


سورة الفاتحة
مكية ، وعدد آياتها ٧ آيات
أ
ـ فضلها : لا يخفى أن
أفضل سور القرآن سورة الحمد. لأنّ الله تعالى قد جعلها جزءا من الصّلاة التي هي
عماد الدين ، بحيث لا يسدّ مسدّها شيء من سور القرآن قصارها وطوالها. ب ـ نزولها :
هي مكّية :
١ ـ فاتحة الكتاب
: لأنّها مفتتحه أو مفتاحه.
٢ ـ وأمّ الكتاب :
لاشتمالها على مجمل معانيه. وقد كان العرب يسمّون الجلدة الجامعة للدماغ بمختلف
حواسه : أم الرأس. وبيان ذلك : أنّها مشتملة على معاني القرآن أصوله وأركانه بصورة
اللّف ، من الثّناء على الله بما هو أهله ، ومن التعبّد بالأمر والنّهي ، والوعد
والوعيد.
٣ ـ الحمد : وهو
من أسمائها لذكره في ابتدائها (١).
٤ ـ السبع المثاني
: إمّا لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها. أو لأنّها تثنّى في الفريضة.
٥ ـ لها أسماء أخر
، كالشافية ، والكنز ، والوافية. ج ـ التفسير :
١ ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : هي آية من كلّ سورة إجماعا عندنا عدا براءة بالإجماع
عندنا وعند غيرنا. والباء للاستعانة ، ويترجّح ذلك بأنّ الإنسان في جميع أموره
يطلب الإعانة منه سبحانه. أو للمصاحبة ، والحجة فيه التبرّك باسمه تعالى ، والحقّ
أنّ التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة والمصاحبة ، ولا فرق بينهما عند النظر الدقيق.
والسورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما
للتبرّك باسمه وحمده ومسألته. ومتعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر ، لأهمية اسمه تعالى
وقصر التبرك عليه سبحانه. هكذا : بسم الله أتلو». حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه.
والاسم من السّمو : بفتح السين وسكون الميم ، وهو مصدر فمعناه جعل الاسم. أو من
السّمة : وأصله أي مصدره : وسم ، معناه العلامة بالكيّ ونحوه. ولم يقل سبحانه : «بالله»
لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب. (اللهِ) : أصله إله. حذفت الهمزة وعوّض عنها أداة التعريف فصار
مختصّا بالمعبود بالحقّ بالغلبة ، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود ، ثم غلب في
المعبود بالحق. وهو من : أله بالفتح ، بمعنى : عبد أو تحيّر ومعناهما عام. وبالكسر
(أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول وتطمئنّ بذكره القلوب
ويفزع إليه ويولع بالتضرّع لديه. (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل ، كغضبان من غضب.
والرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. واتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي
هي فعل ، لا مبدئها الذي هو انفعال. والرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة
المعنى. وملخص القول أنّ معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها ، ولذا اختصّ به
سبحانه. وإنما قدّم في البسملة وغيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم ، لصيرورته
بالاختصاص كالواسطة بين العلم والوصف ، فناسب توسيطه بينهما. ولعلّ وجه التقديم ـ مضافا
إلى ما قلناه آنفا ـ كون الرحمانيّة دنيوية ، وهي مقدّمة على الأخروية ، ولا
منافاة بين الوجهين.
٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : الحمد : هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة
وغيرها. ونقيضه : الذّم ، ويراد منه المدح. أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول
أو عمل أو اعتقاد. ومن الشكر الحمد على النعمة بل هو أظهر أفراده قال (ص): «الحمد
رأس الشكر ، ما شكر الله من لم يحمده» فجعله كأشرف الأعضاء ، فكأن الشكر منتف
بانتفائه. ونقيضه الكفران. (رَبِّ الْعالَمِينَ) : مالكهم وسائسهم ، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي. والرب
مصدر ، بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا. وهذا من
أوصافه الخاصة به جلّ وعلا التي تدلّ على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى ، ولا
يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا : كربّ الدار ، أو مجموعا : كالأرباب. والعالم : اسم
لما سوى الله ، يقال : عالم الأرواح ، وعالم الأفلاك ، وعالم العناصر. ويطلق على
مجموعها أيضا وإنما جمع هنا ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس على اختلاف حقائقها وكذلك
أفرادها. ويجمع بالواو والنون لتغليب جانب العقلاء.
٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدّة اعتنائه
سبحانه بالرحمة ، أو تثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة.
٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : مالك : بالألف على قراءة عاصم والكسائي. وقرأ الباقون : «ملك
يوم الدين» والفرق أنّ المالك من له التصرّف فيما في حوزته وتحت يده ، والملك
منصوب على
المفعولية. وانفعاله وتقدّمه على فعله لإفادة الحصر ، لأنّ تقديم ما هو حقّه
التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة والاستعانة عليه. والعبادة أعلى مراتب
الخضوع والتذلّل ، لا يستحقها إلّا الله. والاستعانة طلب المعونة في الفعل ، ويراد
هنا طلب المعونة في كل المهمّات ، ولذا أيّهم المستعان فيه. وتكرير الضمير : «إيّاك
وإيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة. وتقديم العبادة على الاستعانة للتنبيه
على أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. وإيثار صيغة المتكلّم مع
الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة وطلب المعونة متفردا على باب الكبرياء ،
فلا بدّ من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض والطلب كما يصنع في عرض الهدايا
ورفع الحوائج إلى الملوك. ووجه العدول من الغيبة إلى الخطاب : أنّ فيه تطرية
وتنشيطا للسامع ليس في غيره.
٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : بيان للمعونة المطلوبة ، كأنه قال : «كيف أعينكم؟»
فقالوا : «اهدنا الصراط المستقيم». والهداية : الدلالة بلطف إلى المطلوب. وقيل هي
الموصلة ، وغيرها إراءة الطريق. وعن أمير المؤمنين علي (ع): اهدنا ، أي : ثبّتنا. وأصناف
هدايته جلّ وعلا وإن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه : الأول : إفاضته القوى
والحواسّ لجلب النفع ودفع الضّرر ، يدل عليه : «أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى». الثاني
: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل ، يدلّ عليه (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ). الثالث : إرسال الرّسل وإنزال الكتب : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ). أي بالإرسال والإنزال. الرابع : إزالة الغواشي البدنية
وإراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام أو المنام الصادق أو الاستغراق في ملاحظة
جماله وجلاله بحيث تقشعرّ جلودهم من الخشية ثم يرغبون في ذكر ربهم ويعرضون عمّا
سواه ، قال تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ). وهذا يختص به الأنبياء والأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل.
والصراط : هو الجادّة ، والطريق. من سرط الطعام أي ابتلعه. فكأنه
يسترط السالبة. وجمعه سرط ككتب. والمراد بالصّراط المستقيم ، ونتيجته التأكيد أو
التّنصيص على أن الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم لأنه جعل
كالتفسير له. والمراد بهم : المذكورون في كتابه : (فَأُولئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) ... الآية. وقيل أراد بهم المسلمين ، حيث إنّ نعمة الإسلام
أصل كلّ النّعم. والإنعام : إيصال النّعمة. ونعمه سبحانه كثيرة بحيث تعذّر حصرها
وعدّها (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). وهي إمّا دنيويّة ظاهرية كإفاضة الوجود والعمر والقوى
البدنية أو باطنية. ومن أسماها العقل وسائر القوى. وإما أخروية ، وهي روحانيّ «كغفران
الذنوب» وجسماني «كأنهار العسل والشراب الطّهور». (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) : والغضب : ثوران النّفس لإرادة الانتقام تشفّيا. فإن أسند
إليه تعالى فباعتبار الغاية كما في الرّحمة ، والعدول عن إسناده إليه تعالى إلى
صيغة المجهول وإسناد عديله إليه تعالى ، تأسيس لمباني الرّحمة. فكأنّ الغضب صادر
عن غيره تعالى ، وإلّا فالظاهر أن يقول : «غير الّذين غضبت عليهم». (وَلَا الضَّالِّينَ) : من الضّلال وشعبه كثيرة ، يجمعها العدول عن الطريق
السّويّ ولو خطأ. والمشهور تفسير «المغضوب عليهم» باليهود و «الضّالّين» بالنصارى.
سورة البقرة
مدنية ، وعدد آياتها ٢٨٦ آية
آ
ـ فضلها : سئل النبيّ (ص)
: أيّ سور القرآن أفضل؟ قال : البقرة. قيل : أيّ آي البقرة أفضل؟. قال : آية
الكرسي. وقال الصادق (ع): من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على
رأسه مثل الغمامتين. ب ـ نزولها : مدنية وآياتها مائتان وستّ وثمانون آية. كلّها
نزلت بالمدينة إلّا آية منها نزلت بمنى وهي قوله : واتّقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله ... ج ـ التفسير :
١ ـ (الم) : قيل : هذا وما يأتي من الألفاظ المتهجّى بها : أسماء ،
مسمّياتها الحروف التي منها ركّبت الكلم. والدليل صدق حدّ الاسم عليها ، مع قبولها
لخواصّ الاسم. ولعل السرّ في النطق بهذه الألفاظ هو إشارة منه تعالى إلى أن «كتابنا»
هذا ركّب من هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها نهارا وليلا. فإن كنتم في ريب
مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بمثله وأنتم عرب فصحاء. فإن عجزتم انكشف أن هذا القرآن
من فعل غير المخلوق ، وعمل من هو وراء الطّبيعة ، فينبغي أن يتحدّى به كما تحدّى
بقوله : فأتوا بسورة إلخ ... وقيل : هي أسماء للقرآن. وقيل إنها قسم أقسم الله
تعالى بها لشرفها وعظمتها لكونها مباني كتبه وأسمائه وصفاته. وورد عن أئمتنا عليهمالسلام أنها من المتشابهات التي استأثر الله نفسه بعلمها ولا يعلم
تأويلها غيره.
٢ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ) : يحتمل أن يكون «ذلك» إشارة إلى القرآن ، أي الكتاب الذي
أخبر به موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم فأخبرا بني إسرائيل. بهذا الكتاب الذي
أفتتح ب ألم (لا رَيْبَ فِيهِ) من راب يريب ، إذا حصل فيه الرّيبة أي الشك. وحقيقة الريبة
قلق النفس واضطرابها. والمعنى أنه ـ من وضوح دلالته ـ لا ينبغي أنه يرتاب فيه عاقل
، فإنه لا مجال للريبة فيه. (هُدىً) مصدر. وهو الرشاد ، والبيان ، والدلالة. وهو ضد : الضلال. (لِلْمُتَّقِينَ) : والمتّقي : اسم فاعل من وقاه فاتّقي. والوقاية فرط
الصيّانة ، وشرعا من وقى نفسه الذنوب. وفسّر المتّقون بالذين يتّقون الموبقات.
وهذا التفسير أعمّ من سابقه ، لأن الموبقات تشمل الذنوب وغيرها. واختصاصه بالمتقين
، لأن لهم كفاية الاهتداء على ضوئه وزيادة قابليته ، وإلا فكثير من الناس يهتدون
به.
٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : الإيمان إفعال ، من آمن ، بمعنى صدّق ، وضد التكذيب.
وحقيقة الإيمان شرعا هو المعرفة بالله وصفاته ، وبرسله وبما جاؤوا به ، ويلازمه
التصديق بهم. وإلا فالتصديق بلا عرفان لسانيّ لا يترتب عليه أيّ أثر واقعي
كالإسلام اللساني. بل هما مترادفان. والغيب : مصدر ، بمعنى الغائب والمغيّب ، أي
ما يستتر عن الحواسّ الظاهرية. بل يمكن أن يقال : إن المراد به : الخفيّ الذي لا
يعلمه العباد إلا بإرشاد الله تعالى وهدايته. (وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) : من أقام العمود إذا قوّمه واستقامه. والمراد هنا هو أن
يعدّلوا أركان الصلاة ، ويأتوا بواجباتها على أصولها ومقرّراتها المشروعة حتى لا
يقع فيها زيغ ولا يتطرّق إليها باطل. (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : والرّزق لغة الحظّ والنّصيب ، وعرفا إعطاء الله تعالى
للحيوان ما ينتفع به كلّ بحسبه ، فبالإضافة إلى الإنسان هو الأموال ، والقوى ،
والأبدان السالمة ، والجاه ، والعلم ، وفي رأس هذه النّعم التوفيق لصرف كل واحدة
منها في محلّها وفيما خلقت لأجله. ومن إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه ، ومدحهم
بالإنفاق ، نستفيد النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّها وفيما خلقت لأجله.
ومن إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه ، ومدحهم بالإنفاق ، نستفيد أن الحرام خارج عنه
وليس منه لتنزّه ساحته السامية وارتفاع مقامه العالي جلّ وعلا عن القبائح ، وعدم
قابلية الحرام لمدح منفقه. والإتيان (بمن) التبعيضيّة رمز إلى أنهم في الإنفاق
منزّهون عن الإسراف والتبذير.
٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) : المراد بما أنزل : هو القرآن ، والشريعة بأسرها (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب السماوية الماضية والشرائع السابقة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعلمون تمام العلم من غير شك وترديد .. وتحصيل اليقين
بالآخرة له طريقان : الأول بإخبار الصادق المصدّق ، والثاني بالمعجزة. ولليقين
ثلاث مراتب : الأولى علم اليقين. والثانية عين اليقين وهي فوق مقام علم اليقين.
والثالثة حق اليقين. وهي أرقى من السابقتين. فالسالك بعد إكمال المرتبة الثانية ،
وارتقائه في يقينه بنتيجة رياضاته النفسانية ، يصل إلى مقام يصير فيه بصره حديدا
وسمعه شديدا ، فيرى ما لا ترى عيون غيره من الناس ، ويسمع ما لا تسمع آذانهم ،
ويدرك ما لا يخطر على قلوب أقرانه ، إذ ترتفع الحجب ، وتزول الأغطية ، فيرى
الأشياء على ما هي عليه بحقائقها وبواطنها وكما يرى ظواهرها سواء بسواء.
٥ ـ (أُولئِكَ عَلى
هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) : إشارة إلى الصّنفين من المؤمنين. وكلمة (عَلى) في هذه الآية للاستعلاء ، ومعناه تشبيه تمسّكهم بالهدى أو
ثباتهم عليه باعتلاء الراكب مركوبه وتسلّطه عليه ولصوقه به. ونكّر (هُدىً) هاهنا للتعظيم ، (مِنْ رَبِّهِمْ) تأكيد لتعظيمه لأنه ممنوح منه ، وليس هو إلّا اللّطف
والتوفيق. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) تكرير الإشارة لفائدة اختصاصهم وتميّزهم بالميزتين عن
غيرهم.
٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : لما ذكر سبحانه أولياءه بصفاتهم الموجبة لهم وهي الهدى
والفلاح ، أتبعهم بأضدادهم : أي الكفرة العتاة الذين لا يتناهون عن منكر ولا
ينتفعون بالتبشير والإنذار. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) سواء : اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو التخويف من العقاب
مطلقا. والمراد منه هنا التخويف من عقاب الله تعالى. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها من الإعراب ، أو هي
حال من ضمير عليهم أيضا مؤكّد. وهذا الإخبار منه تعالى لا ينافي قدرتهم على
الإيمان ، لأنه سبحانه يخبر عن علمه بحالهم وعاقبة أمرهم. وعلم الله بعدم إيمان
شخص لا يسلب قدرة الشخص ، كما أن علمه بإيمانه لا يجبره عليه ، فلا يكون تكليفهم
به تكليفا بما لا يطاق.
٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ) ... الختم أخو الكتم. وعن الرضا (ع): هو الطّبع على قلوب
الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)(وَعَلى أَبْصارِهِمْ
غِشاوَةٌ) أي غطاء. (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) والعذاب كالنّكال زنة ومعنى ، ثم سمّي به كلّ ألم فادح وإن
لم يكن نكالا أي عقابا. و (العظيم) نقيض الحقير ، كالكبير نقيض الصغير.
٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) ... وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان. (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) تكرّر الباء لادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) تكذيب لقولهم : آمنّا ، على ما حكى عزوجل في صدر هذه الآية. والمراد ب (من) الموصولة : ابن أبي سلول
وأضرابه كمعتب بن قسمير ، وجماعة أخرى كانوا مع هؤلاء.
٩ ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ... الخدع (بالفتح والكسر) الختل ، وهو أن يظهر للغير خلاف
ما يخفيه ، وما يريد به من المكروه ، وأصل معناه الإخفاء. ومعنى المخادعة أن
يعملوا معهم معاملة المخادع من إبطال كفرهم وإظهار الإسلام لديهم. وإنما أضاف
مخادعة الرسول إليه تعالى لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال عزوجل : إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله ، والمخادعة مع
المؤمنين هو إيذاؤهم بخديعتهم (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يضرّون بتلك الخديعة أحدا وإنما يرجع وبال ذلك عليهم
دنيا وآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما يحسّون.
١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... أي شك ونفاق. ووجه تسمية الشك بالمرض أنّ الشك تردّد
بين أمرين ، والمريض مردّد بين الحياة والممات. ويمكن أن تكون إخبارا بأن القلوب
المريضة ـ بطبعها ـ يزداد المرض فيها لضعفها ولكونها مستعدة له كالأمزجة الضعيفة
إذا ابتلت بالمرض. فلما لم يكن فيها استعداد لمقاومة المرض ينمو فيها المرض ويصير
مزمنا ثم يؤدي إلى الموت. (فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) بحيث تاهت قلوبهم وكادت أن تذوب في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة أي مؤلم موجع غاية الإيلام (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) بمقالتهم آمنّا. ولفظ (كان) للاستمرار.
١١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) : بإظهار الشّقاق والنفاق بين المسلمين (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي ليس شأننا إلّا الإصلاح. وقد حصروا أمرهم في الإصلاح
لتصوّرهم الفساد إصلاحا لمرض قلوبهم.
١٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ... ردّ لدعواهم الكاذبة. (وَلكِنْ لا
يَشْعُرُونَ) بكونهم مفسدين مع غاية ظهور فسادهم الذي هو كالشيء المحسوس
، ولكنّ حبّ الشيء يعمي ويصم.
١٣ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا) ... وقد نصحوا بأمرين مكملين لإيمان العبد ، الأول : ترك
الرذائل في قوله سبحانه : ولا تفسدوا. والثاني : اكتساب الفضائل بقوله تعالى (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) يراد به النبيّ (ص) ومن آمن من أصحابه الخلّص. (قالُوا) في الجواب أو فيما بينهم : (أَنُؤْمِنُ كَما
آمَنَ السُّفَهاءُ). استفهام إنكاري. ولام السفهاء للعهد. والمعهود هم الناس
الذين آمنوا مع الرسول (ص) المذلّون أنفسهم لمحمد (ص). والسفه هو ضعف الرأي
والخفّة في العقل. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ) إنهم سفهاء ، أي أخفّاء العقول أراذل. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون سفاهتهم. ومن نفي عنهم العلم والشعور فأولئك
كالأنعام ، بل هم أضلّ.
١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... هذا البيان تثبيت لكونهم منافقين ، لأن صاحب اللسانين
هو الذي يقال له المنافق ، وهو أيضا بيان لصنعهم مع المؤمنين والكفّار ، أي إذا
رأوا المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) بما آمنتم به (وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ) أي انفردوا بإخوانهم من المنافقين الذين
يكذّبون الرسول
مثلهم فهم كالشياطين في التمرد والعصيان (قالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بمحمد وأتباعه.
١٥ ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ... أي يعاملهم معاملة المستهزئ ، أو يجازيهم على
استهزائهم. (وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من مدّ الجيش وأمدّه أي زاده لا من المد في العمر ،
فالمعنى : أنه يزيد في فسح المجال لطغيانهم. (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ويتردّدون ، والعمه هو التحيّر في البصيرة كالعمى
في البصر.
١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ) ... يعني باعوا دين الله واعتاضوا به الكفر بالله. فالشراء
هنا لم يكن مبادلة ، أي أخذا وعطاء ، بل هو ترك وأخذ (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ) والتجارة طلب الربح بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس
المال ، فهؤلاء المنافقون ، استبدلوا الهداية بالضلالة ، والطاعة بالمعصية ،
والربح بالخسارة! .. فأيّة جهالة أسوأ من هذه؟ .. (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) لطرق الحق والصواب ، أي للتجارة التي فيها الربح الوافر.
١٧ ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) المثل : في الأصل النظير ، ثم أطلق على القول السائر. ولا
يضرب إلّا لما فيه غرابة. ومعنى الآية الشريفة : حالتهم العجيبة كحال من استوقد
نارا أي طلب إشعال النار لارتفاع لهبها وسطوع نورها ، ليبصر بها ما حوله (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي انتشر نورها حول مستوقدها ليستضيء مع رهطه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أطفأ نارهم فذهب النور ووقعوا في الظّلمة. وتوضيح التشبيه
أن المنافقين بظاهر إيمانهم رأوا الحقّ وشاركوا المؤمنين في أحكام الإسلام. فلما
أضاء نور الإيمان الظاهر ما حولهم ، وأبصروا فوائد الإسلام ظلوا على عنادهم وعاشوا
في ظلمة ضلالهم. ثم أماتهم الله فصاروا في ظلمات عذاب الآخرة لا يجدون منها مفرّا
ولا مناصا (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) خلّى بينهم وبين ما اختاروه من الإصرار على الضلال لا يرون
بعيونهم ولا يفقهون بقلوبهم ، وهذا معنى تركه تعالى لهم.
١٨ ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ) : صمّ طرش عن سماع الحق ، بكم : عييّون عن النّطق به ، عمي
: مكفوفو البصر عن رؤيته ومع أنهم مكلفون بالرجوع عن الضلالة إلى الهدى فهم لا
يرجعون.
١٩ ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ... عطف على الذي استوقد. والصيّب المطر الذي يصوب أي ينزل
بشدة ، والسماء يراد بها العلاء. ووجه الشّبه هو أن ما خوطبوا به من الحق والهدى
كمثل مطر ، وكما أن الأرض تحيا بالمطر ، فإن القلوب تحيا بالحق والهدى. فالتشبيه
كان بلحاظ الحياة التي فيهما. (فِيهِ ظُلُماتٌ) أي في الصيّب الذي أريد به المطر. والظّلمات : ظلمة تكاثفه
، وظلمة غمامة ، وظلمة الليل. (وَرَعْدٌ) أي الصوت الذي يسمع حين يتولّد من احتكاك وتماسّ الذرات
المؤلّف منها السحاب بعضها مع بعض حين تحرّكها بسرعة ، وهو مثل للتخويف والوعيد (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع منه ، ويتولّد من كهربة الاحتكاك. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
مِنَ الصَّواعِقِ) الصاعقة نار تنزل من السماء عند قصف الرعد الشديد وومض
البرق الخاطف. (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوف الموت ، وخشية أن ينزل عليهم البرق بالصاعقة
فيموتوا من صوتها الرهيب أو إحراقها. (وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ) مطوّق لهم.
٢٠ ـ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) : وضعت لفظة (يكاد) لمقاربة الخبر من الوجود. والمعنى :
قريب بأن يختلس البرق أبصارهم ، أي يذهب بها سريعا!. (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ) كلما صادفوا من البرق فرصة وميض انتهزوها ومشوا ، وإذا هبط
الظلام وقفوا وتحيّروا. فكلما أضاء أي ظهر لهؤلاء المنافقين البرهان والحجة على ما
يعتقدون (مَشَوْا فِيهِ) أي في نوره (وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا) وقفوا متحيّرين لا يرون سبيلا يسلكونه إذا رأوا في دنياهم
ما يكرهون. (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) يذهب سمعهم بقصف الرعد أو ظهور صوت الدعوة الكريمة ، ويذهب
بصرهم بومض البرق وسطوع نور الإسلام. (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والشيء ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه وهو يعمّ الواجب ،
والممتنع ، والممكن. وخصّصه العقل هنا بالممكن. والقدير هو القويّ الفعّال لما
يشاء على ما يشاء. والله تعالى لا يعجزه شيء عن شيء.
٢١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ) ... لفظة «يا» لنداء البعيد ، وربما استعمل في القريب
منزّلا منزلته ، وإما لعظمته أو للاعتناء بشأن المدعوّ أو لغفلته. وكلمة «أي» وصلة
إلى نداء المعرّف باللام لتعذّر دخول (يا) عليه. وقد أقحمت ياء التنبيه تأكيدا
واهتماما بما خوطب
به. و (النَّاسُ) هم الموجودون من المكلّفين لقبح خطاب المعدوم ، وكل من
وجدوا بعد ذلك فهم يدخلون في الخطاب بدليل المشاركة. والخطاب مختلف فيه بالنسبة
إلى المخاطبين ، بالإضافة إلى الكفّار والبالغين المكلّفين جديدا بإحداث العبادة
بشرائطها المتوقفة عليها. وأما بالنسبة إلى المؤمنين فزيادة وتثبيت. (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) أي الذين خلقهم من قبلكم من الأمم. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يستفاد من الآية الشريفة أن العبادة مقدّمة لتحصيل التقوى
التي هي أعلى مراتب العبادة ، أو هي ترك المحرّمات والإتيان بالواجبات. كما أنه
يستفاد من قوله «لعلّكم تتّقون» أنه ينبغي أن يكون العبد بين الرّجاء والخوف لا
مغترّا بعمله وفعاله.
٢٢ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً) : أي مبسوطة تفترشونها تقعدون عليها وتنامون ، كالفراش. (وَالسَّماءَ بِناءً) أي قبة مضروبة عليكم. (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) يعني ماء المطر فإنه ينزل إلى الأرض من جهة السماء سحابا ،
أو مما فوق السحاب. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي بسببه. بأن جعله سببا في حياة الأرض. بما فيها من إنسان
وحيوان ونبات. (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) بعد ما عرفتم أنه تعالى وليّ نعمكم وخالقكم فلم جعلتم له
شركاء وأندادا؟ والندّ : المثل. والندّ فعلا هو المثل المخالف.
(وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) تعرفون أن هذه الأصنام التي جعلتموها أندادا له تعالى لا
تقدر على شيء لأنها جمادات.
٢٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : عبده ، تعالى : هو النبي (ص). وقد تحدّاهم بما نزّله
عليه من القرآن الكريم ، فقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) ... في الفصاحة والبلاغة والإعجاز. وأنّى لهم أن يأتوا
بمثل أقصر سورة من القرآن الذي أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء! .. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي استعينوا بكل من بحضرتكم يعاونكم في الإتيان بسورة مثل
سور القرآن ، إن كنتم صادقين في دعواكم بأن محمدا قد جاء به من عند نفسه.
٢٤ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ
تَفْعَلُوا) ... إن لم تعملوا الذي تحدّيتكم به (وَلَنْ تَفْعَلُوا) لعجزكم. (فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) جنّبوا أنفسكم النار التي وقودها ـ حطبها ـ الناس والحجارة!
.. (أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) أي خلقت وهيّئت لهم.
٢٥ ـ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) ... أخبر المصدّقين ومؤدي فروضهم ونوافلهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حدائق ذات بهجة ومساكن طيبة تجري تحت أشجارها وقصورها مياه
الأنهار. والنهر : مجرى الماء الواسع وإسناد الجري إليه من باب المجاز في الإسناد.
(كُلَّما رُزِقُوا
مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي كلّما منّ الله تعالى بثمرة يجتنونها ، (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ
قَبْلُ) في دار الدنيا. (وَأُتُوا بِهِ
مُتَشابِهاً) ... أي جيئوا بالثّمر يشبه بعضه بعضا في الاسم الناشئ عن
المشابهة في النوع واللون ، ولكنه مخالف في الطعم اللّذيذ والرائحة الزكية. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) منظّفة أبدان الأزواج من الحيض والأقذار والأدناس الظاهرية
والمعنوية. ونقية أخلاقهن من السوء كالحسد والنفاق وشكاسة الطبع وغيرها من الصفات
المكروهة. (وَهُمْ فِيها
خالِدُونَ) دائمون.
٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ... نزلت ردّا على الكفرة والمنافقين الذين قالوا : أما
يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذّباب والعنكبوت؟ .. وحاصل معنى الآية الشريفة أن
الله لا يستحيي : يترك حياء وخجلا ، من ضرب المثل بالبعوضة مع حقارتها. وبما فوقها
كالذّباب والعنكبوت مع هوانهما وضعفهما ، لفوائد هامّة يدركها الراسخون في العلم. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني أنه مهما يكن من شيء فإنّ المؤمنين يعلمون أنه الحقّ
البتّة. والضمير في (أنّه) عائد للمثل والحق : هو الأمر الثابت الذي لا يجوز
إنكاره. (وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يقولون استحقارا : أيّ شيء أراد وقصد بهذا المثل. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً) الضلالة والهداية متفرعتان عن الجملتين المتصدّرتين بأمّا.
فإن العلم بأن الأمثال حقّ ، هداية ، والجهل بأنها في غير موردها ضلالة. (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن القصد.
٢٧ ـ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ... حدّد صفات فسقهم فهم (يَنْقُضُونَ) أي يردّون ويرفضون (عَهْدَ اللهِ) ما
أخذه عليهم في
عالم الذر من الميثاق له بالربوبية ، (مِنْ بَعْدِ
مِيثاقِهِ) ذاك ، لأن الضمير في الميثاق عائد للعهد. أي بعد إحكام
العهد وتوثيقه وإبرامه. (وَيَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ينكثون الصلة بالنبيّ والمؤمنين ، والأرحام (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ينشرون الفساد ويدعون إلى الكفر والزّندقة ، وقطع طريق
المسلمين بالسرقة والتخويف والقتل والوعيد ، (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) وأيّة خسارة أعظم من استبدال نقض العهد بالوفاء ، والقطع
بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب؟. فهم كمن ضيّع رأس ماله باختياره
وكان عاقبة أمره الخسران الذي ألزمه عذاب الأبد وحرمه النعيم السرمد.
٢٨ ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ... استفهام إنكاريّ في مقام تعجّب. والخطاب لكفّار قريش
واليهود. كيف تنكرون الله وكنتم أمواتا : أي عناصر وأخلاطا وأغذية ونطفا في
الأصلاب قبل خلقكم ، (فَأَحْياكُمْ) أثناء وجودكم في أرحام أمهاتكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد خروجكم إلى دار الدنيا وعند حلول آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور عند السؤال أو يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون للحشر من القبور إلى الحساب والثواب أو الجزاء.
٢٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً) ... خلق ، أي أوجد لكم الأشياء لانتفاعكم في كل ما تحتاجون
إليه في حياتكم من المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ونحوها. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي وجّه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض وبثّ ما فيها (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي جعلهن مستويات طبق النظام الأحسن والأصلح. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عارف خبير.
٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ... أخذ بالتّنبيه إلى نعمة أخرى عليهم ، وهي نعمة خلق
أبيهم آدم (ع) وإكرامه وتفضيله على الملائكة. الملائك : جمع ملأك ، كالشمائل
والشّمأل. والتأنيث للجمع. وهم أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة. (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهو من يخلف غيره ، والمراد هنا آدم (ع). (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي كما فعل الجنّ من قبل إذ نشروا الفتن وأراقوا الدماء!.
وقد قالوا ذلك سؤالا لا اعتراضا عليه سبحانه. (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نفعل ما تريد من آدم من التنزيه والتطهير عما لا يليق
بجنابه تعالى ويكرهه. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ) أعرف ما لا تدركونه ما الغاية.
٣١ ـ ٣٢ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ... أي أظهرها ثم طلب منهم بلين ورفق قائلا (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أي أخبروني بأسماء هذه الأشباح التي ستتكوّن من آدم ـ وبعده
ـ (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم بأنكم أولى بالخلافة في الأرض من آدم؟ (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إذ أحسّوا بأنه تعالى كره جوابهم الذي جاء على مقتضى خلقهم
وأنهم لا يعرفون إلّا ما علّمهم بعد خلقهم. فحصروا العلم بذاته القدسية ، واعترفوا
بحكمته التي لا يدركونها ، وتأدّبوا في إظهار جهلهم أمام (الْعَلِيمُ) العارف (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله المصيب في أقواله.
٣٣ ـ (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ) ... أي أخبرهم بالأسماء ، وعرّفهم المسمّيات في مقاماتها
الراقية ، والضمائر في الآية الكريمة معهودة ومعروفة عند الملائكة ، ولولا ذلك
لكان تعليم أسماء المسمّيات المجهولة غير ذي فائدة ، حتى مع الوعد بتعريفها فيما
بعد. (فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أخبرهم بها فعرفوها بتطبيق الأسماء على المسمّيات. قال
تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعرف مكنوناتها وأسرارها (وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وأعرف ما تظهرون من ردّكم عليّ ، وما تخفون في ضمائركم
بأنه ليس أحد أفضل منكم.
٣٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ) ... أخذ سبحانه في بيان نعمة أخرى على بني آدم وفضيلة
ثانية ، إذ أمر الملائكة بالسجود لأبيهم. (وَإِذْ) : نصب بمضمر ، أي : اذكر يا محمد. والمأمورون هم الجميع
لعموم اللّفظ ولقوله تعالى في مورد آخر : فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلا إبليس.
والسجود ، لغة : التذلل والخضوع ، وشرعا : وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
وسجود الملائكة كان تعظيما لله وتكرمة لآدم (ع). (فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ) الذي إنما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء. ولم يكن من
جنسهم لأنه كان من الجن
(أَبى وَاسْتَكْبَرَ) عما أمر به ، وترفّع على آدم ، وخالف أمر ربّه (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في علم الله وصار منهم باستكباره واحتقاره لنبيّه (ع)!.
٣٥ ـ (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ... أنت : تأكيد للمستكن ليعطف عليه (الجنّة) اللام فيها
للعهد ، والمعهود هو هذه. وقيل هي من جنان الدنيا وتغرب فيها الشمس والقمر. ولكنّ
الظاهر من الآيات ومن لفظة (اهبطوا) وخلق آدم في السماء كما هو ظاهر كثير من
الروايات ، بل صريحها. أنّ الجنة هي جنة سماوية ، أكانت جنة الخلد أم غيرها. (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي أكلا واسعا وافرا بلا عناء من أي مأكول تريدان (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي شجرة الحنطة على ما هو المشهور. وهذا النّهي تنزيهيّ لا
تحريميّ. وقد علّق النهي فيه على الاقتراب من الشجرة ، لأن القرب من الشيء يغري به
ويكون مقدّمة لفعله. والنهي عن المقدمة نهي عن ذيها أكيدا ، ولذلك قال سبحانه (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسيكما بالإقدام على ما ليس فيه صلاح لكما. والظّلم هو
النقص في الحظّ والنّصيب ، فكأنّهما لمّا أكلا من الشجرة أنقصا حظّهما الذي قدّر
لهما في حال عدم الأكل منها. والمعنى الآخر للظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير
موضعه. وهذا ينطبق أيضا على المقام لأنهما وضعا الأكل في موضع الكف ، فتركا الأولى.
٣٦ ـ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) : أي حملهما على عدم الثبوت في أمرهما وأزاحهما عن فكرة
الكف. (فَأَخْرَجَهُما
مِمَّا كانا فِيهِ) من النّعم الجزيلة والمواهب السنيّة (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) والخطاب من الله تعالى ، صدر بنزول آدم وحواء بما استبطناه
من ذريتهما وإبليس. وهكذا أصبح آدم وحواء وما ولدا من الذّرية ، أعداء لإبليس
وذريته ، وهو وذريته لهم عدوّ. إلى الوقت الذي حدّد تعالى بقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فالأرض هي مكان بقائكم وموضع سكنكم ومنافعكم ومتعكم
ومعاشكم ومعادكم ، وأنتم فيها إلى وقت آجالكم ، أو إلى يوم قيامتكم.
٣٧ ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) : أي استقبلها وأخذها بالقبول. والكلمات يحتمل أن تكون
قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) ... الآية. أو الأسماء الطيبة الخمسة لأهل الكساء (ع)
ففيها أقوال عرضت لها التفاسير المفصّلة (فَتابَ عَلَيْهِ) قبل الله توبته (إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة. (الرَّحِيمُ) الواسع الرحمة والإشفاق على العباد.
٣٨ ـ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) : انزلوا من السماء إلى الأرض كلكم ، بعد تلقّي الكلمات
وبعد التوبة ، نزولا وهبوطا حقيقيا فعليا تكليفيا إثباتيّا. والضمير في (منها)
راجع إلى السماء أو الجنّة. والجميع : تعني المخالفين للنهي ، والسّاعين لهما في
المكيدة ، (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي إن يأتكم منّي هدى على لسان رسول أو بكتاب (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فمن اقتنع ومشى بحسب هداي وطريقتي نجا وفاز ولا خوف ولا
حذر عليه ، ولا يصيبه ما يحزنه ويكدّره.
٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) ... أي جحدوا ولم يصدّقوا بآياتي ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) فهم أهل النار ، وسأخلّدهم في جهنّم خلودا سرمديا جزاء
استكبارهم وكفرهم.
٤٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ) ... يا أولاد يعقوب الذي هو إسرائيل ، (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). لا تنسوا أبدا نعمي التي أهمّها إنجاء آبائكم من فرعون
والغرق (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أوفوا بميثاقي عليكم في عالم الذّر ، من الإيمان بي
وبرسلي وكتبي المنزلة إليكم ، وبما فيها من الشرائع والأحكام. فإذا وفيتم بهذه
المذكورات وفيت بما عاهدتكم عليه من الأجر والثواب (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) أي خافوني. والرهبة خوف التحرّز.
٤١ ـ (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ) ... صدّقوا بالقرآن الذي أنزلت على محمد (ص) فهو يصدّق
كتبكم السماوية من التوراة والإنجيل وغيرهما ، (وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فهو يحذّرهم إنكار ما أنزل ، ويعرّض بهم خاصة ، لأنهم أهل
كتب والواجب عليهم أن يكونوا أول المؤمنين به ، لكونهم عارفين به وبصفاته وبكيفية
بعثته. قد قرءوها في كتبهم ، وأخبرهم بها أحبارهم ورهبانهم. فهذا الذي كان مترقّبا
منهم ، لا أن يكونوا أول الكافرين به. (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لا تستبدلوا حججي برئاسة دنيويّة مؤقّتة هي لكم في قومكم ،
تنالون فيها الرّشى
والتحف والهدايا
على تحريف الحق وكتمانه. (وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ) تجنّبوا بطشي باتباع الحق ومجانبة غيره.
٤٢ ـ (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ... أي لا تجعلوا الحق الواضح مشتبها بالباطل ومختلطا به. (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) تخفوا نعوت محمد (ص) الموجودة في كتبكم المنزلة من عند
ربّكم ، وتخفون الحق (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) تعرفون ذلك.
٤٣ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) ... أي أقيموا صلاة المسلمين وادفعوا زكاتهم. وهي صريحة
بأن الكفّار مخاطبون بالفروع كالأصول. والظاهر في خصوص الزكاة في خصوص هذا المورد
وأمثاله أنها الزكاة المالية ، وقيل هي زكاة الفطرة. (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ). ذكر سبحانه الركوع بعد ذكر ما تشتمل عليه الصلاة ، لأنه
يكشف عن الخضوع الخاصّ الذي ليس في غيره ، ولذا خصّه تعالى بالذّكر. وقيل إن صلاة
اليهود ليس فيها ركوع ولذا أمرهم به.
٤٤ ـ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ... جاءت في مقام التعجّب والتوبيخ. والبرّ العطاء ،
والمراد منه هنا كلّ خير (وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ) تتركونها معفاة من ذلك؟ .. (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ) تقرأون التوراة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تدركون أيّ قبح يترتّب على عدم امتثالكم وتناسيكم
أنفسكم؟.
٤٥ ـ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ... أطلبوا العون لأنفسكم بالصّبر على اتّباع الحق ورفض
المال والجاه ، وبكف النفس عن مشتهياتها وميلها إلى المعاصي ، وضعفها عن الطاعات.
وقيل إن الصبر في الآية هو الصيام. (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) أي الصلاة. ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الاستعانة.
والمراد بكبرها كونها ثقيلة شاقة (إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ) المتواضعين الخاضعين لله تعالى.
٤٦ ـ (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ... يظنّون هنا : يعتقدون لقاء الله وحسابه يوم البعث.
فالظنّ هنا : العلم ، لأن الخاشعين بعيدون غاية البعد عن الظّن بلقاء ربّهم
وبالبعث والنشور والثواب والعقاب ، بل هم العالمون بذلك علما يقينا ، وخشوعهم يكشف
عن علمهم الذي ذكرناه. (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) معادون يوم القيامة للنّعيم والجنان والجزاء الأوفى.
٤٧ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... كرّر الخطاب لتنشيط السامع وترغيبه بلذة المتابعة. فقد
روى أن لذّة النّداء أزالت مشقّة التكليف. فالتكرار هنا ليس مستهجنا ، بل له فوائد
جليلة ، وتترتّب عليه آثار كثيرة. فعلى هذا الأساس قال سبحانه (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) حيث إني بعثت منكم نبيّا ـ موسى (ع) ـ وخلّصتكم من ظلم
فرعون وقومه ، وأنزلت عليكم المنّ والسّلوى (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي فضّلت أسلافكم على عالمي زمانهم تفضيلا دينيّا لأنهم
آمنوا برسلي وأجابوا دعوتي ، وجعلت منكم ملوكا دنيويّين ورزقتكم من الطيّبات.
٤٨ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) : أي تجنّبوا يوم عذاب لا ينقضي ، ولا تتحمّل فيه نفس عن
نفس شيئا ولا تقضي عنها حقّا ولا تخفّف عن كاهلها جزاء. (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) إذ ترفض شفاعة نفس عن نفس. والشفاعة من الشّفع ، وهو
الزّوج من العدد ، فكأن المشفوع له (الفرد) يصير شفعا (زوجا) بضمّ الشفيع نفسه
إليه. (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها
عَدْلٌ) أي لا يقبل منها فدية تعدل الجرم وتوازنه ... (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولا ينجحون وينجون من العذاب بإعانة معين ولا بنصرة ناصر ،
بل يبقون فيه أبد الأبد.
٤٩ ـ (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ) ... أصل الآل : أهل ، لأنه يصغّر على أهيل. وفرعون : لقب
كل ملك من العمالقة في مصر ، كقيصر وكسرى لملكي الرّوم والفرس. وفرعون موسى (ع) هو
مصعب بن الرّيان أو ابنه وليد. وفرعون يوسف (ع) الرّيان. وبينهما أكثر من أربعمائة
سنة. (يَسُومُونَكُمْ) أي يهينونكم ويذلّونكم ويذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشدّه وأسوأه (يُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ) يقتلون الذكور من أولادكم إمّا ببقر بطون الحوامل وإخراجهم
وقتلهم ، وإمّا بذبحهم بعد الولادة. (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) يستبقونهن إماء للخدمة والنكاح. (وَفِي ذلِكُمْ) أي في صنيعهم معكم ، وإنجائكم منهم (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) محنة واختبار صعب كبير.
٥٠ ـ (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ... أي اذكروا حينما فصلنا البحر فرقا وجعلنا فيه مسالك
تعبرون منها للخلاص (فَأَنْجَيْناكُمْ) خلّصناكم من كيدهم (وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) أطبقنا لجج الماء عليهم (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) ترون إغراقهم ..
٥١ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً) ... واعده : ضرب معه موعدا وجعل له ميقاتا بأن ينزل عليه
التوراة بعد هلاك فرعون بثلاثين يوما ، هي ليالي تمام ذي القعدة وعشرة من ذي
الحجة. وقد عبّر عن الفترة بالليالي لأنها غرّة الشهور ، وفي الليالي يستهلّ القمر
الذي يحدّد الشّهر بمنازله يوما بعد يوم. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ) اتّخذتموه إلها تعبدونه بتسويل السامريّ (مِنْ بَعْدِهِ) بعد مضيّ ميقات عودة موسى بالتوراة. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بشرككم.
٥٢ ـ (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ) : غفرنا لكم عبادة العجل بعد التوبة وتجاوزنا عن جرمكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله الذي
عفا عنكم.
٥٣ ـ (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أعطيناه التوراة (وَالْفُرْقانَ) آياته ومعجزاته المفرّقة بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أملا بأن ترشدوا بما فيه.
٥٤ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... أذكر يا محمّد يوم خاطب موسى قومه قائلا (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي ارجعوا إلى عبادة خالقكم ، وأقلعوا عن ذنبكم العظيم.
والبارئ من برأ : خلق من العدم ، ومنه البريّة أي الخليقة وجمعها البرايا. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إظهارا للتوبة وفرط النّدم. والظاهر أن التائب كان يقتل
نفسه إمّا بأن يباشر المرء قتل نفسه ، وإمّا بأن يقاتل العبدة فيقتل بعضهم بعضا
حتى يجيء أمر الله بقبول التوبة فيرفعوا اليد عن المقاتلة بعدها (ذلِكُمْ) أي قتل أنفسكم توبة وندما (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بارِئِكُمْ) أحسن بنظر خالقكم من بقائكم أياما قليلة في الدنيا تموتون
بعدها فتخلّدون في النار .. وفي ذكر لفظة (بارئكم) مرة ثانية تقريع لبني إسرائيل
على تركهم عبادة البارئ إلى عبادة العجل. وإذ فعلتم ذلك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول موسى (ع). والتقدير : ما
زلتم قد فعلتم ما أمركم ربكم فقد تاب عليكم. (إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) القابل للتوبة مرة بعد مرة.
٥٥ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ). لن نصدّقك ونعترف بنبوّتك وبأن الله تعالى أرسلك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ننظر إليه عيانا وعلنا. (فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك أنهم سألوا أمرا عظيما عنده سبحانه إذ طلبوا رؤيته مع
أن المرئيّ ينبغي أن يكون مواجها وأن يكون جسما وهذا محال بحقه تعالى. فأخذتهم
الصاعقة السماوية بغتة لخطورة ما رغبوا فيه ، فأحرقتهم بلا مهلة حريق استئصال. أو
أنها كانت صيحة عذاب ، أو قصف رعد مهلك ، فماتوا في الحال التي هم عليها وهم
ينظرون إلى الصاعقة تنزل عليهم.
٥٦ ـ (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ) ... أي أحييناكم. بعد الموت. (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على إحيائكم بعد إماتتكم بالصاعقة.
٥٧ ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ... بسطنا عليكم ظلّ الغمام في صحراء التّيه ، وجعلناه فوق
رؤوسكم ليقيكم حرّ الشمس (وَأَنْزَلْنا
عَلَيْكُمُ الْمَنَ) يقال إنه كان كالصّمغ يسقط على الأشجار. وهو ألذّ من
الشّهد وأنصع من الثلج (وَالسَّلْوى) الطير الدّسم المعروف ، وهو من أطيب الطيور. وقيل إنه كان
ينزل عليهم مشويّا عند العشاء فإذا أكلوا وشبعوا منه رفع. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) يعني قلنا لهم. كلوا من هذا المباح اللذيذ. (وَما ظَلَمُونا) لم يلحقوا بنا ظلما بكفرهم هذه النّعم وتبديل الكفر بالشكر
(وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يضرّونها ويجحفون بحقّها.
٥٨ ـ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ) ... أي بيت المقدس بدليل قوله تعالى في مكان آخر : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) بعد خلاصهم من التيه. (فَكُلُوا مِنْها
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) كلوا ما أردتم من أنواع الأطعمة أكلا رغدا : واسعا هنيئا. (وَادْخُلُوا الْبابَ) مدخل القرية أو القبّة التي كانوا يصلّون إليها (سُجَّداً) خاضعين ساجدين شكرا لله (وَقُولُوا حِطَّةٌ) من حطّ الحمل عن ظهر الدابّة : أنزله. يعني : قولوا حال
سجودكم : نرجو أن يكون فعلنا سببا لحطّ ذنوبنا وكفارة لخطايانا. فإذا قلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) نتجاوز عن ذنوبكم السالفة ، (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) مع المغفرة زيادة أجر ، ونكثر لمن أطاع وأحسن منكم.
٥٩ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) ... أي غيّروا ، ووضعوا مكان الدعاء بحطّ الذنوب قولا غيره
كقول بعضهم : حنطة ، استهزاء بالتكليف!. وقيل إن بعضهم وضع مكان السجدة الزحف على
استه نحو الباب ، سخرية واستخفافا بأمر الله عزوجل!. (فَأَنْزَلْنا
عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) عتوا ولم ينقادوا لموسى (ع) في الأقوال ولا في الأفعال (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا مقدّرا ، قيل إنه الطاعون الذي مات فيه أربعة وعشرون
ألفا في ساعة واحدة ، وقيل مائة وعشرون ألفا!. (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم الذي كانوا لا يرجعون عنه ولو عاشوا أبد
الدهر ..
٦٠ ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) ... تذكّر يا محمد حين سأل موسى قومه الماء لمّا عطشوا في
التّيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْحَجَرَ) عصاه. هي العصا التي دفعها إليه شعيب (ع) ، وكانت من آس
الجنّة أهبطها آدم معه. و «الحجر» : حجر طوريّ مربّع تنبع من كل وجه منه ثلاث أعين
، فلكلّ سبط تسيل عين في جدول يستقون منه. (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) لكل سبط عينه (كُلُوا وَاشْرَبُوا
مِنْ رِزْقِ اللهِ) نعمه الجزيلة كالمن والسّلوى وماء الحجر (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) لا تطغوا فيها وتظهروا الفساد.
٦١ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ
عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ... أي لا صبر لنا على نوع واحد من الطعام الذي هو المن
والسّلوى دون غيرهما. (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) اطلب منه لأجلنا (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) أي خضرها وأطايب أنواعها. (وَقِثَّائِها) النبات المعروف الذي ثمره يشبه ثمر الخيار (وَفُومِها) الفوم هو الثوم (وَعَدَسِها
وَبَصَلِها) وهما معروفان (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى) أتطلبون تغيير
الطعام الأقرب مكانة ، والأسهل تناولا ، والأقل كلفة؟ ، (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أحسن وأرفع منزلة ، وأطيب طعما ، وأبعد عن الكدّ والتعب
بسبيله؟. (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انزلوا مصرا من الأمصار : أي بلدا من البلدان ، لا مصر
فرعون التي خرجوا منها (فَإِنَّ لَكُمْ ما
سَأَلْتُمْ) حيث تجدون ما طلبتم من تغيير النعمة بأدونها وأخسّها. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ) وهذه من الأخبار الغيبيّة التي ظهرت آثارها على اليهود من
زوال ملكهم حتى أيّامنا هذه ، وستبقى إلى الأبد بلا ريب. والذلة : هي الهوان.
وضربت : جعلت والمسكنة : أثر الفقر من السكون والخزي. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا بعد صفاتهم هذه كلّها مغضوبا عليهم ملعونين مستحقّين
للغضب واللّعن. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ينكرونها ، والثاني أنّهم كانوا لا يتورّعون عن الوقوف في
وجه دعوة الله (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كزكريّا ويحيى ، (ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ذلك : إشارة إلى ما ذكر من كفرهم وعصيانهم واستهزائهم
بالله وملائكته ورسله وكتبه.
٦٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ممّن حولك يا
محمّد من المسلمين. (وَالَّذِينَ هادُوا) دخلوا في اليهودية. وهاد بمعنى رجع إلى الحق وتاب. وسمّوا
يهودا لتوبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل. (وَالنَّصارى) جمع نصران ، كسكارى وسكران. دعوا بهذا الاسم إمّا لأنهم
تناصروا فيما بينهم ، أو لانتسابهم إلى قرية الناصرة التي كان يسكنها عيسى (ع) بعد
دعوته مع أمّه من مصر أو هو مأخوذ من قوله : من أنصاري إلى الله؟ قال له الحواريون
: نحن أنصار الله. (وَالصَّابِئِينَ) وهم جيل صبوا إلى دين الله أي : مالوا ، وهم كاذبون في
دعواهم. أو ـ كما قيل ـ كانوا يعبدون الكواكب أو الملائكة ، من : صبأ إذا خرج. أو
أنهم من صبا : مال ، وقد مالوا عن جميع الأديان (مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صدّق بالله وبالبعث يوم القيامة ، ونزع عن كفره من هؤلاء (وَعَمِلَ صالِحاً) فعل ما أمره الله به خالصا عن الشوائب ، لا يبغي إلّا رضى
الرّب (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) لهم ثوابهم الذي يستوجبونه على الإيمان الكامل الخالص من
كل ما كرهه الله (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون على الدنيا ، وينجون من
هذين الأمرين اللّذين قد يعرضان لكل أحد.
٦٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي اذكروا العهد الذي أخذناه عليكم بالعمل بما في
التّوراة من التكاليف ، ومن الاعتراف بنبوّة محمّد (ص) (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وهو جبل في صحراء التّيه بسيناء. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) اقبلوه. و «ما» موصول يعني التوراة. (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ وإيمان صادق. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي لا تنسوا ما في التوراة واعملوا بموجبها ولا تغفلوا
شيئا منها (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) لكي تتجنّبوا عذابي وتتّقوني وتخافوا عقابي.
٦٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ... أي :
أعرضتم عن العهد
والميثاق والوفاء بهما (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد أخذكم ما عاهدتم عليه (فَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لولا تفضّله عليكم بقبول التوبة ، وإمهاله لكم بعد أن
راجعتموه فيما فرض عليكم ، ورحمته التي شملتكم بإنعامه عليكم بالإسلام لولا ذلك (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) مع من خسر من الذين لم يوفّقوا للتوبة ولا للإقرار بمحمّد (ص)
بعد ظهور دعوته.
٦٥ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) ... عرفتم الذين تجاوزوا حدود ما شرع لهم من النهي عن صيد
الحيتان يوم السبت. (فَقُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعلهم ـ بالمسخ ـ قردة مبعدين عن رحمته في الدنيا والآخرة.
٦٦ ـ (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ
يَدَيْها) : الضمير في جعلنا يعود إلى الأمة التي مسخت قردة. وهم أهل
أيلة ، القرية التي على شاطئ البحر. وقيل إنه قصد المسخ والقرديّة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لمن حضرها وشاهدها (وَما خَلْفَها) ولمن يأتي بعدها من الأمم. (وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) أي أنها نصح وتذكير لمن كان متّقيا منهم أو من غيرهم.
٦٧ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... اذكروا ـ يا بني إسرائيل ـ يوم قال موسى ليهود عصره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسبب الأمر بذبحها : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له
، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه.
فقالوا لموسى : سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله. فقال (ع) : «إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة» ائتوني ببقرة ، (قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً) أي تستهزئ وتسخر منّا؟. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) استعاذ به تعالى من أن يسخر ويستهزئ. ولو أنهم عمدوا إلى
بقرة أجزأهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم.
٦٨ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سل ربّك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما
هِيَ) وما صفتها لنمتثل أمره (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ) بعد ما سألته (إِنَّها بَقَرَةٌ لا
فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي أنها لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بينهما. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) فنفّذوا ما أمركم الله تعالى به.
٦٩ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما لَوْنُها) ... سألوا عن لونها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) صفراء شديدة الصّفرة حتى قرنها وظلفها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ترتاح نفس الناظرين إليها.
٧٠ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سألوه أن يسأل ربه (يُبَيِّنْ لَنا ما
هِيَ) تكريرا لزيادة الاستيضاح وبيانا لكثرة لجاجهم وشدة خصومتهم
مع نبيّهم (ع) فقالوا : (إِنَّ الْبَقَرَ
تَشابَهَ عَلَيْنا) أي اشتبهت صفته التي أمر الله بها. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفتها بتعريف الله.
٧١ ـ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) ... أجاب موسى (ع) أن الله تعالى يقول إنها (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لم تذلّل بحراثة الأرض وقلبها بالفلاحة وبأظلافها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) وليست من النواضح التي تدير النواعير فتسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) سليمة من العيوب ، لا وضح فيها ولا لون يخالط لونها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي ظهرت حقيقة صفاتها. فلمّا تمّت صفات البقرة اشتروها (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي فعلوا ذلك ببطء وكانوا يريدون أن لا يفعلوا ذلك : إمّا
لغلاء ثمنها. وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا لجاجا في العناد كما هي عادتهم.
٧٢ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ... خوطب الجميع لوجود القتل فيهم أو لمداهنة غير
المباشرين معهم ، الكاشفة عن رضاهم بفعلهم ، لكون القاتل معلوما عند أكثرهم من
القرائن. (فَادَّارَأْتُمْ
فِيها) أي تدافعتم فدفع كلّ متّهم التّهمة عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) أي مظهره ومبرزه.
٧٣ ـ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ... أي خذوا جزءا من البقرة التي ذبحتموها ، كذنبها أو
فخذها أو لسانها ، ثم اضربوا القتيل به فإنه يحيا ويخبر بقاتله. وهكذا كان. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي يعيد لهم الحياة. وهو خطاب منه سبحانه لمشركي قريش
وغيرهم يبيّن فيه سهولة البعث. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته وأعلام الدلالة على صدق محمّد (ص) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفكّرون وتستعملون عقولكم كيلا تكونوا كمن لا عقل له.
٧٤ ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ... خلت من اللين والرحمة وتصلّبت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد إحياء القتيل. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في صلابتها وعدم لينها (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً) من الحجارة ولم يقل سبحانه : أقسى ، بل قال : أشد لأنها
أبلغ في إظهار القسوة ، وقد بيّن تلك الأشديّة بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهارُ) أي من الحجارة ما هو أنفع للناس منكم لأنفسكم. فمن الحجارة
ما ينبع منه الماء وتفيض العيون (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ
اللهِ) ينزل ويتردّى من أعالي الجبال خشية وانقيادا وخضوعا وخوفا
من الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيّها المكذّبون بآياتي ، الجاحدون لنبوّة خاتم رسلي محمد (ص).
٧٥ ـ (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ... الخطاب للنبيّ (ص) ، ولصحبه. يعني : هل أنتم تحرصون
وترغبون بأن يؤمن لكم هؤلاء اليهود ، ويصدّقوا بالنبيّ وكتابه ويقبلوا ما فيه (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) فئة ، منهم ـ أسلافهم ـ كانوا يسمعون كلام الله تعالى على
لسان نبيّه موسى (ع) في طور سيناء ، وكانوا يفهمون أوامره ونواهيه وجميع مواعظه
ونصائحه ، (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) يغيّرونه ويحوّلونه عن حقيقته ، ويؤوّلونه وفق ميولهم بعد أن
كانوا قد فهموا المراد منه. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) علما وجدانيّا أنهم مفترون كذبة فيما ينقلونه لأصحابهم من
صفات محمّد (ص) وموعد بعثته.
٧٦ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... بمحمد (ص) وبرسالته (قالُوا) أي قال هؤلاء المنافقون : (آمَنَّا) صدّقنا بأن محمدا (ص) على الحق وأنّه المبشّر به في
التوراة. (وَإِذا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) جمعتهم خلوة مع أقرانهم من منافقي اليهود ـ بعيدا عنكم ـ قال
المنافقون لأندادهم ممّن قابلوا المؤمنين : لم حدّثتم المؤمنين بمحمّد بما بيّن
الله لكم في التّوراة من صفاته؟. ولم أخبرتموهم بذلك وفتحتم لهم باب الاحتجاج
عليكم وعلينا ـ اليوم وفي يوم القيامة ـ حين أظهرتم لهم ما نطق به كتابكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتدركون أن الذي اعترفتم به لهم ، صار حجة في يدهم علينا
جميعا عند ربّنا!.
٧٧ ـ (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ
يَعْلَمُ) ... أفلا يعرف اليهود القائلون لإخوانهم : أتحدّثونهم
بالحقّ ليحاجّوكم به أنّ الله يعرف (ما يُسِرُّونَ) ما تحكونه في سرّكم ، وما تضمرونه من عداوة محمّد (وَما يُعْلِنُونَ) من إيمانكم الكاذب لأنكم تظهرون الإيمان وتبطنون الكفر ..
٧٨ ـ (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ... جاهلون للقراءة والكتابة (لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ) أي التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) جمع : أمنية ، وهي التعليل بالكذب ، فهم لا يعرفون من
التوراة إلّا أكاذيب أحبارهم المختلقة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) بما يقلّدون به رؤساءهم.
٧٩ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ... الويل : حلول الشّر. والهلاك. أو أدنى وأسوأ بقاع جهنم
، والمراد بالذين يكتبون الكتاب : اليهود. أي الذين يكتبون التوراة المحرّفة ، بأيديهم
ـ تأكيدا ، كما يقال : رآه بعينه ، وسمعه بأذنه. (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا
مِنْ عِنْدِ اللهِ) وذلك أنهم كتبوا صفات النبي (ص) عن التوراة بعد ما حرّفوها
، ثمّ نسبوها إلى التوراة المنزلة. (لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) أي ليعتاضوا بما يأخذونه من أعراض الدنيا. كالهدايا
والرّشى والوجاهة ، وغير ذلك مما هو قليل زائل مهما كان جليلا. (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الحرام ، والمعاصي بإزاء هذه المقالات الكاذبة.
٨٠ ـ (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ... هذا جوابهم لذوي أرحامهم حين سألوهم : لم تفعلون هذا
النفاق مع أنكم تنالون غضب الله وسخطه وستخلدون في النار؟. فأجابوا قائلين : ليس
الأمر كما تزعمون ، ولن يعذّبنا الله بالنار (إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُودَةً) كمقدار ما عبدنا العجل ـ أربعين يوما ـ ثم نصير إلى
الجنان. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) أي : يا محمّد قل لهؤلاء المنافقين : بأي برهان تستدلّون
على دعواكم الباطلة؟. هل عقدتم مع الله سبحانه عهدا بأن لا يعذّبكم إلّا بمقدار ما
عبدتم العجل؟. (أَمْ تَقُولُونَ
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أم تدّعون الكذب وتفترون على الله؟. ما ليس لكم به علم.
٨١ ـ (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ) ... نعم قد تمسّكم النار ، أنتم وكل (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) عمل عملا قبيحا وفعلا شنيعا (وَأَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ) طوّقته من جميع نواحيه. (فَأُولئِكَ) أي المرتكبون للسيئات ، الذين تحيط بهم خطاياهم ، هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنّ نيّاتهم في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله
أبدا.
٨٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) ... لمّا توعّد الله المسيئين الخاطئين بالنار ، ثنّى
بوعده الكريم للمؤمنين
الذين يفعلون
الواجبات ويلتزمون بالتّروك فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
٨٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) ... واذكر يا محمد حيث ألزمناهم إلزاما مؤكدا (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) إخبار معناه النّهي ، وهو أبلغ من صريحه فكأنّه قد سورع
إلى امتثاله فأخبر عنه. (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) أي تحسنون لهما إحسانا. (وَذِي الْقُرْبى) أي بذي القربى ، تصلونه وتحفظون قربه منكم (وَالْيَتامى) أن ترأفوا بهم وتعطفوا عليهم وتعاملوهم بالشفقة (وَالْمَساكِينِ) وأن تؤتوا المساكين حقوقهم المشروعة لهم. والمسكين بوزن
مفعيل من السكون. فكأنّ الفقر أسكنهم في بيوتهم أو قعد بهم عن الطّلب وأخجلهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) يعني قولا حسنا ، بأن تعاملوهم بالخلق الجميل. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في أوائل أوقاتها ويتضمن الأمر بإقامتها : إتيانها بجميع
شرائطها التي لها دخل في صحتها وكمالها (وَآتُوا الزَّكاةَ) بإيصالها إلى أهلها على ما فرضه الله سبحانه في كتابه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم أيها اليهود عن الوفاء بالعهد (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أي من أسلم منكم (وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ) منصرفون.
٨٤ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي : يا بني إسرائيل اذكروا حين أخذ العهد على أسلافكم
وعلى من يصل إليه هذا الأمر (لا تَسْفِكُونَ
دِماءَكُمْ) أي لا يريق بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أن لا تفعلوا ما يبيح قتلكم وإخراجكم عن بلادكم وأوطانكم.
وقد جعل غير الرجل نفسه لاتّصاله به أصلا أو دينا. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) اعترفتم بذلك الميثاق كما اعترف به أسلافكم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على إقرار أسلافكم.
٨٥ ـ (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ... أيها المنافقون الناكثون المخاطبون (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) بفعلكم ما يكون سببا لقتلكم ، أو أن المراد : قتل بعضهم
بعضا (وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) تظاهرون : تتظاهرون أي تتعاونون عليهم بما هو إثم : أي
قبيح يستحقّ فاعله اللّوم عليه. والعدوان : هو الإفراط في الظّلم والتعدّي. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) يعني أن الذين تخرجونهم من ديارهم ، وتتعاونون على ذلك
وعلى ظلمهم وقتلهم ، إن أسرهم أعداؤكم أو أعداؤهم تدفعون عنهم فدية للأعداء ، من
أموالكم ، وتأخذونهم من أيديهم بكلّ قيمة وبكل وسيلة كانتا (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ) كرّر سبحانه تحريم إخراجهم من ديارهم لئلّا يتوهّم تحريم
المفاداة. والضمير في قوله (وَهُوَ) للشأن. (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) بصيغة اسم المفعول ورفع قوله (إِخْراجُهُمْ). (أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فالذي أوجب المفاداة هو الذي حرّم القتل وإخراج العباد من
ديارهم. فما بالكم تطيعونه في بعض وتعصونه في الآخر؟. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ) ما قصاص من يعمل عملكم (إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ذل بضرب الجزية عليهم مع ما يستبطن ذلك من الهوان. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى
أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يرجعون إلى عذاب في الآخرة يتفاوت على قدر مراتب معاصيهم
ومخالفتهم له سبحانه.
٨٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) : ابتاعوا حظّ الدنيا الفانية وحطامها الزائل ، بنعيم
الآخرة الباقية الخالدة (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ) فما لهم في الآخرة إلّا النار (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعانون ويساعدون بدفع العذاب عنهم.
٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أتبعنا به وأرسلنا على أثره الرّسل : الأنبياء ، واحدا بعد
واحد (وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة : كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء
الموتى ، والإخبار بالمغيّبات. (وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قوّيناه به. ويقال إن روح القدس هو جبرائيل (ع). وقيل
إنه ملك موكّل بحراسة الأنبياء من الحوادث ، وإلهامهم العلوم والمعارف ، وقيل أيضا
هو الاسم الأعظم الذي به يحيي الموتى وبه يحصل تنفيذ سائر الأمور الخارقة للعادة. (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا
تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) يا معشر اليهود : ما لكم كلّما أرسلنا نبيّا لا يجيئكم بما
تحبّون (اسْتَكْبَرْتُمْ) أخذتكم الكبرياء عن اتّباعه وإطاعته (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهماالسلام (وَفَرِيقاً
تَقْتُلُونَ) كما فعل أسلافهم.
٨٨ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ... أي مغشاة بأغطية تحول دون وصول ما تقوله يا محمّد لنا.
(بَلْ لَعَنَهُمُ
اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أبعدهم من الخير والرّحمة ،
وأخزاهم بسبب
كفرهم. (فَقَلِيلاً ما
يُؤْمِنُونَ) تصديقهم في غاية القلّة أما كلمة (ما) فمزيدة ، وفائدتها
التأكيد لما تدخل عليه.
٨٩ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) ... أراد بالكتاب القرآن (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) أي : التوراة ، فإنّ القرآن يصدّق بأنها كتاب سماويّ نزل
من عند ربّ العالمين (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل ظهور محمّد (ص) بالرسالة والدّعوة ، (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي يطلبون الفتح والظّفر والنّصر على المشركين ويقولون :
اللهم انصرنا بالنّبيّ المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد وصفه ونعته في التّوراة. (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) حين أتاهم ما عرفوا من الحقّ المذكور في كتابهم ، وهو نعت
محمد (ص) وأوصافه الدّالة عليه وعلى نبوّته (كَفَرُوا بِهِ) أنكروه وجحدوه (فَلَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الْكافِرِينَ) المنكرين الذين صاروا مطرودين من رحمة الله.
٩٠ ـ (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ... أي بئس الشيء شيئا باعوا به أنفسهم. (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) الجملة بيان ل (ما) الموصولة التي في (بئسما) وهذه هي
المخصوصة بالذّم. فالله سبحانه ذمّ اليهود وعابهم لكفرهم بما أنزل على موسى بن
عمران (ع) من التوراة التي تصدّق محمدا (ص) وتبيّن أوصافه وعلاماته ، واليهود قد
عرفوا ذلك وجحدوه (بَغْياً) أي عدولا عن الحق (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي لأن ينزّل القرآن على محمّد (ص) حيث أبان فيه نبوّته ،
وأظهر فيه ، أو به ، آيته التي هي معجزته الباقية إلى الأبد. (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) رجعوا خائبين مستحقّين لغضب فوق غضب. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) مذلّ.
٩١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ) ... أي صدّقوا بما أنزل على محمد (ص) أو بكل كتاب أنزله
على الرّسل. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ) ينكرون ما دونه من الكتب السماوية كالإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) الصادق الثابت الناسخ لما قبله. (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ومصدقا : حال مؤكدة من مرجع الضمير في : وهو الحق ، وردّ
لمقالتهم ، لأنّ كفرهم بما يوافق التوراة ويصدّقها ـ أي القرآن ـ كفر بها أيضا. (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ
اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل يا محمّد لليهود : لو كنتم مؤمنين بالتوراة وبما
فيها فلم تقتلون أنبياء الله في الأعصار الماضية مع أن صريح التوراة حرّم قتل
النّفس المحترمة فكيف بالنفوس المقدّسة ، كنفوس النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين؟.
٩٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ... البيّنات هي الآيات التّسع الواضحات التي من أعظمها
جعل العصا حيّة ، واليد البيضاء. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) جعلتم العجل إلها بعد انطلاقه لميقات ربه. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بعبادة العجل.
٩٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... ألزمناكم بالعهد على أن تفوا به ولا تعبدوا إلّا الله
ولا تشركوا به شيئا. (وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) : جبل في صحراء سيناء. (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم من الدين وأحكامه وفروضه
بعزم وثبات (وَاسْمَعُوا) ما أمرتم به سماع طاعة (قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا) أي سمعنا ما دعانا إليه محمّد (ص) وما أطعناه. (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) دخل حبّ العجل في أعماقهم كما يدخل الصبغ الثوب فيتخلّله
بكافة أجزائه ، وتغلغل في قلوبهم كتغلغل الشّراب في جوف الظمآن (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم. (قُلْ بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي التوراة فإنها ليس فيها عبادة عجول ولا أمر بالكفر
بالله (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بموسى وكتابه كما تزعمون.
٩٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ) ... أي الجنّة ونعيمها (عِنْدَ اللهِ
خالِصَةً) أي مختصة بكم كما زعمتم. (مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي ليست لأحد غيركم من الناس. إن كنتم تعتقدون ذلك (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ) في دعواكم (صادِقِينَ) فإنّ من أيقن أنه من أهل الجنّة يأنس ويشتاق إليها أكثر من
أيّ شيء ويتمنّى الموت آنا بعد آن ليخلص من دار العناء والفناء ، ويصير إلى دار
النّعيم والبقاء. ففي التوراة مكتوب : إنّ أولياء الله يتمنّون الموت ولا يرهبونه.
٩٥ ـ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ... جملة نفي وتأبيد. فهم لا يتمنّونه إلى الأبد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من المعاصي وأسباب دخول النار حتما ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) : هذه جملة تضمّنت الوعيد لهم لكونهم من الطاغين لما في
دعواهم مما ليس لهم. والكاذب ظالم لنفسه ولغيره.
٩٦ ـ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلى حَياةٍ) ... أي : يا محمّد إنهم ـ مضافا إلى أنهم لن يتمنّوا الموت
ـ هم حريصون على حياة متطاولة أكثر من بقية الناس ممن يئس من الجنة ونعيمها. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إذا قيل فيها : ما فائدة قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، وهم جملة من الناس؟. قلنا : إنما خصّوا بالذّكر بعد
العموم لأن حرصهم على الحياة أشد من غيرهم ، لأنهم لا يؤمنون بالغيب ، ويكفرون
بالبعث ، ولا يرون غير الدنيا دارا أخرى ففيها توبيخ شديد لليهود خاصة لأنّهم
يدّعون الإقرار بالجزاء. فحرصهم أشدّ من حرص المنكرين ، فهو إذا يدل على علمهم بأن
مصيرهم إلى النار!. (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي أنّ منهم من يحب أن يعيش ألف سنة. (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ) ليس بمبعده عنه (أَنْ يُعَمَّرَ) يعيش كثيرا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) يراهم ويطّلع على أعمالهم.
٩٧ ـ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ... كقنديل. وهو الأمين على الوحي لجميع رسل الله صلوات
الله عليهم. يأمر تعالى نبيّه أن يقول لليهود الذين عادوا جبرائيل أنهم ظالمون (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) لأنه هو الذي أنزل القرآن على قلبك (بِإِذْنِ اللهِ) ومن عنده (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أن القرآن يصدّق ما قبله من الكتب السماوية ومنها
كتابهم التوراة. (وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ) هدى من الضلالة ، ومبشّرا بمحمّد (ص).
٩٨ ـ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ) ... المراد بالعداوة لله مخالفة أوامره ونواهيه ، والعناد
في إنعامه على المقرّبين من عباده. أمّا الملائكة فلعلّهم ملائكة النّصر المبعوثون
لنصرة أولياء الله وإعانتهم في موارد الحاجة (وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) أفردا بالذكر مع دخولهما في الملائكة لفضلهما ، فإذا كنتم
أيها اليهود أعداء لهؤلاء (فَإِنَّ اللهَ
عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) فإنه تعالى عدو لكم ولكل الكافرين بسبب كفركم ، وسيفعل بكم
جميعا ما يفعله العدوّ بالعدو.
٩٩ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ
بَيِّناتٍ) ... يا محمد : قل لجماعة اليهود ، قد أنزل الله آيات
واضحات من حيث الدلالة على صدق دعواي بأني نبي مرسل من قبله ، فانظروا فيها. (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) وما يجحد بها إلا المتمرّدون الخارجون عن دين الله وطاعته
طلبا للرياسة وعنادا للحق.
١٠٠ ـ (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) ... فما بالهم كلّما واثقوا ميثاقا (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طرحوه وألقوه. وقد قال «منهم» لأن بعضهم لم ينقض العهد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني لا يؤمنون بالتوراة وما جاء فيها.
١٠١ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) ... أي جاء إلى اليهود. والرسول هو محمّد (ص) الذي صدّق
التوراة ومن جاء بها. وقيل : هو الكتاب ـ أي القرآن ـ المرسل من عند الله تصديقا
للتوراة ونبوّة موسى (ع) ، مع أنه (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) من التوراة ، ومع ذلك (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) والفريق يقال لجماعة أكثر من الفرقة ، ويطلق على الطائفة.
والمراد به هنا جماعة اليهود الذين طرحوا القرآن وراء ظهورهم ولم يقبلوه ولا عملوا
به. وبما أنهم نبذوا المصدّق لتوراتهم فقد نبذوا التوراة معه. ولذا قال بعض
المفسرين : الكتاب المنبوذ هو التوراة. (كَأَنَّهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) بحيث يتراءى لمن يلاحظهم أنهم لا يعرفون أن هذا الكتاب
كتاب الله ، مع أنهم علموا ذلك وعاندوه.
١٠٢ ـ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ... هذا عطف على : نبذوا. والمراد ب (ما) الموصولة : كتب
السّحرة والكهنة التي كانت تقرأها الشياطين في عهد سليمان النبي (ع) وزمان سلطانه.
بل زعموا أن سليمان (ع) كان كافرا ، (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ) كما ادّعى اليهود (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بما كتبوه من السّحر (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ) كفروا بسبب تعليمهم الناس السّحر. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر أو على ما تتلوا الشياطين. وهذان الملكان
أهبطا إلى الأرض ليعلّما الناس السحر إظهارا للفرق بينه وبين المعجزة ، وليعلموا
أنّ ملك سليمان ، لم يكن قائما على السّحر والشعوذة ، ولذا أنزل الله الملكين
ليبطلا سحر السحرة ، لا ليسحرا الناس ، أنزلهما الله تعالى (بِبابِلَ) مدينة تقع في سواد الكوفة. وهما (هارُوتَ وَمارُوتَ) ملكان ظهرا للناس بصورة بشر ليعلما الناس. فشرعا في
التعليم والوعظ والنّصح كما أخبر الله عن ذلك (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فينصحان من يعلّمانه ويخبرانه أنهما ابتلاء من الله
واختبار ، ثم ينهيانه عن التعلّم إذا كان يريد أن يعمل بما تعلّمه في غير الاتجاه
الذي أراده الله مما يوجب الكفر والجحود. (فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما) مما تتلوا الشياطين ومما أنزل على الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ) أي سحرا يكون سببا للتفريق بينهما. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) أي أن الذين يفعلوا ذلك لا يلحقون ضررا بأحد (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ومشيئته ورخصته. (وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) لأنهم يقصدون به الشرّ ، والشّرّ ليس بنافع لهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) أي أن اليهود علموا أن من استبدل السحر بدينه أو بكتاب
الله ، ورهن عقيدته الدينية بالسحر (ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ) أي باعوها بالحقير (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) أنهم قايضوا الدين بالسحر ، والآخرة بالدنيا!.
١٠٣ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) ... أي اليهود أو السحرة ، لو أنهم آمنوا بمحمد (ص) ،
وبكتابه المنزل عليه ، وتجنّبوا المعاصي التي يرتكبونها (لَمَثُوبَةٌ ، مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لو فعلوا ذلك لأثيبوا مثوبة هي خير والسحر لا خير فيه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يدركون حقيقة الأمر.
١٠٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا راعِنا) ... راع أحوالنا وتلطف بضعف إدراكنا حتى نفهم ما تقول
وتأمرنا به. فقلّدهم اليهود وخاطبوا النبيّ بقولهم : راعنا ، واللفظة بلغتهم
العبرانية (راعينا) تعني سبّا وشتما ، ولذلك نهي المؤمنون عن قولها (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي أمهلنا وانتظرنا. ثم أمرهم سبحانه بقوله (وَاسْمَعُوا) حين يأمركم رسول الله بأمر وأطيعوه. (وَلِلْكافِرِينَ) المتهاونين بالنبيّ (ص) ، الشاتمين له (عَذابٌ أَلِيمٌ) : شديد.
١٠٥ ـ (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) ... لا يحبّ الكفّار ولا أهل الكتاب يعني أتباع التوراة
والإنجيل ، (وَلَا الْمُشْرِكِينَ
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ولا يحب المشركون من غير أهل الكتاب أن ينزّل عليكم الوحي
أو القرآن وجميع المعجزات الدالة على النبوة حسدا وكيدا. (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) من النبوّة والهداية لدين الإسلام (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يختار لرسالته بالرحمة والهداية والتوفيق من يشاء.
١٠٦ ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ... النسخ هو الإلغاء. وقوله ننسها ، إما من النّسء بالهمز
، أي التأخير ، أو من الإنساء بمعنى إذهابها عن القلوب ومحوها منها. فالمتحصّل أن
كلّ آية نرفع حكمها أو نمحوها من الأذهان (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها) للعباد في أمور دينهم ودنياهم (أَوْ مِثْلِها) فلا يفوتهم شيء بسبب النسخ (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اعلم أنه تعالى يقدر على النسخ والتبديل والإتيان بما هو
خير مما كان لمصالح العباد ومنافعهم.
١٠٧ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... الاستفهام للتقرير : لا بدّ أن تعلموا أن الله سبحانه
يملك أموركم ، ويجريها على ما فيه صلاح دينكم ودنياكم كما أنه تعالى ملكهما
ومدبرهما. (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي أن من يتولّى أموركم هو من أزمّة الأمور طرّا بيده وهو
الله. (وَلا نَصِيرٍ) لا ناصر قويّا غير الله تعالى.
١٠٨ ـ (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ) ... بل تقصدون أن
تطلبوا من النبيّ اقتراحاتكم ومختلقاتكم المستحيلة أيها الكفار واليهود المعاندون
، (كَما سُئِلَ مُوسى
مِنْ قَبْلُ) أي كما طلب يهود عصره أشياء مستحيلة كرؤية الله جهرة
وأمثالها (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) من أنكر نبوّة محمد (ص) في القرآن وفي التوراة ، فإنه قد
تبدّل الكفر بالإيمان وانحرف عن طريق الحق الموصلة إلى رضوان الله وجنانه.
١٠٩ ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ... أحب كثير منهم ، (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) في إرجاعكم إلى
الكفر من بعد الإيمان (حَسَداً) لكم ورغبة في زوال هذه النعمة عنكم. (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) منبعثا عن أنفسهم الضالة ، (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) عرفوا أنكم على الحق وأنهم على الباطل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) اسلكوا معهم سبيل العفو وترك العقوبة أو التقبيح لما كان
من عداوتهم ، (حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) من القتال وأخذ الجزية (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على الانتقام منهم عاجلا كما أنه قادر على كل الأمور.
١١٠ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) ... عطف على قوله : واعفوا واصفحوا. (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ) من صلاة أو صدقة (تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللهِ) تجدون ثوابه عند الله (إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء لأنه يرى الأعمال ، فلا يضيع عنده شيء.
١١١ ـ (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ... هود : جمع هائد أي عائد إلى الله ، قالت اليهود : لن
يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلّا من كان نصارى ،
لكن (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) تلك آمالهم الباطلة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على مقالتكم الفاسدة من اختصاصكم بالجنة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.
١١٢ ـ (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ... نعم سيدخل الجنة غيرهم ممن أخلص نفسه لله حينما سمع
الحق (وَهُوَ مُحْسِنٌ) موحد (فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) ثوابه (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) ليس عليهم خشية حينما يخاف الكافرون مما يشاهدونه يوم
الفزع الأكبر (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) بل يفرحون لأنهم مبشّرون عند موتهم بالجنة.
١١٣ ـ (قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) ... إقرار من كل واحد من فريقي أهل الكتاب بأن الآخر ليس
على عقيدة صحيحة أو شريعة يعتد بها. (وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ) في حين أنهم يقرءون هذا الكتاب أو الكتب السماوية مطلقا. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي مثل ذلك الذي سمعت من تقاول الفريقين ، فعل الجهلة
الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شيء!. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يحكم بين اليهود والنصارى ـ يوم الفصل والقضاء ـ ويريهم
الحق والحقيقة.
١١٤ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) : ... لا أحد أظلم ممن منع ذكر الله في أي مسجد من المساجد
بالصلاة والتسبيح وسعى في خرابه بالهدم أو التعطيل. (أُولئِكَ) المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) من المؤمنين أن يبطشوا بهم ويفتكوا (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي قتل وسبي وإبعاد وذلّة بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في نار جهنم بكفرهم وظلمهم.
١١٥ ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ... أي الأرض كلها ، لأن كل بقعة من الأرض يصدق عليها أنها
مشرق للشمس ومغرب أيضا. (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فأينما توجهتم بوجوهكم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم. (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) وسع فضله كل شيء وأحاط علمه بكل شيء.
١١٦ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ... قالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : عزير
ابن الله ، وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تقديسا له وتنزيها عن التولد والولادة ، (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) من الملائكة وعزير والمسيح وغيرهم من موجودات الكون. وهو عزوجل مالك ذلك كلّه ، فالسماوات والأرض ومن فيهن (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مطيعون متواضعون أذلّاء أمام عظمته ، تكوينا وتشريعا.
١١٧ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي منشئهنّ لا من شيء (وَإِذا قَضى أَمْراً) قدّره وحتّمه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) بلا مهلة بعد أن يريده ويقصد إحداثه.
١١٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ... أي جهلة المشركين ومتجاهلو أهل الكتاب (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ
تَأْتِينا آيَةٌ) هلّا يكلّمنا الله كما كلّم موسى (ع) أو يوحي إلينا أنك
رسوله. أو تأتينا آية تدل على صدقك كالتي جاء بها موسى وعيسى (ع) (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في الأيام الماضية ، قالوا (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وطلبوا أن يكلّمهم الله أو أن تأتيهم آية ، بل قال اليهود
لنبيّهم موسى (ع) : أرنا الله جهرة!. وقال النصارى للمسيح (ع) : هل يستطيع ربّك أن
ينزّل علينا مائدة من السماء؟. لذلك (تَشابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ) قلوب اللاحقين أشبهت قلوب السابقين في العمى والضلالة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ) أي أظهرناها لأرباب اليقين بشكل لا يحتاجون منها لطلب
المزيد.
١١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً) ... يا محمد أنت في كلّ حال متلبّس بالحق ، وقد بعثناك
بوظيفة تبشير للمؤمنين السامعين المطيعين ، وإنذار وتحذير لمن عصاك من المخالفين
والعاصين. (وَلا تُسْئَلُ عَنْ
أَصْحابِ الْجَحِيمِ) لا تتحمل مسئولية أحد منهم يوم القيامة.
١٢٠ ـ (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصارى) ... لا يقبلون منك دعوة (حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ) دينهم (قُلْ) مجيبا لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ) أي الإسلام (هُوَ الْهُدى) هو الصراط القويم وما عداه هو الضلال. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ميولهم النفسية الفاسدة (بَعْدَ الَّذِي
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الوحي المتضمن للقرآن والإسلام (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) أي لا يكون لك وليّ أمر يحفظك ولا معين يمنعك منه.
١٢١ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... أي المؤمنون من أهل الكتاب ، وقيل المراد بهم جماعة
قدمت من الحبشة فأسلمت. (يَتْلُونَهُ) يقرءونه (حَقَّ تِلاوَتِهِ) كما أنزل فلا يحرّفونه (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالكتاب المنزل (فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والدنيا بالآخرة.
١٢٢ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ) ... قد تقدّم تفسيرها في الآية رقم (٤٧).
١٢٣ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ) ... مرّ تفسيرها في الرقم ٤٨ سابقا.
١٢٤ ـ (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ... الابتلاء : الاختبار وفسّر بذبح ولده والإتمام بتسليمه
وعزمه على الذبح (قالَ) تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) أي قدوة في الدين والدنيا. (قالَ) إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) نسلي؟ (قالَ) تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) فإن ميثاقي هذا لا أضعه في عهدة ظالم لنفسه ولغيره دل على
أن الظالم لا يكون إماما للأمة بحال ، ومن هنا اشترطت العصمة فيه.
١٢٥ ـ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً
لِلنَّاسِ) ... والبيت هو الكعبة (مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مجمعا يحجّون إليه ويرجعون عند التوبة (وَأَمْناً) أي موضع أمن يحرم فيه الظلم والقتال. (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى) والتقدير قلنا لهم وأمرناهم : اتّخذوا لكم مكان صلاة في
مقام إبراهيم (ع) ، والمقام ، يحتمل أن يكون مكان قيام إبراهيم (ع) لعبادة أعمّ من
الصلاة ، ويحتمل أن يكون موضع الحجر الذي قام عليه حين ندائه ودعوته الناس للحج
على ما روي ، أو حين بنى البيت عند ما أمر هو وابنه ببنائه ورفع قواعده. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ) أمرناهما بتطهيره وليس المراد بالتطهير تنظيفه من الأخباث
الظاهرة فقط ، بل التطهير يعني تخصّصه بالأنفس الطاهرة الزكية من الأبرار ، في
قبال الأنفس الخبيثة القذرة من المشركين والكفار!. وقيل إن المراد بالتطهير تطهيره
من الأصنام التي كانت معلّقة على باب الكعبة وفي جوفها. والطائفون : هم الذين
يطوفون حول البيت ويدورون سبعة أشواط تعبّدا ، والعاكفون : أي المقيمون فيه ليلا
ونهارا للعبادة والرّكّع السجود : هم المصلّون.
١٢٦ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ... واذكر يا محمد إذ دعا إبراهيم ربه (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) هذا : إشارة للبيت الحرام باعتباره وما حوله ، سأل ربّه أن
يجعله موضع أمن وأمان لكلّ من دخله. (وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَراتِ) أي : أنعم بها عليهم. (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ يتضمّن معنى الشرط ، وخبره (فَأُمَتِّعُهُ) أحييه زمانا ، أو أهبه متاعا ونعيما (قَلِيلاً) مقصورا على أيام قلائل في الدنيا. (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي ألزمه به وأسوقه إليه عنفا لاستحقاقه له (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنه مصير سيّئ قبيح وعذاب لا ينقطع.
١٢٧ ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ... القواعد : جمع القاعدة ، وهي من البيت أساسه الذي يبنى
عليه. وأبهمت القواعد أولا ثم أضيفت للبيت لأن في التّبيين بعد الإبهام تفخيما
وإجلالا لشأن المبيّن (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا) : يستفاد من طلب القبول إعطاء الأجر والثواب على الطاعات (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السميع لدعائنا العليم بجميع أمورنا ظاهرة وباطنة.
١٢٨ ـ (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ... أي : صيرّنا خالصين لك مصفّيين (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) أي : اجعل بعض نسلنا مخلصين لك. (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرّفنا مناسك الحج وعباداته المقرّرة (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي اقبل توبتنا وندمنا إنك كثير القبول لتوبة التائبين
وواسع الرحمة.
١٢٩ ـ (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ) ... دعا ربّه أن لا يقطع نعمة الهداية عن الأجيال القادمة
في ذريّته بأن يرسل إليهم نبيّا مرشدا من نسله (ع) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يقرأ عليهم دلائل التوحيد ويعلّمهم كتبك السماويّة أو
القرآن. (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهّرهم من دنس الشّرك (إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز : المنيع الذي لا يغلب ، والحكيم الذي يحكم ما يعمل.
١٣٠ ـ (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ) ... ومن يعرض عن دين إبراهيم (إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ) إلا من كان في عقله خفّة وفساد. (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) اخترناه في الدنيا للرسالة والنبوّة وهداية الخلق (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ) الفائزين بالدرجات العلى المقرّبين من الله سبحانه.
١٣١ ـ (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، قالَ
أَسْلَمْتُ) ... أي : اذكر إذ قال الله لإبراهيم انقد لله وأخلص له
دينك فأسلم. (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بارئ المخلوقين ورازقهم ومالك أمرهم.
١٣٢ ـ (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) ... أي وصّى بملّته الشريفة الحنيفية أبناءه الأربعة :
إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومدان. (وَيَعْقُوبُ) أي : ووصّى بها يعقوب بنيه الإثني عشر وهم الأسباط
المعروفون. (يا بَنِيَّ إِنَّ
اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) اثبتوا على دين الإسلام حتى آخر رمق من الحياة. وقيل إن
اليهود قالوا لرسول الله (ص) : أليس تعلم بأن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟.
فنزل قول الله تعالى :
١٣٣ ـ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ... أم : منقطعة بمعنى بل ، وهمزة الاستفهام هنا للجحد
والإنكار ، أي : أبل كنتم؟. فالله سبحانه خاطب أهل الكتاب فقال : أم كنتم شهداء
حاضرين حين جاء يعقوب الموت. أي : ما كنتم حضورا (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) بعد موتي (قالُوا : نَعْبُدُ
إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وقد عدّوا إسماعيل (ع) من آبائه لأن العرب تسمّي العمّ أبا
(إِلهاً واحِداً ،
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي نعبد الله الواحد الأحد ونحن له مذعنون مقرّون
بالعبودية.
١٣٤ ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... إن إبراهيم ويعقوب وبنيهما ، جماعة قد مضت إلى سبيل
ربها. (لَها ما كَسَبَتْ
وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أي لكلّ أجر عمله خيرا أو شرا. (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي : يا معشر اليهود لا تؤاخذون بأعمالهم.
١٣٥ ـ (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ... أي قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النصارى : كونوا
نصارى ، (تَهْتَدُوا). (قُلْ) يا محمد : (بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) بل نتّبع عقيدة ، الحنيفية السهلة التي جاء بها إبراهيم (ع)
حتى نهتدي إلى الحق. وحنيفا : حال من إبراهيم ، أي مائلا عن الباطل إلى الحق. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله منذ خلقه.
