تَصُومُوا) وفيه ضعف ، أو بدل من أيام معدودات. والشهر : من الشهرة ، ورمضان : مصدر رمض إذا احترق ؛ فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، كما منع دأية في ابن دأية علما للغراب للعلمية والتأنيث ، وقوله عليه الصلاة والسلام «من صام رمضان» فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس ، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة. (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ


الْقُرْآنُ) أي ابتدئ فيه إنزاله ، وكان ذلك ليلة القدر ، أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض ، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت صحف إبراهيم عليه‌السلام أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين» والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد ، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط. وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم. (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من القرآن ، أن أنزل وهو هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه ، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع. وقيل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ) هلال الشهر فليصمه ، على أنه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصصا له ، لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك ، أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر عليكم ، فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق ، أي وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه ، والترخيص (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) إلى آخرها على سبيل اللف ، فإن قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة الأمر بمراعاة العدة ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير. أو الأفعال كل لفعله ، أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم ، أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة ، ويجوز أن يعطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ). والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدي بعلى. وقيل تكبير يوم الفطر ، وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر ، والخبر أي الذي هداكم إليه وعن عاصم برواية أبي بكر (وَلِتُكْمِلُوا) بالتشديد.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل لهم إني قريب ، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب. ووعد للداعي بالإجابة. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات والمداومة عليه. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق. وقرئ بفتح الشين وكسرها. واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، ثم بين أحكام الصوم فقال :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ


وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١٨٧)

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) روي أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا ، ثم : إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذر إليه ، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام : الليلة التي تصبح منها صائما ، والرفث : كناية عن الجماع ، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، وإيثاره هاهنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذلك سماه خيانة. وقرئ «الرفوث» (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) استئناف يبين سبب الإحلال وهو قلة الصبر عنهن ، وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنّى عطفها

تثنّت فكانت عليه لباسا

أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظها من الثواب ، والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) لما تبتم مما اقترفتموه. (وَعَفا عَنْكُمْ) ومحا عنكم أثره. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن ، والمباشرة : إلزاق البشرة كني به عن الجماع. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة. وشرع النكاح لا قضاء الوطر ، وقيل النهي عن العزل ، وقيل عن غير المأتي. والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، بخيطين أبيض وأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله (مِنَ الْفَجْرِ) عن بيان (الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، لدلالته عليه. وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل. ويجوز أن تكون من للتبعيض ، فإن ما يبدو بعض الفجر. وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر ، فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت ، إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة ، أو أكتفي أولا باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنبا (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيان لآخر وقته ، الليل عنه فينفي صوم الوصال (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد القربة. والمراد بالمباشرة : الوطء. وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك. وفي دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد. وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام التي ذكرت. (فَلا تَقْرَبُوها) نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، فضلا عن أن يتخطى عنه. كما قال عليه الصلاة والسلام «إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». وهو أبلغ من قوله (فَلا تَعْتَدُوها) ، ويجوز أن يريد ب (حُدُودُ اللهِ) محارمه ومناهيه. (كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة الأوامر والنواهي.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ


بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى. وبين نصب على الظرف ، أو الحال من الأموال. (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهي ، أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء ، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام. (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم. (فَرِيقاً) طائفة. (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون ، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح. روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية. فارتدع عن اليمين ، وسلم الأرض إلى عبدان ، فنزلت. وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي. ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من ناره».

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : (ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا) (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها. وخصوصا الحج فإن الوقت مراعي فيه أداء وقضاء. والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها. والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر. (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) وقرأ أبو عمرو وو ورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف (وَلكِنَ) ، ورفع البر. كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر : برّ من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين. أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عمّا لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه. والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله. (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها. (وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تظفروا بالهدى والبر.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠)

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين. وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده. ويؤيد الأول ما روى : أن المشركين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من


قابل فيخلوا له مكة. شرفها الله. ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم. أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يريد بهم الخير.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)(١٩١)

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث وجدتموهم في حل أو حرم. وأصل الثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا. فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال :

فأمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة ، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان ، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل : معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام. (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ). والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلنا بنو أسد. (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما قد سلف (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك. (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم ، فوضع العلة موضع الحكم. وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم ، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به. (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص. فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم. كما قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وهو فذلكة التقرير. (وَاتَّقُوا اللهَ) في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شأنهم.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥).


(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تمسكوا كل الإمساك. (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش ، أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه ، فإن ذلك يقوي العدو ويسلطهم على إهلاككم. ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال : لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت ، أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد ، ولذلك سمي البخل هلاكا وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد ، والإلقاء : طرح الشيء ، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس ، والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة ، أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل : معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول. (وَأَحْسِنُوا) أعمالكم وأخلاقكم ، أو تفضلوا على المحاويج. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ وأقيموا الحج والعمرة لله ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه «أنه قيل يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك» فمعارض بما روى «أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك» ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس. وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا. (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمها الله تعالى لقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام «من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل» وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير «حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني» (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر. أو فاهدوا ما استيسر. والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى يجب القضاء ، والمحل. بالكسر. يطلق على المكان والزمان. والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ من «الهدى» جمع هدية كمطى في مطية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يحوجه إلى الحلق. (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كجراحة وقمل. (فَفِدْيَةٌ) فعلية فدية إن حلق. (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة «لعلك آذاك هوامك ، قال :


نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة» والفرق ثلاثة آصع (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار. أو كنتم في حال سعة وأمن. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره. وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي الهدي. (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل. قال أبو حنيفة رحمه‌الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه. ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين. (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. وقرئ «سبعة» بالنصب عطفا على محل (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ). (تِلْكَ عَشَرَةٌ) فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين. وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما (كامِلَةٌ) صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي. (ذلِكَ) إشارة إلى الحكم المذكور عندنا. والتمتع عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى لأنه لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية. (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه. ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك. (وَاتَّقُوا اللهَ) في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتقه كي يصدكم العلم به عن العصيان.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أي وقته. كقولك البرد شهران. (مَعْلُوماتٌ) معروفات وهي : شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا ، والعشر عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. وذي الحجة كله عند مالك. وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه ، أو وقت أعماله ومناسكه ، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا ، فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة. وأبو حنيفة رحمه‌الله وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه. وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل ، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا ، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه‌الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإتمام. (فَلا رَفَثَ) فلا جماع ، أو فلا فحش من الكلام. (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات. (وَلا جِدالَ) ولا مراء مع الخدم والرفقة. (فِي الْحَجِ) في أيامه ، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة. والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفث ولا فسوق. والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقعوا أيضا بعرفة. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) حث على الخير


عقب به النهي عن الشر ليستبدل به ويستعمل مكانه. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد ، وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس ، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس. (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية اللب خشية الله وتقواه ، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(١٩٨)

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أي في أن تبتغوا أي تطلبوا. (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء ورزقا منه ، يريد الربح بالتجارة ، وقيل : كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت. (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) دفعتم منها بكثرة ، من أفضت الماء إذا صببته بكثرة. وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة. و (عَرَفاتٍ) جمع سمي به كأذرعات ، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام ، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك. أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث. وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت ، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه‌السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت ، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا. أو لأن الناس يتعارفون فيه. وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا) أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب. وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق. (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والدعاء. وقيل : بصلاة العشاءين. (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) جبل يقف عليه الإمام ويسمى «قزح». وقيل : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ، ويؤيد الأول ما روي جابر : أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة بغلس ـ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر وإنما سمي مشعرا لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته : ومعنى عند المشعر الحرام : مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر. (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) كما علمكم ، أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها. وما مصدرية أو كافة. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي الهدى. (لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بالإيمان والطاعة ، وأن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وقيل : إن نافية واللام بمعنى إلا ، كقوله تعالى : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفة لا من المزدلفة ، والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعا عليهم ، فأمروا بأن يساووهم. وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم. وقيل : من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها والخطاب عام. وقرئ «الناس» بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله سبحانه وتعالى : (فَنَسِيَ) والمعنى


أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٢٠٠)

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها. (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) فأكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة. وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ. أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا. وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم. أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه. (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني الصحة والكفاف وتوفيق الخير. (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) يعني الثواب والرحمة. (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بالعفو والمغفرة ، وقول علي رضي الله تعالى عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار المرأة السوء وقول الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الآخرة الجنة. وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب والمؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها.

(أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني. وقيل إليهما. (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي من جنسه وهو جزاؤه ، أو من أجله كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه فسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة ، أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتسبوا الحسنات.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٠٣)

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) كبروه في أدبار الصلاة وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق. (فَمَنْ تَعَجَّلَ) فمن استعجل النفر. (فِي يَوْمَيْنِ) يوم القر والذي بعده ، أي فمن نفر في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار عندنا ، وقبل طلوع الفجر عند أبي حنيفة. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) باستعجاله. (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومن تأخر في النفر حتى رمى في اليوم الثالث بعد الزوال ، وقال أبو حنيفة : يجوز تقديم رميه على الزوال. ومعنى نفي الإثم بالتعجيل والتأخير التخيير بينهما والرد على أهل الجاهلية فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر. (لِمَنِ اتَّقى) أي الذي ذكر من التخيير ، أو من الأحكام لمن اتقى لأنه


الحاج على الحقيقة والمنتفع به ، أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مجامع أموركم ليعبأ بكم. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء بعد الإحياء. وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يروقك ويعظم في نفسك ، والتعجب : حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بالقول ، أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش ، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان ، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) شديد العداوة والجدال للمسلمين ، والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة. قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعي الإسلام. وقيل في المنافقين كلهم.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(٢٠٦)

(وَإِذا تَوَلَّى) أدبر وانصرف عنك. وقيل : إذا غلب وصار واليا. (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذي يؤمر باتقانه لجاجا ، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) كفته جزاء وعذابا ، و (جَهَنَّمُ). علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار. وقيل معرب. (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به ، والمهاد الفراش. وقيل ما يوطأ للجنب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيعها أي يبذلها في الجهاد ، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) طلبا لرضاه. قيل : إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال : إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السِّلْمِ) بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام. فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون. وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء


من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا ، والخطاب للمنافقين ، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره. والخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها ، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب ، أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالتفرق والتفريق. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدخول في السلم. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الآيات والحجج الشاهدة على أنه الحق. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه الانتقام. (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢١٠)

(هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام في معنى النفي ولذلك جاء بعده. (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فَجاءَها بَأْسُنا) أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة كقلة وقلل وهي ما أظلك ، وقرئ «ظلال» كقلال. (مِنَ الْغَمامِ) السحاب الأبيض وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة ، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. (وَالْمَلائِكَةُ) فإنهم الواسطة في إتيان أمره ، أو الآتون على الحقيقة ببأسه. وقرئ بالجر عطفا على (ظُلَلٍ) أو (الْغَمامِ). (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه ، وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه وتيقن وقوعه. وقرئ و«قضاء الأمر» عطفا على الملائكة. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع ، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع ، وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢١١)

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم. (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة ، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء ، و (كَمْ) خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر إلى المبتدأ. وآية مميزها. ومن للفصل. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم ، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس ، أو بالتحريف والتأويل الزائغ. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها ، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديرها فبدلوها (وَمَنْ يُبَدِّلْ). (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)


(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، ويدل عليه قراءة «زيّن» على البناء للفاعل ، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض.

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب ، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين ، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في الدارين. (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح. (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه. وعن كعب (الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون). (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم ، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. (بِالْحَقِ) حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به. (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) أي الله ، أو النبي المبعوث ، أو كتابه. (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحق ، أو الكتاب. (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا. (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف. (مِنَ الْحَقِ) بيان لما اختلفوا فيه. (بِإِذْنِهِ) بأمره أو بإرادته ولطفه. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا يضل سالكه.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) خاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات ، تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفتهم. و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) ولم يأتكم ، وأصل (لَمَّا) لم زيدت عليها ما وفيها توقع ولذلك جعلت مقابل قد. (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) حالهم التي هي مثل في الشدة. (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) بيان له على الاستئناف. (وَزُلْزِلُوا) وأزعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد. (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر. وقرأ نافع يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه. (مَتى نَصْرُ اللهِ) استبطاء له لتأخره. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) استئناف على إرادة القول أي


فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر ، وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ، ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه الصلاة والسلام «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات».

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما(أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخا هما ذا مال عظيم ، فقال يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت)

(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية ، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) في معنى الشرط. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه ، وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢١٦)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) شاق عليكم مكروه طبعا ، وهو مصدر نعت به للمبالغة ، أو فعل بمعنى مفعول كالخبز. وقرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف والضعف ، أو بمعنى الإكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته كقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً). (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلفوا به ، فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم. (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهو جميع ما نهوا عنه ، فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى ، وإنما ذكر (عَسى) لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢١٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) روي (أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة. قبل بدر بشهرين. ليترصّد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ، وينذعر فيه الناس إلى معايشهم. وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير والأسارى). وعن ابن عباس رضي الله عنهما(لما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام) والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا وقيل أصحاب السرية. (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال من الشهر الحرام. وقرئ «عن قتال» بتكرير العامل. (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي ذنب كبير ، والأكثر أنه


منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) خلافا لعطاء وهو نسخ الخاص بالعام وفيه خلاف ، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم. (وَصَدٌّ) صرف ومنع. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإسلام ، أو ما يوصل العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات. (وَكُفْرٌ بِهِ) أي بالله. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على إرادة المضاف أي وصد المسجد الحرام كقول أبي دؤاد :

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد باللّيل نارا

ولا يحسن عطفه على (سَبِيلِ اللهِ) لأن عطف قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) على (وَصَدٌّ) مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ولا على الهاء في (بِهِ) ، فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار. (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون. (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) مما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن ، وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش. وأفعل مما يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي ما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتل الحضرمي. (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وإنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم ، وحتى للتعليل كقولك أعبد الله حتى أدخل الجنة. (إِنِ اسْتَطاعُوا) وهو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته على قرنه : إن ظفرت بي فلا تبق علي ، وإيذان بأنهم لا يردونهم. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى ، والمراد بها الأعمال النافعة. وقرئ «حبطت» بالفتح وهي لغة فيه. (فِي الدُّنْيا) لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية. (وَالْآخِرَةِ) بسقوط الثواب. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) كسائر الكفرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢١٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت أيضا في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) ثوابه ، أثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة سيما والعبرة بالخواتيم. (وَاللهُ غَفُورٌ) لما فعلوا خطأ وقلة احتياط. (رَحِيمٌ) بإجزال الأجر والثواب.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢١٩)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) روي (أنه نزل بمكة قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب. والخمر في الأصل مصدر خمره إذا


ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر. (وَالْمَيْسِرِ) أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : (قُلْ فِيهِما) أي في تعاطيهما. (إِثْمٌ كَبِيرٌ) من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور. وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة. (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما. ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة. (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق. (قُلِ الْعَفْوَ) العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد.

قال :

خذي العفو منّي تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وروي أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : «يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى». وقرأ أبو عمرو برفع (الْعَفْوَ). (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدلائل والأحكام.

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٠)

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في أمور الدارين فتأخذوا بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ. وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتكم. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على الإعنات. (حَكِيمٌ) يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٢١).


(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) أي ولا تتزوجوهن. وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين ، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ولكنها خصت عنها بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) روي (أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين ، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو. فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأمره) فنزلت (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بحسنها وشمائلها ، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهو على عمومه. (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) تعليل للنهي عن مواصلتهم ، وترغيب في مواصلة المؤمنين. (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم. (وَاللهُ) أي وأولياؤه يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم. (يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة. (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره ، أو بقضائه وإرادته. (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتذكروا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢٢٢)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) روي (أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيّض ولا يؤاكلونها ، كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت). والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا ثم بها ثلاثا ، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع. (قُلْ هُوَ أَذىً) أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه. (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم». وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض. وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارا بأنه العلة. (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عباس (يَطْهُرْنَ) أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاما لقوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) فإنه يقتضي تأخير جواز الإتيان عن الغسل. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل. (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب. (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان في غير المأتى.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٢٣)

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) مواضع حرث لكم. شبهن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي فائتوهن كما تأتون المحارث ، وهو كالبيان لقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)


(أَنَّى شِئْتُمْ) من أي جهة شئتم ، روي (أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت). (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يدخر لكم من الثواب. وقيل هو طلب الولد. وقيل التسمية عند الوطء. (وَاتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن معاصيه. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فتزودوا ما لا تفتضحون به. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الكاملين في الإيمان بالكرامة والنعيم الدائم. أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم.

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٤)

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها ، أو في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته. والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة تطلق لما يعرض دون الشيء وللمعرض للأمر ، ومعنى الآية على الأول ولا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه من أنواع الخير ، فيكون المراد بالإيمان الأمور المحلوف عليها ، كقوله عليه الصلاة والسلام لابن سمرة «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك». وأن مع صلتها عطف بيان لها ، واللام صلة عرضة لما فيها من معنى الاعتراض ، ويجوز أن تكون للتعليل ويتعلق أن بالفعل أو بعرضة أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل إيمانكم به ، وعلى الثاني ولا تجعلوه معرضا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم الحلاف بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) و (أَنْ تَبَرُّوا) علة للنهي أي أنهاكم عنه إرادة بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فإن الحلّاف مجترئ على الله تعالى ، والمجترئ عليه لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأيمانكم. (عَلِيمٌ) بنياتكم.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٢٥)

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان ، أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا والله وبلى والله ، لمجرد التأكيد لقوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم. وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب ، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه. (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذ باللغو (حَلِيمٌ) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يحلفون على أن لا يجامعوهن. والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن. (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) مبتدأ وما قبله خبره ، أو فاعل الظرف على خلاف سبق ، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع ، أي للمولي حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ، ولا طلاق ، ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده (فَإِنْ فاؤُ) رجعوا في اليمين بالحنث ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمولى إثم حنثه إذا كفر ، أو ما توخى بالإيلاء من


ضرار المرأة ونحوه ، بالفيئة التي هي كالتوبة.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) وإن صمموا قصده (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لطلاقهم. (عَلِيمٌ) بغرضهم فيه ، وقال أبو حنيفة : الإيلاء في أربعة أشهر فما فوقها ، وحكمه أن المولي إن فاء في المدة بالوطء إن قدر ، وبالوعد إن عجز ، صح الفيء ولزم الواطئ أن يكفر وإلا بانت بعدها بطلقة. وعندنا يطالب بعد المدة بأحد الأمرين فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٨)

(وَالْمُطَلَّقاتُ) يريد بها المدخول بهن من ذوات الإقراء لما دلت عليه الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. (يَتَرَبَّصْنَ) خبر بمعنى الأمر ، وتغيير العبارة للتأكيد والإشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله ، وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر فيخبر عنه كقولك في الدعاء : رحمك الله ، وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد. (بِأَنْفُسِهِنَ) تهييج وبعث لهن على التربص ، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص. (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظرف ، أو المفعول به. أي يتربصن مضيها. و (قُرُوءٍ) جمع قرء وهو يطلق للحيض ، كقوله عليه الصلاة والسلام «دعي الصلاة أيام أقرائك» وللطهر الفاصل بين الحيضتين كقول الأعشى :

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض ، وهو المراد به في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض ، كما قاله الحنفية لقوله تعالى ؛ (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي وقت عدتهن. والطلاق المشروع لا يكون في الحيض ، وأما

قوله عليه الصلاة والسلام : «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر «مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء». وكان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الأقراء ، ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ، ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة فحسن بناؤها. (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد ، أو الحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق الرجعة ، وفيه دليل على أن قولها مقبول في ذلك (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد منه تقييد نفي الحل بإيمانهن ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان ، وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل. (وَبُعُولَتُهُنَ) أي أزواج المطلقات. (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى النكاح والرجعة إليهن ، ولكن إذا كان الطلاق رجعيا للآية التي تتلوها فالضمير أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه ، كما لو كرر الظاهر وخصصه. والبعولة جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة ، أو مصدر من قولك بعل حسن البعولة نعت به ، أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن ، وأفعل هاهنا بمعنى الفاعل. (فِي ذلِكَ) أي في زمان التربص. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بالرجعة لا لإضرار المرأة ، وليس المراد منه شرطية قصد الإصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ولهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها ، لا في الجنس. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضل فيه ، لأن حقوقهم في أنفسهم وحقوقهن المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها ، أو شرف وفضيلة لأنهم قوام عليهن وحراس لهن يشاركونهن في غرض الزواج ويخصون بفضيلة الرعاية والإنفاق (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام.


(حَكِيمٌ) يشرعها لحكم ومصالح.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي التطليق الرجعي اثنان لما روي (أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)). وقيل ؛ معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق ، ولذلك قالت الحنفية الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) بالمراجعة وحسن المعاشرة ، وهو يؤيد المعنى الأول. (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلقة الثالثة ، أو بأن لا يراجعها حتى تبين ، وعلى المعنى الأخير حكم مبتدأ وتخيير مطلق عقب به تعليمهم كيفية التطليق. (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي من الصدقات. روي (أن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعيبه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ، وما أطيقه بعضا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في جماعة من الرجال ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها. والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع. وقيل إنه خطاب للأزواج وما بعده خطاب للحكام وهو يشوش النظم على القراءة المشهورة. (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي الزوجان. وقرئ «يظنا» وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن. (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) يترك إقامة أحكامه من مواجب الزوجية. وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال. وقرئ «تخافا» و«تقيما» بتاء الخطاب. (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام. (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) على الرجل في أخذ ما افتدت به نفسها واختلعت ، وعلى المرأة في إعطائه. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حد من الأحكام. (فَلا تَعْتَدُوها) فلا تتعدوها بالمخالفة. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد ، واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق ، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد ، ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة». وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لجميلة : «أتردين عليه حديقته؟ فقالت : أردها وأزيد عليها ، فقال عليه الصلاة والسلام أما الزائد فلا». والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه فإن المنع عن العقد لا يدل على فساده ، وأنه يصح بلفظ المفاداة ، فإنه تعالى سماه افتداء. واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق هل هو فسخ أو طلاق ، ومن جعله فسخا احتج بقوله :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٢٣٠)

(فَإِنْ طَلَّقَها) فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا. والأظهر أنه طلاق لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض ، وقوله فإن طلقها متعلق بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أو تفسير لقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى ، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين. (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك الطلاق. (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى تتزوج غيره ، والنكاح يستند إلى كل منهما كالتزوج ، وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد كابن المسيب واتفق الجمهور على أنه لا بد من الإصابة لما روي : أن امرأة رفاعة قالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن


رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثل هدبة الثوب. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت : نعم ، قال : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». فالآية مطلقة قيدتها السنة ، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزوج. والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرع إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر. وجوزه أبو حنيفة مع الكراهة ، وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحلل والمحلل له. (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بالزواج ، (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إن كان في ظنهما أنهما يقيمان ما حده الله وشرعه من حقوق الزوجية ، وتفسير الظن بالعلم هاهنا غير سديد لأن عواقب الأمور غيب تظن ولا تعلم ، ولأنه لا يقال علمت أن يقوم زيد لأن أن الناصبة للتوقع وهو ينافي العلم. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام المذكورة. (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون ويعلمون بمقتضى العلم.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٣١)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي آخر عدتهن ، والأجل يطلق للمدة ولمنتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي به ينتهي قال :

كلّ حيّ مستكمل مدّة العم

ر ومود إذا انتهى أجله

والبلوغ هو الوصول إلى الشيء ، وقد يقال للدنو منه على الاتساع ، وهو المراد في الآية ليصح أو يرتب عليه. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل ، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار ، أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل ، وهو إعادة للحكم في بعض صوره للاهتمام به. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن ، كأن المطلق يترك المعتدة حتى تشارف الأجل ثم يراجعها لتطول العدة عليها ، فنهي عنه بعد الأمر بضده مبالغة. ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين. (لِتَعْتَدُوا) لتظلموهن بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء ، واللام متعلقة بضرارا إذ المراد تقييده. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعقاب. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) بالإعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر إنما أنت هازئ ، كأنه نهي عن الهزء وأراد به الأمر بضده. وقيل ؛ (كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب) فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام : «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، الطلاق والنكاح والعتاق» (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) التي من جملتها الهداية ، وبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشكر والقيام بحقوقها. (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما. (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد وتهديد.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن ، وعن الشافعي رحمه‌الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) المخاطب به الأولياء لما روي (أنها


نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن. وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا ، لأنه جواب قوله (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ). وقيل الأولياء والأزواج. وقيل الناس كلهم ، والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له. والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج. (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن. (بِالْمَعْرُوفِ) بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة ، حال من الضمير المرفوع ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي تراضيا كائنا بالمعروف. وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه. (ذلِكَ) إشارة إلى ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كل واحد ، أو أن الكاف لمجرد الخطاب. والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد. (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه المتعظ به والمنتفع. (ذلِكُمْ) أي العمل بمقتضى ما ذكر. (أَزْكى لَكُمْ) أنفع. (وَأَطْهَرُ) من دنس الآثام. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع والصلاح. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لقصور علمكم.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب ، أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار. والوالدات يعم المطلقات وغيرهن. وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن. (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة ، أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة ، والأم ترضع له. وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الذي يولد له يعني الوالد ، فإن الولد يولد له وينسب إليه. وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه. (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أجرة لهن ، واختلف في استئجار الأم ، فجوزه الشافعي ، ومنعه أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح. (بِالْمَعْرُوفِ) حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لإيجاب المؤمن والتقييد بالمعروف ، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل له وتقرير ، أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضاره بسبب الولد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (لا تُضَارَّ) بالرفع بدلا من قوله (لا تُكَلَّفُ) ، وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له. وقرئ «لا تضار» بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره ، وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه ، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق فلا ينبغي أن يضرا به ، أو أن يتضارا بسببه. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عطف على


قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ، وما بينهما تعليل معترض. والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب. وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام «واجعله الوارث منا» ، وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة. وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى. وقيل وارثه المحرم منه ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل عصباته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة. (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين ، والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي ، من شرت العسل إذا استخرجته. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل ، وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض أو غيره. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي تسترضعوا المراضع لأولادكم ، يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه ، كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها ، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه وإطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع. (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع. (ما آتَيْتُمْ) ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقراءة ابن كثير (ما آتَيْتُمْ) ، من أتى إحسانا إذا فعله. وقرئ «أوتيتم» أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة. (بِالْمَعْرُوفِ) صلة سلمتم ، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل. (وَاتَّقُوا اللهَ) مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حث وتهديد.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٣٤)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي أزواج الذين ، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم ، كقولهم السمن منوان بدرهم. وقرئ «يتوفّون» بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشرا ويشهد له قوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين ، وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها ، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه ، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم ، والحامل وغيرها ، لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة ، والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة أو المسلمون جميعا. (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة. (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن ، فإن قصروا فعليهم الجناح. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥).


(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) التعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ، كقول السائل جئتك لأسلم عليك ، والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه ، كقولك الطويل النجاد للطويل ، وكثير الرماد للمضياف. والخطبة بالضم والكسر اسم الحالة ، غير أن المضمومة خصت بالموعظة والمكسورة بطلب المرأة ، والمراد بالنساء المعتدات للوفاة ، وتعريض خطبتها أن يقول لها إنك جميلة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك على محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا أو جماعا ، عبر بالسر عن الوطء لأنه مما يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه. وقيل معناه لا تواعدوهن في السر على أن المعنى بالمواعدة في السر المواعدة بما يستهجن. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف أي : لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة ، أو إلا مواعدة بقول معروف. وقيل إنه استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض ، وهو غير موعود. وفيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة. واختلف في معتدة الفراق البائن والأظهر جوازه. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد ، أي ولا تعزموا عقد عقدة النكاح. وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع. (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حتى ينتهي ما كتب من العدة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز. (فَاحْذَرُوهُ) ولا تعزموا. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن عزم ولم يفعل خشية من الله سبحانه وتعالى. (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(٢٣٦)

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة من مهر. وقيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس. وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر النهي عن الطرق فظن أن فيه حرجا فنفى (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) أي تجامعوهن. وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن. (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلا أن تفرضوا ، أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا. والفرض تسمية المهر ، وفريضة نصب على المفعول به ، فعيلة بمعنى مفعول. والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية ، ويحتمل المصدر. والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولكن يسم لها مهرا ، إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى ، أو مهر المثل. ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمي لها فلها نصف المسمى ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين. (وَمَتِّعُوهُنَ) عطف على مقدر أي فطلقوهن ومتعوهن ، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق ، وتقديرها مفوض إلى رأي الحاكم ويؤيده قوله : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي على كل من الذي له سعة ، والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها «متعها بقلنسوتك». وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : هي درع وملحفة وخمار حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل ، ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج ، وألحق بها الشافعي رحمه‌الله تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة وغيرها قياسا ، وهو مقدم على المفهوم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال (مَتاعاً) تمتيعا. (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة. (حَقًّا) صفة لمتاعا ، أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا. (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الذي يحسنون إلى


أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيبا وتحريضا.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٧)

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها. (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي فلهن ، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن ، وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي المطلقات فلا يأخذن شيئا ، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث ، والفرق أن الواو في الأول ضمير والنون علامة الرفع وفي الثاني لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن هاهنا ونصب المعطوف عليه. (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي الزوج المالك لعقده وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا ، وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه ، وإليه ذهب بعض أصحابنا والحنفية. وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة ، وهو قول قديم للشافعي رحمه‌الله تعالى. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق ، وتسميتها عفوا إما على المشاكلة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج ، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه. وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يضيع تفضلكم وإحسانكم.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢٣٨)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) بالأداء لوقتها والمداومة عليها ، ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي الوسطى بينها ، أو الفضلى منها خصوصا وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا». وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها ، واجتماع الملائكة. وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام «أفضل العبادات أحمزها». وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة. وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار. وقيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ : «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ، فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل. وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح. (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة. (قانِتِينَ) ذاكرين له في القيام ، والقنوت الذكر فيه. وقيل خاشعين ، وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(٢٣٩)

(فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدو أو غيره. (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) فصلوا راجلين أو راكبين ورجالا جمع راجل أو


رجل بمعناه كقائم وقيام ، وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يكن الوقوف. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) وزال خوفكم. (فَاذْكُرُوا اللهَ) صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن (كَما عَلَّمَكُمْ) ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن. أو شكرا يوازيه وما مصدرية أو موصولة. (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مفعول علمكم.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٤٠)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية ، أو ليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية ، أو ألزم الذين يتوفون وصية. ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه. وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون ، أو وحكمهم وصية ، أو والذين يتوفون أهل وصية ، أو كتب عليهم وصية ، أو عليهم وصية وقرئ «متاع» بدلها. (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع. (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل منه ، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالسكنى والنفقة ، وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول ، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن ، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه‌الله. (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن منزل الأزواج. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة. (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) كالتطيب وترك الإحداد. (مِنْ مَعْرُوفٍ) مما لم ينكره الشرع ، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها. (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينتقم ممن خالفه منهم. (حَكِيمٌ) يراعي مصالحهم.