١٣٦ ـ (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) ... خطاب للمسلمين بأن يجهروا بعقيدتهم ويظهروا ما تديّنوا
به. وقد بدأ أولا بالإيمان بالله وحده (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ) ثم ثنّى بالإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية على هؤلاء
الأنبياء عليهمالسلام. أمّا الأسباط فهم حفدة يعقوب (ع) وذراري أبنائه الإثني
عشر. (وَما أُوتِيَ مُوسى
وَعِيسى) أي التوراة والإنجيل. (وَما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) المرسلون. وخصّ موسى وعيسى عليهماالسلام بالذكر لأن الاحتجاج موجّه على أهل الكتابين. ونحن (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأصحاب الكتابين. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون لله منقادون لأوامره.
١٣٧ ـ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ
بِهِ) ... فإذا آمن وسلّم هؤلاء الكفرة مثل إيمانكم بالله ورسله
وكتبه (فَقَدِ اهْتَدَوْا) سلكوا طريق الهدى والرشاد. والباء زائدة في : بمثل. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي
شِقاقٍ) أي : وإن أعرضوا وانصرفوا فإنما هم في خلاف للحق وعداوة
للمسلمين ، ولا تخف يا محمد (فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ) سيكفيك أمرهم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لدعائك (الْعَلِيمُ) بنيّتك.
١٣٨ ـ (صِبْغَةَ اللهِ) ... صبغة : مصدر مؤكّد لآمنّا بالله ، وهو منصوب بمقدّر ،
أي : صبغنا الله بالإيمان صبغة هي دينه الذي يطبع معتنقه بمفاهيمه ويؤثر فيه كما
يؤثر الصبغ في الجسم. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً) أي لا صبغة أحسن من صبغة الله (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) خاضعون مطيعون.
١٣٩ ـ (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) ... قال أهل الكتاب : إن الأنبياء كلهم منّا لا من العرب
عبدة الأوثان ، فلست بنبيّ ، فنزل قوله تعالى ردّا وتوبيخا لاعتراضهم على مشيئته
فكيف تجادلون في أمر الله (وَهُوَ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم ، (وَلَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وسينال كلّ منّا جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) بالإيمان والعمل.
١٤٠ ـ (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) ... إلى قوله : (وَالْأَسْباطَ) ... كيف تقولون : يا أهل الكتاب إن هؤلاء الأنبياء وذريتهم
(كانُوا هُوداً أَوْ
نَصارى) فيا محمد (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ) بأحوال هؤلاء وحقيقة أمرهم (أَمِ اللهُ) الذي خلقهم وأرسلهم إليكم. (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أي لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث أخفوا شهادة الله سبحانه
وتعالى لإبراهيم (ع) بالحنيفية والإسلام في كل من التوراة والإنجيل ، وتنزيهه عن
اليهودية والنصرانية. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) مطّلع على ما يفعلونه من الكيد لرسول الله (ص) ، وهو غير
غافل عنهم.
١٤١ ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... مرّ تفسيرها في الآية ١٣٤ من هذه السورة. وقد كرّرت
تأكيدا للزّجر عن الاتّكال على فضائل الآباء والماضين.
١٤٢ ـ (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) ... السفهاء جمع سفيه : خفاف الحلوم والعقول ، المنكرون
لتغيير القبلة من منافقي اليهود والنصارى وسائر المشركين. وهي جمع سفيه ، وقد قدم
الجملة الإخبارية توطينا للنفس وإعدادا للجواب. (ما وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي : ما صرفهم عن قبلة بيت المقدس التي كانوا يتوجّهون
إليها في عبادتهم ليتّجهوا نحو الكعبة؟. (قُلْ : لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فله الأرض كلّها ولا يختصّ به مكان دون آخر ، وهو (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) يدلّ من يريد على الطريق السّويّ حسبما توجبه حكمته.
١٤٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ... أي مقتصدة في الأمور جميعا. أو عدلا. أو خيارا. (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) في أعمالهم المخالفة للحق ، في الدنيا والآخرة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً) بما عملتم من الأعمال الصالحة. (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها) أي وجهة بيت المقدس ، ما أمرناك باستقبالها أولا والتولي
عنها أخيرا. (إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) أي لنمتحن الناس فنرى التابع لك في التوجه نحو الكعبة
أثناء الصلاة ، (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ) أي ممن يرتدّ ويرجع إلى قبلة آبائه تقليدا لهم ، ومعصية
لأمرنا ، (وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً) أي صلاتهم إلى الكعبة شاقّة على الذين يخالط إيمانهم
الشّرك بدليل ارتداد قوم عن الإسلام استعظاما منهم لترك القبلة الأولى ، وجهلا
منهم بحكمة الله. (إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) من الذين وفّقهم الله للإسلام ودلهم على حكمه ، وأرشدهم
إلى المصلحة في تحويل القبلة. (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) يجعل صلاتكم السابقة إلى القبلة المنسوخة صحيحة مقبولة
كالصلاة إلى القبلة الناسخة ، (إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ ، رَحِيمٌ) والرأفة أشدّ الرّحمة.
١٤٤ ـ (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ) ... يؤكّد سبحانه أنه يرى تقلّب : تحوّل وجه رسوله من جهة
إلى جهة في الآفاق ، منتظرا أن يحوّله في الصلاة نحو الكعبة التي كانت قبلة أبيه
إبراهيم (ع) وأقدم الكعبتين ، وينتظره فنزل عليه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنحوّلنّك نحو قبلة تحبّها وترغب فيها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) حوّله في صلاتك ناحية الكعبة مع سائر مقاديم بدنك. (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تصريح بعموم حكم التحويل لجميع الأمّة وسائر أهل الآفاق.
مشيرا إلى أن ذلك معلوم لدى اليهود والنصارى بقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فتحويل القبلة مذكور عندهم ، ثابت لديهم من عند الله. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ) وهو حاضر ناظر لما يفعلونه.
١٤٥ ـ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) ... أي والله إن
جئت يا محمد بأيّ برهان على دعواك في تحويل القبلة إلى الكعبة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) تحوّلوا إلى قبلتك. (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ) لأنك مأمور بالتحوّل عنها من قبل الله حسما لأطماعهم
السخيفة (وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لأن اليهود يستقبلون بيت المقدس ، والنصارى يتّجهون نحو
مطلع الشمس. وكل منهم ثابت على قبلته ، فلا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي بعد ما جاءك من الحق في أمر قبلتك. (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وقد حمل أرباب التفسير هذه الآية المباركة على سبيل الفرض
والتقدير لمكان عصمته (ص).
١٤٦ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... من اليهود والنصارى ، (يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أي يعرفون خاتم الأنبياء كمعرفتهم لأولادهم. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب ، (لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَ) لا يظهرون معرفة محمد (ص) ولا ينشرون صفاته المذكورة في
التوراة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي مع علمهم بها.
١٤٧ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ... أي الذي يكتمونه ـ وهو الحق ـ كان من أمر ربك ،
فبكتمانهم لا يخفى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكّين.
١٤٨ ـ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ... أي لكلّ أهل شرعة جهة من القبلة مأمورون بأمره
بالتوجّه إليها (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) بادروا إلى الطاعات. (أَيْنَ ما تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي في أيّ موضع يدرككم الموت يحشركم الله إليه يوم الجمع
بأجمعكم فيجازيكم. (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على كل شيء.
١٤٩ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ... أي أثناء السفر في البلاد (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) فأدر وجهك ناحية الكعبة ، في صلاتك (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي التوجّه إلى الكعبة في الصلاة ، هو الأمر الثابت من
عنده تعالى ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) وفي هذا الكلام تهديد ووعيد بالعقوبة كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).
١٥٠ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ) ... قيل : كرّر تأكيدا لأمر القبلة وتثبيتا للقلوب عن فتنة
النّسخ ثانيا. (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وهذا كسابقه كرّر للتأكيد. وعلى كل حال فقد كان التكرار (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ) وبهذا يردّ احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة تكون
قبلته الكعبة ، ثم تردّ مقالة المشركين بأنه يخالف قبلة إبراهيم (ع) ويدّعي أنه
على ملّته. (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وظاهر الاستثناء أنه من الناس فيكون متّصلا أي لا يكون
لأحد عليكم حجة إلا كلام هؤلاء الظالمين. ومعناه أن التحوّل ليس بأمر من الله
تعالى بل ميلا إلى دين آبائه. وإنما سمّي قولهم حجة ـ مع أنّ الظالم لا يكون له
حجة ـ لأن ما يوردونه هو باعتقادهم الفاسد حجة وإن كانت باطلة. (فَلا تَخْشَوْهُمْ ، وَاخْشَوْنِي) لا تخافوهم فإنّ مطاعن الظّلمة لا تضرّكم أبدا. وخافوني
ولا تخالفوا أوامري ونواهيّ إن كنتم مؤمنين حقّا (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على : لئلّا يكون. ولأكمل نعمتي عليكم ببيان معالم
دينكم التي من جملتها تحويلكم إلى الكعبة في الصلاة. (وَلَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) إلى الحق وإلى أن التحويل إتمام للنعمة.
١٥١ ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً
مِنْكُمْ) ... أي كما أتممت عليكم نعمتي بتحويل قبلتكم ، كذلك
أتممتها عليكم بإرسال رسول منكم إليكم. (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ
آياتِنا) يقرأها لكم ويفسّرها (وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهّركم من أدناس الجاهلية (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) والكتاب هو القرآن الكريم ، والحكمة هي الوحي الذي هو
السنّة الشريفة. (وَيُعَلِّمُكُمْ ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي الذي لا سبيل لكم إلى العلم به إلّا من طريق الوحي.
١٥٢ ـ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ... دعوة إلى عدم الغفلة المؤدية إلى نسيان الله ، وذكره
بالطاعات ليذكرنا بمجازاتنا عليها بالنعم والإحسان. (وَاشْكُرُوا لِي) أي على نعمائي قولا وعملا. (وَلا تَكْفُرُونِ) بالجحود والمعصية. والكفران نقيض الشكر.
١٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا) ... على الآخرة (بِالصَّبْرِ) بالتجلّد على الطاعات وعن الشهوات وقيل الصبر هو الصيام. (وَالصَّلاةِ) وهي معراج المؤمن. (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) بالتوفيق والعون.
١٥٤ ـ (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) ... أي أنهم ماتوا وفاتوا (بَلْ أَحْياءٌ) يعني أنهم أحياء (وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ) لا تدركون ذلك ، ولا تفهمون كيف تكون حياتهم. والآية
الشريفة نزلت في شهداء بدر.
١٥٥ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ) ... أي لنختبرنّكم بشيء قليل من خوف السلطان بل مطلق
الظّلمة أو مطلق ما يخاف منه. (وَالْجُوعِ) الذي يتولّد من القحط أو الجدب. (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) بإخراج الزّكاة أو التلف من الحوادث السماوية والأرضية (وَالْأَنْفُسِ) بالأمراض العارضة والموت الذريع (وَالثَّمَراتِ) من الحوادث أو عدم نزول الأمطار (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الذين يتحمّلون
تلك المشاقّ والشدائد الكريهة على الطّباع البشرية.
١٥٦ ـ (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) ... فالمؤمنون إذا أصابتهم أيّة بليّة (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ) والجملة هذه إقرار من العبد بوجود الصانع وبمالكيته وبالبعث.
١٥٧ ـ (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) ... أي من كانوا على تلك الحال فإن لهم من ربّهم مغفرة
وثناء جميلا. (وَرَحْمَةٌ) أي لطف وإحسان. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ) أي المصيبون طريق الحق.
١٥٨ ـ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ) ... الصّفا والمروة مرتفعان بجانب المسجد الحرام يجري
بينهما عمل وهو السّعي بكيفية خاصة. وشعائر ، مفردها : شعيرة ، وهي العلامة.
والمراد من شعائر الله هنا شعائر الحج ، أي مناسكه وأعماله ومعالمه. (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) أي قصد زيارة بيت الله ، سواء أقصده بأعمال مخصوصة تسمّى
حجّا أو بأعمال أخرى تسمّى عمرة. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي لا حرج عليه أن يسعى بينهما. والمروة مما ابتدع أهل
الجاهلية فأنزل الله هذه الآية. وإنما قال لا جناح عليه مع أن السعي واجب ـ وعلى
قول على خلاف فيه ـ لأنّه كان على المرتفعين صنمان يمسحهما المشركون إذا سعوا ،
فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصّنمين فنزلت الآية. (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي تبرّع بزيادة على الواجب بعد إتمامه من الطاعات ، (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه مثيب عليه ، وعليم بما يفعلونه.
١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلْنا) ... يعني أحبار اليهود ورهبان النصارى ، فإنهم علموا أنّ
محمدا على الحق فأخفوا ذلك ، والحكم يشمل كلّ من كتم شيئا (مِنَ الْبَيِّناتِ) أي البراهين المنزلة في الكتب المتقدمة. (وَالْهُدى) الأدلة العقلية. (مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي بعد إيضاحه لهم إتماما للحجة (فِي الْكِتابِ) التوراة أو جنس الكتاب فيشمل جميعها حتى القرآن. (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) اللّعن من الله هو الإبعاد من الرحمة وإيجاب العقوبة ، ومن
غيره يكون معنى اللعن : الدّعاء عليهم باللعن.
١٦٠ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ... أي أقلعوا عن كتمان ما أنزل الله ، وعن المعاصي (وَأَصْلَحُوا) أي صحّحوا ما أفسدوا (وَبَيَّنُوا) أي أوضحوا ما بيّناه. (فَأُولئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ) أعفو عمّا قد سلف منهم (وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) أي البالغ في العفو والإحسان غايتهما.
١٦١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... وجه كفرهم هو ردّ نبوّة محمد (ص) (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الجملة حاليّة تبيّن وصفهم الذي كانوا عليه وماتوا عليه (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) تقدم معنى اللعن من الله ومن الناس ، وقيل المراد من الناس
هنا عام كما قيل بأنه خصوص المؤمنين.
١٦٢ ـ (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذابُ) ... أي باقون أبدا في جهنّم. (لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا يضعف وقد يشتدّ. (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) لا يمهلون ولو بمقدار يسع الاعتذار.
١٦٣ ـ (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ... عن ابن عباس أن كفّار قريش قالوا : يا محمد صف لنا
ربّك وبيّن لنا نسبه ، فأنزل الله سورة الإخلاص وهذه الآية التي دلت على أنه لا
إله غيره ولا مثل له ولا ندّ في صفة الألوهية. بل إنه واحد في جميع صفاته التي
يستحقها لنفسه. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو تثبيت لصفة الألوهية المستفاد من قوله : إلهكم إله
واحد. (الرَّحْمنُ
الرَّحِيمُ) أي المتصف بصفة الرحمانيّة جزئية وكليّة ، أصولا وفروعا ،
ولا يكون في عالم الوجود سواه ، لأنّ كلّ ما سواه إمّا أن يكون نعمة ، وإمّا أن
يكون منعما عليه ... فقالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف صدقك ، فنزلت الآيات
الكريمة التالية :
١٦٤ ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ... وما فيهما من العجائب في دقة نظامهما وتكامل أجزائهما
من حيث المنافع والآثار المترتبة عليها. (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بتعاقبهما نتيجة جريان الشمس والقمر مع ما ينتج عنه من
فصول لكل منها خاصيته ، مع اختلافهما بالطول والقصر بشكل دوري. (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ) يعني السفن التي تمخر عباب البحار من الاهتداء إلى كيفية
صنعها وإعطائها شكلها المتناسب مع الفائدة المتوخاة والمنسجم مع مياه البحار من
حيث المد والجزر والليل والنهار ووضوح الرؤية وانعدامها وسكونها وهيجانها. (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) يفيدهم من السفر والتجارة والصيد وغير ذلك (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ) المطر وابلا كان أو طلّا. (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وذلك بإخراج نباتاتها وتثمير أشجارها بعد يبسها ، وتفجير
أنهارها ، وانشقاق عيونها وقنواتها بعد جفافها. (وَبَثَّ فِيها مِنْ
كُلِّ دَابَّةٍ) أي نشر وفرّق كل نوع مما يدبّ ويتحرّك على وجه الأرض أو
فوقها أو تحتها. (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) أي تسييرها وتحويلها من جهة إلى جهة تسوق السحاب أو تنقل
اللقاح. (وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي متذلّل خاضع للنواميس التي أبدعها له الله ، سواء كان
واقفا أو متحرّكا. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) كل ما تضمنته هذه الآية براهين ساطعة على صانع وحيد ، لقوم
موفّقين للتعقّل والتأمّل في الكون والكائنات.
١٦٥ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
دُونِ اللهِ أَنْداداً) ... أي أن بعض الناس يتّخذ غير الله أمثالا له من الأصنام
والزعماء فيتّبعونهم. (يُحِبُّونَهُمْ) يوادّونهم وينقادون لأوامرهم. (كَحُبِّ اللهِ) أي كما يحبّ الله. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي أن المؤمنين أشد حبّا لله من متّخذي الأنداد مع الله ،
لأن المؤمنين لا يعدلون عنه إلى غيره بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند
الشدائد. (وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) بشركهم (إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ) حينما يبصرونه يوم القيامة ويرون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيعلمون أن القدرة له تعالى. (وَأَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعَذابِ) وجواب لو محذوف أي : لو رأوا ذلك لما اتخذوا من دون الله
أندادا.
١٦٦ ـ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا
مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ... أي إذ تبرّأ المتبوعون ، من أتباعهم ، (وَرَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية ، أي : حال رؤيتهم العذاب (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) عطف على تبرأ. والحاصل أنه يزول من بينهم كلّ سبب يصل
القريب بقريبه والحبيب بحبيبه فلا ينتفعون بشيء من ذلك.
١٦٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ... أي الأتباع (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ) أي المتبوعين (كَما تَبَرَّؤُا
مِنَّا) في الآخرة! ... (كَذلِكَ) مثل ما رأوا شدة عذابه وغلبة قدرته وتبرأ بعضهم من بعض. (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ
عَلَيْهِمْ) يعني أن أعمالهم في الدنيا تنقلب عليهم ندامات في الآخرة ،
(وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ندموا أم لم يندموا ، إذ لا تنالهم رحمة ولا شفاعة.
١٦٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الْأَرْضِ) ... الخطاب عامّ لجميع المكلّفين من الإنس والجنّ. وكلوا :
لفظة أمر ، ومعناها الإباحة. ولفظة (من) للتبعيض ، لأنه ليس جميع ما في الأرض
قابلا للأكل إمّا خلقة وإمّا شرعا ، كلوه (حَلالاً طَيِّباً) مباحا لذيذا. (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تنصتوا لوساوسه وتزييناته. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) واضح العداوة للإنسان فكيف يطيعه؟
١٦٩ ـ (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشاءِ) ... السوء : الأمر القبيح ، والفحشاء : ما تجاوز الحدّ في
القبح. (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كأن يقول للإنسان : هذا حلال ، وهذا حرام ، من دون علم
بهما ، وهو تجرّ على الله.
١٧٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ) ... : أطيعوا كتاب الله واسمعوا قول رسوله واتّبعوه فيما
يدعوكم إليه من الهدى (قالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي نحن نقلّد آباءنا فيما وجدناهم عليه من الدين فإنهم
أبصر منا وأرسخ إيمانا (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) والحال أن آباءهم كانوا لا يفقهون شيئا من الدين ولا
يميزون بين الحق والباطل.
١٧١ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... الآية ... المثل : الوصف. والنعيق صوت الراعي لغنمه
زجرا ، والنداء : الجهر بالصوت. والمعنى صفتك في دعاء الذين كفروا إلى الحق وعدم
تدبرهم له كالبهائم تسمع صوت راعيها من دون أن تعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما
يفيدهم بكم لا يتكلمون بما يفيد معنى عمي لا يبصرون طريق الهدى. (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا
يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لأن الطرق المؤدية إلى التعقل وهي الحواس مسدودة عندهم.
١٧٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ) مستلذّات (ما رَزَقْناكُمْ) من النّعم الطيبة السائغة. (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) احمدوه على ما رزقكم من نعمه الطيبة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن كنتم تخصّون الله بالعبادة وتقرّون بأنه المنعم الحقيقي.
١٧٣ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ... أي أكلها وهي التي تموت بلا تذكية (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال : رفع الصوت أي حرّم أكل ما ذكر اسم الصنم أو أيّ
اسم آخر غير اسم الله عليه عند الذّبح (فَمَنِ اضْطُرَّ) ألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات كما لو كانت
مخمصة أو مجاعة. (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) غير عاص لإمام المسلمين وغير معتد بالمعصية (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي لا حرج في الأكل من تلك المحرمات. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عن معاصي عباده ، رحيم برفع الحرج عنهم عند
الاضطرار.
١٧٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلَ اللهُ) : من أوصاف محمد (ص) ونبوته وكثير من المحللات التي هم
حرّموها. وهم اليهود حيث أخفوا ما أنزل الله تعالى على موسى (ع) (مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة التي فيها أوصاف محمد (ص) وعلائمه ودلائل
نبوته. (وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا أو رئاساتها الزائلة بعد قليل. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) لأنها مآلهم نتيجة ما فعلوه. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لغضبه عليهم ولذا فهم ليسوا أهلا لكلامه بلا واسطة. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة لأنهم لا يستحقونها ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع لا يطاق.
١٧٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : أي شراؤهم الكفر بالإيمان لحفظ رئاساتهم الدنيوية.
والمقصود بهم علماء اليهود والنصارى ، أو مطلق أهل الضلال الذين كانوا من رؤسائهم.
(وَالْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ) أيضا اشتروه بكتمان الحق الذي لو بينوه لنالوها وذلك
لأغراضهم الفاسدة (فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) ما أشد صبرهم على عمل يصيّرهم لا محالة إلى النار.
١٧٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِ) : أي أن تصييرهم إلى النار بسبب أنه تعالى نزّل إليهم
كتابا ثابتا فكذّبوه وكتموا ما فيه جحدا للحق وعنادا للنبي (ص) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتابِ) أي القرآن فقالوا إنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير أو أن
المراد بالكتاب الجنس ، أي كتب الله التي آمنوا منها ببعض وكفروا ببعض. (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف بعيد عن الحق والحقيقة ، لأن من أوقع نفسه في
الطرق المختلفة مع وضوح الطريق الموصلة إلى المقصود يزيغ طبعا عن طريق الحق ،
ويضيع عنه المقصد.
١٧٧ ـ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : أي ليس العمل الحسن المقبول منحصرا في أن تتوجهوا في
الصلاة نحو الشرق كما هو ديدن النصارى ؛ أو نحو الغرب كما هي طريقة اليهود ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي أن البرّ هو برّ من صدّق بالله واستمع له وأطاعه. (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) القيامة (وَالْمَلائِكَةِ) وفيه التصديق بوجودهم وأنهم عباد مكرمون (وَالْكِتابِ) أي جنسه ، يعني الكتب السماوية بأجمعها ، (وَالنَّبِيِّينَ) دون تفريق. (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) أي أنفق المال في موارده الواجبة والمحلّلة مع حبّ المال ،
أو أنفقه على حبّ الله ، أي لحبه سبحانه (ذَوِي الْقُرْبى) أي ذوي الرحم (وَالْيَتامى) أي المحاويج ممن مات آباؤهم (وَالْمَساكِينَ) الذين لا يملكون شيئا. (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر المنقطع عن أهله إذا لم يبق معه نفقة ولم يجد
طريقا لها ، (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال. (وَفِي الرِّقابِ) أي العبيد تحت الشدة والضيق والتعب ، فيستحب أن يشتروا
ويعتقوا. وقيل هم المكاتبون منهم. (وَأَقامَ الصَّلاةَ) صلّاها مستجمعة لجميع شرائطها (وَآتَى الزَّكاةَ) دفع الزكاة المفروضة ـ المالية والبدنية ـ بشرائطها (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا
عاهَدُوا) الله أو الناس. (وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) الصابرين منصوب على المدح إعلاء لأمر الصبر. والبأساء
البؤس والفقر والضرّاء : المرض. (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي عند شدّة القتال للعدو (أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) في إيمانهم بالله وبرسوله وبكتابه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لله.
١٧٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) : أي فرض عليكم المعاوضة (فِي الْقَتْلى) أي المقتولين. (الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أي لا بدّ من التساوي عند القصاص في الجنس وفي الصفة وفي
الدين ، فالحر يقتل بالحر لا بالعبد والعبد يقتل بالعبد والأنثى بالأنثى. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي الجاني الذي أعفاه ولي الدم من القصاص (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي على العافي أن يتّبع بالمعروف بأن لا يشدّد في طلبه
الدية ، (وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ) وهذه توصية للجاني بأن لا يبخس حق الوليّ بأداء الدية ،
ولا يماطله ، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي أن تشريع هذا التخيير تسهيل عليكم من ربّكم لكم جميعا
ورحمة بكم ، حيث لم يحتم القصاص كما كان في شريعة موسى ولم يحتم الدية كما في
شريعة عيسى. (فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) بأن يقبل الدّية والعفو عن القود ثم يعتدي بالقتل للقاتل (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي نوع موجع من العذاب.
١٧٩ ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) : ولكم في إيجاب القصاص حياة لأن الإنسان عند ما يتيقن أنه
سوف يقتل لو قتل فإنه سوف يزجر عن القتل فيحيا هو ومن كان يعزم على قتله. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول المفكّرة. (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) القتل مخافة القصاص.
١٨٠ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ... فرض عليكم أي إذا قرب الموت من أحدكم. (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا يعتنى به. (الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) والأقربون من انتسب إلى الموصي بواسطة كالأخ وغيره وكأن
ظاهر الآية وجوب الوصية لهؤلاء ، لكنه قام الإجماع عندنا على عدم الوجوب. (بِالْمَعْرُوفِ) المتعارف من الإحسان بلا إفراط ولا تفريط. (حَقًّا) لا يجوز إنكاره (عَلَى الْمُتَّقِينَ) لله.
١٨١ ـ (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ... أي غيّر الإيصاء بعد ثبوته عنده (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ) يكون إثم التبديل على المبدّلين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سميع لمقالة الموصي من العدل أو الظّلم في الإيصاء ، عليم
بعمل الوصيّ من التنفيذ للوصية أو التبديل.
١٨٢ ـ (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ... أي من خشي أن يقع من الموصي جنف ، أي ميل عن الحق خطأ (أَوْ إِثْماً) أي ميلا عن الحق متعمّدا في مرض الموت أو غيره. (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ) أي في أن يشير على الموصي بالحق لأنه من تبديل الظلم وردّه
إلى العدل فيكون كل من الموصي والموصى له والورثة راضين وهذا هو الإصلاح. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور للمذنب ، رحيم به. فكيف لمصلح مستحقّ للأجر والثواب
العظيم؟.
١٨٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ... أي فرضه الله عليكم وألزمكم به كما فرضه على الأمم
السابقة في وجودها عليكم. (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي لعلكم تتجنّبون به المعاصي ، فإنه يقمع الشهوة.
١٨٤ ـ (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ... موقّتات بعدد معلوم ، أو قلائل كقوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ)(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يضر به الصوم. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) مسافرا مسافة شرعية سفرا مباحا. عطف على قوله : مريضا. (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي أن المفطر للمرض والسفر عليه صوم أيام في غير رمضان
توازي عدد الأيام التي أفطرها فيه ، وهذا صريح في وجوب القضاء. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) أي على القادرين على الصوم ولكن بمشقة شديدة وجهد كبير
كالحامل المقرب وذي العطاش والشيخ الهرم إلخ. فلهم الخيار بين الصوم ، والفدية ،
لكل يوم إطعام مسكين. (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) أي زاد على مقدار الفدية (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي أن الزيادة في الفدية خير على خير (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون للصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) يعني أن الصيام خير من الفدية والتطوّع فيها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فضيلة الصوم وما يترتّب عليه من المنافع أو المصالح الدينية
والدنيوية.
١٨٥ ـ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي) ... بيان للأيام المعدودات ، ورمضان : مصدر : رمض ، أي
احترق من الرّمضاء ، أضيف إليه الشهر وأصبح علما. (أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) جملة إلى السماء الدنيا ، ثم نجوما إلى الأرض في طول عشرين
سنة. أو ابتداء أنزل فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر. والقرآن هو (هُدىً لِلنَّاسِ) هاديا للناس إلى الحق (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى) أي آيات واضحات مما يهدي إلى الطريق السّويّ (وَالْفُرْقانِ) وها هو فارق بين الحق والباطل. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضره كلّا أو بعضا وكان غير مسافر ولا مريض. (فَلْيَصُمْهُ) أي فليصم فيه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي في سفر (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) كرّر تأكيدا لوجوب الإفطار والقضاء. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي في جميع أموركم لا التضييق ، ومن جملة ذلك ما أمركم
بالإفطار في المرض والسفر. (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) لتتموا بالقضاء عدّة ما أفطر في شهر رمضان من أيام المرض
والسفر (وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي لتعظّموه على ما أرشدكم إليه من أحكام الدين أو المراد
التكبير بعد الصلوات ليلة الفطر وغداة العيد وصلاة العيد. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعم الله بما يسّر عليكم.
١٨٦ ـ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ) ... قربه سبحانه كونه مع الإنسان. أي أني أسمع دعاءهم كما
أن القريب يسمع من يناجيه. (أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وفي هذا تقرير للقرب ووعد للداعي بالإجابة (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي يجب أن تجيبوني فيما دعوتهم إليه (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وليصدقوا بقدرتي (لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ) يهتدون إلى إصابة الحق.
١٨٧ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ
الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ... الرّفث في الأصل القول الفاحش وهو هنا كناية عن الجماع
بمعنى الوطء ، فدلت الآية على حرمته للصائم في نهار شهر رمضان ، فنسخت حرمته في
الليل منه. (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهن ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي سكنا. (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أنه سبحانه علم خيانتكم أنفسكم بالمعصية المؤدّية إلى
العقاب لوطئكم نساءكم في شهر رمضان وهو محرم عليكم. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) غفر لكم (وَعَفا عَنْكُمْ) أي أزال تحريم ذلك أو محا أثره عنكم. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) أي بعد ذلك العفو جامعوهن في الليل. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) اطلبوا ما أباحه الله لكم من أمر النكاح أو قضى من الولد. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) وكلوا واشربوا ليلا حتى يتميز الخيط الأبيض من الفجر أي
النهار من الخيط الأسود أي من الليل والمقصود بالفجر الصادق منه. وهو ابتداء
الصوم. (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وهذا بيان لختام الصوم وهو أول الليل ويعرف بذهاب الحمرة
المشرقية بعد بيان بدئه أول النهار. (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قيل إن المراد بالمباشرة هنا الجماع ، وقيل هو ما دونه من
الاستمتاعات. أي لا تستمتعوا بنسائكم حال اعتكافكم في المساجد والاعتكاف مشروط بأن
يكون في أحد المساجد الأربعة عندنا : مكة والمدينة والكوفة والبصرة كما هو مشروط
بالصوم ، ولا يكون أقل من ثلاثة أيام بلياليها. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام التي ذكرت حرمات الله (فَلا تَقْرَبُوها) فلا تأتوها والنهي عن قربها مبالغة في وجوب عدم التعدي (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ
آياتِهِ لِلنَّاسِ) يوضح براهينه لعباده (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) أي لكي يتجنّبوا التجاوز لحدوده.
١٨٨ ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ... أي لا تتصرّفوا في مال الغير بالظلم والغصب وسائر
الوجوه التي لا تحل (وَتُدْلُوا بِها
إِلَى الْحُكَّامِ) أي ولا تلقوا أمرها إلى الحكّام وهم القضاة. (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ) لتأكلوا حصة من أموال الناس بالفعل الموجب للإثم باسم
التحاكم والرشوة وشهادة الزور واليمين الكاذب (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تدرون بأنكم مبطلون في دعواكم.
١٨٩ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ... الأهلة جمع هلال مشتق من أهل الصبي إذا صاح حين يولد.
والسؤال عن أحوال الهلال من الزيادة والنقصان والحكمة من ذلك. إما نتيجة العوارض
التي رمز إليها ، فإنه ربما يعرف أيام الهلال بزيادته ونقيصته عند أهل البوادي
والصحاري الذين جرّبوه بتلك الاختلافات وعلموا عدد أيامه ولياليه بها. ولو كان على
وتيرة واحدة لما ترتبت عليه تلك النتيجة وغيرها من المصالح والحكم التي ذكرت في
نفس الآية أو لم تذكر. ومن المحتمل أن سؤال السائلين كان عن الهلال وحقيقته ، وهل
هو بسيط أم مركّب ، وعلى فرض التركيب ، من أي أجزاء ركّب ، إلّا أن الله تعالى ما
أجابهم عن سؤالهم وترك جوابهم بمقتضى الحكمة. وبترك الجواب نحّاهم عن فكرتهم ، لأن
السؤال كان مما يكره سبحانه كشفه وإظهاره للخلق ، واختصّ علمه بذاته المقدّسة
ككثير من العلوم والمعارف ، واكتفى بذكر الآثار والخواصّ لأن بيان الحقيقة كان
خارجا عن وسعهم وفهمهم ، إذ كانوا لا يستطيعون تصوّرها وتعقّلها ، والله تعالى
أعلم. ويحتمل احتمالا قويّا أن السؤال متوجّه إلى ناحية عدد الأهلّة من حيث
الزمان. أي ما فائدة كون الشهور متعدّدة أي إثنا عشر شهرا. وقد جاء الهلال هنا
بمعنى الشهر فقوله : يسألونك عن الأهلة ، يعني الشهور الإثني عشر من المحرّم إلى
ذي الحجة مثلا. وهنا جاء الجواب مطابقا للسؤال بلا حاجة إلى توجيه ولا تأويل. فقد
سألوه تعالى : ما الحكمة في التعدّد. وما وجه التحديد بهذه الحدود الخاصة ، فعلّمه
تعالى الجواب بقوله : قل يا محمد (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي معالم وعلائم لهم يوقتون بها ديونهم ومطالباتهم وعدد
نسائهم ، وصيامهم وفطرهم وصلاتهم للعيد ، ومعالم الحج بحيث يعرف وقته من أوله إلى
آخره وجميع مناسكه. (وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) ففي المجمع عن الباقر (ع): كانوا ـ أي أهل الجاهلية ـ إذا
أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ، ولكنهم كانوا ينقبون في ظهور بيوتهم نقبا
يدخلون ويخرجون منه ، وكان هذا العمل سنّة وبرّا عندهم ،
فنهوا عن التديّن
به (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقى) الله بترك مخالفته (وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوابِها) وباشروا الأمور على وجهها الذي ينبغي أن تباشر عليه. ومن
ذلك أخذ معالم دينكم عن أهلها فهم أبواب الله وقد قال النبيّ (ص): أنا مدينة العلم
وعليّ بابها ، ولا تؤتى المدينة إلّا من بابها. (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم وأحوالكم (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) تنجحون في الوصول إلى ثوابه وتنالون رضوانه.
١٩٠ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ) ... قاتلوا في سبيل ترويج دين الله وتبليغ أحكامه الكفار
الذين يقاتلونكم ليصدوا عن هذا السبيل. (وَلا تَعْتَدُوا) لا تتجاوزوا قتال من هو من أهل القتال إلى التعدّي على
غيرهم (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين حدوده.
١٩١ ـ (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ... يعني اقتلوهم أينما وجدتموهم وظفرتم بهم. (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ) أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) للفتنة معان متعددة والمراد بها هنا الشرك بالله وهو أعظم
من القتل لهم حيث وجدتموهم. (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي لا تبادروهم بالقتال ولا تبدأوا بحرب الكفرة وهتك الحرم
(حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ
فِيهِ) أي حتى يفتتحوا هم القتال ويبدءوا به (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فإن بدأوكم بالقتال في الحرم فقاتلوهم واقتلوهم فيه. (كَذلِكَ) الإخراج والقتل (جَزاءُ الْكافِرِينَ) عقابهم لما فعلوا بكم.
١٩٢ ـ (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : فإن تركوا الشّرك والقتال وتابوا ، فالله تعالى يغفر
لهم ويرحمهم.
١٩٣ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) ... أي شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) أي حتى لا تكون العبادة لغير الله. (فَإِنِ انْتَهَوْا) امتنعوا عن الشّرك وأذعنوا للإسلام (فَلا عُدْوانَ) لا عقوبة قتل. (إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ) المستمرّين على الكفر والنّفاق. وقد سمّى القتل عدوانا
لأنه عقوبة على العدوان.
١٩٤ ـ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ) ... المراد بالشهر الحرام ذو القعدة الذي صد فيه المشركون
المسلمين عن البيت وأداء مناسكهم عام ست للهجرة مع تعهدهم بترك المسلمين يؤدون
مناسكهم في نفس الشهر من قابل فالله سبحانه يقول : إذا لم يفوا بما تعهدوا به في
قابل لكم فاقتلوهم ولو كان الشهر حراما فيه القتال لأن هذا الشهر بذاك الشهر
الحرام السالف. (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) جمع حرمة أي لكل ما يجب احترامه إذا انتهك أن يقتص بمثله. (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فجازوه بمثل فعله. (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) يعينهم ويصونهم من جميع الحوادث ويصلح أمورهم الدنيويّة
والأخرويّة.
١٩٥ ـ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... ابذلوا أموالكم في الطريق المؤدية إلى ثواب الله
ورحمته ومنها الجهاد. (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ولا تهلكوا أنفسكم
بأيديكم بترك البذل في تهيئة مقدمات الحرب مع الكفار وتمويلها فيتسلطون عليكم
ويقتلونكم والتهلكة هي الهلاك. (وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قيل : معناه أحسنوا الظن بالله يبرّ بكم أو أحسنوا بالعود
على المحتاج فإن الله يثيبكم على كل ذلك. وقيل : المحسنين المقتصدين في الإنفاق
بلا تبذير ولا تقتير.
١٩٦ ـ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ) ... اكملوهما بمناسكهما وحدودهما وتأدية كل ماله دخل فيهما
متقربين بذلك إلى الله. (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي منعتم وحبستم عن الذهاب إلى الحج وأنتم محرمون بحجّ أو
بعمرة (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) يعني قدّموا ما تيسّر من الهدي للذبح والنّحر والهدي إما
جزور أو بقرة أو شاة. هذا إذا أردتم الإحلال من الإحرام (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي لا تتحلّلوا ما دام الهدي لم يصل إلى محلّه لذبحه أو
نحوه. ومحلّه في المحصر بالمرض منى يوم النّحر ، وهذا للحاجّ. وأمّا المعتمر فيذبح
في مكة. وفي الممنوع من قبل العدو المكان الذي أحصر فيه. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا محوجا للحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ
رَأْسِهِ) كقمل أو جراحة (فَفِدْيَةٌ) أي فليحلق وتجب عليه حينئذ بدل على التخيير (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ) والصيام ثلاثة أيام ، والصدقة على ستة مساكين ، وروي أنها
على عشرة. (أَوْ نُسُكٍ) ذبح شاة. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) العدو (فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِ) أي استمتع بعد التحلّل من عمرته باستباحة ما كان حراما
عليه إلى أن يحرم بالحج ، (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليه ما تيسّر له من الهدي يذبحه بمنى يوم العيد. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي ولا ثمنه (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي يوم السابع من ذي الحجة والثامن والتاسع ، فإن فاته
فيها شيء فبعد أيام التشريق من ذي الحجة (وَسَبْعَةٍ إِذا
رَجَعْتُمْ) إلى أوطانكم تصومونها. (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) أي لا تنقص (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أن ما ذكر من التمتّع بالعمرة إلى الحج للنائي. وهو من
يكون بينه وبين مكة أكثر من اثني عشر ميلا من تمام الجهات. (وَاتَّقُوا اللهَ) بالمحافظة على أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) لمن خالفه فيها.
١٩٧ ـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ... أي أن وقته في شهور معروفة لدى الشارع الأقدس ، وهي
شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة. فاستبدالها بغيرها هو من النسيء الذي عدّه الله
زيادة في الكفر. (فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَ) فمن أحرم فيهن بالحج (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) الرفث : الجماع ، والفسوق : الكذب والسّباب ، والجدال :
قول الرجل لا والله ، وبلى والله. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) فلا يضيعه بل يثيب عليه. (وَتَزَوَّدُوا) أي حصّلوا الزاد لآخرتكم بتقوى الله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) هذه الجملة علّة لكون التزوّد للآخرة يكون بتقوى الله. (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أصحاب العقول تجنّبوا غضبي.
١٩٨ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ... أي ليس عليكم حرج أن تطلبوا رزقا من الله في زمن حجّكم
بالتجارة والإجارة وغيرهما. (فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ) أي اندفعتم من جبل عرفات بعد الموقف (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرامِ) فاذكروا الله عند وصولكم للمزدلفة وهي المشعر الحرام.
والذكر هو الثناء والشكر على نعمة الهداية وهذا الذكر واجب للأمر به ، وظاهر الأمر
هو الوجوب. والذكر فيه يلازم الكون فيه ، ولذا يقول علماؤنا : إن الوقوف فيه واجب
... (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) أي لهدايته إياكم إلى الإسلام. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ) أي وإنكم كنتم قبل الهدى لمن الضالين عن الحق.
١٩٩ ـ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ) ... والخطاب لقريش. أي يا معشر قريش أفيضوا من الجهة التي
أفاض الناس. حيث : ظرف مكان مبنيّ على الضمّ ، وترد للزمان أيضا. والإفاضة : هي
الاندفاع بشدّة. وكانت قريش وحلفاؤها يقفون بجمع ـ أي المزدلفة ـ ولا يقفون مع
سائر الناس بعرفات ترفعا عليهم ، فأمروا بمساواتهم ومشاركتهم في الخروج إلى عرفات
أولا ، ومنها إلى المشعر الحرام ، ومنه إلى منى. (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ) اطلبوا المغفرة منه تعالى لما كان يصدر منكم من المعاصي ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة واسع الرحمة.
٢٠٠ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) ... إذا أدّبتم عبادات الحج وأعماله المقررة في الشرع (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ
آباءَكُمْ) أي فأكثروا ذكر الله بالدعاء وغيره كما كنتم تفعلون في ذكر
آبائكم وتعداد مفاخرهم في جاهليّتهم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي زيدوا في ذكر آلائه وشكر نعمائه. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا
آتِنا فِي الدُّنْيا) بيّن سبحانه أن من أصناف الناس في أماكن الحج ومواقفه صنفا
لا يطلب منه تعالى إلا الدنيا. وهذا الصنف قد يعطيه الله ما سأل. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) الخلاق ، كسحاب هو النّصيب الوافر من الخير ، أي ليس له في
الآخرة نصيب من الخير.
٢٠١ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) ... منهم من يسألونه تعالى الحسنتين ويقولون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فهؤلاء يطلبون لأنفسهم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
٢٠٢ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) ... إشارة إلى الداعين بطلب الحسنتين. ويجوز أن تكون
الإشارة للطرفين ، فلكلّ نصيب (مِمَّا كَسَبُوا) أي من سنخ ما طلبوه قولا أو عملا. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قادر على مجازاة الناس يوم القيامة في قدر لمحة عين كما
ورد في الخبر.
٢٠٣ ـ (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ) ... يعني أيّام التّشريق الثلاثة. المراد بالذّكر هو
التكبيرات والتّهليلات وغيرهما من الأدعية والأذكار (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ) أي أسرع في الخروج من منى في ثاني أيّام التّشريق بعد
فراغه من رمي الجمار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وبقي حتى رمى في اليوم الثالث من أيّام التّشريق فالمتعجل
والمتأخر لا إثم عليهما فيما أتياه. (لِمَنِ اتَّقى)؟. أي أن التخيير ـ في التعجيل والتأخّر ـ لمن اتّقى الله
وتجنّب معاصيه وهو الحاجّ على الحقيقة ... (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر ثان بتجنب معاصي الله. (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تيقّنوا أنكم تجمعون إلى ربّكم يوم القيامة للحساب.
٢٠٤ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : ... نزلت في المنافقين. أي تستحسن كلامه يا محمد ، في
الدنيا باعتبار أنها نوع حياة يعتمد الحكم فيها على الظاهر فقط حيث يتظاهر بتقديسك
والتصديق بك وبرسالتك. (وَيُشْهِدُ اللهَ
عَلى ما فِي قَلْبِهِ) يستشهد به ويحلف أنه صادق فيما يدّعيه ويقوله لك. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) وهو أشد الخصماء خصومة للدين ولك وللحق.
٢٠٥ ـ (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) ... أي إذا انصرف هذا المنافق من عندك ، أو صار واليا على
الناس سار في الأرض (لِيُفْسِدَ فِيها
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) لأجل الفساد بإهلاك الحرث والنسل اللذين هما الركنان
الأساسيان لبقاء النوع الإنساني أي التغذي والتوليد. ولأجل الفساد بهدم أحكام
الدين وزعزعة أسس الأخلاق. (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) والله يبغض الفساد وأهله.
٢٠٦ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) ... أي إذا قيل له : تجنّب غضب الله ودع الفساد (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) استولت عليه عصبيّته الجاهليّة ، وحملته على ارتكاب اللجاج
في مضاعفة فساده. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي كفته عقوبة (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) وجهنم بئس الفراش الممهّد له.
٢٠٧ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ... أي يبيعها طلبا لمراضي الله تعالى. نزلت في علي (ع)
حين نام على فراش النبي (ص) ليلة تآمر المشركون على قتله. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) رحيم بهم.
٢٠٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ... أيها المؤمنون يجب عليكم جميعا أن تثبتوا على ما دخلتم
وهو الإسلام وذلك بتسليم الأمر لله ولرسوله والسلم والإسلام بمعنى واحد. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ولا تسلكوا طريقه فيما يزينه لكم من الخروج على شيء من
أحكام دينكم. (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.
٢٠٩ ـ (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) ... إذا انحرفتم عن الحق أي السّلم الذي أمر به الله بعد
أن ظهرت لكم الدلائل الواضحة على صلاح ما أمرتم به (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) غالب على أمره وحكيم في صنعه وصنيعه.
٢١٠ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ... الاستفهام معناه النّفي بمقتضى الاستثناء ، أي لا
ينتظر التاركون للدخول في الإسلام إلّا أن ينزل عليهم عذاب الله. (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وهي السحاب الأبيض المتراكم كالمظلّة ، والغيوم التي
يظنّون بها الرحمة (وَالْمَلائِكَةُ)؟. معطوف على لفظة الجلالة أي تأتي الملائكة. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تم إهلاكهم (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أن كل الأمور مصيرها إليه حسابا وجزاء.
٢١١ ـ (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ
آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) : ... سل يا محمد أولاد يعقوب وهم اليهود سؤال تقرير
لتأكيد الحجة عليهم كم أعطيناهم من حجة واضحة ذكرت في كتبهم على صدقك ونبوتك. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ
بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي فكفروا بتلك الآيات وحرفوها عن وجوهها الصحيحة بعد
معرفتهم بها ، (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) فالله يوردهم أشد العذاب لما صدر عنهم من تحريف وكفران.
٢١٢ ـ (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ
الدُّنْيا) ... أي بسبب كفرهم واتباعهم للشيطان جملت وحسنت الحياة
الدّنيا بنظر الكفّار وأشربوا حبّها في أعماقهم. (وَيَسْخَرُونَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) ووجه استهزائهم بالمؤمنين إمّا لفقرهم ، وإمّا لزهدهم في
الدنيا ، (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) والذين تجنبوا معاصيه واتّبعوا مراضيه هم في الآخرة في
عليين والكفار في سجّين ولذا فسوف يسخر المؤمنون منهم وهم على حالهم هذه من الذل
والهوان والعذاب كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ). (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعطي الكثير الذي لا يحصره حساب.
٢١٣ ـ (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ... أي أن أولاد آدم كانوا أهل دين واحد وملّة واحدة بعد
آدم (ع) ، وهو دين الله الذي بعث به آدم واتّبعه صالحو ذرّيته. فلمّا توفّاه الله
وتلاعبت بذريته الأهواء والغرائز فاختلفوا. (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فأرسل الله إليهم رسله مبشّرين بالجنّة لمن أطاعهم في أمر
الله ، ومنذرين بالنّار لمن عصاهم (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِ) وأنزل مع كلّ نبيّ كتابا بالصدق والعدل. وقيل إنه أنزل مع
بعضهم ولم ينزل مع كلّ نبيّ كتاب. وقوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي الله تعالى يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قبل
إنزاله. (وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وما اختلف في الحق إلا الذين أعطوا العلم به كاليهود فإنهم
كتموا صفات محمد (ص) بعد ما أعطوا العلم به (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الواضحة ، وقيل التوراة والإنجيل (بَغْياً بَيْنَهُمْ) يعني : ظلما وحسدا وطلبا للرئاسة (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) بيان لما قبله ، هداهم لذلك (بِإِذْنِهِ) بعلمه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد إلى الإسلام من فيه القابلية للهداية.
٢١٤ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) ... والمعنى : بل أظننتم وخلتم أيها المؤمنون أن تدخلوا
الجنة قبل أن تمتحنوا بمثل ما امتحن به من مضى من المؤمنين قبلكم فتصبروا كما
صبروا؟ ثم فصّل ما أصاب من قبلهم من المؤمنين : وأم منقطعة وهمزتها للإنكار ،
ومعناها هنا : بل حسبتم ، أي : لا تحسبوا. (مَسَّتْهُمُ
الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) وقيل : الأول هو القتل ، والثاني هو الفقر. (وَزُلْزِلُوا) أي اضطربوا وأقلقوا من شدّة ما أصيبوا به من أنواع
البلايا. (حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) يقولون عند تطويل مدة المصائب متى يأتي النّصر الذي وعدناه
(أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ) لفظة : ألا ، للاستفتاح ، وتدل على تحقّق ما بعدها. فقيل
لهم إجابة لطلبهم : عاجل النّصر ممّن النّصر بيده.
٢١٥ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) ... أي أيّ شيء ينفق في سبيله تعالى ، (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي ما بذلتموه من مال ، (فَلِلْوالِدَيْنِ ،
وَالْأَقْرَبِينَ ، وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ) فهؤلاء ينفق عليهم كجواب عمّا سألوك عنه واختصاص هؤلاء
لبيان أكمل مصارف النفقة وأتمّها. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) ما تعملوا من عمل صالح يقرّبكم إلى الله ، (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعرفه ويجازيكم عليه.
٢١٦ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ) : ... فرض عليكم قتال الكفار وهو مكروه من نفوسكم وتنفر
منه طباعكم لخطورته ومشقته. (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لعلكم تكرهون شيئا في الحال وهو خير لكم في المآل ،
كالقتال فإن فيه إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد. (وَعَسى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) كالقعود عن الجهاد حبا للحياة وفيه الشرّ لكم إذ فيه الذلّ
في الدنيا ، وحرمان الأجر والثواب في العقبى (وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعرف ما فيه صلاحكم وفسادكم في الدارين ، وأنتم لا تعرفون
ذلك.
٢١٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) ... عرفت الأشهر الحرم سابقا ، وعرفت أن القتال فيها حرام
في الإسلام كما كان حراما قبل الإسلام. والمعنى : أنهم يسألونك يا محمد عن القتال
في الشهر الحرام ، أي رجب : (قِتالٍ فِيهِ)؟. هل فيه قتال؟ (قُلْ قِتالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ) فأجبهم أن القتال في الشهر الحرام ذنب عظيم ومنع عن اتّباع
صراط الله المستقيم (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) عن زيارة المسجد الحرام لأداء المناسك. (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ) أي أن تهجير النبيّ والمؤمنين من مكة أعظم وزرا عند الله
من القتل والقتال ، (وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) مر تفسيرها. (وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) ... يخبر سبحانه نبيّه (ص) والمؤمنين بدوام عداوة كفار مكة
التي ترمي إلى إرجاعكم عن دينكم وصرفكم عن الإسلام لتعودوا إلى الجاهلية والكفر إن
قدروا على ذلك ولن يقدروا. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) أي أن من انصرف عن دين الحق ومات على الرّدة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي فسدت فلا ثواب عليها في الآخرة وبالارتداد تفوت فوائدها
الدنيوية أيضا. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والمرتدّون إذا ماتوا على الرّدة يكونون كافرين ويلحقون
بهم في الخلود بالعذاب.
٢١٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... صدّقوا الله ورسوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) وتركوا أوطانهم (وَجاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) وقاتلوا في إحياء دين الله الذين هم عليه ، (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يأملونها. والتعبير بالرجاء للتنبيه على أن العبد لا
بدّ وأن يكون في جميع أحواله وأعماله بين الخوف والرجاء. لا يغترّ بأعماله
العباديّة ولا ييأس من رحمة الله فالله عند حسن ظن عبده فهو كثير المغفرة واسع
الرحمة.
٢١٩ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) ... أي عن حكم شربه وسائر أشكال تعاطيه (وَالْمَيْسِرِ) أي حكم القمار. فيا محمد (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ) أي وزر عظيم لأنهما مفتاح الشرّ ، (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) دنيويّة : ككسب المال وتحصيل النشوة (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لأنهما من الكبائر التي توجب الخلود في النار وفي الآخرة
ولأنهما مفتاح كل شر في الدنيا والشرّ الدائم المستمر أحرى بالاهتمام من المنفعة
الجزئية الآنية. (وَيَسْئَلُونَكَ ما
ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) : ... العفو هو ما فضل الأهل والعيال. وقيل هو الوسط بين
الإسراف والتقتير ، وقيل هو خيار المال. (كَذلِكَ) أي مثل ما بيّن أمر الخمر والميسر والنّفقة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يعني يوضح لكم الحجج في سائر الأحكام (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لكي تتدبروا وتتأملوا فيما يتعلق بكم من شؤون الدارين.
٢٢٠ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) وأحكامهم. (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ) أي إصلاح أموالهم بلا أجر ومعاشرتهم أحسن من إبعادهم
ومجانبتهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ) أي إن تشاركوهم بخلط أموالهم مع أموالكم فتصيبوا من
أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم فهم إخوانكم والإخوان يصيب بعضهم من أموال بعض. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ) والله يعلم من كان غرضه من مخالطة مال اليتامى إفساد مالهم
أو إصلاحه. (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) أي لو أراد لأوقعكم في التعب والمشقة في أمر الأيتام بعدم
الإجازة في الدخول في شؤونهم والتصرف في أموالهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على ما يشاء (حَكِيمٌ) في تدبيره.
٢٢١ ـ (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَ) ... لا تتزوجوا النساء الكافرات كتابيات كن أو غيرهن ، حتى
يصدّقن بالله ورسوله. (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) أي أن المملوكة المؤمنة خير من الحرة الكافرة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بحسنها ومالها ونسبها. (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ) أي لا تزوّجوا نساءكم المؤمنات للمشركين (حَتَّى يُؤْمِنُوا) بغير فرق بين الكتابيّ وغيره. (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ) حرّ (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) جماله وماله ونسبه. (أُولئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ) المشركون يدعون الناس إلى الكفر الذي هو سبب دخول النار (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) أي إلى فعل ما يوجب الجنّة. (وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ) بما يأمر به ويأذن فيه من الأحكام التي توصل إلى مغفرته. (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) ويوضح حججه (لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) على أمل أن يتدبّروا ويتّعظوا.
٢٢٢ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ... عن أحكام المحيض وأحواله : وهو خروج دم الحيض في عدة
المرأة الطبيعية (قُلْ هُوَ أَذىً) أي فيه ضرر يسير ، وقيل هو نجس أو قذر (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي اجتنبوا مجامعتهنّ من ناحية الوطء بالخصوص في فترة
الحيض. (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع فقط (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي ينقطع الدم على قراءة التخفيف. وحتى يغتسلن على قراءة
التشديد (يطّهّرن) (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي اغتسلن أو توضّأن أو غسلن الفرج. (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ) أي جامعوهنّ من حيث أمركم الله تجنبه في حال الحيض وهو
الفرج. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ) كثيري التوبة من كل ذنب. (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) من الذنوب وقيل المتطهرين بالماء.
٢٢٣ ـ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ... والحرث هو شقّ الأرض بالأدوات لبذر الحب. وقد شبّه
سبحانه النساء بها لما يلقى في أرحامهن من النّطفة التي تنتج الأولاد ، نساؤكم محل
زرعكم الولد. (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) أنّى تأتي مكانية وتأتي زمانية وعلى الأول يكون المعنى : جامعوا
نساءكم من أي موضع شئتم قبلا أو دبرا. وعلى الثاني : جامعوا نساءكم في أي زمان
شئتم. (وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) أي ما يفيدكم في الدارين من الأعمال الصالحة. (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا معاصيه. (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي ملاقو جزائه ثوابا كان أو عقابا حسب أعمالكم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالثواب والجنة.
٢٢٤ ـ (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً
لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) : ... العرضة : الاعتراض والمانع ، فالمعنى : لا تجعلوا
اليمين بالله علة مانعة لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس حيث تعتمدونها
لتعتلّوا بها وتقولوا حلفنا بالله. وقيل معناه : لا تجعلوا اليمين بالله سلعة
مبتذلة في كل حق وباطل لأن تبروا في الحلف بها وتتقوا فيها المآثم وتصلحوا بين
الناس ، أي لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين. (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) يسمع أقوالكم ويعلم ما تخفي صدوركم.
٢٢٥ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ) ... اللّغو في الأيمان ما لا قصد معه بل يجري على عادة
اللسان لقول العرب : لا والله ، وبلى والله ، لمجرّد التأكيد. أي لا يؤاخذكم الله
بما لا قصد معه من الحلف فهو لغو أي لا فائدة فيه ولا كفّارة (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) أي بما قصدت قلوبكم وانعقدت عليه ، فإن عقد القلب هو كسبه.
(وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) يغفر الذنوب ويمهل العقوبة.
٢٢٦ ـ (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) ... يؤلون من ألى يؤلي إيلاء وهو الحلف والمعنى هنا : للّذين
يحلفون على عدم مجامعة نسائهم أزيد من أربعة أشهر ضرارا عليهنّ ، يمهلون أربعة
أشهر. (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي رجعوا إليهن وجامعوهنّ تجب عليهم كفّارة الحنث ولا
عقوبة عليهم رحمة من الله بهم.
٢٢٧ ـ (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ
اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : ... وإذا مضت الأشهر الأربعة ولم يجامع ألزمه الحاكم على
الرجوع والكفارة أو الطلاق. فإن صمم على الطلاق وتلفظ به مع استجماع شرائط صحته
فإن الله يسمع تلفظه ويعلم نيته.
٢٢٨ ـ (وَالْمُطَلَّقاتُ) أي المخلّيات عن علقة أزواجهن بالطلاق وكان مدخولا بهن وكن
ممن يحضن وغير حوامل. (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ينتظرن بأنفسهن انقضاء ثلاثة قروء فلا يجوز لهن أن يتزوجن
في هذه المدة. والقروء جمع قرء وهو الطهر ، وقيل هو الحيض. (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) أي لا يجوز للمطلقات اللواتي تجب عليهن العدة أن يخفين
حملهن إن استبان لئلا يظلمن أزواجهن بمنع الرجوع في الطلاق أو بنسبة الولد إلى غير
الزوج صنع الجاهلية. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقن بيقين ، فإن الإيمان الواقعي مانع عن الكتمان
والكذب ، بل وعن كل عمل غير مشروع. (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) أي أزواجهن أولى بمراجعتهن في فترة العدة. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يعني إذا اتّفقا على حسن الزوجية لا إذا كان القصد من رجوع
الزوج الإضرار بالزوجة. (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) للنساء على أزواجهن مثل ما لهم على زوجاتهم من حقوق
متعارفة بين العقلاء كلّ بحسبه. أي أنّ للنساء على رجالهنّ حقوقا كما أن لهم عليهنّ
حقوقا لا بد من أدائها إليهم. (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي فضيلة كالطاعة والرجوع وزيادة الميراث والجهاد إلخ. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب على أمره ، وفاعل لما تقتضيه الحكمة.
٢٢٩ ـ (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ... أي الطلاق الذي يملك فيه الزوج حق الرجوع في العدة من
دون عقد جديد مرتان. (فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي فعليكم إرجاعهن بشرط عدم كون الرجوع للإضرار بهن وإلا
فاتركوهن حتى يخرجن من عدتهن فتبن منكم وقيل : المراد بتسريح بإحسان الطلقة
الثالثة. (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فلا يحل أخذ شيء مما كنتم أعطيتموهن من المهر ثم استثنى
بدل الخلع فقال : (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) من الوظائف الزوجية المقررة لكل منهما. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللهِ) أي الوظائف المقرّرة في الزوجية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ) أي لا بأس في مثل هذه الحال أن يأخذ الزوج الفدية في عوض
طلاقه إيّاها. ولا بأس بإعطاء الزوجة له فدية مقابل تطليقها. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حدّد وشرّع من الأحكام (فَلا تَعْتَدُوها) أي لا تتجاوزوها (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ومن يتعدّ حدوده سبحانه يكون ظالما لنفسه أو لزوجته.
٢٣٠ ـ (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ) : ... أي إن طلّقها الزوج للمرة الثالثة بعد الطلاقين
المتقدم ذكرهما فلا تحل له ولو بالعقد. (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) أي بعد أن ينكحها زوج آخر غير زوجها الذي طلّقها (فَإِنْ طَلَّقَها) أي الزوج الجديد ، بعد دخوله فيها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي لا إثم على الزوجة وزوجها الأول أن ينشأ الزوجية بعد
عدتها بعقد جديد. (إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إذا اعتقدا أنهما قد يلتزمان بما شرعه الشارع لهما من
لوازم الزوجية. (وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ) كل ما ذكر هو أحكام الله الأمور التي بيّنها في النكاح
والطلاق والرّجعة ، والمراد بحدود الله هو طاعاته وشرائعه التي ذكرت قبل هذه
الجملة ، لا مطلق الأحكام وإن كانت كلها حدود الله عزوجل (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ) ويوضحها للعلماء.
٢٣١ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) قاربن انقضاء عدّتهنّ. (فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : مر تفسير ما يماثله. (بِمَعْرُوفٍ) مما يتعارف عليه الناس من معاملة حسنة. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهنّ للإضرار بهنّ (لِتَعْتَدُوا) أي لتجوروا عليهن بتطويل العدة وتضييق النفقة وما شاكل. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإمساك الضّراري والاعتداء عليهنّ (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) اضرّ بها حيث عرضها لعقاب الله. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) لا تستخفّوا بأوامره ونواهيه (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) أي الإسلام (وَما أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) أي القرآن وما فيه من أحكام وقيل المراد بالحكمة : السنة. (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بما أنزل لتتّعظوا (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنبوا معاصيه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أفعالكم وغيرها.
٢٣٢ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ... أي انقضت عدتهن (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ
أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أي لا تمنعوهنّ من التزوّج بمن رضين بهم أزواجا لهن. وقيل
بمن كانوا أزواجا لهن من قبل. وقيل إن الخطاب عام للأولياء وغيرهم. (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ) إذا توافق الرجال والنساء بالنكاح الصحيح وبما لا يكون
مستنكرا. (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ
مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والإشارة بذلك ، للأحكام المذكورة آنفا التي يخوّف بها من
... (ذلِكُمْ أَزْكى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي أن العمل بما ذكر خير لكم وأطهر لقلوبكم من الريبة. (وَاللهُ يَعْلَمُ) يعرف ما فيه الصلاح (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك.
٢٣٣ ـ (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) : ... أمر للأمهات إن شئن بإرضاع أولادهن عامين تامين
أربعة وعشرين شهرا. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي أن هذا الحكم لمن رغب في إتمام الرضاعة. وإلّا فبمقدار
ما يجري الاتفاق عليه مع الأب. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي على الأب كسوة الوالدات المرضعات ونفقتهن من طعام وغيره
بما يتعارف عليه (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ
إِلَّا وُسْعَها) بقدر استطاعتها (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) لا تضرّ الأمّ ولدها بالتفريط في حضانته وإرضاعه غيظا على
أبيه. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ) أي الأب فإنّ عليه أن لا يضر بولده في تسامحه بدفع النفقات
، أو أن يأخذه من أمّه غيظا عليها فيضر بولده. (وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ) أي تجب النفقة للأم المرضعة على وارث الأب المتوفى. وقيل
على وارث الرضيع. (فَإِنْ أَرادا
فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) : أي إذا أراد الأب والأم المرضعة فطام المرتضع قبل
الحولين وتشاورا واتفقا عليه. (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) أي لا مؤاخذة تلحق بهما لذلك الفطام المبكر إذا كانت فيه
مصلحة الرضيع. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الخطاب للآباء لأن النفقة عليهم. فإذا لم ترد الأمّ أن
ترضع ولدها ، فللأب أن يطلب مرضعة ثانية مكانها. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي لا حرج عليكم في ذلك بشرط أن تسلموا ما ضمنتموه
للمسترضعة من أجرة حسب ما هو متعارف بين الناس. (وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تجنبوا معاصي الله فهو بصير بأعمالكم لا يخفى عليه منها
شيء.
٢٣٤ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ... فالرجال الذي يموتون ويتركون أزواجا أي نساء ، فعلى
هؤلاء النساء أن (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحبسن أنفسهن عن الزواج ، معتدّات (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي عشر ليال وعشرة أيام بعد الأربعة أشهر ، فهذه عدّة
المتوفّى عنها زوجها. (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) انتهت مدة عدّتهنّ (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) فلا مؤاخذة أيها الأولياء أو الحكام أو المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) في التزويج والخروج من بيوتهنّ ؛ والتزيّن بما هو جائز
لهنّ عرفا وشرعا ، لا بما هو منكر (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم بأعمال عباده.
٢٣٥ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ... الخطاب للرجال الأجانب عن النساء : لا حرج عليكم فيما
لمّحتم به دون أن تصرّحوا للنساء المطلّقات أو الأرامل مما يدل على رغبتكم في
نكاحهن لمعرفة مدى رضاهن بذلك. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ) أي لا حرج عليكم فيما أضمرتم وأخفيتم في أنفسكم من رغبة في
نكاحهن بعد انتهاء عدتهن. ولم تعرّضوا ولم تصرّحوا. (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) برغبتكم فيهن مخافة أن يسبقكم غيركم إليهن. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) لأنهنّ أجنبيّات ، والمواعدة بالسرّ قد تدعو إلى ما لا
يحلّ وتجرّ إلى الحرام. وقيل إن معنى السر هو إسرار عقدة النكاح (إِلَّا) لكن (أَنْ تَقُولُوا
قَوْلاً مَعْرُوفاً) قولوا ما عرف شرعا من التعريض فهو مباح لكم دون غيره. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي ولا تعقدوا عقد الزواج بعد العدة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم وغيره (فَاحْذَرُوهُ) بمخالفة ما أمركم به ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) واعتقدوا بأني غفّار لعبادي أمهل العقوبة.
٢٣٦ ـ (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ) ... أي لا تبعة عليكم في طلاقهن (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي قبل أن تدخلوا بهنّ وقبل فرض مهر لهن. (وَمَتِّعُوهُنَ) عطف على مقدّر ، أي طلّقوهنّ ومتّعوهن بإعطائهن من أموالكم
ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الموسع : ذو السعة وهو الغني والمقتر هو المقل من المال.
فعلى كل واحد أن يمتّع مطلّقته بما يتلاءم مع سعته أو إقلاله. (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) بما هو المتعارف (حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) أي متاعا ثابتا واجبا على من يحسن في مقام أداء حقوق الناس.
٢٣٧ ـ (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ... بعد أن بيّن سبحانه حكم الطلاق قبل الدخول مع عدم فرض
مهر للزوجة في الآية السابقة بيّن هنا الحكم مع فرض المهر فحكم بأن للزوجة نصف ما
فرض لها من مهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) والعافيات هنّ المطلّقات لهن أن يتركن ما يجب لهنّ (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي الوليّ إذا كانت البنت صغيرة أو غير راشدة إذا كان فيه
مصلحة لها. (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الخطاب للمطلّقة والوليّ في صورة المصلحة للعفو أما وجه أن
العفو أقرب لاتقاء معصية الله لأن من ترك حق نفسه كان أقرب إلى اتقاء معصية الله
بأخذ ما لا حق له فيه. (وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي لا تتركوا تبادل الإحسان فيما بينكم. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عليم بأعمالكم.
٢٣٨ ـ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) ... أي داوموا على الصلوات المفروضات في أوقاتها المحددة
بكامل ما يعتبر فيها من شرائط وأجزاء وخاصة الصلاة الوسطى وهي صلاة الظهر. وخصها
بالذكر لبيان زيادة الاهتمام بها. (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ) أي انتصبوا في الصلاة داعين لأن القنوت هو الدعاء في
الصلاة حال القيام.
٢٣٩ ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ
رُكْباناً) ... فإن عرض لكم خوف لأي سبب فصلّوا على أرجلكم وقيل مشاة
أو حال كونكم راكبين على دوابكم (فَإِذا أَمِنْتُمْ) زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَما عَلَّمَكُمْ) صلّوا صلاة المختار الآمن كما علمكم سبحانه (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما كنتم تجهلونه من كيفيّة الصلاة وغيرها من الأحكام.
٢٤٠ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ... أي الذين يقاربون منكم الوفاة ، (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ويتركون بعد موتهم زوجات ، (وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ) فليوصوا وصية بناء على قراءة النّصب. وقرئ بالرفع ، أي
عليهم وصية لأزواجهم وقد نسخ هذا الحكم (مَتاعاً إِلَى
الْحَوْلِ) ما يتمتعن به من النفقة حولا. (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي غير مخرجات من بيوت سكنهنّ. (فَإِنْ خَرَجْنَ) بأنفسهن من منازل الأزواج قبل تمام الحول وبعد انقضاء
العدة. (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أيها الأولياء للميّت إذا خرجن من العدّة أو بانقضاء
السّنة ، فلا بأس عليكم إن قطعتم عنهن النفقة أو تركن الحداد أو تزوجن لأن ذلك ليس
منكرا. (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهره أحد ، (حَكِيمٌ) يفعل ما فيه المصلحة.
٢٤١ ـ (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) : ... تأكيد لمتعة غير المدخول بها ومن لم يسمّ لها مهر.
وقد تقدم.
٢٤٢ ـ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ... يعني : كما بيّن الله تعالى لكم سابقا الأحكام وما
تحتاجون إلى معرفته في دينكم ، يبيّن لكم هذه الأحكام مع دلائل وجوده لعلكم تكمل
عقولكم.
٢٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) ... أي ألم ينته علمك إلى القوم الذين خرجوا من ديارهم
فرارا من الموت قيل هم قوم من بني إسرائيل بلغ عددهم على رواية سبعين ألفا وقع
الطاعون فيهم وقيل فرّوا من الجهاد. الخطاب تقدير لمن سمع بقصة القوم الذين خرجوا
من ديارهم (حَذَرَ الْمَوْتِ) خوفا منه. (فَقالَ لَهُمُ اللهُ
مُوتُوا) أي أماتهم الله جميعا على حالهم التي كانوا عليهم (ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي ردّهم إلى الحياة ، قيل بدعاء نبيهم حزقيل. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ) وردت هنا لأن إحياء هؤلاء بعد موتهم إنعام عليهم ، وعبرة
لهم ولغيرهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الله حقّ شكره.
٢٤٤ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... جاهدوا لإعلاء كلمته ، والخطاب للمسلمين. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في ضمائركم فاحذروه.
٢٤٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ... من ذا الذي ينفق في سبيل الله وطاعته والمراد به الأمر
وليس هذا بقرض حاجة على ما قاله اليهود بأن ربنا فقير فهو يستقرض منا كفرا وسخرية.
(قَرْضاً حَسَناً) أي مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أي يكثر له جزاءه ويزيد في ثوابه وتعويضه والكثير عنده
سبحانه لا يحصى. (وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ) أي يقتّر على قوم ويوسّع على آخرين حسب حكمته. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون بعد الموت.
٢٤٦ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) ... أي ألم ينته علمك يا محمد إلى ما سأله جماعة الأشراف
من بني إسرائيل لنبيهم وقيل بأنه شمعون وقيل يوشع وقيل غير ذلك بعد موت موسى (ع) (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) أي هيّئ لنا قائدا نأتمر بأمره وننتهي بنهيه ونقاتل معه
ونجاهد في سبيل ربّنا وحسبة له تعالى. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أجابهم نبيهم : لعلكم إن فرضت عليكم المحاربة مع ذلك
القائد تجبنون ولا تقاتلون. والاستفهام تقريري. يعني أنتم كذلك ولستم من أهل
مقاتلة الخصم ومبارزته. (قالُوا وَما لَنا
أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ماذا يمنعنا من القتال في طريق الحق (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا
وَأَبْنائِنا) من أوطاننا وأهلنا بالحرب والسبي وهل يتصوّر بعد هذا مانع
معقول عن القتال؟ (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي فرض عليهم حرب العمالقة الذين كانوا يسكنون ساحل بحر
الروم ـ المتوسط ـ بين مصر وفلسطين ، وقد كانوا غالبين على بني إسرائيل. (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي جبنوا وأدبروا عن القتال غير طائفة قليلة. وقيل : كان
عدد الباقين الموافقين على القتال ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي كان الله عليما بما سوف يؤول إليه أمرهم من الظلم وهو
معصية الله بفرارهم من القتال.
٢٤٧ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... الذي سألوه مسألتهم (إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) وقيل سمّي طالوت ، لطوله. وفي بعض كتب اليهود عن بعض
المؤرخين : كان أطول من جميع بني إسرائيل من كتفه فما فوق. (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنا) أي كيف يكون له سلطان علينا (وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ) ونحن أولى بالملك منه لأننا من سبط النبوة وهو ليس كذلك. (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ليقدر على تملك الناس به فالملك بلا مال كالمحارب بغير
سلاح ، (قالَ إِنَّ اللهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره عليكم وهو أعلم بمصالح عباده (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ) : أي سعة حيث كان أعلم بني إسرائيل في وقته وأجملهم وأتمهم
وأقواهم جسما. وهذان هما قوام الملك. لا ما ذكرتموه. فهذان الأمران أهمّ للسلطان
مما اعتبرتم. (وَاللهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) الله يعطي ملكه بحسب ما تقتضي حكمته ومصالح عباده فأزمّة
الأمور بيده تعالى. (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) ذو فضل وعلم بمن له صلاحية الملك والزعامة والسياسة
الدنيوية والدينية.
٢٤٨ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... لما طلبوا منه دليلا على أن تمليك طالوت كان بمشيئة
الله. (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي علامة تمليك الله له (أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ) قيل إنه الصندوق الذي أنزله الله على أمّ موسى فوضعت فيه
ابنها وألقته في البحر ، جعل فيه موسى (ع) الألواح وآثار النبوة كان في بني
إسرائيل معظّما يتبرّكون به ثم استخفّوا به واحتقروه بعد موسى بمدة فرفعه الله
عنهم ، وقيل غير ذلك. وقد ردّه الله بعد تمليكه لطالوت عليهم. (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) طمأنينة لقلوبكم جعلها الله فيه وهذا من نعم الله على بني
إسرائيل كالمنّ والسلوى وغيرهما مما منّ الله تعالى به عليهم. أما التابوت فكان
عندهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحرب ، وكان معه الفتح والظفر ، (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى
وَآلُ هارُونَ) البقية ما كان قد وضع في التابوت بيد موسى (ع) وبقي فيه من
آثار النبوة كالعصا ، ونعلي موسى ، وعمامة هارون إلخ والمقصود بآل موسى وهارون
نفساهما. (تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ) قيل : حملته قدّام جيش طالوت عاليا بين السماء والأرض ،
حتى إذا رآه بنو إسرائيل عيانا سكنت قلوبهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في رجوع
التابوت إليكم بعد رفعه من بينكم منذ زمن طويل (لَآيَةً لَكُمْ) علامة لكم على تمليك طالوت عليكم. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم مصدّقين لقول نبيّكم في ذلك.
٢٤٩ ـ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) ... أي فلما خرج طالوت بجيشه من مكانه وكان الجو حارا
فشكوا له قلة الماء (قالَ إِنَّ اللهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي ممتحنكم بماء نهر ليميز الصادق من الكاذب منكم. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي فمن شرب من ماء النهر فإنه لا يكون من أتباعي وأهل
ولايتي ولا مؤمنا بي ومنقادا لأمري ، بل يعد في زمرة العاصين والمعاندين. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي) يعني ومن لم يذقه فإنه من التابعين لي وأهل ولايتي. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ) مستثنيا بذلك الغرفة الواحدة باليد ، ليعلم مبلغ طاعتهم
لأوامر الابتلاء. (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي كلهم متجاوزين الحد المقدّر المباح لهم. (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) كفّوا أنفسهم ولم يشربوا منه إلّا بمقدار الرخصة. وروي أن
من اقتصر على الغرفة روي ومن استكثر غلب عطشه وعجز عن المضي واسودّت شفته. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ) أي عند ما تخطى طالوت النهر هو وجنده الذين شربوا كما
أمرهم والذين لم يطعموا الماء أبدا. (قالُوا) أي الذين اغترفوا قال بعضهم لبعض. وقيل الكافرون منهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ) لا قدرة لنا على صدّ جالوت وجيشه. ولن نتمكن من قتاله
ومحاربته. (قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ) أي يتيقّنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللهِ) أي بالبعث والجزاء وهم المؤمنون المخلصون ممن لم يطعموا
الماء أصلا كما قيل. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ) أي فرقة قليلة (غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) انتصرت على فرقة أكبر منها بأمر الله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يؤيدهم بنصره.
٢٥٠ ـ (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ) ... أي حين ظهر طالوت والمؤمنون معه لمحاربة عدوهم (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً) طلبوا الصبر من الله تعالى يصبّه عليهم صبا ليكون كافيا
وافيا. (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواقع الحرب والنزال (وَانْصُرْنا عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وأظفرنا بجالوت وجنوده.
٢٥١ ـ (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) ... أي غلبوهم بأمر الله. والمأثور أن هزيمة الكفار حصلت
بعد أن قتل داود جالوت. (وَقَتَلَ داوُدُ
جالُوتَ) بالمقلاع الذي كان معه وداود كان في جيش طالوت (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) آتى داود السلطان والحكم المهيب الذي لم يتيسّر لأحد قبله.
(وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ) كفصل القضاء ، وعمل الدروع السابغات أي الواسعة ، والصوت
الجميل ، والزبور السماوي ، بحيث لو قرأه بصوته لاجتمعت عليه الطيور تسبّح الله
وتمجّده. (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ضرب الكافرين والمنافقين والمفسدين ، ودفعهم بالمؤمنين
، (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) خربت بغلبة المفسدين والكفرة. (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ذو نعمة على الناس في دينهم ودنياهم.
٢٥٢ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) ... أي ما تقدم ذكره في الآيات السابقة هو دلالات الله على
قدرته (نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِ) نقرأها عليك يا محمد بالصدق وقيل : جبريل يقرؤها عليك بأمر
منا. (وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) أي المبعوثين من الله إلى الناس كافة ، بدلالة هذه الآيات
: كإماتة ألوف الناس دفعة واحدة. وكإحيائهم كذلك بدعاء نبيّهم ، وكتمليك طالوت
الذي لم يكن من الأسرة المالكة وأولاد يعقوب ، وكتمليك داود وقد كان راعيا للغنم
وتعليمه الحكمة وفصل الخطاب. وكهزيمة جالوت والعمالقة ... إلخ. فهي من الغيب الذي
لا يعلمه إلا الله فإخبارك بها أكبر دليل على أنه قد أوحي إليك بها من الله والله
لا يوحي إلا إلى أنبيائه.
٢٥٣ ـ (تِلْكَ الرُّسُلُ) ... إشارة إلى الأنبياء المذكورة قصصهم في السورة (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمنقبة أو فضيلة تخصه (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) كموسى (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ) أي فضّلهم بارتقاء المراتب كمحمد (ص). (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الدالة على صدق دعواه بأنه رسول الله. (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) مر تفسيره في الآية ٨٧ من هذه السورة (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ولو أراد الله لم يقتتل الناس بعد بعث الرسل والدلائل بأن
يلجئهم إلى الإيمان ويمنعهم من الكفر فلم يرد الله ذلك لاستلزامه إبطال فلسفة
الثواب والعقاب التي لا تتم إلا مع اختيار للإنسان (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) تنازعوا (فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ) بتوفيق الله وحسن اختياره هو الهدى (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بسوء اختياره (وَلَوْ شاءَ اللهُ
مَا اقْتَتَلُوا) تأكيد (وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) مما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة.
٢٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ... أي يا من صدّق بمحمد (ص) أنفقوا مما رزقناكم وما
فرضناه عليكم من زكاة الأعم من الفرض والنفل (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) أي قبل أن يأتي يوم القيامة حيث لا بيع : أي تجارة ولا خلة
: أي صداقة ولا شفاعة : إذ لا يملكها يوم القيامة إلا من ارتضى من عباده وهؤلاء لا
يشفعون إلا لمن ارتضى سبحانه. (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) والكافرون بالله المنكرون لأحكامه هم الظالمون لأنهم عملوا
بأنفسهم ما أوجب حرمانهم يوم القيامة من رحمة الله.
٢٥٥ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ... هو المستحقّ للعبادة لا غيره ولا تحق الألوهية لسواه
لأنه الذات المقدّسة المتصفة بصفات الربوبية. (الْحَيُ) أي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه لأنه الموجد للحياة
والفناء. (الْقَيُّومُ) : القائم الدائم بتدبير الخلق وحفظهم في جميع شؤونهم (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) نعاس (وَلا نَوْمٌ) أي ما يعرض للمخلوق فيغلب على سمعه وبصره. فالله منزّه عن
كل ذلك. (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو المالك لما فيها والمتصرّف في جميع أمورها والمتكفّل
بكل حاجاتها (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الاستفهام إنكاري ، أي : لا يشفع يوم القيامة شافع ممّن
ترجى شفاعته إلا بأمره. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي أنه سبحانه يحيط بماضي الخلق وحاضرهم ومستقبلهم وقيل
يعلم أمور الدنيا والآخرة. (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) لا يعلمون بشيء من معلوماته كما هو على الحقيقة (إِلَّا بِما شاءَ) أي بما أراد أن يطلعهم عليه فعلمه ذاتي وعلمهم عرض زائل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قيل : الكرسي : العلم أي أحاط علمه بهما. وقيل هو القدرة
والسلطان أي أحاطت قدرته وسلطانه بهما. (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) لا يثقله إمساكهما فهو جلّ وعلا يمسكهما بقدرته الكاملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) المنزّه عن المثل وعن كل ما هو من صفات الممكن أو أن
العليّ مأخوذ من العلو بمعنى القدرة والسلطان والعظيم الشأن الكبير القادر في
سلطانه.
٢٥٦ ـ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ... أي ليس في اعتناق الإسلام إكراه من الله ولكن العبد
مخير فيه. وقيل : كان هذا قبل أن يؤمر النبي (ص) بقتال أهل الكتاب ثم نسخ بقوله تعالى
: (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ولكن دعوى النسخ باطلة لوجوه لا مجال لذكرها. (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي بعد ظهور طريق الحق ووضوحه من الباطل ، وتماميّة الحجة
على الناس. فلا إكراه في الدّين ولا جبر عليه ، بل صاروا مخيّرين بالأخذ بأية
عقيدة شاؤوا ، ليهلك من هلك عن بيّنة وليحيا من حيي عن بيّنة. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي يجحده ويتبرّأ منه. والطاغوت هو الشيطان أو ما عبد من
دون الله (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدّق بالله ورسله. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي اعتصم بعصمة متينة (لَا انْفِصامَ لَها) لا تنقطع أبدا ولا تنحلّ. (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) يسمع الأقوال ويعلم ما في الضمائر.
٢٥٧ ـ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي وكيلهم الذي هو أولى بهم من أنفسهم ، ومغيثهم ،
وناصرهم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية
بتوفيقه ولطفه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) والمراد بالطاغوت الشيطان أو رؤوس الضلال والطاغوت وإن كان
واحدا إنما أريد به الجمع (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) والمراد بالطاغوت الشيطان أو رؤوس الضلال والطاغوت وإ كان واحدا
إنما أريد به الجمع (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) من نور الإيمان إلى ظلمات الضلالة والجهالة. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) إشارة إلى الذين كفروا مع طواغيتهم.
٢٥٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ... الاستفهام تقريري أي لا بد أن تتدبّر يا محمد. أو هل
رأيت شخصا كالذي جادل إبراهيم في ربه الذي كان يدعو إلى عبادته وتوحيده والمجادل
لإبراهيم كان النمرود وهو أول من ادعى الربوبية. (أَنْ آتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ) أي لأنه تعالى أنعم عليه بنعيم الدنيا وسعة المال فطغى
ودفعه بطره (نمرود) إلى إنكار المنعم عليه ، فبعث الله إبراهيم (ع) ليدعوه إلى
طريق الحق (إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) في الكلام حذف تقديره أن النمرود قال لإبراهيم (ع) : من
ربّك؟ ... فأجابه إبراهيم ربي الذي يخلق الحياة والموت. (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيي من هو مستحقّ للقتل فلا أقتله فأكون قد وهبته
الحياة من جديد ، وأميت إذ أقتل من أشاء وهو جواب يدل على جهل من نمرود لأن عدم
القتل إبقاء لحياة موجودة ، وليس إحداث حياة لم تكن ، (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إن كنت إلها فغيّر سنة من سنن الكون بجعل الشمس تطلع من
المغرب لأن الإله لا بدّ أن تكون عنده القدرة على ذلك (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي فشل وتحيّر لوضوح الحجة وعجزه عن مواجهتها. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بإبائهم قبول الهداية. وقيل : لا يعينهم على تحقيق
ما ابتغوه من فساد.
٢٥٩ ـ (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ... أي انظر وتفكّر في قصّة أخرى غريبة كقصة محاجّة
إبراهيم مع خصمه. هي قصة الذي مر على قرية قيل إنه عزير والقرية هي بيت المقدس (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) العروش : جمع عرش. ويطلق على ركن الشيء وما به قوامه ،
والتعبير كناية عن خرابها على يد بختنصر وقيل : خاوية يعني خالية (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ
مَوْتِها) وأنّى : ظرف ، أي : متى. أو حال ، بمعنى : كيف. أي تساءل
عزير : كيف أو متى يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم وتفرّق أجزائهم؟ (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ) أي أعاده حيا إلى الدنيا (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) مكثت بإسماع صوت أو يبعث ملك أو نبي. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ) وهذا كلام الظانّ لأن الله أماته في أول النهار ، وبعثه
بعد مائة عام في آخر النهار ، فظن أنه نفس يوم نومه. (قال) القائل الذي احتملناه
في المورد : (بَلْ لَبِثْتَ
مِائَةَ عامٍ) أي مكثت هنا مائة سنة (فَانْظُرْ إِلى
طَعامِكَ) وقيل كان تينا أو عنبا (وَشَرابِكَ) وكان كما قيل عصيرا أوتينا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير بمرور السنين المتطاولة (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) الذي كيف تفرقت اجزاؤه بالموت والفناء. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) حجة وعلامة ترشد المنكرين للبعث (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار أو سائر الموتى (كَيْفَ نُنْشِزُها) أي نرفع بعضها على بعض لتركيبها في أماكنها من الجسد (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي نلبسها لحمها بذاته نجمعه من ها هنا وها هنا ... (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي عند ما اتضحت لعزير كل تلك البينات (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : حصل لي اليقين الكامل من المشاهدة والعيان بأن الله
قادر مطلق على أن يبعث الموتى.
٢٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ... انظر يا محمد إلى قصة أخرى لإبراهيم حين سأل ربه أن
يريه بالحس كيفية إحيائه الموتى بعد أن كان قد آمن بالعقل بقدرته تعالى على
الإحياء بعد الإماتة ولذا فسؤاله (ع) هذا لا يتنافى مع إيمانه العميق بالله وقدرته
بلا أدنى شك. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) استفهام تقريري أي : بقدرتي على الإحياء (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) أي يزداد سكونا واطمئنانا بانضمام العيان إلى البرهان. (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جمع طائر والطيور قيل هي : طاووس ، وديك ، وحمام ، وغراب. (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي اضممهن وقيل : قطّعهن أجزاء (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً) وقيل بأنها كانت عشرة أجبل وقيل أقل. (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي نادهنّ : يا ديك ، يا طاووس ، إلخ ... (يَأْتِينَكَ سَعْياً) يجئن إليك مسرعات ساعيات. (وَاعْلَمْ أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب ذو إحكام لما يبرمه.
٢٦١ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ... على القول بأن التشبيه راجع إلى النفقات فالمعنى أن
مثل ما ينفقون من أموالهم في وجوه البر ومنها الجهاد وأما على القول برجوعه إلى
المنفقين فالمعنى : مثل المنفقين لأموالهم في سبيل الله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي أن تلك النفقات في البر تتضاعف لسبعمائة ضعف واسناد
الإنبات إلى الحبة مع أن المخرج الحقيقي لها هو الله سبحانه هو إسناد لبعض الأسباب
كالماء والأرض إلخ. (وَاللهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ) أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء بحسب إخلاصه (وَاللهُ واسِعٌ) أي موسع في عطائه (عَلِيمٌ) بذوي الاستحقاق للمضاعفة وبنية كل منهم.
٢٦٢ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) ... تفضله سبحانه على المنفقين من أموالهم في سبيله
بمضاعفة أموالهم وأجورهم مشروط بشرطين : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ
ما أَنْفَقُوا مَنًّا) الشرط الأول أن لا يمنّوا على من أعطوه كأن يفخر المعطي
بعطائه. والشرط الثاني (وَلا أَذىً) وهو الضرر اليسير. وقيل : هو أن يعبس المعطي في وجه من
أنفق عليه أو يسخره في بعض أعماله نتيجة إنفاقه. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) لهم جزاء برهم عند الله (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يوم القيامة لأنهم يبعثون مطمئنين إلى صدق وعد الله
بجزيل الثواب.
٢٦٣ ـ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) ... أي التلطف مع السائل في الكلام. والمغفرة العفو عن
إلحاحه. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً) أي من إنفاق يقارنه الأذى والمن (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقاتكم بل كل طاعاتكم (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.
٢٦٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ
النَّاسِ) : ... أي أن المن والأذى سبب في إبطال الصدقات بمعنى عدم
ترتب الأثر عليها عينا كإبطال الرياء لصدقة المرائي الذي يقصد من تصدّقه أن يراه
الناس ليمدحوه ، ويقولوا إنه محسن. (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إذ لو كان مؤمنا بذلك لما عمل لغير الله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ
تُرابٌ) أي أن المرائي في إنفاقه كأنه حجر أملس عليه تراب (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي نزل عليه مطر غزير فجرف التراب عنه (فَتَرَكَهُ صَلْداً) حجرا صلبا أملس لا يصلح لزرع ولا إنبات ... فإن المنفقين
بهذه الأوصاف (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يجدون ثواب ما أنفقوا كما لا يجد الإنسان نتيجة بذره
على الصخر الصلد ، ولا التراب الذي جرفه الوابل عنه. (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يمنعهم من الهدى ولكنه لا يوفقهم إليه لعدم
استعدادهم لتلقي ألطافه.
٢٦٥ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمُ) ... إن الله قابل بين الإنفاق المرضيّ المأمور به والإنفاق
المنهي عنه وضرب لذلك أمثالا توضيحية وفي هذه الآية مثّل سبحانه لمن ينفقون
أموالهم (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) أي يصرفون من أموالهم في طرق البر طلبا لمراضيه تعالى ، (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) توطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعته سبحانه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) كبستان على مرتفع من الأرض. وقد افترضها سبحانه بربوة لأن
شجرها يكون أنضر وثمرها أكثر (أَصابَها وابِلٌ) أي مطر غزير. (فَآتَتْ أُكُلَها
ضِعْفَيْنِ) أي أعطت غلتها مثلين مما كانت تعطيه. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) فإذا لم يتسن لها الوابل فإنها ينزل عليها الطل : المطر
الخفيف كالرذاذ فهي منتجة على كل حال. وكذلك حال الإنفاق في سبيل الله. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى أعمالكم فيجازيكم بحسبها.
٢٦٦ ـ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ... أيحب أحدكم (أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي بستان ينتج غالبا هاتين الثمرتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) حال كون مياه الأنهار تجري من تحت أشجارها (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) بلغ حد الشيخوخة والهرم (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفاءُ) أي أولاد صغار لا يقدرون على تحصيل معاشهم (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ) أي ضربتها ريح هوجاء التفت بأشجارها وكان في الإعصار نار
سماوية فاحترقت أشجار تلك الجنة وهذا مثل لمن يعمل الحسنات عن طريق إنفاق المال
وغيره ولا يريد بذلك وجه الله سبحانه ثم إذا اشتدت حاجته إليها في الآخرة يجدها قد
حبطت فيتحسر كما يتحسر صاحب الجنة المحترقة التي كانت سبب معاشه ومعاش أولاده. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ) أي يوضح لكم الدلالات والحجج (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) تتدبرون وتعتبرون بنتيجة ما ذكرناه لكم وتتدبرون في الآيات
للاعتبار ...
٢٦٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ... أي اصرفوا على المحتاجين من حلاله أو من جيده. (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) أي وأنفقوا من الثمار والغلات في طرق البر فرضا ونفلا (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ) أي لا تقصدوا صرف الرديء من أموال أو مزروعات أي منفقين
منه (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) : الإغماض في البيع الحط من الثمن لعيب فيه. والمعنى :
أنتم تنفقون من رديء أموالكم في حين لو أعطي لكم لا تأخذونه من غرمائكم إلا
بالمساهلة أو بعد الحط من ثمنه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَنِيٌ) عن صدقاتكم (حَمِيدٌ) أي محمود على آلائه ونعمه وقيل بمعنى حامد أي مجاز
للمنفقين البررة على إحسانهم بالنية الخالصة.
٢٦٨ ـ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ... يخوفكم الفقر عند الإنفاق في البر ليصدّكم عنه (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي يسول لكم كل قبيح من الفعل أو القول. وقيل : الفحشاء :
البخل. (وَاللهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي عفوا عما فرطتم به (وَفَضْلاً) أي زيادة في الآخرة مما أنفقتم في الدنيا ... (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) موسع عليم بمقدار إنفاقكم فيضاعفه دنيا وآخرة.
٢٦٩ ـ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ... الحكمة قيل بأنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته
يعطيه الله من يشاء من عباده. وقيل هي علم القرآن. وقيل غير ذلك. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وفسر الخير هنا بالشرف والكرم والمراد بكثرته هو المرتبة
الفاضلة. أما تقديم ثاني المفعولين في الجملة الأولى فهو اهتمام به كما أن تنكير
الخير في الجملة الأخيرة للتعظيم ، أي : خير كثير ... (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) يعني : لا يتدبر ولا يتعظ بجميع ما فصلنا إلا ذوو العقول
الصائبة.
٢٧٠ ـ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ... أي مهما أنفقتم من صدقة في البر أو من نفقة قبيحة غير
مرضية منه تعالى كالتي يعقبها المن والأذى. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ
نَذْرٍ) هو أن يعقد الإنسان فعل شيء من البر بشرط كأن يقول : لله
عليّ كذا إن حصل كذا. فمهما فعلتم من ذلك (فَإِنَّ اللهَ
يَعْلَمُهُ) يعرفه فيثيب عليه نفقة مرضية كان أو نذرا في طاعة الله. (وَما لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم من الذين ينفقون في المعاصي ، وينذرون فيما لا يرضي
الله ، لا يكون لهؤلاء (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم ويمنعون عنهم عذاب الله.
٢٧١ ـ (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) ... أي تظهرونها عند الإعطاء (فَنِعِمَّا هِيَ) أي : فنعم الصدقة هي في ذاتها وفي إظهارها إذا لم ينضم
إليها شيء من الرياء أو المن والأذى. (وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : وأن تعطوها الفقراء سرا وخفية أفضل ثوابا من إعلانها.
وقيل : إن الإخفاء مطلوب في النفل لزيادة الأجر ، والإظهار مطلوب في الفرض للتشجيع
على إنفاق الحقوق المرسومة على القادرين. (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ
مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : يكون الإخفاء سببا لأن يكفّر الله عنكم بعض سيئاتكم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم ومطّلع على صدقاتكم وأعمالكم سرّها وعلانيتها.
٢٧٢ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ... ليس مفروضا عليك يا محمد بعد أن أنذرتهم وبشّرتهم. هدى
الناس وإيصالهم إلى الحقّ (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يدلّ ويوصل إلى الطريق المستقيم الحق من يشاء ممّن عندهم
الأهلية للاهتداء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ثواب ما تنفقون من طيب أموالكم في البر يعود إليكم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ اللهِ) أي لطلب مرضاته وهذا إخبار عن صفة إنفاق المؤمن الصادق
الذي لا يكون مقصوده من إنفاقه إلّا تحصيل رضوان الله. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ) والتوفية إكمال الشيء وإتمامه ، فالمعنى تعطون جزاء وافيا
يوم القيامة. بحيث يرضى صاحبه بما يعطيه الله بدلا عمّا أنفق في ذلك اليوم ، يوم
الفاقة والفقر إلى رحمته. (وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) بمنع الثواب ، ولا بنقصان الجزاء.
٢٧٣ ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) ... الجملة خبر لمبتدإ محذوف والتقدير : النفقة للفقراء
الذين منعهم الاشتغال بالعبادة وطاعة الله التي منها الجهاد ... (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي
الْأَرْضِ) فلا يتمكّنون من العمل للتكسّب والضرب في الأرض الذهاب
والتصرف. وقد روي أن المراد بهم أهل الصفّة وقيل كانوا نحوا من أربعمائة من
الفقراء المهاجرين ، يسكنون صفّة مسجد رسول الله (ص) ويستغرق وقتهم التعليم
والتعلّم وكانوا يستخرجون في كل سرية يبعثها (ص) فيخرجون إليها مسرعين. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ) فجاهل حالهم يظنّ أنهم أغنياء بسبب إبائهم عن السؤال (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بالعلائم التي فيهم كصفرة الوجه مثلا. (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي أصلا عفة وسترا لفقرهم ، وقد يجيء الإلحاف بمعنى
الإلحاح. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيبا في الإنفاق سرا وعلنا وتنبيها على أنه محفوظ مكتوب
، معلوم عنده جلّ وعلا.
٢٧٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ... يبيّن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أوقات الإنفاق
وأشكاله ، وثوابه العظيم. (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : فلهم أيّ أجر وأيّ مقدار!. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) مر تفسيره وروي أن هذه الآية المباركة نزلت في أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) ، حيث كان يملك أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم في
النهار ، وبدرهم في الليل ، وبدرهم علانية وبدرهم سرا فكان ما فعل (ع) درسا لكل
مسلم وذكرا وثناء عطرا باقيا إلى يوم القيامة.
٢٧٥ ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ... أي المال الربوي في الدنيا الربا يعرّف بأنه الزيادة
التي تؤخذ في القرض أو المعاملة ببعض الأشياء بمثلها كالمال والمكيل والموزون.
وحرمته ثابتة بالإجماع من المسلمين وبالكتاب والسنّة ، بل لا يبعد أن تكون حرمته
من ضروريات الإسلام. (لا يَقُومُونَ) يوم القيامة (إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي مثلما يقوم الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون. وتكون
هذه الحالة في المحشر علامة على أكله الربا في الدنيا. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك العقاب لهم بسبب قولهم : إنّ البيع الخالي عن الربا
كالبيع الذي فيه ربا إذ كلاهما بيع وكذلك الاقراض مع الزيادة فالمقصود فيها
بالآخرة هو الربح والفائدة منه. (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) والواو للحال أي أن اجتهادهم كان خاطئا حال كون البيع
محللا من الله وكون الربا محرما منه تعالى وكفى بذلك فرقا. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي زجر منه تعالى وتذكير (فَانْتَهى) أي اعتبر وانزجر (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما أخذه قبل النهي فلا يلزمه رده ولا يستردّ منه. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي أن الله يحكم بشأنه ما يريد (وَمَنْ عادَ) رجع بعد معرفته الكاملة لحرمة الربا إلى أكل الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) لأنهم قرناؤها لأن فعلهم هذا وقولهم السابق الذي رجعوا إلى
ترديده يدل على كفرهم.
٢٧٦ ـ (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) ... أي ينقصه ويذهب ببركته ويمحوه. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي ينميها بزيادة المال والثواب (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ
أَثِيمٍ) والكفّار مبالغة : وهو المصر على الكفر والأثيم : المتمادي
بالإثم.
٢٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ... جمع سبحانه في هذه الآية الكريمة الخصال الأربع التي
هي أهم الخصال الشريفة بل هي أصولها وهي : الإيمان ، الأعمال الصحيحة عبادات
ومعاملات ، والصلاة ، والزكاة ومعناها واضح وقد مر تفسيرها.
٢٧٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... الخطاب خاص بالمؤمنين لأنه أمرهم بالتقوى وهي فرع
الإيمان. ولأنهم أشرف وأعظم شأنا من غيرهم بسبب امتثالهم لأوامر الله. (اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ
الرِّبا) تجنبوا غضبه واتركوا ما بقي من الربا مكتفين برؤوس أموالكم
عند الناس. (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله وبرسوله وبما أنزل من حكم الربا.
٢٧٩ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي إذا لم تنتهوا عما نهيتم عنه فأذنوا : فأيقنوا
بقتال من الله ورسوله. وقرئت (فآذنوا) فيصير المعنى فأعلموا من لم ينته إلخ. (وَإِنْ تُبْتُمْ) رجعتم عن المراباة (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ) أي مقدار المال الذي أقرضتموه دون زيادة (لا تَظْلِمُونَ) المدين بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) بنقص رؤوس أموالكم.
٢٨٠ ـ (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) ... أي إذا كان حال غريمكم عسيرة ضيقة أو كان مبتلى
بالإفلاس (فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ) فعليكم بإمهاله إلى وقت يساره والتمكن من إرجاع المال. وعن
الصادق (ع): حد الإعسار أن لا يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي إذا احتسبتم دينكم صدقة على غريمكم المعسر هو أحسن جزاء
لكم من إمهاله (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنه معسر أو : إن كنتم تعلمون ما في التصدق من الثواب ...
٢٨١ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ) ... احذروا يوما تردّون فيه إلى جزاء الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ) فتعطى جزاء ما عملت من خير أو شر ثوابا أو عقابا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان ثواب أو زيادة عقاب.
٢٨٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ... أي تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي إلى وقت معين مؤخر فسجلوا ذلك على القرطاس واجعلوه
مكتوبا وبينوا وقت استحقاقه بالأيام أو الشهور أو غير ذلك. فإنه ادفع للنزاع. (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ
بِالْعَدْلِ) أي بالسوية لا يزيد ولا ينقص في كتاب المداينة أو البيع
بين المتعاقدين (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي ولا يمتنع الكاتب (أَنْ يَكْتُبَ) الصك ويحرره على الوجه المتفق عليه و (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) من الكتابة بالعدل (فَلْيَكْتُبْ) للناس على حسب حاجاتهم وشروطهم شاكرا لله أن علمه هذه
النعمة. وهو تأكيد (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُ) أي يملي المدين على الكاتب بلسانه ما عليه ليثبته الكاتب بالكتابة.
(وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ) وليخف جانبه فيذكر كل ما اشترطه على نفسه (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ولا ينقص من الدّين شيئا من قيمته أو وصفه أو شروط تأجيله.
(فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أي إذا كان المديون صغيرا أو ضعيف العقل أو البدن بحيث لا
يقوى على الإملاء وإمضاء الصك لأي عارض (فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) فعلى ولي أمره أن يملي بالعدل كما أمر الله وقد تقدم. (وَاسْتَشْهِدُوا) على الدّين (شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) اثنين من المؤمنين دون النساء في حال وجود الرجال (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) أي لا بد من كون الشهداء مرضيين رجلين كانا أو رجلا
وامرأتين وسبب جعل امرأتين بدل رجل ثان هو مخافة (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) تنسى الشهادة حسب أصولها للمتداينين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فعن علي (ع): إذا ضلت إحداهما عن الشهادة ونسيتها ذكرتها
الأخرى فاستقامتا في أداء الشهادة ... (وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي لا يمتنعوا عن أداء الشهادة أو عن تحملها إذا طلب منهم
ذلك (وَلا تَسْئَمُوا) أي لا تضجروا (أَنْ تَكْتُبُوهُ
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) فاكتبوا الدّين مهما كان قدره (إِلى أَجَلِهِ) أي مهلته المسماة (ذلِكُمْ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ) أي أن الكتابة اعدل عنده تعالى (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أصوب لها. وقيل اضبط لها. (وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا) أي أقرب ألا تشكوا في الدّين قيمة وأجلا. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) يعني اكتبوا الدين إلا في مورد كانت المعاملة تجارة حالة
يدا بيد أي معاطاتية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) لا بأس عليكم إذا لم تكتبوها لبعدها عن التنازع والتخاصم (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي أشهدوا الشهود على بيعكم بعضكم لبعض. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بناء على قراءة الإدغام والفتح من الأصل يضارر وأما بناء
على قراءة الإظهار والكسر من الأصل : يضارر يكون المعنى : لا يفعل بالكاتب ولا
بالشاهد ضرر بأن يكلف بمشقة أو قطع مسافة بعيدة من غير تكفل بمؤونة لا يجوز أن
تصدر المضارّة من الكاتب ولا من الشاهد بحرف بالزيادة أو النقصان (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ) يعني إن تفعلوا الضرر الذي نهيتم عنه فإن ذلك فسوق أي قائم
بكم. خروج عما أمر الله به سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه في هذا المقام وغيره (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه وما فيه مصالحكم الدنيوية والأخروية. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم المتقي ويميزه من غيره فيجازي كلا على حسبه.
٢٨٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ... أي في حالة سفر وأردتم الاستيثاق من دينكم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم صك الدّين ولا شاهدا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي فخذوا رهانا مقابل المال الذي يستدينه غريمكم. وقد رفع (رهان)
على الخبرية ، والتقدير : فالوثيقة رهان مقبوضة. (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي وثق الدائن بالمديون فلم يطلب منه وثيقة ولا شاهدا ولا
قبض منه رهنا (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ) أي المديون (أمانته) دينه وليردّه إلى صاحبه بمقتضى
الأمانة. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وليتجنب عقوبة ربه بأن لا يجحد الحق لصاحبه أو يمطله (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) لا تحجبوها وتبخلوا بها إذا ما دعيتم إلى أدائها. والخطاب
للشهود ، وظاهر النهي هو حرمة كتمان الشهادة. (وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ومن حجبها مع علمه بالمشهود به وتمكنه من الأداء من غير
ضرر بعد ما دعي إليها ثم امتنع ولم يقمها يكشف عن أن قلبه مريض آثم ونسبة الإثم
إلى القلب هي باعتبار أن الكتمان من أفعاله (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) بما تسرّون عليم كعلمه بما تظهرون.
٢٨٤ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) ... أي هو سبحانه مالك لها ومدبر لشؤونها وبيده أزمة
أمورها يصرفها كيف شاء ويعلم ما فيها. (وَإِنْ تُبْدُوا ما
فِي أَنْفُسِكُمْ) أي تظهروه طاعة كان أو معصية خيرا كان أو شرا. (أَوْ تُخْفُوهُ) تكتمونه (يُحاسِبْكُمْ بِهِ
اللهُ) أي يجازيكم طبق استحقاقكم لأنه يعلمه إذ لا تخفى عليه
خافية. (فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) بعد استحقاقه العذاب تفضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) حسب استحقاقه عدلا (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر تفسيره.
٢٨٥ ـ (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ... يعني صدّق النبي محمد (ص) بما أنزله الله تعالى عليه. (وَالْمُؤْمِنُونَ) كذلك صدّقوا بذلك فمدح الله إيمانهم (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) وكان لسان حالهم قولهم : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) بل نؤمن بما جاؤوا به من عند ربهم ولسنا كأهل الكتاب من
اليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض (وَقالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا) دعوة الدعاة إلى الله وأجبنا إلى ما دعونا إليه (غُفْرانَكَ رَبَّنا) نسألك إياه (وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ) أي الرجوع بعد الموت ... والكلام هذا متضمن الإقرار بالبعث
والحساب.
٢٨٦ ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) ... فيما افترض عليها من واجبات (إِلَّا وُسْعَها) أي ما تتسع إليه طاقتها (لَها ما كَسَبَتْ) من الأقوال والأعمال التي فيها رضى الله (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) مما فيه سخطه. (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي إذا تعرضنا لما يؤدي نسيان تكليف أو صدور خطإ أو تفريط
أو إغفال فنسألك يا إلهنا أن تسامحنا بذلك (رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي لا تكلفنا إصرا : أي أحكاما ثقيلة شاقة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنا) كما كلفت الأمم الماضية كتكليف بني إسرائيل قتل النفس
لتكفير الذنب مثلا أو بقطع بعض المواضع من أبدانهم إذا تنجس وكتحريم بعض الطيبات
من الرزق عليهم. إلخ. (رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات أو التكاليف الشاقة (وَاعْفُ عَنَّا) تجاوز عنا (وَاغْفِرْ لَنا) أمح ذنوبنا واسترها و (ارْحَمْنا) اعطف علينا بالإنعام دنيا وآخرة. (أَنْتَ مَوْلانا) أي ولينا وناصرنا ومالك أمرنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ) أي أعنا عليهم بالظفر والغلبة.
سورة آل عمران
مدنية ، وعدد آياتها ٢٠٠ آية
١ ـ (الم) : قد مر تفسيرها في سورة البقرة فلا نكرره.
٢ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ ...) مر تفسيرها أيضا في آية الكرسي ٢٥٥ من سورة البقرة.
٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) الظاهر أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم و (بِالْحَقِ) حال ، أي مقترنا بالحق ، إمّا ثابتا بلحاظ تنزيله أو
بالصدق بلحاظ مضمونه. (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من كتب ورسل. (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) قبل إنزال القرآن وقد ذكرهما من باب ذكر الخاص بعد العام
والأول كتاب موسى والثاني كتاب عيسى (ع).
٤ ـ (هُدىً لِلنَّاسِ) أي دلالة للناس. قيل عني به الكتب الثلاثة يهتدي أهل كل
منها به. وقيل يرجع إلى القرآن. (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) أي ما يفرق بين الحق والباطل وهو جملة القرآن.
٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من كتبه وحججه وبراهينه (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بما جحدوا بعد تمامية الحجة عليهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهر (ذُو انْتِقامٍ) يعاقب المجرم على جرمه.
٥ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). أي أنه عالم بجميع ما من شأنه أن يعلم به في جميع العوالم
الممكنة ، التي عبر عنها بما في الأرض والسماء.
٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ ...) هو الذي يخلق صوركم صانع بديع في صنعه ، قدير في تدبيره
وتقديره. يصوركم (فِي الْأَرْحامِ) جمع رحم وأصله الرحمة وهو بيت الحبل في المرأة. (كَيْفَ يَشاءُ) أية صورة شاء من حيث الكم والكيف. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ...) لا إله غيره الغالب في سلطانه المتقن في أفعاله وصنعه.
٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ ...) تأكيد لكون القرآن منزلا من عنده سبحانه وبيان لكيفية هذا
الإنزال. (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) أي أن دلالتها تكون على المعنى المراد منها من دون قرينة
أو دلالة أخرى لوضوحه. (هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ) أي أصله. (وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ) ما لا يعلم المعنى المراد منها بظاهرها لالتباسه حتى يقترن
به ما يدل عليه ولو بعرضه على المحكم. (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي انحراف عن الحق بجهل أو شك (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) يؤوّلون تلك الآيات تأويلا باطلا ينسجم مع أهوائهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) لإضلال الناس وخاصة السذّج منهم. (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلبا لتأويله على خلاف الحق وقيل لطلب منفعة دنيوية. (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون المتقون فيه وهم أهل بيت النبوة (ع) (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي الراسخون يقولون صدقنا به (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) أي مجموع المحكم والمتشابه من عنده سبحانه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) أي ما يفكر بذلك ويؤمن به إلا أرباب العقول الصائبة.
٨ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنا ...) أي لا تجعلها تنحرف عما هي عليه من الفطرة الأولى وذلك يتم
بإدامة لطفك إذ هديتنا أصلا إلى صراطك ودينك. (وَهَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي امنحنا من عندك رأفة تثبتنا على الحق (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) كثير العطاء.
٩ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ
لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ...) يعني للحساب والجزاء في يوم لا مجال للشك فيه وهذا من جملة
مقالة الراسخين في العلم. (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد.
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) بآيات الله ورسله وماتوا على الكفر (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لن تفيدهم إذا افتدوا بها أنفسهم تخلصا من عذاب الله عزوجل ولن تدفعه عنهم. (وَأُولئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ) أي الكافرون ، هم حطب النار وطعمتها.
١١ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ...) حال هؤلاء الكفار كحال آل فرعون ومن قبلهم من الكافرين حيث
إنهم جميعا (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بها وبسببها (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) جزاؤه لمن يعاقبه قوي لا يحتمل.
١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قريش وغيرهم : (سَتُغْلَبُونَ) ستهزمون في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ إِلى
جَهَنَّمَ) أي تجمعون إليها في الآخرة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي أن جهنم فراش سوء وقد عبّر سبحانه عن جهنم بالمهاد
تهكما.
١٣ ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ ...) الخطاب لمن حضر معركة بدر. والآية هي العلامة على صدق
النبي (ص) (فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا) أي فرقتين متحاربتين اجتمعتا ببدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فرقة تحارب في سبيل دين الله. وهم الرسول (ص) والمسلمون
معه (وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون من أهل مكة ومن تبعهم. (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي يرى المسلمون المشركين ضعفيهم ، (رَأْيَ الْعَيْنِ) يعني رؤية حسية. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) والتأييد من الأيد أي القوة ، فهو يقوّي (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تقليل المشركين بأعين المسلمين ، وفي تكثير المسلمين
بأعين المشركين ، وفي نصر القلة على الكثرة (لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ) أي في ذلك عظة لذوي العقول. من البصيرة لا البصر.
١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ...) أي حسّن للناس حب المشتهيات التي تتعشقها النفوس (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) قدمهن سبحانه في الذكر لأن الفتنة بهن أعظم فإنهن حبائل
الشيطان وأما البنين فإن حبهم قد يدعو إلى جمع الحرام. (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) جمع قنطار ، وهو المال الكثير ، والمقنطرة المجموعة
والمكدّسة. (وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ) من السّوم أي الرعي أو من السمة أي العلامة أو الحسنة من
السيماء. (وَالْأَنْعامِ) المواشي المأكولة اللحم (وَالْحَرْثِ) الزرع (ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي جميع هذه المشتهيات ، وسائر منافعها إنما هو من أعراض
الدنيا والانتفاع به قليل لا بقاء له (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع الأحسن حيث النعم دائمة لا تزول.
١٥ ـ (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ
...) أي : يا محمد قل للناس هل أخبركم بما هو أحسن وأنفع من هذه
الشهوات الدنيوية الزائلة التي ذكرت لكم في الآية ، (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي تجنبوا المحرمات (عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لهم في الآخرة حدائق تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار
مقيمين فيها بلا تحوّل عنها ولا زوال لها. (وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ) أي منظفة عما يستقذر من النساء خلقا وخلقا (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) فوق ذلك كله ، لأنه رضى الله الكثير. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي عالم عارف بما يعملون وما يستحقون من الجزاء.
١٦ ـ (الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا إِنَّنا
آمَنَّا ...) في هذا القول بيان لصفات المتقين القائلين : ربنا إننا
صدّقنا الله ورسوله! (فَاغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا) أي استرها علينا ، وامحها عنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وجنبنا إياه ، وادفعه عنا.
١٧ ـ (الصَّابِرِينَ) على الطاعة وعن المعصية. (وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وجميع أمورهم الدنيوية والأخروية. (وَالْقانِتِينَ) المطيعين دائما لله. (وَالْمُنْفِقِينَ) الباذلين من أموالهم فرضا ونفلا في سبيل الله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) في المجمع : أي المصلّين وقت السحر يسألون الله المغفرة.
١٨ ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ ..) شهادته تعالى هي إعلامه بوحدانيته وإلهيّته بالدلالات
الواضحة والحجج القاطعة. (وَالْمَلائِكَةُ) أيضا شهدوا بذلك (وَأُولُوا الْعِلْمِ) شهدوا بما ثبت عندهم من عجيب صنعه الذي لا يقدر عليه غيره.
وقيل بأن أولي العلم الأنبياء والأوصياء. (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا رب ولا معبود سواه. (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر تفسيره.
١٩ ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ ..) أي الدين المرضي عند الله هو الإسلام عقيدة وشريعة. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي ما اختلف اليهود والنصارى بشأن هذا الدين. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ) أي بعد أن علموا الحق مما جاء في كتبهم عن نبوة محمد (ص) (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما للحق وحسدا ، (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ) أي ينكر حججه الواضحة (فَإِنَّ اللهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ) سريع الجزاء لا يفوته شيء من أعمالهم.
٢٠ ـ (فَإِنْ حَاجُّوكَ ، فَقُلْ) ... أي : فإن جادلوك في أمر هذا الدين وقيل نصارى نجران
فقل : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أخلصت قصدي بالعبادة إليه وأعرضت عن كل معبود سواه أنا ومن
آمن بي وصدق برسالتي. (وَقُلْ لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) وقل يا محمد لليهود والنصارى وللمشركين ممن لا كتاب لهم
وهم الأميون (أَأَسْلَمْتُمْ ...) استفهام بمعنى التهديد فهو متضمن للأمر ومعناه : أسلموا. (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) صدّقوا بك وبرسالتك فقد سلكوا طريق الحق. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا وأصروا على كفرهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ) أي إيصال رسالة الله إلى الناس ولا شأن لك بإعراضهم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) مر تفسيره.
٢١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ ...) أي يجحدون حجج الله (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) ظلما قيل : هم اليهود قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا في يوم
واحد (وَيَقْتُلُونَ) أيضا (الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (مِنَ النَّاسِ) قيل : هم مائة واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل نهوا
قتلة النبيين عن المنكر الذي فعلوه فقتلوهم بدورهم (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فأعلمهم وقد عبّر هنا بلفظ التبشير تهكما عليهم.
٢٢ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..) إشارة إلى المذكورين في الآية السابقة ، حبطت أي بطلت
أعمالهم في الدنيا لعدم ترتب الأثر المرجو منها من حقن الدماء واحترام الأموال وما
شاكل كما لم تثمر أي أجر أو ثواب في الآخرة فكأنها لم تكن. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي مساعدين في دفع العذاب عنهم.
٢٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) أي : ألم تعلم يا محمد بحال الناس وقيل أنهم اليهود ممن
أعطوا حظا من العلم بالتوراة (يُدْعَوْنَ إِلى
كِتابِ اللهِ) التوراة وقيل القرآن دعوا إليه (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليحكم نبينا (ص) عليهم بكتابهم ، قيل في إنكارهم لنبوته
(ص). وقيل في أمر إبراهيم وقد ادعوا أنه كان يهوديا أو نصرانيا وقيل في حكم الرجم
على الزنا لواقعة حصلت. (ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي تنصرف طائفة منهم عن قبول الدعوة حال كونهم معرضين عن
الله وعن الرسول (ص).
٢٤ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ ...) وعلة إعراضهم عن الحق وتوليهم عن دعوته أنهم زعموا أن
النار لن تصل إليهم (إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) أي قلائل قيل إنها بزعمهم الأيام التي عبدوا فيها العجل ، (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) أي أطمعهم كذبهم على الله وافتراؤهم عليه كقولهم نحن أبناء
الله وأحباؤه أو لن تمسنا النار إلخ فكان طمعهم فيما لا يصح وبما هو باطل حاكوه
بأنفسهم وكرروه حتى أذعنوا له وركنوا إليه.
٢٥ ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا
رَيْبَ فِيهِ ..) أي فكيف حالهم ، وما هو مقالهم إذا حشرناهم للحساب والجزاء
يوم القيامة الذي لا شك فيه (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جوزيت جزاء وافيا موافقا لما كسبته في دار الدنيا. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من ثوابهم ، ولا يزاد على ما استحقوه من عقاب
جهنمي وحينئذ سينكشف كذب ما زعموه من أن النار لن تمسّهم.
٢٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ..) يا الله مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل : مالك العباد وما
ملكوا (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ) أي تعطيه لمن تشاء أن تعطيه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشاءُ) تسترده منه بموت أو بانتقال منه إلى غيره ونحوهما حسبما
تقتضيه الحكمة في كل من الإعطاء والمنع (وَتُعِزُّ مَنْ
تَشاءُ) تسترده منه بموت أو بانتقال منه إلى غيره ونحوهما حسبما
تقتضيه الحكمة في كل من الإعطاء والمنع (وَتُعِزُّ مَنْ
تَشاءُ) بأن توفّقه لتحصيل الخير والسعادة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب نعمتك عنه ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تملكه وتمنحه من شئت (إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذو قدرة مطلقة على جميع الأشياء.
٢٧ ـ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ...)
تولج : أي تدخل
فأنت يا رب تدخل من الليل في النهار ، وتدخل من النهار في الليل فما زاد في أحدهما
فهو نقص في الآخر. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كإخراج الفرخ من البيضة وبالعكس ، أو المنيّ من الإنسان
وبالعكس. ومن المرويّ عن الباقرين (ع) في المجمع أنه إخراج المؤمن من الكافر ،
وبالعكس. (وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي تعطي من تشاء أن ترزقه بغير تقتير ولا مراعاة لمقدار
الرزق. وهو عبارة عن الرزق الواسع.
٢٨ ـ (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ، أي محبتهم أو
جعلهم أولياء أمرهم ومخالفتهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، بل يجب أن تكون
الموالاة لإخوانهم المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) يختار الكفرة بموالاته (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) يعني أن الله بريء منه. (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي لا توادّوهم وتداروهم إلّا في حال خوفكم من ناحيتهم
لاتقاء ضررهم (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوّفكم مغبّة ذلك حتى لا تتعرضوا لسخطه سبحانه حين
توالون أعداءه. (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ). أي إليه المرجع الأخير.
٢٩ ـ (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ
أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) : يا محمد قل إن تستروا ما في قلوبكم أو تظهروه فالله
يعرفه فإياكم أن تضمروا ما نهاكم الله عن إظهاره من موالاة الكافرين فلن ينفعكم
إخفاؤه لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى (وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : مر تفسيره.
٣٠ ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ...) أي ما عملت من طاعة في الدنيا تجد ثوابه حاضرا (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ، تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) أي كذلك ما عملت من معصية في الدنيا تجد عقابه حاضرا تحب
أن يفصلها عنه وقت بعيد أو مسافة بعيدة كناية عن الندم على فعل ما سببه من معصية (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) مر تفسيره (وَاللهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ) أي رحيم.
٣١ ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ...) قل لهم يا محمد : إن كنتم محبين لله حقّا فاتبعوني فيما
جئتكم به من عنده يحبكم الله ويرضى عنكم ويتجاوز عن خطاياكم فهو كثير المغفرة واسع
الرحمة.
٣٢ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ...) قل لهم يا محمد أطيعوا الله إن كنتم صادقين في إيمانكم به
ومحبتكم له وأطيعوا الرسول فيما جاءكم به عن ربه من دين وكتاب لأن الطاعة لازمة
لذلك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن ذلك (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن ذلك يكشف عن كذبهم فيما يدعونه بل هم على كفرهم والله
يبغض الكافرين.
٣٣ ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ...) أي اختار وانتجب آدم ونوحا للنبوّة والإمامة (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى
الْعالَمِينَ) كذلك ... وآل إبراهيم هم : إسماعيل وإسحاق ومن ولد منهما ،
فدخل فيهم نبيّنا (ص) وآله (ع). وآل عمران هم : موسى وهارون.
٣٤ ـ (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) والذريّة الأعقاب والأولاد والمعنى : أنهم ذريّة واحدة
متناسلة متشعبة متسلسلة من لدن آدم وإبراهيم (ع) إلى عصر خاتم النبيّين (ص) (وَاللهُ سَمِيعٌ) للأقوال (عَلِيمٌ) بالأعمال.
٣٥ ـ (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ...) امرأة عمران بن الهشم من ولد سليمان (ع) هي أم مريم البتول
وجدّة عيسى (ع) واسمها حنّة واسم أبيها فاقوذ. وقد قالت أم مريم (ع) : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً) أي إنني رصدت حملي ووهبته لخدمتك مستخلصا لطاعتك وعمارة
بيتك. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) نذري قبول رضىّ (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : مر تفسيره.
٣٦ ـ (فَلَمَّا وَضَعَتْها ...) فلما ولدتها (قالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى) قالت ذلك في نفسها تحسّرا وخشية أن لا يقبل نذرها ، لأنه
ما كان ليقبل في خدمة المعبد إلّا الغلام في ذلك العصر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) لأنه هو الذي خلقها والجملة معترضة من كلامه سبحانه. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي أن الأنثى لا تصلح لما تعلق به النذر وهو التحرير لخدمة
بيت المقدس لما يعتريها من الحيض وأشباهه وكانت العادة عندهم جرت على ذلك. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على إني وضعتها ، ومريم معناه في لغتهم العابدة
والخادمة (وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي أحميها بك ومن يتناسل منها من الشيطان المطرود.
٣٧ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ
...) أي رضي بها في النّذر مكان الذكر ، ولم يتقبّل إلى ذلك
اليوم غيرها للسّدانة ، وقيل : القبول الحسن انه سلك بها طريق السعداء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي يسرّ لها تربية صالحة تناسب شأنها. (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعل أمر كفالتها بيده ، فقام بأمرها وعند ما كبرت بنى
لها مكانا خاصا للعبادة في المسجد كان لا يدخله إلا هو ، ليحمل لها الطعام
والشراب. (كُلَّما دَخَلَ
عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي الغرفة التي أفردها لها للعبادة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) والرزق كل ما ينتفع به ، فلا اختصاص له بالمأكول والمشروب
، ولكن قيل كان زكريا (ع) يجد عند دخوله عليها فاكهة الشتاء في الصيف ، وبالعكس. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين هذا الرزق (قالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) أي من الجنة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) مر تفسيره.
٣٨ ـ (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ...) أي في ذلك المكان ـ أو عند ذلك الذي رآه من كرامة مريم دعا
... (قالَ رَبِّ هَبْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي امنحني وأعطني ولدا ونسلا مباركا كما وهبت لحنّة العجوز
العاقر (إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعاءِ) تسمعه وتجيبه.
٣٩ ـ (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ...) أتاه نداء الملائكة وهو قائم : واقف يصلي في المسجد وقيل
في محرابه (أَنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) فقد بشروه بابن له يسمى يحيى الذي يؤمن بكلمة الله ، يعني
عيسى وقد سمّي عيسى (ع) بكلمة الله لأنه أوجد بكلمة «كن» فكان من غير أب. (وَسَيِّداً) يترأس قومه وتكون زعامتهم بيده ، وقيل سيدا في العلم
والعبادة. (وَحَصُوراً) أي أنه متبتل لا يأتي النساء (وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) أي من جملة الأنبياء الذين هم كلهم صالحون.
٤٠ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
...) قال يا رب كيف يكون لي ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وأنا طاعن في السنّ وامرأتي عقيم (قالَ كَذلِكَ) أي كما أنتما عليه من الهرم والعقم ، إذ (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) هو على كل شيء قدير.
٤١ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...) أي علامة لأعرف وقت الحمل (قالَ آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) العلامة هي أن لا تقدر على تكليم الناس وإن كان لسانك
مطلقا بذكر الله ثلاثة أيام بلياليها تبقاها لا تكلّم أحدا أثناءها (إِلَّا رَمْزاً) إيماء (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً) أي في هذه المدة وذكر الله بتسبيحه وتحميده ومناجاته إنما
هو كلام مع الله لا مع النّاس فما أحرانا باغتنام فرصة العمر وكسب الوقت للإكثار
من الدعاء والأذكار والأوراد لنصل إلى هذه المرتبة السامية فنكون مع الذاكرين ...
فمعنى قوله تعالى : أذكر ربك في أيام عدم قدرتك على التكلم مع الناس (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) والتسبيح هو تنزيه الله أي نزّه الله آخر النهار وأوله.
٤٢ ـ (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا
مَرْيَمُ ...) أي أذكر يا محمد معطوف على : إذ قالت امرأة عمران. (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك (وَطَهَّرَكِ) أي نزّهك عن الأدناس وعمّا يستقذر من النساء ، وقيل
بالإيمان عن الكفر (وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ) من أهل زمانك ...
٤٣ ـ (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ...) أي اعبديه بإخلاص (وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وبهذا أمرت بالصلاة بذكر أركانها إذ أمرها بالسجود وبأن
تركع مع الراكعين. وقيل اسجدي لله شكرا وصلّي مع المصلين.
٤٤ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ ...) يعني أن قصة امرأة عمران ومريم وزكريا وبشرى الملائكة لهم
بالغيوب التي لا تعرف إلّا بالوحي ، لأن أبواب العلم الأخرى بها موصدة في وجهك
لأنك أمي (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي : يا محمد لم تكن عند سدنة المحراب وهم يرمون أقلامهم
التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ) ليعرفوا بالقرعة من الذي يقوم بأمور حضانتها وتربيتها (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ) أي حين كانوا يختلفون في أمر كفالتها ويتشاجرون.
٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ...) أي اذكر يا محمد حين قالت الملائكة : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) يخبرك بما فيه سرورك (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وكلمة الله هي كن فكان عيسى (ع) من دون أب ومسيحا في لغتهم
معناه المبارك وإنما أضيف إلى مريم ردّا على الزاعمين أنه ابن الله. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والوجيه سيد القوم وصاحب الجاه والمنزلة وأمّا وجاهة
المسيح في الآخرة فتكون بالشفاعة في الأمة. (وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) إلى ثواب الله وكرامته.
٤٦ ـ (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ...) أي أنه حال كونه طفلا رضيعا يكلّمهم بتنزيه أميه عن السفاح
(وَكَهْلاً) وهو ما بين مرحلتي الشباب والشيب يكلمهم بالوحي والنبوة (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) ومن النبيين فهو من جملة عباد الله الصالحين.
٤٧ ـ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ...) أي قالت مريم تعجبا : كيف يكون لي ولد! فإن الولد كيف يكون
بلا زوج؟ ... (قالَ كَذلِكِ اللهُ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إن الأمر بيده تعالى يخلق بأيّة كيفية يريد (إِذا قَضى أَمْراً) قدّره (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ : كُنْ ، فَيَكُونُ) لفظة : كن إرشاد إلى إرادته التكوينية التي يستحيل أن
يتخلف المراد عنها.
٤٨ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ...) أي جنس الكتاب المنزل. وقيل : الكتابة. أما الحكمة فلعل
المراد بها الفقه والمعرفة ، وقيل لها معان أخر. وأفرد التوراة والإنجيل بالذكر
تنبيها على عظمتهما. (وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ) أي في حال كونه مبعوثا إلى بني إسرائيل (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) يقول لهم ذلك بعد. أن يعلن كونه رسولا لهم إني جئتكم
بدلالة دالة على نبوتي من الله هي : (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَأَنْفُخُ فِيهِ ، فَيَكُونُ
طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) أي أني أصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير فأنفخ في هذا
الطير المصوّر فيكون طيرا ذا حياة بقدرة الله. وقيل بأن الطير الذي صوّره كان على
هيئة الخفّاش (وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) أي أشفي من كان قد ولد أعمى ومن به مرض جلدي منفّر وأرد
إلى الحياة من مات كل ذلك بقدرة الله (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما
تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي : وأخبركم بالذي تأكلونه في بيوتكم وتخبّؤونه فيها.
ولذا كان عيسى (ع) إذا لاقى رجلا يقول له : أكلت كذا ، وخبّأت كذا وكذا ... (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) أي في ما ذكرت وفعلت ، حجة لكم على ما ادّعيته من النبوّة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله.
٥٠ ـ (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ ...) أي جئتكم مصدقا لما أنزل قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) بما فيه من البشارة بي (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) أي ومحلّلا لكم (بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ممّا كانت التوراة قد حرّمته (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة ، (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) أي تجنّبوا مخالفة الله وأطيعوا أمري فيما أدعوكم إليه من
عند ربي.
٥١ ـ (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ ...) أي مالكي ومالككم فاعبدوه وحده (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أدعوكم إليه طريق الله الذي لا عوج فيه.
٥٢ ـ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ ...) يعني لمّا علم كفرهم وإنكارهم له ولدعوته (قالَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من هم أعواني على صدّ هؤلاء الكفرة مع عون الله أو في
الدعوة إلى سبيله. (قالَ الْحَوارِيُّونَ) وحواريّ الرجل هم خاصته. وكان حواريّو عيسى عليهالسلام اثني عشر رجلا (نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) أي أنصار دينه وأعوان نبيّه (آمَنَّا بِاللهِ) أي صدّقنا به وبرسوله ، (وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) وقد استشهدوه لأن الرّسل يشهدون يوم القيامة على أممهم من
آمن أو كفر.
٥٣ ـ (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ...) أي صدّقنا بما أنزلت إلى عيسى من الإنجيل وأطعناه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي اجعلنا بتوفيقك لنا مع الأنبياء الذين يشهدون يوم
القيامة على أممهم.
٥٤ ـ (وَمَكَرُوا ، وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْماكِرِينَ ...) يعني أن كفرة بني إسرائيل مكروا بعيسى أي كادوا له كيدا
سيّئا إذ وكلوا به من يقتله غيلة فجازاهم الله على مكرهم من جنس صنعهم بأن دبّر
تدبيرا لا يخطر ببالهم وهو إلقاء شبه عيسى على الجاني فقتله أصحابه بتوهم أنه هو
ورفع الله عيسى إليه ، والله أعدل الماكرين لأن مكرهم ظلم ومكره مجازاة عليه.
٥٥ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ...) هذا الكلام مبني على التقديم والتأخير أي إني رافعك
ومتوفيك لأن الواو لا توجب الترتيب ولما كان الله سبحانه لا يحويه مكان كان معنى
رافعك إلي : إني رافعك إلى مكان كرامتي وأمني ، أي السماء المختصة بالملائكة
المسبّحين. (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مبعدك عنهم ومجنبك منهم برفعك إلي (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي أنه قضى سبحانه أن يكون المؤمنون به أي النصارى أعلى من
كفرة بني إسرائيل ، يعلونهم بالحجة وبالسيف ، وباستذلالهم وكونهم أدنى منهم في
الدنيا (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ) أي مآلكم ومصيركم (فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ) أقضي بينكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) من أمر عيسى وشريعته.
٥٦ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ...) قيل عذاب الدنيا هو إذلالهم بأنواع المصائب كالقتل والسبي
والجزية إلخ. وعذاب الآخرة النار. (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) أي أعوان يمنعونهم من عذابنا.
٥٧ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ...) أي صدّقوا بالله ورسله وجسدوا إيمانهم عملا صالحا فيتمم
لهم جزاء إيمانهم وأعمالهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) بل يبغضهم ويعاقبهم.
٥٨ ـ (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ
...) إشارة إلى أخبار مريم وعيسى وزكريّا ويحيى. ومعنى ذلك أننا
نقرأ هذا عليك من الحجج الدالّة على صدق دعواك النبوّة (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي القرآن الحكيم.
٥٩ ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ...) نزلت هذه الآية الكريمة وما يليها في وفد نجران حيث سألوا
النبي (ص) : هل رأيت ولدا من غير أب؟ والمعنى : أن حال عيسى في خلق الله إياه من
دون أب كحال آدم في خلق الله له من دون أب ولا أم. حيث أنشأه من تراب ثم قال له كن
فكان. فخلق آدم أدعى للدهشة. فلم لا تستنكرون ما هو أعجب وتستنكرون العجيب؟
٦٠ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) أي ما ذكر من قضايا عيسى هو الحق من عند ربك (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المرتابين.
٦١ ـ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ...) أي من جادلك في عيسى من بعد ما جاءك من الحجج والبراهين
أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم (فَقُلْ : تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ) يا محمد : قل لوفد نصارى نجران : هلمّوا إلى حجة فاصلة
تميز الحق من الباطل وهو أن ندعو أبناءنا أجمع المفسرون على أنهم الحسن والحسين (ع)
وأبناءكم. ونساءنا واتفق المفسرون على أن المراد فاطمة (ع) إذ لم يحضر المباهلة
غيرها وأنفسنا يعني علينا (ع) خاصة ولا يجوز أن يكون المراد به النبي (ص) لأنه هو
الداعي ومن الواضح أن الإنسان لا يدعو نفسه. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا ونحن وقوف بين يدي الله
تعالى. والبهلة والبهلة : اللعنة. (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي نكاله وعقابه الدنيوي. وروي أنهم حين دعوا إلى المباهلة
قالوا : حتى ننظر. ثم أتوه (ص) وقد غدا آخذا بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين
بين يديه ، وفاطمة الزهراء خلفه ، فقال أسقفهم : يا معشر النصارى : إني لأرى وجوها
لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله : فلا تباهلوا. فأبوا المباهلة
وصالحوا النبي (ص) على جزية محددة كل عام.
٦٢ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ...) أي الذي قصّ من نبإ عيسى هو الحديث الصدق فيما ينبغي أن
يقال فيه (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ) تنبيه وتذكير للنصارى بأن عيسى ليس إلا من جملة عباد الله
ورسله. فالألوهية لله وحده الذي لا إله غيره (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي المتفرّد في القدرة الكاملة ، وذو الحكمة البالغة.
٦٣ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ ...) أي إذا انصرفوا ومالوا عن تصديقك وأعرضوا عن دعوتك فإن
الله (عَلِيمٌ
بِالْمُفْسِدِينَ) عارف بمن يريد الفساد في دينه. وهذا وعيد لهم.
٦٤ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) قد يراد بالكتاب الجنس ، أي مطلق كتاب سماوي ، وقد يراد
الكتابان الرائجان في ذلك العصر وهما التوراة والإنجيل والخطاب هنا متوجّه إلى وفد
نصارى نجران ولكن خصوصية المورد لا تخص الوارد فيصح أن يكون موجها إلى كل أهل
الكتاب من اليهود والنصارى فقل لهم يا محمد (تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي هلموا إلى كلمة عدل بيننا وبينكم (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي لا نقصد بالعبادة إلا الله ولا نشرك معه أحدا فيها. (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يعبد بعضنا المسيح لأنه كان من بعض الناس ولا نقول
إنه ابن الله. أو عزير بن الله ولا نطيع الأحبار والرهبان فيما أحدثوا من التحليل
والتحريم فهو من العبودية لهم أيضا. (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا) فإذا أعرضوا عن الدعوة إلى توحيد الله فقولوا (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) مستسلمون منقادون لله وحده. واستشهدوهم على ذلك.
٦٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ : لِمَ تُحَاجُّونَ
فِي إِبْراهِيمَ ...) لم تجادلون في إبراهيم منكم من يزعم أنه كان يهوديا ومنكم
من يزعم أنه كان نصرانيا. (وَما أُنْزِلَتِ
التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) إذ وجد إبراهيم قبل موسى بألف سنة وقبل عيسى بألفي سنة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ كيف يكون إبراهيم على دين وجد بعد عهده بعشرات القرون!
فهل تتفكرون فيما تقولون من الجدل غير العقلائي؟
٦٦ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ...) كلمة : ها ، للتنبيه. والمعنى أنكم أنتم يا معشر اليهود
والنصارى (حاجَجْتُمْ) أي جادلتم. (فِيما لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ) مما سمي في التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فكيف تجادلون فيما تجهلونه من دين الله. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما كان دين إبراهيم لأنه محيط بكل شيء علما. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك وعلى الجاهل أن يرجع إلى العالم. في هذا الزعم الخاطئ
وهذه الدعوى الباطلة.
٦٧ ـ (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا ...) نفى كون إبراهيم (ع) من هؤلاء أو من هؤلاء ، وكذلك موسى وعيسى
لأن الملّتين محرّفتان ولأن الدين عند الله الإسلام والتسميتان ما أنزل الله بهما
من سلطان. (وَلكِنْ كانَ
حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان كلها إلى دين الإسلام (مُسْلِماً) في عقيدته (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون مع الله إلها آخر من اليهود كانوا أو النصارى
أو مشركي العرب.
٦٨ ـ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ
...) أي أحق الناس به (لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ) المؤمنون بنبوته في زمانه ، (وَهذَا النَّبِيُّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) يتولون نصرته بالحجة لما كان عليه من الحق ، وهم الذين يحق
لهم أن يقولوا : نحن على دين إبراهيم (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ) لأنه يتولى نصرتهم.
٦٩ ـ (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
...) أي تمنّى جماعة منهم (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) يهلكونكم بحرفكم عن الإيمان وقيل بأنهم اليهود (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي وما يلحق وبال إضلالهم إلا بهم لأنكم لن تستجيبوا لهم (وَما يَشْعُرُونَ) وما يعلمون عودة الضرر عليهم وقيل : وما يعلمون أنهم ضلّال
لجهلهم المركب.
٧٠ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ ...) أي كيف تنكرون آيات الله التي نزلت في الكتابين بنعوت محمد
(ص) وصفاته ونبوته (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) تعلمون وتشاهدون ما يدل على صحتها في التوراة والإنجيل.
٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ ...) أي لم تخلطون الحق بغيره من ضده بالتحريف لما في كتبكم ...
(وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَ) تسترونه ، وهو نبوة محمد (ص) المذكورة في توراتكم وإنجيلكم
(وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) وتعرفون أن ذلك حق لا ريب فيه.
٧٢ ـ (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ ...) أي قالت جماعة منهم لجماعة أخرى تعليما لها على مخادعة
المؤمنين. (آمِنُوا) أي تظاهروا بالإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) من الآيات ، (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ثم ارجعوا عنه آخر النهار نفسه لزرع بذور الشك في نفوسهم
بالإسلام (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) يعودون عن الإسلام.
٧٣ ـ (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ ...) خطاب من الله للمؤمنين : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
الإسلام. وقيل هي من كلام جماعة من اليهود لجماعة أخرى منهم. ويا محمد (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ومن هداه الله فلا مضل له. ولا تصدقوا (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما
أُوتِيتُمْ) من الدين الحنيف ، (أَوْ يُحاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) لأن اليهود قالوا : إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في
ديننا ، فبيّن سبحانه أنهم هم الداحضة حجتهم. (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) قيل يريد به النبوة ، وقيل هي نعم الدين والدنيا. وبيد
الله : أي في ملكه وهو القادر عليه (يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ) أي يعطيه من يريد. (وَاللهُ واسِعٌ) الرحمة والجود ، (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق. (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعطي رحمته وجوده لمن أراد من المستحقين وفضله أعظم الفضل
وأجلّه ويحتمل أن يراد بالفضل النبوة.
٧٥ ـ (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) بعضهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي إذا استأمنته على القنطار يرجعه ولا يخون فيه قيل هو
ألف ومائتا أوقية ذهبا وقيل غير ذلك وبعضهم من إذا استأمنته على ثمن دينار لا
يرجعه إليك (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) أي إلا أن تلازمه وتلح عليه. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا) أي أن خيانتهم للأمانة بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) ليس علينا في أموال من ليسوا على ديننا وقد أصبناها سبيل
لأنهم مشركون أو لأنهم تحولوا عن دين آبائهم إلى الإسلام وادعوا بأن ذلك حكم الله
في كتبهم. (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) بما يدّعونه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيما يزعمون لأن الله أمرهم بأداء الأمانة
وحرمة خيانتها.
٧٦ ـ (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى
...) كلمة : بلى ، إثبات لما نفوه. أي الله أمرهم بالوفاء
بالأمانة والعهد. فمن وفي بأمانته وعهده واتقى خيانتهما. (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي يثيبهم وإنما عدل من المضمر إلى الظاهر وقال يحب
المتقين ولم يقل يحبه ليبين أن التقوى صفة المؤمنين فكأنه قال : إن الله يحب
المؤمنين ولا يحب اليهود لأنهم لا يتقون خيانة الأمانة ونقض العهد.
٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ ...) يشترون هنا بمعنى يبيعون عهدهم مع الله من الإيمان بمحمد (ص)
والوفاء بالأمانات (وَأَيْمانِهِمْ) أي يبيعون ما أقسموا عليه من قولهم : والله لنؤمنن به
ولننصرنّه ثم نكثوا (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا نزرا (أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ) فهؤلاء لا حظّ لهم (فِي الْآخِرَةِ) يوم القيامة. وقد نكر لفظة : خلاق ، لنفي الحظ مطلقا (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بل يكل أمرهم إلى ملائكة العذاب (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي لا يرحمهم من باب قول القائل : انظر إليّ : يريد
ارحمني. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من ذنوبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) موجع.
٧٨ ـ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً ...) أي من أهل الكتاب طائفة (يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يحرّفون الكلم عن مواضعه ويعدلون عما جاء من الحق في
الكتاب إلى ما كتبوه بأيديهم افتراء على الله (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) أي لتظنوا أن النص الذي يتلونه هو من التوراة المنزلة على
موسى وليس هو منه (وَيَقُولُونَ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويكذبون في ادعائهم أنه منزل من عند الله في حين أنه من
عند أنفسهم فهم يكذبون عليكم وعلى الله. (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يكذبون عليه بما يقولون وهم عالمون بكذبهم.
٧٩ ـ (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ
...) لا يجوز لأحد أن يعطيه الله (الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي علم التشريع ودستور شريعته والرسالة إلى الخلق (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ : كُونُوا
عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي اعبدوني معه أو من دونه وهذا رد على النصارى في شأن
عيسى (ع). (وَلكِنْ) بل يقول : (كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ) أي كونوا علماء بما شرع الله لعباده كاملين فيه وفي العمل
به. (بِما كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي لأنكم معلمون للكتاب ودارسون له.
٨٠ ـ (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ...) أي ولا كان لهذا النبي أن يأمركم أن تتخذوا (الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْباباً) أي آلهة تعبدونهم كما هو عمل الصابئين والنصارى (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استفهام إنكاري والمعنى أن الله إنما يبعث النبي ليدعو
الناس إلى الإيمان بالله فكيف تجوّزون على من وظيفته ذلك أن يدعوكم إلى ضدها وهو
الكفر.
٨١ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ ... إِذْ) أي اذكر حين (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ) أي العهد على أمم النبيين وقيل : على النبيين أنفسهم (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ) لأجل الذي أعطيتكموه من كتاب وحكمة (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ) يعني : ثم لمجيء رسول مصدق لما بين أيديكم من كتب أنبيائكم
، وقيل : الرسول هو محمد (ص) (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) واللام للتأكيد في وجوب الإيمان به وفي نصرته (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى
ذلِكُمْ إِصْرِي) يعني هل اعترفتم وقبلتم عهدي وميثاقي الغليظ عليكم
بالاستماع إلى ما يأمركم به أنبياؤكم وأن تؤمنوا بمحمد (ص) إذا أدركتموه ، وأن تنصروه
إذا استنصركم؟ ... (قالُوا : أَقْرَرْنا) أي الأنبياء أو أممهم أجابوا بالاعتراف. (قالَ) الله (فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار وأنا أشهد عليكم جميعا
به.
٨٢ ـ (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ ...) أي أعرض عن الإيمان بمحمد (ص) لو أدركه بعد أخذ الميثاق
الذي أقررتم به بين يدي الله تعالى وبين يدي أنبيائكم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن دائرة الإيمان.
٨٣ ـ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ...) يعني : هل أن المتولين يطلبون دينا غير دين الله بعد كل
هذه الحجج والاستفهام إنكاري فهذا لن يحصل أتطلبون دينا أحسن من دين الله وأنفع
لكم وهو يجمع لكم خير الدنيا والآخرة؟ ... والاستفهام إنكاري ، أي لا يحصل ، بل لا
يوجد لكم دين كدينه سبحانه. وقد قدم المفعول به لتوجه الإنكار إليه. ويستفاد من
هذا الإنكار التسفيه لهم والتوبيخ والمقت. وقد قرأ أبو عمرو وحفص بلفظ الغيبة. أما
الباقون فقرءوا بتاء الخطاب على تقدير : قل لهم ، أتريدون غير دين الله (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) وهذا الإسلام محمول على عالم الذر عند أخذ الميثاق ، لأنهم
في ذلك الوقت استسلموا فاختار بعضهم الإسلام رغبة ، وبعضهم الآخر شق عليهم القبول
ومع ذلك أظهروه. (وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ) يردون للحساب.
٨٤ ـ (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ ...) قل يا محمد : صدقنا بالله ، أنا وأمتي. (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ
عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ، وَما
أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) وبالرسل جميعا من ذكر ومن لم يذكر وبكل ما أنزل عليهم من
كتب من عند الله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي لا نصدّق بعضا ونكذب بعضا آخر كما يفعل غيرنا طمعا في
رئاسة دنيوية زائلة ، بل نحن منقادون لله تعالى ، مطيعون له.
٨٥ ـ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ...) أي من يطلب غير الإسلام دين الله الذي حمّله كل رسل الله
إلى الناس ويرغب عنه إلى عقيدة أخرى فلا يرضى الله منه ذلك (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وفي يوم القيامة يبوء بالخسران والهلاك ولا ينفعه عمله بل
يكون وبالا عليه لأنه يؤدي به إلى النار وغضب الجبار.
٨٦ ـ (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ...) جملة : وشهدوا معطوفة على فعل مقدّر يدل عليه مصدره ، أي
فكيف يلطف بهم فيهديهم ويرشدهم إلى الحق بعد أن كانوا صدّقوا بالله ورسوله
واعترفوا بأنه (ص) حق من عند الله وقامت لديهم الحجج الواضحة على كل ذلك ثم ارتدوا
إلى الكفر؟ (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فلا تشمل هدايته المتمردين على نواميسه جل وعلا الكافرين
به. ولا الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ممّن صدوهم عن سبيل الحق.
٨٧ ـ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ ...) أي الذين كفروا يكون حظهم وعقابهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) أي طردهم عن رحمته (وَالْمَلائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أيضا يدعون الله بإبعاد أولئك الكفرة عن رحمته ودار رضوانه.
٨٨ ـ (خالِدِينَ فِيها ...) أي في اللعنة والعقوبات التي استحقوها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا يسهّل عليهم (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون للتوبة يوم القيامة ولا يفتّر عنهم العذاب.
٨٩ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ ...) رجعوا عن الكفر إلى الإيمان بصدق وأقلعوا عمّا فعلوه من
المفاسد ، وندموا على ذلك قولا وفعلا. (وَأَصْلَحُوا) واصطلحت نياتهم بالثبوت على الإيمان ودلّلوا على ذلك
عمليا. (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه سبحانه يغفر ذنوبهم ويدخلهم في رحمته لأنه غفور رحيم.
٩٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمانِهِمْ ...) أي ارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وتصديقهم بما جاء به
رسوله (ص). (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) كاليهود الذين كفروا بعيسى (ع) بعد إيمانهم بموسى (ع) ثم
ازدادوا كفرا حين كفروا بمحمد (ص). أو بعد إيمانهم به قبل بعثته ثم كفرهم به
بعدها. (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) إما لكونها ليست عن إخلاص ، وإما لأنها لا تكون إلّا عند
المعاينة حال الموت حيث لا قيمة لها. (وَأُولئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ) أي الضائعون عن الحق أو الهالكون.
٩١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ ...) أي ماتوا على كفرهم ، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) فلن يقبل من أحدهم فدية ولو بذل عوضا يوم القيامة ملء
الأرض ذهبا لو فرض وجوده (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) : أي مساعدين أو معينين بالشفاعة لرفع غائلة أهوال يوم
القيامة ، ولفظة : من ، زيدت للاستغراق ، أي : وما لهم ناصر من الشفعاء.
٩٢ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...) أي لن تحصلوا على الجنة وقيل على السعة في المال والخير
الكثير إلا إذا صرفتم مما هو محبوب لديكم من نفائس أموالكم خالصا لوجه الله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ
اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي علمه محيط بما تنفقونه في مجالات البر من مالكم
فيجازيكم به قل أو كثر إذا خلصت نياتكم.
٩٣ ـ (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي
إِسْرائِيلَ ...) أي أن أصول المطعومات على اختلافها ، أو كل ما يؤكل كان
حلالا لبني إسرائيل أي اليهود .. (إِلَّا ما حَرَّمَ
إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) وإسرائيل هو يعقوب النبي (ع) الذي قيل إنه كان مبتلى بعرق
النساء ، فنذر إن هو شفي أن لا يأكل الشحوم ولحوم الإبل. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) التي اشتملت على تحريم ما حرّم الله عليهم بظلمهم لأنفسهم.
وهذا تكذيب لدعوى اليهود الذين كلما حرموا شيئا أضافوا تحريمه إلى الله سبحانه. (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم يا محمد : جيئوا بالتوراة واقرأوا علينا نص
المحرمات فيها إذا كنتم صادقين في ادعاءاتكم.
٩٤ ـ (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
...) أي اخترع عليه ما لم يقله (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) يعني بعد الإلزام بالحجة (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بارتكابهم ما يؤول بهم إلى العذاب.
٩٥ ـ (قُلْ صَدَقَ اللهُ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء المفترين إن الله سبحانه هو الصادق
فيما أخبر من حكم الطعام في حق بني إسرائيل من قبل تنزيل التوراة ومن بعد. (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي عودوا إلى حنيفية إبراهيم وشرعته في التحريم والتحليل (حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي مائلا عن الأديان الباطلة إلى الإسلام الذي هو الانقياد
لله الواحد الأحد. مبرّءا من الشرك.
٩٦ ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
...) وضع : أي بني ليكون للناس مكان تعبد ومنسكا أبديا في الأرض
(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي الكعبة في مكة (مُبارَكاً وَهُدىً
لِلْعالَمِينَ) كثير الخير والبركة قيل لثبوت العبادة فيه باستمرار أو
لمضاعفة ثوابها عنده وفيه. ودلالة للناس على الله سبحانه.
٩٧ ـ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) أي في البيت الحرام وحرمه دلالات واضحات (مَقامُ إِبْراهِيمَ) فجعل المقام الشريف وحده هو الآية وقيل : أثر قدميه في
المقام آية بينة لأنه حجر صلد ولا يستطيع أحد أن يجعله كالطين لتنطبع فيه صورة
القدمين إلا الله. وقيل إن المشاعر كلها علامات ، ومنها المقام. (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) عطف على مقام من حيث المعنى ، أي ومن الآيات أمّن من دخله.
وقيل : ان الحرم كله مقام إبراهيم ومن دخل المقام يعني الحرم كان آمنا لا يعترض
بقصاص وغيره حتى يخرج منه كما حرم فيه قتل الصيد واقتلاع الشجر إلخ. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ولله على من استطاع إلى حج البيت من الناس أن يحجّ إلى
البيت. والاستطاعة المقصودة هي العرفية لا العقلية التي هي شرط في كل تكليف
والاستطاعة العرفية وجود الزاد والراحلة ونفقة من يلزمه نفقته والصحة وتخلية السرب
من الموانع وإمكان السير. (وَمَنْ كَفَرَ) جحد هذا الفرض لأنه من ضروريات الدين. (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) لأنه لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين ، ولا تنقص منه معصية
العاصين.
٩٨ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) قل يا محمد لليهود والنصارى (لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ) أي تجحدونها ولعل المراد بالآيات هو ما دل على صدق محمد (ص)
وصدق كتابه وما جاء به من عند ربه. (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى
ما تَعْمَلُونَ؟) أي حاضر ناظر ، يرى ما تعملون ، وسيجازيكم عليه.
٩٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) أي : لماذا تمنعون المؤمنين عن الإسلام الذي هو الطريق
الموصل إلى رضوان الله ومغفرته (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي تطلبون بأعمالكم التلبيسية اعوجاج الناس وانحرافهم عن
دين الإسلام. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) وأنتم ممن يستشهد بكم قومكم في أمورهم الدينية فكيف
تستغلون ثقتهم بكم لتحرفوهم عن الحق الذي هو الإسلام. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) هذا تهديد لهم أي ليس الله غافلا عن عملكم.
١٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) هذا خطاب تحذيري للمؤمنين (إِنْ تُطِيعُوا
فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إن اتبعتم قول هؤلاء الجماعة من اليهود في إثارة الضغائن
فيما بينكم والتي قضى عليها الإسلام وقيل : الخطاب للأوس والخزرج بعد أن حاول بعض
اليهود إيقاد نار الفتنة بينهم. (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) يرجعونكم إلى الكفر بعد أن أسلمتم.
١٠١ ـ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ...) هذه الآية في مقام التعجب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا مع ما
يقرأ عليكم في القرآن من الآيات الدالة على وحدانية الله ونبوة محمد (ص) الذي هو
رسول مبعوث من قبله موجود بين ظهرانيكم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ) أي من يلجأ إليه ويلوذ به متمسكا بكتابه وبدينه (فَقَدْ هُدِيَ) يعني : دل بتوفيق الله (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) طريق لا عوج فيه.
١٠٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ...) أي التقوى الحقيقية واستفراغ الجهد في القيام بأداء الواجب
واجتناب الحرام. (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) تأكيد على المؤمنين أن يبالغوا في التمسك بالإسلام بحيث
يكونون عليه ولا يتركونه حتى إذا أدركهم الموت وجدهم عليه.
١٠٣ ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ...) أي تمسكوا بالقرآن بالعمل بمقتضاه. وقيل : المراد بحبل
الله : الإسلام والتمسك به العمل بأحكامه. (جَمِيعاً) أي مجتمعين عليه (وَلا تَفَرَّقُوا) أي لا تتفرقوا عن دين الله أو القرآن أو الرسول على قول. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي نعمة الإيمان (إِذْ كُنْتُمْ
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) أي في عصر جاهليتكم حيث كان الغزو والقتل والسلب والنزاع
الدائم فجمع قلوبكم على ما أنعم به عليكم من الإسلام وعلى نبي الرحمة والمحبة محمد
(ص) (فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) إذ جمع الله بينكم بالأخوة فيه (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي على طرف حفرة من النار بشرككم في جاهليتكم التي كادت
تؤدي بكم إلى النار لولا تخليص الله لكم منها بأن منّ عليكم بدينه ونبيه وكتابه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي مثل هذا البيان الذي تلاه عليكم. فهو يظهر لكم الدلائل
والحجج الساطعة حتى تهتدوا إلى طريق الحق والثواب.
١٠٤ ـ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ...) أي : كونوا أمة وجماعة على القول بأن من بيانية وأما على
القول بكونها تبعيضية فالمعنى ولتكن منكم جماعة وهي بعض الأمة فالوجوب كفائي. (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي يرغّبون الناس بالخير وهو كل فعل أو ترك حسن عقلا
وشرعا. وقيل : هو الدين. (وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المعروف هو الطاعة والمنكر هو المعصية. والأمر والنهي من
فروع الدين الأساسية. تجب على الكل. فعلى كل واحد من الناس إرشاد أقاربه وجيرانه
بالتي هي أحسن (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) أي الآمرون والناهون الداعون إلى الخير هم الفائزون
برضوانه سبحانه.
١٠٥ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا ...) تفرقوا في الدين وتنازعوا فيه وهم اليهود والنصارى. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الواضحات التي لا ينبغي أن يختلف بعدها. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لهؤلاء عقوبة موجعة شديدة على تفرقهم وتنازعهم.
١٠٦ ـ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ ...) إخبار منه سبحانه عن زمان ذلك العذاب لمن تقدم ذكرهم وصفته
والبياض كناية عن النور وظهور السرور في وجوه المؤمنين كما أن السواد كناية عن
الخوف من سوء المصير في وجوه الكافرين ولذا عقب سبحانه (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وجواب أما ، مقدر. أي فيقال للذين اسودت وجوههم : أكفرتم؟
وقيل بأنهم جميع الكفار ، أو المرتدون بعد الإيمان ، أو المنافقون ، أو أهل البدع
والأهواء من هذه الأمة. (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي ذوقوا العذاب بسبب كفركم.
١٠٧ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ
وُجُوهُهُمْ ...) أي المؤمنون الصادقون (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي في لطفه وغفرانه ، وقيل الجنة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) منعمون نعيما مقيما إلى أبد الأبد.
١٠٨ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ ...) أي التي قد جرى ذكرها هي حجج الله وبيناته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) نقرأها ونقصها عليك متلبسة بالحكمة والصواب (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعالَمِينَ) إن الله سبحانه ما خطر ولا يخطر بساحته المقدسة ظلم لأنه
منزه عن ذلك. وقد بين غناه عن ذلك بقوله عزوجل في الآية التالية :
١٠٩ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي أنه مالك حقيقة لما في الكون (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يعني أنه سبحانه قد ملّك عباده في الدنيا أمورا وأباح لهم
التصرف فيها ، ولكن ذلك كله يزول في الآخرة ويرجع إليه الأمر كله.
١١٠ ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) أي صرتم خير أمة خلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر
وإيمانكم بالله ورسوله واليوم الآخر. (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتابِ) إيمانا صادقا بالله ورسوله (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) في الدنيا حيث ينجون من القتل والمذلة ومن عذاب الله في
الآخرة. (مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ) بعضهم المصدّقون بما ورد في كتبهم من صفة محمد (ص) ونبوته.
بما دلت عليه كتبهم من أوصاف نبينا والبشارة به ، كعبد الله ابن سلام وأصحابه من
اليهود ، والنجاشي وتابعيه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ
الْفاسِقُونَ) وهم الخارجون عن طاعة الله.
١١١ ـ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ...) أي أنه لا يصل إليكم من أهل الكتاب ضرر في أموالكم ولا
أنفسكم اللهم إلا ما يسببونه من أذى بألسنتهم لكم. (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي حين يجاوزون الأذى باللسان إلى القتال والمحاربة ،
فإنهم ينهزمون أمامكم (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يعانون عليكم ، ولا يمنعون منكم.
١١٢ ـ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ...) فهي محيطة بهم ، ومطبقة عليهم إحاطة البيت المضروب على
أهله. (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) يعني أين وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي أنهم لا منعة لهم إلا أن يعتصموا بذمة الله أو ذمة
المسلمين (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللهِ) أي رجعوا بعذاب الله ولعنه (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي الذلة لأن المسكين يكون ذليلا. وقيل الذلة الفقر والضعف
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بسبب كفرهم بها (وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كما هي سيرتهم الغادرة (ذلِكَ) أي الكفر وقتل الأنبياء (بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي بسبب عصيانهم واعتدائهم وتجاوزهم عن حدود الشرع وما
سنّه الله لعباده.
١١٣ ـ (لَيْسُوا سَواءً ...) أي ليسوا جميعهم على شاكلة واحدة في الضلالة والجهالة ، بل
(مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي أن منهم جماعة مستقيمة عادلة. أو قائمة للعبادة (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يقرءون آيات القرآن في ساعات الليل وأوقاته ويسجدونه
تعظيما لله وقيل يصلّون.
١١٤ ـ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) أي يصدقون بالله ويوم الجزاء (وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) قيل : المعروف هو الإقرار بنبوة محمد (ص) والمنكر نقيضه
وهم يبادرون إلى فعل الطاعات (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بالصفات الطيبة (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في عداد الصالحين وهو رد لقول اليهود لعنهم الله : ما
آمن بمحمد إلا شرارنا.
١١٥ ـ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ...) أي ما يعملوا من طاعة (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي فلن يجحد ولن يستر بمنع الثواب أو إنقاصه. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي هو عالم جدا بأحوالهم فيجازيهم أحسن الجزاء.
١١٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ...) أي لن تنفع الكافرين ولن تدفع عنهم عذاب الله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) أي هم ملازموها بشكل دائم.
١١٧ ـ (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ
الْحَياةِ الدُّنْيا ...) أي أن شبه ما يصرفونه من أموالهم رياء أو سمعة أو محادّة
لله ورسوله من جهة خسرانهم لها مع ما يعقبه من حسرة عليها في الدنيا وهلاكهم
الجهنمي في الآخرة (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها
صِرٌّ) أي شبه ريح باردة بردا شديدا (أَصابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ضربت زرعهم لأنهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي شبه الله تعالى
ضياع ما ينفق الكفار ، بضياع حرث الظالمين وجعله حطاما. (فَأَهْلَكَتْهُ) أتلفته وأبادته (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) بضياع نفقاتهم وإتلاف زرعهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) بارتكابهم ما استحقوا به الإحباط والإهلاك.
١١٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ...) يا من صدّقوا بالله ورسوله لا تختاروا لأسراركم أحدا من
غير أهل ملتكم ولا تفشوها عندهم. والبطانة هو الذي يعرّفه الرجل أسراره ويثق به. (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) الخبال : فساد الرأي أي لا يبطئون في إفساد آرائكم
وأفكاركم بدسائسهم الشيطانية. (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي تمنوا أن يصيبكم المشقة والعنت في دينكم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) أي ظهرت العداوة في مقالاتهم وكلماتهم ، لأنهم. (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يعني أن أكبر من بغضائهم التي تظهر ، هو ما يخفونه من
عداوتهم التي يسرّونها في قلوبهم. (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم العلامات الدالة على ما يميز به الولي من
العدو (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي تدركون ما أوضحناه بالبيان الشافي.
١١٩ ـ (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ
وَلا يُحِبُّونَكُمْ ...) الهاء : للتنبيه. أي ها أنتم الذين تحبون هؤلاء الكفار وهم
يبغضونكم (وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتابِ كُلِّهِ) تصدقون به ، أي بجنسه. والواو للحالية ، أي لا يحبونكم
والحال أنكم تؤمنون بكتبهم جميعا. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم؟ ... (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا ومخادعة (وَإِذا خَلَوْا) أي إذا انفردوا بأنفسهم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنامِلَ) أي رؤوس الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) وهو شدة الغضب والحقد ، حيث يرون ائتلافكم واتحاد كلمتكم. (قُلْ : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أي : يا محمد ، قل للكافرين : موتوا بحسرتكم وغضبكم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عارف شديد العلم والمعرفة بما يخفونه في صدورهم من النفاق
وشدة العداوة للمسلمين ...
١٢٠ ـ (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ...) أي إذا أصابتكم نعمة من الله (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ) أي إذا وقعتم في محنة أو غلبة عدوّ عليكم ، (يَفْرَحُوا بِها) يسرّون بها. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم وأذاهم (وَتَتَّقُوا) تتجنبوا موالاتهم وتحذروا معصية الله (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي مكر الكافرين والمنافقين (إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي أنه تعالى عالم بأعمالهم من جميع الجهات ظاهرها
وباطنها.
١٢١ ـ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ...) يعني اذكر يا محمد حينما رحلت عن المدينة غدوة والمراد
خروجه إلى معركة أحد. (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي تهيّئ المؤمنين في مراكزهم القتالية. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر تفسيره.
١٢٢ ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ ...) أي اذكر أيضا حين عزمت جماعتان من المسلمين (أَنْ تَفْشَلا) أي تجنبا عن القتال وتنكصا عنه وهما بنو سلمة وبنو حارثة. (وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي والله ناصرهم وعليه فليتوكل المؤمنون في جميع أمورهم.
وهذه الآية تدل على أن الطائفتين المشار إليهما لم تنفذا ما همتا به بلطف الله
سبحانه.
١٢٣ ـ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ...) فإنه سبحانه يذكر المسلمين الحرب في موقعة بدر ، ونصره لهم
فيها بإمدادهم بالملائكة وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم في حين كانوا ضعفاء لقلة
عددهم وعددهم بالنسبة إلى المشركين. (فَاتَّقُوا اللهَ) تجنبوا سخطه بتجنب معاصيه (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) لتؤدوا لله الشكر على نعمته.
١٢٤ ـ (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ...) يا محمد : اذكر حين كنت تقول للمؤمنين في بدر (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) ألا يعد كافيا لكم (أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ) أي يعطيكم مددا (بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لمساعدتكم ومؤازرتكم.
١٢٥ ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ...) أي : بلى يكفيكم وقيل بلى يفعل الله كما وعدكم. وعلى كلا
التقديرين فإن امدادكم بالملائكة مشروط بصبركم على الجهاد وبأن تتقوا الله بتجنبكم
معاصيه وثباتكم على طاعته (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ) الفور : هو العلو. أي يهجم عليكم أعداؤكم من ناحية علوهم
عليكم بقوة العدد والعدة. وفي (هذا) الوقت (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) سواء كانت نفس الملائكة التي نزلت ببدر مع إضافة ألفين
جديدين أو غيرهم. (مُسَوِّمِينَ) أي معلمين بعلامة يعرفون بها.
١٢٦ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما وعدكم وقدر نصركم هذا بالملائكة (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) سوى بشارة لكم بأنكم الغالبون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي لترتاح قلوبكم وتسكن إلى هذا الإمداد بعد خوفها (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ) ولعله سبحانه أراد أن يفهمهم بأنه هو تعالى الناصر الحقيقي
ولا يكون النصر إلا من عنده حتى مع إمداده لهم بالملائكة. (الْعَزِيزِ) الذي لا يغلب (الْحَكِيمِ) في تدبيره.
١٢٧ ـ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا ...) القطع هو الجزّ والإبانة والمعنى أنه سبحانه ينصر رسله على
الطوائف التي تناوئهم طائفة طائفة توطئة لقطع دابر الذين كفروا ولم يؤمنوا بالله.
ويهلكهم (أَوْ يَكْبِتَهُمْ
فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) يكبتهم أي يخزيهم بالهزيمة وقيل : الكبت هو إبقاء الغيظ
والحقد في الصدر فينقلبوا ، أي : يرجعوا بالانقطاع عما أملوا ، بالخيبة والخسران
في الدنيا والآخرة.
١٢٨ ـ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ...) ليس لك يا رسول الله أن تتصرف في أمر هؤلاء فإن الله هو
مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم ويخزيهم ، وإما أن يتوب عليهم إن تابوا وأقلعوا عما
هم فيه ، أو يعذبهم إن أصروا ... (فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ) أي مستحقون للعقاب بسبب ظلمهم. وعبارة : فإنهم ظالمون هي
في ظاهرها تعليل لحالهم ولكون مآلهم إليه سبحانه فهو يتوب عليهم أو يعذبهم بحسب
الشروط التي يستحق بها العبد قبول التوبة أو العذاب.
١٢٩ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) أي هو مالك أمورها جميعا ، وبيده زمام الموجودات التي فيها
طرّا. (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) لمن يذنب من المؤمنين تفضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) ممن لم يؤمن ولم يتب من الشرك أو الذنوب عدلا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة واسع الرحمة.
١٣٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) خطاب وإن كان موجها إلى جماعة المؤمنين إلا أنه شامل فيما
تضمنه من حكم إلى الناس جميعا (لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي الزيادة على أصل المال ، وذلك يضاعف بالتأخير إلى أجل
بعد أجل وقد ذكر الأكل في النهي عن الربا لكون معظم الانتفاع يعود إليه لما فيه من
إشباع الحواس (وَاتَّقُوا اللهَ) أي عقاب الله باتقاء معاصيه. وخاصة تلك التي تؤدي إلى فساد
النظام الإنساني (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) وعسى أن تكونوا من الفائزين برضى الله.
١٣١ ـ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ ...) تجنبوا المعاصي التي توجب دخولكم النار التي هيئت للكافرين.
١٣٢ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ...) وأطيعوا الله فيما أمر والرسول فيما شرع فإنكم إن فعلتم
ذلك تصيرون موردا لرحمته الواسعة سبحانه.
١٣٣ ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ ...) أي بادروا ـ بوجه السرعة ـ إلى ما يوجب مغفرة الله لكم من
صالح الأعمال (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي مقدار عرضها كمقدار عرضها معا هيئت للمطيعين لله ورسوله
وقد ذكر العرض مبالغة في السعة.
١٣٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ ...) الجملة نعت للمتقين ، فهم الذين يصرفون أموالهم لوجه الله
في حالتي اليسر والعسر. (وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ) أي الحابسين غيظهم في صدورهم بصبرهم وملكة إيمانهم فلا
ينتقمون ممن يحاول إلحاق الضرر بهم مع قدرتهم عليه. (وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) أي المتسامحين عن زلات غيرهم مما يجوز الصفح لهم عنه. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يتصفون بهذه الصفات التي هي من الإحسان يثيبهم
الله عليه.
١٣٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) الفاحشة هي ما اشتد قبحه من المعاصي والذنوب التي إذا
ارتكبوها (أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) أي حمّلوها ما لم تحمل مما هو دون الفاحشة. (ذَكَرُوا اللهَ) تذكروا عقاب الله بعد النسيان فارتدعوا (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا من ربهم غفران معصيتهم (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) أي لا يتجاوز عن السيئات ويمحوها إلا هو عزوجل. (وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا) أي لم يقيموا عليه ويداوموا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بأنهم عاصون مقصرون.
١٣٦ ـ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ ...) أولئك إشارة للمتقين بالصفات المذكورة كلها جزاؤهم على
أعمالهم تلك وتوبتهم ستر على ذنوبهم من الله وإدخالهم الجنان. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها) مر تفسيره (وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) أي ونعم أجر العاملين ذلك الأجر ...
١٣٧ ـ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ...) أي قد مضت قبل زمانكم وقائع سنها الله في الأمم السابقة
المكذبة (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فتقلبوا في أنحاء الأرض ، واطلعوا على حال من مضى من
المكذبين وما نزل بهم من ألوان العذاب وكيف كانت نهاية أمرهم لتتعظوا.
١٣٨ ـ (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ...) أي هذا القرآن هو دلالة للناس ، وعبرة لهم (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) وبيان لطريق الرشد الذي ينبغي أن يسلك ونصح وإصلاح للسيرة
والسلوك لأولئك الذين يجتنبون عقاب الله بالانزجار عن معاصيه.
١٣٩ ـ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ...) لا تظهروا أيها المسلمون ضعفاء في نظر الأعداء ولا تظهروا
حزنكم أمامهم لما أصابكم من قتل يوم أحد (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنتم المتفوقون والفائزون عليهم في كل حال إن كنتم مصدقين
بالله ورسوله فإن من كانت هذه صفته فلا يضعف ولا يحزن بل تكون ثقته بالله قوية.
١٤٠ ـ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ...) يمسسكم أي يلامسكم. والمعنى : إن يلامسكم أو تصبكم جراح
يوم أحد فقد لامس القوم الكافرين وأصابهم جراح أيضا فأنتم متساوون في المصيبة. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ
النَّاسِ) أي نصرفها بينهم ونجعلها أدوارا مرة لجماعة ومرة عليها ،
لحكم ومصالح يعلمها الله. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي يعرفهم حال كونهم متميزين بالإيمان. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) عطف على ما قبله من قوله تعالى : وليعلم ، والمعنى : ليكرم
بالشهادة من قتل يوم أحد منكم أو مطلق من يستشهد في سبيل الحق (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) جملة اعتراض فيها تنبيه للمؤمنين بأنه تعالى مع أنه لا يحب
الظالمين فإنه قد يمكنهم أحيانا استدراجا لهم من جهة ، أو ابتلاء للمؤمنين لمصالح
أخرى لا نعلمها.
١٤١ ـ (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
...) أي ليخلصهم من الذنوب أو المراد أنه تعالى يختبرهم بالبلاء
ليعلم مدى صبرهم وصدقهم. (وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) أي ينقصهم شيئا فشيئا حتى يفنيهم.
١٤٢ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ ...) الاستفهام إنكاري ، أي أظننتم أن تدخلوا الجنة ... (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي ولم تجاهدوا ولم تصبروا فإذا جاهد المجاهدون منكم
وصبروا على هذا الجهاد فحينئذ يشاهد الله ما هم عليه من جهاد وصبر فيدخلكم الجنة.
١٤٣ ـ (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ ...) : خطاب لأصحاب النبي (ص) حيث كان قد فات بعضهم شهود بدر
فكانوا يتمنون الشهادة بعد معركة بدر وقبل معركة أحد فلما رأوه في معركة أحد ولىّ
كثير منهم فعاتبهم الله على موقفهم هذا في هذه الآية.
١٤٤ ـ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ...) ليس محمدا إلا بشرا اختاره الله لرسالته إلى الخلق وقد مضت
من قبله رسل بعثهم الله إلى الخلق أيضا فأدوا الأمانة ثم مضوا بموت أو بقتل. (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي رجعتم عن دينكم إلى دين الجاهلية وقلتم ليس هذا بنبي؟
وقد قالها بعض المنافقين في أحد عند ما صرخ الشيطان قتل محمد. فجاءت هذه الآية
توبيخا لهم ... (وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلى عَقِبَيْهِ) يرجع (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ
شَيْئاً) فلا يلحق ضررا بالله لأنه الغني المطلق لا تنفعه طاعة المطيعين
ولا تضره معصية العاصين. (وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ) أي سيثيب المؤمنين به الذين يشكرونه على نعمة الإيمان
والتصديق.
١٤٥ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ ...) أي ما كان نفس لتموت إلا بمشيئة الله وتقديره (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي مسجلا مقدرا بأجل ووقت معين لا يقدم بإرادة حي ولا يؤخر
برغبته. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من يطلب بعمله ثواب الدنيا ، نعطه منها ما أراد (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْها) ومن يطلب بعمله ثواب الآخرة نعطه الثواب ولا نمنع عنه ما
قدرنا له من الرزق في الدنيا. (وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ) وسنثيب من يشكرنا على نعمنا.
١٤٦ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ...) أي : وكم ترى من رسول (قاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي حارب معه في سبيل تأثيل دعوته ربيون : والرّبيون هم
العارفون بالله تعالى والعالمون به والربانيون (فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما فتروا عن الجهاد بسبب قتل نبيهم في ساحة المعركة. (وَما ضَعُفُوا) أي ولا نقصت قوتهم عن الجهاد وقد حصلت هذه الأمور كلها عند
بعض من كان مع النبي (ص) يوم أحد. (وَمَا اسْتَكانُوا) أي وما خضعوا لعدوهم. (وَاللهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) في الجهاد فيثيبهم على صبرهم.
١٤٧ ـ (وَما كانَ قَوْلَهُمْ ...) أي الربانيين حين اللقاء مع أعداء الدين. (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي ما كان قولهم إلا استغفارهم لذنوبهم وتجاوزهم عن الحد
فيما لا يرضيه سبحانه (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) طالبين التثبيت على الدين ، والظفر في الحرب على أعداء
الله وذلك بتقوية القلوب وفعل الألطاف الإلهية التي توجب ترسيخ المواقف.
١٤٨ ـ (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا ...) أي أعطاهم جزاء بما عملوا من الصالح ثواب الدنيا الذي هو
هنا النصر على الأعداء والغنائم (وَحُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ) أي أجرها الحسن. (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) مر تفسيره.
١٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي إذا أطعتموهم فيما يرجفون وكانت بينكم وبينهم مودة فسوف
يردّوكم إلى كفر الجاهلية لأن الانقلاب على الأعقاب هو الرجوع عن وجهة القصد. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : فترجعوا خاسرين لأنكم بذلك تكونون قد استبدلتم
الإيمان بالكفر والجنة بالنار.
١٥٠ ـ (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ ...) أي لا تتخذوا الكفار موالي وأنصارا لتسلموا في هذه الحياة
الدنيا ، فإن الله تعالى هو أولى أن تطيعوه لأنّه مولاكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فلا تحتاجون معه إلى معين لأنه خير معين في الدنيا والآخرة
...
١٥١ ـ (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ...) السين للاستقبال أي عما قريب وفي معارك وشيكة سنقذف الخوف
العظيم في قلوب الكافرين بسبب شركهم بالله (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) أي ما لم ينزل به وحي يكون له سلطان الحجة (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي منزلهم الذي يأوون إليه يوم القيامة هو النار (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) والمثوى هو محل الإقامة ، فبئس ذلك المقام للظالمين النار.
١٥٢ ـ (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ...) : أي وفي لكم الله بما كان قد وعدكم من النصر على المشركين
وكان وعد الله باقيا وجاريا (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم بمشيئته قتلا ذريعا على وجه الاستئصال. (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي ضعفتم وتراخيتم في أمر الجهاد وظهرت عليكم علائم
الهزيمة (وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) واختلفتم في أمر متابعة الجهاد (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ
ما تُحِبُّونَ) أي خالفتم أمر النبي (ص) عند ما تركتم مقاعد القتال التي
أمركم بملازمتها من بعد ما أراكم الله تعالى بوادر النصر في يوم أحد. (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) كهؤلاء المخالفين لأمر النبي (ص) الذين اندفعوا لنيل
الغنائم (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ) كعبد الله بن جبير مع من بقي من عسكره وقاتلوا في مركزهم
حتى قتلوا ووقع أجر شهادتهم على الله. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي حولكم عن جهاد المشركين بأن كف نصره ومعونته عنكم
ليختبر مدى استقامتكم ففررتم فخفتموهم وفررتم من زحفهم. (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي صفح تفضلا عمن خالف بعد أن علم منكم الندم على
المخالفة. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صاحب منة وإحسان عليهم.
١٥٣ ـ (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى
أَحَدٍ ...) أي ولقد عفا الله عنكم إذ تذهبون فرارا في أحد من دون أن
يلتفت واحد منكم إلى الآخرة من شدة الخوف والاضطراب. (وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي أن النبي (ص) يناديكم بنفسه من ورائكم لتعرفوا أنه حي. (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) فجازاكم على غمكم لرسول الله بعصيانه أن غمكم بالهزيمة
وبذهاب أموالكم غنائم للكافرين (لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) أي أن كثرة الغموم وتراكمها عليكم نتيجة خسرانكم الغنائم
التي كنتم تأملون وهزيمتكم أمام الكفار وما أصابكم من إثم بمخالفتكم أوامر نبيكم
كل ذلك صار كفارة لما فاتكم ولما أصابكم. وبهذا يتضح وجه ارتباط هذه بقوله : عفا
أو فأثابكم. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) عالم بما تفعلون. وفي هذا ترغيب للمؤمنين بالطاعة
والابتعاد عن المعاصي ، وترهيب للمنافقين من إتيانها.
١٥٤ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً ...) أمنة : أي أمنا بعد الخوف وذلك بأن سلّط عليكم (نُعاساً) أي نوما. وهذا بدل اشتمال من : أمنة ، فإن النوم يشتمل على
الأمن لأن النائم لا يخاف (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ) يعني جماعة المؤمنين ينزل عليهم النوم دون المنافقين فيهم
الذين طار النوم من أعينهم بسبب خوفهم من عودة المشركين لقتلهم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) أي وجماعة شغلتهم أنفسهم وحملتهم على همّ جديد من الخوف. (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ،
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي يتوهمون أن الله تعالى لا ينصر رسوله (ص) كظنّهم السابق
في الجاهلية (يَقُولُونَ هَلْ لَنا
مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وهذا تفسير ظنهم ، فإنهم كانوا يتساءلون فيما بينهم : هل
لنا من النصر نصيب بعد هذه الهزيمة (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) فهو ينصر من يشاء ويخذل من يريد. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
يُبْدُونَ لَكَ) أي أن المنافقين يخفون الشك والنفاق ولا يظهرونه لك و (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي من الظفر كما وعدنا النبي (ما قُتِلْنا هاهُنا) أي ما قتل أصحابنا. (قُلْ) يا محمد لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ) ومنازلكم (لَبَرَزَ الَّذِينَ
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم في منازلكم لخرج الذين انتهت آجالهم إلى أمكنة
مصارعهم. (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ
ما فِي صُدُورِكُمْ) ويمتحن نواياكم ويكشف عما في قلوبكم بأعمالكم. (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي يخلص ما فيها. (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) معناه أنه سبحانه لا يفعل ذلك ليعلم ما في صدوركم فإنه
عليم به ، ولكنه ابتلاكم ليكشف أسراركم التي يعلمها فيقع جزاؤه لكم على ما ظهر
منكم.
١٥٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ...) أي الذين انصرفوا وولّوا الدّبر عن قتال المشركين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المؤمنين وجمع المشركين (إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي أزلّهم فوقعوا في المعصية (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من معاصيهم السابقة فلحقهم تبعتها. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) غفر ذلك لهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) قد مرّ معناها.