(وَلِلْمُطَلَّقا(٢٤٢) تِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أثبت المتعة للمطلقات جميعا بعد ما أوجبها لواحدة منهن ، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة ، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب. وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية (كَذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢٤٣)

(أَلَمْ تَرَ) تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلا في التعجيب. (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يريد أهل داوردان قرية قبل


واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره. أو قوما من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم. (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي ألوف كثيرة. قيل عشرة. وقيل ثلاثون. وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال. (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له. (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة ، بأمر الله تعالى ومشيئته. وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفا وتهويلا. (ثُمَّ أَحْياهُمْ) قيل مر حزقيل عليه‌السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى ، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يشكرونه كما ينبغي ، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٤٥)

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه وأن المقدر لا محالة واقع ، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل الله وإلا فالنصر والثواب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقوله المتخلف والسابق. (عَلِيمٌ) بما يضمرانه وهو من وراء الجزاء.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ مَنْ) استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء ، و (ذَا) خبره ، و (الَّذِي) صفة ذا أو بدله ، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه. (قَرْضاً حَسَناً) إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا. وقيل : القرض الحسن بالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه ، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة ، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى ، فإن (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) في معنى أيقرض الله أحد. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالرفع والتشديد وابن عامر ويعقوب بالنصب. (أَضْعافاً كَثِيرَةً) كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى. وقيل الواحد بسبعمائة ، و«أضعافا» جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع. (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم. وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً)(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على حسب ما قدمتم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْمَلَإِ) جماعة يجتمعون للتشاور ، ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض. (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي من بعد وفاته ومن للابتداء. (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع ، أو شمعون ، أو


شمويل عليهم‌السلام. (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أقم لنا أميرا ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه ، وجزم نقاتل على الجواب. وقرئ بالرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال ، ويقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب والوصف لملكا. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) فصل بين عسى وخبره بالشرط ، والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم ، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريرا وتثبيتا. وقرأ نافع (عَسَيْتُمْ) بكسر السين. (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد ، وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين. (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٧)

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت علم عبري كداود وجعله فعلوتا من الطول تعسف يدفعه منع صرفه ، روي أن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعضا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) من أين يكون له ذلك ويستأهل. (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) والحال أنا أحق بالملك منه وراثة ومكنة وإنه فقير لا مال له يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا من أولاد بنيامين ولم تكن فيهم النبوة والملك ، وإنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب والملك في أولاد يهوذا وكان فيهم من السبطين خلق. (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك. أولا بأن العمدة فيه اصطفاه الله سبحانه وتعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ، وثانيا بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية ، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب ، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب ، لا ما ذكرتم. وقد زاده الله فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه ، وثالثا بأن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء ، ورابعا أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨)

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم. (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الصندوق فعلوت من التوب ، وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه ، وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق ، ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة ، ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة ، أو للتابوت أي مودع فيه


ما تسكنون إليه وهو التوراة. وكان موسى عليه الصلاة والسلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون. وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقرا للعلم والوقار بعد أن لم يكن. (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون ، وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما. والآل مقحم لتفخيم شأنهما ، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما. (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه ، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه‌السلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة ، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم. روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة وسألوه أن يجري الله لهم نهرا. (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فليس من أشياعي ، أو ليس بمتحد معي. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر :

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل ، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله فمن شرب منه ، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير ، وقرأ ابن عامر والكوفيون (غُرْفَةً) بضم الغين. (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط ، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء ، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. وقرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل ثلاثة آلاف. وقيل : ألفا. روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته ، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي القليل الذين لم يخالفوه. (قالُوا) أي بعضهم لبعض. (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لكثرتهم وقوتهم. (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه ، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى. وقيل : هم القليل الذين ثبتوا معه ، والضمير في (قالُوا) للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف وتخذيلا للقليل ، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللهِ) بحكمه وتيسيره ، و (كَمْ) تحتمل الخبر والاستفهام ، و (مَنْ) مبينة أو مزيدة. والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته ، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). بالنصر والإثابة.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي ظهروا لهم ودنوا منهم. (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء ، وفيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه ، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالبا.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) فكسروهم بنصره ، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم. (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) قيل : كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له : إنك بنا تقتل جالوت ، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته. (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك. (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة. (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كالسرد وكلام الدواب والطير. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا في الأرض ، أو لفسدت الأرض بشؤمهم. وقرأ نافع هنا وفي الحج «دفاع الله».

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢)

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) إشارة إلى ما قص من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ. (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لما أخبرت بها من غير تعرف واستماع.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو المعلومة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق. (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره. (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) تفضيل له ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام. وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ، وقرئ «كلم الله» و«كالم الله» بالنصب ، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بأن فضله على غيره من وجوه متعددة ، أو بمراتب متباعدة. وهو محمد


صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. وقيل : إبراهيم عليه‌السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. وقيل : إدريس عليه‌السلام لقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا). وقيل : أولو العزم من الرسل. (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي هدى الناس جميعا. (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الرسل. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين ، وتضليل بعضهم بعضا. (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا. (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) لإعراضه عنه بخذلانه. (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرره للتأكيد. (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فيوفق من يشاء فضلا ، ويخذل من يشاء عدلا. والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام ، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ما أوجبت عليكم إنفاقه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم ، والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه ، أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم ، وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب : هل فيه بيع؟ أو خلة؟ أو شفاعة؟ وقد فتحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يريد والتاركون للزكاة هم ظالمون الذين ظلموا أنفسهم ، أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه ، فوضع الكافرون موضعه تغليظا لهم وتهديدا كقوله : و (مَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ).

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره. وللنحاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد. (الْحَيُ) الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإمكان. (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه ، وقرئ «القيام» و«القيم». (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع:

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود ، والجملة


نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما ، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان مؤف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لقيوميته واحتجاج به على تفرده في الألوهية ، والمراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى ، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي ، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة ، أو عكسه ، أو ما يحسونه وما يعقلونه ، أو ما يدركونه وما لا يدركونه ، والضمير لما في السموات والأرض ، لأن فيهما العقلاء ، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) من معلوماته. (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلموه ، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ولا كرسي في الحقيقة ، ولا قاعد. وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسي العالم والملك. وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيا محيط بالسموات السبع ، لقوله عليه الصلاة والسلام «ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي ، إلا كحلقة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج ، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد ، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد. (وَلا يَؤُدُهُ) أي ولا يثقله ، مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج. (حِفْظُهُما) أي حفظه السموات والأرض ، فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول. (وَهُوَ الْعَلِيُ) المتعالي عن الأنداد والأشباه. (الْعَظِيمُ) المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.

وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية ، متصف بالحياة ، واجب الوجود لذاته موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيز والحلول ، مبرأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها ، جليها وخفيها ، كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة ، كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يؤده شاق ، ولا يشغله شأن ، متعال عما يدركه ، وهو عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي ، من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة». وقال «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله».

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه ، ولكن (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله ؛ (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، أو خاص بأهل


الكتاب لما روي (أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما). (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى. فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه. (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) بالتوحيد وتصديق الرسل. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم. (لَا انْفِصامَ لَها) لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته. (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالنيات ، ولعله تهديد على النفاق.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) محبهم ، أو متولي أمورهم ، والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن. (يُخْرِجُهُمْ) بهدايته وتوفيقه. (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر. (إِلَى النُّورِ) إلى الهدى الموصل إلى الإيمان ، والجملة خبر بعد خبر ، أو حال من المستكن في الخبر ، أو من الموصول ، أو منهما ، أو استئناف مبين ، أو مقرر للولاية. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي الشياطين ، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما. (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) من النور الذي منحوه بالفطرة ، إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات ، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات. وقيل : نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام ، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وعيد وتحذير ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) تعجيب من محاجة نمروذ وحماقته. (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة. (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف ل «حاجّ» ، أو بدل من (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) على الوجه الثاني. (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بخلق الحياة والموت في الأجساد. وقرأ حمزة «رب» بحذف الياء. (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) بالعفو عن القتل والقتل. وقرأ نافع «أنا» بلا ألف. (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة ، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره ، لا عن حجة إلى أخرى. ولعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك ، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته ، أو اعتقاد الحلول. وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجه فيه. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فصار مبهوتا. وقرئ «فبهت» أي فغلب إبراهيم الكافر. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)


الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية. وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنة يوم القيامة.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه ، وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى ، بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر. وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذي حاج ، أو كالذي مر. وقيل : إنه من كلام إبراهيم ذكره جوابا لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية. وهو عزير بن شرحيا. أو الخضر ، أو كافر بالبعث. ويؤيده نظمه مع نمروذ. والقرية بيت المقدس حين خربه بختنصر. وقيل القرية التي خرج منها الألوف. وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) خالية ساقطة حيطانها على سقوفها. (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا ، واستبعادا إن كان كافرا. و (أَنَّى) في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف. (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) فألبثه ميتا مائة عام ، أو أماته الله فلبث ميتا مائة عام. (ثُمَّ بَعَثَهُ) بالإحياء. (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافرا لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان. وقيل ملك أو نبي. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كقول الظان. وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب. (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير بمرور الزمان ، واشتقاقه من السنة. والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واوا. وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضي البازي ، وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد. وقيل كان طعامه تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا وكان الكل على حاله. وقرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بغير الهاء في الوصل. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تفرقت عظامه ، أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب من التغير ، والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية. روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه ، فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك ، وقالوا هو ابن الله. وقيل لما رجع إلى منزله كان شابا وأولاده شيوخا فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة. (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) يعني عظام الحمار ، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم. (كَيْفَ نُنْشِزُها) كيف نحييها ، أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه ، وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي : انظر إليها محياة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «ننشرها» من أنشر الله الموتى ، وقرئ «ننشرها» من نشر بمعنى أنشر. (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير. (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، أو يفسره ما قبله أي فلما تبين له ما أشكل عليه. وقرأ حمزة والكسائي (قالَ أَعْلَمُ) على الأمر والأمر مخاطبة ، أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت.