١٥٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ...) نهي للمؤمنين عن الاقتداء بالكافرين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) من أهل النفاق (إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ) أي سافروا للتجارة وطلب المعاش فماتوا. (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي : أو إذا كانوا غزاة مقاتلين فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مقيمين معنا (ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا) ما أصابهم الموت في الحالين (لِيَجْعَلَ اللهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي ليوجد بقولهم ذاك حزنا وندما في قلوبهم لما يحصل من
الخيبة فيما أملوا لما فاتهم من عز الظفر والغنيمة (وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ) يفعل ذلك في السفر والحضر عند حلول الأجل في الجهاد وغيره
فلا يمتنعون خوف القتل والموت ، فليس كل من يتخلف يسلم من الموت ، ولا كل من يذهب
إلى الجهاد يقتل ، لأن الإحياء والإماتة بيده تعالى ، فلا موت لمن قدّر له حياة
ولا حياة لمن قضى عليه بالموت (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم.
١٥٧ ـ (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
...) أيها المؤمنون في الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) أصابكم الموت وأنتم تقصدون مجاهدة الكفار (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) أي صفح عن الذنوب (وَرَحْمَةٌ) الثواب والجنة (خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا وزخرفها.
١٥٨ ـ (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ...) أي إذا متم في منازلكم ، أو في طريقكم إلى الجهاد ، أو في
معركة القتال. (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) مرجعكم إليه فيجزي كل واحد منكم حسب عمله ونيته.
١٥٩ ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ ...) أي فبأي رحمة الله. وقيل : فبرحمة عظيمة وما زائدة والخطاب
للنبي (ص). (لِنْتَ لَهُمْ) عاملتهم باللين واللطف (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي جافيا قاسي الطباع (غَلِيظَ الْقَلْبِ) شديدة وخشنه (لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ) أي تفرّقوا عنك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بينك وبينهم ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ما بينهم وبيني. (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) واستمزج آراءهم بالشأن الذي تريد تطييبا لخواطرهم (فَإِذا عَزَمْتَ) أي عقدت النية في قلبك على الفعل. (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : فوّض أمرك إلى الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ) أي المفوضين أمرهم إليه والمعتمدين عليه.
١٦٠ ـ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ ...) أي يجعلكم ظافرين على من ناوأكم من أعدائكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي لا يقدر أحد أن يغلبكم وإن كثر أعداؤكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي يمنع عنكم معونته (فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) فمن غيره تعالى يظفركم بأعدائكم وهذا في قوة قوله : لا
ينصركم أحد من بعد خذلانه لكم. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) مرّ معناه.
١٦١ ـ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...) أي ليس من شأن النبيّ أن يخون ، أو يخفي من المغنم شيئا. (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي مصاحبا بما اختلس ، إذ المستفاد من الباء هو المصاحبة
وقيل يأتي يوم القيامة حاملا له على ظهره. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تجزى جزاء عملها تاما حسنة كان أو سيئة ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي بلا زيادة ولا نقيصة.
١٦٢ ـ (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ...) أي المتبع لرضوان الله الذي هو أعلى مراتب الرضا فسار في
الطريق المؤدية إليه. (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ
مِنَ اللهِ)؟ ... أي كالذي لم يتّبع رضوانه ، بل باء ، أي رجع وعاد بما
يوجب غضبه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) يعني مسكنه فيها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وما أسوأ مصيره ذاك؟ ...
١٦٣ ـ (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ...) هم أي الذين اتبعوا رضوان الله ذوو درجات متفاوتة عند الله
أو : لهم درجات بتقدير حرف الجر في : هم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) مر معناه.
١٦٤ ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) المن هنا بمعنى النعمة ، أي أنعم الله على المؤمنين حينما
أرسل إليهم رسولا بشرا من جنسهم وبلسانهم بل من رهطهم يعرفون منشأه وكل ما يتمتع
به من صفات سامية وخلال حميدة. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن فيفهمون (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهّرهم من دنس العقائد الجاهلية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) مر معناه (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن حالهم كان قبل البعثة في عصر الجاهلية في ضلال واضح
بيّن. إن من ناحية الفكر أو السلوك.
١٦٥ ـ (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ...) يعني : حين أصابتكم من أعدائكم في أحد مصيبة بقتل سبعين
منكم (قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْها) أي في بدر حيث قتل المسلمون سبعين من المشركين وأسروا
سبعين. (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي : من أين جاءتنا هذه المصيبة وقد وعدنا الله بالنصر؟ ...
(قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) قل لهم يا محمد إن ذلك كان بما كسبت أيديكم من اختياركم
الفداء يوم وقعة بدر. وقيل بسبب عصيانكم أوامر الرسول حيث تركتم مراكزكم القتالية
طمعا بالغنائم. (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه.
١٦٦ ـ (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ ...) أي أن الذي حل بكم من قتل يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) بقضائه وعلمه (وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ) ليميّز المؤمنين من المنافقين.
١٦٧ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ...) ليميز المنافقين. (وَقِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي قيل للمنافقين أمضوا معنا كي نجاهد في سبيل ربّنا ، أو
دافعوا عن أموالكم وأعراضكم إن لم تقاتلوا (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قال المنافقون لو كنا نحسن القتال لشاركناكم فيه. (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي بمقالتهم تلك
اتضح أنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إذ يظهرون الإيمان ويسرّون الكفر. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) يعرف ما ستروا من نفاقهم.
١٦٨ ـ (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ
وَقَعَدُوا ...) يعني المنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أو النسب
عن شهداء أحد وهم أنفسهم تخلفوا عن الخروج مع النبي (ص) للجهاد. (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) وما خرجوا إلى الجهاد (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي ادفعوا الموت عنكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم.
١٦٩ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...) أي لا تظنّن أن المقتولين في الجهاد في سبيل الله أمواتا
كبقية الأموات ممن لم يقتل في الجهاد (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي أنهم قد رجعوا إلى حال الحياة بعد قتلهم ، وهم يرزقون
من الطيّبات ويتنعّمون بلذائذ الخلد في درجة القرب منه سبحانه ...
١٧٠ ـ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ ...) أي أن أولئك الشهداء مسرورين بجزيل نعم الله عليهم ، وبما
أعطاهم من الشهادة والفوز بالجنة (وَيَسْتَبْشِرُونَ) يبشّر بعضهم بعضا (بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بقدوم إخوانهم ممن خلفوهم على الإيمان في دار الدنيا
وقد كتبت لهم الشهادة (مِنْ خَلْفِهِمْ) ويأتون وراءهم (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يستبشرون أن لا خوف على مصيرهم الأخروي ولا يلحق بهم
حزن لفراق الدنيا حين يرون منازلهم في دار الكرامة.
١٧١ ـ (يَسْتَبْشِرُونَ ...) أي الذين قتلوا في سبيل الله (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ وَفَضْلٍ) النعمة والفضل يكشفان عن معنى واحد ، ولكن الفضل يبيّن
زيادة الإنعام عليهم منه سبحانه لأنه متفضل يعطي أكثر من الاستحقاق ، (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ) بل يوفّيهم جزاءهم ولا يمهله ولا يهمله.
١٧٢ ـ (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ ...) أي الذين أطاعوا أوامر الله وأطاعوا رسوله. (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) نالهم الجراح يوم أحد (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعة الرسول وإجابة دعوته (وَاتَّقَوْا) معاصي الله (أَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب جزيل.
١٧٣ ـ (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ...) الذين قيل لهم هم النبي وأصحابه عند ما عزموا على الخروج
إلى بدر الصغرى والناس الذين قالوا هو نعيم بن مسعود الأشجعي (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أن أبا سفيان وأعوانه من أهل الشرك قد أتوا بجمع عظيم
لمقاتلتكم (فَاخْشَوْهُمْ) أي فخافوهم (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم ذلك القول إيمانا (وَقالُوا : حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي ولينا الله وكافينا ، ونعم من توكل إليه الأمور.
١٧٤ ـ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ ...) أي رجعوا في عافية منه سبحانه وثبات على الإيمان وتجارة
رابحة. (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) أي لم يصبهم في سفرهم هذا أدنى شرّ من أعدائهم. (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بإطاعة نبيّهم وتوجههم للجهاد (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) أي صاحب منة وإحسان كثير على أهل طاعته.
١٧٥ ـ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ ...) يعني : هو إبليس الذي يوسوس ويفزع أتباعه. وقيل : إن ذلك
التخويف الذي جاء به نعيم بن مسعود من فعل الشيطان يخوف أولياء الله المؤمنين
بالكافرين (فَلا تَخافُوهُمْ) أي لا تفزعوا منهم أيها المؤمنون (وَخافُونِ) واحذروا منّي (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بي فقد أعلمتكم أني ناصركم عليهم.
١٧٦ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ ...) أي ولا يحزنك يا
محمد المنافقون. وقيل : المراد بمن يسارعون في الكفر قوم من العرب ارتدوا عن
الإسلام. (إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي أنهم لن يلحقوا ضررا بدعوة الله سبحانه ولا بك ولا
بأولياء الله من جرأة كفرهم. (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا
يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي نصيبا مما يقسمه بين عباده من الأجر والثواب يوم
القيامة (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) معناه واضح.
١٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ ...) أي الذين استبدلوا الكفر بالإيمان (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي موجع.
١٧٨ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ولا يظنّنّ الكافرون (أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ) أن إمهالنا لهم بإطالة العمر ، أو بتأخير العقوبة (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) يجنون منه المنفعة. (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) أي إنما نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم بتراكم
الذنوب. (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) أي عذاب يرون فيه هوانهم.
١٧٩ ـ (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ...) أي أنه سبحانه لا يدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط
بغيرهم بحيث تشتبه الحال بين المؤمن والمنافق (حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي يتعبدكم بالإسلام وأحكامه حتى يميز المنافق من المؤمن (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ) فما كان ليظهر على غيبه أحدا منكم فتعلمون ما في القلوب
وتكتشفون إيمان هذا أو نفاق ذاك ، (وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي أنه يختار لرسالته من يريد فيطلعه على ما أراد من الغيب
(فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) يعني : صدّقوا بذلك أيها الناس. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي تصدقوا (وَتَتَّقُوا) تتجنبوا عقابه بتجنب معاصيه وامتثال أوامره (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب كثير.
١٨٠ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) ولا يظنن الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعمه فيمسكون عن
إنفاق ما أوجبه عليهم فيها (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) أن بخلهم هو خير لهم. (بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَهُمْ) للبخلاء (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سيجعل الله ما بخلوا به طوقا من نار يلتفّ حول أعناقهم يوم
القيامة (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن له كل ما في الملك والملكوت أزلا وأبدا. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم بما تفعلونه من إنفاق أو إمساك ، وسيجازيكم طبق
عملكم.
١٨١ ـ (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي أنه سميع عليم عارف بقول من قال ذلك لمّا أنزل سبحانه :
من يقرض الله قرضا حسنا ، فقالوا : أفقير ربّنا يسأل عباده القرض؟ ... (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي نأمر الملائكة بكتبه في صحائف أعمالهم. (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ
حَقٍ) أي وسنكتب قتل أسلافهم للأنبياء ورضا هؤلاء به (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لن تستطيعوا الخلاص من عذاب نار محرقة. والتعبير بذوقوا
من الذوق يشعر بكون عذاب أهل النار تدريجي لا دفعي.
١٨٢ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ...) أي أن عقابكم ذلك بسبب أعمالكم وما جنيتموه على أنفسكم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) لم يظلمكم ولا كان عذابه لكم إلّا طبق ذنوبكم لأنه سبحانه
العادل المطلق.
١٨٣ ـ (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا ...) يعني أخذ علينا عهدا ورد في التوراة وهؤلاء جماعة من
اليهود (أَلَّا نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ) أي أن لا نصدّق نبيّا (حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) إلّا بعد أن يجيئنا بمعجزة خاصة كانت لأنبياء بني إسرائيل
، وهي أن يقدّم قربان إلى الله تعالى فتنزل نار من السماء فتلتهمه وهم ينظرون
إليها. (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني قل لهم يا محمد قد أتاكم أنبياء بمعاجز كثيرة تبيّن
صدقهم ، وأتوكم بمعجزة القربان الذي تأكله النار أيضا (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أراد بذلك زكريا ويحيى (ع) وغيرهما من الأنبياء أي لماذا
ارتكبتم جريمة قتلهم مع أنهم جاؤوكم بمقترحاتكم.
١٨٤ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ ...) أي : إذا لم يصدّقوك يا رسول الله بعد ما بيّنت لهم من
الحجج الدامغة فليس هذا أمرا مبتدعا منهم (فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ولم يصدّقهم أقوامهم ، وهذه سيرة الضالين ودأبهم مع
الأنبياء ، ولو (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الدالة على صدقهم (وَالزُّبُرِ) ومع مجيئهم بالزّبر : أي الكتب المشتملة على الحكم
والمواعظ (وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) الذي ينير طريق دنياهم وآخرتهم بشرائعه ومعارفه والمراد به
هنا التوراة والإنجيل.
١٨٥ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي كل من يتنفس ويحيا في هذه الدار الفانية ، سيذوق طعم
الموت. (وَإِنَّما
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي تعطون أجركم الملائم لعملكم في الدنيا وافيا يوم الحساب
(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ) أي دفع عنها وأبعد (وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي نجح إذا رجح ميزان حسناته. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ) وما لذات الدنيا وشهواتها إلا متعة زائلة باطلة تخدعكم
وتغركم بدوامها مع أن حقيقتها غير ذلك.
١٨٦ ـ (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ...) أي لتختبرنّ في أموالكم بنقصها أو هلاكها وفي أنفسكم
بالقتل وغيره وذلك ليتميز الصادق من الكاذب (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من اليهود والنصارى الذين جاءتهم كتب ربّهم قبل زمانكم (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي من مشركي العرب (أَذىً كَثِيراً) أي ما يؤذيكم من هجاء النبيّ (ص) والاستهزاء به وبكم. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك الأذى (وَتَتَّقُوا) أي تتجنّبوا المعاصي وتتمسكوا بالطاعة لله دون أن تجزعوا (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من محكمات الأمور التي لا بد من عقد القلب عليها بحيث
لا يتطرق إليها التزلزل.
١٨٧ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ ...) أي : واذكروا أيها المسلمون حينما أخذ الله عهد علماء
اليهود والنصارى في شأن نبوة محمد (ص) من علائم وأوصاف (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) لتظهرنّه للناس (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي : ولا تخفونه ، (فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ) أي طرحوه وتركوه ولم يعتنوا به ، أي نقضوا العهد وفعلوا
ذلك الطرح للعهد المأخوذ عليهم (وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) أي أخذوا بكتمانه عوضا يسيرا من حطام الدنيا. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي ساء وشؤم ما يبتاعونه.
١٨٨ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا ...) أي : لا تظن بأن هؤلاء اليهود الذين يعجبون بأعمالهم التي
يعملونها سمعة ورياء. (وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) يعني يرغبون بالمدح على أعمال لم تصدر عنهم (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ) فلا تظن ـ يا محمد أنهم بمناجاة وبعد عن النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.
١٨٩ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ...) مرّ معناه.
١٩٠ ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) يعني : إن في إيجادهما بما فيهما من الصنع الدقيق (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في تعاقبهما بهذا الترتيب الدائم ذلك كله مما أبدع الله
تعالى (لَآياتٍ) أي علامات دالّة على وجود الله ووحدانيته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول.
١٩١ ـ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً
وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ...) وصف سبحانه ذوي الألباب بأنهم يلهجون بذكر الله في حال
قيامهم وقعودهم واضطجاعهم أي في جميع حالاتهم. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما في ذلك من عجائب الصّنع وآثار القدرة ، معتبرين بذلك ،
موقنين أنه من صنع إله قادر حكيم. (رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً) أي هذه الخلقة البديعة عبثا أو للباطل بلا حكمة ولا مصلحة
بل لتكون دليلا على قدرتك ووحدانيتك. (سُبْحانَكَ) أي منزّه أنت عن أن تخلق شيئا عبثا. (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي جنّبنا عنه.
١٩٢ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ...) : أي جعلته مطرودا من رحمتك. (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ) والظالمون ليس لهم ناصر ولا معنى يدفع عنهم العذاب يوم
القيامة.
١٩٣ ـ (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً
يُنادِي لِلْإِيمانِ ...) أي سمعنا ووعينا ما نودي به من دعوة محمد (ص) أو القرآن : (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي صدّقوا به وتيقّنوا وجوده وربوبيّته فصدّقنا واستجبنا
لدعوته. (رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها علينا يوم نلقاك. وقيل : المقصود كبائر الذنوب. (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) يعني امحها عنا وقيل : المقصود صغائر الذنوب. أمّا التكفير
فهو محو السيئات بالحسنات. فبينهما بحسب المعنى فرق ، لأن هذا عفو مع السبب ، وذاك
عفو بلا سبب ، أي أعم من التكفير يمكن أن يكون موجبا في مرحلة التفضل ، ويمكن أن
لا يكون. وعلى كل حال فهؤلاء السامعون المطيعون طلبوا المغفرة وتكفير الذنوب من
ربهم ، ثم قالوا : (وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ) أي اقبضنا حين تقبضنا إليك وتتوفانا مصاحبين محشورين معهم
والأبرار جمع برّ وهو هنا من أطاع الله حتى أرضاه.
١٩٤ ـ (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ ...) : أي إلهنا أعطنا ما وعدتنا من الأجر والثواب على لسان
أنبيائك. (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي لا تفضحنا أو لا تهلكنا يوم الحساب (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) وأنت أجلّ من أن تخلف وعدك الذي قطعته على نفسك من رحمة
عبادك المؤمنين بإدخالهم جنتك.
١٩٥ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ...) فأجاب سبحانه عباده الداعين بما تقدم ليكون هذا برهانا
واضحا على أن العباد الصالحين إذا دعوا ربهم بتلك الكلمات البينات فان استجابته
تعالى لهم لا تتخلّف أبدا (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي لا أنساه ولا أهمله (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى) رجل أو امرأة (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أي متساوون في الحساب ، وقيل في نصرة الدين. وقيل : بعضكم
من جنس بعض في صفة الايمان والطاعة. وقيل أيضا : يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد.
وقيل غير ذلك. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) فالذين فارقوا قومهم إلى المدينة أو الذين طردوا من قبل
المشركين من بيوتهم وأهليهم في مكة (وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي) لحق بهم الأذى بسبب إيمانهم بي (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) أي جاهدوا الكفار وحاربوهم وقتلوا أثناء جهادهم (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) لأمحونّ الذنوب عنهم ، وأتجاوز عنها (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مر معناه (ثَواباً) لهم على ذلك (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تفضلا منه ووعدا حسنا. وقد صرّح هنا باسم الجلالة تنويها
بشرف الثواب الذي أعده لهم. (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوابِ) أي الجزاء الجميل على الأعمال الحسنة.
١٩٦ ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) : الخطاب للنبي والمقصود الأمة. لا يخدعنّكم أيها المؤمنون
تردد وتجوّل الذين كفروا في البلاد سالمين متاجرين متكسبين للأموال جامعين للثروات.
١٩٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ ...) أي أن ما ترونه من حصول تقلّب هؤلاء في رغد العيش إن هو
إلّا متاع زائل حقير في جنب ما أعدّه الله للمؤمنين من نعم دائمة في الآخرة. (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مآبهم يوم القيامة جهنم يدخلونها داخرين (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ما أسوأ هذا المستقر الذي ينزلون فيه ويمهدونه لأنفسهم
بأعمالهم السيئة.
١٩٨ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...) أي الذين خافوا الله وتجنّبوا معصيته وعملوا بطاعته. (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مر معناه (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) قصورا ينزلون فيها أعدّها لهم في نعيم دائم ... (وَما عِنْدَ اللهِ) مما أعدّه من نعيم مقيم (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي أحسن للمؤمنين المطيعين ، من ذلك الذي يتقلّب فيه
الكفار وهو زائل فان.
١٩٩ ـ (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ ...) أي من اليهود والنصارى من يصدق بالله ويقر بوحدانيته. وقد
نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود الذين أسلموا. وقيل نزلت في
بعض من كانوا على النصرانية فأسلموا. (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) من كتاب وسنّة (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) في كتبهم من علامات نبيّكم (ص) (خاشِعِينَ لِلَّهِ) خاضعين له مذعنين. (لا يَشْتَرُونَ
بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا يبيعون ما عندهم من الدلائل على وجود الله وتوحيده
ورسوله بعوض يسير (أُولئِكَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي الثواب المختص بهم الذي وعدهم الله تعالى به يوم
القيامة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) مر معناه.
٢٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يا أيها المصدّقون بالله ورسوله (اصْبِرُوا) على دينكم أي اثبتوا عليه (وَصابِرُوا) على قتال الأعداء أثناء الجهاد في سبيل الله (وَرابِطُوا) أي أعدّوا لهم وتهيّأوا وهيّئوا ما يلزم لقتالهم. (وَاتَّقُوا اللهَ) وحاذروا ما يغضبه ، وافعلوا ما يرضيه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تنجحون وتفوزون.
سورة النساء
مدنية ، وعدد آياتها ١٧٦ آية
١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) الناس : جمع إنسان ، وهذا الخطاب عام لجميع المكلفين من
بني البشر (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي اجتنبوا سخطه وغضبه باجتناب معاصيه والائتمار بأوامره. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) برأكم من العدم بقدرته (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أراد بها سبحانه نفس أبينا آدم (ع). (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي حوّاء (ع) خلقها من فاضل طينته وجعلها زوجة له. (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً
وَنِساءً) ونشر من آدم وحواء بطريق التناسل كثيرا من الجنسين ذكورا
وإناثا. (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : تتساءلون والمعنى : كما تعظمون الله في أقوالكم عند
ما يسأل بعضكم بعضا فتقولون : أسألك الله وأنشدك الله وبربك أن تفعل كذا فعظّموه
أيضا بأفعالكم وذلك بأن تأتمروا بأوامره وتنزجروا عند زواجره فتكونون قد اتقيتموه (وَالْأَرْحامَ) أي واتقوا الأرحام بأن تصلوها ولا تقطعوها. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي أن الله يراقبكم في أمر صلة الرحم.
٢ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ...) الخطاب في الآية موجّه لأوصياء اليتامى ، وهو يعني : لا
تمنعوا عنهم أموالهم فأعطوهم في حال صغرهم بالإنفاق عليهم منها اقتصادا ، وفي حال
كبرهم ـ مع تحقق رشدهم المالي ـ بتسليمها إليهم تامة. واليتيم من مات أبوه ولم
يبلغ الحلم. (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ) أي المال الحرام الذي حرم بالكسب أو بأكله من أموال
اليتامى (بِالطَّيِّبِ) من الأموال التي أحلّها الله عليكم. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) أي لا تأكلوها مع أموالكم. وذكر الأكل بالنسبة إلى الأموال
فلأنه أظهر مصاديق التصرف. (إِنَّهُ كانَ حُوباً
كَبِيراً) والحوب هنا الذنب الكبير ، أي أن أكل مال اليتم بغير وجه
حق هو ذنب كبير.
٣ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى ...) أي إذا خفتم عدم العدل في رعاية حقوق اليتامى من النساء
فلا تزوّجوهنّ (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ) يعني : تزوّجوا ما حلّ لكم ـ لا ما لذّ لكم ـ (مِنَ النِّساءِ) سائر النساء اللائي من غير اليتامى أو منهن. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي إذا لم تكتفوا بواحدة فانكحوا من غير اليتامى إلى أربع
لا أزيد بالنكاح الدائم. (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي حذرتم (أَلَّا تَعْدِلُوا) حالة الجمع بينهنّ (فَواحِدَةً) لا أكثر. (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) أو انكحوا الإماء المتعددات الواحدة والإماء العديدة بأي
مقدار كنّ لقلّة مؤونتهنّ وخفة مصرفهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ وفي حكمهنّ المتعة.
ففي الكافي عن الصادق عليهالسلام ـ في روايات كثيرة ـ أنها ليست من الأربع ولا من السبعين ،
وأنهنّ بمنزلة الإماء لأنهنّ مستأجرات (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) أي أن اختيار الحرة الواحدة أو التسرّي أقرب إلى ألّا
تميلوا إلى الجور والنقص في نفقة ذات النفقة.
٤ ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً ...) والصّدقات جمع صدقة ، وهو اسم لمهر المرأة. والنحلة ، هي
العطية من الله والتفضّل منه عليهن إذ فرض لهنّ ذلك على الرجال. والمعنى وأعطوا
النساء مهورهن عطية من الله. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) أي : إذا أعطينكم شيئا من مهورهنّ عن طيب نفسهنّ (فَكُلُوهُ) أي خذوا الموهوب لكم. (هَنِيئاً) أي طيبا (مَرِيئاً) أي سائغا محمود العاقبة.
٥ ـ (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
...) خطاب للأولياء والأوصياء. ولا تعطوا السفهاء : قيل بأنهم
النساء والأطفال. وقيل النساء خاصة وقيل السفيه هو كل مبذر للمال أو مسرف في صرفه (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي التي جعل لكم الله الحق في القيام عليها لحفظها
وصيانتها. (وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ) أي لا تمنعوهم عن الارتزاق بأموالهم من الطعام والشراب
والمسكن والملبس وغير ذلك من ضروريات الحياة اللائقة بحالهم. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي قولا حسنا جميلا مقبولا شرعا.
٦ ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى ...) أي اختبروهم بتتبّع أحوالهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) رمز إلى البلوغ الشرعي من نبات العانة والاحتلام أو إكمال
خمس عشرة سنة للذكر وتسع سنوات للأنثى. وقيل : المقصود ببلوغ النكاح القدرة على
الوطء (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) أي
فإن وجدتم أو
عرفتم منهم حسن التصرف في المال بعد اختبارهم فيجب عليكم أيها الأولياء تسليم
أموالهم إليهم (وَلا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً) الإسراف هنا وضع الشيء في غير موضعه. والمعنى : أيها
الأولياء لا تأكلوا من أموال اليتامى التي لكم ولاية التصرف فيها بأكثر مما
تحتاجون إليه ولا تفرطوا في دفعها إليهم عند بلوغهم راشدين ماليا. ولا تبادروا إلى
أكلها حذرا من أن يكبروا فيطالبوكم بها. (وَبِداراً) أي مبادرة إلى أكل أموال اليتامى قبل (أَنْ يَكْبَرُوا) يبلغوا ويصبحوا راشدين. (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا) من الأولياء بماله عن مال اليتيم (فَلْيَسْتَعْفِفْ) بأن يأكل من ماله ويترك مال اليتيم. (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) لا مال له (فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) أي يأخذ من مال اليتيم بمقدار الحاجة (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ) أي إذا أعطيتموهم أموالهم بعد حصول الشرطين المذكورين آنفا
(فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ) ادفعوها إليهم أمام شهود يشهدون بأنهم تسلّموها ، دفعا
للتهمة فيما بعد ، (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أي محاسبا وقيل : شاهدا على دفعها أو عدمه.
٧ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) نصيب : أي حظ وسهم من تركة الوالدين والأقربين. (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وكذلك للنساء حقّ من تركة والديهنّ وأقربائهنّ. (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) أي من قليل التركة أو كثيرها. (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي سهما وحظا فرض تسليمه إلى مستحقيه.
٨ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ...) أي إذا شهد قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) أي قرابة الميت الفقراء (وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ) أي حضر القسمة أيضا يتاماهم ومساكينهم الذين يرجون أن
تعطوهم شيئا (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) أي أعطوهم من تركة الميّت قبل تقسيمها بين الورثة. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) لعل هو الدعاء لهم بالرزق واليسار ، والاعتذار إليهم.
٩ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ...) وليخف الله من يترك بعد موته أولادا صغارا أو كبارا ضعيفي
العقل أو مرضى مزمنين فليقدّر لهم نصيبهم من ماله ولا يوصي به في وجوه أخرى
ويتركهم عالة يتكففون الناس الضّعفاء عن أيديهم وبآرائهم التي قد لا يرضاها الله
سبحانه وتعالى. وقد اختار هذا المعنى ابن عباس وجماعة كسعيد بن جبير وقتادة
وأمثالهما من مشاهير العامة. فينبغي للمتوفين الذين يتركون ذرّية ضعافا (خافُوا عَلَيْهِمْ) الضياع والفقر من بعدهم ، (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فليخافوه حين الوصية ممّا زاد عن الثلث لأنفسهم ، (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي صوابا عدلا موافقا للشرع والحق.
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً ...) أي أن من يأكل أموال اليتامى كلّا أو بعضا وليا كان أو
غيره بغير سبب شرعي مسوّغ (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي أنهم يأكلون في بطونهم شيئا يجرّهم إلى النار. (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي أنهم يأكلون في بطونهم شيئا يجرّهم إلى النار. (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي سيدخلون النار المسعّرة وهي المحماة إلى أقصى الدرجات
ليحترقوا فيها.
١١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) أي يأمركم الله ويفرض عليكم في إرث أولادكم منكم. (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين حال الاجتماع. (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي المولودات للوارث حال كونهن منفردات ولا ذكور وكن
اثنتين فما فوق فلهن من التركة ثلثاها بالفرض. يقتسمنه وتقتسمانه بالتساوي. (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ) أي لو ترك الميت بنتا واحدة له منفردة عن الذكور فلها نصف
التركة بالفرض (وَلِأَبَوَيْهِ) أي لوالدي الميت المباشرين (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) كل من والد الميت ووالدته يأخذ سدس التركة بالفرض (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أي إذا كان للميّت ولد وإن نزل ، أو تعدد ذكرا كان أو
أنثى. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ ، وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي فإن مات ولم يخلف ابنا ولا بنتا ولا أحدا من الحفدة
وكان أبواه حيين فلأمه ثلث التركة والباقي للأب. بعد فرض الزوجة أو الزوج لو وجد
طبعا .. (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ) أي أنه كان للميّت إخوة (فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) أي كما أن الولد يحجب الأم عن الثلث إلى السدس ، فكذلك
إخوة الميّت يحجبون أمّه عن الثلث إلى السدس إذا كان هناك أبّ. وكل ذلك مما ذكرناه
في السهام
والرد (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها ،
أَوْ دَيْنٍ) فعبارة : من بعد ، متعلقة بجميع ما تقدّم من قسمة المواريث
إلى تلك الحصص الخاصة بالورثة وكلمة. أو هي للإباحة فتفيد تساويهما في وجوب
التقديم على القسمة انفرادا أو اجتماعا. ولا فرق بين أن يكون حقا لله أو للناس (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي أنتم لا تعلمون من من الآباء أو الأمهات أو الأولاد
يكون أقرب نفعا لكم بعد مماتكم أو في حياتكم ، ولذلك فالتزموا بما فرضناه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أوجبها وعيّنها بحكمته. (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) عارفا بمصالحكم حكيما فيما دبّره لكم.
١٢ ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ
...) أي ولكم أيها الأزواج نصف تركة زوجاتكم (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) بحيث لم يلدن لا ذكرا ولا أنثى وإن نزل ، منكم أو من زوج
آخر قبلكم ... (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من الميراث من سائر تركتهن (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) مرّ شرحه (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ولو كان الولد من غيرهنّ فإنه يحجب عنهنّ الرّبع (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) منهنّ أو من سواهنّ (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) واحدة كانت أو أكثر فيقسم الفرض ربعا كان أو ثمنا عليهن
بالسوية (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) اختلف في معنى الكلالة ، فقيل هي الإخوة والأخوات من طرف
الأم ، وقيل هي الوارث غير الوالد والولد ، وقيل غير ذلك. وحاصل المعنى أن الرجل
إذا مات ولم يكن له وارث غير كلالة ، وكذلك المرأة بناء على أنها معطوفة على الرجل
(وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ) أي من الأم ، ويؤيده الإجماع والأخبار. (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ممّا ترك الميّت من غير وارث سواهما (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يستوي الذكر والأنثى في القسمة لإجماع الأمة على ذلك. وهو
أن الأخوة والأخوات من طرف الأم متساوون في الميراث. (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي حال كون الدين غير مضارّ بورثته بالزيادة على الثلث ،
أو بالنقيصة في حقهم في الوصية ، كالإيصاء بدين لا يلزمه قصدا للإضرار على الورثة
لا قصدا للقربة ... (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أمرا واجب الاتباع من الله وقد صرّح سبحانه بأنها من الله
تأكيدا عليها من جهة ، وتعظيما لشأنها وتحذيرا من مخالفتها من جهة ثانية. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمطيع وبالعاصي (حَلِيمٌ) لا يعاجل في عقوبة العاصين بل يؤخرها فاسحا المجال للتوبة
والاستغفار لتشملهم رحمته التي وسعت كل شيء.
١٣ ـ (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ...) أي أن هذه الأحكام المزبورة في اليتامى والوصايا والمواريث
هي حدود شرعها الله لكم ، وسنّها لمصالحكم. ممنوع عليكم تجاوزها ... (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يعمل طبق ما أمر به سبحانه وبلّغه رسوله للناس ، فلا
يتعدى ما وضعه من أحكام (يُدْخِلْهُ) الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مرّ تفسيرها في سورة البقرة (وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) أي النجاح الكبير والظفر العظيم برضى الله ونعيمه ،
ولنجاته من المهالك يوم القيامة.
١٤ ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي يخالف أمر الله وأمر رسوله الذي جاء به عن ربه (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) ويخرج على أحكامه وشرائعه التي أمر بالالتزام بها. (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) يؤويه إلى النار دائما فيها فلا يموت فيها فيقضى عليه ولا
يحيا فيها حياة يحس معها بالراحة. (وَلَهُ) فيها (عَذابٌ مُهِينٌ) أي عذاب ترافقه إهانة وحقارة واستهزاء تزيد كلها في عذابه
النفسي والجسدي.
١٥ ـ (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ ...) أي أن النساء اللواتي يزنين (فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أمر للحكام أو الأزواج بطلب أربعة شهود رجال عدول من
المؤمنين (فَإِنْ شَهِدُوا) إذا شهد هؤلاء الأربعة بحصول الزّنى فعلا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوا الزانيات في بيوتهنّ (حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يمتن على تلك الحالة من الحبس (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بموتهن أو موت أزواجهن أو غير ذلك ...
١٦ ـ (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ...) أي اللذان يزنيان (فَآذُوهُما) وبّخوهما (فَإِنْ تابا) أي إذا أقلعا عن ذلك (وَأَصْلَحا) واصطلح حالهما فعلا (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) أي كفّوا عن أذاهما (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً) يقبل التوبة عن عباده ويسعهم برحمته.
١٧ ـ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ...) أي لا توبة مقبولة عند الله إلّا (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهالَةٍ) أي الذين يقعون في الإثم والقبيح عن عدم علم بإثمه قصورا
أو تقصيرا (ثُمَّ يَتُوبُونَ) يرجعون (مِنْ قَرِيبٍ) ملازم لزمان اقتراف الذنب. ويمكن حملها على الأقرب فالأقرب
منه (فَأُولئِكَ يَتُوبُ
اللهُ عَلَيْهِمْ) أي الذين يتوبون من قريب ولا يعودون لمثل ما وقعوا فيه
البتة ، فإن الله يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنبهم (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
١٨ ـ (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ...) يعني لا تقبل توبة من يرتكبون الذنوب ويؤخرون توبتهم منها
، (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي صار مع الموت وجها لوجه فحينئذ يتوب (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) لا تقبل لهم توبة أبدا. (أُولئِكَ أَعْتَدْنا
لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي المسوّفون بالتوبة والكافرون هيأنا لهم العذاب الموجع
سلفا.
١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ...) كان الرجل في عصر الجاهلية إذا مات أبوه أو أخوه أو أحد
أقاربه ، ألقى ثوبا على رأس زوجة الميت وقال :أنا أحق بها ، فإن شاء تزوّجها
بصداقها الأول ولا يدفع لها مهرا جديدا ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها لا
يعطيها منه شيئا ، لأنه بإلقاء الثوب عليها يملكها. فحرّم الإسلام ذلك. والمعنى
أيها المؤمنون لا يحل لكم أن تأخذوا النساء على سبيل الميراث بأن ترثوا نكاحهن على
كره منهن ومشقّة عليهنّ. والنهي متوجّه لمن كان يقوم بمثل هذا العمل ، وهو منع عن
جعلهنّ مكرهات أي ملزمات بما هو كره لهن ، وأي كره أشد عليهن ممّا ذكر. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) العضل : هو التضييق. أي لا تسيئوا معاملتهن أو تضيقوا
عليهن بقصد أن يفتدين طلاقهن بمهورهن أو بما يملكن كلا أو بعضا (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) أي إلا في حال ارتكابهن فاحشة ظاهرة كالزنا أو النشوز (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي عيشوا معهن كما أمر الله بالإحسان وأداء حقوقهن (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) مالت أنفسكم عنهنّ (فَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً) فمن المحتمل أن تكرهوا شيئا كإمساكهن (وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً
كَثِيراً) ويكون لكم فيه خير كثير مقدّر في علم الله في الدنيا بولد
صالح وفي الآخرة بثواب لكم ومغفرة.
٢٠ ـ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ
مَكانَ زَوْجٍ ...) أي أردتم أيها الأزواج فراق زوجة للتزوج بغيرها والزوج عند
الإطلاق : الصنف والقرين والجنس. (وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) وكنتم قد أعطيتم المطلقة التي تريدون استبدالها عند
تزويجكم بها قنطارا ـ كناية عن المال الكثير ـ (فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً) أي ولو قلّ. (أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي أتأخذونه ظلما وباطلا وإثما أي ذنبا بينا. والاستفهام
إنكاري. فقد كان الرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة جديدة بهت امرأته التي هي عنده
بفاحشة ورماها بسوء حتى يلجئها إلى أن تفتدي نفسها بما أعطاها من مهر ليتزوج به
غيرها ، فنهى الله سبحانه عن ذلك العمل القبيح ثم قال مستهجنا هذا.
٢١ ـ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ...) أي عجبا بأية حال تأخذون ذلك منهن (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي انتهى الإفضاء والتباسط بينكما إلى حد الزوجية والجماع.
يقال أفضى الرجل إلى جاريته أي جامعها. (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا ، وهو حق المعاشرة والمضاجعة وقيل بأنه
نكاحه لها على كتاب الله وسنة رسوله.
٢٢ ـ (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ ...) وإن علوا فلا يجوز نكاح الأم ولا نكاح الجدة ولا نكاح زوجة
الأب وإن لم تكن أما حقيقة. (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) أي ما مضى قبل الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي زنا (وَمَقْتاً) بغضا شديدا أي يوجب بغض الله. (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس الطريق ذلك النكاح.
٢٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ
وَبَناتُ الْأُخْتِ ...) أي حرّم عليكم نكاحهن جميعا حرمة أبدية (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ) حليبهن وأنتم صغار رضاعة محرّمة تنبت اللحم وتشد العظم (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) اشتركن معكم في حليب امرأة. (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) كأمهاتكم (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أي البنات اللاتي تربونهن في حجوركم : أي بيوتكم (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَ) أي وطأتموهن (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي لم تجامعوهن (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) فلا مانع من نكاح أولئك الربائب (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ) أي النساء اللواتي يتزوّجهن أبناؤكم الذين ليست بنوتهم لكم
بالتبني فهن من المحرم عليكم التزويج بهن. (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي لا يجوز التزويج بامرأة ، وبأختها معا (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قبل الإسلام (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) يعفو عمّا سلف قبل نزول هذه الأحكام الشريفة ... فكل
المذكورات محرم نكاحهن حرمة أبدية. وقد كان الجاهليون يتزوجون الأختين بعقد واحد ،
أو بعقدين قبل مضي عدة الأخت الأولى ، فلما جاء الإسلام عفا عما سلف وأمر بالتفرقة
بين المرء والمرأة إذا أسلم أحدهما لأن زوجيتهما تفسد بموجب أحكام الإسلام.
٢٤ ـ (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ...) كذلك حرم عليكم نكاح المحصنات ، أي الحرائر ذوات الأزواج ،
وكذلك من كانت في عدة بعل مطلّق أو متوفى (إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) من السبايا والكفّار ولهنّ أزواج فيحل نكاحهن بعد
الاستبراء فقد ورد عندنا بأن بيعهنّ هو طلاقهن. (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يعني أحل لكم نكاح غير جميع هؤلاء المحرّمات اللائي ذكرهنّ
سبحانه في الآيتين ٢٣ و ٢٤ ... نعم بقي شيء لا بد من قوله ، وهو الجمع بين المرأة
وخالتها أو عمتها بغير إذنها فهو غير جائز أيضا أن تبتغوا نعم بقي شيء لا بد من
قوله ، وهو الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها بغير إذنها فهو غير جائز أيضا (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أن تتطلبوا النساء ببذل أموالكم لهن إما نكاحا بمهر أو
شراء بثمن لا للزنا بهن. (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) فما التذذتم به منهن فأعطوهن مهورهن التي سميتموها لهن عند
العقد فهو مفروض عليكم. وقيل : إنّ الآية واردة في المتعة ، أي النكاح الموقت
والمعنى : فمتى عقدتم عليهن عقد متعة فآتوهن ما اتفقتم عليه معهن من أجر. ومن
المعلوم أن المتعة شرعت ولم تنسخ بل منع عنها عمر بن الخطاب من عند نفسه. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي لا مسئولية تترتب على ما تتفقون عليه بعد أداء المهر أو
الأجرة المحددة بزيادتها أو بإنقاصها (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
٢٥ ـ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ...) أي الذي لم يجد غنى ليتزوج الحرائر المؤمنات (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي ليتزوج من الإماء المؤمنات ولا يصح نكاح الأمة إلا بإذن
مولاها. (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ) أي خذوا بظاهر إيمانهن وكلوا السرائر إلى الله فهو المطلع
عليها. (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أي كلكم لآدم (ع) فلا تستنكفوا من نكاح الإماء فإنهن منكم
وأنتم منهن. (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي بإذن مالكهنّ. (وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) أي أعطوهن مهورهن بيدهن. فإنهن مستأجرات وأجورهن بمنزلة
مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) أي بلا مماطلة ولا نقيصة ، (الْمُحْصَناتِ) عفيفات (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) غير زانيات (وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ) أي غير مرتبطات بأخلاء يزنون بهن سرّا (فَإِذا أُحْصِنَ) أي تزوجن (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ) أي زنين في هذه الحال (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي فعليهن نصف حدّ الزنا الذي على الحرائر. اللهم إلا حد
الرجم فإن هذا الحد لا ينصّف. (ذلِكَ) أي نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) يعني لمن خاف الوقوع في الزنا. والعنت في الأصل هو انكسار
العظم بعد الجبر ، وقد استعمل على نحو الاستعارة في المشقة. (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) عن نكاح الإماء خوف لحوق العار بكم وتمتنعوا عنه وعن الزنا
أحسن لكم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٢٦ ـ (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ...) أي أنه يريد أن يوضح لكم أحكام دينكم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) ويرشدكم إلى طريق الهدى التي سار عليها السابقون عليكم من
أهل الحق (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ويقبل توبتكم (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٢٧ ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ ...) أي يريد أن يوفقكم للتوبة بلطفه وإنما كرر سبحانه هذه
الارادة للتأكيد على وجوب شمول رحمته ومغفرته للخلق في مقابل إرادة الظالمين (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ) وهم كل المبطلين ممن ينجرفون وراء أهوائهم الساقطة (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي أن تنحرفوا عن طريق الحق انحرافا بينا بالإظهار
للمنكرات وتشاركوهم فيما يقترفون من موبقات.
٢٨ ـ (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
...) أي ييسر عليكم في نكاح الإماء بل في جميع التكاليف وذلك
لطفا منه بكم. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) في أمر النساء والصبر عنهن. فشرع له في ممارسة شهوة الجنس
ما فيه صلاحه وإشباع رغبته في آن.
٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ...) أي لا تأكلوها بالوجوه التي حرّمها الله تعالى كالسرقة
والربا والقمار بل مطلق الظلم سواء كان من النفس أو بواسطة الغير. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ) أي سوى في مجال التجارة الصادرة عن رضا المتبايعين (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تلقوا بأنفسكم في مواطن هلاكها في الدنيا والآخرة.
ولا يجوز قتل النفس إلا في حال الدفاع والجهاد المأذون فيه. (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي لم يزل عطوفا على الناس.
٣٠ ـ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ...) أي أن من يعمل هذه المحرمات المذكورة (عُدْواناً) تجاوزا منه على حدود الله واعتداء على سننه (وَظُلْماً) لنفسه ولغيره (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ
ناراً) أي سوف نحرقه بنار (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً) سهلا غير عسير.
٣١ ـ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...) أي إذا حدتم عن الذنوب الكبيرة التي نهاكم سبحانه عنها
وتنكبتم طريق المعصية العظيمة. (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) نعفو عن صغائر ذنوبكم ونمحوها من صحائف أعمالكم لطفا
وكرما. (وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) ندخلكم الجنة التي هي دار الكرامة والغبطة.
٣٢ ـ (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ...) نقتصر في بيان معناه على ما قاله الصادق (ع): لا يقل أحدكم
: ليت ما أعطي فلان من المال ، والنعمة ، والمرأة الحسناء ، كان لي ، فإن ذلك يكون
حسدا. ولكن يجوز أن يقول : أللهم أعطني مثله ... (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي لكل من الرجال والنساء حظّ مما ربحه بجهده وتعبه وسعيه
الشخصي فلا يجوز اغتصاب ثمرة جهد الآخرين. (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) أي من عطائه ومنّه (إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فهو عارف ما يستحق كل واحد وما هو بحاجة إليه فيعطيه هذا
وذاك منحة من خزائنه التي لا تنفذ.
٣٣ ـ (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) أي لكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة هم أولى بميراثه
، يرثون مما ترك الأب والأم ـ والأقربون علوا أن نزلوا مما شرع الله سبحانه ... (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : وحلفاءكم الذين عاهدتموهم على النّصرة والإرث
والأيمان : هنا ، جمع يمين بمعنى اليد وبمعنى القسم. (فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ) أي أعطوهم حظّهم (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي مطّلعا على ما تفعلونه في هذا الشأن وفي غيره. وفي هذه
الآية تهديد على منعهم نصيبهم كل في مورده.
٣٤ ـ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
...) أي الرجال قيّمون عليهن في سياسة وتدبير أمورهن وذلك
لسببين : الأول : (بِما فَضَّلَ اللهُ
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بما لهم من زيادة الفضل عليهن بالعلم والعقل والشجاعة وقوة
البدن. والثاني : (وَبِما أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي بما يدفعونه من مهور ونفقات زوجية .. (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) مطيعات (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ
بِما حَفِظَ اللهُ) أي لأنفسهن وفروجهن وأحوال أزواجهن حال غيابهم بما حفظهن
الله به من حقوق زوجية لهن (وَاللَّاتِي
تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي النساء اللاتي تخافون عصيانهن وترفّعهن عن مطاوعتكم (فَعِظُوهُنَ) فوجّهوا لهن الموعظة بالقول اللّين (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي ابتدعوا عنهنّ في المراقد ولا تجامعوهن. (وَاضْرِبُوهُنَ) ضربا غير شديد وغير مدم. (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) رجعن عن مخالفتكم (فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) فلا توبّخوهن ولا تؤذوهن (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيًّا كَبِيراً) أي متعاليا فاحذروه لأنه تعالى أقدر عليكم من قدرتكم على
نسائكم فلا تبغوا عليهن.
٣٥ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ...) أي إذا خشيتم خلافا قد يقع بين الزوجين (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) يعني أرسلوا للصلح بينهما رجلين عدلين لإجراء الحكومة فيما
يشجر بينهما من خلاف واحدا من أهل الزوجة والثاني من أهل الزوج (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) أي إن أراد الحكمان إصلاحا بين الزوجين يعينهما على نجاح
قصدهما والضمير في قوله تعالى راجع إلى الحكمين ، والتوفيق من الله يكون بتوجيه
الأسباب نحو المطلوب من الخير للزوجين. فبالنتيجة إنه سبحانه يعين الحكمين على
قصدهما الإصلاح بأن يلقيا المحبة بين الزوجين فيتم ذلك بحسن نيّتهما وإرادتهما له
وبلطف منه تعالى وبحسن توفيقه (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً خَبِيراً) عليما بنية الحكمين خبيرا بما فيه مصالح العباد.
٣٦ ـ (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً ...) أي وحّدوه وعظموه ولا تشركوا غيره في العبادة لأنها منحصرة
بذاته سبحانه (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) أي استوصوا بهما برا وانعاما (وَبِذِي الْقُرْبى) أي أصحاب القرابة فأحسنوا إليهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لا تنسوهم من إحسانكم والرأفة بهم (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الجار القريب في النسب. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي والجار الأجنبي عنك. أي أحسن إلى جارك مطلقا قريبا كان
أو أجنبيا. (وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) يعني الرفيق في السفر وقيل الزوجة (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر أو الضيف (وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) يعني : أرقاؤكم من العبيد والإماء أحسنوا إليهم وإلى كل من
سبق ذكره. (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) المختال هو المتكبّر والفخور هو الذي يعدد مناقبه تباهيا
بها فإن الله لا يرتضيهما.
٣٧ ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ ...) أي يبخلون بما أنعم الله عليهم فلا ينفقون منه لا الواجب
ولا المستحب ومع ذلك فهم يطلبون من غيرهم أن يحذو حذوهم في البخل وعدم الإنفاق. (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) ويسترون نعمه التي أعطاهم الله إياها من الغنى والثروة
ليعتذروا عما هم فيه من بخل. (وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) من كان هذا شأنه فهو كافر بنعم الله وله عذاب يهينه كما
أهان النعمة بالبخل بها والإخفاء لها.
٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
رِئاءَ النَّاسِ ...) عطف سبحانه على أولئك البخلاء ، هؤلاء الذين ينفقون
أموالهم فعلا ، ولكن لا لوجه الله بل رياء وسمعة ، (وَلا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا يصدقون بالله ولا بيوم الحساب فلا ثواب في نظرهم ولا
عقاب (وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي صاحبا في الدنيا والآخرة فبئس القرين هو يزين له البخل
والكفر فيرديه في العذاب المهين.
٣٩ ـ (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي أيّ ضرر يقع عليهم إذا صدّقوا بالله والبعث والحساب (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) وأدّوا حقوق أموالهم لمستحقّيها فجمعوا بين الإنفاق
والإيمان لينفعهم إنفاقهم. (وَكانَ اللهُ بِهِمْ
عَلِيماً) يجازيهم وفق أعمالهم.
٤٠ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ ...) أي أنه سبحانه لا ينقص من أجر أحد ولا يزيد في عقابه
بمقدار زنة الذّرة ، وهي أصغر جزء متصور من الشيء (وَإِنْ تَكُ) وإن تكن الذرة (حَسَنَةً يُضاعِفْها) أي يزيدها بمقدار المثل أو أكثر (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً) يعطي من عنده في الآخرة عطاء كثيرا وهو الجنة.
٤١ ـ (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ... أي فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة إذا أحضرنا شاهدا
من كل أمّة (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (عَلى هؤُلاءِ
شَهِيداً) تشهد على أمتك بمن فيهم هؤلاء الذين يسمعون الدعوة ولا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ...
٤٢ ـ (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ ...) يومئذ ، يعني : يوم القيامة يتمنى الذين كفروا بالله
وخالفوا رسوله (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) أي يتمنّون لو لم يبعثوا وكانوا ترابا ، هم والأرض سواء. (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ولا يقدرون على إخفاء شيء من الله لأن جوارحهم سوف تشهد
عليهم يومئذ.
٤٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) أي لا تقوموا إلى الصلاة وقيل المساجد حال كونكم في سكر (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) حتى تعوا ما تقرأونه وما تؤدونه من أفعال الصلاة. (وَلا جُنُباً) والجنب من أمنى فلا يجوز له أن يقرب الصلاة (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي لا تدخلوا المساجد في حال الجنابة إلّا اجتيازا من باب
إلى باب (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) تشكون من علة وتخافون على أنفسكم من استعمال الماء للوضوء
أو الغسل (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في حال سفر مع فقدان الماء (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) كناية عن الحدث ، (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) أي جامعتموهنّ. (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) لتغتسلوا من الجنابة إما لفقده أو لعدم تمكّنكم من
استعماله. (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) أي باشروا التيمّم بالتراب النظيف الطاهر ، والكيفية : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ) بالأثر الباقي من ذلك التراب (إِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا غَفُوراً) فهو متجاوز عن الذنوب كثير الستر لها.
٤٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) ألا تنظر يا محمد إلى هؤلاء الذين أعطوا حظّا قليلا من علم
التوراة؟ (يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ) أي يستبدلون الكفر بالإيمان لكتمانهم نبوة محمد (ص) (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) ويحبون أن تتيهوا عن طريق الحق وتضيعوا عنه مثلما ضاعوا.
٤٥ ـ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ...) أي : هو سبحانه أعرف بهم منكم فأطيعوني فيما ندبتكم إليه
دونهم. (وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) : أي ولاية الله لكم ونصره إياكم تغنيكم عن نصرة هؤلاء
وولايتهم.
٤٦ ـ (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ...) أي من اليهود هؤلاء فريق يبدلون كلمات الله وأحكامه
المنزلة عليهم في التوراة ويصرفونها عن وجوهها الصحيحة. (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) كفرا وعنادا (وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ) أي اصغ لكلامنا غير مسموع منك قولك ، (وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) مر معناه في سورة البقرة (وَطَعْناً فِي
الدِّينِ) أي إنكارا له وتهويشا عليه (وَلَوْ أَنَّهُمْ
قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ
وَأَقْوَمَ) أي أنه كان من الخير لهم ـ لو عقلوا ـ أن (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي أنه كان من الخير لهم ـ لو عقلوا ـ أن يسمعوا ويطيعوا ،
ويقولوا للنبي (ص) أمهلنا حتى نستوعب ما تقول (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ
اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) لا يصدق بك يا محمّد منهم إلّا قليلا أو إلا إيمانا ضعيفا
لا إخلاص فيه.
٤٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ...) خطاب لليهود والنصارى أن صدقوا بالقرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) معترفا بالتوراة والإنجيل (مِنْ قَبْلِ) اليوم الموعود الذي ينتهي به قبول الإيمان والتصديق ، وهو (أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها
عَلى أَدْبارِها) أي تنزل آية العذاب منّا على الكافرين والمنكرين ، حين
نردّ وجوها إلى أقفيتها فيمشي أصحابها القهقهرى (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) نخزيهم (كَما لَعَنَّا
أَصْحابَ السَّبْتِ) مثلما أخزينا الذين خانوا الله بيوم السبت من اليهود
فمسخناهم قردة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) أي أن إرادته تقع لا محالة فلا يتخلف المراد عنها.
٤٨ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ...) : أي أنه تعالى غفار للذنوب لمن يشاء أن يغفر له. ولكن
الشّرك به لا يغفره لأحد مطلقا ، لأنه بناء على قولهم لا يبقى فرق بين الشرك وغيره
حيث إن الشرك يغفر بالتوبة : وغيره لو كان غفرانه يحتاج إلى التوبة لكان الأمر
سيّان وهذا خلاف ظاهر الآية الشريفة والروايات وأقوال العلماء الكبار (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى
إِثْماً عَظِيماً) أي فقد كذب بقوله إن العبادة يستحقها غيره سبحانه واجترح
ذنبا كبيرا.
٤٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ ...) وهم أهل الكتاب الذين يمدحون أنفسهم فيقولون : نحن أبناء
الله وأحبّاؤه ولن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى. (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهّر وينزّه من الرذائل من يحبه (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي أن الله لا يبخس أحدا حقه ولو بمقدار ..
٥٠ ـ (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ ...) انظر يا محمد كيف يكذبون على الله في تحريف كلماته أو في
مدحهم أنفسهم (وَكَفى بِهِ) أي بكذبهم هذا وافترائهم ، (إِثْماً مُبِيناً) ذنبا كبيرا بينا.
٥١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) مر معناه. (يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أي بالأصنام. وقيل إن الجبت والطاغوت صنمان كانا يعبدان في
عصر الجاهلية. (وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا. هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أي يقولون لأبي سفيان وجماعته من المشركين هذه الأصنام
أهدى دينا من محمد وأصحابه.
٥٢ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ...) أولئك : إشارة لليهود الذين أخزاهم الله وأذلّهم (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ) يخزيه ويطرده من رحمته (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
نَصِيراً) فإنه لا معين له يدفع عنه دنيا وآخرة.
٥٣ ـ (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ...) استفهام إنكاري أي : ليس لهم حظ من ملك الدنيا (فَإِذاً) أي ولو فرض أنهم أعطوا ملك الدنيا (لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) النقير هو الخيط الرفيع الملتصق بظهر النواة. أي لا
يعطونهم شيئا زهيدا مهما بلغ في الحقارة دلالة على شحّهم وخساسة نفوسهم.
٥٤ ـ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) يعني : بل يحسدون الرسول وأهل بيته (ص) على ما تفضّل
سبحانه به عليهم من النبوة والإمامة (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ) أي أعطينا محمدا ، وأهل بيته ـ فهم آل إبراهيم ـ (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة والعلم والولاية (وَآتَيْناهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً) من افتراض طاعتهم على جميع الناس ، أو ملك يوسف وداود
وسليمان.
٥٥ ـ (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ...) أي فمن أهل الكتاب من صدّق بمحمد (ص) ومنهم من أعرض عنه
ولم يؤمن. (وَكَفى بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً) يعني يكفي لهؤلاء
الكافرين عذاب جهنم نارا مضطرمة متأججة.
٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ...) إن الذين كذّبوا أنبياءنا وجحدوا حججنا الواضحات سوف
نطرحهم في نار جهنم في الآخرة لن يموتوا فيها بل (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ) أي احترقت (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) نجددها بأن تعود إلى الحالة التي كانت عليها (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليتطعّموا ألم العذاب من جديد (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) مر معناه.
٥٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) ذكرهم عزّ وعلا ليظهر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، فقال
مستأنفا الكلام : والمصدّقون بالله ورسوله العاملون بما أمر والمنتهون عما نهى عنه
(سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ شرحها (لَهُمْ فِيها
أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) لهم نساء مطهّرات من كل دنس وقذارة (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي نجعلهم في ظل دائم لا حر فيه ولا برد كما هو شأن الظل
في الدنيا.
٥٨ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) إن الله يأمركم أن تردوا كل أمانة إلى صاحبها سواء كانت لله
وهي أوامره ونواهيه وتأديتها بإطاعته فيها أو للناس وقد ائتمنوكم عليها. (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وهذا أمر موجه للأمراء والحكّام والقضاة ليحكموا بالقسط
بين الناس وليعاملوهم بالسوية (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ) وتقدير الكلام : نعم شيئا يعظكم الله تعالى به ، وهو العدل
وأداء الأمانة (إِنَّ اللهَ كانَ
سَمِيعاً) لما تقولون (بَصِيراً) بما تعملون.
٥٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) قرن الله سبحانه الأمر بإطاعة الرسول بالأمر بإطاعته
للتنبيه على أن أوامره (ص) ونواهيه ملزمة كتلك الواردة في كتاب الله. (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ثم قرن طاعته وطاعة رسوله أيضا بطاعة أولياء أوامره (ص)
ونواهيه ملزمة كتلك الواردة في كتاب الله. (وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) ثم قرن طاعته وطاعة رسوله أيضا بطاعة أولياء أمور الناس
الذين هم آل محمد أي الأئمة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) أي إذا اختلفتم في شيء من أمور الدين (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) يعني ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنّة بسؤال من جعل القيّم
عليهما ، وهو رسول الله (ص) في حياته ، ثم عترته وأوصياؤه الحافظون لشريعته من
بعده. (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا. (ذلِكَ) يعني : ذلك الردّ إلى الله ورسوله وأولي الأمر (خَيْرٌ) من التنازع والاختلاف والقول بالرأي وبحسب الشهوات (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي وأحمد عاقبة.
٦٠ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ...) ألا تنظر ـ يا محمد ـ إلى الذين ادّعوا أنهم صدّقوك وآمنوا
(بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) من التوراة والإنجيل (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) أي أن يجعلوه حكما في النّزاع الذي قد ينشأ بين المسلمين
والكفار. والمقصود بالطاغوت هنا كعب بن الأشرف ، فإنه قد اختلف مسلمون منافقون مع
يهودي فدعا اليهوديّ المسلمين إلى محمد (ص) ليحاكمهم عنده ، فقال المنافقون بل
ندعوكم إلى كعب وهم يعلمون أنه ممن استزلّهم الشيطان وأنه طاغوت جبار لا ينبغي
التحاكم إليه. (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ) أي بالطاغوت الذي هو كعب وبكل طاغوت. (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالاً بَعِيداً) وينحرف بهم عن الحق. لأنه عرف فيهم النفاق وعرف أنهم من
أتباعه.
٦١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما
أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ...)
أي وإذا قيل
لهؤلاء المنافقين تعالوا لنتحاكم طبق القرآن وما يحكم به الرسول (رَأَيْتَ) يا محمد هؤلاء (الْمُنافِقِينَ) الذين أظهروا الإيمان بك وأبطنوا النفاق (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) يعرضون عنك إعراضا ويحملون غيرهم على الإعراض عن الحق.
٦٢ ـ (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
...) أي : فكيف تكون حالهم ، وما يصنعون إذا نالتهم من الله
عقوبة وحلّت بهم نكبة. (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما يفعلونه من النفاق والصدّ عنك (ثُمَّ جاؤُكَ) يا محمد بعد وقوعهم بالشدة. (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) يقسمون الأيمان بالله ـ كذبا وزورا (إِنْ أَرَدْنا) أننا ما كنا نريد بالتحاكم إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) إلّا طلبا للتوفيق فيما بيننا وتخفيفا عنك نحسن إليك به ،
وإبعادا لك عما يثير الضغائن والأحقاد ...
٦٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما
فِي قُلُوبِهِمْ ...) أولئك : إشارة إلى المنافقين الذين يعلم الله ما تنطوي
عليه قلوبهم من النفاق والخيانة ممن فضحهم في الآيتين المتقدمتين. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لا تعاقبهم وأشح بوجهك عنهم وذلك لمصلحة يعلمها الله. (وَعِظْهُمْ) بتخويفهم من الله (وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ) أي في حال خلوتك بهم إذ النصح في السر أشد تأثيرا من القول
جهرا. (قَوْلاً بَلِيغاً) أي قولا قويّا مؤثرا فيهم قيل هو تخويفهم بالقتل بسبب جريمة
نفاقهم عند إظهاره.
٦٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
لِيُطاعَ ...) أي ما بعث الله نبيا إلّا ليكون مطاعا فيما يأمر به أو
ينهى عنه (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمر محتوم منه سبحانه. (وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فلو أن هؤلاء القوم لمّا ظلموا أنفسهم بالنفاق (جاؤُكَ) تائبين (فَاسْتَغْفَرُوا
اللهَ) طلبوا أن يغفر لهم ما بدر منهم من ظلم (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي وطلب الرسول المغفرة منه سبحانه (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي متفضلا عليهم بقبول التوبة ، وبالرحمة ...
٦٥ ـ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) أي : فو ربّك لا يصيرون مؤمنين صادقين فيتخلوا عن خصلة
النفاق التي تجرهم إلى الهلكة. (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) يتقاضون إليك ويرضون بكل ما تحكم به (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي في اختلافاتهم وما التبس عليهم من الأحكام (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) أي لا يحصل لهم ضيق مما حكمت به ولا تبرّم (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وينقادوا لحكمك انقيادا راضيا بظاهرهم وباطنهم.
٦٦ ـ (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ...) : أي لو أوجبنا عليهم تخييرا قتل أنفسهم إما بتعريضها له
في حال الجهاد أو ترك ديارهم وأرضهم كما سبق وأوجبناهما على أسلافهم من بني
إسرائيل (ما فَعَلُوهُ) ما امتثلوه ولا نفّذوه. (إِلَّا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ) باستثناء بعضهم اليسير من المؤمنين الطائعين (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما
يُوعَظُونَ بِهِ) أي لو أنهم عملوا ما يؤمرون به وتمشّوا مع توجيهاتك
ونصائحك. (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) لكانت إطاعتك خيرا لهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي أقوى ثباتا لإيمانهم بحيث يصير إيمانا راسخا لا يزعزعه
شيء. وقيل : أشد ثباتا على ولاية علي (ع) لأن الآية نزلت فيه.
٦٧ ـ (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا
أَجْراً عَظِيماً ...) أي في حالة امتثال أوامرك واتّباع مواعظك كنّا نعطيهم من
عندنا أجرا كثيرا.
٦٨ ـ (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ولتولّينا إرشادهم إلى الطريق السويّ.
٦٩ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ...) أي من يعمل بأوامر الله وأوامر رسوله (فَأُولئِكَ) المطيعون لهما ، (مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) في الجنة وأغدق عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة. وهم (مِنَ النَّبِيِّينَ) أي الرّسل الذين بعثهم بالنبوّة (وَالصِّدِّيقِينَ) المصدّقين لرسلنا ، وفي كتاب العيون عن النبي (ص): لكل أمة
صدّيق ، وصدّيق هذه الأمة وفاروقها علي بن أبي طالب. (وَالشُّهَداءِ) الذين قتلوا في الجهاد (وَالصَّالِحِينَ) الذين صلح ظاهرهم وباطنهم. (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) ونعم الرفاق هم في الآخرة ...
٧٠ ـ (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ ...) ذلك : إشارة إلى مرافقة المذكورين في الجنة ما تفضل به
سبحانه على المطيعين (وَكَفى بِاللهِ) يكفي بالله (عَلِيماً) عارفا بالمطيع والعاصي والمؤمن والمنافق.
٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ ...) خطاب للمؤمنين : احذروا عدوكم بأخذ السلاح دائما (فَانْفِرُوا) أي هبّوا إلى الجهاد (ثُباتٍ) أي فرقة بعد فرقة (أَوِ انْفِرُوا
جَمِيعاً) أي أو توجّهوا إليه مجتمعين ...
٧٢ ـ (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ
...) وإن من عدادكم أيها المؤمنون منافقين يتثاقلون عن الخروج
مع النبي (ص) للجهاد ويثبّطون غيرهم عن الجهاد أيضا. (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) أي حلّت بكم كارثة كهزيمة أو قتل (قالَ) المنافق المبطئ : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيَ) شملتني رحمته (إِذْ لَمْ أَكُنْ
مَعَهُمْ شَهِيداً) أي حاضرا في الحرب فيصيبني ما أصابهم من القتل أو الهزيمة
..
٧٣ ـ (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ
...) أي غنيمة أو نصر (لَيَقُولَنَ) ذلك المنافق المبطئ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) يقول بتحسّر من باب حديث النفس : كأنها لم تكن بيني وبين
هؤلاء محبة وصداقة. (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ) أتمنى لو كنت رافقهم في خروجهم (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي أربح ربحا كثيرا من غنائم الحرب والسمعة بين الناس.
٧٤ ـ (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ
الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ...) أي فليجاهد في سبيل الدين الذين يبتغون بيع الدنيا الفانية
بالآخرة الباقية (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) أي من يجاهد في سبيل دين الله فيستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) أي ينتصر ، (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) نعطيه في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا كثيرا.
٧٥ ـ (وَما لَكُمْ ...) أي : وأي عذر لكم ـ في هذه الحال من كرامة الشهداء
والمجاهدين ـ (لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) تجاهدون في سبيل إعزاز دينه (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي في سبيل المستضعفين قيل : بأنهم جماعة من المسلمين بقوا
في مكة بعد الهجرة لحمايتهم والذبّ عنهم ، (الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي نجّنا بالخروج من مكة (الظَّالِمِ أَهْلُها) التي ذقنا مرارة ظلم أهلها من كفرة قريش ، (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي من عندك من يتولى شؤوننا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ نَصِيراً) أي ناصرا.
٧٦ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ ...) فالمؤمنون يقاتلون الكفرة في السبيل التي توصلهم إلى مرضاة
الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي في السبيل التي توصلهم إلى إرضاء الشيطان (فَقاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِياءَ
الشَّيْطانِ) أتباعه وأشياعه ، ف (إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي أن مكره ضعيف.
٧٧ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ...) ألا تنظر يا محمد إلى من قيل لهم في مكة قبل الهجرة
امتنعوا عن قتال الكفار (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أدوا ما سوى القتال مما فرض عليكم من الصلاة والزكاة
المفروضة. (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي فرض عليهم بعد الهجرة في المدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) جماعة منهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللهِ) يخافون القتل من الكفار كما يخافون الموت من الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أو : هنا بمعنى بل ، (وَقالُوا) معترضين ـ فيما بينهم وبين أنفسهم ـ على فرض القتال عليهم.
(رَبَّنا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) لماذا أوجبت علينا الجهاد (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) يا رسول الله (إِلى أَجَلٍ) وقت مؤخّر ولو (قَرِيبٍ) غير بعيد! (قُلْ) يا محمد : (مَتاعُ الدُّنْيا
قَلِيلٌ) أي أن ما فيها من نعم قليل بالنسبة لنعم الآخرة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) خير من الدنيا وما فيها لمن التزم تقوى الله وتجنّب معاصيه
، (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) ولا يصيبكم ظلم حتى لو بلغ مثل الفتيل الذي هو القشر
الرقيق الذي يكون في بطن النواة لأنه كالخيط المفتول.
٧٨ ـ (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ ...) يعني أن الموت يلحق بكم أينما تكونون ، حتى (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) أي في حصون (مُشَيَّدَةٍ) قوية محكمة البناء ... (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) أي نعمة ونماء (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) يعدّونها تفضّلا من الله ومنّة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي ما يسوؤهم كالجدب والقحط (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ
عِنْدِكَ) يا محمد (قُلْ) يا محمد : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) أي كلا الأمرين الخصب والقحط من عند الله (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) ما بال هؤلاء الجماعة (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) كأنهم لا يفهمون قولا ...
٧٩ ـ (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
...) خطاب للأمة عبر
النبي (ص) أي إن كل ما يصل إليك من نعم دينية ودنيوية فهي من الله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) يعني ما لحق بك ممّا يسوؤك (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي من عندك وتسببت إليها باختيارك (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بعثناك للخلق نبيا مفترض الطاعة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك وعلى كل شيء.
٨٠ ـ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ ...) لأن إطاعته سبحانه مقرونة بإطاعة رسوله. وعلى كل عاقل أن
يدرك ذلك ويعيه ، لأننا ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله. (وَمَنْ تَوَلَّى) أي ومن أعرض عن هذا القول ، وعصى وصعّر بخده. (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) فلم نبعثك حافظا لهم من الإعراض حتى يسلموا. أو لتحفظ
عليهم أعمالهم وتحاسبهم وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
٨١ ـ (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ...) يعني إذا أمرتهم بأمر يظهرون الطاعة والامتثال ، (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا (بَيَّتَ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي دبّروا في الليل خلاف ما يقولون من طاعتك (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) فهو سبحانه يسجّل في صحائفهم ما يدبّرون من الخلاف
ليجازيهم به (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) انصرف بوجهك عنهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) فوّض أمرك إليه (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) عنك ، يكفيك شرهم وما يبيتون.
٨٢ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) أما يتأملون في معاني القرآن وما فيه من مواعظ وتهديد ووعد
ووعيد وحكم وأمثال وتشريع ، ويتبصرون بما يحوي من كشف لسرائرهم الخبيثة ، ويرون ما
اشتمل عليه من إعجاز وبلاغة وقوة تذهب بأحلامهم فيعتبرون بأنه الكتاب الحق الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي من تصنيفك أو تأليف غيرك من البشر (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) يظهر في تناقض المعاني واختلاف المواضيع وتباين الأحكام. ويبدو
في اختلال النظم وفي خطإ سرد الأحكام أو في الخروج عن حدود الفصاحة والبلاغة.
٨٣ ـ (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ ...) يعني أن هؤلاء المنافقين أو ضعفة المسلمين إذا ورد عليهم
خبر عن تحركات العدو وهو الخوف أو عن ظهور المؤمنين على عدوهم وهو الأمن (أَذاعُوا بِهِ) نشروه وأعلنوه (وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ) أي لو رجعوا إليه لأخذ رأيه (ص) (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أي أئمتهم وأصحاب الرأي فيهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي أئمتهم وأصحاب الرأي فيهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي لعرف أولو الأمر كيف يستخرجون وجه الصواب فيه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ) يعني لو لم تكن رحمة الله وفضله العميم شاملين لكم (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) في الكفر وفي كل ما يوسوس به لكم (إِلَّا قَلِيلاً) سوى القليلين من أهل البصائر.
٨٤ ـ (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...) يا محمد جاهد الكفار والمشركين (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي لست بمسؤول إلّا عن نفسك (وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ) حثّهم على القتال (عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قريش ، فعسى أن يمنع قوّتهم وتجييشهم لحربك. (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً) أي أكثر قوة وأقوى عذابا.
٨٥ ـ (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ
لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ...) من يدفع عن مسلم شرا أو يوصل له نفعا. كان له حظّ من
الثواب على شفاعته بأخيه (وَمَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً سَيِّئَةً) عكس تلك (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
مِنْها) أي نصيب من وزرها (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي حفيظا وقادرا.
٨٦ ـ (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ...) أي إذا ألقي عليكم سلام من مؤمن فردوا عليه بأحسن مما قال.
(أَوْ رُدُّوها) أي بمثل ما قال هذا دليل على وجوب رد السلام على المسلم. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيباً) أي محاسب بدقة.
٨٧ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) مر معناه وجملة (لا إله إلا هو) إما خبر المبتدإ ـ الله ـ وإما
اعتراض ، والخبر : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : ليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب بالتأكيد (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ فيه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) أي خبرا ووعدا لا خلف فيه. والاستفهام هنا إنكاري يعني :
ليس أصدق منه سبحانه حديثا ولا أحد أصدق منه خبرا.
٨٨ ـ (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ ،
فِئَتَيْنِ ...) أي ما لكم أيها المؤمنون انقسمتم في أمر هؤلاء المنافقين
فرقتين ولم تتّفقوا على كفرهم. (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ
بِما كَسَبُوا) إذ ردّهم إلى حكم الكفار بما أظهروا من الكفر (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللهُ) أي : أترغبون ـ أيها المؤمنون ـ في الحكم بهداية من حكم
الله بضلاله قيل نزلت في قوم قدموا إلى المدينة من مكة ثم رجعوا إليها ومنها ذهبوا
إلى اليمامة ببضائع للمشركين فاختلف المسلمون في جواز غزوهم وقتالهم. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلاً) فالضالّ لا تجد طريقة لجعله من المهتدين.
٨٩ ـ (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا
...) يعني : تمنّوا أن تكفروا بالله ورسوله (فَتَكُونُونَ سَواءً) أي تستوون معهم في الكفر (فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أي : لا تتولوهم ولو أظهروا الإيمان (حَتَّى يُهاجِرُوا) أي يخرجوا من دار الشرك (فِي سَبِيلِ اللهِ) والطريق التي ترضيه وتعلي كلمته. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الهجرة في سبيل الدين (فَخُذُوهُمْ) أي اقبضوا عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : اقتلوهم أين ما أصبتموهم في الحل والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) أي صاحبا منهم (وَلا نَصِيراً) أي معينا.
٩٠ ـ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ...) استثنى سبحانه من الأمر لقتال الذين لا يهاجرون عن أرض
الشرك من اتصل منهم بقوم بينهم وبين المسلمين عهد بحلف أو جوار فلا يجوز حينئذ
قتالهم كحرمة قتال المسلمين لمن دخلوا معهم هم بعهد. (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت صدورهم. وهذا استثناء آخر عن الأمر بالقتال (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مع قومهم (أَوْ يُقاتِلُوا
قَوْمَهُمْ) معكم وهذا وما بعده نسخ بآية السيف. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) وهذا إخبار عن مقدوره تعالى ، فلو أراد فإنه يفعل ويجعلهم
يقاتلونكم. ولكنه لم يشأ بل قذف في قلوبهم الرعب .. (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) أي هاتان الفئتان اللتان استثناهما من الأمر بالقتال إذا
كفوا عنكم وكفّوا عنكم (وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) يعنى استسلموا وانقادوا لكم وصالحوكم (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم ...
٩١ ـ (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ ...) بإظهارهم الإسلام قيل : نزلت في جماعة كانوا يأتون النبي (ص)
فيسلمون رباء ثم يعودون إلى قريش ويرتدون إلى عبادة الأوثان يبتغون من ذلك أن
يأمنوا جانب المسلمين (وَيَأْمَنُوا
قَوْمَهُمْ) بإظهار موافقتهم لهم في كفرهم. (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها) أي كلّما دعوا إلى العودة إلى الشّرك رجعوا (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) يعني إذا لم يدعوا قتالكم (وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ولم يصالحوكم (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) يقبضوها عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ) أي اقبضوا عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) واقتلوهم أين وجدتموهم (وَأُولئِكُمْ
جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة في القتال.
٩٢ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ...) الخطأ خلاف الصواب. وهي في محل استثناء منقطع من الأول.
يعني : ما أذن الله تعالى ولا أباح لمؤمن فيما عهد إليه في شرعه أن يقتل مؤمنا ،
إلّا عن غير عمد والخطأ في هذا المورد هو أن يريد شيئا فيصيب غيره ، كما يجري
أثناء الصيد مثلا. (وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فعليه إعتاق رقبة مؤمنة من ماله خاصة على وجه الكفارة وكحق
لله سبحانه. (وَ) عليه أيضا وعلى عاقلته (دِيَةٌ) ثمن دم (مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ) مدفوعة إلى أهل القتيل تامة غير منقوصة تدفع إليهم بحسب
انصبة ورثته. (إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا) يعني إلّا أن يتركها الورثة صدقة على القاتل وعاقلته (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي إن كان القتيل من جماعة يناصبونكم الخصومة والحرب ولكنه
في نفسه مؤمن ولم يعرف قاتله بإيمانه فقتله ظانّا شركه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) يجب عليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة ، وليس عليه دية وعن ابن
عباس وقتادة والسري وغيرهم لأن أهله كفار وهو مؤمن والكافر لا يرث المؤمن. (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد وذمة وهم ليسوا بحرب لكم (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تجب على عاقلة قاتله (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) كفارة لقتله. وهذا هو المروي عن الصادق (ع) وقد اختلفوا في
كون المقتول كافرا أو مؤمنا ، فقيل إنه كافر ولكن ديته تلزم قاتله بسبب العهد
والذمة التي لقومه مع المسلمين وإن كان أهله كفارا ، كما عن الحسن وإبراهيم ، وهو
أيضا رأي أصحابنا ، إلا أنهم قالوا : تعطى ديته لورثته المسلمين دون المشركين. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي لم يقدر عتق الرقبة لعدم وجودها أو لعدم وجود ثمنها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فعليه وجوبا صيامهما متصلين (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) يعني ليتوب الله عليه (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
٩٣ ـ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
...) أي من قتل المؤمن عن قصد عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة
دمه. (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها) : أي مقيما أبدا (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ) سخط عليه (وَلَعَنَهُ) طرده من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً) هيأه له. ولا فرق بين القتل بالسلاح أو الخنق أو الحرق أو
الإغراق أو الضرب حتى الموت ، والديه هنا تلزم القاتل خاصة في ماله دون العاقلة.
وفي الآية وعيد شديد لمن يقتل مؤمنا متعمدا.
٩٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...) أي سافرتم في جهاد وغزو (فَتَبَيَّنُوا) أي ميّزوا بين الكافر والمؤمن حتى تتثبتوا من إيمانه أو
كفره قبل قتله. (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي حياكم بتحية الإسلام ، أو من استسلم لكم (لَسْتَ مُؤْمِناً) أي ليس إيمانكم صحيحا ولكنك خفت من القتل (تَبْتَغُونَ) أي تطلبون بذلك. (عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) يعني الغنيمة (فَعِنْدَ اللهِ
مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي أن في مقدوره نعم كثيرة لمن أطاعه (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قيل في معناه : كذلك كنتم أنتم مستخفين بإيمانكم خوفا من
قومكم وحذرا على أنفسكم. (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْكُمْ) بإظهار دينه حتى أظهرتم (فَتَبَيَّنُوا) كرّرها سبحانه للتأكيد بعد ما طال الكلام (إِنَّ اللهَ كانَ) أي لم يزل (بِما تَعْمَلُونَ) تفعلون (خَبِيراً) عليما قبل أن تعلموه.
٩٥ ـ (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) أي إن المؤمنين الذين يتخلفون عن الجهاد لا يتعادلون مع
المجاهدين من أهل الإيمان بأموالهم وأنفسهم ، لإعلاء كلمة الله ، اللهم إلا من قعد
عن الجهاد لعلّة في الجسم أو غيره. (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) ميّزهم وأعطاهم (دَرَجَةً) أي منزلة أعلى (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) الجنة. (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) بدليل ما نوّه به من الدرجات فيما يلي :
٩٦ ـ (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً
وَرَحْمَةً ...) درجات ، أي : منازل كرامة بعضها أعلى من بعض لا يشوب
نعيمها غم لمكان غفران الله لذنوبه وشموله برحمته (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) لم يزل عفوّا عن عباده ، متفضلا عليهم.
٩٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...) أي تقبض الملائكة أرواحهم في حال هم ظالمون لأنفسهم حيث
بخسوها حقها بكفرهم فجلبوا لها العقاب ، وحرموها من الثواب (قالُوا) أي الملائكة استهزاء (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من دينكم (قالُوا) يقصد الظالمين لأنفسهم (كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) استضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا فحالوا بيننا وبين
الإيمان. (قالُوا) الملائكة (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟) أي فتخرجوا من أرضكم إلى غيرها وتفارقوا من يمنعكم عن
الإيمان بالله ورسوله. (فَأُولئِكَ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) فأولئك الظالمون مسكنهم جهنّم (وَساءَتْ) أي كانت سوءا (مَصِيراً) أي محلا يصير إليه أهلها.
٩٨ ـ (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ...) أي هؤلاء الذين استضعفهم المشركون (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا
يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) فهم لا يقدرون على الخروج من مكة من بين المشركين لقلة
سعيهم ، ولجهلهم بالطريق
٩٩ ـ (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فلعلّه يغفر لهم (وَكانَ اللهُ
عَفُوًّا) أي لم يزل ذا صفح عن ذنوب عباده بفضله (غَفُوراً) ساترا لذنوبهم.
١٠٠ ـ (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ...) : أي ومن يفارق أهل الشرك ويفر من وطنه بدينه يجد في الأرض
متحولا من الأرض وفرجا ورزقا واسعا. (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي يفرّ بدينه من المشركين (ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ) أي يحلّ الموت ساحته قبل بلوغه أرض الإسلام (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي أخذ الله على نفسه أن يعطيه ثواب هجرته إليه. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) مر معناه.
١٠١ ـ (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ...) يعني إذا سافرتم وسرتم في الأرض (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : حرج أو اثم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) بأن تجعلوا الرباعية ركعتين في حال الأمن. (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خفتم فتنتهم لكم في أنفسكم أو في دينكم. وقيل أن
يقتلوكم. (إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة وبهذا شرعت صلاة الخوف وبيانها في قوله تعالى
:
١٠٢ ـ (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاةَ ...) شرع سبحانه ببيان كيفية صلاة الخوف فقال لرسوله (ص) : يا
محمد إذا كنت في أصحابك الخائفين من عدوّهم حين الضرب في الأرض (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بتمام حدودها ، وأنت تؤمّهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ) أي قسم منهم يقف (مَعَكَ) في الصلاة وليبق الباقون مترصدين للعدو (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي ليتقلد المصلون أسلحتهم تأهبا لما قد يحدث. (فَإِذا سَجَدُوا) يعني فرغوا من سجودهم للركعة الأولى (فَلْيَكُونُوا) أي المصلّين الذين اختتموا هذه الركعة (مِنْ وَرائِكُمْ) فليصيروا بعد فراغهم وراءكم مواجهين للعدوّ ومتيقّظين كحال
الطائفة الأولى من أصحابهم الذين وبعد انهائهم الركعة الأولى يتمون ركعة ثانية
ويتشهدون ويسلّمون والامام قائم في الركعة الثانية وهي في مواقف أصحابهم في مقابلة
العدو في حين يجيء الآخرون ويستفتحون الصلاة ويصلي بهم الامام الركعة الثانية فحسب
ثم يطيل تشهده حتى يقوموا فيصلّوا بقية صلاتهم التي هي ركعتان. (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
يُصَلُّوا) وهم الذين كانوا في مواجهة العدوّ (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) كما فعلت الطائفة الأولى (وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي تمنّوا (لَوْ تَغْفُلُونَ) تعتزلون (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) تشتغلون عنها (وَ) عن (أَمْتِعَتِكُمْ) التي بها بلاغكم في أسفاركم (فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي يحملون عليكم حملة واحدة. (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أي لا حرج عليكم (إِنْ كانَ بِكُمْ
أَذىً مِنْ مَطَرٍ) داهمكم وأنتم وجها لوجه مع العدوّ (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) يعني معلولين أو جرحى (أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ) أي تلقوها عنكم إذا ضعفتم عن حملها. (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) احترسوا من العدو كي لا يباغتكم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً) هيأ لهم عذابا مذلّا مخزيا ...
١٠٣ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ
فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ...) أي إذا فرغتم من الصلاة أيها المؤمنون وأنتم في مواجهة
أعدائكم ، فاذكروا الله على كل حال قياما وقعودا ومضطجعين (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) أي إذا اطمأننتم بزوال خوفكم من الأعداء فأتموا حدود
الصلاة ، وقيل : إنكم إذا استقريتم في أوطانكم فأتموا الصلاة ، وقيل : إنكم إن
استقريتم في أوطانكم فأتموا الصلاة ، وهو بعيد ، لأنه سبحانه يتكلم هنا عن صلاتي
القصر والخوف. (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) : أي إن الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة.
١٠٤ ـ (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ
...) ولا تضعفوا أيها المؤمنون في طلب القوم الذين هم أعداء الله
ورسوله ومحاربتهم (إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ) تتوجعون ، (فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) فإن المشركين يتوجعون من جراحهم كما تتوجعون. (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) ولكن يوجد فرق بينكم وبينهم هو أنكم تأملون من الله ما لا
يأملون من الظفر بهم في الدنيا والثواب في الآخرة. (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
١٠٥ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ ...) إنّا أنزلنا إليك يا محمد القرآن ناطقا بحق الله على عباده
(لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ) تفصل بينهم (بِما أَراكَ اللهُ) أعلمك وعرّفك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) نهي عن أن يدافع عن مسلم أو معاهد خان حقا من حقوق الناس
عليه.
١٠٦ ـ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أمر إلى الأمة كلها على وجه التأديب ووضع الحكم في هذا
الموضع ، من خلال المعصوم (ص) بالاستغفار عند الهم بالمخاصمة عن الخائن (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يصفح عن ذنوب المسلمين بلطفه ويترك مؤاخذتهم على معاصيهم
بسعة رحمته ومغفرته.
١٠٧ ـ (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ...) أي : ولا تخاصم دفاعا عن الذين يخونون أنفسهم ويظلمونها
بارتكابهم المآثم والمعاصي ، والخطاب يراد به الأمة من خلاله (ص). (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
خَوَّاناً) يبغض من صارت الخيانة عادة له (أَثِيماً) أي فاعل الإثم.
١٠٨ ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ...) أي يكتمون الخيانة عن الناس (وَلا يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) ولا يتستّرون من الله الذي يطّلع عليهم لأنه معهم أينما
كانوا وكيفما كانوا (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما
لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) أي يدبّرون في الليل عند بياتهم ، قولا يكرهه الله لأنه
كذب (وَكانَ اللهُ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) حفيظا عالما بأعمالهم كلها.
١٠٩ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الخطاب هنا للمدافعين عن الخائن موضوع الآيات فهؤلاء الذين
(جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) أي عنهم في هذه الحياة (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) أثناء هذه الحياة على الأرض (فَمَنْ يُجادِلُ
اللهَ عَنْهُمْ) ويدافع بين يديه عنهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا شاهد ببراءتهم يمثل أمامه سبحانه؟ ... (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي من يتولّى معونتهم؟
١١٠ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ...) أي ومن يفعل قبيحا مكروها أو يظلم نفسه بارتكاب المعاصي
بما دون الشرك (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ) أي يطلب المغفرة من الله بعد توبته النصوح (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) يلقه يمحو السيئات ويرحم العباد.
١١١ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما
يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ...) هو واضح نظير : لا تكسب كل نفس إلّا عليها. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
١١٢ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ...) أي : ومن يرتكب خطأ عن غير عمد ، أو يعمل ذنبا عمدا. ثم
ينسب ذنبه إلى بريء لم يفعله وقيل : الخطيئة : الشرك ، والإثم : هو ما دون الشرك. (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) أي كذبا عظيما (وَإِثْماً مُبِيناً) وذنبا ظاهرا.
١١٣ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ ...) خطاب للنبي (ص) قيل : فضل الله على النبي (ص) هو إنعامه
عليه بالنبوّة ورحمته : هي نصرته بالوحي. وقيل : فضله ، هو تأييده له بألطافه ،
ورحمته هي نعمته عليه ثم قيل : هما النبوة والعصمة. (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ) أي أضمرت فرقة من الذين كفروا (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي : يزيلوك عن الحق بشهادتهم للخائنين بالبراءة. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي : وما يزيلون عن الحق إلّا أنفسهم ، (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعني أن كيدهم لن يلحق ضررا بك لأن الله حافظك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي السنّة الشريفة. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ) يعني وعرّفك ما لم تكن تعرفه من الشرائع وغيرها. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) إنعامه عليك منذ أن خلقك إلى أن بعثك وجعلك خاتم النبيين. (عَظِيماً) كبيرا.
١١٤ ـ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ
...) اثنين. فلا خير فيما يتسارّون به فيما بينهم (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فإن نجواه تكون خيرا (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي أمر ببرّ لاعتراف العقلاء بحسنه (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي تأليف بينهم بالمودة. (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) يعني من يعمل ما تقدم ذكره (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) أي طلبا لما يرضيه (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) أي نعطيه (أَجْراً عَظِيماً) مثوبة عظيمة في كثرتها ومنزلتها.
١١٥ ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) : أي ومن يخالف الرسول مع إظهار العداوة له من بعد ما ظهر
له الحق بالحجة والدليل (وَيَتَّبِعْ) يسلك طريقا (غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) غير طريقهم الذي هو الإسلام (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) يعني نكله إلى من وكل نفسه إليه (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أي ونلزمه بدخول جهنم عقوبة له على ذلك (وَساءَتْ مَصِيراً) مر معناه.
١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ ...) إلى آخر الآية قد مرّ تفسيرها فيما تقدّم.
١١٧ ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِناثاً ...) أي : ما يدعون من دون الله تعالى غير إناث وهي أصنامهم
التي كانوا ينحتونها على صور الإناث. (وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي : وما يدعون إلا شيطانا ماردا في كفره شديدا متماديا في
عصيانه. وهو إبليس.
١١٨ ـ (لَعَنَهُ اللهُ ،) أي أبعده عن الخير (وَقالَ) أي الشيطان قال لما لعنه الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً) أي حظا معلوما.
١١٩ ـ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) بتزيين المعاصي لهم. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بخلودهم في الدنيا فينسون الآخرة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذانَ الْأَنْعامِ) أي بقطع آذان الأنعام وهو من عادات المشركين في الجاهلية
منهي عنه في الإسلام (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) يريد دين الله وأمره سبحانه بتحريم حلاله وتحليل حرامه. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا
مِنْ دُونِ اللهِ) أي يرتضيه ناصرا. وقيل ربا لنفسه ووكيلا وقائدا ، مؤثرا ما
يدعو إليه لعنه الله على ما أمر الله تعالى به ، ومتجاوزا طاعة الله إلى معصيته (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ظاهرا واضحا إذ استبدل الآخرة الباقية بالدّنيا الزائلة
والجنة بالنّار.
١٢٠ ـ (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ...) أي الشيطان بعد الناس بالأكاذيب ، ويمنيّهم بالأباطيل
والأوهام (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) والغرور هو إيهام النفع فيما فيه ضرر ، أي لا يكون لما
يعدهم أصل ولا حقيقة.
١٢١ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ...) أي من اتخذ الشيطان وليا فمنزلهم الذي يؤويهم جهنم (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي لا يلقون معدلا ومهربا عنها.
١٢٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : مر معناه في تفسير الآية ٥٧ من هذه السورة (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقّا لا خلف فيه ف (وعدا) مصدر دلنا
الكلام على فعله الناصب له : وحقا أيضا مصدر من حقّ يحقّ حقا ومعناه ثبت ووجب ولا
خلف فيه. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً) أي حديثا. والاستفهام إنكاري ، أي لا أحد أصدق من الله
تعالى في جميع العوالم.
١٢٣ ـ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ ...) أي لا يكون ما وعد الله به من الثواب تابعا لتمنّياتكم
أيها المؤمنون ، ولا تابعا لتمنّيات أهل الكتاب (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) من ارتكب شيئا من المعاصي يجازيه الله به إما في الدنيا أو
الآخرة لتمنّيات أهل الكتاب (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) من ارتكب شيئا من المعاصي يجازيه الله به إما في الدنيا أو
الآخرة وهذا هو العدل الرباني الذي لا يدانيه عدل. (وَلا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجد من يعمل السوء لنفسه من يدفع عنه عقوبة الله أو
ينصره وينجيه من عذابه.
١٢٤ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) ومن عمل الأعمال الصالحة ، ذكرا كان أو أنثى ، وهو مؤمن
بالله ورسله وملائكته وبما جاء من عنده (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) : أي ولا ينالهم ظلم ولو بمقدار النقير وهو الحفيرة
الصغيرة في ظهر النواة كناية عن القلة. وهو سبحانه يعبّر تارة بالذرّة ، وأخرى
بالنقير نفيا للظلم عن ساحته المقدسة.
١٢٥ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ...) أي ليس أصوب طريقة وأهدى سبيلا من الذي آمن بالله وأخلص في
عمله له ، حالة كونه محسنا في جميع أقواله وأفعاله. (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي اقتدى بدينه وهو الإسلام (حَنِيفاً) أي مستقيما ، مائلا عن سائر الأديان المنسوخة. (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي حبيبا ألبسه ثوب الخلّة دون سائر الرسل وأنقذه من نار
النمرود وجعله للناس إماما.
١٢٦ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) ملكا وملكا فهو الغني عن جميع مخلوقاته (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء من حيث
العلم والقدرة ومن جميع الوجوه.
١٢٧ ـ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ...) : أي يسألونك عن الفتوى وعن الحكم فيما يجب للنساء وعليهن.
فقل يا محمد الله يبين لكم عما سألتم في شأنهن (وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي ويفتيكم ما يقرأ عليكم في القرآن وتتعلّمون منه ـ وهو
أعلم بما فيه ، وبما قاله بشأن النساء و (فِي يَتامَى
النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) المراد بيتامى النساء هنّ البنات اليتيمات اللواتي كان
يمنع عنهن ارثهن ، ويمنعن من التزوّج بالغير باختيارهن لأكل مالهنّ وحقهن. فورد
الحكم في القرآن بحرمة ذلك والنهي عنه. (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوّجوهن. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ) أي ونفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار الذين كانوا
يحرمونهم حقهم وإرثهم (وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فأوجب إيصالهم جميعهم إلى حقوقهم كما شرح ذلك
فيما تقدم من الآيات المتعلقة باليتامى. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) أي ما تصنعوا من إحسان إلى هؤلاء اليتامى ـ صبيانا وبنات ـ
(فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً) أي عالما يجازيكم به.
١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها
نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ...) أي إن خافت المرأة أن يعرض عنها زوجها ويجفوها ويستعلي
عليها أو يطلقها. (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) أي يجب على كل من الزوجين أن يصلحا ما فسد بينهما (يُصْلِحا) بأن تهب جميع حقوقها التي كانت لها على زوجها حتى لا
يطلّقها. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق أو الجفاء على الأقل. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي جعل الشحّ حاضرا لها والغرض من إيرادها هنا هو بيان
بأنّ المرأة لا تسمح لنفسها بصرف النظر عن حقها وقسمها ، والرجل ـ كذلك ـ يضن بأن
يسمع لها ويتعبها في بيتها ولا سيّما إذا أحبّ غيرها وكرهها ، وفي تلك الحالة لا
بد من الافتراق ... إذا عري القلب عن الإيمان لأنه يشح بالطاعة ولا يبذل الانقياد
لأمر الله جلّ وعلا. وقد قال بعض العارفين : الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم لأنه
طبيعة ، خلقه الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص والحسد بعض العارفين : الشح في
نفس الإنسان ليس بمذموم لأنه طبيعة ، خلقه الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص
والحسد لابتلاء البشر ولمصلحة عمران الكون. وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على
القلب فيطاع ... (وَإِنْ تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا) أي تفعلوا أزواجا وزوجات فعلا حسنا من حيث المعاشرة
والاختلاط وتتّقوا النشوز وما يجرّه من أضرار الظلم بالزوجة أو الزوج ، مثل هذه
الظروف (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عارفا بما يكون منكم في أمرهن ومنهن في أمركم.
١٢٩ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ...) أي لن تقدروا على التعامل معهن بحيث يرضين كلهنّ منكم إذا
كان لأحدكم زوجات متعددات ولو حرصتم على العدل القلبي فلا تكلفونه ولا تؤاخذون
عليه. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) أي لا تقبلوا كل الإقبال على من ملكتم محبتها بحيث يحملكم
ذلك على الجور على صواحبها مما قد يجركم إلى ترك ما فرضه الله عليكم لهن من نفقة
وغيرها (فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ) أي أنها ذات بعل وكأنها ليست بذات بعل. (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) تصلحوا في القسمة بينهن والنفقة لهن وتتجنّبوا الميل
الكلّي امتثالا لأمر الله تعالى بحفظ الجميع. (فَإِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) يعفو عن التقصير السالف في حقهن ، ويرحم محاول العدل.
١٣٠ ـ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ ...) أي فإن لم يحصل الوفاق بين الزوجين بل حصلت النفرة فإن
يتفرقا بالطلاق حينئذ فإن الله يغني كلّا منهما من واسع رزقه وفضله (وَكانَ اللهُ) أزلا وأبدا (واسِعاً) جزيل الفضل ، (حَكِيماً) في تدبير خلقه.
١٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) مر معناه (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) أي أمرنا (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى وغيرهم (وَإِيَّاكُمْ) أي وأمرناكم أيها المسلمون (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) تجنبوا جميعا مخالفة ما يأمر به. (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تجحدوا وصيته (فَإِنَّ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مر معناه (وَكانَ اللهُ
غَنِيًّا) يعني أنه غنيّ عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) مستحقا للحمد حمد أم لم يحمد.
١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) مر معناه. (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) أي حافظا لجميع ما في الكون قادرا على تقدير أموره.
١٣٣ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ ...) أي أنه إذا أراد سبحانه يفنيكم أيها الناس (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يجيء بغيركم بدلكم ، (وَكانَ اللهُ عَلى
ذلِكَ قَدِيراً) أي قادرا على الإفناء والتبديل.
١٣٤ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ...) كالمجاهد الذي يطلب الغنيمة من وراء جهاده مثلا (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) أي عنده سبحانه الثوابين لأنه مالك الدنيا والآخرة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) مر معناه.
١٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ...) أي دائبين على القيام بالعدل قولا وفعلا (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ) أي أقيموا الشهادة الصادقة خالصة لله ولو كانت الشهادة
عليكم (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) أي على أبوي الشاهد أو ذوي قرابته. (إِنْ يَكُنْ) الشاهد أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً) إذ لا الغنى يجيز الشهادة على الغني ، ولا الفقر يمنع
الفقير عن إقامة شهادته حين الإدلاء بها. فلا بد من إقامتها في جميع الموارد. (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي أنه سبحانه أنظر للغني والفقير من سائر الناس (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ
تَعْدِلُوا) أي لا تعرضوا عن قول الحق والحقيقة ميلا مع هواكم النفسي
ومخالفة لأمر ربكم في إقامة الشهادة على وجهها (وَإِنْ تَلْوُوا) أي تماطلوا في
أداء الشهادة بالحق (أَوْ تُعْرِضُوا) تمتنعوا عن أدائها وإقامتها ، (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) يعلم ليّ ألسنتكم ، ويرى إعراضكم.
١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) الخطاب لكافة المسلمين الذين أظهروا الإسلام بألسنتهم ، (آمَنُوا) فصدّقوا بقلوبكم بحيث يتطابق ما في قلوبكم مع ما على
ألسنتكم ، (بِاللهِ) ربكم (وَرَسُولِهِ) نبيكم (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) قرآنكم (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ) الله (مِنْ قَبْلُ) على أنبيائه السابقين كالتوراة والإنجيل وغيرهما. (وَمَنْ يَكْفُرْ) أي ينكر ويجحد (بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لم يصدق بكل واحد من هذه الخمسة المسمّيات (فَقَدْ ضَلَ) أي فقد بعد عن الحق (ضَلالاً بَعِيداً) ضاربا في البعد.
١٣٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
...) يقصد بهم اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم
العجل (ثُمَّ آمَنُوا) بعد رجوعهم عن عبادة العجل. وقيل بأنهم النصارى آمنوا
بعيسى (ثُمَّ كَفَرُوا) يعني بهم اليهود والنصارى الذين كفروا بعيسى وكانوا
مأمورين بالإيمان به (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) أي بمحمد (ص) (لَمْ يَكُنِ اللهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي لا يعفو عن كفرهم وارتدادهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ولا يدلهم على طريق تنجيهم من عذاب السعير.
١٣٨ ـ (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) : أي أخبرهم تهكما بأن الله أعد للمنافقين في دينه عذابا
موجعا.
١٣٩ ـ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) فالمنافقون هم الذين مالوا إلى الكافرين وتولّوهم وأخلصوا
الود لهم وفارقوا المؤمنين ورضوا بالكفار من دونهم (أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟) يعني هل يطلبون عند الكفار العون والمنعة؟ (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فهو العزيز الجبار الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.
١٤٠ ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ ...) أي في القرآن (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ
آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أنكم إذا كنتم بين أناس يسخرون من آيات الله ، ويستهزئون
بما جاء من عنده (فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ) فلا تجالسوهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يتناولوا الحديث في غير القرآن وآيات الله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) لا فرق بينكم وبينهم إذ شاركتموهم المجلس وأقررتموهم على
استهزائهم بسكوتكم. (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) يجمعهم يوم القيامة في نار جهنم ، كما اجتمعوا في دار
الدنيا على أذى المؤمنين والاستهزاء بآيات الله.
١٤١ ـ (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ...) أي إن الكفار والمنافقين هؤلاء وتفصيل حال المنافقين.
والذين : بدل من المنافقين والكافرين ، أولئك ينتظرون نتائج حروبكم مع الكفار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) نصر منه (قالُوا) لكم : (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) ولو في قلوبنا فأعطونا من الغنائم حقّنا (وَإِنْ كانَ) حصل (لِلْكافِرِينَ) الذين حاربوكم (نَصِيبٌ) من النصر وكسب الغنيمة (قالُوا) أي قال المنافقون لهم : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ؟) يعني : ألم نمنعكم من المؤمنين ونجعلكم تغلبونهم بما زيّنا
لهم ، (وَنَمْنَعْكُمْ) نحفظكم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وبأسهم. (فَاللهُ يَحْكُمُ) بعدله (بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) وبين هؤلاء الكافرين والمنافقين يوم الفصل (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولو من طريق الحجة والبرهان إن لم يكن من ناحية القوّة
والغلبة. بل لا بدّ لهذا الدين أن يحفظه ربّ العالمين إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
١٤٢ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ
...) فالمنافقون الذين يخادعونكم بإظهار الإيمان وإبطان الكفر
لحقن دمائهم وحفظ أموالهم إنما يخادعون الله بزعمهم ، ويظنّون أن الحيل تنطلي عليه
كما تنطلي على الناس ، (وَهُوَ خادِعُهُمْ) بأن أمهلهم حتى يظهروا كل مكرهم وكيدهم في دار الدنيا ، ثم
هو مجازيهم بالعقاب الشديد في الآخرة (وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ) ليؤدّوها (قامُوا كُسالى) أي متثاقلين (يُراؤُنَ النَّاسَ) يقصدون بصلاتهم الرياء والسّمعة (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يصلّون إذا كانوا غائبين عن أعين المسلمين ، وإذا
ذكروا الله فإنما يفعلون من غير إخلاص ولذا وصفه بالقليل.
١٤٣ ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...) أي متردّدين بين الكفر والإيمان فهم لا مع المؤمنين على
بصيرة ولا مع الكافرين على جهالة (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي لن تجد له طريقا يكون به خلاصه من النار.
١٤٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) : يخاطب سبحانه المؤمنين ناهيا لهم عن أن توصلهم علاقتهم
بالكافرين بحيث يتولى هؤلاء شؤونهم ويباشرون قضاياهم ويتناصرون معهم من دون
المؤمنين لأنهم يصيرون بذلك مثلهم. (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أتبتغون بعملكم
هذا أن تجعلوا لله عليكم سبيلا إلى عذابكم وحجة واضحة على تكذيبكم بموالاتكم
للكافرين.
١٤٥ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ...) وعيد منه سبحانه للمنافقين بأنه سوف يلقيهم في أسفل طبقة
من جهنم (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيراً) ولا تجد ـ يا محمد ـ ناصرا لهؤلاء المنافقين ينقذهم من
عذاب الله.
١٤٦ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ ...) استثنى سبحانه منهم الذين تابوا من نفاقهم وأصلحوا نياتهم
وتمسكوا بكتاب الله وصدّقوا رسوله قولا وعملا (وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ) فصاروا لا يبتغون في أعمالهم وأقوالهم إلّا الله سبحانه (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنهم حينئذ يعدون من المؤمنين ويكونون معهم في الدارين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً) أي يعطيهم ـ يوم القيامة ـ ثوابا كثيرا.
١٤٧ ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ...) الاستفهام إنكاري ، والمعنى ليس لله من حاجة إلى تعذيبكم
في الدرك الأسفل من النار إن حمدتم الله على نعمه بعد إيمانكم به وبرسوله إذ لا
تضره معصية من عصاه ولا طاعة من أطاعه لأنه الغني. (وَكانَ اللهُ شاكِراً
عَلِيماً) أي لم يزل سبحانه مجازيا لكم على شكركم عالما بما تستحقونه
من الثواب على الطاعات.
١٤٨ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ ...) يعني أنه سبحانه يكره كلام السوء يقال علنا. (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي من لم يصل إلى حقه فقد استثنى سبحانه من الحكم المتقدم جهر
المظلوم بأن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء عند من يعينه في دفع ظلامته
، أو من يشتم فيرد على الشتيمة لينتصر لنفسه. (وَكانَ اللهُ) دائما منذ كان (سَمِيعاً) للأقوال ، (عَلِيماً) عارفا بالأعمال.
١٤٩ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ
...) أي إن تظهروا حسنا من القول أو الفعل أو تخفوا ذلك (أَوْ) إن (تَعْفُوا) تتجاوزوا (عَنْ سُوءٍ) في قول أو فعل (فَإِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا قَدِيراً) أي لا زال غافرا صفوحا عن خلقه قادرا على الانتقام منهم.
١٥٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ
وَرُسُلِهِ ...) أي ينكرونه تعالى
ولا يصدّقون رسله (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي يرغبون أن يتكلموا في وجود الله بجهة منفردة ، وفي رسله
وأنبيائه في جهة ثانية مستقلة عن الأولى. (وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كما فعل اليهود حين آمنوا بموسى وبمن قبله ، ثم كفروا
بعيسى وبمحمد (ص) وكما فعل النصارى حين آمنوا بعيسى وأنكروا نبوّة محمد (ص) (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا بين الإيمان ببعض ، والكفر ببعض.
١٥١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ...) الذين يمثّلون حقيقة الكفر. فلن ينفعهم التبعيض في الإيمان
(وَأَعْتَدْنا) وأعددنا (لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً) أي يوجع ويذل صاحبه.
١٥٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
...) أي صدقوا ، بخلاف الذين كفروا (وَلَمْ يُفَرِّقُوا) كالكافرين (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي آمنوا بهم جميعا. (أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) نعطيهم ثوابهم المستحق بإيمانهم بجميع ما أمروا به. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : مر معناه.
١٥٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ
تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ...) أي : يطلب منك اليهود أن تنزّل عليهم كتابا مكتوبا من عند
الله كما كانت التوراة مكتوبة في الألواح (فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى) وطلبوا منه (أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أعظم ممّا طلبوا منك (فَقالُوا أَرِنَا
اللهَ) دعنا ننظر إليه (جَهْرَةً) أي عيانا (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ) المهلكة ، فأحرقتهم (بِظُلْمِهِمْ) أنفسهم بسؤالهم ذاك (ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ) أي اتخذوه معبودا (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وبعد رؤية المعجزات الظاهرة والدلائل الباهرة (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تجاوزنا عنه برحمتنا لطفا بهم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي أعطيناه سلطة ظاهرة عليهم إذ أطاعوه بقتل أنفسهم
للتكفير عن ذنبهم العظيم.
١٥٤ ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ ...) أي ورفعنا جبل الطور كالمظلة فوق رؤوسهم لما رفضوا ما
جاءهم به موسى من تكاليف تهديدا باطباقه عليهم. (بِمِيثاقِهِمْ) يعني بسبب العهد المأخوذ عليهم بأن يعملوا بالتوراة
فيخافوا فلا ينقضوه. (وَقُلْنا لَهُمُ) أي بلّغناهم على لسان موسى (ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) : مر تفسير ذلك في الآية ٥٨ والآية ٦٥ من سورة البقرة. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا مؤكدا على الطاعة والامتثال.
١٥٥ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ...) ما : هنا مزيدة للتأكيد ، والباء سببية ، أي بسبب نقض
اليهود ما عاهدوا الله عليه عملنا بهم ما عملنا من العقوبات. (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) وجحودهم بحججه الدالّة على صدق رسوله (وَ) بسبب (قَتْلِهِمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريّا ويحيى (وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي مغلفة وقد مر معناه في سورة البقرة (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : مر معناه في تفسير الآية ٨٨ من سورة البقرة.
١٥٦ ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى
مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ...)
أي بكفرهم بعيسى (ع)
وبرميهم مريم بأعظم الكذب وهو الفاحشة.
١٥٧ ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ ...) وقالوا : إنا قتلنا المسيح (عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ) وصلبناه (رَسُولَ اللهِ) بزعمه استهزاء بنبوّته ورسالته (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) نفى الله سبحانه زعمهم قتل عيسى وصلبه (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي اشتبه عليهم الأمر حيث ألقى سبحانه شبه عيسى على من كلف
من قبل اليهود بمراقبة عيسى ورصد حركاته ليحيطهم بها فيقتلوه فعند ما دخلوا
لينفذوا مكرهم قتلوا صاحبهم هم باعتبار شبهه بعيسى فقالوا : قتلنا عيسى وصلبناه. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في عيسى (ع) من ناحية قتله وصلبه ، ومن ناحية رفعه إلى
السماء ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي في ريب من أمره. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) يقين (إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِ) لكنهم يتّبعون الظن ، (وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً) أي ما قتلوا عيسى حقا. ولكنه الظن والشك :
١٥٨ ـ (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ...) مر تفسيره في الآية ٥٤ و ٥٥ من آل عمران (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : مر معناه.
١٥٩ ـ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ...) المراد بأهل الكتاب هم الذين يكونون موجودين في عصر نزول
عيسى (ع) من السماء أيام ظهور القائم المنتظر (عج). فما من أحد من أهل الكتاب يشهد
نزوله حينئذ إلّا يؤمن به مؤكدا (قَبْلَ مَوْتِهِ) ويتوفى (ع) بعد أربعين سنة من خروج المهدي (ع). (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي أنه يشهد يوم القيامة بكفر اليهود.
١٦٠ ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) أي بسبب صدور ظلم اليهود لأنفسهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) ما كان حلالا من (طَيِّباتٍ) النعم التي كانت (أُحِلَّتْ لَهُمْ) كأجزاء كثيرة من لحوم البقر والغنم والإبل إلخ. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
كَثِيراً) أي بسبب منع اليهود لأناس كثيرين عن طريق الحق :
١٦١ ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا ...) الذي يتعاملون به (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي عن الربا (وَ) بسبب (أَكْلِهِمْ أَمْوالَ
النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بغير استحقاق من ربا ورشى في الأحكام وغيرها (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلْكافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا مهينا.
١٦٢ ـ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ ...) الراسخون بالعلم
هنا هم المتفقّهون بالتوراة من أحبار اليهود والمتعمقون في دراسة الثابتون على ما
فيه من عقائد ، كعبد الله بن سلام وغيره ممن اعترف بالحق منهم ، وقوله : منهم ،
متعلق بالراسخين الذين ذكرناهم. وضمير الجمع راجع إلى أهل الكتاب الذين حكى سبحانه
حالهم. (وَالْمُؤْمِنُونَ) أصحاب النبي (ص) من غير أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يسلمون مع إيمانهم بالله وبك وبما نزل عليك من ربك وبما
نزل على غيرك من الرسل ، ثم (وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) ويراد بهم الأنبياء والأئمة المعصومون (ع) (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على ما سبقه : (وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معطوف على ما سبقه أيضا ، أو هو مبتدأ خبره : (أُولئِكَ) الذين (سَنُؤْتِيهِمْ) نعطيهم (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا على أعمالهم كبيرا.
١٦٣ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى ...) هذه الآية الكريمة احتجاج قاطع وحجة دامغة تبطل قول
المقترحين على النبي (ص) أن ينزّل عليهم كتابا من السماء حيث يبيّن سبحانه فيها
بأن أمره في الوحي إليه (ص) كأمره في الوحي لغيره من الأنبياء الماضين الحذو
بالحذو من هذه الجهة ، وهم جميعا بأمره ووحيه يعملون ، من نوح إلى سائر المرسلين
من بعده ك (إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ
وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا) أعطينا (داوُدَ زَبُوراً) أي كتابا مثل كتبهم وصحفهم يسمى بهذا الاسم. والأسباط جمع
سبط وهو الحفيد. والمراد بهم هنا أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر الذين هم من ولد
يعقوب (ع) ، سمّوا بذلك للتفريق بينهم وبين أولاد إسماعيل وإسحاق (ع).
١٦٤ ـ (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
...) أي : بعثنا رسلا كثيرين حدّثناك عنهم (مِنْ قَبْلُ) أن نرسلك إلى الناس (وَ) أرسلنا أيضا غيرهم (رُسُلاً) كثيرين (لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ) وما حدثناك عنهم (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) حكى معه وخاطبه بغير آلة ولا لسان.
١٦٥ ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) رسلا : بدل مما سبقها. أرسلناهم ليبشروا المطيعين برحمة
الله ويخوّفوا العاصين (لِئَلَّا) من أجل أن لا (يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فلا يبقى لأحد عذر. (وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً حَكِيماً) : مر معناه.
١٦٦ ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ ...) أي إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك بما
أنزل إليك من القرآن المعجز وشهادة الله تعالى تكفيك ولا تحتاج معها إلى شهادة
أحد. (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) أي عالما به أو الذي فيه علمه. فلا اعتبار لموقف قومك منه
في عالم التقييم. أنّه تأليف بليغ وتركيب بديع ونمط يعجز عنه كل بيان ويكل دونه كل
لسان ، يشهد بكونه صادرا عن عالم القدس والربوبية ، بل (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) برسالتك يا محمد. وبأن كتابك من عند الله (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي شهادته سبحانه وحده تكفي في ثبوت المشهود به فهو خير
الشاهدين.
١٦٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي الذين لم يؤمنوا بالإسلام ، ومنعوا غيرهم عنه وعن الجهاد
في سبيل نشره. (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً
بَعِيداً) انحرفوا عن طريق الحق انحرافا بعيدا لأنهم إضافة إلى
ضلالهم هم أضلوا غيرهم.
١٦٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ...) أي لم يصدّقوا بمحمد فظلموه بتكذيبهم إياه وظلموا أنفسهم
وظلموا غيرهم بصدّهم عن الإيمان (لَمْ يَكُنِ اللهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لا يعفو عن ذنوبهم بل سوف يعاقبهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) ولا ليدلهم على طريق التوبة والرجوع عن كفرهم وغيّهم وهذا
هو سبب عدم شمولهم بالغفران.
١٦٩ ـ (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً ...) أي ولكن يهديهم إلى طريق جهنّم جزاء كفرهم وظلمهم (وَكانَ ذلِكَ) أي إيصالهم إلى جهنم وعدا (عَلَى اللهِ يَسِيراً) أمرا سهلا.
١٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ
الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ...) الخطاب لعامة الخلق. بأن قد جاءكم محمد (ص) بالدين المرضي
لكم من قبله سبحانه (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من عند ربكم والجار متعلق بجاء (فَآمِنُوا) أي وصدّقوا به وبالحق الذي جاء به (خَيْراً لَكُمْ) أي آمنوا خيرا لكم مما أنتم عليه من الكفر. (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تنكروا الحق الذي جاء به الرسول (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو مالكهما بما فيهما ، وهو غني عن إيمانكم وعنكم ، وهو
عارف بمناشئ جميع الأشياء ومصادرها بمقتضى خلقه لها حكيم في تدبيره لشؤونها.
١٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ ...) خطاب لليهود والنصارى ، أن لا تفرطوا ولا تجاوزوا الحق في
دينكم أما النصارى فقد غلوا في المسيح (ع) بإفراط ، واليهود غلوا فيه بتفريط
وبهتوا أمه (ع) وقالوا ولد سفاحا ، والغلوّ : مجاوزة الحد على كل حال فهؤلاء
أنكروه ، وأولئك جعلوه ابن الله وألّهوه وعبدوه. (وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بتنزيهه عن الشّرك والولد والتثليث. (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) فعيسى هو ابن مريم لا ابن الله بل هو عبد من عباده أرسله
إلى الناس برسالته (وَكَلِمَتُهُ) أي أمره الذي هو : كن (أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ) أوجدها وأحدثها في رحم مريم بقدرته الكاملة. أو أن كلمته
هي عبارة عن قصده سبحانه إحداث المسيح وتكوينه بإرادته ، وهذه مرتبة أعلى من مرتبة
التلفظ بكن. وكلامه سبحانه صفة قديمة قائمة بذاته. (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي روح مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى (ع). (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي صدقوا به وبهم جميعا (وَلا تَقُولُوا
ثَلاثَةٌ) خطاب للنصارى أي لا تجعلوا الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح
، ومريم أو لا تقولوا الله ثلاثة الأب والابن والروح القدس. (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي ائتوا بالانتهاء عن قولكم الشنيع خيرا لكم مما تقولون (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) بوحدة حقيقية لا تتجزأ ووحدانيته ذاتية لا شريك له (سُبْحانَهُ) تنزيها له (أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ) لأنه لم يلد ولم يولد (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) مر معناه.
١٧٢ ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ...) أي لن يستكبر ولن يترفع عن عبادة الله ، بل العبودية له هي
فخر الأنبياء والرسل وكل عارف به تعالى حق المعرفة ، والتذلل إليه في الطاعة عز
أيّ عز ، (وَلَا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ) يتكبرون ويتأنّفون عن شرف العبودية لله. (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) أي يمتنع عنها (وَيَسْتَكْبِرْ) يترفّع عن ذلك (فَسَيَحْشُرُهُمْ
إِلَيْهِ) يجمعهم إليه يوم القيامة (جَمِيعاً) لا يترك منهم أحدا ليحاسبهم ويجازيهم مطيعين كانوا أو
عاصين.
١٧٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ...) أي المؤمنون المصدّقون بوحدانيته ورسله ويعملون بطاعته
يعطيهم جزاء ذلك وافيا تاما بل يزيدهم على ما كان وعدهم عليها من الفضل (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا) من المعاندين والمتكبّرين عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا لم يذوقوا مثله في دار الدنيا. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يلاقون من يحميهم من العذاب ولا ناصرا ينقذهم من غضب
الله.
١٧٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) خطاب لجميع الناس بلا استثناء أحد ، ختم به جميع الآيات
البينات التي سبقت لينذرهم الإنذار الأخير ، إذ وصلهم من عند الله حجة واضحة وهو
رسول الله (ص) (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي القرآن الكريم الذي هو النور الساطع والبرهان القاطع. وعن
الصادق (ع): انه ولاية علي بن أبي طالب (ع). فلا عذر لكم أيها الناس في الكفر بعد
أن أنزل الله إليكم من عنده ما يكفي لأن يدلكم إلى طريق الهدى ويجنبكم مزالق الكفر
والضلال.
١٧٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ ...) أي صدّقوا رسولنا وصدّقوا بما جاء في كتابنا وتمسكوا
بإيمانهم ونبيّهم وقرآنهم (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) والرحمة هي عطفه ولطفه تعالى ويتفضل عليهم بإحسان زائد على
ما يستحقونه (وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يدلّهم على نفسه ببراهينه ، فيسلكون بهدايته دين
الإسلام ، الذي هو الطريق المستقيم ، ويحصّنون إسلامهم بولاية علي (ع) وقد سكت
سبحانه عن ذكر الكافرين هنا استخفافا بهم ولأنه كرر ذكر أنّ مصيرهم إلى النار.
١٧٦ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ) : أي : يسألونك يا محمد (قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والكلالة لغة : التعب. وقد تجيء كلّل بمعنى : أحاط.
أما معنى الكلالة
اصطلاحا فهم قرابة الإنسان ما عدا الوالدين والأولاد ، كالإخوة والأعمام ونظائرهم.
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي إن مات إنسان (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يعني أنه كلّ (وَلَهُ أُخْتٌ) لأم وأب ، أو لأب فقط (فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ) تملك هذا النصف إرثا بالفرض ، وترث النصف الآخر بالرد بحسب
مذهبنا الشيعي (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي في صورة كون الميت هو الأخت والكلالة منحصرة في أخيها
فقط. وتقسم تركته تنصيفا بين الأختين إذا لم يوجد غيرهما لقوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) تأخذانه بالفرض وتأخذان الباقي تنصيفا بالرد. (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً ، رِجالاً
وَنِساءً) فإذا كانت الكلالة للميت مؤلفة من رجال ونساء (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) أي يعطى للذكر سهمان وللبنت سهم (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام ويظهرها (أَنْ تَضِلُّوا) مخافة أن لا تعرفوا وجه تقسيم المواريث في هذه الحالة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي عالم بجميع الأشياء وبكافة أمور معاشكم ومعادكم.
سورة المائدة
وهي مدنية ، وآياتها ١٢٠ آية
١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ ...) العقد هو الاتفاق الذي يحصل بين طرفين أو أكثر لغاية تحقق
مصالح المتعاقدين. وهو تعالى يقصد به هنا العبادات والمعاملات وجميع ما يتعاقد
عليه الناس والمؤمنون في مقاصدهم وبعد محاوراتهم ، وفيما كلّفهم الله وألزمهم به
من الإيمان به عزّ اسمه وبملائكته ورسله وحلاله وحرامه وجميع فرائضه وسننه ... (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وهذا شروع ببيان عقوده تعالى وأحكامه. والبهيمة ـ لغة ـ كلّ
حيوان لا يميز لما في صوته من الإبهام ، أو هي كل ذات أربع. والمراد بها الإبل
والبقر والغنم. (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) أي سوى ما يذكر لكم منعه وحرمته في آيات أخرى. (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ) فهذا بعض ما تلا علينا حرمته. فإنه يحرم على الإنسان كلّ
ما يصطاده في حال الإحرام (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) من تحليل المحلّلات ، وتحريم المحرّمات ، على ما توجبه
الحكمة وما تقتضيه المصلحة ولا رادّ لحكمه.
٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) تحلوا ، من أحلّ : أي تصرّف بالأمر على أنه مباح. والشعائر
جمع شعيرة ، وهي ما كان شعارا وعلما ، وهي هنا مناسك المواقف والطواف والسعي
والعمرة والمواقف وسائر أفعال الحج. والمراد بالنهي عن التحليل هو النهي عن تحريفه
والتصرف فيه لإخراجه عن وجهه ، فلا ينبغي إحلال شيء من فرائض الله ، (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الشهر الذي حرّم فيه القتال. وأريد من الشهر الجنس
فيشمل النهي مجموع الأشهر الأربعة التي حرم فيها القتال ، ذو القعدة وذو الحجة
ومحرّم ورجب ... فلا تتعاملوا حسب تحليلكم : لا بشعائر الله ، ولا الأشهر الحرم (وَلَا الْهَدْيَ) أي الحيوان الذي يهدى إلى بيت الله من الإبل أو البقر أو
الغنم ، فإنه ليس لأحد أن يتعرض له بسوء ما دام مسوقا إليه ولم يصل إليه. (وَلَا الْقَلائِدَ) أي الشيء الذي يقلّد به علامة على أنه هدي فلا يتعرض له
أحد حتى يصل سالما إلى محل ذبحه وتضحيته ... (وَلَا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي قاصدين إياه أي فلا تحلوا وتمنعوا أيّها المؤمنون قوما
قاصدين المسجد الحرام (يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنْ رَبِّهِمْ) أي يطلبون إحسانا وثوابا منه تعالى (وَرِضْواناً) وأن يرضى عنهم. (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) يعني إذا حللتم الإحرام وشئتم التصيّد فاصطادوا فلا جناح
عليكم عند ذلك ولا جرم ، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ) أي ولا يحملنّكم بغضاء قوم. (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي فلا يكسبنّكم بغض هؤلاء القوم الاعتداء عليهم بالانتقام
وإلحاق الضرر بسبب صدّكم عن المسجد الحرام ، (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي تعاضدوا على العفو وتجنّب الهوى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) أي لا تتساعدوا على ما فيه ذنب واعتداء (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) يعني أنه يجازي من يخالف قوله أعظم جزاء.
٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) تلا سبحانه من المحرمات : البهيمة التي تموت دون ذبح
وتذكية. والدم المسفوح عند الذبح ثم حرم ما لا يقبل التذكية كالخنزير الذي يحرم
أكل أي شيء منه. (وَ) حرم أيضا (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ) أي ما ذكر عند ذبحه غير اسمه تعالى والإهلال هو رفع الصوت.
(وَ) حرمت (الْمُنْخَنِقَةُ) أي التي خنقت (وَالْمَوْقُوذَةُ) التي ضربت حتى ماتت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي وقعت عن صخرة أو سطح أو في بئر ثم ماتت (وَالنَّطِيحَةُ) التي نطحها كبش أو بهيمة مثلها فماتت من النطح. (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) والمراد به فريسة السّباع من الحيوانات المفترسة ، فقد نهى
الله تعالى عن أكلها إلا بشرط تقع فيه الحلّية إذا كانت قابلة للتذكية الشرعية
التي أناطها بها. (وَ) كذلك (ما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) جمع نصاب. وهي أحجار كانت حول الكعبة يهل عليها ويذبح
عندها لغير الله والفرق بينها وبين الأصنام ، أنها أحجار والأصنام تماثيل كانت
تعبد. (وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام هي جمع : زلم ، والاستقسام بالأزلام هو طلب معرفة
ما يقسم له مما لا يقسم له بالأزلام. وقيل هو الميسر. (ذلِكُمْ) هذه كلها (فِسْقٌ) أي خروج عن طريق الحق والصلاح ، أو هو الذنب. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ) أي لم يعد لهم أمل أن يبطلوا دينكم فترجعوا مشركين (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي لا تخافوهم وخافوا معصيتي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) أتممت ما تحتاجون إليه في تكليفكم من الحلال والحرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أكملت فضلي عليكم بولاية علي بن أبي طالب (ع) ورضيت لكم
الإسلام طاعة لي. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ) أي من حكم عليه الاضطرار في مجاعة بحيث لم يجد سوى هذه
المحرّمات ولحفظ حياته من الهلاك (غَيْرَ مُتَجانِفٍ
لِإِثْمٍ) يعني غير مائل أو متعمد لإثم. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ...) أي يسألونك يا محمد مستفهمين بعد ما مرّ من تحريم وتحليل
اللحوم في الآية الشريفة السابقة ف (قُلْ) لهم : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ) وهي جمع طيّب : وهي ما تشتهيها النفوس وترغب فيها الطّباع (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي أحل لكم أكل لحم ما تحمله لكم الكلاب التي علّمتموها
حمل ما تصطادونه من الحيوانات بطريقة علّمكم الله تعالى إياها لتعتبر لحوما مذكّاة
إن هي ماتت حين حملها وقبل وصولها إليكم. (وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْهِ) أي اذكروا اسم الله حين ترسلون الكلب لجلب الطريدة أو
تطلقون النار لصيدها. (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا مخالفته في هذا الموضوع. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مر معناه.
٥ ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
...) أراد سبحانه بكلمة : اليوم ، الوقت الذي نزلت فيه الآية
الشريفة وما يتصل به إلى يوم لقائه فمنذ ذلك اليوم وإلى يوم القيامة أحلّت لكم
جميع ما يستطاب (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس على فرض أنهم
أصحاب كتاب. واختلف في الطعام ما هو وما المراد به؟ ... وعن الإمام الصادق (ع) هو
مختصّ بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى تذكية ... (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ) فلا جناح عليكم أن تطعموهم وأن تتعاملوا معهم بالأطعمة
وغيرها وفق ما شرع الله ... (وَ) كذلك (الْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ) أحلت لكم ، العفيفات من نسائكم المؤمنات. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هن اللواتي أسلمن من محصنات أهل الكتاب. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي إذا دفعتم ما قرّرتم لهن حتى يرضين بزواجكم ، بشرط أن
تكونوا (مُحْصِنِينَ) أعفّاء (غَيْرَ مُسافِحِينَ) لا زانين بهنّ (وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدانٍ) وغير متخذين أصدقاء وصديقات يزنون بالسرّ. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي يجحد الإيمان ويتنكّر له (فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ) أي ذهب سدىّ لأنه فاسد (وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين لأنهم لم يجنوا ثمرة عمل عملوه ولا اكتسبوا
ثواب خير فعلوه.
٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) أي هذه الآية الكريمة يبيّن الله سبحانه كيفية كلّ من
الوضوء والتيمم وموردهما ، ويعلّم كيفية كل واحد منهما فعلا فعلا فيقول عز اسمه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وحدّ غسل الوجه من قصاص الشّعر إلى آخر الذقن طولا ، وما
دارت عليه الوسطى والإبهام عرضا فاغسلوه بإراقة الماء عليه من يدكم اليمنى وتكرير
الغسل إلى أن تصل المياه إلى كل جزء منه. (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرافِقِ) فاغسلوها ، من آخر المرافق ، أي ما يرتفق عليه أي يتكأ ،
إلى أطراف الأصابع من دون نكس وهذا هو مذهب أهل البيت (ع) ، بحيث لا يبقى جزء في
هذا الحد إلّا وقد وصله ماء الوضوء. (وَ) بعد ذلك الغسل (امْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعب هو العظم النابت في القدم عند معقد الشراك والمعنى :
امسحوا بعض رؤوسكم وبعض أرجلكم من أطراف الأصابع إلى الكعب من كل رجل. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) بالاغتسال وهو أن تغسلوا جميع البدن استعدادا للصلاة وقبل
مباشرتها. (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) : مر معناه في الآية ٤٣ من سورة النساء (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ حَرَجٍ) أي ما فرض الله عليكم هذه الطهارات ليوقعكم في ضيق وتعب (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي يأمركم بتلك الطهارات من أجل تنظيف أبدانكم من الأوساخ
وإزالة الخبث عنها وإزالة جميع الأقذار والأدران التي قد تعلق بالأيدي وتفرزها
الأجسام. (وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بما ذكر لكم من التشريع في هذه المواضيع (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون نعمه.
٧ ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ
...) أي لا تنسوا فضل الله عليكم (وَمِيثاقَهُ الَّذِي
واثَقَكُمْ بِهِ) هو العهد الذي أخذه عليكم في عالم الذرّ بالإيمان به
وبرسوله وتمت المواثقة ، أي التعاهد والتعاقد ، عليه بين يدي ربكم. وقيل بأن
المراد بالميثاق بيعة الرضوان وقيل : المراد بها بيعة الحديبية التي هي كسابقتها
تجديد عهد له (ص) عليهم ، وتشديد ميثاق على الأخذ بما أمر والعمل بما جاء به. فلا
تنسوا : (إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وعينا ما قلت ، ونطيعك فيما تأمر وتنهى. (وَاتَّقُوا اللهَ) مر معناه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما فيها من أسرار وبما يختلج فيها من أفكار.
٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ ...) أي اجعلوا قيامكم وانبعاثكم إلى العمل لله ، يعني خالصا له
تعالى ومحضا لما يرضيه. ولفظة : قوّامين ، تدل على المبالغة ، فينبغي لكم أن
تكونوا شديدي القيام والمسارعة للأمور التي يطلبها سبحانه منكم. (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ) أي لا يحملنكم بغض الكفار لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي على الجور عليهم (اعْدِلُوا) أي اعملوا بالعدل فالعدل (هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى) لاتّقاء ما يغضب الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ) تقوى حقيقة قد طلبها سبحانه مكررا حيث (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) : مر معناه.
٩ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) وعد الله الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الطاعات واجبات
ومندوبات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عفو وثواب جزيل ... والجنة. وليعلم أن فعل : وعد ، له
مفعولان ، أحدهما : الذين آمنوا. والثاني : لهم مغفرة. وكلاهما منصوبان محلا.
١٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا ...) بعد ذكر وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة عقّبه سبحانه
بالوعيد للكافرين والذين جحدوا الله ورسوله وكذّبوا بدلائل الله وبراهينه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي أهل نار السعير وأصحابها. فانها معدة لهم وهم فيها
ماكثون لأنهم المعدّون لها وهي بانتظارهم.
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة خاصة منّ بها عليهم (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي حاول جماعة (أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أي أن يبطشوا بكم ، ومعنى بسط اليد هو مدها إلى المبطوش به.
وحين أرادوا الفتك بكم رأف سبحانه بكم. (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) أي منعها وجعلها مكفوفة منقبضة قصيرة عن أن تنالكم بسوء
والمقصود محاولة قتل يهود بني النضير لرسول الله (ص) فأخبره جبرائيل (ع) بنيتهم
وأنجاه الله منهم. (وَاتَّقُوا اللهَ) مر معناه. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأنه كاف من توكل عليه وهو حسبه.
١٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) أي أنه تعالى عاهد اليهود ، على الوفاء منهم بما أخذ عليهم
من عهد. (وَبَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيباً) بعدد أسباط بني إسرائيل جعل لكل عشيرة نقيبا هو الذي يفحص
عن أحوال جماعته وتكون له الرئاسة عليهم. فالنقيب هو الرئيس ، وقد قيل بأن هؤلاء
النقباء كانوا في عصر موسى (ع) وكانت لهم الوزارة في زمنه ثم كانوا أنبياء من بعده
، وقيل أيضا إنهم أوصياء ولكنه قول لا يعتدّ به. والله سبحانه لم يذكر شيئا يكشف
عن حقيقة حالهم فالسكوت عما سكت عنه تعالى أولى. (وَقالَ اللهُ إِنِّي
مَعَكُمْ) أعينكم عليهم وأنصركم. (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ) يا بني إسرائيل (وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ) أي أعطيتموها (وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي) فصدّقتموهم. (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي احترمتموهم. (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي بذلتم في سبيل الله من أموالكم بلا منّة ومن غير رياء.
بل خالصا لوجهه سبحانه وهذا هو القرض الحسن. (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فأعفو عن ذنوبكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) واضح المعنى (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ مِنْكُمْ) أي بعد الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) يعني ضاع عن طريق الهداية.
١٣ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
لَعَنَّاهُمْ ...) أي ابعدنا اليهود عن رحمتنا بإخلافهم لذلك العهد الذي
أخذناه منهم بأن مسخناهم وعذبناهم بصنوف العذاب. وما زائدة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي يابسة غليظة فلم ندخل فيها من رحمتنا لتلين ، فتحجرت ،
ومنهم من قرأها : قسيّة ، مبالغة في قساوتها ورداءتها ، بحيث صاروا : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يزوّرون الأحكام ويغيّرون الأوامر والنواهي وما يجيء من
عند الله. وهذا منتهى الذم لهم. (وَنَسُوا حَظًّا) أي تركوا نصيبا وافرا (مِمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ) ونهتهم أو أمرتهم به التوراة كوجوب اتّباع محمد (ص) (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ
مِنْهُمْ) أي لا يزال ينكشف لك ـ يا محمد ـ خيانة جماعة منهم اتخذوا
الخيانة دأبا ودينا لهم. (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) لا يكونوا خائنين ، بل آمنوا به (ص) واتبعوه ، وهم الذين
أوصاه (ص) بالكف عنهم ورعايتهم ليثبتوا على الإيمان فقال له : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أي تجاوز عن بعض سقطاتهم ، وتسامح عما يبدو منهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنه محسن غاية الإحسان.
١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا
نَصارى ...) أي : ومن الذين سمّوا أنفسهم بهذا الاسم مدّعين أنهم أنصار
الله وهذه الآية معطوفة على سابقتها (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) وشرطنا عليهم عهدا كما شرطنا على اليهود من قبلهم (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) يعني : غفلوا وتركوا نصيبهم الذي كان قد كتب لهم في حال
الوفاء بالعهد واتّباع محمد (ص) (فَأَغْرَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : أوقعنا في قلوبهم عداوة بعضهم لبعض وكره بعضهم بعضا
إلى يوم لقاء الله أو إلى يوم خروج المهدي (عج) ولا يمكن أن يزول الخلاف بين فرقهم
إلا يومذاك. فطوائف النصارى تخلو قلوبها يومئذ من العداوة والبغضاء لأن الكل
يصيرون مسلمين متآخين بعد أن يظهر الله الإسلام على الدين كله بيد الحجة (عج) ،
ولذلك يسمى عصر خروجه (عج) بعصر القيامة الصغرى. أما يوم القيامة الكبرى وبعث
الناس بعد موتهم فسيحاسب الله النصارى الذين بقوا على الكفر وماتوا عليه (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما
كانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنه تعالى يخبرهم يومئذ بما عملوا وبما فعلوا.
١٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا ..) يا أيها اليهود والنصارى قد بعثنا رسولنا الذي وعدناكم به (يُبَيِّنُ لَكُمْ) يوضح لكم (كَثِيراً مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي صفات وأوصاف نبيّ آخر الزمان (ص) وكثيرا مما كتمتم من
معلوماتكم الموجودة في التوراة والإنجيل عنه (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) مما تخفونه (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ) هو هذا النبيّ محمد (وَكِتابٌ مُبِينٌ) واضح المعاني هو القرآن الكريم.
١٦ ـ (يَهْدِي بِهِ اللهُ ...) أي : يرشد ويدل (مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) أي : الذي سلك السبيل المؤدية إلى رضاه (سُبُلَ السَّلامِ) يعني طرق الرضى والتسليم ... (وَيُخْرِجُهُمْ) أي المتّبعين لرضوانه (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الجهل والكفر (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان وضياء الحقيقة المتجلّية بالإسلام. (بِإِذْنِهِ) أي بإجازته ولطفه وتوفيقه. (وَيَهْدِيهِمْ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى الطريق المستقيمة وهي الإسلام حيث يصلون من خلاله إلى
الجنة.
١٧ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا ...) أكّد سبحانه بحرف التحقيق كفر جميع الّذين قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ) لأن المسيح عليهالسلام عبد مخلوق مرزوق ، خلقه بقدرته ، وجعله معجزة للتدليل على
عظمته ، وجعله نبيا في المهد ليكون دليلا على أمره ورسولا إلى عباده ، فما هذه
الجرأة منهم على الله؟ (قُلْ) لهم يا محمد : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ
اللهِ شَيْئاً) أي من عنده وله قدرة تفوق قدرة الله تعالى ، (إِنْ أَرادَ) وشاء (أَنْ يُهْلِكَ) يميت (الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ) الذي اتّخذتموه ربّا ، (وَأُمَّهُ) مريم (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) يفنيهم بأسرهم؟ ... (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يملكهما مع ما فيهما من كائنات (هُوَ) يملك (ما بَيْنَهُما) من شموس وكواكب ومجرّات ، فالمسيح وأمه (ع) سيّان مع بقية
الأشياء والكائنات بالنسبة للوجود فهما مقهوران له تعالى كغيرهما ، وكيف يمكن أن
يكونا معبودين وقد أوجدا ويمكن أن يفنيا ، وهما محتاجان للأكل والنوم ومفتقران
لرحمة الله كسائر مخلوقاته؟ (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كيف يشاء وحين يشاء بلا منازع ولا حاجة لمعين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء مهما عظم في عالم الإيجاد.
١٨ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ
أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...) أي : وادّعى هؤلاء أنهم أبناء الله وأنه تعالى يحبهم وأنهم
ليسوا كغيرهم من الناس. فأنت يا محمد (قُلْ) لهم موبّخا ومستهزئا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ) ويزجّ المذنب منكم في النار مع أن الأب يشفق على ولده فلا
يعاقبهم؟ فكيف إذا كان يحبهم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) كبقية البشر (مِمَّنْ خَلَقَ) لا تزيدون على الناس بقرابة ولا تتمتعون بأفضلية ، كلّ
بحسب وزره (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يغفر للمؤمنين المطيعين ويعاقب الكفرة العاصين (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) مر معناه (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي مرجع الموجودات جميعا علويّها وسفليّها يردها إليه
بقدرته ويجازي كل عامل طبق عدالته.
١٩ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ...) مر معناه. (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ
الرُّسُلِ) أي حين انقطاع الوحي مدة طويلة ، فبعث نبينا (ص) حيث لم
يكن نبي ولا وصي يبين للناس ما اختلفوا فيه. (أَنْ تَقُولُوا) غدا يوم القيامة : (ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ) أي نبيّ يبشرنا برحمة الله ويدلنا على صراطه المستقيم. (وَلا نَذِيرٍ) يخوّفنا من سخطه إن نحن اجترأنا على معاصيه. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) هو محمد (ص) (وَاللهُ) ينذركم بقدرته لأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) أي مستطيع.
٢٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ...) أي : اذكر يا محمد لهؤلاء المعاندين الذين كانوا يعصون أمر
نبيّهم موسى (ع) عند ما قال لهم (يا قَوْمِ اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي فضله (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ) اختارهم لهدايتكم ، يقال إن عددهم بلغ ألف نبي في مدة ألف
وسبعمائة سنة كانت بين موسى وعيسى (ع). (وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً) سلاطين كطالوت وداود وسليمان (وَآتاكُمْ ما لَمْ
يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي أعطاكم ما لم يعط غيركم في عالمي زمانكم من النعم
ووسائل القوة. والتي لم تشكروا الله عليها بمقدار ما اغتررتم بها وطغيتم.
٢١ ـ (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ ...) أي أن موسى (ع) قال لقومه : إن الله يأمركم أن تدخلوا ـ بعد
هذا التيه ـ إلى أرض بيت المقدس (الَّتِي كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ) أي قدّر وكتب ذلك في اللوح المحفوظ (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) لا ترجعوا القهقرى منهزمين خوفا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فتبوؤا بالخسران في الدنيا والآخرة.
٢٢ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً
جَبَّارِينَ ...) فأجابوا بأن فيها جماعة قوية ذات بأس شديد وكان أهلها من
العمالقة (وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أي لن ندخلها ما دام هؤلاء الجبابرة فيها. (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا
داخِلُونَ) إذ لا طاقة لنا بالكون معهم.
٢٣ ـ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ
...) قيل إن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا وكانا
يخافان الله (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) بالإيمان الصادق. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
الْبابَ) أي فاجئوهم بدخول باب قريتهم (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) أي منتصرون. (وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي سلّموا الأمر إليه تعالى إن كنتم مصدّقين بقوله ووعده.
٢٤ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها
أَبَداً ما دامُوا فِيها ...) : أي العمالقة وتمردوا بذلك على نبيهم ولم يعبأوا بمقالة
الرجلين المؤمنين وامتنعوا عن دخول تلك القرية مستعملين النفي بلن. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) الذي أوحى لك بهذا الأمر (فَقاتِلا) العمالقة وحدكما ... (إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ) لا نشترك بحرب معكما بل ننتظر نصركما وغلبتكما!
٢٥ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا
نَفْسِي وَأَخِي ...) شكا موسى (ع) بثّه إلى ربه بعد عصيان قومه فلم يطمئنّ إلى
أحد سوى نفسه وأخيه هارون (ع) (فَافْرُقْ بَيْنَنا
وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : افصل بيننا وبين هؤلاء المنافقين الخارجين عن أمرك.
٢٦ ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً ...) فقد حرّم الله سبحانه عليهم دخول الأرض المقدسة مدة أربعين
سنة بسبب عصيانهم. (يَتِيهُونَ) أي يضلون ويضيعون (فِي الْأَرْضِ) التي هم فيها ـ وهي صحراء التيه من سيناء ـ (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ) أي فلا تحزن على القوم الخارجين على أوامر الله.
٢٧ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ ...) أي واقرأ عليهم يا محمد خبر ابني آدم قابيل وهابيل بالصدق
وقيل إن الخطاب لموسى (ع) (إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً) وهو ما يتقرب به العبد إلى الله عزوجل فيبذله في سبيله كالضحيّة وغيرها (فَتُقُبِّلَ) أي قبله الله تعالى ورضيه (مِنْ أَحَدِهِما
وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) بل رفضه لأن قابيل الذي قرّبه لله حاسد لم يقصد به وجه
الله تعالى. (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا قول من لم يتقبل الله قربانه لأخيه الذي تقبّل قربانه
مؤكدا ذلك باللام والنون. (قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ) يرضى القربان والعمل وهذا قول من تقبّل قربانه (مِنَ الْمُتَّقِينَ) الذين يخافونه ويطلبون رضاه.
٢٨ ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ...) أي إذا مددت يدك إلى لتقتلني (ما أَنَا بِباسِطٍ
يَدِيَ) وقرئ بسكون الياء (إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ) فإني لا أمدّ يدي لقتلك يا أخي (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وأخشى غضبه وسخطه.
٢٩ ـ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ ...) أريد أن ترجع من فعلتك هذه آثما مضاعف الإثم تحمل ذنبي
وذنبك. وكلامه هذا يدل على أنه هو أيضا قادر على قتل قابيل الذي هو أكبر منه سنا
ولكنه لا يريد أن يفعل هذا. (فَتَكُونَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) : أي فتصير بذلك من الملازمين للنار وذلك عقاب العاصين.
٣٠ ـ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ...) المعنى أن نفسه الخبيثة سهّلت له قتل أخيه وجعلته طوع يديه (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) فخسر دنياه وآخرته.
٣١ ـ (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ ...) فإن قابيل لمّا قتل أخاه ورآه ميتا وقف متحيّرا لا يدري ما
يصنع؟ وماذا يفعل ليخفي هذه الجثة عن والديه وإخوانه وعن السباع؟ وكيف يسترها
ويواريها عن الأنظار؟ فوقع نظره على طائر ـ هو الغراب ـ (يَبْحَثُ) أي يحفر الأرض (لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ) أي جثة (أَخِيهِ) الميت. فتعلّم طريقة دفن أخيه وقال : (قالَ يا وَيْلَتى) أي له الويل والحزن (أَعَجَزْتُ) ما قدرت (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) وأستر جثته وأدفنه كما دفن هذا الغراب أخاه؟ ... (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي على قتله أخاه حين لا ينفع الندم ...
٣٢ ـ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) يعني من أجل قصة هابيل وقابيل ، فرضنا وقضينا وقدّرنا على
بني إسرائيل ، وغيرهم طبعا. ولكنه خصهم بالذكر لأنهم أهل شغب وفتن واعتداءات. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ) أي من غير قصاص ، بحيث يقتل القاتل بمن قتله فقط. (أَوْ) بغير (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) أي فتن وشغب موجب للقتل كقطع الطريق والشرك فإنه يتحمل إثم
كل قاتل من الناس لأنه يكون بفعله قد سهّل القتل لغيره ، ومن زجر عن قتلها بما فيه
حياتها فقد أحيا الناس بسلامتهم منه. وفيه أقوال أخر. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا
بِالْبَيِّناتِ) أي بالبراهين لإتمام الحجة على بني إسرائيل وعلى جميع
الناس سيما بعد إنزال الكتب السماوية عليهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) الذي كتبناه عليهم من القصاص الشديد في الآخرة (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي متجاوزون عن الحق وعن حدود الشرع : المسرفون هم الذين
يستحلّون المحارم ويسفكون الدماء كما ورد في المجمع عن الصادق (ع).
٣٣ ـ (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ...) أي أن الله وضع حدا لمن يحاربون أولياء الله والمؤمنين
بشهر السلاح وقطع الطرق وغيرها وهو (أَنْ يُقَتَّلُوا ،
أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ... أي فإن قتل فعليه القتل ، وإن زاد عليه بأخذ المال فقط
فجزاؤه مضافا إلى القتل أن يصلب للفضيحة والعبرة ، وإذا أخذ المال فقط فجزاؤه أن
تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط بلا تجاوز إلى أحد فإنما عليه النفي
من بلده إلى بلد آخر ، يتوب حقيقة أو يموت أو يخرج من بلاد الإسلام. (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) أي أن ما ذكر من عقاب هو لفضيحتهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) والإبهام في عذابهم يشير إلى شدته وعظمه. وفي هذا دلالة
على بطلان قول من ذهب إلى أن إقامة الحدود تكفير للمعاصي ، لأنه سبحانه بين أن لهم
في الآخرة عذابا عظيما مع أنه أقيمت عليهم الحدود ، نعم قد استثنى سبحانه الذين
عناهم بقوله :
٣٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ...) هؤلاء هم الذين يتوبون عن أفعالهم قبل أخذهم واقتداركم
عليهم. (فَاعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يقبل التوبة ، ويعفو عن المذنبين ويرحم عباده ...
٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ...) أي حاذروه وتجنّبوا ما يغضبه (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ) اطلبوا واسطة تقربكم إلى رحمته ورضاه. (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) وحاربوا الأعداء لرفع كلمة الله ... (لَعَلَّكُمْ) أي عساكم (تُفْلِحُونَ) أي تفوزون دنيا وآخرة.
٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...) أكّد سبحانه مكررا أنه لو ملك الذين كفروا كل ما على وجه
الأرض من الأموال (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ
مَعَهُ) بحيث يصير ضعفي ما على الأرض (لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوه فدية
لأنفسهم ، تقيهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ
الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ما قبل منهم فدية ، (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) موجع مهيأ حاضر لا يدفع عنهم.
٣٧ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ ...) أي أن الكفار يتمنّون ويرغبون في الخروج من النار يوم
القيامة (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنْها) إلى الأبد إذ لا وسيلة لديهم توصلهم إلى ذلك. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم ، مستقر. لا ينفك عنهم ولا ينفكون عنه.
٣٨ ـ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) هذه الآية تتناول حدّا من الحدود التي فرضها الله على
معصية معينة. فقد قال سبحانه اقطعوا يد السارق أو السارقة بكيفية محدّدة وشروط
منصوصة في السنة الشريفة. إذا ثبت جرمهما شرعا. (جَزاءً بِما كَسَبا) عقابا موافقا لما جنياه من الإثم ، و (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي انتقاما منه (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه. وأصل الحكم بقطع يد السارق مما أجمع عليه فقهاء
الإسلام سواء كان السارق ذكرا أو أنثى وان اختلفوا في بعض جزئياته وشروطه.
٣٩ ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ ...) أي ندم على سرقته وظلمه لنفسه ولغيره ، وأصلح ببراءة ذمته
وردّ ما سرقه إلى صاحبه قبل أن يقدر عليه الحاكم. (فَإِنَّ اللهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٤٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) على ما في السابق ، ثم يقول له : ألم تتيقّن ـ يا محمد ـ بأن
ربك يملك السماوات والأرضين يتصرف فيهن بلا منازع (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) من عباده العصاة (وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) من التائبين النادمين المنيبين إليه ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذو قوة تقهر كل شيء ولا يقوم لها شيء.
٤١ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...) يا محمد : لا تحزن لاستعجال من يرمي نفسه في الكفر من
هؤلاء المنافقين ، ولا لتظاهرهم بإعلانه كلما سنحت لهم الفرصة إلى ذلك. فهم (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) فإيمانهم لم يتجاوز حدود القول باللسان دون العقيدة
القلبية الصادقة. (وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا) أي اليهود المعاندون فهم (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) أي : كثيرو الاستماع إلى الكذب ، يستغرقون وقتهم وطاقاتهم
فيه. (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) كثيرو الاستماع لكلام طائفة أخرى من اليهود لم يحضروا إليك
ـ يا محمد ـ بغضا لك (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يغيّرون المقصود به ، ويميلونه عمّا أراد الله له ، (يَقُولُونَ) أي المحرفون يقولون للمنافقين الذين يستمعون إليهم. (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي إن أفتاكم محمد (ص) بهذا الحكم المحرّف فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وإن حكم لكم بخلاف ذلك فكونوا حذرين ولا تقبلوا فتواه. (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي اختباره لفضيحته وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تقدر أنت ولا أحد أن ينجيه من الفضيحة المهلكة غير
الله سبحانه (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لأنهم اختاروا تدنيسها بالكفر والنفاق فأوكلهم الله إلى
اختيارهم بعد أن علم أنهم ليسوا أهلا لرحمته كما هو شأنه سبحانه مع المؤمنين. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) بدفع الجزية ، وبإجلائهم عن المدينة ، وبظهور الإسلام
عليهم. وبكسر شوكتهم وطردهم من حصونهم ومعاقلهم (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ينتظرهم وسيخلدون فيه إلى أبد الأبد.
٤٢ ـ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ ...) كرّر سبحانه كونهم سمّاعين للكذب ليبيّن أن غاية اهتمامهم
كانت منصبّة على الكذب والاستماع الكثير إليه. وهم إلى جانب ذلك كثير والأكل
للحرام. لأن أكّال صيغة للمبالغة. وقد سئل الصادق (ع) عن السحت فقال : الرّشى في
الحكم وثمن الميتة ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغيّ ، وأجر الكاهن ، وفي
رواية : ثمن العذرة سحت. (فَإِنْ جاؤُكَ) أي : إذا أتاك هؤلاء المتجرئون على الله يا محمد للتحاكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ) ولك الخيار بالحكم بينهم ، أو بالإعراض عنهم وعدم الحكم
بينهم. (وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) لا يمكن أن يحصل لك أذىّ من جرّاء الحكم ولا من جرّاء عدم
الحكم. (وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) الذين يعدلون مع الناس في قولهم وفعلهم.
٤٣ ـ (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ...) كيف يتحاكمون عندك وهم لا يعتقدون بنبوّتك وغير مؤمنين
برسالتك ، في حين أن الحكم الذي يطلبونه منك منصوص في كتابهم التوراة التي فيها
حكم الله. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي يعرّضون عن الحكم الحق حتى ولو طابق حكم كتابهم
السماوي. (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا بمصدّقين بما في كتابهم ، ولا بحكمك المطابق له.
٤٤ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها
هُدىً وَنُورٌ ...) يؤكد سبحانه أن في التوراة ما يهدي الناس إلى الحق ، وما ينير
لهم طريق الرشاد ، مثلها مثل القرآن الكريم (يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي أنبياء بني إسرائيل ومن أسلم على أيديهم واهتدى بهداهم.
(لِلَّذِينَ هادُوا) أي لليهود المصدّقين بالله وأنبيائه. (وَ) كذلك (الرَّبَّانِيُّونَ) أي الروحانيون (وَالْأَحْبارُ) الرؤساء الدينيون (بِمَا اسْتُحْفِظُوا
مِنْ كِتابِ اللهِ) أي بما كانوا متعاهدين بحفظه من التوراة التي أنزلها الله (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي شاهدين على تطبيق أحكامه ، (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) تخافوا الناس (وَاخْشَوْنِ) خافوا جانبي (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تبيعوها بالثمن الزهيد عنادا وجهلا ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ) وبدّل حسب هواه (فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) واضح المعنى.
٤٥ ـ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) أي ألزمنا اليهود بما فيها ، من أن من قتل نفسا محترمة
بغير جرم موجب للقتل فلا بدّ من قتله (وَالْعَيْنَ) إذا فقئت عدوانا ، تفدى (بِالْعَيْنِ) أي عين الجاني (وَ) كذلك (الْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ) يفدى بالأنف حين جدعه ظلما (وَالْأُذُنَ) التي تشرط أو تجتذّ (بِالْأُذُنِ) يفعل بها ما فعل بغيرها (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ
وَالْجُرُوحَ) إذا حصلت ظلما فهي (قِصاصٌ) أي ذات قصاص ينظر بشأنه أهل الحكم ويقدّرون أرشه أو جزاءه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي عفا وتنازل عن حقه قربة إلى الله (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي صدقة عنه وتكفيرا لذنوبه. وفي الكافي عن الصادق (ع):
يكفّر عنه من ذنوبه بمقدار ما عفى من جراح غيره. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص أو العفو ، (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) لأنفسهم ولغيرهم.
٤٦ ـ (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ...) يعني وأتبعنا على آثار النبيّين وهي الطريق التي سلكوها
بعيسى (ع) فسار على نفس الطريق التي سلكها سلفه ، (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مؤيدا لما سبقه (مِنَ التَّوْراةِ) كتاب اليهود (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ) أعطينا عيسى كتابه السماوي الذي (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) كبقية الكتب السماوية يهدي الناس إلى الحق وينير لهم طريق
رشادهم (وَ) قد جعلنا إنجيله (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) كما أن عيسى (ع) صدّقها وأثبت ما فيها من أحكام. (وَ) جعل فيه (هُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) يهتدي به الناس ويستفيدون من مواعظه وآياته وبيّناته.
٤٧ ـ (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ...) أمر تهديدي منه تعالى لأتباع عيسى (ع) بأن لا يتجاوزوا
الإنجيل في أحكامهم ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاسق : أي الخارج عن طريق الحق والصلاح.
٤٨ ـ (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ..) الخطاب لمحمد (ص) يبيّن له أنه أنزل عليه القرآن المجيد
بدين الحق الذي لا ريب فيه ، وجعله (مُصَدِّقاً) موافقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة والإنجيل وما سبقهما من الكتب السماوية. لأن
المراد بالكتاب هنا جنسه. (وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) أي متسلطا عليه ومحتويا له. ومراقبا ومحافظا ، وشاهدا عليه
وعلى أصله غير المحرّف إما بالنص أو بالتفسير والتأويل والتقديم والتأخير ، وقد
حصل لها ذلك كلها باستثناء القرآن. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) لك فيه من أحكام (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) أي لا تمل مع ميولهم الفاسدة (عَمَّا جاءَكَ مِنَ
الْحَقِ) فقد أصبحت ـ كقرآنك ـ مهيمنا عليهم ، (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) الخطاب عام للأمم طرّا ، فالله عزّ وعلا ، قد جعل لكل أمة
شرعة تنير لها درب حياتها وطريقة تنظم شؤون تلك الحياة. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) يعني لو أراد لجعلكم متفقين على دين واحد ، (وَلكِنْ) جعلكم أمما مختلفة (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أنزل إليكم من الشرائع المختلفة (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي بادروا ـ أيها المؤمنون ـ وسارعوا إلى مزاولة كل ما هو
خير وعمل صالح (إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) معادكم وحسابكم (جَمِيعاً) بلا استثناء أحد. عند البعث والنشور ، يوم يجمعكم الله
بأمره (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) أي بحقيقة ما كنتم تتنازعون بشأنه من اختلاف العقائد.
٤٩ ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ ...) قد مرّ تفسير شبيهتها (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ وَ) لكن (احْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ) أي انتبه إلى مكرهم لتحويلك (عَنْ بَعْضِ ما
أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي عن أي شيء مما أوحى به تعالى إليك من الأحكام (فَإِنْ تَوَلَّوْا) انصرفوا عنك (فَاعْلَمْ أَنَّما
يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) تيقن يا محمد أن تولّيهم سيكون سببا لأن يضربهم فيؤذيهم
ببعض تلك الذنوب (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي خارجون عن طريق الحق والصلاح.
٥٠ ـ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ...) أفيريدون حكم
الجاهلية ويطلبونه ، وكل حكم جاهلي ليس فيه صلاح ولا مصلحة لأنه مبني على الأهواء
الرعناء ... (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً) أي : ليس أحسن منه تعالى حكما صالحا لمصالح الناس و (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يصدّقون ويؤمنون تمام الإيمان.
٥١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ...) يخاطب سبحانه المؤمنين ، وينهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى
(أَوْلِياءَ) وهي جمع مفردها : وليّ ، أي من يقوم مقام الشخص في جميع
أموره عند الحاجة فاليهود والنصارى (بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا ينبغي للمؤمنين أن يتولّوهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي من يخلص لهم الولاء فإن حكمه كحكمهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) فالله لا يتولّى هداية الظالمين بل يتركهم لاختيارهم.
٥٢ ـ (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ...) والمراد بالمرض هو النفاق والمراد هنا خاصة هو عبد الله بن
أبيّ وأضرابه ممن أظهروا نفاقهم (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي يجدّون في معاونة اليهود وموادّتهم و (يَقُولُونَ نَخْشى) أي نخاف (أَنْ تُصِيبَنا
دائِرَةٌ) أي أن تحل بنا مصيبة. (فَعَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) لرسوله (ص) ... (أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ) أي : أمر يكون فيه إعزاز المؤمنين وإذلال المشركين ... (فَيُصْبِحُوا) يصيروا (عَلى ما أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) ما أضمروه من الخبث والنفاق (نادِمِينَ) متحسّرين على الشك الذي يخامر نفوسهم في أمر النبيّ (ص).
٥٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي أن المؤمنين يقولون متعجبين (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) حلفوا به (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) حلفا مغلظا (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟) وواضح أن هذا الاستفهام إنكاري ، أي ليس الأمر كذلك بل
المنافقون مع اليهود باطنا ، ولذلك (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) أي بطلت (فَأَصْبَحُوا
خاسِرِينَ) للدنيا والآخرة.
٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ...) خطاب للمؤمنين والارتداد هو الرجوع عن الإسلام بعد اعتناقه
، (فَسَوْفَ يَأْتِي
اللهُ بِقَوْمٍ) أي يستبدلهم بقوم آخرين (يُحِبُّهُمْ) الله (وَيُحِبُّونَهُ) فلا يخالفونه (أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) أي ليّني الجانب على المصدقين بالله ورسوله (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أي أشداء عليهم ، (يُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) يعني يقاتلون لإعزاز دينه وإعلاء كلمته (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) لا يعيرون سمعهم لمن يلوم قسوتهم في الحق. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي هذا التوفيق لكونهم كذلك (يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ) أي يعطيه من هو أهل لذلك (وَاللهُ واسِعٌ) موسع في عطاياه (عَلِيمٌ) عارف.
٥٥ ـ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) الخطاب للمؤمنين أي أن المتولي لأموركم بنحو الحصر هو الله
ورسوله والمؤمنون وهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) في حال نزول الآية الكريمة بدليل لفظة : يقيمون التي هي
فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال ، ومثلها : (وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) أي يتصدقون حينئذ ، أي حين نزول الآية الكريمة ، (وَهُمْ راكِعُونَ) أي حال الركوع للصلاة فانحصرت الولاية بعد الله تعالى ،
وبعد رسوله الكريم (ص) بمن كان ساعتئذ يفعل الصدقة وهو راكع دون غيره من سائر
العالمين في ذلك الوقت وهو بالإجماع علي بن أبي طالب (ع).
٥٦ ـ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) فإن الذي يتّخذ الله تعالى ، ورسوله (ص) والّذين آمنوا ـ وهم
من ذكرنا في الآية الشريفة السابقة ـ أولياء يكون من حزب الله ، (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) المنتصرون.
٥٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا ...) يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله ابتعدوا عن (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً) أي : الذين يستهزئون ويتلاعبون بدينكم ، (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) أي اليهود والنصارى (وَ) فهم أيضا (الْكُفَّارَ) عبدة الأصنام. (أَوْلِياءَ) بجميع معاني التولّي فارفضوا ولايتهم كلها (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا ما يغضبه واعملوا ما يرضيه ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدّقين بما جاء من عند الله.
٥٨ ـ (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ...) المناداة للصلاة تكون برفع الأذان الذي يدعو إلى الصلاة.
فيهزأ بصلاتكم المشركون والكفار ويظنونها لعبا. (ذلِكَ) أي هذا الاستهزاء ، كاشف (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَعْقِلُونَ) لأن العقل بذاته ـ يهدي الى نور الحقيقة ، ويجنّب الإنسان
ظلمة الضلالة. ومن مشى في الضلالة كشف عن أنه فاقد للعقل فيضيع بجهله.
٥٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا ...) أي قل يا محمد لأهل الكتاب : هل ثارت نقمتكم علينا ، (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) أي صدّقنا به وبصفاته (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ) على الأنبياء السابقين؟ (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فاسِقُونَ) خارجون عن المبادئ الدينية والخلقية.
٦٠ ـ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذلِكَ ...) أي إنكم تنقمون علينا إيماننا بالله ورسله وكتبه ، فهل
أخبركم بأسوأ من هذا (مَثُوبَةً) وأجرا (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة؟ (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي : سخط عليه (وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) حين مسخ أصحاب السبت منهم ، كما عنى كفرة المسيحيين إذا
مسخ الكفار بمائدة المسيح خنازير. (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي الشيطان والجبابرة والظّلمة و (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأنهم من أهل جهنم (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ) وأكثر ضياعا عن طريق الحق ...
٦١ ـ (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ...) يتكلم عزّ اسمه عن منافقي اليهود ، حيث كانوا يقولون لكم
إذا حضروا عندكم آمنّا (وَ) حالة كونهم (قَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ) واعتنقوه (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) حين أتوكم (بِهِ) فلا يؤثر فيهم ما سمعوا منك يا محمد (وَاللهُ أَعْلَمُ) وأعرف منك ومن جميع الناس (بِما كانُوا
يَكْتُمُونَ) من خبث طينتهم وسوء سريرتهم ...
٦٢ ـ (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ
فِي الْإِثْمِ ...) فأنت ـ يا محمد ـ ترى أكثر اليهود يتهافتون على ارتكاب الذنوب
(وَ) يتراكضون إلى (الْعُدْوانِ) أي ظلم الناس (وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ) أي أموال الناس بغير رضاهم كالرشوة وغيرها (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فعملهم ذاك بئس العمل.
٦٣ ـ (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ ...) فهو سبحانه يحرّض الربّانيين أي علماء اليهود وأحبارهم على
نهي اليهود ومنعهم (عَنْ قَوْلِهِمُ
الْإِثْمَ) تكلمهم في كل ما فيه معصية وذنب (لَوْ) عن (أَكْلِهِمُ السُّحْتَ) وهو كل مال حرام ، (لَبِئْسَ ما كانُوا
يَصْنَعُونَ) كتأكيد لسوء عمل أولئك الأحبار الذين تركوا وظيفتهم وعملوا
بعكسها.
٦٤ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ ...) أي مقبوضة عن العطاء حيث نسبوه تعالى إلى البخل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، وَلُعِنُوا بِما
قالُوا) وهذا دعاء عليهم منه تعالى بالبخل والتقتير والنكد ، ولذلك
كانوا من أبخل خلق الله في الدنيا وبغلها في نار جهنم في الآخرة وابعدوا عن رحمة
الله. (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وتثنية اليدين في الآية الشريفة بالنسبة إليه تعالى ،
ليكون الإنكار أبلغ وليدل على إثبات غاية السخاء ، إذ غاية الكرم أن يعطي المرء
بيديه ، وحاشا الله سبحانه عن اليد والعضو والجسم ، وهو (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) طبق ما يراه لصلاح عباده ، ووفق حكمته فيهم. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي اعلم أن الآيات التي تنزل عليك من عند ربّك ، هي موجبة
لمزيد طغيان اليهود وكفرهم لأنهم أهل حقد على الحق (وَ) قد (أَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فهم لا يجتمعون على أمر واحد ، ولن ترتفع العداوة بينهم
إلى أبد الآبدين ، (كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي أننا لهم بالمرصاد ، وفي أي حين وفي أي مكان يشعلون فيه
نارا للحرب والعدوان على المسلمين فإن الله سبحانه يخمدها بمنّه ولطفه بالمسلمين ،
ويخذلهم عند عدوانهم (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) أي يعملون ويدأبون على نشر الفساد ويجدّون في إذاعته
وإشاعته ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ) بل يكرههم ويعاقبهم أشد عقاب.
٦٥ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا ...) فهؤلاء لو صدّقوا برسالة النبي (ص) وبما جاء به من عند
ربّه وأطاعوا الله ولم يعصوه (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) أي سترنا عنهم ذنوبهم ومحوناها ، وتجاوزنا عنها لأن
الإسلام يجبّ ما قبله ، ولأن الإيمان يطهرهم ويؤهلهم للمغفرة. (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بعدلنا ورحمتنا.
٦٦ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ ...) أي لو أنهم عملوا بهما وبما فيهما من أحكام (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ) من الكتب التي سبقتهم ، ومن كتابيهم ، ومن القرآن العظيم ،
(لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني : لوسّع الله عليهم الرزق ولأفاضه عليهم من جميع
جوانبهم (مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ) أي معتدلة لم تغال في الكفر والعناد بل بحثت عن الحقيقة
فوصلت إلى الإيمان. (وَ) لكن (كَثِيرٌ مِنْهُمْ
ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي أن أكثرهم قبح عملهم حيث أقاموا على الكفر والجحود.
٦٧ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) خطاب للرسول (ص) بأن يخبر الناس ما أنزل إليه منه. وروي عن
ابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما أن الله تعالى أمر نبيّه يوم غدير خم أن ينصّب
عليّا للناس ويخبرهم بولايته ، فخاف (ص) أن يحمله الناس على محاباة ابن عمه ، وخشي
أن يصعب ذلك على جماعة من أصحابه. لكن إنذار ربّه عزّ اسمه خوّفه أكثر إذ قال له :
(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)
فقال عزّ من قائل
إن كتمت ذلك كنت كأنك لم تؤدّ من الرسالة شيئا قط (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) أي يحفظك ويمنعهم عنك ويحميك. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ) أي لا يمكّنهم من رسوله الكريم من جرّاء ذلك البلاغ.
٦٨ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى
شَيْءٍ ...) أي لستم على الطريقة الشرعية التي سنّها الله (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) فالله لا يعتبركم متمسكين بشيء من أوامره إذا لم تعملوا
بما فيهما من تعاليم (وَ) بجميع (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ) من الكتب السماوية ، ومن البشارة بمحمد (ص) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) مر معناه. (فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تتأسف عليهم ولا تحزن.
٦٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى ...) يؤكد سبحانه أن جميع هؤلاء المذكورين (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) فكان موحّدا مؤمنا بالبعث والنشور للحساب (وَعَمِلَ صالِحاً) وهذا شرط ثالث هام ، لأن الثواب يكون أجرا للعمل (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) إذ تشملهم النجاة من غضب الله وتنالهم الرحمة ... وقد مرّ
بيان ذلك في سورة البقرة. والصابئون قال عنهم الإمام الصادق (ع): سمّي الصابئون
لأنهم صبأوا ـ أي مالوا وذهبوا ـ إلى تعطيل سنن الأنبياء والرسل والشرائع ، وقالوا
: كل ما جاؤوا به باطل فهم بلا شريعة ولا كتاب.
٧٠ ـ (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) أي أخذ الله تعالى عليهم عهدا ـ في كتابهم ـ بالتوحيد
وبالبشارة بمحمد (ص) (وَأَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليطلعوهم على الأوامر والنواهي الإلهية. (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) من عندنا (بِما لا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ) أي بما لا تحبه نفوسهم الخبيثة من التكاليف الإلهية ، فترى
(فَرِيقاً كَذَّبُوا) أي كذبوا بعض تلك الرسل (وَفَرِيقاً
يَقْتُلُونَ) يقتلون بعضهم كفرا وعنادا.
٧١ ـ (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...) أي أنهم ظنّوا أنه لا يصيبهم من الله بلاء اختباريّ وعذاب
في الدنيا والآخرة بتكذيب رسلهم وقتلهم (فَعَمُوا) أصابهم العمى عن محجّة الحق (وَصَمُّوا) ضرب على سمعهم فلم يستمعوا إلى حجة (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي تجاوز عنهم لمّا تابوا (ثُمَّ عَمُوا) عن الدين (وَصَمُّوا) مرة أخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي أكثرهم. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) يرى أعمالهم ويؤاخذهم بها. وعن الصادق (ع): وحسبوا ألّا
تكون فتنة ، قال : حيث كان النبي (ص) بين أظهرهم ، فعموا وصمّوا حتى قبض (ص) ثم
تاب عليهم حيث قام أمير المؤمنين (ع) ثم عموا وصمّوا إلى الساعة.
٧٢ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ...) في هذه الآية الشريفة احتج الله سبحانه على النصارى الذين
كفروا بقولهم : إن الله هو عيسى (ابْنُ مَرْيَمَ) عليهماالسلام بذاته ، كاليعاقبة وسائر القائلين بالثالوث والاتحاد. وذلك
لأنه (ع) لم يأمرهم بذلك ، بل قال : (وَقالَ الْمَسِيحُ) لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فلم يفرّق بينهم وبين نفسه في أنه عبد مربوب مثلهم ، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ
حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أي يمنعه منها لأنها دار الموحّدين (وَمَأْواهُ النَّارُ) التي هي دار الكافرين والمشركين (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ليس لهم من أحد يخلّصهم من عذاب الله.
٧٣ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ...) وهؤلاء طائفتان من النصارى يسمّون بالنسطورية والملكانية ،
يقولون بأن الله أحد ثلاثة يتكوّن من الثالوث ، أو من الله وعيسى ومريم. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس في عالم الوجود إلا ذات واجب الوجود الذي يستحق
العبادة وهو سبحانه متعال بذاته عن قبول الشركة. (وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) به من الشّرك (لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب موجع شديد.
٧٤ ـ (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ...) أي : ألا يتركون تلك العقائد الزائفة بلا رجعة ثم يطلبون
العفو من الله عمّا مضى منهم؟ (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٧٥ ـ (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا
رَسُولٌ ...) يعني ليس عيسى بن مريم سوى نبيّ مرسل (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) فهو (ع) من جنس الأنبياء المبعوثين قبله لهداية البشر
وإرشادهم إليه سبحانه ، (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) من أعظم المصدّقين بالله والقانتين العابدين المتبتلين له
، (كانا يَأْكُلانِ
الطَّعامَ) كبقية الناس لأنهما محتاجان إلى الأكل والشرب كبقية ذوي
الأجسام القابلة للتغذية ، وهذا يعني بكناية لطيفة للغاية أنهما يحتاجان لتخلية
البطن من ثقل فضلات الطعام ومضطران للتغوط ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآياتِ) أي نوضح لهم العلامات ونظهرها ، (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وانظر وتفكر كيف يقولون الإفك والباطل الأخرق!
٧٦ ـ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء : كيف تقصدون بعبادتكم (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا
نَفْعاً) وهو عيسى (ع) فليس بيده أن ينزل المحن ولا أن يهب الصحة
والسعة من ذاته (وَاللهُ هُوَ
السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بما في ضمائركم.
٧٧ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ ...) أي لا تتجاوزوا الحد الذي حدّه الله في عقيدتكم ولا
تتصلبوا وتعتنقوا (غَيْرَ الْحَقِ) أي : لا تغلوا غلوّا باطلا بتخطّي الحق (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) ولا تسلكوا طريق رؤسائكم الذين ضلّوا قبلكم وقبل بعثة محمد
(ص) حيث اتبعوا أهواءهم. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي ضيّعوا الكثيرين من الذين اتّبعوهم على التثليث والشّرك
لمّا بعث محمد (ص) بالإسلام (وَضَلُّوا عَنْ
سَواءِ السَّبِيلِ) تاهوا عن الطريق السويّ حين كذّبوه (ص) وبغوا عليه.
٧٨ ـ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) أي : طردوا من الرحمة ، وقد حصل لعنهم سابقا (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ) عليهماالسلام. فقد دعا داود عليهم فصاروا قردة ودعا عيسى (ع) عليهم
فصاروا خنازير. وكانوا على ما قيل خمسة آلاف رجل ليس بينهم امرأة ولا صبي. (ذلِكَ) أي هذا اللعن كان (بِما عَصَوْا) بسبب عصيانهم (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) على الأنبياء ويخالفون أوامر الله ونواهيه.
٧٩ ـ (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ ...) يعني أنهم كانوا يفعلون المنكرات والمحرّمات ولا ينهى
بعضهم بعضا لأنهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : بئس شيء فعلهم.
٨٠ ـ (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي يجعلون الكافرين أولياء لأمورهم ، ويحبونهم بغضا لك يا
محمد وعداوة للحق الذي جئت به. و (لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم من هواها الذي اتّبعوه فأدى
بهم إلى (أَنْ سَخِطَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) أي غضب عليهم غضبا شديدا في الدنيا (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) في الآخرة.
٨١ ـ (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ...) أي أن الذين حكى عنهم سبحانه في الآية السابقة من الذين
يتولّون الكفار والجبّارين ، لم يتولّوهم إلّا لأنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وما
أنزل على رسوله ، ولو كانوا مصدّقين (مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِياءَ) فلا أحبّوهم ولا أخلصوا لهم لأن حب أولياء الله وحب أعدائه
لا يجتمعان. (وَلكِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طريق الهداية. ومائلون عن جادة الإسلام
المستقيمة.
٨٢ ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...) يؤكد سبحانه أن اليهود أكثر عداوة للمؤمنين ، هم (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) وذلك لتضاعف كفرهم وإفراطهم في البغض للحق ، ولشدة حسدهم
ومعاداتهم للنبيين. (وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي أن النصارى ـ بعكس اليهود ـ قريبون من الاستماع إلى الحق
لطباعهم الليّنة وسهولة دعوتهم وسرعة عودتهم عن الجهل إذا تبيّن لهم الحق. لأنهم
يذعنون للحجة والمنطق ، وقد كان رهبانهم وعلماؤهم يقصدون أئمتنا (ع) ويسألونهم عن
كثير من المسائل ، وربما اهتدى بعضهم إلى الإسلام ببركاتهم (ع). (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) أي رؤساء في العمل ومرشدين (وَرُهْباناً) علماء عبّادا زهادا (وَأَنَّهُمْ) جميعا (لا يَسْتَكْبِرُونَ) وليس عندهم عجرفة اليهود ولا صلفهم.
٨٣ ـ (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ ...) أي إذا وعوا بكامل سمعهم ما أنزله الله من آيات القرآن
وبيّناته (تَرى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي يبكون بدمع غزير (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِ) أي من أجل أنهم توصّلوا إلى معرفة الحق (يَقُولُونَ) مختارين (رَبَّنا آمَنَّا) أي صدّقنا برسولك وكتابك الذي يشتمل على دينك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي : سجّلنا مع من شهدوا بنبوّته.
٨٤ ـ (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما
جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ...) جواب لمن قال لهم من قومهم تعنيفا : لم آمنتم؟ أي : لأي
عذر لا نؤمن بالله وما أتانا به محمد (ص) من الإسلام قوله تعالى : وما ، استفهام
إنكاري ، أي أنها انكار لعدم الإيمان مع وجود موجبه وهو يدل على شدة رغبتهم ومزيد
ميلهم للدخول فيما دخل فيه المؤمنون (وَنَطْمَعُ أَنْ
يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) فإن طمعهم يفسّر رغبتهم الشديدة بأن يكونوا في صف صالحي
العباد.
٨٥ ـ (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا ...) فكتب لهم سبحانه ثواب خلوص نيّاتهم في توحيدهم وامتثالهم
لأمر رسوله ، وما وعد به الصالحين ، إذ أعدّ لهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يدخلونها بإيمانهم الصادق ، ويكونون (خالِدِينَ فِيها) إلى أبد الأبد ، (وَذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ) من عباده الموحّدين المخلصين في القول والعمل.
٨٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا ...) قد ذكر سبحانه حال المصدّقين في الآيات السابقة ، ثم
عقّبها بذكر حال المكذبين الذين أصرّوا على الكفر فقال عنهم : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي سكان النار الموقدة المسعّرة التي أعدت للكافرين.
٨٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) أي لا تكفّوا أنفسكم عن المستلذّات التي جعلها الله حلالا
لكم (وَلا تَعْتَدُوا) تتجاوزوا حدود الله من الحلال والحرام فتستصوبوا ما شئتم
حسب تقديراتكم. (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) بل يكره من يتعدى حدود ما أنزله على عباده.
٨٨ ـ (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ
حَلالاً طَيِّباً ...) أي كلوا أكلا طاهرا مستلذا (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي اعملوا بأوامره ونواهيه لأنكم مؤمنون به.
٨٩ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ ...) اللغو في الأيمان هو ما يقوله الناس كثيرا في محادثاتهم «بلا
والله ، وبلى والله ، وبظنّ وقوع الأمر كذلك. فالله تعالى ـ رحمة منه ـ لا يؤاخذ
عباده على تلك الأيمان اللاغية التي يستعملونها في كلامهم ومحادثاتهم ، ويقول لهم (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ) أي أنه يحاسبكم على الأيمان المقصودة الصادرة عن عقد القلب
والنيّة بجزم تام. (فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي أن تطعموا هؤلاء العشرة المساكين ممّا تأكلونه في
بيوتكم عادة لا من رديئه. وعن الصادق (ع) أن الوسط هو الخل والزيتون ، وأرفعه
الخبز واللحم. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي إعطاؤهم اللباس الوسط مما تلبسون. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق عبد أو أمة أو مولود منهما (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ) أي أن الذي لا يقدر على الإطعام ولا على الكسوة ولا على
العتق ، يصوم ثلاثة أيام. (ذلِكَ) أي ما ذكره سبحانه (كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) يعني : إذا حلفتم وحنثتم ، (وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ) أي لا تبتذلوا فيها ، (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) يوضح معالم دينه (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) بأمل أن تحمدوه وتكونوا من الشاكرين.
٩٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) مر معناهما في سورة البقرة (وَالْأَنْصابُ
وَالْأَزْلامُ) مر معناهما في أول
هذه السورة الآية الثانية (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) فهي نجسة دنسة ملازمة للحرمة كلها. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي رجاء فوزكم دنيا وآخرة.
٩١ ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ ...) أي أن الشيطان يقصد إثارة العداوة بينكم (وَالْبَغْضاءَ) في قلوبكم ، (فِي) تعاطيكم (الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ) الملازمين لإثارة العداوة والبغضاء كما يعرف ذلك الشاربون
للخمر واللاعبون للقمار (وَيَصُدَّكُمْ) يمنعكم منعا شديدا (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن تذكّره في كل حال (وَعَنِ الصَّلاةِ) يحول بينكم وبينها بدافع السّكر أو لانشغالكم بالمقامرة ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أي : هل أنتم تاركون لهذه المفاسد بعد بيان ما فيها من
الصوارف عن الطاعات. والاستفهام للإنكار.
٩٢ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ ، وَاحْذَرُوا ...) أي امتثلوا أمرهما ، وخذوا الحذر وخافوا وتجنّبوا عصيانهما
، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم (فَاعْلَمُوا أَنَّما
عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فاعرفوا جيدا وخذوا الحذر وخافوا وتجنّبوا عصيانهما ، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم (فَاعْلَمُوا أَنَّما
عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فاعرفوا جيدا أن رسولنا محمد (ص) ليس عليه إلّا الدعوة إلى
الدين وتعريف الناس ما يرضى رب العالمين.