(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا ، وقيل لما قال نمروذ أنا أحيى وأميت قال له : إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. وانتقل إلى تقرير آخر ، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة ، قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه. (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال. (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاوس ، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام. وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب. (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء. وقرأ حمزة ويعقوب (فَصُرْهُنَ) بالكسر وهما لغتان قال :

وما صيد الأعناق فيهم جبلة

ولكن أطراف الرّماح تصورها

وقال :

وفرع يصير الجيد وحف كأنه

على اللّيث قنوان الكروم الدّوالح

وقرئ «فصرهن» بضم الصاد وكسرها وهما لغتان ، مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضا. (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك. قيل كانت أربعة. وقيل سبعة. وقرأ أبو بكر «جزءوا» و«جزؤ» بضم الزاي حيث وقع. (ثُمَّ ادْعُهُنَ) قل لهن تعالين بإذن الله تعالى. (يَأْتِينَكَ سَعْياً) ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا. روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها ، ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال ، ثم يناديهن. ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن. وفيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية ، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها ، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع. وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال ، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عما يريده. (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦١)

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أي مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة على حذف المضاف. (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أسند الإنبات إلى الحبة لما كانت من الأسباب ، كما يسند إلى الأرض والماء ، والمنبت على الحقيقة هو الله تعالى والمعنى : أنه يخرج منها ساق


يتشعب لكل منه سبع شعب ، لكل منها سنبلة فيها مائة حبة. وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه وقد يكون في الذرة والدخن في البر في الأراضي المغلة. (وَاللهُ يُضاعِفُ) تلك المضاعفة. (لِمَنْ يَشاءُ) بفضله وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ، ومن أجل ذلك تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب. (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة. (عَلِيمٌ) بنية المنفق وقدر إنفاقه.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)(٢٦٣)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) نزلت في عثمان رضي الله تعالى عنه فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وعبد الرحمن بن عوف فإنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة. والمن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه. والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه ، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاما بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) رد جميل. (وَمَغْفِرَةٌ) وتجاوز عن السائل والحاجة ، أو نيل المغفرة من الله بالرد الجميل ، أو عفو من السائل بأن يعذر ويغتفر رده. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) خبر عنهما ، وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن إنفاق بمن وإيذاء. (حَلِيمٌ) عن معاجلة من يمن ويؤذي بالعقوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢٦٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما. (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة ، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس ، والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال ، و (رِئاءَ) نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق (رِئاءَ). (فَمَثَلُهُ) أي فمثل المرائي في إنفاقه. (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) كمثل حجر أملس. (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) مطر عظيم القطر. (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أملس نقيا من التراب. (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا ، والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس ، أو الجمع كما في قوله :

إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان ، فإن


المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال. (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجرة يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم (بِرَبْوَةٍ) بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها. (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر. (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف. (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وقيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها. وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الهمزة فيه للإنكار. (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع. (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) صغار لا قدرة لهم على الكسب. (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى. والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢٦٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) من حلاله أو جياده. (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن ، فحذف المضاف لتقدم ذكره. (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال ، أو مما أخرجنا لكم. وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر ، وقرئ «ولا تؤمموا» «ولا تيمموا» بضم التاء. (تُنْفِقُونَ) حال مقدرة من فاعل تيمموا ، ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه. (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته. (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا أن تتسامحوا فيه ، مجاز من أغمض بصره إذا غضه. وقرئ


«تغمضوا» أي تحملوا على الإغماض ، أو توجدوا مغمضين. وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لانتفاعكم. (حَمِيدٌ) بقبوله وإثابته.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦٨)

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في الإنفاق ، والوعد في الأصل شائع في الخير والشر. وقرئ (الْفَقْرَ) بالضم والسكون وبضمتين وفتحتين. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) ويغريكم على البخل ، والعرب تسمي البخيل فاحشا. وقيل المعاصي (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم. (وَفَضْلاً) خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا ، أو في الآخرة. (وَاللهُ واسِعٌ) أي واسع الفضل لمن أنفق. (عَلِيمٌ) بإنفاقه.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩)

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) تحقيق العلم وإتقان العلم. (مَنْ يَشاءُ) مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بناؤه للمفعول لأنه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحكمة. (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي : أيّ خير كثير؟ إذ حيز له خير الدارين. (وَما يَذَّكَّرُ) وما يتعظ بما قص من الآيات ، أو ما يتفكر ، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة. (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة ، سرا أو علانية ، في حق أو باطل. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) بشرط أو بغير شرط ، في طاعة أو معصية. (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فيجازيكم عليه. (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها ، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر. (مِنْ أَنْصارٍ) من ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) فنعم شيئا إبداؤها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل. وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين ، وروي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) أي تعطوها مع الإخفاء. (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فالإخفاء خير لكم ، وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه. عن ابن عباس رضي الله عنهما (صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا). (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإخفاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي : ونحن نكفر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده. وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ترغيب في الإسرار.


(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين ، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن ، والنهي عن المقابح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث. (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) صريح بأن الهداية من الله تعالى وبمشيئته ، وإنها تخص بقوم دون قوم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من نفقة معروفة. (فَلِأَنْفُسِكُمْ) فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا عليه ولا تنفقوا الخبيث. (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) حال ، وكأنه قال وما تنفقون من خير فلأنفسكم غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله وطلب ثوابه. أو عطف على ما قبله أي وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجهه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث. وقيل : نفي في معنى النهي. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ثوابه أضعافا مضاعفة ، فهو تأكيد للشرطية السابقة ، أو ما يخلف للمنفق استجابة لقوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعل لمنفق خلفا ، ولممسك تلفا» روي : أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفقون عليهم ، فكرهوا لما أسلموا أن ينفعوهم فنزلت. وهذا في غير الواجب أما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكفار. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لا تنقصون ثواب نفقاتكم.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢٧٣)

(لِلْفُقَراءِ) متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، أو صدقاتكم للفقراء. (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أحصرهم الجهاد. (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به. (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) ذهابا فيها للكسب. وقيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين. (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) من أجل تعففهم عن السؤال ، (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من الضعف ورثاثة الحال ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد. (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) إلحاحا ، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه ، من قولهم لحفني من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده ، والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا. وقيل : هو نفي للأمرين كقوله :

على لا حب يهتدي بمناره

ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال ، أو على الحال. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيب في الإنفاق وخصوصا على هؤلاء.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٧٤)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية. وقيل في أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : لم يملك إلا أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا ودرهم نهارا ، ودرهم سرا ودرهم علانية. وقيل : في ربط الخيل في سبيل الله والإنفاق عليها. (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) خبر الذين ينفقون ، والفاء للسببية. وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين ولذلك جوز الوقف على وعلانية.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ


قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧٥)

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي الآخذون له ، وإنما ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال ، ولأن الربا شائع في المطعومات وهو زيادة في الأجل ، بأن يباع مطعوم بمطعوم ، أو نقد بنقد إلى أجل ، أو في العوض بأن يباع أحدهما بأكثر منه من جنسه ، وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع. (لا يَقُومُونَ) إذا بعثوا من قبورهم. (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) إلا قياما كقيام المصروع ، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء. (مِنَ الْمَسِ) أي الجنون ، وهذا أيضا من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله ولذلك قيل : جنّ الرجل. وهو متعلق ب (لا يَقُومُونَ) أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا ، أو بيقوم أو بيتخبط فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم ولكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله. وكان الأصل إنما الربا مثل البيع ولكن عكس للمبالغة ، كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا به البيع ، والفرق بين فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهما ، ومن اشترى سلعة تساوي درهما بدرهمين فلعل مساس الحاجة إليها ، أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن. (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم ، وإبطال القياس بمعارضة النص. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فمن بلغه وعظ من الله تعالى وزجر كالنهي عن الربا. (فَانْتَهى) فاتعظ وتبع النهي. (فَلَهُ ما سَلَفَ) تقدم أخذه التحريم ولا يسترد منه ، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت من موصولة ، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي سيبويه إذ الظرف غير معتمد على ما قبله. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يجازيه على انتهائه إن كان من قبول الموعظة وصدق النية.