٩٣ ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ...) يعني ليس على المؤمنين الصالحين مؤاخذة أو إثم (فِيما طَعِمُوا) أي : أكلوا وشربوا ، (إِذا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا) أي صدقوا بالله وبرسوله وأطاعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في زمانهم ذاك ، وتجنّبوا اليوم الخمر والميسر وغيرهما من
المحرّمات. (ثُمَّ اتَّقَوْا) أي تجنّبوا ذلك (وَآمَنُوا) صدّقوا بما نزل من التحريم (ثُمَّ اتَّقَوْا) كرّرها سبحانه لأهمية الأمر وخطر حرمة تلك المفاسد (وَأَحْسَنُوا) إلى أنفسهم وتقبّلوا أوامر ربّهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يفعلون الخير لأنفسهم ولغيرهم.
٩٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ...) نزلت هذه الآية المباركة عام الحديبية وقد خاطب سبحانه بها
المؤمنين مؤكّدا في قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) أي يختبركم (بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ) كناية عن مطلق صيد البر في الحرم حال الإحرام صغيرا أو كبيرا
، وقليلا أو كثيرا. (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِماحُكُمْ) تدليل على كثرة الصيد إذا كان القريب يقنص بالأيدي ،
والبعيد يؤخذ بالرمح. (لِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي : يعرف سبحانه من يخشاه فعلا وبينه وبين نفسه (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي تجاوز الحكم بعد نزوله (فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) موجع.
٩٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...) أي : لا تصطادوا في حال الإحرام. (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) أي عن قصد وتصميم ، (فَجَزاءٌ) يفرض عليه جزاء فعله ، (مِثْلُ ما قَتَلَ
مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : يقدّر الجزاء ويحكم به مسلمان عادلان عارفان بالمثل
والمماثل في الخلقة (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) والمعنى أنه يساق كبقية الهدي الذي يضحّى ، ويذبح في الحرم
ويتصدّق به. (أَوْ) يعطي (كَفَّارَةٌ) أي صدقة. وذلك (طَعامُ مَساكِينَ) أي كفّروا بإطعام مساكين بقيمة تساوي ثمن الهدي (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) أي ما يساوي ذلك الطعام (صِياماً) فيصوم من لا يقدر على الإطعام ، عن إطعام كل مسكين يوما. (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) يعني ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي سامح الذين فعلوا ذلك في الماضي ، (وَ) أما (مَنْ عادَ) واصطاد محرما مرة ثانية (فَيَنْتَقِمُ اللهُ
مِنْهُ) أي يجازيه جزاء تعدّ مقصود ، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقامٍ) أي منيع الجانب صاحب انتقام من العاصين.
٩٦ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعامُهُ ...) أي أبيح لكم صيد الماء وطعام البحر حال إحرامكم (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي طعاما تستمتعون به وتلتذّون أنتم والسّيارة : أي
المسافرون غير المحرمين (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي في حال إحرامكم ، ومدة إحرامكم. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) بترك جميع معاصيه وفعل جميع ما أمر به لأنه سوف يجمعكم يوم
القيامة ليحاسبكم على أعمالكم.
٩٧ ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ...) سمّيت الكعبة بهذا الاسم لأنها قريبة الشكل من الجسم
المكعّب ودعاها الله البيت الحرام لشرافتها وحرمتها عنده وعند كل مسلم ومسلمة (قِياماً لِلنَّاسِ) : أي يقيمون عندها شعائر دينهم (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الأشهر الحرم الأربعة (وَالْهَدْيَ
وَالْقَلائِدَ) وهو ما يهدى إلى الكعبة ويقلّد بالعلامات ، وقد ذكرنا ذلك
مفصلا في أوائل هذه السورة (ذلِكَ) أي كل هذا الجعل (لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : لتعرفوا أنه تعالى عالم بجميع ما كوّنه وأجراه فيهن (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه خافية.
٩٨ ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ ...) أي : قوي العذاب (وَ) اعلموا أيضا (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) أي كثير التجاوز عن السيئات واسع الرحمة.
٩٩ ـ (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
...) أي ليس عليه (ص) سوى أنه بلغ رسالة ربه للناس وبذلك تمت
الحجة عليهم. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي : ما تظهرونه من قول أو عمل ، وما تسرونه من ذلك.
١٠٠ ـ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ
وَالطَّيِّبُ ...) أي أبلغهم يا محمد أنه لا يتساوى الحرام والحلال ، ولا
العمل الصالح مع العمل الطالح (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها الإنسان المخاطب (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بين الناس ، فإنّ قليل الطيّب خير من كثير الخبيث (فَاتَّقُوا اللهَ) تجنّبوا سخطه (يا أُولِي
الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول الكاملة (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي : طمعا بأن تكونوا من الناجحين.
١٠١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ...) فيا أيها المؤمنون لا تسألوا الرسول عن أشياء مسكوت عنها ،
وهي (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) أي إذا بيّنها لكم وأوضحها (تَسُؤْكُمْ) يعني تغمّكم ولا ينفعكم إظهارها لكم. (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ
يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) كناية عن عصر الرسول (ص) فلو سألتم عنها حينئذ (تُبْدَ لَكُمْ) أي تظهر ، (عَفَا اللهُ عَنْها) أي تجاوز عمّا سلف فلا تعودوا إليه. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي : كثير المسامحة وترك العقوبة. يحلم عند الغضب ويرحم
الخاطئين.
١٠٢ ـ (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ
...) أي سألوا عن تلك الأشياء المسكوت عنها التي هي من مخزون
علم الله (ثُمَ) إن الذين سألوها (أَصْبَحُوا) أي صاروا (بِها كافِرِينَ) منكرين لها بعد أن بيّنت لهم.
١٠٣ ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا
سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ ...) البحيرة هي النّاقة التي شقت أذنها. وكان من دأب الجاهليين
أن الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن ـ وقيل عشرة ـ وكان الأخير ذكرا ، يشقّون أذنها
ويدعونها بحيث لا ينتفع أحد من لبنها ولا ركوبها ولا حمل شيء عليها حتى من قبل
صاحبها. أما السائبة فكان الرجل منهم يقول : إن قدمت من سفر أو ربحت من تجارة
فناقتي سائبة ويتركها سائبة وتحرّم منافعها كالبحيرة. والوصيلة هي أنه إذا ولدت
الشاة أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا كان لإلههم ، وإن ولدتهما معا لم يذبحوا
الذكر إذ وصلته أخته .. (وَلا حامٍ) أي فحل إذا أنتج عشرة أبطن حرّموا ظهره وقالوا : حمى ظهره
وترك فلا يمنع من ماء ولا مرعى ... فهذه كلها أشياء ما أنزل الله بها من سلطان (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وافتراؤهم هو كذبهم بنسبة تحريم الأمور المذكورة في صدر
الآية الكريمة إليه سبحانه ، (وَأَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) لأنهم لم يفكّروا بل قلّدوا بذلك كبراءهم لعدم تعقّلهم.
١٠٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما
أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ...) يعني أن هؤلاء الكفرة المفترين لو دعوا لمعرفة معالم الدين
الصحيح (قالُوا حَسْبُنا) أي يكفينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ
آباءَنا) أي ما رأينا آباءنا يفعلونه. فرد عليهم سبحانه بصيغة
استفهام إنكاري تعجبي : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) يعني أنهم يقلّدون آباءهم حتى ولو كان آباؤهم جهلة متوغلين
في الضلالة والغواية؟
١٠٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) فالله جلّت قدرته له عناية خاصة بالمؤمنين ، وهو هنا
يأمرهم مرشدا إياهم إلى الاهتمام بأنفسهم قبل أي أحد في مجال هدايتها وإصلاح شأنها
(لا يَضُرُّكُمْ) أي لا يؤذيكم (مَنْ ضَلَ) أي ضاع عن الحق (إِذَا) أنتم (اهْتَدَيْتُمْ) وسرتم في طريق الصلاح. (إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم (جَمِيعاً) كلكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) في دنياكم ويجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
١٠٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ ...) البين : هو الفراق ، ويعني به هنا سبحانه فراق الدنيا.
والإشهاد الذي شرعه لكم (إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي إذا بدت أماراته وعلاماته (حِينَ الْوَصِيَّةِ) التي لا بد أن توصوا بها فليشهد على الوصية (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي اثنان موثوقان عدلان من أهل دينكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب أو أهل الذمة عند الضرورة. (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في طلب الرزق (فَأَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي جاء أجلكم (تَحْبِسُونَهُما مِنْ
بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر العامة (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (بِاللهِ) العظيم (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي ارتاب الوارث ، وظننتم عدم صدقهما وشككتم بشهادتهما ،
يحلفان أننا (لا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَناً) به : أي بتحريف شهادتنا عوضا (وَلَوْ كانَ ذا
قُرْبى) أي : ولو كان من نقسم له قريبا منّا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها (إِنَّا إِذاً) أي : إننا لو فعلنا ذلك (لَمِنَ الْآثِمِينَ) المذنبين.
١٠٧ ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْماً ...) أي فإن اطّلع مطّلع على كونهما آثمين خائنين في أداء شهادتهما
(فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما) أي : فشاهدان آخران يقومان مقامهما باليمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ) أي من الذين استحق عليهم الإثم وجني عليهم وهم أهل الميت
وعشيرته. والأوليان : هما الأحقّان بالشهادة (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (بِاللهِ لَشَهادَتُنا
أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي أصدق (وَمَا اعْتَدَيْنا) ما تجاوزنا الحق بذلك ، ولو فعلنا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسنا ولغيرنا بجعل الحق باطلا والباطل حقا ولو ادّعاء.
١٠٨ ـ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها ...) ذلك : أي الحكم المذكور في الآية السابقة ، أدنى : أقرب
إلى أن تكون الشهادة على وجهها الحقيقي (أَوْ يَخافُوا) يعني يخاف المقسمان (أَنْ تُرَدَّ
أَيْمانٌ) فتصبح الأيمان مطلوبة من الورثة (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فيحلف الورثة على كذب الشاهدين فيفتضح أمرهما بظهور
الخيانة واليمين الكاذبة (وَاتَّقُوا اللهَ
وَاسْمَعُوا) قوله وما أمركم به (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الذين يخرجون عن أمر الله وطاعته.
١٠٩ ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ
فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ...) لفظة : يوم منصوبة على الظرفية ، ونصبها بما يتعلق بالظرف
وهو : اتقوا يوم ، أو : اذكروا يوم وذلك يوم القيامة حيث يجمع سبحانه جميع رسله
إلى البشر ليكونوا شهداء على أممهم ، ويسألهم بماذا أجابتكم أممكم وكيف تلقّت
رسالات ربها؟ (قالُوا) أي : فقال الرّسل الكرام (لا عِلْمَ لَنا) أي : لا علم لنا أحسن وأولى بالدقة من علمك لأنك تعلم
السرائر وما تخفي الصدور ، فهم (ص) يعلمون يقينا ولكنهم قدّموا علمه الشامل على
علمهم. (إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي أنك تعلم ما في الضمائر ونحن لا نعلم إلّا الظواهر.
١١٠ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ...) أي إذ يقول الله في الآخرة يا عيسى اذكر ما أنعمت به عليك
وعلى أمك واشكره. (إِذْ أَيَّدْتُكَ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني جبرائيل (ع) تكلّم الناس في عيسى اذكر ما أنعمت به
عليك وعلى أمك واشكره. (إِذْ أَيَّدْتُكَ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني جبرائيل (ع) (تُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ) أي تحكي وأنت طفل حين ولادتك (وَكَهْلاً) أي وقت أشد البلوغ (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الكتاب : أي الكتابة دون أن تتعلّمها من أحد ، والحكمة :
أي الكلام المحكم ، وجعلتك عارفا بكتب الله السماوية كالتوراة والإنجيل اللذين
تحاجّ بهما اليهود. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي) أي : حين تصوّر من الطين ـ التراب المجبول بالماء ـ هيئة
طير بإجازة مني ، ثم تنفخ في تلك الصورة التي شكّلتها فتصير طيرا ذا روح بأمري (وَتُبْرِئُ) تشفي (الْأَكْمَهَ) الأعمى الذي ولد من أمه كذلك ، (وَالْأَبْرَصَ) أي تشفيه (بِإِذْنِي) ورخصتي (وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتى بِإِذْنِي) أي تدعوهم فيقومون من قبورهم ويخرجون منها إجابة لك بقدرة
الله. (وَإِذْ كَفَفْتُ) أي منعت (بَنِي إِسْرائِيلَ
عَنْكَ) فحجبتك عن اليهود لمّا أرادوا قتلك (إِذْ) حين (جِئْتَهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) وأظهرت لهم البراهين القاطعة على نبوّتك (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من اليهود (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) ليس هذا سوى سحر واضح.
١١١ ـ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا ...) فقد ألهم سبحانه الحواريين أن صدّقوا فالوحي هنا بمعنى
الإلهام ، ومنه : وأوحينا إلى أم موسى ، أي ألهمناها وألقينا في قلبها. (بِي وَبِرَسُولِي) وآمنوا بربوبيّتي وبكونه نبيّا (قالُوا) وهم الحواريون : (آمَنَّا) صدّقنا (وَاشْهَدْ) علينا (بِأَنَّنا
مُسْلِمُونَ) أي : مسلّمون ومنقادون لأمرك.
١١٢ ـ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ ...) أي خاطبه سلام الله عليه حواريّوه قائلين : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي : هل يقدر (أَنْ يُنَزِّلَ
عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي طعاما وشرابا مهيّأ من عنده سبحانه على خوان. وقيل بأن
ذلك كان منهم في أوائل عهد إيمانهم وبدء ملازمتهم لعيسى (ع). (قالَ) لهم : (اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا من غضبه (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) ومصدقين به.
١١٣ ـ (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ...) قال الحواريون ـ مصرّين ـ إن سؤالنا لرفع الحاجة بالأكل
منها لا للامتحان (وَتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُنا) أي ترتاح وتهدأ من هذه الناحية الحياتيّة. (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي يحصل لنا العلم بأنك صادق في رسالتك (وَنَكُونَ عَلَيْها) أي على المائدة (مِنَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين الذين يرونها نازلة من السماء.
١١٤ ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : اللهُمَّ
رَبَّنا ...) فبعد ما تبيّنت النّيات ، توجّه عيسى (ع) إلى الله ، فقال
: اللهم ربّنا ، لأن الربّ هو المربّي ، وهذا أعمّ من تربية الأبدان أو النفوس : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ
السَّماءِ) حسب طلبهم (تَكُونُ لَنا عِيداً
لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي نجعل يوم نزولها يوم عيد ، منذ يوم نزولها في عصرنا
ولأهل زماننا ، وللّذين يأتون من بعدنا. (وَآيَةً مِنْكَ) أي علامة معجزة دالّة على قدرتك الكاملة وعلى صدق نبوّتي (وَارْزُقْنا) هذه المائدة (وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) ووجه كونه سبحانه خير الرازقين ، هو أن رزقه سرمد أبديّ لا
ينقطع ما زال المرزوق موجودا.
١١٥ ـ (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ
...) أي أجاب سبحانه بشاهد الحال الذي هو إنزال المائدة ، ثم
شرط عليهم بقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بَعْدُ مِنْكُمْ) أي : ينكر شيئا يتعلق بربوبيّتي وبرسالة رسولي ، (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا
أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فقد توعّد الكافر بعد ذلك بعذاب شديد يكون أشد من عذاب أي
أحد من الناس.
١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ...) أي اذكروا يا أتباع عيسى قول الله سبحانه وتعالى لعيسى (ع)
: (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) من أمّتك : (اتَّخِذُونِي
وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ ... وهذا استفهام إنكاري متضمّن لتوبيخ أمته ما عدا
الحواريين والمؤمنين بربّهم وبرسوله. لأنهم وحدهم عبدوا الله تعالى. (قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها وتقديسا لك يا رب إنني بما تعرفه فيّ (ما يَكُونُ لِي) أي : ما ينبغي لي (أَنْ أَقُولَ ما
لَيْسَ لِي بِحَقٍ) وأدّعي الربوبيّة التي لا حق لي فيها ولا لأحد من دونك. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) لهؤلاء (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) واستوعبته معرفتك بالظواهر والبواطن ، لأنك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) تطّلع على جميع ما عندي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِكَ) وأنا لا أعرف شيئا من معلوماتك. (سُبْحانَكَ) يا ربّ (أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ) أي شديد المعرفة بجميع ما غاب عن خلقك وما استأثرت به
لنفسك.
١١٧ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي
بِهِ ...) ما أمرتهم إلّا بما أمرتني به (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فقد أمرتهم بعبادة الله الذي هو ربّي وربّهم بجميع معاني
الربوبية (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً) أي شاهدا ورقيبا (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي مدة بقائي بينهم (فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني وأخذتني بالموافاة إليك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الناظر والمراقب لأقوالهم وأفعالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم شاهد على ظواهر الأشياء وبواطنها.
١١٨ ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبادُكَ ...) أي إن عذّبتهم فإنهم عبادك والعبد وما في يده لمولاه ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : وإن تسامحهم وتعفو عن سيئاتهم ، فإنك أنت القادر
القاهر المنيع الجانب ، الحكيم في ثوابك وعقابك.
١١٩ ـ (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ...) والمعنى : أن هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى (ع) سيقع في
يوم ينتفع فيه الذين صدّقوا بالله ورسله بصدقهم. وهو يوم الحساب (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مر معناه (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) لقولهم الحق وعملهم الصالح. (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنهم كانوا في الدنيا ويحمدونه على السرّاء والضرّاء ،
وفي الآخرة أعطاهم أجزل العطاء مما لم يكن ليخطر لهم في بال (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : ذلك هو النجاح الكبير.
١٢٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما فِيهِنَّ ...) وبهذا البلاغ نزه الله سبحانه نفسه عن قول النصارى ، إذ له
ملك السماوات والأرض وما فيهن من موجودات وقد شملت المسيح (ع) مع أنهم قالوا
بألوهيته (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه.
سورة الأنعام
مكية ، عدد آياتها ١٦٥ آية
١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي الشكر لله الخالق الذي ابتدع السماوات والأرض وأنشأهما
وفي ذلك رد على الدهرية. (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ) أي صيّرهما موجودين. وفي ذلك ردّ على الثنوية وقد جمع جلّ
شأنه الظلمات دون النور لأن الأجرام الفضائية كثيرة ولكلّ جرم منها ظلّ ، فأشار
سبحانه إلى جميع تلك الظلال «الظلمات» الكثيرة للأسباب التي ذكرناها ، بخلاف النور
الذي له سبب واحد وهو عدم وجود الظلّ. (ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي بعد هذه القدرة الكاملة لله سبحانه فإن فريقا من الناس
كفروا ومالوا عن الحق وابتعدوا عن الله سبحانه.
٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ...) يستفاد من لفظة : من ، أنه تعالى يشير إلى بدء خلقنا ،
فنحن من آدم (ع) وآدم من طين ونحن كذلك بواسطته فتساوينا معه. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حتم وقتا معيّنا. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ) وقت معلوم عنده مكتوب في اللوح المحفوظ وقيل بأنه ما بين
الموت والبعث. (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكّون في بعثكم بعد الموت والخطاب للكفار.
٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي
الْأَرْضِ ...) أي أن المعبود في جميع الكائنات ليس إلّا الله تعالى ،
سواء أكان ذلك في السماوات أم في الأرض. (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ) ما أخفيتم في أنفسكم وما أعلنتم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تجنون من خير أو شر.
٤ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ ...) أي ما جاءتهم حجة من حجج الله تعالى ، (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي منصرفين رغم ظهورها.
٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ ...) أي كذّبوا بما جاءهم به النبيّ (ص) من الحق من ربهم ، وهو
القرآن. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أن تكذيبهم بالحق وإعراضهم عن آيات الله لن يحولا دون
مجيء أخبار ما استهزءوا به من نزول العذاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة.
٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ...) ألم ينظروا إلى ما أفنيناه قبلهم من أهل أمة مقترنين في
وقت قرن وهو مائة سنة (مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي أعطيناهم ملكا وقوة (ما لَمْ نُمَكِّنْ
لَكُمْ) ما لم نعطكم يا أهل مكة. (وَأَرْسَلْنَا
السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي كنّا نمطرهم بغزارة ونفيض عليهم البركات (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمْ) أي ماؤها يصلهم مع خيارته بسهولة فنسوا ذكر الله وارتكبوا
المعاصي (فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ) أي دمّرناهم لعدم إيمانهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلقنا أجيالا غيرهم وأقمناها بدلا عنهم.
٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ) : يعني لو أننا استجبنا لطلبهم وأنزلنا عليك سور القرآن
مكتوبة في ورق ، (فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ) يعني تحسّسوه بأيديهم ، (لَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) عنادا (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) مؤكّدين أنّه سحر ، لقسوة قلوبهم وشدة كفرهم.
٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ ...) أي : هلّا نزل على محمد (ص) ملك من الملائكة نعاينه
ونصدّقه (وَلَوْ أَنْزَلْنا
مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لو نزّلنا الملك كما طلبوا لقضي الأمر بهلاكهم بكفرهم
على يد ذلك الملك (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون.
٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلاً ...) أي لو جعلنا الرسول ملكا يعاين ويرى ويتكلم معه لمثّلناه بصورة
رجل ليكون من جنسكم إذ الملك لا يرى بصورته من قبلهم (وَلَلَبَسْنا
عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي أن الأمر يلتبس عليهم ويظنون الملك رجلا مثلهم ، فيبقى
الإشكال قائما عندهم.
١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ ...) ذكر سبحانه لرسوله (ص) أن الرّسل من قبله قد استهزأ بهم
الناس وسخروا من دعوتهم إلى الله (فَحاقَ) أي أحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ) استهزءوا من دعوتهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب الذي هدّدهم به الرّسل.
١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي قل لهم يا محمد : اذهبوا في الأرض وتتبّعوا ما أصاب
الأمم من قبلكم ، (ثُمَّ انْظُرُوا
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وتأمّلوا بمصائر الذين كذّبوا الرّسل فأهلكهم الله بالعذاب
جزاء كفرهم.
١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي اسأل يا محمد من يعاندك : من هو المالك لما في السماوات
والأرض؟. (قُلْ لِلَّهِ) أي قل أنت إنه لله الذي خلقها وهو مالك أمر ما خلق. (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي اللطف بعباده (لَيَجْمَعَنَّكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قرنا بعد قرن يأخذكم ويجمعكم ليوم الحساب. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك ، (الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) وضيّعوها بأن ضلّوا فأهلكوها في عذاب يومئذ (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون.
١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ ...) أي لله ما هدأ في الليل ، وتحرّك في النهار. (وَهُوَ السَّمِيعُ) العظيم السمع (الْعَلِيمُ) العارف أشد المعرفة بكل ما يملكه.
١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا
...) قل يا محمد للمعاندين : لا يجوز أن أتخذ مالكا لي ومولى
غير الله (فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وموجدهما من كتم العدم. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي أمرني ربّي بذلك. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) ونهيت عن الشرك.
١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : (٢) أي قل لهؤلاء يا محمد إني أعلم وقيل : من الخوف إن
اتخذت غيره وليا عذاب يوم القيامة الشديد.
١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ...) أي من لا يناله العذاب بفضل الله (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي أشفق عليه الله سبحانه (وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) أي للعباد هو الربح والظفر الواضح.
١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) فإن أصابك ـ يا محمد ـ شيء من الضرر المادي أو المعنوي (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي لا رافع له (إِلَّا هُوَ) سبحانه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ
بِخَيْرٍ) أي إن يصبك بنعمة وفضل (فَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مستطيع قادر على كل من الخير والضر.
١٨ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ...) أي أنه سبحانه هو القادر الذي يقهر عباده بجميع معاني
القهر (وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ) الذي يفعل بهم ما تقتضيه الحكمة والعليم بجميع ما يليق
بهم.
١٩ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ...) يا محمد قل : أي شهادة هي أعظم عند سائر العالمين؟ ف (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ) : أي قل لهم الله أعظم شاهد يشهد لي بالنبوة والرسالة. (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) نزل بطريقة الوحي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ) والخطاب هنا لأهل مكة ونواحيها من جزيرة العرب ولسائر من
بلغه ذلك من غيرهم إلى يوم الوقت المعلوم. (أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاريّ أي قل لهم : كيف
تشهدون بذلك (قُلْ) يا محمد : (لا أَشْهَدُ) بما تشهدون به (قُلْ : إِنَّما هُوَ
إِلهٌ واحِدٌ) أحد لا إله معه ولا شريك (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرّأ من جميع أصنامكم التي تعبدونها من دون الله.
٢٠ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ...) وهم اليهود والنصارى الذين يعرفون توراتهم وإنجيلهم مثلما
يعرفون أولادهم ، ويعرفون ما فيهما من البشارة بمحمد (ص) (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من هؤلاء المنكرين (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون وهذا إخبار بالغيب منه سبحانه.
٢١ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أعظم ظلما ممّن يتعمّد الافتراء على الله تعالى.
(أَوْ كَذَّبَ
بِآياتِهِ) كمن كذّب بالقرآن العظيم وبمعجزات النبيّ (ص) (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزون برحمة الله ولا ينجحون بالتوصل إلى ما هدفوا
إليه من أكاذيبهم.
٢٢ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) أي جميع الكفار المكذبين يجمعهم يوم القيامة للسؤال. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا :
أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ؟) يعني أين الهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وتظنون غرورا أنهم شركاء لله.
٢٣ ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) ثم لم تكن معذرتهم التي يتوهّمون التخلص بها من عذاب الله.
(إِلَّا أَنْ قالُوا :
وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فهم يحلفون بالله كذبا لشدة حيرتهم أمام هذا السؤال
المفاجئ.
٢٤ ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ ...) بنفي شركهم وبالحلف على ذلك (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع عنهم ما افتروا به من أوثان وكذبوا على أنفسهم
بتنصيبها أربابا من دون الله.
٢٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...) يعني أن بعض هؤلاء المشركين يصغون إليك وأنت تتلو القرآن. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع كنان ، وهو ما يغطّي ويستر ، فقد حجزت الأكنّة بينهم
وبين (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ويفهموا معانيه (وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) أي ثقلا في السمع وصمما (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي لا يصدقون بها لعنادهم الشديد (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك ويناقشونك (يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) حين مجادلتك : (إِنْ هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والأساطير جمع أسطورة ، وهي الخرافات والأباطيل والمقصود
بالإشارة القرآن.
٢٦ ـ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ
...) أي أن الكفرة يمنعون غيرهم من اتّباع الكتاب والرسول ،
ويبتعدون عن كلّ واحد منهما. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعني أنهم بنهيهم هذا ومنعهم ذاك لا يهلكون إلّا أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) ولا يحسّون بأن ضررهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم.
٢٧ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ ...) يعني يا ليتك تراهم وقد عرضوا على جهنم (فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي نرجع إلى دار الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ
بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدّقين بالنبيّ (ص) من دون ريب وتكذيب.
٢٨ ـ (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ ...) يعني أنهم يوم القيامة يظهر لهم واضحا جميع ما كتموه من
كفرهم (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لو أرجعناهم إلى الحياة الدنيا لرجعوا إلى كفرهم
وتكذيبهم (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) فيما يقولون.
٢٩ ـ (وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا ...) أي : لو أعيدوا لعادوا إلى سالف قولهم المذكور. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ولنفوا البعث والحساب من جديد.
٣٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى
رَبِّهِمْ ...) أي أيقنوا بوجوده ووقفوا على صدق ما جاء عن عذاب الكافرين (قالَ) سبحانه لهم توبيخا : (أَلَيْسَ هذا
بِالْحَقِّ؟) أي البعث ، والحساب ، والجزاء. (قالُوا بَلى) فأجابوا : نعم (وَرَبِّنا) فحلفوا يمينا وأقرّوا بأن الأمر صار عندهم بغاية الوضوح (قالَ) سبحانه لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وعنادكم ذوقوا العذاب الذي كنتم تجحدون به.
٣١ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ ...) أي أن الذين كذّبوا بالبعث والحساب خسروا بعدم اعتقادهم
بذلك (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) يعني حين مجيء الموعد وقيام الساعة (بَغْتَةً) فجأة (قالُوا : يا
حَسْرَتَنا) فنادوا عند معاينتهم العذاب يا ندمنا (عَلى ما فَرَّطْنا) أي قصّرنا (فِيها) يعني في الحياة الدنيا. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) أي أثقال ذنوبهم وآثامهم (أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ) أي بئس الحمل حملهم.
٣٢ ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) اعتبرها جلّ وعلا هكذا لمن اتخذها لعبا ولهوا وكان أكثر
عمره في المعاصي والغرور والباطل (وَلَلدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي أنها بدوام نعيمها خير محض لمن يتجنّبون معاصي الله. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تفكّرون بذلك فتؤمنون بما وعد الله عباده الصالحين؟
٣٣ ـ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ ...) الضمير في قوله تعالى : إنه ، هو للشأن. أي أنه سبحانه يعرف
أنّ من طبع البشر أن ينسب إليهم الكذب والتكذيب. فلا يحزنك قولهم ساحر كذاب أو ما
أشبهه. (فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ) بل يرجع تكذيبهم إلى أنفسهم (وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) عن أكثر المفسرين : إنهم لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقادا
بكذبك ، بل يكفرون بآيات الله عزّ وعلا.
٣٤ ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ ...) قال الله سبحانه ذلك لتسكين قلبه (ص) لأن الرّسل كذّبوا (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) فلا بدّ لك يا نبيّ الله من الصبر في قبال أذى قومك أسوة
بغيرك من الأنبياء الذين كذّبوا (وَأُوذُوا حَتَّى
أَتاهُمْ نَصْرُنا) فكانوا هم الغالبين. (وَلا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِ اللهِ) أي لقضائه بإتمام وعده ونصره لرسله. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ) أي ممّا ورد عليك من أخبار الأنبياء قبلك.
٣٥ ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ ...) أي إذا ثقل عليك انصرافهم عنك وعمّا جئت به (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ
نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) تطلب منفذا ومدخلا في جوف الأرض (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) يعني مرقاة ترتقي عليها لتصعد بواسطتها إلى السماء (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) تجيئهم بمعجزة ، فافعل. (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بإلجائهم إلى
الإيمان (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْجاهِلِينَ) أي : فلا تجزع في مواطن الصبر فيكون حالك حال الجاهلين.
٣٦ ـ (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ ...) قد أكد سبحانه لنبيّه (ص) أنه لا يستجيب له إلّا الذين
يسمعون دعوته بتفهّم وتدبّر ، (وَالْمَوْتى
يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي يحييهم من قبورهم فيحكم فيهم ، (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يعادون للجزاء.
٣٧ ـ (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي واقترحوا مكابرة إنزال معجزة تكون غير ما أنزله الله
تعالى على رسوله من الآيات والمعجزات (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ
عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) أي مستطيع أن ينزل آية تلجئهم وتجبرهم على الإيمان كالبلاء
والصاعقة والقحط (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما في إنزالها وإن الآية إذا جاءت ولم يؤمنوا بها هلكوا.
٣٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليس من حيوان مخلوق على وجه الأرض (وَلا) من (طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) وقد ذكر الجناحين لأنهما مختصان بالحيوان الذي يطير في
الفضاء فجمع بهذين التعبيرين جميع المخلوقات (إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ) أي أنها جماعات تشبهكم في الخلق والإبداع ، وتدل على قدرة
صانعها. (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا في اللوح المحفوظ أو القرآن شيئا لم نبينه
مجملا أو مفصلا (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ) أي أنهم جميعا يبعثون ويجمعون للحساب.
٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ
وَبُكْمٌ ...) أي الذين كذّبوا بالقرآن هم طرش وخرس (فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات الجهل والكفر و (مَنْ يَشَأِ اللهُ
يُضْلِلْهُ) أي يخذله ويترك هدايته (وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يهديه ويساعده على الهدى.
٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ
عَذابُ اللهِ ...) أي : قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتم أنفسكم ، فيما لو
نزل عليكم عذاب الله في الدّنيا (أَوْ أَتَتْكُمُ
السَّاعَةُ) يوم القيامة ، (أَغَيْرَ اللهِ
تَدْعُونَ؟) وهذا تعجيز لهم لأنهم في مثل تلك الحال لا يدعون إلّا الله
سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأن الأصنام آلهة؟
٤١ ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ...) أي إلى الله تضرعون دون آلهتكم المزيّفة (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي يزيل ما حلّ بكم (إِنْ شاءَ) إذا أراد ، (وَتَنْسَوْنَ ما
تُشْرِكُونَ) أي تجعلون حينئذ آلهتكم وراء ظهوركم.
٤٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ ...) يعني : بعثنا رسلا إلى الأمم السابقة لعهدكم فكذّبتهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) أي شدة الفقر والبلاء (وَالضَّرَّاءِ) أي المرض (لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ) أي لكي يبتهلوا إلى الله فيرفع عنهم البلاء.
٤٣ ـ (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا
تَضَرَّعُوا ...) أي : أنه لمّا جاءهم بأسنا وعذابنا لم يتضرّعوا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) جمدت على كفرها (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) زخرف لهم أعمالهم الفاسدة بوسوسته.
٤٤ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) أي لمّا نسوا ما نزل بهم من البأساء والضراء ، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ
شَيْءٍ) من نعمنا وعطائنا رأفة وإتماما للحجة عليهم ، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) وبطروا ولم يشكروا المنعم بل نسوه (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (فَإِذا هُمْ
مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون آيسون من رحمته تعالى.
٤٥ ـ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ...) أي أهلك آخر من بقي منهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاك الظالمين المعاندين ، وعلى إعلاء كلمة الحق.
ويستفاد من هذا أنه ينبغي الشكر لله حين ينزل عذابا يطهر به الأرض من الظالمين.
٤٦ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ...) قل يا محمد لهؤلاء المعاندين : إنه في حال أن الله جعلكم
صمّا وعميا (وَخَتَمَ عَلى
قُلُوبِكُمْ) بأن غطّى عليها بعمى القلوب فصارت لا تعقل (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ
بِهِ؟) أي فهل لديكم ربّ قادر على إرجاع ما أخذ الله منكم؟ ... (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبيّنها ونوجهها (ثُمَّ هُمْ
يَصْدِفُونَ) يعرضون.
٤٧ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ
عَذابُ اللهِ بَغْتَةً ...) يعني فجأة (أَوْ) أنه أتاكم (جَهْرَةً) أي علنا وبتقديم مقدمة (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) يعني لا يهلك هلاك سخط إلّا الكافرون والظالمون. وهل هنا
للاستفهام الإنكاري.
٤٨ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ ...) أي لا نبعث أنبياءنا إلّا مبشّرين بالخير للمؤمنين وذلك
بأن لهم الجنة (وَمُنْذِرِينَ) مهدّدين للكفار بالنار (فَمَنْ آمَنَ
وَأَصْلَحَ) أي صدّق الرّسل وحسنت حاله (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) من عذاب الله يوم القيامة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) لفوت الثواب وخسارة الأجر الجزيل الذي وعد الله به
المؤمنين.
٤٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي : جحدوها وأنكروا ما جاءهم به رسلهم (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) يصيبهم سخط الله وعذابه (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) أي بسبب خروجهم على الإيمان.
٥٠ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزائِنُ اللهِ ...) قل يا محمد لهؤلاء العتاة العصاة ليس عندي مقدورات الله
جلّ وعزّ وجميع ما يملك. في مذخور علمه. فإن خزائنه سبحانه ليست كما نتصور بعقولنا
القاصرة أماكن يخزن فيها الرزق والنعم (وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ) أي لا أعرف ما انطوى عني من علم اختصّ الله تعالى به نفسه (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ولست ملكا من الملائكة (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ولكني أسير وفق ما يردني من أوامر الوحي (قُلْ) لهم : (هَلْ يَسْتَوِي) يتساوى لدى العقلاء (الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ) أي من يعلم ومن لا يعلم (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) ألا تتأمّلون بفكركم لتميّزوا بين الحق والباطل؟
٥١ ـ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ
أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ...) وأنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى رحمة ربّهم. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ
وَلا شَفِيعٌ) فقد حصر الولاية به سبحانه ثم الشفاعة التي أوردها بصيغة
المبالغة ليهتمّ الناس بها. (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) أي من أجل أن يخافوا العاقبة ويتوبوا إلى ربّهم.
٥٢ ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) أي لا تبعد عن مجلسك المؤمنين الّذين يطلبون رضى الله عند
الصباح وعند المساء ، (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يبتغون رضاه مخلصين له. والجملة حالية من الفعل :
يدعون. (ما عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لست مسئولا عن محاسبتهم وليس لك إلّا الأخذ بما عليه
ظاهرهم (وَما مِنْ حِسابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وليسوا مسئولين عن محاسبتك على ما تفعل (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ) فإنك تظلمهم بطردهم من حولك وهذا جواب النهي ، والفعل
منصوب بفاء السببية.
٥٣ ـ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
...) أي وهكذا اختبرنا بعضهم ببعض في أمور الدين وما جرى من
اختبار الأغنياء بهؤلاء الفقراء الذين طلبوا إبعادهم عن مجلس النبي (ص) مع أنهم
سبقوهم إلى الإيمان به واتباعه (لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ
مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي ليقول الأغنياء بإنكار : أهؤلاء الفقراء أنعم الله
عليهم بالتوفيق للخير والإيمان من دوننا مع أننا أغنياء وهم فقراء (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ) فسفّه قولهم مثبتا أنه تعالى أعرف بمن وفّقهم لشكره.
٥٤ ـ (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا ...) أي إذا جاءك يا محمد الّذين وصفوا بالتصديق بحججنا وأظهروا
توبتهم (فَقُلْ) لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا بأس عليكم إذ (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) يعني أوجبها على ذاته القدسية رأفة بعباده وهو أرحم بهم من
أنفسهم (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أي من ارتكب إثما عن جهل بالحكم (ثُمَّ تابَ) ندم وأقلع عن ممارسته ، (مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ) يعني تدارك الأمر بإتيان الأعمال الصالحة والتوبة والإنابة
(فَأَنَّهُ) جلّ وعلا (غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة ...
٥٥ ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ ...) أي : وهكذا نبيّن الآيات ونوضحها (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي : تتضح طريق الظالمين لأنفسهم. ولفظة سبيل : تذكّر
وتؤنّث.
٥٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ ...) أمر سبحانه نبيّه (ص) أن يعلن رفضه لعبادة ما يعبدونه
ويسمونه ربّا من أصنامهم (مِنْ دُونِ اللهِ) يعني غير الله تعالى. (قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ) أي لا أقلّدكم في اتّباع هوى نفوسكم الضالة وفي ذلك ما فيه
من قطع لأطماعهم في مساومته على دينه (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي انحرفت عن طريق الحق بإطاعتكم (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي : وما أصبت شيئا من الهدى. وفي الآية تعريض واضح بما هم
عليه من الكفر والضلال.
٥٧ ـ (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
...) أي على حجة واضحة من معرفة ربّي (وَ) أنتم (كَذَّبْتُمْ بِهِ) وأنكرتموه (ما عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي ليس بيدي إنزال العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون وقوعه ، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي أن القضاء بذلك بيد الله (يَقُصُّ الْحَقَ) أي يخبره ويقول به (وَهُوَ خَيْرُ
الْفاصِلِينَ) أي القاضين قضاء حقّا.
٥٨ ـ (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ...) أي أن ما تطلبون تعجيله من نزول العذاب لو كان بيدي وكنت
أملك أمره (لَقُضِيَ الْأَمْرُ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ولفصلت النزاع بيني وبينكم فأنزلت بكم العذاب غضبا لربي
وعقيدتي (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِالظَّالِمِينَ) أعرف بهم.
٥٩ ـ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ...) مفاتح : جمع مفتح يعني مخزن فعند الله تعالى خزائن علوم
الغيب التي (لا يَعْلَمُها إِلَّا
هُوَ) لا يعرفها غيره (وَيَعْلَمُ ما فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من ذوات الأرواح وغيرها (وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) يعرف لبثها على الغصن وأمدها وسقوطها وما قبل ذلك وبعده (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أي ما من حبة تسقط في جوف الأرض إلا يعلم بها ويعلم أين
صارت وكيف سقطت (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ) أي جميع ما في الكائنات لأنها إما من اللدن الأخضر أو
اليابس الجافّ ، فليس شيء من ذلك يفوت علمه ، وما من شيء مخلوق (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي في لوح محفوظ مسجّل وهو ثابت في علمه سبحانه ، لأن علمه
تعالى ذاتي لا يقيده شيء.
٦٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ ...) التوفّي هو المجيء للملاقاة ، فيكون إما بقبض الروح عند
النوم بأخذ أرواحكم الواعية إليه. أو عند الموت. (وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ) أي يعرف ما كسبتم وعملتم (بِالنَّهارِ) أو غيره (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ) أي يوقظكم وينبّهكم في النهار من نومكم (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي ليحين أجل موتكم. (ثُمَّ إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ) أي إلى الله سبحانه معادكم (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا.
٦١ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ...) أي الغالب لهم (وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يبعث ملائكة تحميكم وتحصي أعمالكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) حان حينه (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي قابضو الأرواح (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) يعني لا يسبقون الأجل المقدّر ولا يتأخرون عنه.
٦٢ ـ (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ ...) أي أنهم بعد قبض أرواحهم وموتهم أعيدوا إلى مولاهم : من
يتولّى أمورهم ومالكهم وهو الله عزوجل. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يعني والحكم بمصائر الخلق محصور به سبحانه (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) إذ يحاسبهم كلمح البصر.
٦٣ ـ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أي من يخلّصكم من أهوالهما. (تَدْعُونَهُ) تبتهلون إليه (تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً) : أي علانية وسرا (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ
هذِهِ) أي خلّصنا مما نحن
فيه من شدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) لنصيرنّ من الحامدين لله المطيعين له.
٦٤ ـ (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ
كُلِّ كَرْبٍ ...) قل يا محمد للناس : إن الله تعالى هو الذي ينجي الناس من
الشدائد التي تحيق بهم في البرّ والبحر ، ومن كل حزن (ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ) أي تجعلون له شريكا بعد ظهور الحجة عليكم ما لا يقدر على
الإنجاء من شيء.
٦٥ ـ (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذاباً ...) أخبر هؤلاء يا محمد أن الله قادر على إنزال العذاب عليكم (مِنْ فَوْقِكُمْ) كما فعل بأصحاب الفيل (أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ) أي بالزلازل والخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً) أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء فيما بينها (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) وذلك بأن يحصل النزاع والقتال فيقتل بعضكم بعضا (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي تأمّل كيف نبيّن الدلائل (لَعَلَّهُمْ
يَفْقَهُونَ) طمعا بأن يتفكّروا ويعلموا الحق من الباطل.
٦٦ ـ (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ
الْحَقُّ ...) الخطاب للنبي (ص) فقد كذّب بالقرآن القرشيون والعرب مع أنه
يدل على الحق ف (قُلْ) لهم : (لَسْتُ عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ) أي حافظ.
٦٧ ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ) : أي لكل خبر تلوته عليكم وأنذرتكم به وقت استقرار وحصول.
وستعرفون عند وقوعه عاقبة تهديدي ووعيدي.
٦٨ ـ (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آياتِنا ...) أي إذا صادفت الكافرين يتحدثون فيما بينهم ساخرين بآياتنا
ذامّين للقرآن وهازئين به (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : لا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا) أي يأخذوا (فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) يعني غير الاستهزاء بالقرآن. (وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) فإذا أنساك الشيطان نهينا عن مجالسة الخائضين في آياتنا (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي : فلا تجلس بعد أن تتذكّر نهينا (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني معهم. والخطاب للنبيّ (ص) ولكن مفاده موجّه للأمة.
٦٩ ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ...) أي ليس من واجب على المؤمنين المتجنّبين ما يسخط الله ، حين
مجالسة الخائضين في آيات الله ، (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ) إذ لا تلحقهم تبعة الكافرين ولا يحاسبون بقول غيرهم. (وَلكِنْ) ينبغي أن يكون جلوسهم معهم (ذِكْرى لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) فعليهم تذكيرهم بالحسنى بخطاياهم لعلّهم يقلعون عن
الاستهزاء بآيات الله.
٧٠ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ
لَعِباً وَلَهْواً ...) يعني : دع يا محمد هؤلاء الذين دينهم الذي هو عبادة
الأصنام لهو ولعب ، لأن عبادتهم لأصنامهم لا تجر لهم نفعا ولا تدفع عنهم ضرّا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعهم ما في الحياة على هذه الأرض من مغريات وقيل : إن
الأمر بترك هؤلاء في هذه الآية قد نسخه آية السيف. (وَذَكِّرْ بِهِ) أي خوّف بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِما كَسَبَتْ) يعني أن تسلم للهلكة وتعرّض للعذاب بسوء ما كسبت من الإثم
وتؤخذ بقبح أعمالها حين تغدو و (لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فلا وكيل يدافع عنها ولا متوسّط يشفّع بها (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي ولو تدفع أية فدية كانت (لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي لا يقبل منها (أُولئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي حبسوا بأعمالهم الخبيثة وعقائدهم الفاسدة (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ
أَلِيمٌ) أي ماء مغليّ حار وعذاب موجع (بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم.
٧١ ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ...) قل لهم يا محمد : أنعبد غير الله ، ونسمّي ربّا لا يقدر
على جلب النّفع لنا ولا يستطيع أن يدفع عنّا الضرّ (وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا) أي ننصرف عما نحن عليه ونرجع القهقرى ونترك دين الحق؟ (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أرشدنا إلى الإسلام ، (كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أي كمن أغرته الأبالسة باتباع الهوى وقذفت به في مهواة سحيقة
وتركته (فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ) ضالّا لا يعرف كيف يتخلص (لَهُ أَصْحابٌ) رفاق (يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى) يرشدونه إلى الحق ويدلونه على طريق الرشاد قائلين له : (ائْتِنا) أي كن معنا ، فيعرض عن دعوتهم ف (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ هُدَى اللهِ) إلى دين الإسلام (هُوَ الْهُدى) والرشاد الصحيح (وَ) نحن المسلمين إنما (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أوجب علينا التسليم إلى الله والانقياد إليه. والمقصود
من ذكر الإسلام بالخصوص هو التنبيه على عظمته ، ولذلك عقّب سبحانه بقوله :
٧٢ ـ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) عطف على قوله السابق : لنسلم أي : أدّوها وأظهروا إقامتها.
(وَاتَّقُوهُ) بتجنب معاصيه (وَهُوَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم الحشر إلى الله ليجازى كلّ عامل بعمله. ففي
الخبر : إن الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.
٧٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) قد أشار سبحانه إلى ذلك ليبيّن عظمته لأنه خلقهما (بِالْحَقِ) أي على وفق الحكمة وفي غاية النظام وبقدرة غير متوفرة
لسواه. (وَيَوْمَ يَقُولُ
كُنْ فَيَكُونُ) فالمراد بكلمة : كن ، هو إرادته سبحانه ، أي يريد فيكون ما
يريد فبمحض إرادته يحصل المراد إيجادا كان أو إعداما من دون الحاجة إلى التلفظ
بكلمة كن. أو لا تكن. (قَوْلُهُ الْحَقُ) أي الثابت الذي تجب طاعته (وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي له السّلطة والسطوة حين النفخ في الصور لبعث الخلائق
بعد الموت ، (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي العارف بما يشاهده المخلوقون وبما استتر عنهم. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أفعاله (الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء.
٧٤ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
آزَرَ ...) أي واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه الذي كان اسمه آزر. (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) يعني أتجعل الأصنام أربابا من دون الله؟ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) أي ضلالة واضحة عن الصواب. وقد كان قوم إبراهيم (ع) يعبدون
النجوم ، ولذا ردّ عليهم إبراهيم (ع) بأفولها ثم استهزأ بعبادتهم لها وللأصنام إذ
هم يعبدون ما لا عقل له ولا إدراك بل هي جماد محض لا تملك من أمرها شيئا.
٧٥ ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ...) أي وبهذه الطريقة من التفهيم ، نبصّر إبراهيم (ع) (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني حقائقهما وما هما عليه في الواقع ، (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي المتيقنين بأن الله سبحانه هو الخالق والمالك لكل ذلك
يقينا لا يمكن زواله ولا زلزلته.
٧٦ ـ (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...) أي أظلم وستره ظلامه (رَأى كَوْكَباً ،
قالَ هذا رَبِّي) يعني قال ذلك على سبيل المماشاة والمصانعة مع قومه ليتدرّج
إلى رفض ذلك بالحجة فإن الأنبياء كلهم معصومون. (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ) لأن الغروب لا يجوز على الإله.
٧٧ ـ (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً ...) أي شارعا بالطّلوع (قالَ هذا رَبِّي) مستنكرا أن يكون هو المعبود (فَلَمَّا أَفَلَ) غرب (قالَ : لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي) يرشدني إلى الحق (لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) بعبادة هذه الحوادث وبهذا القول أظهر عجز نفسه واستعان
بربّه من أجل الوصول إلى الهدى.
٧٨ ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ
هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ...) فحين نظر للشمس طالعة وقد ملأت الدنيا بنورها قال هذا ربي
ـ منكرا ومستنكرا ـ هذا أكبر من الكوكب والقمر (فَلَمَّا أَفَلَتْ) غابت (قالَ : يا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرأ من شرككم بالله وعبادتكم لأجرام مخلوقة.
٧٩ ـ (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ...) إنّي التفتّ بوجهي وأقبلت بقلبي إلى الله الذي خلق
السماوات والأرض مخلصا مائلا عمّا أنتم عليه من الوثنية (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله سبحانه إذ ليس كمثله شيء.
٨٠ ـ (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ...) أي جادلوه في التوحيد والربوبية دفاعا عن أوثانهم (قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ؟) تجادلونني بربي الواحد الأحد الخالق الرازق وفي وحدانيته ،
(وَقَدْ هَدانِ) دلّني بفضله على توحيده؟ (وَلا أَخافُ ما
تُشْرِكُونَ بِهِ) ولا أرهب آلهتكم ، أن تضرّني كما لا آمل أن تنفعني لأنها
جماد لا تنفع ولا تضرّ (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
رَبِّي شَيْئاً) يعني إلّا إذا قدّر ربّي أن يصيبني بذنب ارتكبته أو أن
أختار لنفسي الكفر فيخلّي بيني وبين اختياري الفاسد ، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يعني أن علم الله تعالى واسع : أحاط بكل شيء (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أو ليس في ذلك ذكرى لكم.
٨١ ـ (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ...) مع أن معبوداتكم لا يتعلّق بها نفع ولا ضرر؟ (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللهِ) القادر المهلك الذي هو حقيق بالخوف ، (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) الله (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) برهانا يجيز إشراككم به سبحانه عن حجة قاطعة. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أنا أو أنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) من خوف عاقبة الأمر (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي تعقلون وتدركون مصائر الأمور وعواقبها.
٨٢ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ...) أي : ولم يمزجوا ولم يضمّوا ظلما إلى إيمانهم كالشرك (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي الأمان يوم القيامة من العقاب (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق وقيل الجنة.
٨٣ ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ ...) وتلك : إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم (ع) على قومه ، فتلك
أدلتنا التي أعطيناها إبراهيم وأرشدناه إليها فاحتجّ بها (عَلى قَوْمِهِ) الكافرين فأفحمهم (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
مَنْ نَشاءُ) أي : نرقّي في العلم والإيمان من نريد (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه.
٨٤ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
...) أي أعطينا إبراهيم إسحاق وهو ابنه من سارة ويعقوب حفيده من
إسحاق (كُلًّا) أي كلّ الثلاثة (هَدَيْنا) أرشدنا إلى الحق (وَ) مثلهم (نُوحاً هَدَيْنا مِنْ
قَبْلُ) أي قبل هؤلاء (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نسل نوح أو إبراهيم (ع) (داوُدَ وَسُلَيْمانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) وكلّهم أنبياء (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) نثيبهم (وَ) مثلهم (زَكَرِيَّا وَيَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني وجميعهم من عباد الله الصالحين.
٨٦ ـ (وَإِسْماعِيلَ ...) أي ابن إبراهيم (ع) هو من تلك الذرية الصالحة (وَ) كذلك (الْيَسَعَ) قيل هو ابن أخطوب (وَيُونُسَ) بن متّى (وَلُوطاً) بن هاران (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا عَلَى
الْعالَمِينَ) أي قدمناهم على الناس في زمانهم بالنبوّة.
٨٧ ـ (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ ...) يعني أنه سبحانه فضّل غير أولئك الرسل المذكورين أيضا من
آبائهم وإخوانهم وذريّاتهم على أهل أزمنتهم. (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي واصطفيناهم (وَهَدَيْناهُمْ) دللناهم على الحق (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) طريق الهدى وهو الإسلام.
٨٨ ـ (ذلِكَ هُدَى اللهِ ...) أي أن هذه الإنعامات على النبيّ إبراهيم وذرّيته هي إرشاد
منه سبحانه إلى الثواب المختص بالمؤمنين (يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي من يريد (وَلَوْ أَشْرَكُوا) وعدّوا معي من لا يماثلني (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لفسد عملهم وبطل لأنهم أوقعوه على غير الوجه المطلوب.
٨٩ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ ...) المراد بالكتاب الجنس ، يعني أنه أعطى كلّ واحد ممن ذكر من
الأنبياء كتابا فيه بيان أوامره ونواهيه ، (وَالْحُكْمَ) أي الحكمة (وَالنُّبُوَّةَ) في زمانه (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي إذا أنكر هذه الثلاثة الأشياء التي منحناك إياها يا
محمد ، (هؤُلاءِ) أي الكفار الذين جحدوا نبوته (ص) (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي منحنا التفويض في الإيمان بها (قَوْماً) من غيرهم (لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ) لا ينكرونها.
٩٠ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) والمعنى أن من ذكرناهم من الأنبياء هم الّذين هداهم الله (فَبِهُداهُمُ) أي بطريقتهم في التصديق والصبر (اقْتَدِهْ) أي اجعلها لنفسك قدوة. (قُلْ) يا محمد للناس : (لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) أي جعلا وأجرة على تبليغ الرسالة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي أن تبليغي تذكير للناس كافة.
٩١ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) الضمير في : قدروا : عائد لليهود ، أي ما عرفوه حق معرفته
وما عظموه حق عظمته (إِذْ قالُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) حين أنكروا بعثة الرّسل والوحي. (قُلْ) يا محمد : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ
الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى؟) وهو التوراة (نُوراً وَهُدىً
لِلنَّاسِ؟) يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا ودلالة
يهتدون بها (تَجْعَلُونَهُ
قَراطِيسَ) جمع قرطاس وهو الورقة. أي تجعلون كتابكم أوراقا متفرّقة (تُبْدُونَها) أي تظهرونها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ممّا حوى صفات محمد (ص) (وَعُلِّمْتُمْ ما
لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أي أنكم أيها اليهود تفعلون ذلك في حال أنكم ـ بفضل القرآن
ـ قد عرفتم الكثير مما كنتم تجهلونه ويجهله آباؤكم. (قُلْ) يا محمّد أنزلها (اللهَ) تعالى (ثُمَّ ذَرْهُمْ) دعهم (فِي خَوْضِهِمْ) باطلهم (يَلْعَبُونَ) ويلهون عابثين.
٩٢ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ، مُبارَكٌ
...) هذا : يشير به إلى القرآن نعته بالبركة لكثرة نفعه وجليل
فائدته ، أنزلناه من السماء إلى الأرض فهو (مُصَدِّقُ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي يشهد بأنها حق (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى) أي : لتحذّر وتخوّف من العقاب أهل مكة (وَمَنْ حَوْلَها) يعني أهل الشرق والغرب والجهات الأخرى ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ويصدّقون بالبعث والحساب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون بهذا الكتاب (وَهُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي أنهم يداومون على صلاتهم ويؤدونها بشروطها وأجزائها.
٩٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممّن يدّعي النبوّة وهو ليس بنبي افتراء
على الله. (أَوْ قالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما
أَنْزَلَ اللهُ) وهذا كلّه بيان لحال من يدّعي ذلك ، وقيل إنها كلها في ابن
أبي سرح ، وهي تكرار لما كان يقوله ويذيعه بين أترابه ... (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي : ليتك يا محمد ، تنظر إلى الظالمين وهم يعالجون سكرات
الموت ويذوقون شدائدها المنكرة (وَالْمَلائِكَةُ) من حولهم (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي قد مدّوا أيديهم لقبض أرواحهم وقالوا لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي أعطونا أرواحكم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذابَ الْهُونِ) أي عذابا تلقون فيه الهوان والذل (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فأنتم مستحقّون لذلك لأنكم كذلك.
٩٤ ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) يقول سبحانه : جئتم إلينا واحدا واحدا ، صفر اليدين ممّا
كنتم تملكون من جاه ومال وعشيرة. (كَما خَلَقْناكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : كما كنتم في بدء الخليقة لا ناصر ولا معين (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي خلّفتم وراءكم كلّ ما تفضّلنا عليكم به (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في دار الدّنيا (وَما نَرى مَعَكُمْ
شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) والمراد بالشّفعاء الأصنام فإننا لا نراها معكم لتشفع لكم
، بل (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) أي انقطعت الصلة بينكم وبينهم. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي : ضاع (ما كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ) الذي كنتم تظنّون أنه شفيع وشريك له سبحانه في ربوبيّته.
٩٥ ـ (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى
...) يعني شاقّ الحب والنوى أي الحب والبذور ليخرج منها الأشجار
المثمرة بأنواعها (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) أي الحيوان من النّطفة ، (وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كخروج البيضة من الدجاجة. (ذلِكُمُ اللهُ) أي فاعل ذلك كله هو الله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تنصرفون عنه إلى غيره.
٩٦ ـ (فالِقُ الْإِصْباحِ ...) أي أنه تعالى مخرج عموم الصّبح ومبين النور من ظلمات الليل
(وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً) أي سكونا فيه للناس يستراح فيه (وَ) جعل (الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي لحساب الأوقات في النهار والليل. (ذلِكَ) أي ما ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ) كان بتقدير قادر قاهر دقيق العلم بها وبغيرها.
٩٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) قد ذكر سبحانه النجوم لأنها أعمّ من القمر ولأنها كثيرة
العدد ، خلقت لتهتدوا بضوئها وطلوعها ومواقعها أثناء سيركم في البر والبحر. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بينّا الحجج وأظهرناها ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يتفكرون فيتيقنون.
٩٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) أي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس آدم (ع) (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي هناك محل تستقرّون فيه ومحلّ نودعكم إياه. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ) أي يعلمون عن تفكّر وتبصّر وتدبّر.
٩٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً ...) المراد بلفظ
السماء يعني الفوق والعلوّ ، سواء كانت السماء الدّنيا أو ما فوقها أو ما تحتها ،
وقيل : المراد منه السحاب. (فَأَخْرَجْنا بِهِ
نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فأبرزنا بواسطته جميع ما تنبته الأرض. (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) أي نبتا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ
حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسّنبل (وَمِنَ النَّخْلِ
مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من حمل النخل أعذاق الرطب قريبة المتناول (وَ) كذلك أنشأنا (جَنَّاتٍ مِنْ
أَعْنابٍ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي أن بعضها يماثل بعضا في الطّعم واللّون والحجم ، وبعضها
مغاير له (انْظُرُوا إِلى
ثَمَرِهِ) وتأمّلوه تأمّل اعتبار (إِذا أَثْمَرَ) حين خروج ثمره (وَ) انظروا (يَنْعِهِ) أي نضوجه (إِنَّ فِي ذلِكُمْ
لَآياتٍ) ففي هذه الظواهر العجيبة معاجز وبراهين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون.
١٠٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) .. الجنّ بيان للشركاء أو بدل من اللفظة ، والمراد بالجنّ
هنا الملائكة وقد سمّاهم تعالى هكذا لخفائهم عن الأنظار ، ذلك أن الكافرين كانوا
يشركون به سبحانه ويعبدون الملائكة. (وَخَلَقَهُمْ) أي خلق جميعهم من عبّاد ظالّين ومعبودات باطلة. (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) أي كذبوا واصطنعوا من عندهم بنين وبنات لله تعالى إشارة
إلى النصارى واليهود حيث جعلوا عزيرا والمسيح ابني الله وإلى المشركين الذين جعلوا
الملائكة بناته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجة (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَصِفُونَ) أي عزّ وسما عن أن يكون له ولد لأنه لم يلد ولم يولد.
١٠١ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي : هو مبدعهما ومنشؤهما بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على
مثال سبق. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ
وَلَدٌ) فكيف ومن أين يكون له ولد (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صاحِبَةٌ) أي زوجة تصاحب الزوج عادة (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) خلق كلّ ما صدق عليه الشيء المخلوق من الذرّة إلى الدّرة
وهو عارف تمام المعرفة بها جميعها.
١٠٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ...) يعني هذا الموصوف بما سبق هو الله خالقكم ومالككم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ سواه ، لأنه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : بارئه وصانعه وواهبه الوجود (فَاعْبُدُوهُ) لأنه جلّ وعلا مستحقّ للعبادة وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حافظ ومدبر.
١٠٣ ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصارَ ...) أي لا تراه العيون ولا تحيط بكنهه العقول بل هو يراها
ويحيط بها. (وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ) أي هو الرفيق الرؤوف بعباده العليم بكل ما يصلحهم ويفسدهم.
١٠٤ ـ (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
...) يعني جاءتكم من ربّكم براهين شافية لمن تبصّر بها (فَمَنْ أَبْصَرَ) رأى الحق وآمن به (فَلِنَفْسِهِ) أي أنه ينفعه ذلك لنفسه (وَمَنْ عَمِيَ) لم ير الحقّ وكفر (فَعَلَيْها) يعني يكون قد جنى على نفسه فوقع عليها وبال عماه بسوء
اختياره لها (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست برقيب على أعمالكم أحصيها عليكم.
١٠٥ ـ (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ...) أي على هذا الشكل من البيان نغيّر الآيات ونبدّل بعضها
ببعض ، وننقلها من حال إلى حال ليتمّ البرهان القاطع على صدق ما أنزلناه (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي اليهود أو قريش يقولون تعلّمت تصريف هذه الآيات من أهل
الكتاب ، (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نوضح القرآن بلحاظ ما اشتمل عليه من آيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وهم المؤمنون المنتفعون به.
١٠٦ ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ ...) أي : اسلك طريق ما نزل عليك من وحي الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ غيره (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ) أي : انصرف عنهم وعن أقوالهم لا شيء فيها من الحقائق بل هم
عمي عن طريق نجاتهم.
١٠٧ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا ...) يعني : لو أراد الله أن يتركوا الشرك جبرا لفعل إلا أنه لم
يرد ذلك لأنه ينافي فلسفة الثواب والعقاب فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي لم ننصبك عليهم مراقبا (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ولست موكّلا بأمورهم لتجبرهم على التوحيد.
١٠٨ ـ (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي لا تشتموا المشركين الذين يسمّون غير الله بالرّبوبية (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي اعتداء على الحق (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل به سبحانه ، (كَذلِكَ زَيَّنَّا
لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي في مثل هذه الحال أرينا كلّ قوم عملهم مقبولا وحسنا
بنظرهم وفقا لاختيارهم دون جبر (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ) أي معادهم (فَيُنَبِّئُهُمْ) يخبرهم (بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) إذ يطلعهم على ما فعلوه.
١٠٩ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ ...) أي حلفوا به تعالى أيمانا مغلظة (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من الآيات التي كانوا يقترحونها عليه (ص) (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ليصدّقنّ بها ، (قُلْ) يا محمد : (إِنَّمَا الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ) فإنزال المعجزات منحصر بالله لأنه وحده القادر عليها. (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي ما يدريكم والاستفهام إنكاري (أَنَّها) أي الآيات التي يقترحونها (إِذا جاءَتْ لا
يُؤْمِنُونَ) فهؤلاء كذّابون مكذّبون.
١١٠ ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ ...) أي نحوّل قلوبهم وعيونهم عن سبيل المعرفة المؤدية إلى
الإيمان إلى تلك التي تؤدي إلى الشرك (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) المراد بأول مرة : قبل بعثة محمد (ص) ودعوتهم للإسلام ،
فهو سبحانه عالم بحالهم ومآلهم ، وبأنهم لا يؤمنون أبدا ولا أزلا. (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) أي ندعهم مستغرقين في تجاوزهم طريق الهداية ، متحيّرين
متخبّطين فيما هم فيه.
١١١ ـ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ ...) كما طلبوا منك ورأوا الملائكة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) وذكروا لهم ما رأوه من أهوال الموت والقبر والبرزخ (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ
قُبُلاً) أي : ولو جمعنا إليهم كلّ شيء قبائل وجماعات ، (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) باختيارهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) ويريد إرادة جبر وإكراه على الإيمان. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) لا يعلمون بأن الله قادر على كل ذلك.
١١٢ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا ...) أي كما أنّ لك أعداء يا محمد ، فكذلك كنّا قد جعلنا لغيرك
من الأنبياء أعداء. (شَياطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِ) أي مردة هؤلاء وهؤلاء. (يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي ينفث هذا لهذا قولا منمّقا يموّه الحقائق على نحو الغش
والخداع (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة جبر (ما فَعَلُوهُ) ولكفّوا عن عداوتك مكرهين (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) يعني : اتركهم في كذبهم على الله وعلى الناس.
١١٣ ـ (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ...) أي : دع أعداءك على ما هم عليه من الافتراء وزخرف القول
وليستمع إليهم من يستمع من الّذين لا يؤمنون بالبعث والحساب ، (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي ليأثموا ويكتسبوا الذنوب.
١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ...) أي : قل يا نبيّ الله لهؤلاء المعاندين : أتريدون مني أن
أطلب حكما بيني وبينكم غير الله سبحانه وتعالى؟ (وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) وهو الذي أنزل إليكم القرآن مبيّنا مبهمه ظاهرة آياته ، (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني اليهود والنّصارى (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) يعرفون ذلك عن القرآن ويعرفون أنه حقّ ، لما رأوه في
توراتهم وإنجيلهم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكّين المتردّدين في حقانيته والخطاب للأمة من
خلاله (ص).
١١٥ ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً ...) يحتمل قويّا أن يكون المراد بالكلمة هو الإسلام حيث اتّصف
بالصدق. وقيل إن المراد بالكلمة القرآن الذي هو عدل في كل جانب من جوانبه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغيّر لأحكامه. (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) مر معناه.
١١٦ ـ (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) نهى الله سبحانه النبيّ (ص) عن إطاعة أكثر الناس وهم
الكفار وقال له : لأنهم يضلّونك عن طريق الحق وعن الدّين الذي اختاره لك. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي لأنهم لا يتبعون فيما يعتقدون من شرك إلا الظن من دون
برهان وحجة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) أي يكذبون على الله سبحانه.
١١٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ
يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي إنه سبحانه أكثر علما من كلّ عليم ، يعرف الضالّين عن
طريقه (وَهُوَ أَعْلَمُ) كذلك (بِالْمُهْتَدِينَ) الذين اتّبعوا سبيله.
١١٨ ـ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ ...) أي : ذكر اسم الله على ذبحه ، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره
تعالى من الأوثان أو ممّا مات حتف أنفه. (إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين بحججه سبحانه.
١١٩ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي : ولا مانع يمنعكم من أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه
خصوصا (وَقَدْ فَصَّلَ) بيّن (لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ) أي جعله محظورا ممنوعا ، (إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي قد تلجئكم الضرورة إلى أكل ذلك الحرام من اللحم فيكون
حلالا أكله ، لأن الضرورات تبيح المحظورات (وَإِنَّ كَثِيراً) من الناس (لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ) أي : يحلّلون المحرّم حسب رغباتهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل بالحكم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) لأنه مطّلع على المتجاوزين لحدود الله.
١٢٠ ـ (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ
...) يعني : دعوا ما فيه ذنب في ما يعلن وما يسرّ ، وقيل : أراد
بالظاهر افعال الجوارح وبالباطن أفعال القلوب. (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يقترفون الذنوب (سَيُجْزَوْنَ) يعاقبون (بِما كانُوا
يَقْتَرِفُونَ) بسبب ما كانوا يجنون من معاصي وآثام.
١٢١ ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي عند الذبح مما حلّ أكل لحمه وفي هذا تصريح باشتراط
الحلية بالتسمية على الذبيحة. والحاصل أنه سبحانه وتعالى نهى عن أكل غير ما ذكر
اسمه عليه وقال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي أن الأكل مما لم يذكر اسمه عليه عند ذبحه حرام لأنه
خروج على حكم الله (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي أن الأبالسة من الإنس والجنّ يوسوسون إلى أتباعهم (لِيُجادِلُوكُمْ) ليحاجّوكم (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ) تذعنوا لقولهم بأكل الميتة (إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) بترك دين الله واتباعهم.
١٢٢ ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
...) أي هل من كان ميتا بالكفر فأحييناه بهدايتنا له إلى الإيمان
(وَجَعَلْنا لَهُ
نُوراً) أي علما (يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ) بذلك النور حيث يسير على هداه (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي لا يكون كالذي صفته في ظلمات الكفر والضلال (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال كونه باقيا في جهله (كَذلِكَ) أي كما زيّن للمؤمن إيمانه (زُيِّنَ
لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني حسّن لهم الشيطان عقائدهم الفاسدة.
١٢٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكابِرَ مُجْرِمِيها ...) أي كما جعلنا أكابر مكة فسّاقها ، كذلك جعلنا في كلّ قرية
أكابر فجرتها (لِيَمْكُرُوا فِيها) ولنعرف من يتّبع الحق ممّن يتّبع مكرهم (وَ) لكن (ما يَمْكُرُونَ
إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي أنهم لو عقلوا لرأوا أن وبال مكرهم يحيق بهم دون غيرهم (وَما يَشْعُرُونَ) ولا يحسّون بذلك.
١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ ...) أي إذا جاءت كفّار مكة معجزة من عند الله قالوا لن نصدّق
بها. وقالوا لن نؤمن (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ
ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي حتى ينزل علينا مثل ما نزل عليك من الوحي. (اللهِ) تعالى (أَعْلَمُ) أعرف (حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) أين يضعها وعلى من ينزلها. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا) أي سيحلّ بهؤلاء الأكابر وغيرهم ممن انقطع إلى الكفر (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي : ذلّ يوم القيامة. (وَ) سينالهم أيضا (عَذابٌ شَدِيدٌ) صعب أليم (بِما كانُوا
يَمْكُرُونَ) أي : بسبب مكرهم وعنادهم في دار الدنيا.
١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ...) أي من يلطف به بأن يريد له الهدى ويشاءه (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يوسع قلبه لذلك ويفسح له فيه. (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي : ومن لا يستحق الهداية ولا يرغب فيها يجعل قلبه كثير
الضّيق بالأمور السماوية ، وإذا أمر بالإيمان كأنما أمر بالصعود إلى السماء مع ما
فيه من المشقة (كَذلِكَ) أي في مثل هذه الحالة (يَجْعَلُ اللهُ
الرِّجْسَ) أي الشكّ (عَلَى) قلوب (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بالله ورسوله.
١٢٦ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ...) أي أن الإسلام وما أنت عليه مما أمرناك به يا محمد هو طريق
الله لا اعوجاج فيه. (قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ) أي أقمنا الحجج بيّنة ، (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي للجماعة التي تريد أن تنتفع بما فيها.
١٢٧ ـ (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
...) أي دار السلامة الدائمة المضمونة لهم عند ربهم وهي الجنة.
وهي دار الله التي أعدّها للمؤمنين الصالحين. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي المتولّي لأمورهم والناصر لهم على أعدائهم. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدّنيا.
١٢٨ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) أي يجمع جميع الخلق يوم القيامة جنّهم وإنسهم (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) أي يا جماعة الجن منهم : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ
مِنَ الْإِنْسِ) أي رغبتم في ازدياد عددكم وعدد من اضللتموهم من الإنس. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي الّذين أطاعوهم من الإنس (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بالجنّ لأنهم زيّنوا لهم شهواتهم فأنسوا
بذلك حين ظنّوا أن الجنّ أقدروهم على ذلك (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا
الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعني فعلنا ذلك حتى أتى يوم القيامة (قالَ) الله (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي أن جهنّم مقامكم (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما (إِلَّا ما شاءَ اللهُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي أنه في أفعاله حكيم وبخلقه عليم.
١٢٩ ـ (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضاً ...) أي نخلّيهم في نار جهنّم حتى يتولّى بعضهم بعضا. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما ارتكبوه من الذنوب فصار سببا لدخولهم
النّار.
١٣٠ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) هذا نداء واستفهام توبيخيّ منه سبحانه ، يعاتب فيه الإنس
والجنّ بأنه قد أرسل إليهم رسلا منهم (يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يحكون لكم ما أنزلته عليهم من الآيات التي تبيّن
الأوامر والنواهي ، ويخوّفونكم من يوم القيامة الذي أحاسبكم فيه. (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي : اعترفنا بالتقصير والعصيان. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي غشّتهم بما فيها من زينة (وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أقروا بالكفر واستحقاق العقاب.
١٣١ ـ (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ...) أي أن الأمر كما ترى يا محمد ، فالله لا يظلم ولا يعاقب
أحدا إلّا بعد إتمام الحجة بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين وحاشاه أن يهلك أحدا أو أن
يهلك قرية (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي بغتة من دون تنبيه وإنذار وإعذار.
١٣٢ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي أن لكلّ واحد من المكلّفين مراتب معيّنة يوم القيامة
بسبب ما فعلوه في الدنيا من الطاعات أو المعاصي. وهذه الدرجات تكون طباق عملهم
وجزاء فعلهم. (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ) أي ليس ساهيا ولا ناسيا ولا لاهيا (عَمَّا يَعْمَلُونَ) من خير أو شر.
١٣٤ ـ (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ
...) أي أنه تبارك وتعالى غير محتاج إلى خلقه لا تنفعه طاعتهم
ولا تضره معصيتهم بل هو صاحب النعمة على خلقه مع كونه غنيا عنهم يترحم عليهم
بالتكليف لنفع أنفسهم وليجود عليهم بنعم الآخرة. وبما يعوضه من درجات فيها لا تنال
إلّا استحقاقا بالعمل بالطاعات والتي لا تقاس بما في دار الدنيا من نعيم زائل ولذة
موهومة ، وهو سبحانه : (إِنْ يَشَأْ) إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم ويفنكم ويستغن عن وجودكم أيها الطغاة (وَيَسْتَخْلِفْ) أي يخلق (مِنْ بَعْدِكُمْ) أيها الناس (ما يَشاءُ) من الخلق (كَما أَنْشَأَكُمْ
مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي قرنا بعد قرن. وأحفادا بعد آباء وأجداد.
١٣٤ ـ (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ...) أي ما نعدكم به من الحشر والثّواب والعقاب كائن محتوم (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولستم بخارجين من سلطان الله تعالى ولا من مملكته.
١٣٥ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ولسائر الكفّار :
اعملوا غاية استطاعتكم (إِنِّي عامِلٌ) أنا صانع أيضا على مكانتي واقتداري كما أمرت بحيث أبقى
ثابتا على ديني (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ستعرفون بعد حين (مَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ) أي من هو الذي يفوز بالدار الحسنى والجنة في يوم القيامة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفرون بمرادهم. ولا يخفى أن التهديد جاء بصيغة
الأمر مبالغة في الوعيد ، وتسجيلا على المأمور بأنه لا يأتي منه إلّا الشر ، وهذا
كقوله سبحانه : اعملوا على مكانتكم.
١٣٦ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ...) يعني أن المشركين ، بعقيدتهم الفاسدة ، جعلوا لله سبحانه
سهما ممّا بثّ في الدّنيا من المزروعات ، والأنعام. (فَقالُوا : هذا
لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي هذا لله وهذا لأصنامهم التي يعبدونها (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ
إِلَى اللهِ) أي أن سهم آلهتهم لا يصرف في جهة يقصد بها وجه الله (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى
شُرَكائِهِمْ) يعني سهم الله يمكن أن يبذل في جهة معبوداتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم.
١٣٧ ـ (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ...) كذلك أي : كما زيّن لهم فعلهم من جعل النّصيب لله ولآلهتهم
على الكيفية المذكورة سابقا ، قد حسّن للكافرين الشياطين من سدنة أصنامهم قتل
أولادهم بحجج واهية كخوف الفقر وغيره. (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليهلكوهم بالإغواء ، والردى : هو الموت والإهلاك. (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليشتبه عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل (ع) (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي : لو أراد الله غير ذلك ما فعله المشركون ولا شركاؤهم ،
ولكنه لا يجبر أحدا على فعل لأن الجبر مناف للتكليف. (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا محمد (وَما يَفْتَرُونَ) أي وكذبهم على الله وافتراءهم عليه ، فإنه سيرتد وبالا
عليهم يوم القيامة.
١٣٨ ـ (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ
حِجْرٌ ...) هذه : إشارة إلى ما جعلوا لآلهتهم من النّصيب في الزروع
والأنعام فهو محجور وممنوع الاستمتاع بها سواء في الركوب أو في ذبحها وأكل لحمها (لا يَطْعَمُها) أي لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) إلّا من نريد (بِزَعْمِهِمْ) أي برأيهم الذي لا يرتكز إلى دليل (وَأَنْعامٌ) أخرى غير ما ذكر (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أي منع ركوبها ، (وَأَنْعامٌ) أخرى أيضا (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ
اللهِ عَلَيْهَا) عند النّحر أو الذّبح (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي كذبا على الله (سَيَجْزِيهِمْ) سيعاقبهم (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) بسبب كذبهم عليه.
١٣٩ ـ (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ...) أي أنهم قالوا إن الجنين إذا خرج حيا من بطن أمه فهو خاصّ
بالذكور ، وإن خرج ميّتا أكله النساء والرجال (سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ) الله بالعقاب جزاء وصفهم الذي افتروه عليه سبحانه (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
١٤٠ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) أي هلك الجماعة الذين قتلوا أولادهم : خوف الفقر ، أو
العار جهلا لأنه تسبب في استحقاقهم العقاب الأبدي (وَحَرَّمُوا ما
رَزَقَهُمُ اللهُ) ممّا ذكرنا من الأنعام التي منعوا الانتفاع بها (افْتِراءً عَلَى اللهِ) كذبا عليه (قَدْ ضَلُّوا) تاهوا عن جادة الصواب (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) إلى الحق.
١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ ...) أي : إن الله سبحانه أوجد من العدم بساتين مرفوعات على ما
يحملها من الدعائم كالعرائش (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كبقية النباتات المثمرة الملقاة على وجه الأرض كالبطيخ
والخيار والقثّاء وغيره مما هو غير داخل في الأشجار المعروشة. (وَ) أنشأ كذلك (النَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) يعني مختلفة ألوانه وطعومه وروائحه (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) خلقه كذلك مختلفا بأشكاله وألوانه وأحجامه ومتشابها فيها (كُلُوا) أيها العباد (مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) قبل النضج وبعده (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ) أي تصدّقوا بشيء منه غير الزكاة حين جنيه. ففي الكافي
والعياشي عن الصادق (ع): في الزرع حقّان : حق تؤخذ به وحق تعطيه ، أما الذي تؤخذ
به فالعشر ونصف العشر ، وأما الذي تعطيه فقوله عزوجل : وآتوا حقه يوم حصاده ، فالضّغث تعطيه ثم الضّغث ،
والضّغث هو الكفّ من التّمر إذا خرص. (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا في التصدّق. (إِنَّهُ) تعالى (لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ) أي يكره المبذّرين. وفي الكافي والعياشي أن الإمام الرضا (ع)
سئل عن هذه الآية فقال : كان أبي يقول : من الإسراف في الحصاد الجذاذ ، أن يتصدّق
الرجل بكفيه جميعا. وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق
بكفيه صاح به : اعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة ... إلخ.
١٤٢ ـ (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً
...) أي أنه سبحانه خلق من الأنعام ما يستعمل في حمل الأثقال
ويستفاد منه في نسج الفرش من صوفه ووبره. وقيل : الفرض الغنم. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) منها من لحم ولبن (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مر معناه في سورة البقرة.
١٤٣ ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ : مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) الزّوج ما معه آخر من جنسه. من الغنم ، والمعز ، اثنين :
أي الأهلي والوحشيّ وثمانية : بدل من : حمولة وفرشا ، ولذلك جاءت منصوبة. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ) أي حرّم الله ذكر الضأن والمعز أم الأنثى من كلّ منهما؟ (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ) من كلا الجنسين حرّمه. (نَبِّئُونِي) خبّروني (بِعِلْمٍ) أي عن أمر متيقّن (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في ما ادّعيتم به من التحريم.
١٤٤ ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ ...) هذا تبيان لبقية الأزواج الثمانية والإبل منها العراب
ومنها البخاتي وهي الإبل الخراسانية والبقر منه الأهلي ومنه الوحشي (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) مرّ تفسيرها (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) أي : أكنتم حاضرين (إِذْ وَصَّاكُمُ
اللهُ بِهذا) أي أمركم بهذا التحريم الذي وصفتموه ولا دليل ولا طريق لكم
إلى معرفته إلا المشاهدة ، ولا مشاهدة ، فمن أين قلتم بهذا التحريم؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً؟) أي : هل أحد أظلم ممّن يكذب على الله صراحة؟ والمراد به
كبراؤهم الذين سنّوا ذلك وأقرّوه ، فبحّروا البحائر وسيّبوا السوائب. (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بقصد إضلال الناس عن غير معرفة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) إلى الثواب والجنة لأنهم مستحقون للعقاب الدائم بكفرهم.
١٤٥ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً ...) أي طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ) أي آكل (يَطْعَمُهُ) يأكله. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً) أي حيوانا مأكول اللحم مات دون تذكية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا كالدّم الذي يتدفق من العروق دون ما يكون ممتزجا
باللحم عادة. (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ) نجس حرام (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذبح دون تذكية ولم يذكر اسم الله عليه خلافا لأمره
تعالى وهذه الآية تدل على أنه لا تحريم في المأكل إلّا بالوحي (فَمَنِ اضْطُرَّ) ألجأه الاضطرار إلى أكل محرّم من اللحوم من غير طلب لذة (غَيْرَ باغٍ) أي عن غير بغي (وَلا عادٍ) وغير تعدّ على حدود الله (فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن مثل هذه الأمور الاضطرارية ولا يؤاخذ العباد لشدة
رحمته بهم.
١٤٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ...) الّذين هادوا هم اليهود وقد حرّم الله عليهم زمن موسى كل
حيوان تنتهي قوائمه بظفر أو مخلب من الدوابّ كالسّباع والطيور (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي الشحم الرقيق الذي يغشّي الكرش وشحوم الأمعاء وغيرها (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي اشتملت عليه الظهور مع اللحم الذي تحمله (أَوِ الْحَوايا) أي ما اشتملت عليه الأمعاء ، وهو جمع حوية (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) كشحم الإلية المختلط بالعصعص وهو عظم الذنب (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم ـ أي اليهود ـ حرمهم من أكل تلك الأشياء ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول من أخبار ووعد ووعيد.
١٤٧ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو
رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ...) فإن كذّبوك يا محمد فيما تقول فقل إن الله لا يعجل عليكم
بالعقوبة لسعة رحمته وأمهلكم فلا تغترّوا لإمهاله ، فإنه يمهل ولا يهمل. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ) فإن عذابه الشديد لا يرجعه أحد عن المكذبين لو وقع.
١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ...) أي أن المشركين سيتعلّلون بالأعذار الواهية ويقولون لو
أراد الله ما كنّا مشركين به نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا شيئا مما ذكر (كَذلِكَ) أي كما كذّبوا شهادة الحجج العقلية والنقلية (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وافتروا على الله تعالى مثل افترائهم هذا ، وأنكروا براهين
الرسل والأنبياء (ع) حيث قلّد المتأخرون المتقدمين بمقالتهم الكفرية وصرّحوا بأنهم
على دين آبائهم وأنهم مقتفون آثارهم (حَتَّى ذاقُوا
بَأْسَنا) أي نالوا عذابنا (قُلْ) يا محمد (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ
عِلْمٍ) أي حجة معلومة (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي تبدوه لنا (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) أي : إنكم تسيرون بحسب التخمين والوهم وهما لا يغنيان عن
الحق شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي تكذبون عليه تعالى.
١٤٩ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ
...) أي له وحده سبحانه البيّنة التي تبلغ قطع عذر المحجوج
المعاند ، (فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد إرادة إلجاء إلى الإيمان لتمكّن من ذلك بمجرّد
المشيئة ولكن لم يشأ ذلك لأنه مناف للتكليف. وفي الأمالي عن الصادق (ع) أنه سئل عن
قول الله تعالى : ولله الحجة البالغة؟ فقال : إن الله تعالى يقول للعبد يوم
القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت ما علمت؟ وإن كان
جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل ، فيخصمه ، فذلك الحجة البالغة.
١٥٠ ـ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ...) أي قل : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون بصحة ما تزعمون من
أنه سبحانه حرّم ما ذكر من ادعاءات المشركين المتقدمة فتابعتموهم فيه. (فَإِنْ شَهِدُوا) وأقرّوا بما ادّعوه (فَلا تَشْهَدْ
مَعَهُمْ) أي فلا تؤيّدهم في شهادتهم (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تسلك طريقتهم السائرة في تكذيب حججنا وفق رغباتهم
الشيطانية (وَ) لا تتّبع أيضا (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ممن يجحدون البعث والنشور (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له نظيرا.
١٥١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ ...) أي أقرأ ما منع ربّكم عليكم : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فأوجب توحيده سبحانه (وَبِالْوالِدَيْنِ) الأب والأم (إِحْساناً) أن تحسنوا إليهما ، (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي خوف الفقر ، (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ) فالرزق يشمل الوالد والمولود (وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ) أي المعاصي والقبائح (ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ) أي ما بان منها وما استتر (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) النفس التي حرم قتلها هي المسلم والمعاهد واستثنى ما يجب
فيه إقامة الحد بالحق كالقصاص وغيره. (ذلِكُمْ) إشارة إلى موارد جواز القتل وحرمته (وَصَّاكُمْ بِهِ) لتحفظوه (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) يعني لكي تفهموا ما أوصاكم به ولتعملوا وفق حلاله وحرامه.
١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) حرّم سبحانه التصرف في مال اليتيم إلا بأحسن وجوه التصرّف
التي تحفظه وتنمّيه عينا كما يحفظ الإنسان ما يملكه من ماله ويعمل على تنميته. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي حتى يبلغ كامل العقل رشيدا. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
بِالْقِسْطِ) أي أتموهما بالعدل بدون بخس (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها) أي أنه تعالى لم يطلب من العبد إلّا الحدّ الذي يطيقه. ومن
المؤكد أن مراعاة العدل الواقعي في إيفاء حقه تعالى أو أي حق متعسرة ، فلم يطلب
إلّا ما هو في وسع الإنسان وهو سبحانه يعفو عما سواه. (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كانَ ذا قُرْبى) أي قولوا الحق وإن كان على ذي قرابة لكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي بما عهد إليكم ممّا أوجبه عليكم فأدّوه كاملا (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي لأجل أن تتّعظوا بما وصّاكم به ولا تنسوا وصية الله
سبحانه.
١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ...) أي أن طريقه الذي أشار إليه سبحانه هو الطريق العدل المؤدي
إلى ما فيه الرشاد دون التواء (فَاتَّبِعُوهُ) أي فاسلكوه (وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ) أي لا تسلكوا طرق الكفر والشبهات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) يعني : فتتوزّع وتأخذ بكم وتصرفكم عن طريق الحق المستقيم (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي وصّاكم بذلك لتتجنبوا التّيه في الضلال والتفرّق عن
الحق.
١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) عطف سبحانه ب. ثم ، للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في
الرّتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا. ليبين حالة لليهود وهي عصيانهم
يوم آتى موسى (ع) التوراة (تَماماً) أي كاملا (عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكلّ ما يحتاج إليه في الدّين (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ودلالة على الدين الحق ونعمته (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ) أي ليصدقوا بجزاء ربهم يوم القيامة. وهو هنا يقصد اليهود
المشركين الذين خصّهم بكتابهم ليؤمنوا ويصدّقوا بلقائه يوم البعث والجزاء.
١٥٥ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ...) يعني القرآن الذي أوحى به سبحانه من السماء إلى محمد (ص)
وجعله كثير الخير (فَاتَّبِعُوهُ) أي اعملوا بما فيه (وَاتَّقُوا) واحذروا (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) بأمل أن تنالكم الرحمة باتّباعه.
١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ
الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ...) يعني أننا أنزلنا القرآن لتعملوا به ولنقطع احتجاجكم أيها
الكافرون أن تقولوا : أنزل الكتاب من السماء على طائفتين : هما اليهود والنصارى.
ودعا هؤلاء وأولئك للإيمان. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ) أي عن مدارستهم وتلاوة ما نزل عليهم (لَغافِلِينَ) لا ندري ما هي. ولأننا لا نعرف مثلها ، واللام جاءت هنا
للتأكيد بعد : وإن التي تعني : وإننا كنّا.
١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...) أو تقولوا أيها الكافرون لو كان لنا كتاب لكنّا أسرع إلى
الهدى من اليهود والنصارى إذ لا تنقصنا الفصاحة والفهم (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة أنزلها الله سبحانه لكم (وَهُدىً) لمن اتّبعها (وَرَحْمَةٌ) لمن تأمل فيها (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) أي : هل أظلم لنفسه من الذي كذّب ببراهين ربه (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض (سَنَجْزِي) نعاقب (الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ) يعرضون (عَنْ آياتِنا سُوءَ
الْعَذابِ) العذاب الأليم (بِما كانُوا
يَصْدِفُونَ) أي بسبب إعراضهم.
١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ...) هذا استفهام إنكاري يعني : ما ينتظر كفّار مكة إلّا مجيء
الملائكة إليهم إمّا للوفاة وإمّا للعذاب (أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ) أي أمر ربّك (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آياتِ رَبِّكَ) بعض ما وعدهم به من الأهوال والعذاب. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ويزول التكليف عندها. (لا يَنْفَعُ) لا يفيد (نَفْساً) أحدا من الناس (إِيمانُها) تصديقها (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ
مِنْ قَبْلُ) لانسداد باب التوبة عندئذ وارتفاع قلم التكليف (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي ربحت أجرا لتصديقها (قُلِ) يا محمد (انْتَظِرُوا) اصبروا حتى يحلّ ذلك بكم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) متربّصون له.
١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) أي آمنوا ببعض ما أمروا به وكفروا بالبعض الآخر (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا متنازعة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ) أي ما أنت المسؤول عن تفرّقهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) أي حسابهم إليه (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي يخبرهم بكل ما عملوه حين محاسبتهم يوم القيامة.
١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها ...) أي : من فعل الخير يكتب الله له عشر حسنات تفضّلا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي اقترف ذنبا كبيرا أو صغيرا (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي لا يجازى إلا بمقدارها عدلا منه. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص الثواب ويزيد العقاب.
١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) أي اقطع يا محمد نزاع القول مع القوم الكافرين وقل : إنني
هداني ربّي : أي قل يا محمد : أرشدني ربي إلى الطريق الذي لا اعوجاج فيه (دِيناً قِيَماً) أي ثابتا دائما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي طريقة إبراهيم (ع) (حَنِيفاً) مائلا عن الكفر إلى الإسلام (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) نفى سبحانه شرك إبراهيم (ع).
١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) أي دعائي وعبادتي وقرباني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وموتي (لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أي ذلك كلّه خالص لوجهه سبحانه.
١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ
...) أي لا أشرك معه غيره أحدا في عبادتي وقد أمرني لأعترف بما
ذكر في صدر الآية ، (وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلامه (ص) يتقدّم إسلام أمّته.