وقيل يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه. (وَمَنْ عادَ) إلى تحليل الربا ، إذ الكلام فيه. (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنهم كفروا به.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يضاع (٢٧٦) ف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه ، وعنه عليه الصلاة والسلام «إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره». وعنه عليه الصلاة والسلام «ما نقصت زكاة من مال قط». (وَاللهُ لا يُحِبُ) لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين. (كُلَّ كَفَّارٍ) مصر على تحليل المحرمات. (أَثِيمٍ) منهمك في ارتكابه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٧٧)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وبما جاءهم منه. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) عطفهما على ما يعمهما لإنافتهما على سائر الأعمال الصالحة. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من آت. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فائت.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(٢٧٩)


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) واتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقلوبكم فإن دليله امتثال ما أمرتم به. روي : أنه كان لثقيف مال على بعض قريش ، فطالبوهم عند المحل بالمال والربا. فنزلت.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش «فآذنوا» أي فاعلموا بها غيركم ، من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم ، وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله ، كالباغي ولا يقتضي كفره. روي : أنها لما نزلت قالت ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله. (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء واعتقاد حله. (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزيادة. (وَلا تُظْلَمُونَ) بالمطل والنقصان ، ويفهم منه أنهم إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه ، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء :

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٨٠)

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) وإن وقع غريم ذو عسرة. وقرئ «ذا عسرة» أي وإن كان الغريم ذا عسرة. (فَنَظِرَةٌ) فالحكم نظرة ، أو فعليكم نظرة ، أو فليكن نظرة وهي الإنظار. وقرئ «فناظره» على الخبر أي فالمستحق ناظره بمعنى منتظره ، أو صاحب نظرته على طريق النسب وفناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة. (إِلى مَيْسَرَةٍ) يسار ، وقرأ نافع وحمزة بضم السين ، وهما لغتان كمشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله : وأخلفوك وعد الأمر الذي وعدوا. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بالإبراء. وقرأ عاصم بتخفيف الصاد. (خَيْرٌ لَكُمْ) أكثر ثوابا من الإنظار ، أو خير مما تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامه. وقيل :المراد بالتصدق الإنظار

لقوله عليه الصلاة والسلام ، «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه من الذكر الجميل الجزيل.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٨١)

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) يوم القيامة ، أو يوم الموت فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما(أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه‌السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة) وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين يوما. وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة ساعات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٨٢).


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) أي إذا داين بعضكم بعضا ، تقول : داينته إذا عاملته نسيئة معطيا أو آخذا. وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال ، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معلوم بالأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج. (فَاكْتُبُوهُ) لأنه أوثق وادفع للنزاع ، والجمهور على أنه استحباب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم). (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص ، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقا به معدلا بالشرع. (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب. (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق ، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ). (فَلْيَكْتُبْ) تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا ، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه ، والإملال والإملاء واحد. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي المملي. أو الكاتب. (وَلا يَبْخَسْ) ولا ينقص. (مِنْهُ شَيْئاً) أي من الحق ، أو مما أملى عليه. (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) ناقص العقل مبذرا. (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا. (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة. (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيا أو مختل العقل ، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع. وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان. (مِنْ رِجالِكُمْ) من رجال المسلمين ، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) فإن لم يكن الشاهدان رجلين. (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان ، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لعلمكم بعدالتهم. (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى ، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سببا له نزل منزلته كقولهم : أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، وكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن. وقرأ حمزة (أَنْ تَضِلَ) على الشرط «فتذكر» بالرفع. وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (فَتُذَكِّرَ) من الإذكار. (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة أو التحمل. وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع و (ما) مزيدة. (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب. وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لا يقول المؤمن كسلت» (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) صغيرا كان الحق أو كبيرا ، أو مختصرا كان الكتاب أو مشبعا. (إِلى أَجَلِهِ) إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون. (ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه. (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أكثر قسطا. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) وأثبت لها وأعون على إقامتها ، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس ، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وإنما صحت الواو في (أَقْوَمُ) كما صحت في التعجب لجموده. (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين ، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد أي : إلا أن تتبايعوا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوا ، لبعده عن التنازع والنسيان. ونصب عاصم (تِجارَةً) على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا


ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) هذا التبايع ، أو مطلقا لأنه أحوط. والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة. وقيل : إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحتمل البناءين ، ويدل عليه أنه قرئ «ولا يضار» بالكسر والفتح. وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة ، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما ، ولا يعطى الكاتب جعله ، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان. (وَإِنْ تَفْعَلُوا) الضرار أو ما نهيتم عنه. (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) خروج عن الطاعة لا حق بكم. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه. (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإن الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم لشأنه. ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣)

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين. (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فالذي يستوثق به رهان ، أو فعليكم رهان ، أو فليؤخذ رهان. وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الارتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما‌الله تعالى لأنه عليه‌السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعا من شعير أخذه لأهله ، بل لإقامة التوثق للارتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها. والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون : وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان. (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به. وقرئ «الذي أيتمن» بقلب الهمزة ياء ، و«الذي أتمن» بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات. (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود ، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم. (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم. والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره : العين زانية والأذن زانية. أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه. وقرئ «قلبه» بالنصب كحسن وجهه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تهديد.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعني ما فيها من السوء والعزم عليه لترتب المغفرة والعذاب عليه. (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يوم القيامة. وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مغفرته. (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه ، وهو صريح في نفي وجوب التعذيب. وقد رفعهما ابن عامر وعاصم ويعقوب على الاستئناف ، وجزمهما الباقون عطفا على جواب الشرط ، ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلا منه بدل البعض من الكل أو الاشتمال كقوله :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا


وإدغام الراء في اللام لحن إذ الراء لا تدغم إلا في مثلها. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإحياء والمحاسبة.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والاعتداد به ، وإنه جازم في أمره غير شاك فيه. (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) لا يخلو من أن يعطف (الْمُؤْمِنُونَ) على (الرَّسُولُ) ، فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعا إلى (الرَّسُولُ)(وَالْمُؤْمِنِينَ) ، أو يجعل مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين. وباعتباره يصح وقوع كل بخبره خبر المبتدأ ، ويكون إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان ، وإيمانهم عن نظر واستدلال. وقرأ حمزة والكسائي : «وكتابه» يعني القرآن ، أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل : الكتاب أكثر من الكتب. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي يقولون لا تفرق. وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء على أن الفعل ل (كُلٌ). وقرئ «لا يفرقون» حملا على معناه كقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) واحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). ولذلك دخل عليه بين ، والمراد نفي الفرق بالتصديق والتكذيب (وَقالُوا سَمِعْنا) أجبنا. (وَأَطَعْنا) أمرك. (غُفْرانَكَ رَبَّنا) اغفر لنا غفرانك ، أو نطلب غفرانك. (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما تسعه قدرتها فضلا ورحمة ، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. (لَها ما كَسَبَتْ) من خير. (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها ، وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير. (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة ، أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك. وإن كان خطأ. فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة ، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفعوم قوله عليه الصلاة والسلام «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان». (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) عبأ ثقيلا يأصر صاحبه ، أي يحبسه في مكانه. يريد به التكاليف الشاقة. وقرئ «ولا تحمل» بالتشديد للمبالغة. (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) حملا مثل حملك إياه على (مِنْ قَبْلِنا) ، أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإصرا ، والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة ، وخمسين صلاة في اليوم والليلة ، وصرف ربع المال للزكاة. أو ما أصابهم من الشدائد والمحن. (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من البلاء والعقوبة ، أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد هاهنا لتعدية


الفعل إلى المفعول الثاني. (وَاعْفُ عَنَّا) وامح ذنوبنا. (وَاغْفِرْ لَنا) واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة. (وَارْحَمْنا) وتعطف بنا وتفضل علينا. (أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء ، أو المراد به عامة الكفرة.