١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) يعني أنه (ص) لا يطلب غير الله سبحانه إلها والاستفهام
إنكاري (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ
شَيْءٍ) أي أن كل ما سواه مربوب لا يصلح للرّبوبية ، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها) أي أن كل نفس تتحمل تبعة عملها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم يوم القيامة إلى خالقكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) أي بما كنتم في دار الدّنيا تفترقون فيه بتمييز الحق من
الباطل.
١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ
الْأَرْضِ ...) الله سبحانه هو الذي جعل الناس يخلف بعضهم بعضا (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ) جعلكم متفاوتين في المراتب (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي ليعلم أتشكرون نعمه أم تكفرون بها؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) أي سريع العذاب الشديد لمن كفر (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكره.
سورة الأعراف
مكية ، عدد آياتها ٢٠٦ آية
١ ـ (المص ...) قد مرّ تفسيره عند كلامنا على الحروف المقطعة سابقا.
٢ ـ (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) أي هذا الذي أوحيناه إليك هو كتاب أنزلناه عليك بواسطة
الملائكة وبأمر منّا. (فَلا يَكُنْ فِي
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يضيقنّ صدرك بما فيه من الأوامر والنواهي الكثيرة
التي تخاف من أن لا تقوم بتبليغها حق القيام. (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي لتخوف بالقرآن متوعدا من يخالف أوامر الله ونواهيه. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي موعظة لهم.
٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ ...) الخطاب لسائر المكلّفين ، فقل يا محمد لهم : تصرّفوا بما
في المنزل إليكم من الله أمرا ونهيا. (وَلا تَتَّبِعُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي لا تقلّدوا أولياء تتولّونهم وتطيعونهم في معصية الله ،
(قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي قليلا تذكّركم وكونكم متّعظين بما فيه. والمقصود به
الأمر أي : تذكروا كثيرا كلّ ما أوجبه الله تعالى عليكم.
٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ...) كم : لفظة توضع للتكثير والمعنى : أهلكنا كثيرا من أهل
القرى بالإبادة والعذاب. (فَجاءَها بَأْسُنا) أي حين حلّ فيها عذابنا (بَياتاً) في الليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني وقت القيلولة وهي منتصف النهار.
٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ
بَأْسُنا ...) أي لم يكن دعاء من أهلكناهم عقوبة على كفرهم حين نزول
عذابنا بهم (إِلَّا أَنْ قالُوا
إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني لم يقع منهم سوى الاعتراف بظلمهم لأنفسهم ، عند
معاينة العذاب.
٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ ...) قد أقسم الله سبحانه أنه سيسأل المكلّفين الذين أرسلت
إليهم الرّسل عن الطاعة (وَلَنَسْئَلَنَّ
الْمُرْسَلِينَ) الّذين بعثناهم عن التبليغ.
٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ...) أي لنخبرنّهم بأعمالهم (بِعِلْمٍ) أي بمعرفة تامة بأعمالهم ليدركوا أنها كانت محفوظة في كتاب
كل منهم. (وَما كُنَّا
غائِبِينَ) عن شيء من أفعالهم ولا أفعال الرسل.
٨ ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ...) أي يوم القيامة يكون وزن الأعمال وزنا حقّا. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت حسناته على سيئاته. (فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالثواب.
٩ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) فتثقل كفة سيّئاتهم فإنهم يخسرون باستحقاقهم لعذاب الأبد (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بسبب جحودهم بحججنا.
١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ
...) التمكين هو إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع ، فقد
مكنّاكم في الأرض على هذا الأساس من إعطائكم جميع ذلك (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) فقد وفّرنا لكم في الأرض ما تعيشون به من أنواع النعم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أنكم مع كل هذه النعم قلّ شكركم.
١١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ) أي أنّا بدأنا خلق آدم ثم صوّرناه ، فابتداء خلقه (ع) من
التراب عقبته الصورة التي صار عليها. (ثُمَ) بعد هاتين المرحلتين (قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد الفراغ من خلقه وتصويره نحن نخبركم بأمرنا للملائكة
بالسجود لآدم (فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قد مرّ تفسير ذلك في سورة البقرة.
١٢ ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ ...) يعني قال الله تعالى : ما منعك من السجود يا إبليس حين
أمرتك بالسجود لآدم. (قالَ) إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي أنا خير من آدم لأنك أوجدته من تراب ، وأنا مخلوق من
نار ، والنار تقوى على الطين.
١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها ...) أي قال الله عزوجل لإبليس : انزل من السماء أو من الجنّة أو ممّا أنت عليه من
الدرجة الرفيعة (فَما يَكُونُ لَكَ
أَنْ تَتَكَبَّرَ) عن أمر الله ، (فِيها) أي الجنّة أو ما ذكرناه (فَاخْرُجْ) يا إبليس مما أنت فيه أو عليه (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) يعني الأذلّاء بالمعصية.
١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ ...) قال إبليس : أمهلني إلى يوم بعث الناس من قبورهم.
١٥ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) أي قال الله له : إنك من المؤخّرين إلى ذلك اليوم.
١٦ ـ (قالَ ...) أي قال إبليس بعد إجابة طلبه (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي اعتبرتني غاويا ضالا. (لَأَقْعُدَنَ) أي لأجلسنّ (لَهُمْ) لأبناء آدم (صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ) أي على طريق الحق الذي تسنّه لأصدّهم عنه.
١٧ ـ (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي لأحضرنّهم في دنياهم ولأسدنّ عليهم الطّرق مزيّنا لهم
الدّنيا وما يضمن سوء العاقبة لهم في الآخرة. (وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي أن الأكثر منهم يكونون كافرين بأنعم الله بتزيين إبليس
لهم المعاصي.
١٨ ـ (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً
مَدْحُوراً ...) قال سبحانه لإبليس : اخرج من الجنّة معابا بعصيانك مدفوعا
بهوان ومطرودا بذل (لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ) أي : من أطاعك من بني آدم (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) يعني سأملأ جهنّم منك ومن ذرّيّتك وممن أطاعك من بني آدم
مجموعين في جهنّم.
١٩ ـ (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ ...) أمر سبحانه آدم (ع) بسكنى الجنّة والإقامة فيها مع زوجته
حواء (ع) (فَكُلا مِنْ حَيْثُ
شِئْتُما) أي من أي مكان أردتما ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) أي لا تأكلا منها (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ) أي الباخسين نفوسهم أعظم الثواب.
٢٠ ـ ٢١ ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) يعني أنه ألقى في قلبيهما المعنى بصوت خفيّ ، (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما. (ما وُورِيَ) يعني : ستر (عَنْهُما مِنْ
سَوْآتِهِما) أي عوراتهما. (وَقالَ) لهما : (ما نَهاكُما) منعكما (رَبُّكُما عَنْ) الأكل من (هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا
أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي تتغيّر صورتكما وتصير إلى صورة الملائكة (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لا تفنى حياتكما (وَقاسَمَهُما) أي حلف بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ) أي المخلصين في النصيحة.
٢٢ ـ (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ ...) أي غرّهما بيمينه فأوقعهما في المكروه (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي تناولا شيئا قليلا منها (بَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما) يعني ظهرت لهما عوراتهما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي أخذا يجعلان ورقة فوق ورقة على جسديهما ليستترا. (وَناداهُما رَبُّهُما) خاطبهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) ألم أمنعكما (وَأَقُلْ لَكُما) وأخبركما (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) مبين : أي ظاهر العداوة.
٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) يعني أن آدم وحوّاء (ع) قالا : ربنا إننا بخسنا أنفسنا
الثواب ، بتركنا ما ندبتنا إليه. (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنا) أي تستر علينا ذنوبنا (وَتَرْحَمْنا) تتفضّل علينا بنعمتك لتعويض ما فوتناه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من جملة الذين يخسرون فضلك.
٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ...) مر تفسير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة.
٢٥ ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها
تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ...)
أي قال الله
سبحانه : في الأرض تقضون حياتكم الدنيا ، وفيها أيضا تنتهي حياتكم ، ومنها تبعثون
يوم القيامة.
٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ...) هذا خطاب لجميع المكلّفين من البشر أنه سبحانه أعطاهم
لباسا يغطّي عوراتهم. وكل ما يعطي الله العباد فهو منزل عليهم أي مخلوق لهم (وَرِيشاً) يعني أثاثا مما تحتاجون إليه. (وَلِباسُ التَّقْوى) أي العمل الصالح. (ذلِكَ خَيْرٌ) يعني لباس التقوى هو خير من جميع ما يلبسه الإنسان. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) يعني جميع ما خلقه وأنزله من حججه الدالة على توحيده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لكي يتفكّروا ويؤمنوا.
٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ ...) أي لا يضلّنكم بصرفكم عن الحق (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ) أي كما كان سببا بإخراجهما منها بإغوائه (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) أي يلقي عنهما بوسوسته لباس الجنّة الذي لا مثيل له (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) لتفتضح أمامهما عوراتهما (إِنَّهُ) أي الشيطان (يَراكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ) أي نسله وقيل قبيله يعني جنوده وأتباعه من الجن والشياطين.
(مِنْ حَيْثُ لا
تَرَوْنَهُمْ) بنو آدم لا يرونهم لأن أجسامهم شفافة لا تتلبّس بمادة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي قضينا بذلك وحكمنا به لأنهم ينصر بعضهم بعضا على الباطل.
٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) يعني إذا عملوا جرما كبيرا مستهجنا ـ ثم نهوا عنه ـ (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وهي حجة واهية (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) يقولون ذلك افتراء عليه سبحانه (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فقد أنكر صدور ذلك عنه سبحانه ، (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فقد أنكر صدور ذلك عنه سبحانه ، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) يعني أتكذبون عليه سبحانه؟.
٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...) قل يا محمد : أمر ربّي بالعدل والاستقامة وجميع الطاعات (وَ) أن (أَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أخلصوا وجوهكم لله في الطاعة عند تأدية كل صلاة. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أمر سبحانه بالدعاء والابتهال إليه على وجه الإخلاص من دون
شوب رياء في إخلاصكم له الدّين. (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) أي كما خلقكم أولا ، فسيعيدكم بعد الموت للجزاء.
٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ
عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ...) أي جماعة حكم الله لهم بالاهتداء لقبولهم الهدى وإرادته.
وجماعة وجب عليهم الضلال لأنهم لم يقبلوا الهدى ولا أرادوه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أنه سبحانه لم يبدأهم بعقوبة إلّا بعد استحقاقها على
عصيانهم للخالق وإطاعتهم لأوليائهم من الشياطين (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي يظنّون مع ذلك كله أنهم على حق.
٣١ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...) يعني خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصلاة في الجمعات
والأعياد. وقيل : عند كل صلاة. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما رزقكم ، (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا وتتجاوزوا الحلال إلى الحرام. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) يعني أنه يبغضهم.
٣٢ ـ (قُلْ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يحرّمون على أنفسهم بعض الأمور
في بعض الأمكنة أو الأزمنة يمتنعون عن أكل السمن والألبان في الإحرام ، قل لهم : (مَنْ حَرَّمَ) منع (زِينَةَ اللهِ) من الثياب التي يتزيّن بها الناس (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) وأباحهها لهم هي (وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ) أي ما لذّ وحسن طعمه (قُلْ) للناس : (هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن الزينة والطيبات محلّلة للذين آمنوا في حدود ما أنزل
الله ، يشاركون الكفار فيها في الدنيا ، وهي في الآخرة خالصة لا يحاسبون عليها ،
لهم دون الكفار. (كَذلِكَ) أي بحسب ما ذكرنا (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نشرح الحجج والدلالات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعرفون الحق في الأمور.
٣٣ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ...) : مر معناه. (وَ) كذلك حرّم (الْإِثْمَ) الذي قيل إنه الخمر هنا. (وَ) حرّم (الْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِ) أي الظّلم والفساد بدون موجب له. (وَ) حرّم (أَنْ تُشْرِكُوا
بِاللهِ) تعبدوا معه غيره (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) يعني ما لم يقم عليه حجة وبرهانا ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) أي أن تكذبوا عليه.
٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...) أي لكل جماعة موعد لإهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة
عليهم عن طريق الرّسل. (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ) أي حان وقت نهايتهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً) لا يتأخرون (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت.
٣٥ ـ (يا بَنِي آدَمَ ...) خطاب لسائر المكلّفين من البشر ، (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي إن يأتكم (رُسُلٌ) أنبياء (مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يخبرونكم بدلالاتي وحججي (فَمَنِ اتَّقى) تجنّب إنكار الرّسل (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) في الدنيا (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) في الآخرة.
٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي الذين لم يصدقوا حججنا (وَاسْتَكْبَرُوا
عَنْها) أي رأوا أنفسهم أكبر من أن يصدّقوها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الذين يكونون ملازمين لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون أبدا.
٣٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله وافترى عليه وهو إخبار
بصورة الاستفهام فكان أبلغ. فليس أظلم من المفتري على الله (أَوْ) ممّن (كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي أنكر حججه الدالة على توحيده وصدق رسله (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتابِ) أولئك يعني بهم المكذّبين المفترين يصل إليهم نصيبهم من
العذاب. (حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) يعني ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يقبضون أرواحهم أو لحشرهم إلى النار (قالُوا) أي الملائكة توبيخا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سمّيتموه ربّا كالأوثان والأصنام. (قالُوا) أي الكفار : (ضَلُّوا عَنَّا) يعني ذهبوا ولم يهتدوا إلينا (وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقرّوا على أنفسهم بالكفر بهذه الشهادة.
٣٨ ـ (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِكُمْ ...) أي قال الله لهؤلاء : ادخلوا في صفّ الأمم السالفة التي قد
مضت وطواها الهلاك وخلا منها مكانها ، (مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ) محشورين (فِي النَّارِ) أمة بعد أمة لكفرهم مثلكم. وفي الآية دلالة على أن من الجن
أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم
الوقت المعلوم. (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ) منهم النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي الأمة التي سبقتها إلى الكفر. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي تداركوا يعني أدرك بعضهم بعضا ، اللاحقون السابقين ،
وبلحوق أخراهم لأولاهم (فِيها) أي النار (جَمِيعاً) كلهم. (قالَتْ أُخْراهُمْ
لِأُولاهُمْ) أي قالت الأخيرة دخولا إلى النار وهم الأتباع ، لأولاهم
دخولا وهم السادة (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا) أي ضيّعونا عن طريق الحق (فَآتِهِمْ عَذاباً
ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي عذّبهم عذابا مضاعفا (قالَ) الله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي للتابع والمتبوع عذاب مضاعف (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكل فريق منكم من العذاب جزاء ضلالكم وإضلالكم.
٣٩ ـ (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ...) يعني قال المتبوعون للتابعين : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لستم أفضل منّا ، (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر بسوء اختياركم في اتباعنا.
٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ...) مر معناه (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ) يعني لا تفتح لقبول أرواحهم عند الموت ، بل تردّ إلى سجّين
كما ردّت أعمالهم القبيحة من قبل. (وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) يعني لا يصيرون إلى الجنة إلا حين يدخل البعير في ثقب
الإبرة ، كناية عن استحالة دخولهم إليها. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُجْرِمِينَ) أي وبهذا الشكل نجزي المجرمين الذين يكذّبون بآياتنا ...
٤١ ـ (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ...) أي أنهم يكون لهم في جهنم فراش وجهنم : اسم من أسماء نار
الآخرة التي بها التعذيب ، وقد قيل : إنه مأخوذ من قولهم : بئر جهنام ، أي بعيدة
القعر ، وقيل : فارسي معرّب. (وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَواشٍ) أي أغطية من فوقهم تغشّيهم وهذه كناية عن أن النار تحيط
بهم من الأعلى والأسفل. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك.
٤٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) والمصدّقون بالله ورسوله الذين عملوا أعمالا مرضية عند
الله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها) يعني لا نكلّف
أحدا إلّا بما يقدر عليه من الطاعات. وهو مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب
المؤمنين (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مقيمون فيها دائما.
٤٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ ...) يعني : أخرجنا ما في قلوبهم من حقد (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تجري مياه أنهار الجنة تحت منازلهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدانا لِهذا) أي دلّنا على الإيمان والعمل الصالح الذي أوصلنا إلى
النعيم (وَما كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ) لهذا النعيم (لَوْ لا أَنْ هَدانَا
اللهُ) أي لولا توفيقه لنا إلى الهدى وفيه إشارة إلى اختصاص
الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شيء. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنا بِالْحَقِ) اعتراف منهم بصدق الرسالات السماوية وبصدق المرسلين (وَنُودُوا) أي ناداهم مناد من جهته سبحانه : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي هذه الجنة ، (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها كالإرث وصارت لكم. (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم الصالح مع الإيمان. وهذا يدل على أن الجنة
لا تورث إلا بعمل الطاعات بعد أن كانت مبذولة للمؤمن والكافر جميعا غير أن الكافر
زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله.
٤٤ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ
النَّارِ ...) هذه حكاية حال ما يكون عليه الأمر بعد الحساب ، يعني :
سينادي أهل الجنّة أهل النّار ، (أَنْ قَدْ وَجَدْنا
ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب الجزيل وكما جاء عن الرّسل في الكتب (حَقًّا) أي صدقا (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) من العقاب على الكفر والعناد صدقا (قالُوا نَعَمْ) يعني وجدنا جهنّم التي وعدنا العقاب بها صدقا (فَأَذَّنَ) نادى (مُؤَذِّنٌ) مناد قيل بأنه مالك خازن النار. (بَيْنَهُمْ) بحيث يسمع الفريقان : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) يعني غضب الله على الكافرين.
٤٥ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ ...) أي الّذين ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الحق وغيرهم بمنعهم عن
اتباعه. (وَ) هم (يَبْغُونَها عِوَجاً) أي يريدون السبيل غير مستقيمة فيعظّمون ويعبدون غير الله
سبحانه. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والحساب (كافِرُونَ) منكرون جاحدون.
٤٦ ـ (وَبَيْنَهُما حِجابٌ ...) أي حاجز بين أهل النار وأهل الجنة (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) الأعراف : هو السور الذي يضرب بين الجنة والنار. واختلف في
أولئك الرجال الذين يقفون على الأعراف : فقيل هم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم
فجعلوا هناك لا هم مع أهل الجنّة ولا هم مع أهل النّار. وعن الحسن أنهم قوم جعلهم
الله على تعريف أهل الجنة والنّار يميّزون بعضهم من بعض. وقيل هم ملائكة من خزنة
الجنّة وخزنة النّار ، وقيل غير ذلك. (يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيماهُمْ) أي بعلاماتهم الخاصة بهم.
(وَنادَوْا أَصْحابَ
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل إن مذنبي كل أمة هم الذين يلقون السلام من على الأعراف
الواقفين دونه على أصحاب الجنة ممن يعرفونهم من أفراد أمتهم. (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي المذنبون لم يدخلوا الجنّة ولكنهم يطمعون أن يكونوا من
الدّاخلين إليها بشفاعة النبيّ والإمام (ع).
٤٧ ـ (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ
أَصْحابِ النَّارِ ...) أي إذا تحوّلت أبصار الذين على الأعراف نحو أهل النّار
ورأوا ما هم عليه من عذاب (قالُوا رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تجعلنا معهم.
٤٨ ـ (وَنادى ...) يعني أنّه سينادي يوم القيامة (أَصْحابُ الْأَعْرافِ) هم المنادون ممّن ذكرناهم (رِجالاً
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) جماعة يعرفونهم بعلاماتهم الخاصة بهم (قالُوا) لهم : (ما أَغْنى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ) المال وحطام الدنيا (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ) يعني ما أغنى عنكم استكباركم عن الإيمان.
٤٩ ـ (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ...) يعني أهؤلاء المؤمنون ، هم (الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (لا يَنالُهُمُ اللهُ
بِرَحْمَةٍ) أي أنه لا يصيبهم بخير أو لطف؟ لقد كذبتم. ويا أيّها
المؤمنون : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) جزاء إيمانكم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ
وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) بل بتمام السرور والأمن وأتمّ الكرامة من الله سبحانه.
٥٠ ـ (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ ...) يعني : سينادي أصحاب النّار أصحاب الجنّة يوم القيامة ،
بذلّ (أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي صبّوه نحونا (أَوْ) أفيضوا كذلك علينا (مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللهُ) أي مما أعطاكم من طيّبات الجنّة (قالُوا) يعني قال أهل الجنّة (إِنَّ اللهَ
حَرَّمَهُما) أي منعهما منعا باتا ، (عَلَى الْكافِرِينَ) لكفرهم.
٥١ ـ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً ...) يعني جعلوا دينهم الذي أمرهم الله به ، أداة للتندّر
واللعب واللهو ، (وَغَرَّتْهُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني غشّهم مظهرها ولذّاتها (فَالْيَوْمَ
نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي ندعهم في جهنم وعذابها كما تركوا العمل الصالح للقاء
هذا اليوم (وَما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ولجحودهم وكفرهم بحججنا ودلالاتنا.
٥٢ ـ (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ...) أي قد أتيناهم بالقرآن الذي بيّنا ما جاء فيه ونحن عالمون
به حقيقة (هُدىً وَرَحْمَةً) أي دلالة ترشد إلى الحق وتنجي من الضلال (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون به ، وينتفعون بتصديقهم.
٥٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ...) : هل ينتظرون إلّا عاقبة الجزاء على مخالفته. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي ما وعدوا به من البعث والحساب (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وهم الذين تركوا العمل به لأنهم لم يعتقدوا صدقه ، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فيعترفون بصدق الرسالات والرسل حيث لا ينفعهم ذلك. (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا
لَنا) أي هل من وسائط رحمة واسترحام فنقدمها بين يدي اعترافنا من
جديد فتعمل على إزالة العقاب عنّا؟ (أَوْ نُرَدُّ) يعني أم هل نردّ إلى الدنيا ، (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ) أي أنهم يتركون الكفر والمعاصي ، ويعملون بما يرضي الله (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي أهلكوا أنفسهم بوقوعهم في العذاب (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي لم يجدوا الأصنام التي كانوا يقولون : إنها آلهة تشفع
لنا.
٥٤ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن مالككم ومحدثكم هو الله الذي خلق السماوات والأرض
بما فيهن على غير مثال (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وقد مر تفسيره في سورة البقرة. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس الليل النهار ، ويلبس النهار الليل ، فهما
يتعاقبان (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يتبعه سريعا فيدركه. (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي أن هذه المخلوقات العظيمة المدهشة مذلّلة لقدرته ، تجري
في مجاريها بتدبيره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) أي لا أحد يستطيع الخلق غيره ، وليس لأحد أن يأمر في خلقه
غيره (تَبارَكَ اللهُ) يعني تعالى عن صفات المخلوقين وقيل : تعالى بدوام البركة (رَبُّ الْعالَمِينَ) مالكهم والمتصرّف بأمورهم.
٥٥ ـ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً ...) أي ادعوا خالقكم تخشّعا له وابتهالا وسرا ، (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحبهم في الدعاء أن يكونوا متجاوزين حدودهم.
٥٦ ـ (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها ...) تحمل هذه الآية الشريفة النهي عن العمل بالمعاصي في الأرض
وإفساد أمور عباده ، بعد أن أصلحها الله بالنبيّين والمرسلين. (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من عقابه (وَطَمَعاً) في ثوابه. (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أن لطفه وثوابه قريب من مطيعي أوامره الذين أحسنوا إلى
أنفسهم وإلى غيرهم.
٥٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ...) يرسل الرّياح مبشّرات ، أي تنبئ بالمطر وتأتي قبيل نزول
الغيث. (حَتَّى إِذا
أَقَلَّتْ سَحاباً) أي حملت الغيم الجاري (ثِقالاً) بالماء (سُقْناهُ لِبَلَدٍ
مَيِّتٍ) أي دفعناه لبلد جفّت أرضه وعطشت زروعه (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي أنزلناه بالبلد ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بالماء المنزل (مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) أي من الثمرات عامة (كَذلِكَ نُخْرِجُ
الْمَوْتى) أي مثل إخراج النبات والثمرات ، نخرج الموتى ونحيي الأجساد
بعد الفناء (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) يعني كي تعتبروا بعد تفكيركم بهذه الآيات الدالة على قدرة
الله سبحانه ، وأنه لا يعجزه بعثكم بعد الموت.
٥٨ ـ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...) أي أن الأرض الصالحة الخصبة يخرج نباتها بأمر الله ناميا
زاكيا. (وَالَّذِي خَبُثَ) من الأرض وكان ترابها خبيثا كالسّباخ وغيرها (لا يَخْرُجُ) لا ينبت نباتها (إِلَّا نَكِداً) أي عسرا ضعيفا جافا ليس فيه نضرة ولا ينتفع به. (كَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الخصب والجدب ، (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نجري هذه الدلالات ونأتي بها ونرسلها وفق نظام حكيم. (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي للناس الذين يحمدون الله على نعمه. فما أعظم هذا المثل
على ما أجراه الله من العادات وطبائع الأشياء ، إذ لو أراد وشاء لأخرج من الأرض
النكدة أكثر مما يخرج من الأرض الطيبة ولأمكنه ذلك ، ولكنه لفت نظر العارفين إلى
ضرورة طلب الخير من مظانه.
٥٩ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
...) حقّا نقول : أرسلنا نوحا نبيّا إلى قومه. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده ثم خوّفهم من المخالفة
فقال : (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ولعلّه نوّه بيوم الطوفان خاصة وبيوم القيامة عامة.
٦٠ ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا
لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ...) الملأ هم الجماعة من الرجال خاصة. فقد قال جماعة نوح لنوح (ع)
: نحن على يقين أنك في ذهاب عن طريق الحق ظاهر.
٦١ ـ (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ...) أجابهم (ع) بأنني لست عادلا عن الحق إلى غيره ، (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بل أنا نبي مرسل من الله الذي يملك كل شيء.
٦٢ ـ (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي
وَأَنْصَحُ لَكُمْ ...) أوصل ما أمرني بأدائه إليكم مع تمام الإخلاص والنصيحة (وَ) أنا (أَعْلَمُ مِنَ اللهِ) يعني من صفاته وربوبيته (ما لا تَعْلَمُونَ) أي ما لا تعرفون.
٦٣ ـ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ
مِنْ رَبِّكُمْ ...) فنوح (ع) ينكر على قومه عجبهم من أن تنزل إليهم رسالة من
ربّهم (عَلى رَجُلٍ) أي على بشر ، (مِنْكُمْ) مثلكم تعرفونه منذ ولد وكيف نشأ ، (لِيُنْذِرَكُمْ) أي يخوّفكم العقاب (وَلِتَتَّقُوا) تتجنّبوا الشّرك وتتركوا المعاصي ، (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : برجاء أن يرحمكم.
٦٤ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ...) أي أن قوم نوح لم يؤمنوا بما دعاهم إليه ، فخلّصنا نوحا
والذين حملهم معه في السفينة من الغرق (وَأَغْرَقْنَا) بمياه الطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا) وضلوا عن دلالاتنا (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً عَمِينَ) أي عمي القلوب عن الحق. يقال : رجل عم إن كان أعمى القلب ،
ورجل أعمى في البصر ، ولذلك قال زهير : ولكنني عن علم ما في غد عم.
٦٥ ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا. (قالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ) لأنه إلهكم وخالقكم (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) فهو خالق الكون وما فيه (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام أراد به التقرير ، أفلا تتجنبون غضب الله بأن
تؤمنوا به.
٦٦ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ ...) قد مرّ تفسير الملإ وقولهم. وقد قال هؤلاء لهود (ع) : (إِنَّا لَنَراكَ) يا هود (فِي سَفاهَةٍ) أي جهالة وخفة عقل (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ
مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أنهم كذّبوه بنحو اليقين.
٦٧ ـ (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ...) أي أنني لست جاهلا ولا مجنونا (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) بل أنا نبيّ مبعوث من قبل الله لهدايتكم.
٦٨ ـ (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ...) فأنا جئت أعرّفكم أحكام الله وشريعته بأمر منه سبحانه وقد
عبّر عن الرسالة بالجمع لأنها تحمل كثيرا من الفروض والواجبات ، والأوامر والنواهي
، والوعد والوعيد ، وغير ذلك. (وَأَنَا لَكُمْ
ناصِحٌ) في ما أدعوكم إليه (أَمِينٌ) يعني مأمون على الرسالة ، لا أكذب فيها ولا أبدّل.
٦٩ ـ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ...) : مر معناه. (وَاذْكُرُوا) أي عدّوا من نعم الله عليكم (إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) فأصبحتم سكان الأرض من بعد ما أهلكهم وخلفاء : جمع خليفة
وهو من يقوم مقام غيره ويصبح بدلا عنه في التدبير ، وهذه نعمة ظاهرة إذ أهلكهم
بمعاصيهم وأقامكم مقامهم. (وَزادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي طولا وقوة كما عن ابن عباس. (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) يعني نعم الله. (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) يعني لتفوزوا في الآخرة وثوابها.
٧٠ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ
وَحْدَهُ ...) أي : يا هود أتيتنا بهذه الدعوة وأن نعبد الله (وَنَذَرَ) نترك (ما كانَ يَعْبُدُ
آباؤُنا) من الأوثان والأصنام؟ ورفضوا دعوته إلى التوحيد الخالص (فَأْتِنا) أي جئنا (بِما تَعِدُنا) بأن تدعو ربك فينزل علينا ما تنذر به من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني إن كنت صادقا أنك رسول الله.
٧١ ـ (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ...) أي أجاب هود قومه قائلا : قد حلّ بكم عذاب وسخط وهو واقع
لا محالة. والرجس هو العذاب ، والغضب هو السخط. (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) يعني أتخاصمونني في أصنام صنعتموها بأيديكم وبأيدي آبائكم
ووضعتم لها أسماء افتراء على الله سبحانه ووصفتموها بأشياء (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي دون حجة على ألوهيتها ولا برهان على صدق ما تدّعونه لها
، وصنّفتموها بأن جعلتم بعضها للمطر وبعضها للخير وبعضها للشر وهكذا ، كل ذلك من
نسج أوهامكم (فَانْتَظِرُوا) ما وعدتكم به من العذاب النازل بكم بلا أدنى ريب. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) له ولنزوله.
٧٢ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا ...) يعني خلّصنا هودا والمؤمنين معه عند نزول العذاب بأن
أوحينا إليه أن يخرج هو والمؤمنون من بينهم (وَقَطَعْنا دابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلنا المكذّبين بحججنا. وهذا التعبير : وقطعنا دابر
... يدل على أنه سبحانه لم يترك لهم ذرية من بعدهم ولا نسلا. (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي لم يكونوا ليؤمنوا أبدا بنا ولا برسولنا ولا برسالتنا.
٧٣ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...) : مر معناه. (قَدْ جاءَتْكُمْ) أتتكم على يدي (بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي حجة قاطعة على صدقي (هذِهِ ناقَةُ اللهِ
لَكُمْ آيَةً) الناقة أنثى الجمل وقد أشار صالح (ع) إلى ناقة خاصة بعينها
خرجت بناء على طلب قومه من صخرة ملساء تمخّضت كما تتمخّض الحبلى ثم انفلقت عن
الناقة وقوم صالح ينظرون لتكون معجزة سماوية كما طلبوها. وبنفس المواصفات التي
تمنوا أن تكون عليها (فَذَرُوها) يعني اتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللهِ) يعني ترعى في الأرض (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ) لا تؤذوها (فَيَأْخُذَكُمْ) فيصيبكم (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع. وكان الله سبحانه قد فرض لهذه الناقة شرب يوم تشرب
فيه ماءهم بكامله وتسقيهم بدله اللبن ، ولهم شرب يوم خاص بهم.
٧٤ ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ
مِنْ بَعْدِ عادٍ ...) أي لا تنسوا نعمة الله عليكم بأن أورثكم الأرض بعد قوم عاد
الجبابرة ، بعد أن أهلكهم نتيجة كفرهم وعنادهم (وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي أسكنكم فيها (تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِها قُصُوراً) أي تشيّدون في أرضها المنبسطة القصور (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) قيل إنهم لطول أعمارهم كانت تفنى البيوت التي يبنونها ،
ولذلك كانوا ينحتون بيوتا في الجبال لأنها تدوم أكثر ، وتكون أدفأ في الشتاء ،
وأبرد في الصيف (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ) أي اذكروا نعمه (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تكثروا الفساد.
٧٥ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ...) أي أن جماعة المتكبّرين من قوم صالح جحدوا ما جاءهم به من
الآيات والبيّنات ، وقالوا (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) أي للذين كانوا بنظرهم ضعفاء مساكين ، (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) أي للمسلمين مع صالح (ع) (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وتشهدون بذلك وتؤمنون به فعلا؟ (قالُوا) أي المؤمنون : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ) فأكّدوا تصديقهم بدعوته.
٧٦ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ...) أي نحن كافرون بما صدّقتم به ، أي بصالح ورسالته.
٧٧ ـ (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ...) العقر لغة هو قطع عرقوب البعير. وقد سمّوا النحر عقرا لأنّ
الناحر يعقر البعير أولا ثم ينحره. فقد قتلوا الناقة (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ) تكبّروا على ما أمرهم به وتجاوزوا الحد في الكفر والعصيان
والفساد (وَقالُوا) بعناد : (يا صالِحُ ائْتِنا
بِما تَعِدُنا) أي جئنا بالعذاب الموعود حيث قلت : ولا تمسوها بسوء ...
إلخ وها نحن قتلنا الناقة (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) يعني إن كنت نبيّا كما تدّعي.
٧٨ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ...) فقد أخذتهم الزلزلة أو الصيحة ، أو هما معا فصاروا في
بلدهم كالرماد الجاثم فالصاعقة قد أحرقتهم. وقد وصف سبحانه في هذه الآية ما أصابهم
بأخصر بيان.
٧٩ ـ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي ...) أي انصرف صالح عنهم بعد كفرهم وقال لهم قد أوصلت إليكم ما
حمّلني ربّي من الأمانة (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي أخلصت لكم في الأداء (وَلكِنْ) يعني ولكنكم (لا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ) بدليل عدم قبولكم للدعوة. وقد ورد في الخبر أن صالحا (ع)
كان عمره عند ما بعث ستّ عشرة سنة ، ولبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة لا يجيبونه
إلى خير. وأخيرا خيّرهم بين أن يسأل آلهتهم فإن أجابوه خرج عنهم ، أو يسألوه هم
معجزة فيستجيب الله لدعائه فتحصل فيؤمنوا ، وقد اختاروا الثاني فطلبوا الناقة
فبقوا على كفرهم فانتقم الله منهم.
٨٠ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ ...) أي كيف تفعلون الفعل القبيح وهو إتيان الرجال بأدبارهم ، (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ) يعني ما فعلها قبلكم أحد من الناس.
٨١ ـ (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ
شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ...) الاستفهام إنكاري : يعني : أتأتون الرجال في أدبارهم
وتشتهونهم وتتركون إتيان النّساء اللاتي خلقهنّ الله لهذه الغاية. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) فأنتم بذلك متجاوزون للحد الذي شرعه الله تعالى.
٨٢ ـ (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قالُوا ...) يعني حين أنكر لوط (ع) على قومه فعلهم الشنيع وبيّن لهم
إسرافهم في الظلم لارتكابهم القبيح ، لم يجيبوا على كلامه ولا حفلوا بمنطقه ، بل
ما كان منهم إلّا أن قالوا : (أَخْرِجُوهُمْ) أي اطردوهم (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) بلدتكم (إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ) أي يأنفون من ارتكاب المنكر. ويتحرجون من تدنيس أنفسهم
بإتيان الرجال في أدبارهم. ويلاحظ أنهم قد مدحوا لوطا وأهل بيته من حيث أرادوا
ذمهم فقد نعتوهم بالتطهّر ونزّهوهم عن فعل القبيح.
٨٣ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا
امْرَأَتَهُ ...) يعني لوطا خلّصه الله من الهلاك ، وخلّص عائلته ، ما عدا
زوجته التي (كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ) أي من الماضين الذين تخلّفوا مع قوم لوط ولفّها الهلاك
بالعذاب لأنها كانت على دينهم وكان هواها معهم لا مع زوجها النبي.
٨٤ ـ (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ...) أي أنزل عليهم حجارة من السماء بعد أن خسف بهم مدائنهم. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ) أي انظر بعين عقلك كيف تكون نهاية المجرمين. وقيل : كان
لوط (ع) بن تارخ ابن أخي إبراهيم (ع) وقيل : ابن خالته وأن سارة امرأة إبراهيم هي
أخته وقد بقي في قومه ثلاثين سنة يدعوهم إلى الإيمان وينهاهم عن الفحشاء والمنكر.
٨٥ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) أي وبعثنا إلى مدين النبيّ شعيبا. ومدين اسم المدينة أو
القبيلة.
(قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) مرّ تفسيره (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ) أي أتمّوهما ، (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوا من حقوقهم شيئا ، (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بارتكاب المعاصي واستحلال المحرّمات (بَعْدَ إِصْلاحِها) يعني بعد أن أصلحها الله ببعثة الأنبياء وأنزل الشرائع (ذلِكُمْ) الشيء الذي أمرتكم به (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي أحسن لكم وأعود عليكم إذا كنتم مصدّقين بالله سبحانه.
٨٦ ـ (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ
تُوعِدُونَ ...) يعني لا تجلسوا في كل طريق تؤدي إلى منزل شعيب أي تهدّدون
قاصدها بالقتل إن هو آمن بشعيب (وَتَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني تمنعون الناس من الإيمان بالله والتصديق برسوله (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي تريدون السبيل عوجاء غير مستقيمة. (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً
فَكَثَّرَكُمْ) أي زاد عددكم بالتوالد. وقيل معناه. جعلكم أغنياء بعد فقر
، أو ذوي قوة بعد ضعف. (وَانْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) فتأمّلوا وفكّروا كيف كانت نهاية أمر قوم عاد وثمود ولوط
وغيرهم ممن كذب فحل به العذاب.
٨٧ ـ (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا
بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ...) أي : وإن صدقت جماعة منكم بما جئت به وجماعة كفرت به (فَاصْبِرُوا) أيها المكذّبون وأيها المصدّقون ، وتريّثوا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) ويجزي كل فريق بما يستحقه على فعله ، في الدنيا قبل الآخرة
، فلا تذهب بكم المذاهب لتفرق الناس عني لأن العاقبة للمؤمنين (وَ) الله (هُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ) إذ لا يجوز عليه أن يجور في حكم لأنه العدل المطلق.
٨٨ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ...) أي قال الذين جعلوا أنفسهم في منزلة لا يستحقونها تكبّرا ،
(لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) أي لنطردنّك من بلدتنا مع جميع المؤمنين بك وكان هؤلاء
الكفار قد ظنوا أن شعيبا كان على عقيدتهم قبل أن يكون رسول الله ولذلك شملوه
بقولهم : لتعودنّ في ملتنا ، أي إلى عبادة الأصنام. (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) إلا إذا رجعتم إلى طريقتنا التي كنا عليها من الشرك.
والملّة هي الديانة التي يعمل بمقتضاها فئة كبيرة من الناس ، (قالَ) شعيب لهم : (أَوَلَوْ كُنَّا
كارِهِينَ) يعني حتى ولو في حال إكراهنا على كلمتكم التي نعرف بطلانها؟
٨٩ ـ (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ ...) أي أننا نكون قد كذبنا على الله ، ونسبنا إليه ما لم يقل
به ، إذا رجعنا إلى شرككم. (بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي بعد أن خلّصنا سبحانه منها وأقام لنا الدلائل على
بطلانها ، (وَما يَكُونُ لَنا
أَنْ نَعُودَ فِيها) ولا يجوز الارتداد من الإسلام إلى ملة الكفر (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) إلا إذا أراد الله سبحانه ذلك وهو لا يرضى لعباده الكفر (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : أحاط علم ربّنا بكلّ شيء (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي فوّضنا أمرنا إليه (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي اكشف مع أيّنا الحقّ : معنا ، أو مع قومنا. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي خير الفاصلين في الأمور.
٩٠ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ...) أي قال هؤلاء الكفرة المعاندون (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) مشيتم معه في طريقته (إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ) تكونون من المغبونين الذين أضاعوا رأس مالهم في الحياة.
٩١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ...) مر معناه.
٩٢ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ...) أي أن الذين استكبروا ووقفوا في وجه دعوة شعيب (ع) كأنهم
لم يكونوا قد أقاموا في تلك البلاد ولم يعيشوا فيها مستغنين بها عما سواها. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) كرر العبارة سبحانه تأكيدا (كانُوا هُمُ
الْخاسِرِينَ) دون من صدّقه من خسر رأسماله.
٩٣ ـ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ...) : مر معناه (فَكَيْفَ آسى) يعني لا أحزن (عَلى قَوْمٍ
كافِرِينَ) مكذبين بالله وبرسالتي
٩٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا ...)
أي لم نرسل نبيّا
في بلدة ما ، إلّا أخذنا (أَهْلَها) سكانها (بِالْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ) أي بالشّدة وما يضرّهم في أنفسهم وأموالهم إذا هم كذّبوه (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ليدعوا الله فينجّيهم.
٩٥ ـ (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ
الْحَسَنَةَ ...) يعني محونا السيئة بعد التوبة ووضعنا مكانها حسنة فالتبديل
: هو وضع أحد الشيئين مكان الآخر (حَتَّى عَفَوْا) يعني اعرضوا عن الشكر. (وَقالُوا قَدْ مَسَّ
آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي صار أحدهم يقول لغيره : ابق على ما أنت عليه فقد ابتلي
من كان قبلنا بالشدّة والراحة وما غيّروا (فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً) يعني فجأة ليعتبر بهم غيرهم والبغتة : هي الأخذ فجأة ودون
مقدمة تنذر بما قد يحصل. (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يحسّون ما ينزل بهم من عذاب إلّا بعد حلوله.
٩٦ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ...) أي : لو حصل أن أهل القرى التي أهلكناها بسبب جحود أهلها
وعنادهم (آمَنُوا) صدّقوا رسالاتنا السّماوية (وَاتَّقَوْا) المعاصي وعملوا بالطاعات (لَفَتَحْنا
عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لرزقناهم خيرات كثيرة (وَلكِنْ كَذَّبُوا) رسلنا وكفروا (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما كانوا يعملونه من المعاصي ووجوه الكفر.
٩٧ ـ (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ...) أي : هل أمن الجاحدون لك يا محمد أن يحلّ بهم عذابنا (بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) ليلا وهم في فراشهم.
٩٨ ـ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ...) أي هل هم في أمن من أن يجيئهم عذابنا (ضُحًى) وقت ارتفاع الشمس في صدر النهار (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي أثناء لهو هم وممارسة ما لا ينفعهم في دنياهم ولا في
آخرتهم.
٩٩ ـ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ...) سؤال توبيخيّ ، يعني هل أمنوا بعد هذا كله عذاب الله ينزل
بهم بغتة. (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللهِ) وأخذه على غرّة (إِلَّا الْقَوْمُ
الْخاسِرُونَ) الذين لم يعملوا لآخرتهم فباؤوا بالخسران.
١٠٠ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها ...) استفهام تقريري أي : ألم يبيّن الله تعالى للناس الذين
يسكنون الأرض بعد الأمم الماضية التي أخذناها بالبأساء والضراء حين الجحود
والطغيان (أَنْ لَوْ نَشاءُ) إذا أردنا (أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) رميناهم بعذاب عقابا لذنوبهم وقوله : أن لو نشاء أصبناهم
... في موضع رفع على أنه فاعل ليهدي ، والتقدير : أو لم يهد لهم مشيئتنا ... (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) مرّ تفسير الختم على القلوب في سورة البقرة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يعون الوعظ ولا يهتمّون بالوعيد.
١٠١ ـ (تِلْكَ الْقُرى ...) المذكورة (نَقُصُّ عَلَيْكَ) نحكي لك يا محمد مفصّلا (مِنْ أَنْبائِها) أي أخبارها لتتفكّر بها ولتنذر قومك فيعتبروا (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) أي الدلالات الواضحة (فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي لم نهلكهم إلّا بعد علمنا أنهم لن يؤمنوا بما كذّبوا به
حتى ولو امتد بهم الزمن بل سيستمرون على كفرهم وعنادهم وقد عرفنا ذلك منهم قبل
إهلاكهم ، وقد جعل الأخفش كلمة (فَما) هنا مصدرية. (كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي إن الله سبحانه شبّه الكفر بالصدإ لأنه يذهب عن القلوب
بنور الإسلام كما يذهب الصدأ ببريق السيف وصفاء المرآة ... وهذا هو الطبع على
القلوب.
١٠٢ ـ (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ ...) أي لم نر لأكثر من أهلكناهم من وفاء بعهد عهدناه إليهم. (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ) المعنى : إنّنا وجدنا أكثرهم ينقضون العهد ولا يفون به.
١٠٣ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى
بِآياتِنا ...) والمعنى أننا بعد الأمم التي أهلكناها ، أو بعد الأنبياء
الّذين ذكرناهم ، أرسلنا ، موسى بمعجزات منّا وحجج (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ) : أي إلى ملك مصر وأشراف قومه (فَظَلَمُوا بِها) أي ظلموا أنفسهم بجحودهم لها. (فَانْظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ) يعني كيف كان مآل أمرهم بالهلاك.
١٠٤ ـ (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) الخطاب موجه إلى فرعون وملإه جميعا قال لهم : إني نبيّ
مرسل إليكم من قبل الله تعالى.
١٠٥ ـ (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى
اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ...) أي واجب عليّ قول الحق وأن أكون أنا قائله والقائم به ولا
يرضى إلّا مثلي ناطقا به. (قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمعجزة تبيّن صدقي بأني رسول الله (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلق سراحهم من السّخرة ليعودوا إلى الأرض المقدّسة.
١٠٦ ـ (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ
بِها ...) أي : قال فرعون لموسى : إن كانت لديك حجة على مدّعاك فأت
بها (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) أنك رسول من الله إلينا.
١٠٧ ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ ...) أي : فرمى عصاه من يده فانقلبت حية عظيمة ظاهرة للناس لا
مجال للشك فيها.
١٠٨ ـ (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ ...) أي وأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه وأخرجها فإذا لونها أبيض
ينير ويشعّ حتى يغلب شعاع الشمس.
١٠٩ ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ...) أي قال جماعة فرعون إن موسى ، ساحر ماهر عالم بالسّحر.
١١٠ ـ (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ؟ ...) أي يرغب في استمالة قلوب بني إسرائيل وأن يتقوّى بهم
ويخرجكم من بلدكم ، فبماذا تشورون.
١١١ ـ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ...) فقد قال القوم لفرعون : أخره وأخاه هارون واترك الحكم
عليهما ، (وَأَرْسِلْ) ابعث رسلا (فِي الْمَدائِنِ) البلدان التي حولك (حاشِرِينَ) جماعة يجمعون لك السّحرة.
١١٢ ـ (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ...) أي يجيئوك بالسّحرة المهرة ليعارضوا موسى ويناظروه بسحرهم.
١١٣ ـ (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ...) فحضر هؤلاء السحرة عند فرعون وقيل : كانوا اثنين وسبعين
ساحرا. وقيل غير ذلك. (قالُوا إِنَّ لَنا
لَأَجْراً؟) أي عوضا وأجرة نقبضها على عملنا (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إذا انتصرنا بسحرنا على موسى؟ ...
١١٤ ـ (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ...) أي : أجل ، إنني أعطيكم أجرا على ذلك ، وإنني أقرّب
منزلتكم مني وتكونوا من حاشيتي.
١١٥ ـ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
...) الذين قالوا هم السحرة لموسى : إمّا أن ترمي عصاك أولا ،
أي قبلنا (وَإِمَّا أَنْ
نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أو أن نرسل بالسحر ما معنا من عصيّ وحبال وغيرها قبلك.
١١٦ ـ (قالَ أَلْقُوا ، فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ...) أي قال موسى (ع) للسحرة : ألقوا أنتم أولا ما في أيديكم
فألقوا وسحروا أعين الناس باحتيالهم في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها من
الزئبق الذي تمدّد بحرارة الشمس فحرّكها ، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي أخافوهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ) وصفه سبحانه وتعالى بالعظمة لإتقان حيلتهم فيه.
١١٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ
عَصاكَ ...) أي ألهمنا موسى بما يشبه الوحي وهو أن اطرح عصاك (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) يعني فألقاها فصارت ثعبانا عظيما يبتلع ما كذّبوا به على
الناس.
١١٨ ـ (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ ...) أي ظهر الحق : وهو أمر موسى (ع) وصحة نبوّته وصدق معجزته
وصار لاغيا كلّ ما عملوه من تمويه وسحر.
١١٩ ـ (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا
صاغِرِينَ ...) أي وقعت على فرعون وقومه الغلبة وانصرفوا أذلة خاسئين.
١٢٠ ـ (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ...) أي أن السحرة لمّا رأوا الحق وأيقنوا بصدق معجزة موسى (ع)
لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين كتعبير عن شكرهم لله على هدايتهم لكون هذه المعجزة من
عنده سبحانه.
١٢١ ـ (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي صدّقنا بوجود الربّ الذي خلق السماوات والأرض وما
بينهما وما فيهما.
١٢٢ ـ (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ...) أي الربّ الذي دعا إليه هذان النبيّان موسى وهارون ، وقد
خصوهما بالذكر مع أنهما تشملهما لفظة : العالمين لأنهما هما الداعيان للإيمان به ،
وقد شرفوهما بذكرهم لهما تفضيلا لهما عن سائر من عداهما من الموجودين في زمانهما.
وقيل في المجمع : إنهم فسروا سجودهم بأن قالوا لرب العالمين ، لئلا يتوهم أحد أنهم
سجدوا لفرعون ، ثم قالوا رب موسى وهارون لأن فرعون كان يدعي أنه رب العالمين فأزالوا
بذلك كل وهم.
١٢٣ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ ...) قال فرعون مهدّدا : أقررتم له بالصدق (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) يعني قبل أن أسمح لكم (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ) أي خدعة صنعتموها ، (فِي الْمَدِينَةِ) في عاصمة ملكي (لِتُخْرِجُوا مِنْها
أَهْلَها) لتطردوهم منها بسحركم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها السحرة كيف تكون نهايتكم عندي.
١٢٤ ـ (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ...) يعني أنه يقطع من واحد يده اليمنى ورجله اليسرى ، ويقطع من
الثاني يده اليسرى ورجله اليمنى ، وهكذا ، (ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أصلبكم بعدها واحدا واحدا.
١٢٥ ـ (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ ...) أي أن السحرة أجابوا فرعون : إنّا راجعون إلى ربّنا.
١٢٦ ـ (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ
آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ...) أي : لم تأخذ علينا شيئا تكرهه إلّا إيماننا بربّنا
وتصديقنا بآياته التي جاءنا بها رسوله. (رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي أنزل علينا الصبر على هذه الشدة وصبّه علينا صبّا
لنتحمّل بطش فرعون وتلقّنا بعد الموت مسلمين ، ثابتي الإيمان.
١٢٧ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى ...) بعد أن هدأت سورة فرعون قال له علية قومه : أتترك موسى (وَقَوْمَهُ) الذين أسلموا معه (لِيُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) أي ليظهروا مخالفتك ويؤلبوا الناس عليك (وَيَذَرَكَ) يدعك (وَآلِهَتَكَ) أي ما تعبده أنت من الأصنام؟ (قالَ) فرعون : (سَنُقَتِّلُ
أَبْناءَهُمْ) الذين يمكن أن يشدّوا أزرهم في الحروب (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) نبقي بناتهم ونساءهم للخدمة إذلالا لهم. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي متمكّنون من إخضاعهم ...
١٢٨ ـ (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا
بِاللهِ وَاصْبِرُوا ...) أي قال موسى لبني إسرائيل الذين نزل بهم بطش فرعون :
اجعلوا الله عونا لكم على فرعون واصبروا على هذا البلاء وعلى إيمانكم. (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) فهو مالك لها (يُورِثُها مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ينقلها إليكم بعد إهلاك فرعون نقل المواريث. (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والفوز لمن اتّقى ورضي بقسمة الله سبحانه.
١٢٩ ـ (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنا ...) القائلون هم بنو إسرائيل لموسى بأنهم حلّت بهم أذية فرعون
وعذابه قبل أن يجيئهم بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) بها مؤخّرا ، (قالَ عَسى رَبُّكُمْ
أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) أي : أوجب الله سبحانه على نفسه إهلاك عدوّكم. (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلكم خلفاء بعدهم ويملّككم ما يملكونه (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يرى منكم فعلكم من الشكر أو الكفر حين تصيرون ورثة
الأرض.
١٣٠ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ ...) أي عاقبنا آل فرعون بالقحط والجدب بعد طغيانهم وآل الرجل
خاصته. (وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَراتِ) فلم تثمر أشجارهم (لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) أي بأمل أن يتفكروا ويعودوا إلى الحق.
١٣١ ـ (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا
لَنا هذِهِ ...) أي أن بني إسرائيل كانوا إذا جاءتهم النّعمة قالوا إننا
أهل لذلك لأن النعمة والسلامة والتوفيق ، تأتينا نتيجة حذاقتنا وشطارتنا فهم إذن
لا يعلمون أن ذلك كله من الله سبحانه. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) تحلّ بهم بلية (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى
وَمَنْ مَعَهُ) يعني : يتشاءمون بموسى وأتباعه. ويعتقدون بأنهم هم سبب
بؤسهم وما نزل بهم من شر (أَلا إِنَّما
طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي أن التشاؤم الذي ابتلوا به هو نذير لهم من عند الله.
فلو كانوا يعقلون للجأوا إلى الله وطلبوا منه الخير والسلامة. ولفظة طائر ، مشتقة
من الطير ، وطائر الإنسان عمله ومنه قوله تعالى : «وكل إنسان ألزمناه طائره في
عنقه» ، وقد أخذ من أن العرب كانوا يزجرون الطير فتتشاءم بالطائر الذي يأتي من جهة
الشمال دون الذي يأتي من جهة اليمين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون حقيقة ذلك ليثوبوا ويتوبوا.
١٣٢ ـ (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ
آيَةٍ ...) أي : قال آل فرعون لموسى (ع) : إنّ أيّة معجزة تجيئنا بها.
(لِتَسْحَرَنا بِها) وتموّه علينا بها لتصرفنا عن دين فرعون (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فلن نصدّقك.
١٣٣ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ...) الطوفان : هو الماء الخارج عن العادة والمدمّر وقد اختلف
المفسرون في الطوفان الذي أصاب آل فرعون ، فقيل هو الطاعون ، أو الموت الذريع ، أو
الجدريّ ، (وَالْجَرادَ) المعروف (وَالْقُمَّلَ) الذي قيل إنه صغار الجراد أو الجراد الذي ليس له أجنحة ،
كما قيل إنه البراغيث وأشباهها ، (وَالضَّفادِعَ) أيضا (وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ) أي معاجز ظاهرة (فَاسْتَكْبَرُوا) أي فتكبّروا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً
مُجْرِمِينَ) أي كافرين وعاصين.
١٣٤ ـ (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ
...) الرّجز : العذاب ، يعني أنه حين حلّ بهم العذاب مما نزل
بهم من الطوفان وغيره مما ذكرناه في الآيات السابقات (قالُوا : يا مُوسَى
ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي اطلب منه (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بعهد النبوّة التي منحك إياها. (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أي دفعته عنّا (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) لنصدّقنّ أنك رسول الله (وَلَنُرْسِلَنَّ
مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) نطلقهم ونجعل أمرهم إليك.
١٣٥ ـ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ
إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ...) يعني : حينما رفعنا العذاب عنهم إلى وقت مقدّر هم واصلون
إليه لا محالة (إِذا هُمْ
يَنْكُثُونَ) فإذا بهم ينقضون العهد.
١٣٦ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ...) أي جزيناهم بسوء عملهم (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي
الْيَمِ) أي البحر (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) لم يصدّقوها (وَكانُوا عَنْها) عن دلائلنا (غافِلِينَ) معرضين.
١٣٧ ـ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...) أي بني إسرائيل مكنهم في الأرض بعد إهلاك آل فرعون (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعني الأرض الواقعة في جهتي الشرق والغرب. وقيل شرق بلاد
الشام وغربها. (الَّتِي بارَكْنا
فِيها) بالخصب وكثرة المياه (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الْحُسْنى) يعني : وبذلك أنجز الله سبحانه وعده الحسن (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وأتم النعمة على أتباع موسى. (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على ما ابتلاهم به من ظلم فرعون (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ) أي أهلكنا ما كان يعمله (فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ) من القصور والمساكن الفخمة ، (وَ) خرّبنا (ما كانُوا
يَعْرِشُونَ) أي ما كانوا يغرسونه ويبنونه.
١٣٨ ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ
الْبَحْرَ ...) أي قطعنا بهم نهر النيل من خلال الطرق اليابسة التي يسرّها
الله لهم بلطفه وسط مياه النيل حتى عبروا بحيث صاروا خلفه ثم أغرق آل فرعون فيه
حين حاولوا عبره للّحاق بموسى وقومه (فَأَتَوْا) أي مرّوا (عَلى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) أي يلتفّون من حول أصنامهم (قالُوا يا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي اصنع لنا نصبا نعبده كما لهؤلاء والقائلون هم جهلة بني
إسرائيل دون مؤمنيهم. (قالَ) لهم موسى (إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون عظمة ربكم. وبسبب ذلك قلتم ما قلتم.
١٣٩ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ
...) أي إن هؤلاء المقيمين على عبادة الأصنام من دون الله ،
مدمّر ما هم فيه من عبادة وشرك (وَباطِلٌ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي أن عملهم باطل لا يجلب لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرّا.
١٤٠ ـ (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً
...) أي أن موسى (ع) تابع وقال : هل ألتمس لكم معبودا غير الله
تعالى (وَهُوَ) سبحانه (فَضَّلَكُمْ) خصّكم بالفضائل وآثركم (عَلَى الْعالَمِينَ) يعني الناس من أهل زمانكم.
١٤١ ـ (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ...) أي أنه تعالى قال لبني إسرائيل : اذكروا يوم خلّصناكم من
قوم فرعون الذين كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) أي ينزلون بكم أشدّ العذاب وأسوأه (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) أي يكثرون القتل فيهم (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) يبقونهنّ للخدمة (وَفِي ذلِكُمْ) أي في الذي فعلناه من نجاتكم بعد هذا البلاء والإذلال
والتنكيل (بَلاءٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي ابتلاء عظيم. وقيل نعمة من ربكم عليكم.
١٤٢ ـ (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ...) أي جعلنا لموسى موعدا ننزل عليه فيه التوراة وجعلنا اللقاء
بعد أربعين ليلة. (فَتَمَّ مِيقاتُ
رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الميقات هو الوقت المقدّر لعمل يعمل فيه ، وقد ذكر سبحانه
لفظ الأربعين لئلا يتوهم بأنه أتم الثلاثين بعشر حتى صارت ثلاثين. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) حين خرج إلى الميقات (اخْلُفْنِي) يعني كن خليفتي (فِي قَوْمِي) من بني إسرائيل (وَأَصْلِحْ) في حكمك بينهم وما قد يفسد من أمورهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا تسلك طريقة أهل الفساد والمعاصي والمعني بالخطاب
قومه من باب إياك أعني ...
١٤٣ ـ (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ...) أي حين حضر موسى (ع) إلى المكان المعيّن في الوقت المقرّر.
(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) سبحانه من غير سفير ولا وحي. كما كان يكلم الأنبياء على
ألسنة الملائكة (قالَ) موسى : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) يعني : أرني نفسك. (قالَ) الله (لَنْ تَرانِي) لا تراني أبدا لأنه سبحانه ليس جسما ليرى. (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أمره سبحانه بالنظر إلى الجبل وعلّق رؤيته على استقرار ذلك
الجبل (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أي حين ظهر أمر ربّه للجبل وما فيه ومن فيه ، وبدت مظاهر
عظمته (جَعَلَهُ دَكًّا) أي مستويا بالأرض كأنه ساخ واندكّ ، وقال ابن عباس : ظهر
نور ربه للجبل فاندك (وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً) أي وقع مغشيّا عليه ، ومات السبعون الذين كانوا معه كلّهم.
(فَلَمَّا أَفاقَ) حين انتبه من غشيته (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيها لك عمّا لا يليق بك ، (تُبْتُ إِلَيْكَ) أقلعت عن أن أسأل ما ليس لي به علم. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين.
١٤٤ ـ (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ ...) أي : قال الله لموسى : إني اخترتك وفضّلتك على الناس (بِرِسالاتِي) من دون كلام (وَبِكَلامِي) من غير رسالة وهو ما سمعته عند طلب الرؤية. (فَخُذْ) يا موسى (ما آتَيْتُكَ) أي ما أعطيتك من التوراة واعمل بما أمرتك به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الحامدين لي على نعمتي.
١٤٥ ـ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ ...) يعني سجّلنا لموسى (ع) في الألواح وهي التوراة التي نزلت
من السماء مسجلة على ألواح زمرّد طولها عشرة أذرع ، (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل ما يحتاج إليه في أمر الدين (مَوْعِظَةً) بيان لبعض الكل (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ
شَيْءٍ) مما يتعلق بأوامر الله تعالى ونواهيه وحلاله وحرامه
وغيرها. (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي باجتهاد وعزيمة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي احمل قومك على أخذ أحسن ما فيها من فرائض الله سبحانه
ونوافله. (سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ) التي هي جهنم.
١٤٦ ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) أي سأحوّل نظر المتكبّرين في الأرض عن دلائلي التي تثبت
النبوّة وتهدي إلى الحق كفرا وعنادا فتظهر لهم بحيث لا ينتفعون بها كغيرهم من
المؤمنين. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إذا رأوا أيّة دلالة تدل على وحدانية الله سبحانه وصدق
النبيّ الذي جاء بها ، لا يصدقون بها. (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) والرّشد هو الهدى الذي لا يسلكون الطريق المؤدية إليه مع
وضوحه لهم (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الغَيِ) أي طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً) طريقا لهم (ذلِكَ) إشارة إلى اتّباعهم طريق الغيّ (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا وبمعجزات رسلنا (وَكانُوا عَنْها
غافِلِينَ) لا يتفكّرون بها ولا ينتبهون إلى أهميتها.
١٤٧ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ...) يعني يوم القيامة (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) يعني بطلت لأنهم أوقعوها على غير وجهها. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي ليس يجزون إلّا بعملهم السيّئ.
١٤٨ ـ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ
مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ...) اتّخذ تعطي معنى الاختيار ، وهؤلاء الذين عاد سبحانه إلى
ذكر قصتهم من بني إسرائيل المقصود بهم السامريّ ومن مشى على طريقته. جعلوا بعد
مضيّ موسى إلى الميقات لتلقّي الألواح ، مما تحلّوا به من الذهب صورة وتمثالا لولد
البقرة مجسّدا له صوت ولا روح فيه. (أَلَمْ يَرَوْا) يلاحظوا (أَنَّهُ لا
يُكَلِّمُهُمْ) أي لا يخاطبهم (وَلا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلاً) لا يرشدهم إلى طريق الهدى أي أنه جماد لا ينفع ولا يضر فكيف
يصلح أن يكون إلها ومعبودا؟ (اتَّخَذُوهُ) برغم ذلك معبودا (وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم لأنهم كفروا بالله.
١٤٩ ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ...) أي لمّا ظهر خسرانهم ورأوا ضلالهم عن الحق بتأليه العجل (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا) أي إذا لم يرأف بنا ويقبل توبتنا (لَنَكُونَنَ) نصيرنّ (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين يستحقون العقاب على فعلهم القبيح.
١٥٠ ـ (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً ...) أي : حين عاد موسى من ميقات ربه ورأى قومه يعبدون العجل ،
تلقّاهم حزينا من تصرّفهم. (قالَ بِئْسَما
خَلَفْتُمُونِي) أي ساء فعلكم الذي فعلتموه بعدي (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) أي استعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتي أمر ربّكم ، أو
استعجلتم وعد الله؟ (وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ) أي رمى الألواح (وَأَخَذَ بِرَأْسِ
أَخِيهِ) هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي أمسك به وجذبه إليه كما يفعل الإنسان حين يغضب فيقبض
على لحيته ويشدها ، أو يعضّ شفته ، أو يضرب يدا بيد وقيل غير ذلك. (قالَ) هارون (ابْنَ أُمَ) أي : يا أخي من أمي. وإنما قالها استعطافا إذ كان أخاه
لأبيه وأمه. (إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي) أي نظروا إليّ نظر مستضعف بينهم (وَكادُوا) أوشكوا (يَقْتُلُونَنِي) لشدة إنكاري لعملهم (فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْداءَ) أي لا تسرهم بإهانتي (وَلا تَجْعَلْنِي) تعتبرني (مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) الذين عبدوا العجل.
١٥١ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ...) أي : قال موسى (ع) ذلك على نحو الخشوع لله ولا يدل على أن
أحدهما ارتكب ذنبا لأن الأنبياء معصومون. (وَأَدْخِلْنا فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) واضح المعنى.
١٥٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
...) في الجملة حذف أي : اتخذوه معبودا من دون الله (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني : سيلحق بهم سخط من الله (وَذِلَّةٌ) أي هوان (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) وذلك بأخذ الجزية منهم ، أو بما أمروا به من قتل أنفسهم ، (وَكَذلِكَ) أي مثل هذا التهديد والغضب (نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ) الكاذبين على الله ، لأنهم قد عبدوا العجل ودعوه إلها.
١٥٣ ـ (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا ...) أي فعلوا المعاصي وأقلعوا عنها وعادوا إلى حظيرة الإيمان
بعد التوبة منها (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمّد (مِنْ بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ) متجاوز عن ذنوبهم (رَحِيمٌ) رؤف بهم.
١٥٤ ـ (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
...) أي حين هدأ غضبه لأن قومه تابوا بعد اتخاذهم العجل (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي سجّلت فيها التوراة (وَفِي نُسْخَتِها) يعني فيما سجّل فيها (هُدىً) بيان إلى ما يحتاج إليه من أمور الدين (وَرَحْمَةٌ) أي نعمة ومنفعة (لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي يخافون ربهم فيطيعونه فيما ورد فيها من أوامر ونواهي.
١٥٥ ـ (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلاً لِمِيقاتِنا ...) أي : انتقى موسى من قومه سبعين رجلا ليحضروا تكليم الله له
وإعطاءه التوراة فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل (فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الرّعدة فكادت تتقطع أوصالهم من شدتها (قالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ) أي أفنيتهم ، إذا أردت والقائل هو موسى (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا الموقف ، (وَإِيَّايَ) وإهلاكي معهم. (أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) هو استفهام إنكاريّ معناه أنك لا تفعل ذلك بنا بسبب فعل
سفهاء القوم من عبادة العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ) أي ليست الرجفة إلا ابتلاءك ومحنتك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي
مَنْ تَشاءُ) أي تصيب بها من تريد وتنجي منها من تشاء. (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي الأولى بنا ، وناصرنا (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْغافِرِينَ) خير المتجاوزين عن الذنوب.
١٥٦ ـ (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً
...) أي نعمة في الدنيا هذا من بقية دعاء موسى عليهالسلام (وَ) اكتب لنا (فِي الْآخِرَةِ) حسنة أيضا تثيبنا عليها بالجنة والرضوان. (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي ورجعنا بتوبتنا إليك (قالَ) الله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ
مَنْ أَشاءُ) أي الذي يعصيني ويستحق العذاب. وقد علّق العذاب بمشيئته
سبحانه لجواز غفرانه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) فقد منحتها في الدنيا للطائع والعاصي ، ولكنها يوم القيامة
للمؤمنين خاصة. (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي سأوجبها لمن يجتنبون الشّرك والمعاصي ويعملون بالطاعات
والقربات (وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) يخرجون زكاة أموالهم (وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون ببيّناتنا.
١٥٧ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ...) أي أن الذين يؤمنون بآيات الله هم المؤمنون بمحمد (ص) الذي
لا يقرأ ولا يكتب المتّبعون ما شرع من الدّين. وروي عن الإمام الباقر (ع) أنه نسبة
إلى أم القرى التي هي مكة ، فلا يكون الناس مؤمنين بعد بعثته (ص) إذا هم لم يؤمنوا
به لأنه : (الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) بنعته وصفته ونبوّته ، (يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي يأمرهم بالحق وينهاهم عن الباطل (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) المستلذات الحسنة (وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي القبائح التي تمجّها النفوس. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي يخفّف عنهم الثقل الذي كان عليهم من جراء التكليف
بالأحكام (وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي يعفيهم من العهود التي في ذمّتهم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) صدّقوا بهذا النبيّ الأميّ (وَعَزَّرُوهُ) أي وقّروه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه (وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن فهو نور القلوب (أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الناجون من العقاب الفائزون بالثواب. وقد روي عنه (ص) أنه
سأل أصحابه : أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ فقالوا : الملائكة ، فقال : الملائكة عند
ربهم فما لهم لا يؤمنون! قالوا : فالنبيون ، قال : النبيون يوحى إليهم فما لهم لا
يؤمنون! فقالوا : نحن يا نبي الله ، قال : أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون! إنهم قوم
يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به ، فهو معنى قوله عزوجل : «واتبعوا النور الذي أنزل معه». (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) أي قل يا محمد لجميع الناس من عرب وعجم : قد أرسلني الله
إليكم كافة. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالكهما والمتصرف بهما وبما فيهما من غير منازع (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود سواه ، ولا شريك له (يُحيِي) الأموات (وَيُمِيتُ) الأحياء (فَآمِنُوا) صدّقوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أي محمد (ص) فإنه (الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللهِ) أي يصدّق به قبل أن يأمركم بالإيمان به (وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بكلمات ربه من القرآن والوحي والكتب السابقة (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بأمل أن تهتدوا إلى الرشاد والجنة.
١٥٩ ـ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ ...) أي جعلنا منهم جماعة يدعون إلى الحق (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي بالحق يعدلون في أحكامهم.
١٦٠ ـ (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أَسْباطاً ...) أي فرّقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة. يعني أولاد يعقوب
فهذا عددهم والأسباط مفردها سبط ، وهو الفرقة ولذلك أنّث اثنتي عشرة وحذف المميز
يعني : قطعناهم اثنتي عشرة فرقة وجعلناهم أسباطا. وكان لكل واحد من هؤلاء الأسباط
نسل فصار نسله فرقة من فرقهم وقد كانوا : (أُمَماً) كل أمة منهم ترجع إلى رئيسها في شؤونها ليخف العبء عن موسى
(ع). فلا يقع بينهم تنافر وتباغض (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) طلبوا منه أن يسقيهم وقد مر تفسير ذلك إلى آخره عند تفسير
الآيتين (٥٧) و (٦٠) من سورة البقرة حيث قلنا إن موسى (ع) عند ما ضرب بعصاه الصخرة
انفجر منها الماء من اثني عشر ثقبا لكل سبط منهم شرب خاص به من ثقب عرف أنه له.
١٦١ ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ ...) إلخ ... مرّ تفسيرها في سورة البقرة. وقد قلنا هناك : بأن
القرية هي التي كانت في الأرض المقدسة ، أمروا بدخولها وقتال أهلها من العمالقة
وإخراجهم منها ، فتمردوا عن الأمر ، وردّوا على موسى عليهالسلام فابتلوا بالتيه ، والقصة مذكورة في سورة هود : آية ٢٠ ـ ٢٢.
١٦٢ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ...) إلى آخر الآية الشريفة ، مرّ تفسير ، مثلها في سورة البقرة.
١٦٣ ـ (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ...) واسألهم يا محمد عن سكان أيلة الواقعة على شاطئ البحر
تقريعا لهم وقيل : إن القرية كانت مدين ، وقيل هي طبرية ، (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي حيث كانوا يتجاوزون حدود ما أمر الله تعالى في السبت (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي كانت تجيء ظاهرة على وجه الماء مشرعة أذنابها رافعة
رؤوسها في اليوم الذي يحرم صيدها عليهم وهو السبت والحيتان : جمع حوت ، وهو السمكة
الكبيرة ، وموضع : إذ ، نصب على معنى : سلهم عن وقت كذا. ومثلها : إذ ، في (إِذْ تَأْتِيهِمْ) والحاصل : إن الحيتان كانت تأتيهم في زمن يحرم صيدها عليهم
ابتلاء لهم واختبارا. (وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) بل تختفي في عرض البحر. ولذلك كانوا يحتالون في صيدها
فاتّخذوا حياضا فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ولا يمكنها الخروج منها
فيأخذونها يوم الأحد كما عن ابن عباس. (كَذلِكَ) أي بمثل ذلك الاختبار (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) بفسقهم وعصيانهم أمر الله تعالى. وقد ابتلاهم الله سبحانه
بالحيتان في وقت يحرم صيدها عليهم لشيوع الفسق بينهم ، فبعثهم الحرص على صيدها على
مخالفة أمر الله سبحانه ، ولم تمنعهم تقوى عن التعدي ، ولذلك قال : (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) ، أي نمتحنهم (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ). وقد ورد في بعض الروايات أن أحبارهم لم ينهوهم عن ذلك
وعلماءهم لم يمنعوهم ، وقيل : إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم : إنما نهيتم عن
أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وأكلوها فيما سوى ذلك من
الأيام.
١٦٤ ـ (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ ...) أي اسألهم يا محمّد إذ قالت جماعة من بني إسرائيل ، إذ
كانوا يومئذ ثلاث فرق : واحدة معتدية بصيد الحيتان ، وثانية ساكتة لا تحرك ساكنا ،
وثالثة واعظة فقال الساكتون للواعظين : (لِمَ تَعِظُونَ) أي لماذا تخوّفون (قَوْماً) جماعة معتدية (اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي مدمّرهم (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة لأنهم عصاة؟ (قالُوا) أي أجاب الواعظون (مَعْذِرَةً إِلى
رَبِّكُمْ) أي وعظنا لهم قياما بما فرضه الله علينا من النهي عن
المنكر (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) وعسى أن يرجعوا عن غيّهم ويتجنّبوا غضب الله.
١٦٥ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) أي حين ترك أهل أيلة موعظة الواعظين. (أَنْجَيْنَا) خلّصنا (الَّذِينَ يَنْهَوْنَ
عَنِ السُّوءِ) أي عن المعصية (وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد سيّئ (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) مرّ تفسيره.
١٦٦ ـ (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ
...) أي فحين تكبّروا عن سماع الحق وأبوا أن يرجعوا عن غيّهم (قُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) جعلناهم قردة مرذولين ثم أهلكهم الله بعد ثلاثة أيام.
١٦٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ...) أي اذكر يا محمد يوم قدّر ربك (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) ليرسلنّ على اليهود (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) إلى آخر الدهر (مَنْ يَسُومُهُمْ
سُوءَ الْعَذابِ) أي من يذيقهم العذاب الشديد (إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقابِ) يحاسب من يستحق ذلك بسرعة (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ) لمن يتوب وينيب إلى ربّه.
١٦٨ ـ (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً ...) يعني قسّمناهم ـ ببغيهم ـ ووزعناهم في الأرض فرقا مختلفة ،
(مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ) الخيّرون (وَمِنْهُمْ دُونَ
ذلِكَ) أي في مرتبة أدنى من مرتبة الصلاح (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ) أي واختبرناهم بالنعم والنقم (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي ينيبون إليه سبحانه.
١٦٩ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتابَ ...) أي جاء من بعد أولئك الأسلاف أخلاف قاموا مقامهم بوراثة
التوراة. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هذَا الْأَدْنى) أي عرض ما في الدنيا من متاع ومغريات زائلة فكانوا يرتشون
ويحكمون بالباطل ، (وَيَقُولُونَ :
سَيُغْفَرُ لَنا) أي يعفى عن ذنوبنا. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ
عَرَضٌ مِثْلُهُ) أي إذا جاءهم عرض زائل كذاك (يَأْخُذُوهُ) بلا امتناع (أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي : ألم يرتبطوا بالعهد الّذي في التوراة (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا
الْحَقَ) أي أن لا يكذبوا عليه في ما أنزل على رسوله موسى (ع) (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) يعني قرءوا ما في التوراة (وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ) أي ما أعدّه الله للمؤمنين من نعيم الآخرة الباقي (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي خير للذين يجتنبون المعاصي (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي تتدبّرون.
١٧٠ ـ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ
...) أي يتمسكون بالتوراة فلا يحرفونه ولا يكتمون منه شيئا
ويحملون غيرهم على التمسّك به. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وقد ذكرها سبحانه دون غيرها لأهميتها. (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) لا نضيع جزاء عملهم الخيّر.
١٧١ ـ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ...) واذكر يا محمد يوم اقتلع الله الجبل ورفعه فوق بني إسرائيل
فجعله كأنه غمامة أو سقف يظلّهم (وَظَنُّوا) حسبوا موقنين (أَنَّهُ واقِعٌ
بِهِمْ) أي عليهم : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) التزموا بما في أيديكم من أحكام التوراة بجد وصدق عزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ولا تنسوا المواثيق والعهود المأخوذة عليكم للعمل بما فيه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتجنّبوا ما يغضب ربّكم.
١٧٢ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ...)
أي اذكر يا محمد
لهؤلاء إذ أخذ ربّك من أصلاب بني آدم نسلهم إلى يوم القيامة. فما من أحد منهم إلا
استقلّ من غيره وتميز منه فاجتمعوا هنالك جميعا وهم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة
بربهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ) جعلهم شهودا على
ذواتهم فقال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي أما أنا إلهكم وهو خطاب حقيقي لا بيان حال وتكليم إلهي
لهم ، فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله يريد به منهم الاعتراف وإعطاء الموثق.
وكذلك الكلام في قوله : قالوا بلى شهدنا. (قالُوا : بَلى) أجابوا : نعم (شَهِدْنا) بذلك على أنفسنا بأنك ربّنا وخالقنا. (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لئلا تقولوا إذا واجهتم العذاب (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) الواقع (غافِلِينَ) أي لم نتنبه إليه لنعمل له.
١٧٣ ـ (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ
آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ...) أي لئلا يقول بعضكم قد أشرك بك آباؤنا يا رب حين بلغوا سنّ
الرّشد (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
مِنْ بَعْدِهِمْ) وكنّا خلفا لهم صغارا لا نعقل (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ) أي هل توردنا الهلاك بفعلهم المبنيّ على الباطل؟.
١٧٤ ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي كما أوضحنا لكم هذه الآيات كذلك نبيّنها لسائر عبادنا
ليتمكّنوا من الاستدلال بكل واحدة منها على ألوهيّتنا وقيل : تفصيل الآيات تفريق
بعضها وتمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها ولا تختلط وجوه دلالتها. (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون عن الباطل إلى الحق.
١٧٥ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا ...) أي : واقرأ عليهم ـ يا محمد ـ قصة الرجل الذي أعطيناه
حججنا (فَانْسَلَخَ مِنْها) يعني خرج من المعرفة بها إلى الجهل (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي تبعه ولحق به فأضلّه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) الضالين أو الخائبين.
١٧٦ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ...) يعني : لو أردنا لرفعنا منزلته في الإيمان والمعرفة بتلك
الحجج (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ) أي ركن إلى الدنيا واطمأنّ لها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) انقاد له (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي أن صفته كصفة الكلب الذي يخرج لسانه ويلهث إن طردته وإن
تركته. (ذلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني أن هذه هي صفة المكذّبين ببراهيننا وحججنا. (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي فاحك لهم أخبار الماضين (لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) فعسى أن يتدبّروا حالهم ويعتبروا.
١٧٧ ـ (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي بئس مثلا ، مثل الفئة التي تكذّب بآياتنا ، وقبح حالهم (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إذ حرموها ثواب الإيمان وأوردوها العذاب.
١٧٨ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي
...) أي من يعهده الله تعالى إلى الحق ونيل الثواب فهو المهتدي
للإيمان والخير (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي ومن يضلله الله سبحانه عن طريق الجنّة عقابا له على
كفره وفسقه (فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا الجنّة ونعيمها واستحقوا العقاب.
١٧٩ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) أي : خلقنا كثيرين من الجنّ والإنس يكون مصيرهم إلى جهنم
بسبب كفرهم بسوء اختيارهم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها) أي لا يعقلون ولا يفكرون بحجج الله (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) لا يرون طريق الرشد (وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها) قول الأنبياء ولا وعظ المرشدين إلى الهدى ، (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أي : هؤلاء حيث كان هذا حالهم هم كالحيوانات التي لا تفقه
قولا ولا تسمع وعظا (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من البهائم لأنها قد تنزجر وهم لا ينزجرون ، وقد تسمع أمر
صاحبها وهم لا يسمعون. (أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) عن حجج الله تعالى وعن الاعتبار بتدبرها.
١٨٠ ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...) الأسماء الحسنة المعاني والدلالة كالرحمن والرحيم والرزّاق
والقدير وغيرها (فَادْعُوهُ بِها) يا أيها المؤمنون وقولوا : يا رحمن يا رحيم ارحمنا وهكذا (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ) أي دعوا الذين ينكرون هذه الأسماء ويعدلون بها عمّا هي
عليه فيسمّون بها أصنامهم ، (سَيُجْزَوْنَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) في الآخرة.
١٨١ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ...) أي : ومن جملة من خلقنا جماعة يدعون الناس إلى الحق
ويرشدونهم إلى الإيمان ويحكمون بالعدل وروي أن المقصود أمة خاتم النبيين (ص).
١٨٢ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي كفروا بالقرآن والرسالة والمعجزات (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ) والاستدراج هو الأخذ قليلا قليلا ودرجة بعد درجة ، فهؤلاء
سيستدرجهم إلى الهلكة والخسران حتى يقعوا في العذاب بغتة.
١٨٣ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
...) أي : وأستأنيهم ، ولا أستعجل بأخذهم فإن عذابي منيع لا
يدفعه دافع لو وقع.
١٨٤ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ
مِنْ جِنَّةٍ ...) يعني : أولم يفكّر هؤلاء الكفار المكذّبون بمحمد (ص) إنه
ليس بمجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أنه أرسل مخوّفا للناس من عذاب الله ليتّقوه ، ودالّا
على ما يؤدي إلى الأمن منه فيسلكون طريقه.
١٨٥ ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) يعني : ألم يتفكروا في عجيب خلق السموات والأرض فيعترفوا
بأن لها خالقا حكيما (وَما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ) أي : ولم ينظروا بعين البصيرة إلى أصناف خلقه وعظيم قدرته
فيستدلّوا بذلك على توحيده وإثبات وجوده (وَأَنْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولم يتفكّروا في أنه قد يكون قد اقترب أجل موتهم ووفاتهم
فيدعوهم ذلك لأن يحتاطوا لأنفسهم (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) مع ما في القرآن الكريم من معجز.
١٨٦ ـ (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ
...) قد مرّ تفسيره فيما مضى (وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي ونتركهم متحيّرين في ضلالتهم.
١٨٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ...) أي : يستفهمون منك
يا محمد عن القيامة (أَيَّانَ مُرْساها) متى موعدها الثابت؟ (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي) أي علم وقت حدوثها عند الله سبحانه (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يظهرها إلا الله لأن علمها من مختصاته سبحانه. (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل علمها على أهلهما لأن الذي يخفى عليه سرّ شيء يكون
ثقيلا عليه. (لا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة (يَسْئَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي كأنك عالم بها. (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ اللهِ) أي علمها محصور به وقد كرر سبحانه هذا القول لوصله بقوله :
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقت حدوثها مع جميع ما يحدث أثناءها وبعدها.
١٨٨ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً
وَلا ضَرًّا ...) أي : قل يا محمد لجميع الناس : إنني لا أملك جلب نفع ولا
دفع ضر (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سوى ما أراد الله (وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي لو كنت أعلم الغيب لكنت اختار الأفضل دائما في عمل
الدّنيا وعمل الآخرة ، (وَما مَسَّنِيَ
السُّوءُ) ما أصابني الفقر (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ) مخوّف بالعذاب (وَبَشِيرٌ) مبشّر بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدقونني فيما أقول.
١٨٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ ...) أي أن الله تعالى خلقكم يا بني آدم من نفس آدم (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلق حواء من تلك النفس ، (لِيَسْكُنَ) زوجها (إِلَيْها) ويأنس بها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي حين ووطأها (حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً) وهو الماء الذي استقرّ في رحمها وكان حمله خفيفا (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت على الخفة بحركتها وقيامها وقعودها (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي : حين أحسّت بثقل الحمل حين صار جنينا (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) يعني سألاه (لَئِنْ آتَيْتَنا) إذا أعطيتنا (صالِحاً) ولدا معافى سليما سويّا ، وقيل ذكرا (لَنَكُونَنَ) لنصيرنّ (مِنَ الشَّاكِرِينَ) الحامدين لك المعترفين بنعمتك علينا.
١٩٠ ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ ...) أي فلمّا أعطاهما
الله ولدا صالحا كما طلبا (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما) وقد اختلف المفسرون في من يعود الضمير الموجود في : جعلا.
فقيل إنه يرجع إلى النسل الصالح المعافى في خلقه وبدنه لا في دينه ، وإنما ثنّاه
سبحانه لأن : حواء (ع) كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى ، وهذا يعني أن ذلك الذكر
وتلك الأنثى جعلا لله شركاء فيما أعطاهما من النعمة ، فأضافا تلك النعمة إلى من
اتّخذوهم آلهة من دون الله (فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : فسما وتقدس الله سبحانه عن شركهم.
١٩١ ـ (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ) ... أي : كيف يشركون مع الله الخالق القادر غيره ممّا لا
يستطيع أن يخلق شيئا ، بل هم ـ أي من أشركوهم معه ـ مخلوقون له سبحانه.
١٩٢ ـ (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً
وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ...) أي : أن المشركين يعبدون أصناما لا تقدر على نصر عابديها ،
ولا نصر أنفسها إن حلّ بها ضيق.
١٩٣ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا
يَتَّبِعُوكُمْ ...) أي وإن تدعوا هؤلاء المشركين إلى الحق لا يسمعوا دعوتكم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي أن دعاءكم لهم وسكوتكم عن دعوتهم للإيمان سواء لأنهم
مصرّون على الكفر.
١٩٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ...) أي الأصنام التي تسمونها آلهة هي مخلوقة مثلكم (فَادْعُوهُمْ) أي اطلبوا منهم حاجاتكم وهذا تعجيز لهم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي فليجيبوا طلباتكم إذا قدروا عليها. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنها تنفع وتضر.
١٩٥ ـ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها ...) لمصالحكم (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ
يَبْطِشُونَ بِها) أي ألهم أيد يدفعون بها عنكم (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) لا ، ليس لهم هذه الأعضاء ولا تلك الحواس ، والناس أفضل
منهم. (قُلِ) يا محمد : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي ادعوا هذه الأوثان التي تشركونها في أموالكم وأضحياتكم
ونذوركم (ثُمَّ كِيدُونِ) واستعملوا ما عندكم من تدبير مجتمعين (فَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخّروني ، فإن ربي ومعبودي ينصرني وهم لن يستطيعوا
نصركم.
١٩٦ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتابَ ...) يقول للمشركين الذين دفعتهم حجته : إن حافظي وناصري عليكم
، هو الله الذي أنزل عليّ هذا القرآن ، (وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ) أي الله يتولّى أمور المطيعين المتقين له.
١٩٧ ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ...) أي الأصنام التي تسمونها آلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لا يقدرون على معاونتكم ولا يدفعون عنكم ضرّا لأنهم عاجزون
عن نصر أنفسهم وفاقد الشيء لا يعطيه.
١٩٨ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا
يَسْمَعُوا ...) أي إذا دعوتم هذه الأصنام التي تعبدونها إلى الرشد
والمنافع لا تسمع ولا تعي (وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي مفتوحة أعينهم نحوكم كما نحتوها (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي لا يرون الحجة ولا يدركون شيئا مما حولهم. وقيل : إن
الكلام على مشركي العرب.
١٩٩ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) أي : خذ يا محمد ما عفا وما فضل من أموال الناس للنفقة
وأمر بكل ما هو حسن بنظر العقل (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ) أي اتركهم بعد قيام الحجة عليهم وبعد أن تيأس من قبولهم
لها.
٢٠٠ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ...) نزغ الشيطان هو إفساده ووسوسته. فإذا أصابك يا محمد شيء من
ذلك وأصابك نخسة في القلب عند الغضب فأسأل الله أن يجيرك منه (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
٢٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا
مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ...)
أي أن الذين
تجنّبوا معاصي الله ، إذا عرض لهم وسواس من الشيطان (تَذَكَّرُوا) الله (فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ) راؤون طريق الرشد فيطرحون تلك الوساوس.
٢٠٢ ـ (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ
...) أي أن إخوان المشركين من شياطين الجن وشياطين الإنس ،
يشجّعونهم على الضلال (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي لا يكف الشياطين عن الإغواء ولا الضالون عن الغواية.
٢٠٣ ـ (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا
لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) ... أي إذا ابطأت عنهم بالمعجزة أو البينة فإنهم يقولون
هلا جئتنا بها دون انتظار نزول الوحي عليك (قُلْ) لهم يا محمد : (إِنَّما أَتَّبِعُ ما
يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي لا أجيء بالآيات من قبل نفسي ، وإنما اتبع وحي الله
منزّل الآيات وأمره لي (هذا بَصائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي هذا القرآن الكريم هو دلائل واضحة من الله تبصرون به
أمور دينكم (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي دلالة إلى الحق ونعمة في الدنيا والآخرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي للذين يصدّقون بالله ورسله.
٢٠٤ ـ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا ...) هذا أمر من الله تعالى للناس بالاستماع والإنصات إلى
القرآن عند تلاوته وقد اختلف المفسرون في الوقت الذي أمروا بالإنصات فيه ، فقيل
إنه في الصلاة خاصة خلف الإمام وقيل غير ذلك (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أي بأمل أن تصيبكم الرحمة لاعتباركم بمواعظة.
٢٠٥ ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ...) الخطاب هنا للنبيّ (ص) والمراد به عامّ وقيل إن المقصود به
هو مستمع تلاوة القرآن يذكر ربّه في نفسه بالكلام الخفيّ من التسبيح والتكبير
والتحميد والتهليل. (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) يعني بدعاء وخشوع وخوف من الله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي ارفع صوتك قليلا ليكون وسطا بين الإخفات والجهر البليغ (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي بالغدوات وبالعشيّات (وَلا تَكُنْ مِنَ
الْغافِلِينَ) عمّا أمرتك به من الذكر والدعاء.
٢٠٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ...) أي إن الملائكة المقرّبين مع عظمة خلقهم وسموّ شأنهم
يعبدون الله خاضعين له (وَيُسَبِّحُونَهُ) يعني ينزّهونه عمّا لا يليق بعظمته (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يخضعون أو يصلّون.
سورة الأنفال
مدنية ، عدد آياتها ٧٥ آية
١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) أي يسألك بعض أصحابك يا محمد عن الأنفال والأنفال جمع نفل
وهو الزيادة على الشيء ، ولذلك يطلق النافلة والنفل على التطوع لزيادته على
الفريضة ، كما تطلق الأنفال على ما يسمى فيئا أيضا وهي الأشياء من الأموال التي لا
مالك لها من الناس كرؤوس الجبال وبطون الأودية والديار الخربة والقرى التي باد
أهلها وتركة من لا وارث له وغير ذلك ، كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها
أحد فهي لله ورسوله ـ وهي هنا الغنائم التي غنمتها يوم بدر ويطلبون تقسيمها وقيل
يسألون عن حكمها فقط. (قُلِ) يا محمد : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ) فهي لهما دون غيرهما (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوه ولا تطلبوا ما ليس لكم. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي أصلحوا ما وقع بينكم من الخصومة والنزاع ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ارضوا بما أمرتم به في الأنفال والغنائم وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذا كنتم مصدّقين بما جاء به النبيّ (ص) عن الله.
٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) إن المؤمنين تفزع قلوبهم عند ذكر الله تعظيما له وخوفا من
عقابه (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي إذا قرئت عليهم آيات القرآن زادتهم بصيرة ومعرفة فيزداد
تصديقهم (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) أي يفوّضون إليه أمورهم.