روي أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت. وعنه عليه‌السلام «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة. كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل». وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه». وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ، ولن يستطيعها البطلة قيل : يا رسول الله وما البطلة؟ قال : السحرة».

تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع المجلد الأول من

تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت الزاهرة

أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



محتوى الجزء الأول من تفسير البيضاوي

مقدمة

أولا : ترجمة صاحب التفسير....................................................... ٩

ثانيا : التعريف بأنوار التنزيل وطريقة مؤلفه فيه...................................... ١٢

اختصار البيضاوي تفسيره من «الكشاف» للزمخشري............................... ١٢

استمداد البيضاوي تفسيره من «مفاتيح الغيب» للرازي ومن «تفسير الراغب الأصفهاني» ١٢

اهتمامه بالقراءات وذكر الشاذّ منها............................................... ١٢

عرضه للصناعة النحوية.......................................................... ١٢

تعرضه لبعض المسائل الفقهيّة دون توسّع........................................... ١٢

تقرير وترجيح مذهب أهل السّنّة.................................................. ١٣

التقليل من ذكر الروايات الإسرائيلية............................................... ١٣

الخوض في مباحث الكون والطبيعة تأثرا بالرازي..................................... ١٣

تقريظ هذا التفسير.............................................................. ١٤

قول الإمام جلال الدين السيوطي في حاشيته : «نواهد الأبكار وشواهد الأفكار»....... ١٤

قول حاجي خليفة في «كشف الظنون»........................................... ١٤

الحواشي المكتوبة على تفسير البيضاوي............................................ ١٦

خطبة الكتاب.................................................................. ٢٣

بيان كون اللام في الحمد للاختصاص والكلام في القصر وغيره........................ ٢٣

بيان أرفع العلوم قدرا............................................................ ٢٣

تفسير سورة الفاتحة............................................................. ٢٥

بيان أسامي الفاتحة............................................................. ٢٥

بيان كون البسملة من الفاتحة أم لا؟.............................................. ٢٥

بيان متعلق البسملة............................................................. ٢٥

بيان تحقيق معنى الباء............................................................ ٢٥

بيان الكلام في لفظ الاسم واشتقاقه وما فيه من الخلاف............................. ٢٥

بيان أصل لفظ الجلالة وتحقيق اشتقاقه............................................. ٢٦


بيان تحقيق القول في (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).......................................... ٢٧

بيان مباحث (الْحَمْدُ لِلَّهِ)..................................................... ٢٧

بيان مباحث (أل) الجنسية....................................................... ٢٧

بيان الفرق بين الملك والمالك..................................................... ٢٨

بيان الالتفات.................................................................. ٢٩

بيان الضمائر وملحقاتها......................................................... ٢٩

بيان تقسيم النعم............................................................... ٣٠

بيان الكلام على آمين وتحقيق معنى اسم الفعل..................................... ٣١

تفسير سورة البقرة............................................................... ٣٣

بيان تحقيق القول في الحروف المبدوء بها السور...................................... ٣٣

بيان معنى الهدى وأقسامه........................................................ ٣٦

بيان معنى التضمين وتحقيق القول في............................................... ٣٧

بيان معنى الإيمان والنفاق عند أهل السنة والمعتزلة والخوارج............................ ٣٧

بيان دليل من ذهب إلى أن الرزق يعم الحلال والحرام................................ ٣٨

بيان معنى اليقين وأنه لا يوصف به علم الباري تعالى................................ ٤٠

بيان معنى الكفر في الشرع....................................................... ٤١

بيان أن الأخبار بوقوع شيء لا ينفي كونه مقدورا................................... ٤٢

بيان تأويلات المعتزلة للختم ونحوه المسند إلى الله تعالى............................... ٤٢

بيان كون المنافقين أخبث الكفرة.................................................. ٤٣

بيان أن كمال الإيمان بما ذا يكون................................................. ٤٦

بيان أن الطلب غير الإرادة....................................................... ٤٨

بيان فائدة ضرب الأمثال........................................................ ٤٩

بيان معنى الشيء وأنه يعم الباري في بعض الإطلاقات............................... ٥٣

بيان أن أسماء الجموع للعموم ٥٤ بيان كيفية المطر والسحاب......................... ٥٥

بيان الدليل على إعجاز القرآن وكونه حجّة........................................ ٥٧

بيان أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء.................................. ٦٠

بيان حسن التمثيل وشروطه...................................................... ٦٢


بيان معنى (أما) وتحقيق القول فيها.............................................. ٦٢

بيان الفسق ودرجات الفاسق..................................................... ٦٤

بيان إثبات صحة الحشر وبيان المقدمات المتوقفة عليها............................... ٦٧

بيان الاختلافات في حقيقة الملائكة............................................... ٦٧

بيان القول في معنى الأسماء التي علمها الله للملائكة................................. ٦٩

بيان التكليف بالمحال وما قيل فيه................................................. ٦٩

بيان مزية الإنسان بالعلم وأن اللغات توقيفية....................................... ٧٠

بيان أن آدم أفضل من الملائكة وأن إبليس قيل إنه من الملائكة وإنه منهم نوعا يتوالدون.. ٧١

بيان ما قيل في وسوسة إبليس لآدم مع طرده من الجنة............................... ٧٢

بيان ما تمسكت به الحشوية من عدم عصمة الأنبياء والجواب عنه..................... ٧٤

بيان ما تمسكت به المعتزلة من عدم الشفاعة لأرباب الكبائر والجواب عنه.............. ٧٩

بيان كيفية انفلاق البحر لبني إسرائيل وأنه من الآيات الملجئة للإيمان.................. ٧٩

بيان ما قيل في مسخ المعتدين في السبت قردة أنه من مسخ القلوب.................... ٨٥

بيان قصة أصحاب البقرة........................................................ ٨٦

بيان أن المعاصي يجر بعضها بعضا حتى تؤدّي إلى الكفر............................. ٩٠

بيان أن من أيقن بالجنة أحب التخلص إليها بالموت................................. ٩٥

بيان السر في كراهة اليهود لسيدنا جبريل.......................................... ٩٥

بيان أن جيل اليهود أربع فرق.................................................... ٩٧

بيان أن الساحر لا يكون إلّا خبيث النفس مثل الشيطان............................ ٩٧

بيان النسخ وأنه من المصالح...................................................... ٩٩

بيان اختلاف الأئمة في دخول الكفار المساجد................................... ١٠١

بيان الدليل على إبطال الولد له سبحانه......................................... ١٠٢

بيان الأشياء التي كلّف بها سيدنا إبراهيم......................................... ١٠٤

بيان مقام إبراهيم والصلاة التي تصلّى عنده....................................... ١٠٥

بيان أولاد إبراهيم............................................................. ١٠٧

بيان أن الانتساب إلى الأشراف لا ينفع عند الله بمجرده............................ ١٠٨

بيان أن التوجيه إلى جهة الكعبة أو عينها......................................... ١١١

بيان أن حياة الشهداء لا تدرك إلّا بالوحي وأن الأرواح جواهر قائمة بنفسها تبقى بعد الموت


دراكة....................................................................... ١١٤

بيان الدليل على وجود الإله ووحدته............................................. ١١٧

بيان انحصار الكمالات الإنسانية في ثلاثة وبيانها.................................. ١٢١

بيان نسخ الوصية للوارث بعد وجوبها............................................. ١٢٣

بيان وقت نزول صحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن............................ ١٢٥

بيان الاعتكاف وأنه خاصّ بالمسجد............................................. ١٢٦

بيان الحصر في الحج وفدائه..................................................... ١٢٩

بيان المشعر الحرام ما هو....................................................... ١٣١

بيان عدد الأنبياء والرسل....................................................... ١٣٥

بيان سرية عبد الله بن جحش................................................... ١٣٦

بيان ما نزل في الخمر من الآيات................................................ ١٣٧

بيان إطلاق المشركين على اليهود والنصارى....................................... ١٣٨

بيان الإيلاء وحكمه........................................................... ١٤٠

بيان القرء والاختلاف فيه...................................................... ١٤١

بيان الخلع وابتدائه............................................................. ١٤٢

بيان أقصى مدة الرضاع ١٤٤ بيان عدة المتوفى عنها زوجها......................... ١٤٥

بيان فضل بعض الأنبياء على بعض............................................. ١٥٢

بيان المحاجة التي قام بها سيدنا إبراهيم مع النمروذ.................................. ١٥٥

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ١

المؤلف:
الصفحات: 172