٣ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ...) قد مرّ تفسيرها في أول سورة البقرة. وهذه الصفات الخمس
التي اختارها الله للمؤمنين هنا من بين جميع صفاتهم هي على نوعين ، فالثلاث الأولى
منها هي من أعمال القلوب ، والأخيرتان من أعمال الجوارح.
٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ...) يعني أن الّذين تكون صفتهم بحسب ما ذكر في الآيتين
السابقتين ، هم المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) أي في الجنة يرتقون إليها بأعمالهم الصالحة. (وَ) لهم (مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) كبير دائم لا ينفد.
٥ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ ...) أي كما أخرجك ربّك من بيتك أي المدينة بواسطة الوحي ، نزع
الله الأنفال من أيديهم وأثبتها لله ورسوله. (وَإِنَّ فَرِيقاً
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي طائفة منهم (لَكارِهُونَ) غير راغبين في ذلك الخروج للمشقة التي يتحمّلونها ، وهم
٦ ـ (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما
تَبَيَّنَ) أي يناقشونك فيما ندبتهم إليه من القتال بعد ما عرفوا
صدقك. (كَأَنَّما يُساقُونَ
إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأن هؤلاء المجادلين كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت
وهو يراه بعينيه.
٧ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ...) أي اذكروا إذ يعدكم الله أن العير التي تحمل تجارة قريش أو
النفير الذي هو جيش المشركين الذي خرج من مكة للدفاع عنها تكون لكم. (وَتَوَدُّونَ) تحبّون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي العير التي لا تكلفهم حربا وتعبا كانوا يرغبون بها. (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ) يريد أن يظهر الحق بأمره إياكم بالقتال ليظفركم على
الأعداء ذوي الشوكة (وَيَقْطَعَ دابِرَ
الْكافِرِينَ) يعني يستأصلهم.
٨ ـ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْباطِلَ ...) أي ليظهر الإسلام ويذهب الكفر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي برغم كره الكافرين لذلك.
٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ،
فَاسْتَجابَ لَكُمْ ...) أي : واذكروا أيها المسلمون إذ كنتم تستجيرون بربكم
وتطلبون منه الغوث قبل بدء القتال في بدر فاستجاب لكم دعاءكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي مرسل لكم مددا (بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متبعين ألفا آخر. وقيل بل هم ألف واحد كانوا متتابعين.
١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ...) يعني أن الله سبحانه ما جعل ذلك الإمداد إلّا بشارة لكم
بالنصر ولتطمئن قلوبكم وتسكن (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي لم يكن النصر في الواقع من قتالكم ولا من قتال الملائكة
، وإنما هو من قبل الله ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً
مِنْهُ ...) قد مرّ تفسير هذه العبارة عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) عند الآية ١٥٤ من آل عمران. (وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وذلك أنهم سبقهم الكفار إلى الماء ، وأصبحوا محدثين
ومجنبين (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته. وقيل إنه وسوس لهم بأنه لا طاقة لهم بالأعداء (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ليشدّ عليها ويشجّعكم (وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدامَ) أي ليجعل أقدامكم ثابتة لا تزول في الحرب ، وقيل إن المطر
جعل الأرض صلبة تحت أقدامهم بعد أن كانت رملية غير صالحة للسير عليها في وقت سبب
توحل الأرض التي أقام عليها المشركون فأربكت تحركهم.
١٢ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ...) الوحي هنا إلقاء في القلب يدركه وتقوى به النفس. فقد ألقى
سبحانه في روع الملائكة : أني معينكم (فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا) قوّوهم بالبشارة بالنصر. (سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الرّعب هو الخوف الشديد (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ) أي اضربوا الرؤوس والجماجم التي تحملها أعناق الكافرين
أيها المؤمنون أو أيها الملائكة. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ
كُلَّ بَنانٍ) البنان الأصابع فاضربوها لتختلّ السيوف في أيديهم.
١٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ ...) أي ذلك العذاب الذي كتبته عليهم كان بسبب أنهم خالفوا الله
ورسوله وحاربوهما (وَمَنْ يُشاقِقِ
اللهَ وَرَسُولَهُ) يخالف أوامرهما ويعصيهما (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) يهلك العصاة في الدنيا ، ويخلّدهم في النار في الآخرة.
١٤ ـ (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ
لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ ...) أي هذا الذي أعددته لكم أيها الكافرون من القتل والإهلاك
في الدنيا فذوقوه في العاجلة ، وإن لكم في الآجلة عذاب النار.
١٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ...) هذا خطاب للمؤمنين أن إذا التقيتم مع الكفار في الحرب وجها
لوجه وهم يدنون منكم قليلا قليلا (فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ) أي فلا تنهزموا أمامهم بحيث تجعلون ظهوركم مما يليهم.
١٦ ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
...) أي ومن يدير لهم ظهره منهزما في ذلك الوقت (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي : إلّا مغيّرا موقفه من حال استعداد إلى حال أفضل (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منضمّا إلى جماعة من حزبه ليستعين بهم ويعينهم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي استحق غضب الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مرجعه إلى جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وساء مصيره ذاك.
١٧ ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ ...) فقد نفى القتل عن المسلمين مع أنه كان يرى أنهم هم الذين
فعلوه بحسب الظاهر ، ونسبه إلى نفسه جلّ وعلا وليس بفعل له لأن أفعاله سبحانه كانت
كالسبب المؤدّي لفعل المسلمين إذ أقدرهم عليه وأعانهم وشجّعهم وألقى الرعب في قلوب
أعدائهم. وقد قال لنبيّه (ص) : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)
فقد ذكر ابن عباس
وغيره أن جبرائيل (ع) قال للنبيّ (ص) : خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول
الله (ص) لمّا التقى الجمعان لعليّ : أعطني قبضة من حصى الوادي ، فناوله كفّا من
حصى عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا دخل
في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ
بَلاءً حَسَناً) أي لينعم بذلك على المؤمنين نعمة حسنة. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
١٨ ـ (ذلِكُمْ ...) إشارة إلى بلاء المؤمنين (وَأَنَّ اللهَ
مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي مضعف مكرهم.
١٩ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ
الْفَتْحُ ...) إن تطلبوا النصر ـ أيها المشركون ـ لإحدى الفئتين فقد
جاءكم نصر محمد (ص) وأصحابه. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي تتركوا الكفر وتمتنعوا من قتال الرسول والمؤمنين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ
تَعُودُوا) إلى قتال المسلمين (نَعُدْ) إلى نصرهم عليكم (وَلَنْ تُغْنِيَ
عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) أي لا تدفع عنكم جماعتكم شيئا من القتل (وَلَوْ كَثُرَتْ) جماعتكم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) يحفظهم وينصرهم.
٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ...) أي : ولا تنصرفوا عنه وتعرضوا (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) تصغون إلى دعائه (ص) وأمره ونهيه لكم.
٢١ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا
سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ...) فلا تكونوا أيها المؤمنون أمثال هؤلاء المنافقين الذين
يسمعون بآذانهم ولا تعي قلوبهم.
٢٢ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ...) أي : أن الصم البكم أسوأ من دبّ على وجه الأرض من
المخلوقات إنسانا وحيوانا. ذلك أنهم لا ينتفعون بما يسمعون من الحجج والبراهين ،
ولا يتّبعون الحق ولا يقرّون به.
٢٣ ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ...) أي لو علم فيهم قبولا للهدى والإذعان للحق لجعلهم يسمعون
ويعون (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي لو فعل ذلك لأعرضوا عن القول.
٢٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...) أي أجيبوهما فيما يأمران به ، وإجابتهما هي طاعتهما فيما
يدعوان إليه من اتّباع الحق. (إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ) أي إذا ندبكم لما فيه حياتكم وسعادتكم من الجهاد أو
الإيمان أو القرآن أو الجنة (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي يحجز بين الإنسان وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يقدر
على استدراك ما فاته من الطاعات. (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه.
٢٥ ـ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...) أي احذروا من بلاء قد يصيبكم جميعا حين يصيب الذين ظلموا
أنفسهم ولا يختصّ بالظالمين دون غيرهم إذا حلّ ووقع. وقيل بأن الفتنة هنا العذاب
وإن الله أمر المؤمنين أن يتجنّبوا المنكر لئلا يعمّهم العذاب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) عقابه قويّ ثقيل على من لم يتجنّب المعاصي.
٢٦ ـ (وَاذْكُرُوا ...) أي لا تسهوا أيها المهاجرون (إِذْ أَنْتُمْ
قَلِيلٌ) عددكم في ابتداء الدعوة (مُسْتَضْعَفُونَ) بنظر أعدائكم يرون أمركم هيّنا فالاستضعاف : عدّ الشيء
ضعيفا بتوهين أمره. (فِي الْأَرْضِ) أي في مكة (تَخافُونَ) تخشون (أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ) يستلبكم المشركون والتخطّف والخطف والاختطاف : أخذ الشيء
بسرعة انتزاع. (فَآواكُمْ) أي جعل الله لكم مأوى بالمدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قوّاكم من الأيد : وهو القوة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي أعطاكم النّعم الهنيئة اللذيذة ، وقيل الغنائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا لله.
٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ...) المعنى لا تنقصوا ما أوجبه الله عليكم من طاعته وطاعة
رسوله ولا تمنعوا حقا أوجب الله تأديته (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون ما في الخيانة من الذم والقبح والعقاب. قال
الراغب : الخيانة والنفاق واحد ، إلّا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة ،
والنفاق يقال اعتبارا بالدين ، ثم يتداخلان ، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في
السر ، ونقيض الخيانة : الأمانة ، يقال : خنت فلانا وخنت أمانة فلان.
٢٨ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ...) أي واعرفوا يقينا أن أموالكم وأولادكم بلية عليكم اختبركم
الله سبحانه بها (وَ) اعلموا (أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثواب كثير لمن أطاعه وقدّم ذلك على ماله وأولاده.
٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ...) هذا خطاب للمؤمنين يفيد بأنهم إذا تجنّبوا معاصي الله
سبحانه وأدّوا فرائضه وائتمروا بأوامره وانتهوا عن نواهيه فسوف يجعل الله لهم (فُرْقاناً) نورا في قلوبكم يجعلكم تفرّقون به بين الحق والباطل (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يمحوها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يعفو عن ذنوبكم (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي صاحب الإنعام الكبير على خلقه.
٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا ...) أي اذكر يا محمد إذ يستعمل الكفار معك احتيالهم ومكائدهم
وذلك (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليربطوك بالوثاق (أَوْ يَقْتُلُوكَ
أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة إلى أطراف البلاد (وَيَمْكُرُونَ) هذا المكر (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يدبّر جزاء عملهم السيّئ معك. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأن مكره حقّ يأتي جزاء على مكر باطل. قال الراغب : المكر
: صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان : ضرب محمود ، وذلك أن يتحرّى به فعل
جميل وعلى ذلك قال الله : والله خير الماكرين. ومذموم وهو أن يتحرّى به فعل قبيح
قال : ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله ...
٣١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
قالُوا قَدْ سَمِعْنا ...) أي إذا قرئت على هؤلاء الكفّار آياتنا التي في القرآن
قالوا قد أدركناه بآذاننا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا) أي لو أردنا لأنشأنا مثل هذه الآيات. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) أي أن القرآن أحاديث الماضين تتلوها علينا.
٣٢ ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا
هُوَ الْحَقَّ ...) واذكر يا محمد قول هؤلاء الكفار : اللهم إن كان هذا الذي
جاء به محمد هو الحق (مِنْ عِنْدِكَ) وليس ما نحن عليه (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) كالذي فعلته بقوم لوط وأصحاب الفيل (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي شديد الألم.
٣٣ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ ...) والمعنى أنه تعالى لم يكن ليعذّب كفار مكة عذاب استئصال ما
زال النبيّ (ص) مقيما بينهم لأنه رحمة للعالمين (وَما كانَ اللهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي أنه لا يعذّبهم بعد خروجك من بينهم وفيهم مؤمنون
يستغفرون.
٣٤ ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ
..) أي ولم لا يعذّبهم الله والاستفهام هنا بمعنى الإنكار أو
التعجّب. والمراد بالعذاب : العذاب بالقتل أو ما هو الأعم منه على ما يفيده السياق
باتصال الآية بالآية التالية. (وَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يمنعون والجملة حال من ضمير : يعذبهم. (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أولياءه الحقيقيين.؟ (وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ) أي المشركون ما كانوا أولياء المسجد الحرام وهو حال عن
ضمير : يصدّون. (إِنْ أَوْلِياؤُهُ) أي ليس أولياؤه بالحق (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) الذين يخافون سخط الله. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يجهلون حقيقة هذه الولاية والمسجد الحرام.
٣٥ ـ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ...) المكاء : الصفير ، أما التصدية : فهي التصفيق وضرب اليد
على اليد ، فصلاة المشركين كانت صفيرا وتصفيقا يفعلونهما وهم يطوفون حول بيت الله
الحرام عراة ، (فَذُوقُوا الْعَذابَ) عذاب القتل وعذاب الآخرة (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم. وفي هذا بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع
بالفاء.
٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ ...) يصرفونها في بدر وغيرها (لِيَصُدُّوا) أي يمنعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريق الحق ودين الله (فَسَيُنْفِقُونَها) سيصرفونها (ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي : لا ينتفعون بصرفها ويتحسّرون عليها لأنها لا تحقق لهم
الهدف المطلوب لهم (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الحرب أمام المسلمين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون فيها. ويكون ما يأتون به في الدنيا من التجمّع
على الشر والخروج إلى محاربة الله ورسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم
القيامة.
٣٧ ـ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ ...) أي يفعل الله ذلك ليميز نفقة المؤمنين من نفقة الكافرين
والخباثة والطيب معنيان متقابلان (وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) من نفقاتهم التي تحدّث عنها (فَيَرْكُمَهُ) أي يكدّسه فالركم : جمع الشيء فوق الشيء ، ومنه : سحاب
مركوم : أي مجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض ومجموعها ، وتراكم الأشياء : تراكب بعضها
بعضا. (جَمِيعاً) كلّه في الآخرة (فَيَجْعَلَهُ فِي
جَهَنَّمَ) فيعاقبهم به ، (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الجحيم.
٣٨ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ...) قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : إن يتوبوا عمّا يفعلونه من
الشّرك والحرب نغفر لهم ما مضى من ذنوبهم (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى حربك وشركهم (فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي فقد سبق ما قضى الله سبحانه به من نصر المؤمنين على
الكافرين. وقد أمر النبي (ص) أن يبلغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف ، وحقيقته دعوة
إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم وإيذائهم للمؤمنين ،
فإن لم ينتهوا عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الأولين منهم بالإهلاك والإبادة
وخسران السعي.
٣٩ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ ...) أمر بمقاتلة الكافرين حتى لا يبقى شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي ليجتمع أهل الإيمان وأهل الكفر على الدين الحق (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وسيجازيهم بأعمالهم مجازاة البصير بها.
٤٠ ـ (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَوْلاكُمْ ...) أي إذا انصرفوا عن طاعة الله ، فاعلموا أيها المؤمنون أن
الله هو ناصركم (نِعْمَ الْمَوْلى) هو (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لأنه ينصر المؤمنين على أعدائهم ويعينهم على طاعته.
٤١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ ...) أي واعرفوا جيدا أيها المسلمون أنه مهما كسبتم من أموال
أهل الحرب من الكفار قال الراغب : والغنم : بالضم فالسكون ، إصابته والظفر به ، ثم
استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم ، قال : واعلموا أنما غنمتم من شيء ،
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ، والمغنم ، ما يغنم ، وجمعه مغانم ، قال : فعند الله
مغانم كثيرة. (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ) أي فاعلموا أن لله خمسه. والخمس يفرز جزءا منه من خمسة
أجزاء ويقسّم حسب نصّ الآية الشريفة ، وقد ذهب أصحابنا إلى تقسيمه على ستة أسهم :
سهم لله ، وسهم للرسول ، وسهم لذوي القربى من آل محمد ، فتصير ثلاثة أسهم خاصة
بالإمام القائم مقام رسول الله (ص) وسهم ليتامى آل محمد (ص) وسهم لمساكينهم ، وسهم
لأبناء سبيلهم ، لا يشاركهم فيها أحد ، لأن الله سبحانه حرّم عليهم الصدقات لكونها
أوساخ الناس وعوّضهم بذلك الخمس. (إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللهِ) أيها المسلمون وهذا قيد للأمر الذي يدل عليه صدر الآية ،
أي : أدّوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله و... إلخ. (وَ) ب (ما أَنْزَلْنا عَلى
عَبْدِنا) محمد (ص) والظاهر أن المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي (ص)
بالإنزال ، وهذا أنسب من القول بأن المراد به الملائكة المنزلون عليه (ص) يوم بدر.
(يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي يوم فرّق الله بين الحق والباطل (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مرّ تفسيرها.
٤٢ ـ (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ...) أي اذكروا أيها المسلمون يوم بدر إذ كنتم عند شفير الوادي
الأسفل ، وكان أعداؤكم من كفّار قريش ، على شفير الوادي الأعلى (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي وأبو سفيان ومن معه في العير في موضع أسفل من موضعكم من
ناحية ساحل البحر (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي اتّفقتم على موعد للقاء (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعادِ) أي لتأخّرتم أو لتأخروا (وَلكِنْ) فعل الله ذلك (لِيَقْضِيَ اللهُ) ويمضي (أَمْراً) من عنده (كانَ مَفْعُولاً) كائنا بلا ريب. (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ) أي يموت من مات من الكافرين (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي عن حجة ظاهرة (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ) ويعيش من بقي على قيد الحياة بعد قيام تلك الحجج عليه. (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
٤٣ ـ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ
قَلِيلاً ...) أي : واذكر يا محمد إذ يريك ربّك في المنام أن المشركين
قليلو العدد. (وَلَوْ أَراكَهُمْ
كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) ولو أراك إياهم كثيرين لجبنتم عن قتالهم ، ولاختلفتم فيما
بينكم حول أمر القتال وعدمه (وَلكِنَّ اللهَ
سَلَّمَ) المؤمنين من الفشل والنزاع (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : عارف بما في قلوبهم.
٤٤ ـ (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ...) أي واذكروا أيها المؤمنون أن الله سبحانه كان يريكم
المشركين رؤيا العين قليلي العدد (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ) أي ويريهم إياكم قليلي العدد (لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) مرّ تفسيره.
٤٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ...) إذا تواجهتم مع جماعة محاربة من الكفار فلا تنهزموا أمامها
والثبات : ضد الزوال ، فهو في هذا المورد ضد الفرار من العدو وهو بحسب ما له من
المعنى أعم من الصبر ، إذ الصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف ولا يفزع ،
وبالبدن بأن لا يتكاسل ولا يزول عن مكانه ، فالصبر ثبات خاص. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) لتستعينوا به على حربهم. فاذكروه متوقعين للنصر عليهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بالظفر والثواب.
٤٦ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ...) أي : وأطيعوهما فيما يأمران به ، ولا تختلفوا في لقاء
أعدائكم فتجبنوا عن قتالهم وتضعفوا أمامهم. (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي تذهب قوّتكم (وَاصْبِرُوا) على قتال أعدائكم (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) يؤيّدهم بنصره.
٤٧ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً ...) الخطاب للمؤمنين بأن لا يرضوا أن يكونوا بطرين مثل
القرشيين الذين خرجوا من ديارهم في مكة ليحموا عيرهم من المسلمين ، وأخرجوا معهم
القيان والمعازف والخمور. (وَ) قد فعلوا ذلك (رِئاءَ النَّاسِ) قيل : ذهبوا إلى بدر وقلوبهم تستطير رعبا من المسلمين ،
ولكنهم أظهروا عدم اكتراثهم بهم فسمّى الله سبحانه ذلك رئاء. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الآخرين عن دين الله. (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي لا تخفى عليه خافية من عملهم ويجازيهم عليه.
٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ ...) أي : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ يوم حسّن الشيطان للمشركين
ما قاموا به من المسير إلى بدر لقتال المسلمين. (وَقالَ لا غالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لن يغلبكم أحد في هذا اليوم لكثرتكم وعدّتكم (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي أنا ناصر لكم أدفع السوء عنكم وأنا بذلك زعيم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقتا (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) يعني : تراجع إلى الوراء (وَقالَ) الشيطان للكافرين : (إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ) راجع عن ضماني لكم بالأمان والسلامة (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الملائكة الذين نزلوا لنصر المؤمنين ، (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي عذاب الله ، (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) أي عذابه قويّ عظيم.
٤٩ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) المنافقون هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ، والذين
في قلوبهم مرض هم المشكّكون في الإسلام رغم نطقهم بكلمة الإيمان. أي : واذكروا إذ
يقول هؤلاء وهؤلاء (غَرَّ هؤُلاءِ
دِينُهُمْ) يعني أن المسلمين اغترّوا بقول رسولهم الذي أتى بهم ـ على
قلّتهم ـ لحرب المشركين ـ على كثرتهم ـ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ) أي يفوض أمره إليه (فَإِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
٥٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ...) أي : يا ليتك يا محمد تنظر الملائكة وهم يقبضون أرواح
الكفار عند الموت ، فإنهم (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر (وَ) يقولون لهم : (ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) أي عذاب النار في الآخرة.
٥١ ـ (ذلِكَ ...) أي ذلك الضرب والعقاب حين الموت وفي الآخرة ، صرتم مستحقين
له (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) بما فعلتم باختياركم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يعاقبهم على قدر استحقاقهم.
٥٢ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ...) الدأب هو العادة والطريقة والحال ، أي أن حال الكفار الذين
تكلّم عنهم ، كحال آل فرعون ومن سبقهم في تكذيب الرّسل (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) جحدوا حججه (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي فعاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ) بعصيانهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر لا يستطيع أحد منع عقابه لو وقع (شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن استحقّه.
٥٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِعْمَةً ...) أي ذلك الذي ذكره سبحانه من أخذ الكفار وعقابهم ، يدل على
أنه جلّ وعلا عن تغيير نعمة (أَنْعَمَها عَلى
قَوْمٍ) أي بسطها لهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي يتحوّلوا عمّا هم عليه. (وَأَنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
٥٤ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم كعادة آل فرعون ومن
سبقهم من المنافقين الذين (كَذَّبُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ) أي بحججه (فَأَهْلَكْناهُمْ) استأصلناهم بسبب ذنوبهم معاصيهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) في البحر (وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ) أي أن جميع من أهلكناهم على هذا الشكل كانوا ظالمين
لأنفسهم فاستحقوا الإهلاك.
٥٥ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا ...) بيّن سبحانه أن شرّ من يدبّ على الأرض ويتحرك هم الذين
كفروا به وبرسله وبآياته ، (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون به ولا برسله وكتبه.
٥٦ ـ (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ...) أي من جملة الكفار هؤلاء الذين عاهدتهم ـ وهم يهود بني
قريظة ثم يخونون العهد كلما عاهدتهم وكان (ص) قد كرر معاهدتهم وكرروا الخيانة. (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) لا يتجنّبون نقض العهود ولا يخافون عذاب الله.
٥٧ ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ ...) أي إذا ظفرت بهم وانتصرت عليهم فشتّتهم بما توقعه بهم من
القتل (مَنْ خَلْفَهُمْ) من يمشي على خطاهم بنقض عهودك حتى يخافوا (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) كي يرعووا ويمتنعوا عن خيانته.
٥٨ ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً ...) أي إذا خفت يا محمد من خيانة قوم بينك وبينهم عهد (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي فانقض العهد معهم كما نقضوه ودع ما شرطت لهم لتكون
وإياهم مستويين في نقض العهد. (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي يكره ناكثي العهود.
٥٩ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ...) لا تظنّن يا محمد أن أعداءك من الكافرين قد أصبحوا خارج
قبضة يدك وسبقوا أمر الله بل إنه سبحانه وتعالى سيظفرك بهم وينصرك عليهم.
٦٠ ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ ...) أي وأعدّوا للمشركين ما قدرتم عليه مما تتقوّون به من
مقاتلين ومن آلات للحرب. (وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ) أي اقتنوا الخيل واربطوها وهيئوها للغزو (تُرْهِبُونَ) تخوّفون (بِهِ عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ) أي مشركي مكة وكفار العرب (وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ) يعني وترهبون أعداء وكفارا غيرهم من المنافقين الذين (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعرفونهم لأنهم بين ظهرانيكم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يعرفهم لأنه مطّلع على ما في ضمائرهم ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي
سَبِيلِ اللهِ) أي ما تبذلونه في طاعته وجهاد أعدائه (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) تعطون ثوابه كافيا (وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) لا تنقصون شيئا.
٦١ ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها ...) الخطاب للنبيّ (ص) أي إذا مالوا إلى ترك القتال فمل أنت
إليه (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) فوّض أمرك إليه ف (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.
٦٢ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ...) أي إذا أراد الذين يطلبون منك الصلح أن يقصدوا بطلبهم
تفريق أصحابك حتى يأخذوكم على حين غرّة ويقاتلونكم وأنتم على غير استعداد ، فإن
الله يتولّى كفايتك أمرهم ، (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي قوّاك على الظفر من أعدائك بالمؤمنين.
٦٣ ـ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ...) أي قرّب وجمع قلوبهم على هدف واحد ، (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لو بذلت كل وسيلة ممكنة لما قدرت على إزالة ما بينهم من
ضغائن (وَلكِنَّ اللهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) أي جمعهم على الإيمان (إِنَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٦٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ
وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) خطاب للنبي (ص) أي أن الله حسبك وحسب من وافقك من المؤمنين
على الجهاد أي أنه تعالى يكفيك ويكفيهم ويقيكم شرور الكافرين والكلام مسوق للتحريض
على القتال على ما يفيده : السياق والقرائن الخارجية ، فإن تأثير المؤمنين في
كفايتهم له (ص) إنما هو بالقتال على ما يتبادر إلى الذهن.
٦٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ...) التحريض : هو الحثّ والحضّ. أي رغّبهم في الجهاد (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ) على الحرب والقتال (يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ) من أعدائكم (وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقهروهم بسبب (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ) أي لا يدركون أمر الله ولا تستوعبه أفهامهم. والفقه : أبلغ
وأغزر من الفهم. وفقدان الفقه في الكفار ، وبالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذي
أوجب أن يعدل الواحد من العشرين من المؤمنين أكثر من العشرة من المائتين من الذين
كفروا حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك على ما بني عليه الحكم في
الآية ، لأن المؤمنين إنما يقدمون فيما يقدمون عن إيمان بالله وهو القوة التي لا
يمكن لقوة أن تقف في وجهها.
٦٦ ـ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) الآن : يعني في هذا الوقت. والمعنى : أن الله سبحانه لمّا
علم أن الأمر يشقّ عليكم ، خفّف عنكم الحكم في الجهاد من وجوب ثبات الواحد للعشرة
من الكفار إلى وجوب ثبات الواحد للإثنين فقط من الكفار (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) في العزيمة والتبصّر (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) على الجهاد والقتال (يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ) من أعدائهم (وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرون (يَغْلِبُوا) من الأعداء (أَلْفَيْنِ ،
بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وعلمه. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي أن معونة الله مرصودة للثابتين في ساعة العسرة.
٦٧ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى ...) أي ليس لأي نبي حق في أن يتخذ أسرى من محاربته المشركين
ليفديهم ذووهم أو ليمنّ هو عليهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ) أي إلّا بعد أن يبالغ في قتل المشركين وقهرهم ، (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون ، (عَرَضَ الدُّنْيا) وهو مالها وما يعرض فيها مما هو زائل (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يريد لكم ثواب الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ...) أي : لو لا حكم أو قضاء سبق منه سبحانه قيل : هو قوله
تعالى : «ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» وقيل غير ذلك. (لَمَسَّكُمْ) لأصابكم. (فِيما) بسبب ما (أَخَذْتُمْ) من الأسرى. (عَذابٌ عَظِيمٌ) أي شديد.
٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً
طَيِّباً ...) أي أبيح لكم أكل ما أخذتموه غنيمة من أموال الأعداء الذين
قاتلوكم (وَاتَّقُوا اللهَ) بتجنّب المعاصي (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) هذا خطاب للنبيّ (ص) بأن يقول لأسرى بدر : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خَيْراً) أي لو علم أن عندكم صلاحا ورغبة في الإيمان (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي أفضل (مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ) من الفداء (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر تفسيره.
٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ
خانُوا اللهَ ...) أي إذا أراد الأسرى الذين أطلقتهم يا محمد ، أن يخونوا
العهد معك فقد خانوا الله ، بالتعدّي على سننه (مِنْ قَبْلُ) بشركهم وبخروجهم لقتالك في بدر مع المشركين ، (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم وسلّطك عليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يظهرون وما يبطنون (حَكِيمٌ) في فعله.
٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا ...) فالذين آمنوا بالله ورسوله وبكل ما يجب الإيمان به ،
وهاجروا من مكة إلى المدينة وقاتلوا العدوّ وتحمّلوا المشاقّ ، وكان جهادهم (بِأَمْوالِهِمْ) التي بذلوها (وَأَنْفُسِهِمْ) التي أرخصوها (فِي سَبِيلِ اللهِ) في طريق طاعته (وَ) كذلك (الَّذِينَ آوَوْا) أي اسكنوا الرسول (ص) والمهاجرين إليهم بالمدينة في بيوتهم
، وهم الأنصار (وَنَصَرُوا) الرسول (ص) والمهاجرين معه على أعدائهم ، ف (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي بعضهم أولى بنصرة بعض وإن لم تربطهم قرابة نسب وقيل
بالتوارث (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا) معكم إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي ليس لكم من ميراثهم شيء حتى يهاجروا إليكم ، فإن
الميراث كان منقطعا في ذلك الوقت بين المهاجرين وغيرهم. (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) طلبوا مساعدتكم على حرب الكفار (فَعَلَيْكُمُ) فيجب عليكم (النَّصْرُ) لهم (إِلَّا عَلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يعني انصروهم في الدّين ، إلّا إذا استعانوا بكم على قوم
من المشركين يربطكم بهم عهد أو أمان يجب فيه الوفاء به فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك
نقض للعهد وهو محرم (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه أعمالكم.
٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) أي أن الكافرين بعضهم ناصر بعض ، وبعضهم أولى بميراث بعض ،
(إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إلّا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين السابقتين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ
كَبِيرٌ) أي : يحصل بلاء ومحنة على المؤمنين الذين لم يهاجروا خاصة
، فقد يميلوا إلى الضلال. والفساد الكبير : هو ضعف الإيمان ، أو الحروب وسفك
الدماء.
٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا ...) أي الذين صدّقوا رسول الله (ص) بما جاء به من عند الله ،
وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته ، وتركوا ديارهم فرارا بدينهم وحاربوا معه (ص) (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هم المصدّقون فعلا ، قولا وعملا ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي تجاوز عن سيئاتهم ، ورزق واسع لا ينغّصه شيء ، وقيل هو
طعام الجنة.
٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ...) أي الذين آمنوا بعد فتح مكة ، (وَهاجَرُوا) إلى النبيّ (ص) بعد هجرتكم الأولى (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) فهم من جملتكم إيمانا وهجرة وجهادا وحكما في الموالاة
والميراث والنّصرة (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي أن أهل القرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم. وهذا
ينسخ التوارث السابق بالمعاقدة والهجرة وسائر الأسباب كالمؤاخاة وغيرها ، (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ ، أو كما فصّل في القرآن لأبواب
الإرث. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) مر معناه.
سورة التوبة
مدنية ، وعدد آياتها ١٢٩ آية
١ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) ختم سبحانه سورة الأنفال بوجوب البراءة من المشركين ، ثم
افتتح هذه السورة بأنه ورسوله بريئان منهم. والبراءة انقطاع العصمة ، فيا محمد ويا
أيّها المسلمون ، تبرّأوا ممّن بينكم وبينهم عهود منهم فالله قد حرّم إعطاءهم
العهود والوفاء لهم بها.
٢ ـ (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي سيروا فيها بأمان أيها المشركون (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فإذا انقضت وأصررتم على الشرك فلا أمان بعدها (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ) أي لا تفوتونه (وَأَنَّ اللهَ
مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مبعدهم ومهينهم. وقد أجمع المفسرون على أنه لما نزلت
سورة براءة بعث (ص) أبا بكر ليبلّغها إلى الناس في الحج فلما كان في ذي الحليفة
نزل جبرائيل (ع) عليه (ص) وقال له : يا محمد لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك ،
فبعث (ص) عليا (ع) خلف أبي بكر فأخذها منه وقرأها علي على الناس. وعندها قال أبو
بكر : هل نزل فيّ شيء؟ فأخبره (ص) خبر جبرائيل (ع)
٣ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ ...) أي وإعلام للناس من الله ورسوله في نداء يوجّهه إليهم (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة والحج الأصغر ما ليس فيه وقوف بعرفة وهو العمرة.
وقيل يوم النحر هو يوم الحج الأكبر. (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي نازع عصمة عهودهم ، (وَ) كذلك (رَسُولِهِ) بريء منهم أيضا. (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون عن الشّرك في هذه المدة (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من بقائكم على شرككم (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم عن الإيمان (فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه في الدنيا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم يا محمد بأن لهم عذابا موجعا في الدنيا والآخرة.
٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ ...) استثنى سبحانه من البراءة من كان بيده عهد من النبيّ (ص)
ولم ينقضه ولم تنقض مدته ولم يسقطوا من شروط عهدهم شيئا (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (أَحَداً) من أعدائكم. (فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى انقضاء وقت عهودهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين نقض العهود التي يعطونها.
٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ ...) قيل : إذا انقضت الأشهر الحرم المعروفة وهي رجب وذو القعدة
وذو الحجة والمحرم وقيل قصد بها الأشهر التي عنتها الآية الشريفة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وضعوا السيف فيهم (حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان من الحلّ والحرم وفي الأشهر الحرم وغيرها. (وَخُذُوهُمْ) بالعنف والقتل (وَاحْصُرُوهُمْ) أي احبسوهم واسترقّوهم وامنعوهم دخول مكة والتصرف في سائر
بلاد الإسلام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) أي ارصدوهم في كل طريق (فَإِنْ تابُوا) أي رجعوا عن الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي رضوا وقبلوا بذلك وعملوه (فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ) أطلقوهم يتصرّفون كأحدكم في البلاد المسلمة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ ...) أي إذا طلب منك يا محمد أحد من المشركين أمانا من القتل (فَأَجِرْهُ) فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) فيصغي لدعوتك ويتدبّر آيات القرآن (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي أوصله إلى حيث يأمن عند قومه إذا هو لم يسلم بعد ذلك
ولا تغدر به (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعني أن هذا الأمان منحناهم إياه بسبب أنهم قوم لا يفقهون
دلائل الإيمان.
٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ
عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ...) أي كيف يكون لهم عهد محترم وهم أهل نقض ونكث للعهود؟ والاستفهام
للإنكار. (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلهم عهد لأنهم لم يخونك ولا أضمروا الغدر بك. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فما ثبتوا لكم على العهد فاثبتوا لهم وذلك أن الاستقامة
لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى ولذلك علل قوله ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتجنّبون نكث العهود.
٨ ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا
يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...) أي كيف يكون لهم عهد ، وكيف لا تقتلونهم وهم ـ لو غلبوكم ـ
لا يراعون فيكم عهدا ولا قرابة وهي الإلّ. قال الراغب : الإلّ : كلّ حالة ظاهرة من
عهد حلف ، وقرابة تئلّ : تلمع فلا يمكن إنكاره ... وألّ الفرس : أسرع ، حقيقته لمع
، وذلك استعارة في باب الإسراع ، نحو برق وطار. (يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ) أي يتكلّمون كلام المحبّين وهو الكلام المدلّس والقول
المزوّق المنمّق. لترضوا عنهم (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ترفض كل شيء إلّا عداوتكم (وَأَكْثَرُهُمْ
فاسِقُونَ) ممعنون في الشّرك والعناد. وفيه بيان أن أكثرهم ناقضون
للعهد والميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم ، فالآية توضح حال
آحادهم وجميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد.
٩ ـ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ...)
أي : أعرضوا عن
دين الله وحججه ومنعوا الناس من الإيمان راضين بحطام الدنيا (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الحكم حكمهم ذاك.
١٠ ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا
وَلا ذِمَّةً ...) مرّ تفسيره. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون الحدّ في كفرهم.
١١ ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ...) أي إذا أقلعوا عمّا هم فيه من الشّرك ونكث العهود ، وأسلموا
بإقامة الصلاة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أدّوها فهم إخوانكم في الدين عاملوهم معاملة إخوانكم من
المؤمنين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قرينة على أن المراد بالتوبة الإيمان بالله
وبآياته ، وذلك لأن هذين الأمرين من أظهر مظاهر عبادة الله وأقوى أركان المجتمع
الديني ، ويؤدي الأول إقامة الصلاة كما يؤدي الثاني إيتاء الزكاة ، وعندئذ فقد
يحصل التساوي بينهم وبين سائر المؤمنين في الحقوق التي يعتبرها الإسلام في المجتمع
الإسلامي ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. (وَ) نحن (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذلك ويتفهّمونه لا للمعاندين والجهلة.
١٢ ـ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ ...) أي إذا نقضوا عهدهم من بعد أن عقدوه معكم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي قدحوا فيه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ) أي رؤساء الكفر (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ
لَهُمْ) أي لا يحفظون عهدهم وقسمهم (لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم لكي يمتنعوا عن الكفر.
١٣ ـ (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ ...) أي هلّا تقاتلون ناكثي الأيمان وهم اليهود (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من المدينة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) بنقض العهود وبالقتال (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافونهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَوْهُ) أجدر بالخوف من عقابه بترك أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين به وبثوابه وعقابه. وفي هذه الآية وما
بعدها تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب
الله ، وخانوا به الحق وأهله ، وتعداد خطاياهم وصور طغيانهم من نكث الأيمان والهمّ
بإخراج الرسول والبدء بالقتال أول مرة.
١٤ ـ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ...) هذا أمر منه سبحانه للمؤمنين بقتال المشركين المؤدي إلى قتلهم
وأسرهم وإنما أعاد الأمر بالقتال لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض والتحضيض
أوقع في القبول فإن الأمر كان ابتدائيا غير مسبوق. بتمهيد وتوطئة ، بخلاف الأمر
الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد وكمال التهيؤ من المأمورين. (وَيُخْزِهِمْ) أي يذلّهم (وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ) يعني : يعينكم عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي يذهب الغيظ المستكنّ في صدور بعض المؤمنين كبني خزاعة
الّذين بيّت عليهم بنو بكر وباغتوهم لأنهم كانوا حلفاء النبي (ص).
١٥ ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ...) أي يزيل ما كان فيها من الكدر والحزن وهذا أيضا يأتي في
نفس سياق التحضيض على القتال ، لما فيه من إحداث الجرأة لدى المؤمنين على المواجهة
وينشطهم ويصفي إرادتهم. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى
مَنْ يَشاءُ) أي يقبل التوبة ممّن يتوب منهم رحمة منه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
١٦ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ...) أي : أظننتم أيها المؤمنون أن تهملوا فلا تكلّفون بالجهاد
في سبيل الله ولما يظهر ما علم الله من امتثلوا أمره وقاتلوا الكفار منكم. (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي : ولمّا يعلم الله الذين لم يتخذوا سواه وسوى رسوله
وسوى المؤمنين أولياء وبطانة. قال الراغب : الوليجة : كل ما يتخذه الإنسان معتمدا
عليه وليس من أهله. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) عارف بأعمالكم ويجازيكم عليها.
١٧ ـ (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...)
أي لا ينبغي لمن
أشرك بالله تعالى أن يشرف على عمارة مساجده وأمكنة عبادته بدخولها وقيل ببنائها
واستصلاح ما خرب منها. (شاهِدِينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) يعني حال كونهم يعترفون بكفرهم بالله. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت لأنها وقعت على خلاف الحق فهم لا يستحقون ثوابا
عليها. (وَفِي النَّارِ هُمْ
خالِدُونَ) أي مقيمون إلى الأبد.
١٨ ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي لا يعمر المساجد بالمعنى الذي ذكرناه في الآية السابقة
إلّا الموحّد المصدّق بالله والقيامة (وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) بحدودهما وأصولهما (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللهَ) ولم يخف غيره أحدا من الخلق (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) والمعنى : أنّ من فعل ذلك فهو من المهتدين إلى الجنّة
ورضوان الله.
١٩ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ
وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) هو استفهام إنكاري معناه : لا تجعلوا أهل سقاية الحاج وأهل
عمارة المساجد في الفضل والمرتبة عند الله (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي صدّق بهما. (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ
اللهِ) بمقاتلة الكفار لإعلاء كلمة الحق (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي لا يتساوون في الثواب والفضل (وَاللهُ لا يَهْدِي) إلى طريق الحق (الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) كما يهدي العارف به المطيع له.
٢٠ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) أي أن الذين صدّقوا بالله ورسوله وهجروا أوطانهم فارين
بدينهم إلى الله وتحملوا المشاق في مقارعة الكفر بإنفاق أموالهم وببذل أنفسهم
للشهادة ، فهؤلاء (أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللهِ) ممّن سواهم من المؤمنين الّذين لم يفعلوا ذلك كلّه (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بما يريدون من ثواب الله ورضوانه.
٢١ ـ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوانٍ ...) أي : يزفّ إليهم الله البشرى على ألسنة رسله بما يظهر
سرورهم من عطفه وجزيل رضاه (وَ) يبشّرهم أيضا ب (جَنَّاتٍ لَهُمْ
فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم لا ينقضي.
٢٢ ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ...) أي : باقين فيها إلى الأبد مع النعيم الدائم لأن أجر العمل
من عند الله كثير لا يمكن تقديره. وقد نزلت هذه الآيات الثلاث في علي (ع) والعباس
بن عبد المطلب ، وطلحة بن شيبة. عند ما افتخر العباس بسقاية الحاج ، وشيبة بعمارة
المسجد الحرام فقال علي (ع) لهما : لقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا ... ضربت
خرطوميكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله. فنزل جبرئيل (ع) بهذه الآيات على رسول
الله (ص).
٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ
عَلَى الْإِيمانِ ...) نهي من الله لجماعة المؤمنين عن موالاة الكافرين في أمور
الدين حتى وإن كانوا الأقربين لهم بالنسب ، وأما في أمور الدنيا فلا بأس بمجالستهم
ومعاشرتهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ) ويطلعهم على أمور المسلمين ليكيدوا لهم ويترك طاعة الله (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أنفسهم إذ وضعوا الموالاة في غير موضعها.
٢٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ ...) أي قل يا محمد للمسلمين الذين تخلّفوا عن الهجرة إلى دار
الإسلام : إن كان والدوكم أو من ولدتموهم أو إخوانكم في النّسب (وَأَزْواجُكُمْ) اللواتي عقدتم عليهن عقد النكاح (وَعَشِيرَتُكُمْ) أي أقاربكم (وَأَمْوالٌ
اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها وجمعتموها (وَتِجارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي تخافون أن لا تباع إذا اشتغلتم بطاعة الله (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) وبيوت يعجبكم الإقامة فيها ، (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي آثر عندكم من الله والنبيّ وجهاد الكافرين (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) يعني بحكمه فيكم بسبب اختياركم هذه الأشياء. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) مرّ تفسيره.
٢٥ ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ ...) الخطاب للمؤمنين واللام في : لقد ، لام القسم ، أقسم سبحانه
بأنه نصرهم على أعدائهم وأعانهم عليهم في كثير من المواضع التي قيل بأنها كانت
ثمانين موضعا رغم ضعفهم وقلّة عددهم وعددهم ، (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي : في يوم وقعة حنين (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ) أي تهتم بها عجبا وسرّتكم (فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئاً) أي لم تدفع عنكم الكثرة سوء الهزيمة. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما
رَحُبَتْ) أي انسدّت آفاقها في وجوهكم رغم سعتها. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ولّيتم أدباركم للعدو هاربين.
٢٦ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته التي تسكن النفوس (عَلى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) حين رجعوا إلى الأعداء فقاتلوهم وقيل : على المؤمنين الذين
ثبتوا مع النبيّ (ص) وهم عليّ (ع) والعباس ونفر من بني هاشم. (وَأَنْزَلَ) الله (جُنُوداً) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) لم تشاهدوها (وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالقتل والأسر وسلب الأموال (وَذلِكَ جَزاءُ
الْكافِرِينَ) أي أن العذاب جزاء الكافرين على كفرهم.
٢٧ ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) أي يعفو والتوبة من الله سبحانه ، هي الرجوع على عبده
بالعناية والتوفيق أولا ، ثم بالعفو والمغفرة ثانيا ، ومن العبد الرجوع إلى ربه
بالندامة والاستغفار ، ولا يتوب الله على من لا يتوب إليه. والوجه في التعبير
بالاستقبال في قوله : (ثُمَّ يَتُوبُ ...) الإشارة إلى انفتاح باب التوبة دائما ، وجريان العناية
وفيضان العفو والمغفرة الإلهية مستمرا ، لا أنها أمر محدود غير جار كبعض الأمور
الأخرى. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي حصل (عَلى مَنْ يَشاءُ) يريد (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين كافّة بأن المشركين أنجاس أرجاس (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) فامنعوهم من دخول بيت الله الحرام (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي بعد سنتهم هذه وإلى الأبد وكانت سنة تسع للهجرة وهي
السنة التي أذّن فيها علي (ع) بالبراءة ، ومنع طواف البيت عريانا ، وحج المشركين
البيت. (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً) أي حاجة أو فقرا ، وذلك بسبب انقطاعهم عن الحج وما يترتب
عليه من تعطل أسواقكم وذهاب تجارتكم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) وهذه بشارة بأن أهل الآفاق ستحمل الميرة إليكم وتأتيكم
النّعم من كل صوب برحمة الله ونعمته إن أراد سبحانه أن يغنيكم. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه. وفيما بشّرهم به ، وعد حسن منه سبحانه فيه تطييب
نفوس أهل مكة ومن كان له تجارة هناك بالموسم ، وكان حاضر العالم الإسلامي يبشّرهم
يومئذ بمضمون هذا الوعد ، حيث كانت كلمة الإسلام تعلو ، وكلمة الكفر تخبو وتنحدر
بل تخسر ، ويدخل الناس في دين الله أفواجا.
٢٩ ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي جاهدوا من الكفار من لا يعتقد بتوحيد الله ولا
بالقيامة. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يمتنعون عمّا منعه الله ورسوله ولا يعترفون بالإسلام
(مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) كاليهود والنصارى (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ) يدفعوها للمسلمين (عَنْ يَدٍ) أي نقدا من يد ليد من غير نائب ينوب عنهم بالدفع ، (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي أذلّة مقهورون وهم يساقون إلى محل دفع الجزية.
٣٠ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ ...) كان جماعة من اليهود يقولون إن عزيرا هو ابن الله شركا به ،
تعالى ولما رأوه من إملاء عزير للتوراة من ظهر قلبه بعد أن علمه إياها جبرئيل (ع).
(وَقالَتِ النَّصارى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) كما قال اليهود عن عزير شركا بالله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي أنهم ابتدعوا ذلك واخترعوه بلا حجة ولا برهان (يُضاهِؤُنَ) يعني يشابهون به (قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي عبدة الأوثان (مِنْ قَبْلُ) أي ممّن سبقهم. (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم ، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يمنعون في الكذب. والإفك : ـ كما يقول الراغب ـ كل
مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، فمعنى يؤفكون : يصرفون في اعتقادهم عن الحق
إلى الباطل.
٣١ ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي اتخذ أهل الكتاب علماءهم وعبّادهم أربابا من دون الله (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتّخذوه إلها (وَما أُمِرُوا) عن طريق رسلهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلهاً واحِداً) أي معبودا لا شريك له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تحق العبادة لسواه (سُبْحانَهُ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن شركهم وعما لا يليق به.
٣٢ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ ...) الإطفاء هو إذهاب أي نور بالنفخ بالأفواه والمقصود بنور
الله هنا الإسلام والقرآن وهذا التعبير يحمل السخرية بالمشركين وتصغير شأنهم لأن
الفم يؤثر نفخه بالأنوار الضئيلة ، وأين هو من إطفاء نور الله وساطع براهينه ،
وواضحات حججه؟ (وَيَأْبَى اللهُ) أي يمنع (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ) ليظهر دينه (وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ) أي على كره منهم.
٣٣ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ...) أي أنه تعالى هو الذي بعث رسوله محمدا (ص) بالدلائل
والبيّنات والإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلي الإسلام على جميع الأديان بالحجة والغلبة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي على كره منهم.
٣٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ...) خطاب منه سبحانه يدل به المؤمنين على أن أكثر الرّهبان
والأحبار (لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بطريقة محرمة كالرّشا على الأحكام (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يمنعون غيرهم عن الإسلام وقد خص بالذكر من مفاسد عدم تديّن
الأحبار والرهبان بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع البشري الصالح وهو
أكلهم أموال الناس بالباطل مع ما يستتبع ذلك من إفساد الناس ودفعهم إلى التجرؤ على
نهب الأموال وسرقتها لتتكدس في يد قلة قليلة في المجتمع يقابلها كثرة ساحقة ترزح
تحت نير العوز والفقر ، إضافة إلى صدهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن أن يسلكوه
بما قدروا عليه من طرق ظاهرة وخفيّة ، ومن وجوه الترهيب والترغيب. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يجمعونها ويكدّسونها ولا يؤدون زكاتها (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أنذرهم بعذاب موجع.
٣٥ ـ (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ
جَهَنَّمَ ...) يعني حين يوقد على الذهب والفضة المكتنزة في نار جهنّم حتى
تصير جمرا (فَتُكْوى بِها) أي بالكنوز المدّخرة المحماة (جِباهُهُمْ
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) جميعها تكوى بها ، وهي معظم البدن ، (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي هذا جزاء ما جمعتم من المال الذي لم تؤدّوا حقوق الله
منه (فَذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تجمعون.
والآية ناظرة إلى
الكنز الذي يلازمه الامتناع عن إنفاق حقوق الله فيه ، لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط
، بل بمعنى أشمل وأعمّ ، بحيث يدخل فيه كل ما به قوام المجتمع الصالح واستقامة
البنية الاجتماعية واستمراريتها.
٣٦ ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ ...) يعني أن عدد الشهور في كل سنة كاملة هو إثنا عشر شهرا في
تقدير الله سبحانه وحكمه في اللوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي يوم أجرى الشمس والقمر وسيّرهما بطريقة تتولّد منها
الشهور والأيام ، (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ) ثلاثة سرد هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وواحد
فرد هو رجب. كما ذكرنا سابقا. ومعنى كونها حرما أنها يحرمّ فيها انتهاك المحارم
أكثر من غيرها. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) أي : الدين الواضح الأحكام. (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَ) أي في الشهور المذكورة لا تظلموا (أَنْفُسَكُمْ) بالتعدّي على أوامر الله تعالى ونواهيه (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وبكل قواكم (كَما يُقاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً) أي جميعهم. ويجوز أن تكون حالا عن المشركين أيضا. والجملة
أمر بقتالهم دون مراعاة (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) يتولّى أمورهم وينصرهم على أعدائهم.
٣٧ ـ (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ ...) النّسيء هو التأخير ، فتأخير الأشهر الحرم عن مواقيتها
التي رتّبها الله سبحانه عليها هو زيادة في كفر المشركين الّذين يفعلون ذلك. وقد
كانوا يفعلونه لأنهم كانوا أهل غزو وغارات ، وكانوا يتضايقون من بقاء ثلاثة أشهر
متوالية دون غزو فيلجئون إلى تأخير تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه بدل المحرّم
ويستحلّون الغزو في المحرّم. (يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضيّعون بهذا النسيء عن حقيقة الأشهر الحرم فيحلّون ما
حرّم الله (يُحِلُّونَهُ عاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي يجعلون الشهر الحرام حلالا وبالعكس قائلين شهر بشهر (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ
فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) فهم إذا أحلّوا شهرا حراما ، حرّموا مكانه شهرا حلالا ،
ليوافقوا بذلك عدة الشهور. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمالِهِمْ) فقد حسّن ذلك لهم إمّا من جهة هواهم ، وإمّا من قبل الشيطان
(وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فسّرناه سابقا.
٣٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما
لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا ...) أي : إذا دعاكم الرسول للخروج إلى الحرب (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جهاد الكفّار والمشركين (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ) أي تثاقلتم وملتم إلى السكينة وأخلدتم إلى الأرض (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ
الْآخِرَةِ) أي هل آثرتم نعيم الدّنيا الزائل على نعيم الآخرة الدائم؟ (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ليس نعيمها الذي يبلى بالقياس (فِي) متاع (الْآخِرَةِ) الدائم الخالد (إِلَّا قَلِيلٌ) زهيد.
٣٩ ـ (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً ...) أي : إن لم تخرجوا إلى قتال عدوّكم حين دعاكم النبيّ (ص)
وقعدتم عنه يعذّبكم الله عذابا موجعا في الآخرة (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) لا يتقاعدون عن الجهاد (وَلا تَضُرُّوهُ
شَيْئاً) أي ولا تلحقوا بقعودكم ضررا به سبحانه لأنه غنيّ بنفسه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه.
٤٠ ـ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ ...) أي إن لم تساعدوا النبي على قتال عدوّه ، فإن الله لا
يخذله بل يتولّى نصره دائما. (إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة وكان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي أحد اثنين هو وأبو بكر (إِذْ هُما فِي
الْغارِ) وحدهما ، والغار هو غار ثور الواقع في جبل بمكة (إِذْ) كان (يَقُولُ) النبيّ (ص) (لِصاحِبِهِ) أبي بكر (لا تَحْزَنْ) يعني : لا تخف (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي مطّلع على ما نحن فيه وهو يحفظنا. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي على محمد (ص) إذ ألقى الاطمئنان في قلبه (وَأَيَّدَهُ) يعني قوّاه (بِجُنُودٍ) تنصره (لَمْ تَرَوْها) هي ملائكة كانت تضرب وجوه أعدائه وأبصارهم حتى لا يروه ،
ولا يمكن أن يكون الضمير في (عَلَيْهِ) راجعا لأبي بكر لأن الضمائر قبل هذا وبعده تعود إلى النبيّ
(ص) بلا خلاف فلا يعقل أن يعود ضمير واحد من بينها على أبي بكر دون التنويه باسمه
أو بما يدل عليه (وَجَعَلَ) الله (كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلى) فأحبط تآمرهم (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) أي المرتفعة المنتصرة دائما وأبدا (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
٤١ ـ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا
...) يعني اخرجوا ـ أيها المؤمنون ـ للجهاد نشاطا وغير نشاط.
وقيل : أغنياء وفقراء ، أو اخرجوا خفّ عليكم الجهاد أم شق (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) ابذلوا الأموال وضحّوا بالنفوس (فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الحق (ذلِكُمْ) الجهاد والبذل (خَيْرٌ لَكُمْ) من التثاقل وترك الجهاد (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي إذا أدركتم أن الله جلّ وعزّ صادق فيما وعد وأوعد.
٤٢ ـ (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً ...) أي أنهم لو دعوتهم ـ يا محمّد ـ إلى عرض : غنيمة يكسبونها
قريبة التناول حاضرة (وَسَفَراً قاصِداً) قصيرا هيّنا (لَاتَّبَعُوكَ) أي مضوا معك (وَلكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي صعبت عليهم المسافة (وَسَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي لو قدرنا لرافقناكم ، (يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ) يخسرونها بما أضمروا حين أقسموا الأيمان الكاذبة واعتذروا
بالباطل (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) غير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم.
٤٣ ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ ...) أي جاوز الله تعالى عنك يا محمد إذ أذنت لبعضهم بالتخلّف
عن الجهاد. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يعني حتى تعرف من هو معذور في تخلّفه ممّن هو غير معذور.
وقد قال ابن عباس : إن رسول الله (ص) لم يكن يعرف المنافقين يومئذ ، ولكنه قيل إنه
خيّرهم بين النّفر والقعود وتوعّد القاعدين ، فمعنى الآية أنه كان ينبغي أن يلزم
الجميع بالخروج حتى إذا تخلّف أحد ظهر نفاقه.
٤٤ ـ (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي أن المؤمنين حقّا لا يطلبون منك الإذن لإعفائهم من
الخروج للجهاد لأنهم مصدّقون بالله وبك وبالبعث والحساب (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ) بل يعتبرون أنك لا تدعوهم إلّا إلى الخير (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) يعرف المؤمنين الذين يجتنبون ما يسخطه ويفعلون ما يرضيه.
٤٥ ـ (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ ...) أي : إنما يطلب الإذن منك بالتأخر عن الزحف القوم (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي لا يصدّقون بوجوده (وَ) لا (الْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم البعث (وَارْتابَتْ
قُلُوبُهُمْ) يعني شكّت فاضطربت (فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي يروحون ويجيئون ولا يجزمون بأمر.
٤٦ ـ (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ ...) أي لو كان في نيّة هؤلاء المنافقين الخروج (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) والعدّة هي الأهبة أي لكان عليهم أن يعدوا السلاح والمركب
لتظهر عليهم علائم من يريد الجهاد (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ) أي مقت خروجهم للحرب لمعرفته بنفاقهم (فَثَبَّطَهُمْ) أي قلّل عزائمهم لما علمه من فساد طويّاتهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي ابقوا مع النساء والصبيان الذين يقعدون عن الجهاد
لعجزهم عنه.
٤٧ ـ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً ...) الخبال هنا هو الفساد والاضطراب في الرأي ، ومعناه أنهم
إذا خرجوا معكم في الغزو لا يزيدونكم إلّا سوء رأي وفساد تصرّف (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) والإيضاع هو الإسراع ، أي أنهم كانوا يسرعون بينكم
بالإفساد ويسعون بالتفريق (يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ) أي فيرمونكم باختلاف الكلمة ويخوّفونكم من أعدائكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وبينكم ضعفاء العقيدة من المسلمين الذين يصغون لأقوالهم
(وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ) أي عارف بهؤلاء المنافقين.
٤٨ ـ (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ
قَبْلُ ...) أي أنهم أرادوا الشرّ بك يا محمّد ورغبوا في اختلاف
المسلمين (مِنْ قَبْلُ) أي في وقعة أحد ، يوم انصرف ابن أبيّ بمن معه وخذل النبيّ (ص)
أو عنى ما أرادوا من الفتك بالنبيّ (ص) في غزوة تبوك (وَقَلَّبُوا لَكَ
الْأُمُورَ) يعني استعملوا الحيل والخدع ليوهّنوا أمرك (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي جاء ظفرك الذي وعدك الله تعالى به (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) يعني غلب الإسلام الكفر (وَهُمْ كارِهُونَ) في حال كرههم لظهوره وانتصاره.
٤٩ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
وَلا تَفْتِنِّي ...) أي : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : ائذن لي في عدم
الخروج للجهاد ولا تفتني بالإغراء وغنيمة النساء والأموال. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ) أي العصيان والضلال عن الدين (سَقَطُوا) أي وقعوا بمخالفتهم أمرك (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي أنها يوم القيامة ستكون محيطة بهم من جميع الجهات فلا
يجدون عنها مصرفا.
٥٠ ـ (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ...) يعني يا محمد إن هؤلاء المنافقين إذا نالتك نعمة من ربّك
نصر أو فتح أو غنيمة يصيبهم الحزن (وَإِنْ تُصِبْكَ
مُصِيبَةٌ) أي إذا نزلت بك نكبة (يَقُولُوا) في أنفسهم (قَدْ أَخَذْنا
أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي احتطنا وأخذنا حذرنا سابقا لما حدث ، (وَيَتَوَلَّوْا) ينصرفون إلى بيوتهم (وَهُمْ فَرِحُونَ) مستأنسون بما أصاب المسلمين ونجوا هم منه.
٥١ ـ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ
اللهُ لَنا ...) أي : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين : إن كل ما يصيبنا من
نصر أو شهادة أو آفة فهو ممّا قدّره الله سبحانه ، في سابق علمه وأثبته في اللوح
المحفوظ ، فالله (هُوَ مَوْلانا) أي وليّ أمرنا ومالكنا (وَعَلَى اللهِ) وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) أي فليسلّموا الأمر لحكمته وتدبيره.
٥٢ ـ (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا
إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ...) أي : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة : هل تنتظرون لنا إلّا
واحدة من النّعمتين العظيمتين : إمّا النّصر أو الشهادة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ) أي نتوقّع (بِكُمْ) لا محالة (أَنْ يُصِيبَكُمُ
اللهُ بِعَذابٍ) يحلّ بكم فيهلككم (مِنْ عِنْدِهِ) نازلا من السماء (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن ينصرنا عليكم فنقتلكم (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا. (إِنَّا مَعَكُمْ
مُتَرَبِّصُونَ) ننتظر لأنفسنا النصر أو الشهادة ، وننتظر لكم ذلّ البقاء
أو القتل وخزي الآخرة.
٥٣ ـ (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
...) أي قل يا محمد لهؤلاء : أنفقوا طائعين أو مكرهين ف (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أي لا يرضى إنفاقكم لأنه ليس لوجه الله. (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله ولا يتقبّل الله إلّا من المؤمنين.
٥٤ ـ (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ
نَفَقاتُهُمْ ...) أي لا يمنع من قبول نفقات المنافقين التي يبذلونها في
الزحف والغزو (إِلَّا) بسبب (أَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي أنكروا وجود الله كما أنكروا بعث النبيّ (ص) (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ
كُسالى) أي لا يجيئون بها إلا متثاقلين فلا يؤدّونها على الوجه
المطلوب (وَلا يُنْفِقُونَ) يبذلون الأموال (إِلَّا وَهُمْ
كارِهُونَ) أي وهم مرغمون.
٥٥ ـ (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ ...) هذا الخطاب للنبيّ (ص) ولكنّه موجّه لسائر المؤمنين ، يعني
: أيها السامع لا ينبغي لك أن تعجب بحسن ما تراه من كثرة أموال المنافقين وكثرة
أولادهم (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو فيدفعون كارهين
ويتحمّلون مشقة في الدنيا ولا يرجون منها ثوابا في الآخرة. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك بالموت. (وَهُمْ كافِرُونَ) باقون على حالتهم من الكفر.
٥٦ ـ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ...) أي يقسم المنافقون الأيمان أنهم أمثالكم لا يفرقون عنكم. (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي وليسوا مثلكم مؤمنين بالله ولا برسوله (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي قوم يصيبهم انزعاج النفس من توقّع الضرر من القتل أو
أخذ الأموال منهم أو الأسر إن هم لم يظهروا الإسلام.
٥٧ ـ (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ
أَوْ مُدَّخَلاً ...) أي يتمنى هؤلاء المنافقون أن يجدوا موضعا يتحصّنون فيه ،
أو مغارات : جمع مغارة ، وهي الثقب الغائر في الجبل ، أو مدّخلا : والمدّخل المسلك
الذي يدخل فيه الإنسان أو غيره ليتوارى به عن العيون (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي انصرفوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون في الذهاب إلى ما يخلّصهم منكم.
٥٨ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقاتِ ...) اللّمز هو العيب ، يعني أن من المنافقين من يعيبك ـ يا
محمّد ـ ويطعن عليك في أمر الصدقات وتوزيع الغنائم نزلت يوم حنين في ابن أبي ذي
الخويصرة رأس الخوارج فيما بعد. (فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْها) أي إذا منحوا من الصدقات (رَضُوا) اعترفوا بعدل التقسيم (وَإِنْ لَمْ
يُعْطَوْا مِنْها) وحرموا لعدم استحقاقهم (إِذا هُمْ
يَسْخَطُونَ) أي يغضبون وينقمون ثم يعيبون التقسيم.
٥٩ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ ...) أي : لو أن المنافقين الذين عابوا توزيع الصدقات قنعوا بما
أعطاهم الله ورسوله منها (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ) يعني : يكفينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي سيعطينا الله من إنعامه ، ويعطينا رسوله من تفضّله (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أي متوجّهون إليه بكليّتنا ، وقيل : راغبون في ثوابه وصرف
عذابه.
٦٠ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ ...) هذه الآية الكريمة تبيّن وجوه صرف زكاة الأموال. فهي تعطى
للفقراء والمساكين ، والفرق بين الفقير والمسكين دقيق لا يكاد يعرّف وإن كانوا قد
قالوا : إن الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل ، والمسكين هو الذي يسأل. وقيل غير
ذلك (وَ) ل (الْعامِلِينَ
عَلَيْها) أي السّعاة الذين يجبون الزكاة (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين كان النبي (ص) يعطيهم من الزكاة ليتألّف قلوبهم
ويرغّبهم في عدل الإسلام ، وليستعين بهم على قتال العدوّ. (وَ) تصرف أيضا (فِي الرِّقابِ) أي في فكها من الرق (وَ) في (الْغارِمِينَ) أي الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف ، (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني البذل للجهاد ، وعندنا تدخل فيه مصالح المسلمين من
بناء مساجد وعقد جسور وغيرها (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع في بلاد الغربة يعطى منها ولو كان
غنيّا في بلده. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي واجبا مقدّرا. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٦١ ـ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَّ ...) أي : ومن المنافقين جماعة يقولون أو يفعلون ما يجلب للنبي
الأذية (وَيَقُولُونَ هُوَ
أُذُنٌ) يعني أنه يدير أذنه ويصغي إلى كل ما يقال. فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : هو أذن خير يجلب للنبي الأذية (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يعني أنه يدير أذنه ويصغي إلى كل ما يقال. فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي يستمع إلى ما فيه خيركم كالوحي وغيره ، (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ) فكونه أذنا لا يضرّ طالما هو يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين
فيما يقولونه له دون قول المنافقين ، (وَ) هو كذلك (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ) لأنهم لم ينالوا الإيمان إلّا بهدايته (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) (ص) ويزعجونه في
قول أو فعل (لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) موجع في الآخرة والدنيا أيضا.
٦٢ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ ...) أي يقسمون لكم الأيمان أيها المؤمنون بأنّ ما يبلغكم عنهم
من قول أو فعل هو باطل وتكون أيمانهم من أجل إرضائكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي أن الله ورسوله بالحقيقة هما أحق منكم بأن يرضوهما
ويطلبوا منهما قبول اعتذارهم ، (إِنْ كانُوا
مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله ورسوله.
٦٣ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا ...) هذا توبيخ للمنافقين واستهزاء بهم وتقريع لهم. أي : هلّا
علم هؤلاء (أَنَّهُ مَنْ
يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني يتجاوز حدود الله التي حمّلها للمكلّفين ، ويتجاوز
أوامر النبيّ (ص) (فَأَنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) باقيا إلى الأبد و (ذلِكَ) هو (الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) الذلّ الكبير والإبعاد من الرحمة.
٦٤ ـ (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ...) أي يحترز المنافقون ويخشون نزول سورة من الوحي (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) تخبرهم وتكشف ما يضمرون من نفاق وكيد للرسول ودعوته (قُلِ) لهؤلاء يا محمد : (اسْتَهْزِؤُا) أي اسخروا ، (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ
ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تخافونه وحيا لرسوله (ص) ليبيّن له نفاقكم
وكيدكم.
٦٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ...) أي إذا استفهمتهم عمّا بدر منهم من استهزاء وكيد ، فإنهم
سيقولون لك : (كُنَّا نَخُوضُ) نتبادل الحديث ونخوض فيه خوض الرّكب في الطريق (وَنَلْعَبُ) أي لا نتكلّم جدّا. (قُلْ) يا محمد : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ) أي في الله وفي بيّناته (وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِؤُنَ) تسخرون؟.
٦٦ ـ (لا تَعْتَذِرُوا ، قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) أي لا تبدوا الأعذار الكاذبة ، فقد مرقتم من الدّين بعد أن
كنتم قد أظهرتم الإيمان (إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي إن نتجاوز عن فريق تاب منكم (نُعَذِّبْ طائِفَةً) من الذين يصرون على النفاق بسبب أنهم كانوا مجرمين قد
أجرموا بأقوالهم وأفعالهم. أما الطائفتان اللتان تحدثت عنهما هذه الآية فقيل أنهم
كانوا ثلاثة فمنهم اثنان هذيا بالنفاق المحكي عنه ، والثالث ضحك من هذيانهما. ثم
تاب هذا الثالث الذي هو مخشى بن حمير فعفا الله تعالى عنه.
٦٧ ـ (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين وعمّا قالوا وما فعلوا ،
ذكر المنافقات وقال : إنهم بعض من بعض في اجتماع الكلمة على النفاق والكيد ومقت
الله لهم (يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ) أي بالمعاصي والكفر (وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمَعْرُوفِ) عن كل ما هو حسن قد أمر الله به. (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي يمسكونها عن الجهاد (نَسُوا اللهَ) أي لم يشغل الله شيئا من وعيهم بدليل ترك جميع طاعاته (فَنَسِيَهُمْ) الله أي تركهم في النّار ومنع رحمته عنهم فكانوا بحكم
المنسيّين. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أن المنافقين والمنافقات ـ لأن اللفظ يشمل الطرفين ـ هم
الخارجون على أوامر الله ونواهيه.
٦٨ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ...) هؤلاء الذين تظاهروا بالإسلام ومارسوا النفاق ، من الرجال
والنساء ، ومعهم الكفار أيضا ، وعدهم الله النار في الآخرة. (خالِدِينَ فِيها) باقين دائما (هِيَ حَسْبُهُمْ) يعني : هي كافية لهم ولائقة بذنوبهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُقِيمٌ) دائم لا يزول.
٦٩ ـ (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا
أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ...) قد نقل سبحانه الحديث من الإخبار إلى الخطاب و (كَالَّذِينَ) في موضع نصب لفعل محذوف ، والتقدير : وعدكم الله على الكفر
به كما وعد الذين من قبلكم وقد فعلوا مثل فعلكم ، و (كانُوا أَشَدَّ
مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أقوى منكم جسديا وماديا وعددا وعدة (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي طلبوا المتعة ورغد العيش وأخذوا نصيبهم من الملذّات
العاجلة ثم أهلكناهم رغم قوّتهم ومالهم وبنيهم (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) مثلهم (بِخَلاقِكُمْ) بحظّكم من الدنيا (كَمَا اسْتَمْتَعَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي أنكم فعلتم مثل فعلهم مع أنكم أضعف منهم (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي تمرّغتم في الكفر واستهزأتم بالمؤمنين كما فعلوا (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أن أولئك الكفار والمنافقين بطلت أعمالهم وخسرت صفقتهم
عاجلا وآجلا إذ لا ثواب لأعمالهم لكفرهم ولأنها ليس فيها طاعة لله. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا أنفسهم في الآخرة بعد أن لفظتهم دنياهم ...
٧٠ ـ (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي ألم يصل إلى هؤلاء المنافقين خبر المنافقين الّذين
وصفهم وكانوا سابقين لهم ك (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) فأهلك قوم نوح بالغرق ، وعادا بالريح الصرصر ، وثمود
بالرجفة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة وظلم النمرود ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظّلمة
، والمؤتفكات : أي القرى الثلاث التي كان يسكنها قوم لوط هلكت بالخسف. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءوهم بالحجج والدلائل والمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يظلمهم حين أهلكهم (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فهم ظلموا أنفسهم بكفرهم لما كذّبوا رسلهم.
٧١ ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) قابل سبحانه في هذه الآية النقيض بالنقيض فقال : إن
المؤمنين والمؤمنات بعضهم وليّ بعض في النّصرة والموالاة وسائر مظاهر الحياة ،
شأنهم شأن النفس الواحدة ، (يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) أي بجميع ما أمر الله به (وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) أي يمنع بعضهم بعضا عمّا نهى الله عن فعله (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) حسب أوامره سبحانه ويداومون على فعل الطاعات جميعها ، (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) و (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) تنالهم رحمته في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٧٢ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) هؤلاء الّذين مرّت صفاتهم في الآية السابقة ، وعدهم الله
في الآخرة جنات النعيم التي (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تسيل أنهارها منسابة تحت أشجارها الوارفة الظّلال ، (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما (وَ) أعدّ لهم فيها (مَساكِنَ طَيِّبَةً) تحلو فيها الحياة وتطيب لأنها مبنيّة من الياقوت والزبرجد
واللآلئ وهم لا يرون فيها همّا ولا غمّا ، وهي معدّة لهم (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قد تكون وسط الجنّة أو أعلاها قرب منازل الأنبياء (ص)
والأولياء (ع) (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) أي أن الرضا الّذي ينالونه من ربّهم سبحانه هو أكبر من ذلك
كلّه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) هو النجاح الكبير.
٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ...) خطاب لرسول الله (ص) بأن يأخذ الكفار بالسيف والقتل
والمنافقين بالوعظ والتخويف وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي شدّد اللهجة ولا تشفق عليهم ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مسكنهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ساء ذلك المرجع وذلك المسكن.
٧٤ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ...) هؤلاء المنافقون يقسمون بالله ـ كاذبين قطعا ـ أنهم ما
قالوا الكلام الذي نقل عنهم من نفاقهم (وَلَقَدْ قالُوا
كَلِمَةَ الْكُفْرِ) بالحقيقة لأن الله تعالى أقسم على ذلك باللام وحققه بقد.
وكلمة الكفر هي جحدهم بنعم ربّهم وطعنهم في الدّين (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إظهارهم الإسلام أظهروا ما كانوا يبطنون من الكفر (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما
نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني أن النعمة التي عمّتهم بفضل محمّد (ص) قد أبطرتهم
وفعلوا ضد واجب شكرها ، فقابلوا الإحسان بالكفران (فَإِنْ يَتُوبُوا
يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي إذا عاد هؤلاء المنافقون إلى الحق تكون توبتهم خيرا لهم
من بقائهم على النفاق (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا عن الحق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
عَذاباً أَلِيماً) موجعا (فِي الدُّنْيا) بما يصيبهم من ويلات وسوء سمعة (وَالْآخِرَةِ) بنار جهنم (وَما لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي فيما حولهم من الناس (مِنْ وَلِيٍ) صاحب (وَلا نَصِيرٍ) يعينهم على ما هم فيه من ويلات ويدفع عنهم العذاب.
٧٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ
آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) أي من المنافقين من قال عليّ عهد الله إن رزقني (لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ) أي لنتصدّقنّ على الفقراء ونحسن إلى المساكين
٧٦ ـ (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ) أي فلمّا رزقهم كما تمنوا شحّت نفوسهم بالوفاء بعهد الله
ومنعوا حق الله الواجب (وَتَوَلَّوْا) انصرفوا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عمّا أمرهم الله تعالى به وعن الوفاء بعهدهم الكاذب. وهذه
الآيات نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وهو من الأنصار.
٧٧ ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ...)
أي أن بخلهم
بالصدقة وامتناعهم عن دفع حقّ الله أورثهم النفاق الذي يلازمهم إلى يوم القيامة
حيث يتلقّون الله به (بِما أَخْلَفُوا
اللهَ ما وَعَدُوهُ) أي بسبب نكثهم للعهد وإخلافهم للوعد (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دار الدنيا.
٧٨ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ...) يعني : أما يعرف هؤلاء المنافقون المعاهدون الناكثون أنّ
الله سبحانه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يتناجون به بينهم (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والعلّام هو الكثير العلم الشديد الاطّلاع ، والغيوب
مفردها : غيب ، وهو كل ما غاب عن الإحساس ولم تستطع الحواس أن تنفذ إليه وتعرفه ،
فالله عزّ اسمه وحده يعلم الغيب.
٧٩ ـ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ...) اللمز هو العيب ، وهذه صفة ثانية للمنافقين بأنهم يعيبون
المتبرّعين بالصدقة المؤمنين بوجوبها (وَ) يعيبون معهم (الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي المتصدّقين بالقليل لأنهم لا يملكون إلّا القليل (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) يستهزئون بصدقاتهم ، فأولئك المنافقون (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) يعني جازاهم جزاء سخريتهم (وَلَهُمْ) فيها (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.
٨٠ ـ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) يبدو أن صيغة الفعل صيغة أمر ، وهو في الحقيقة مبالغة في
الأياس من المغفرة والرحمة ، فالاستغفار لهم وترك الاستغفار لهم سيّان. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي : فلن يغفر الله لهم البتة. أما ذكر السبعين مرة فهو
للمبالغة لا لعدد الذي يوجب المغفرة ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فلم يصدّقوا بوجود الله ، ولا بدعوة رسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) مرّ تفسيره سابقا.
٨١ ـ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ
خِلافَ رَسُولِ اللهِ ...) المخلّفون : ويعني بهم سبحانه الذين تركهم رسول الله (ص)
يوم خروجه إلى تبوك إذ استأذنوه في التخلّف فلم يخرجهم معه لأنهم جماعة من
المنافقين ، ففرح هؤلاء بقعودهم عن نصرته (وَكَرِهُوا أَنْ
يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ويبذلوها (فِي سَبِيلِ اللهِ
وَقالُوا) للمسلمين صدّا لهم عن الغزو معه (ص) : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي لا تخرجوا مع الجيش في هذه الأيام الحارة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المنافقين (نارُ جَهَنَّمَ) التي وجبت لهم بقعودهم عن الجهاد (أَشَدُّ حَرًّا) من الحرّ الذي يتعلّلون به ، وهي أولى بأن يتّقوها (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي : لو كانوا يفقهون أوامر الله ونواهيه.
٨٢ ـ (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا
كَثِيراً ...) هو أمر يحمل التهديد أي فليستهزءوا وليضحكوا قليلا في
حياتهم الدنيا ، وليبكوا كثيرا في الآخرة لأن اليوم فيها مقداره خمسون ألف سنة ،
فذلك (جَزاءً) لهم (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي بما احتطبوا من المعاصي والكفر والتخلّف عن الجهاد بغير
عذر.
٨٣ ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ ...) أي : يا محمد إن ردّك الله تعالى من غزوك هذا (إِلى طائِفَةٍ) جماعة (مِنْهُمْ) من أولئك المتخلّفين عن نفرك (فَاسْتَأْذَنُوكَ) وطلبوا منك الإذن (لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ) لهم : (لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ أَبَداً) لن أسمح لكم بمرافقتي (وَلَنْ تُقاتِلُوا
مَعِيَ عَدُوًّا) في حرب من حروبي التي أجاهد بها الكفار إذ (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ) عن الجهاد (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخالِفِينَ) يعني ابقوا مع المتأخّرين عن الجهاد ، الذين قيل إنهم
النساء والصبيان ، وقيل هم المعتذرون.
٨٤ ـ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً ...) هو أمر ينهاه به عن الصلاة على أي واحد مات من هؤلاء
المنافقين وكان من عادته (ص) ذلك (وَلا تَقُمْ عَلى
قَبْرِهِ) أي لا تقف على قبره كما هي عادتك لتدعو له بالمغفرة ، حيث (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أنكروهما (وَماتُوا وَهُمْ
فاسِقُونَ) خارجون على حكم الله.
٨٥ ـ (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ
وَأَوْلادُهُمْ ...) مر معنى هذه الآية عند تفسير الآية ٥٥ من هذه السورة فراجع.
٨٦ ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا
بِاللهِ ...) أي إذا أنزلت سورة من القرآن تدعو إلى التصديق به سبحانه (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) يعني : كونوا معه في جهاد عدوّه (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ) أي طلب الإذن منك في التخلّف أصحاب المال والقدرة من
المنافقين (وَقالُوا) لك (ذَرْنا) دعنا (نَكُنْ مَعَ
الْقاعِدِينَ) نبقى مع المتأخرين عن الجهاد.
٨٧ ـ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ ...) الخوالف هم النساء والصبيان والمرضى سمّوا بذلك لتخلفهم عن
الجهاد. فالمنافقون قنعوا بأن يكونوا معهم ، (وَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ) مر تفسيره (فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ) لا يعلمون.
٨٨ ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ ...) انتقل سبحانه إلى الثناء على رسوله (ص) وعلى الّذين صدّقوه
واتّبعوه فقال : إنّ هؤلاء (جاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ) إذ أنفقوها في سبيل الله (وَ) جاهدوا ب (أَنْفُسِهِمْ) في بذلها في سبيل قتال الكفار (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) الكثيرة في جنّة النعيم ـ وعلى ما يقتضيه الجمع المحلى
بالألف واللام ـ فإن لهم جميع الخيرات ، من الحياة الطيبة ونور الهدى والشهادة ،
وسائر ما يتقرّب به إلى الله سبحانه (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الناجحون. الفائزون بالسعادة.
٨٩ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ...) أعدّ : هيأ وقد مر معنى الآية في الآية ٧٢ من هذه السورة
فراجع.
٩٠ ـ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ
الْأَعْرابِ ...) المعذّرون : جمع معذّر سواء كان له عذر أو لم يكن ، معذّر
أي : مقصّر ، وهو الذي يريك أنه معذور ولا عذر له. والمعنى أنه جاء هؤلاء
المعتذرون إليه (ص) (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في عدم الخروج إلى الجهاد (وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما كانوا يبطنونه من النفاق (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) والفريقان من الذين كفروا ، أي الذين اعتذروا كاذبين ،
والذين قعدوا ولم يعتذروا سيحل بهم عذاب موجع.
٩١ ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضى ...) أي ليس على الذين لا قوة لهم لعجزهم أو زمانتهم على الخروج
للجهاد ، ولا على أصحاب العلل التي تحول دون المشاركة في الجهاد ، (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ) بسبب فقرهم (حَرَجٌ) ضيق وجناح في تخلفهم أو أن الحكم بالوجوب الذي وضع كان
حكما حرجيا وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقدير المخالفة. (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بإخلاص العمل وبالطاعة فرفع الحرج عن هؤلاء وهو الذم
والعقاب مقيد بما إذا نصحوا الله ورسوله وخلصوا من الغش والخيانة ولم يجروا في
قعودهم على ما يجري عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأمور وإفساد القلوب في
المجتمع الإسلامي ، وإلّا فيجري عليهم ما يجري عليهم من ذم وعقاب. (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس من طريق لذمّ من فعل الحسن وقعد عن الجهاد وإذا كان
لا يملك غير ذلك ، وقيل هو عامّ في سائر وجوه الإحسان (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
٩٢ ـ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ ...) يعني أنه ليس من حرج أيضا على الذين يجيئونك سائلين منك
مركبا تحملهم عليه ليخرجوا إلى الجهاد معك (قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) أي ليس لديّ مركّب تركبونه ، ف (تَوَلَّوْا) انصرفوا من عندك (وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي تسيل بالدمع لأجل الحزن الذي يصيبهم من جراء عدم
مشاركتهم إيّاك في الجهاد.
٩٣ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ ...) أي أن الطريق مشرعة إلى ذمّ وتقريع ، أولئك الذين يطلبون
الإذن منك بالقعود (وَهُمْ أَغْنِياءُ) متمكّنون من مشاركتك في المال والنفس وقد (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ) مرّ تفسيره (وَطَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره أيضا.
٩٤ ـ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا
رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) ما زال الكلام عن المعتذرين للنبيّ (ص) وللمؤمنين جميعا عن
عدم الخروج معه إلى غزوة تبوك اعتذارا باطلا بعد رجوعه (ص) والمؤمنين إلى المدينة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (لا تَعْتَذِرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدّقكم في قولكم على ما تعتذرون به إذ (قَدْ نَبَّأَنَا) أخبرنا (اللهُ مِنْ
أَخْبارِكُمْ) وعرّفنا حقيقة أمركم مما يظهر به كذبكم ونفاقكم فيما
تعتذرون به (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيطّلع هو سبحانه ورسوله (ص) على أعمالكم وهل أنكم
تتوبون عن نفاقكم أم تداومون عليه ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون يوم القيامة (إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي يعلم ما غاب منكم وما حضر (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بعملكم حسنه وقبيحه فيجازيكم عليه.
٩٥ ـ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) أي سيقسم المتخلّفون عن النّصرة ليعتذروا إليكم أيها
المؤمنون حين ترجعون إليهم (لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ) أي لتنصرفوا عن جريمتهم وتوبيخهم فلا تتعرضوا لهم بالتقريع
والعتاب وما يستتبعهما (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ) انصرفوا عنهم انصراف رد وتكذيب (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نجس يجب أن تجتنبوه (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ) مقرّهم الدائم (جَزاءً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) من المعاصي.
٩٦ ـ (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ ...) أي طلبا لرضاكم عنهم إضافة إلى أنه كان للتوصل به إلى
صرفكم عن تقريعهم وذمهم وتوبيخهم كما مر (فَإِنْ تَرْضَوْا
عَنْهُمْ) تصفحوا عنهم لجهلكم بحالهم (فَإِنَّ اللهَ لا
يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين يخرجون عن طاعة الله لعلمه بحالهم ولذا فلن ينفعهم
رضاكم. لأنكم إن رضيتم عنهم فإنكم تكونون قد رضيتم عمن لم يرض الله عنه ، أي رضيتم
بخلاف رضى الله ولا ينبغي لمؤمن أن يرضى عما يسخط ربّه.
٩٧ ـ (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
...) أي الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، وإنما كانوا أشد
كفرا من الحضر لأنهم قساة جفاة فهم أبعد عن سماع الدعوة بسبب بعدهم عن مجالس العلم
والتوعية (وَ) هم (أَجْدَرُ) أي أحرى (أَلَّا يَعْلَمُوا
حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أن يقوموا بفرائض الله تعالى وما شرع على يد رسوله (ص)
من حلال وحرام ، (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٩٨ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما
يُنْفِقُ مَغْرَماً ...) يعني أن من منافقي هؤلاء الأعراب من يعتبر أن النفقات التي
يصرفها في سبيل الجهاد ضريبة لحقت به وهم لا يرجون ثوابا عليها قال في المجمع :
المغرم والغرم هو نزول نائبة بالمال من غير خيانة وأصله لزوم الأمر يقال : حرب
غرام ، أي لازم ، والغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر (وَيَتَرَبَّصُ) ينتظر (بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي حوادث الزمان وصروفه كالموت والقتل وغيرهما. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم بالبلاء بعد العافية وبسوء العاقبة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي ومن هؤلاء الأعراب من يصدّق بالله ورسوله ويوم الجزاء (وَيَتَّخِذُ) يعدّ (ما يُنْفِقُ) يبذل في الجهاد (قُرُباتٍ عِنْدَ
اللهِ) أعمال طاعة تقرّبه من مرضاة الله ، (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) ويبتغي بها دعاء الرسول له بالخير والبركة (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي أن نفقتهم وصلوات الرسول تقرّبهم من ثواب الله لأنهم
قصدوا بها وجهه (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ
فِي رَحْمَتِهِ) أي أنه سيرحمهم ويدخلهم الجنة. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
١٠٠ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) بعد ذكر المنافقين والكفار ذكر سبحانه السابقين إلى
الإيمان والجهاد ممن هاجروا من مكة أو ممن آووا ونصروا النبيّ وأصحابه في المدينة
، فقال : هؤلاء وهؤلاء (وَ) معهم (الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي تابعوهم على عمل الخير والدخول في الدّين وسلكوا
منهاجهم (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) قبل أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) لكثرة ما أجزل لهم من الثواب (وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) مرّ تفسيرها مكرّرا.
١٠١ ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ
مُنافِقُونَ ...) يعني : ومن جملة من هم حول مدينتكم أعراب يسكنون البادية (مُنافِقُونَ) يظهرون لكم الإيمان ويبطنون الكفر ، كمزينة وأسلم وغفار
وأشجع ، (وَ) بعض (مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ) نفسها منافقون كذلك (مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ) أي مرنوا عليه وتجرّأوا (لا تَعْلَمُهُمْ) يا محمد (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) نعرفهم (سَنُعَذِّبُهُمْ
مَرَّتَيْنِ) أي مرة في الدّنيا بالفضيحة كالذين أخرجهم رسول الله (ص)
من المسجد وأخزاهم ، وكالذين يصيبهم القتل والسّبي والجوع وغير ذلك ، ومرة بعذاب
القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) ينالونه يوم القيامة.
١٠٢ ـ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
...) أي ومن أولئك الأعراب قوم آخرون تابوا من ذنوبهم وأقرّوا
بها ، وكانوا قد (خَلَطُوا عَمَلاً
صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فأحسنوا مرة وأساؤا مرة (عَسَى اللهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه : لعلّ توبتهم تقبل ، وقيل : إن (عَسَى) من الله تعالى واجبة ، يعني أنه أخذ على نفسه المغفرة لهم
، ولكنه استعمل (عَسَى) ليكونوا بين الخوف والرجاء ولئلا يتّكلوا على العفو
ويتخلّوا عن التوبة والعمل الصالح. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مرّ تفسيره.
١٠٣ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ ...) الخطاب للنبيّ (ص) ، يأمره الله عزوجل بأخذ الصدقة وزكاة الأموال ممّن ذكرهم في الآية السابقة ،
تطهيرا لهم وتنسبهم إلى الزكاة بها وتكفيرا عن ذنوبهم. (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) تنظّفهم من دنس الذنوب. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم بقبول الصدقة كما هي عادتك ، (إِنَّ صَلاتَكَ) يا محمد (سَكَنٌ لَهُمْ) أي أن دعاءك لهم تسكن به نفوسهم وقيل : رحمة لهم (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
١٠٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...) هذا استفهام منه سبحانه يعني به أنه ينبغي أن يعلم ، بل
يجب أن يعرف أن الله يقبل التوبة الصادرة عن عباده وفي هذا ما فيه من الترغيب
بالمسارعة إلى التوبة. (وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ) التي يقدّمونها فيتقبلها ويضمن الجزاء لهم عليها (هُوَ) ليعلموا (أَنَّ اللهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) جملة مرّ تفسيرها.
١٠٥ ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ...) أي : قل يا محمد للمكلّفين من الناس : اعملوا ما أمركم
الله تعالى به واعلموا أنه مجازيكم على أفعالكم لأنه يرى عملكم هو ويراه رسوله (ص).
(وَالْمُؤْمِنُونَ) قيل إن عملهم يراه أيضا الشهداء أو أراد بهم الملائكة
الحفظة كاتبي الأعمال ، ولكن أصحابنا رووا أن أعمال الأمة تعرض على النبيّ (ص) في
كلّ اثنين وخميس فيعرفها ، وكذلك تعرض على أئمة الهدى (عليهمالسلام). وهم
المعنيّون بهذا القول. (وَسَتُرَدُّونَ) ترجعون (إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله تعالى الذي يعلم السرّ وما غاب عن الآخرين (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) فيثيبكم عليه أو
يجازيكم.
١٠٦ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي أن هناك آخرين من العباد مؤخّرون وموقوفون لما يأتي من
أوامر الله بشأنهم قبل أن يصار بهم إلى الجنة أو إلى النار ، ف (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) فيدخلهم النار باستحقاقهم لها (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فيتجاوز عن ذنوبهم التي تابوا عنها ويدخلهم الجنة. وهذا
يعني أن فريقا من العصاة يكون أمرهم إليه سبحانه إن شاء عذّبهم وإن شاء عفا عنهم
لأن قبول التوبة بحدّ ذاته تفضّل من الله (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
١٠٧ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً وَكُفْراً ...) أي ومن المنافقين الذين تكلّمنا عنهم قوم بنوا مسجدا ضرارا
: طلبا للضّرر ، وكفرا : طلبا لإقامة الكفر فيه والاجتماع للطعن على رسول الله (ص)
(وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ) أي بقصد تفريقهم عنك ولبث الشّقاق بينهم (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي أرصدوا ذلك المسجد لأعدائك كأبي عامر المترهّب الذي
حسدك وحزّب عليك وذهب إلى قيصر الروم ليأتي بجنده لمحاربتك (وَلَيَحْلِفُنَ) إنهم والله ليقسمنّ الأيمان قائلين : (إِنْ أَرَدْنا) يعني : ما أردنا (إِلَّا الْحُسْنى) إلّا الفعلة الحسنى الجيّدة كالتوسعة على الضعفاء من
المسلمين ، (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وكفاهم خزيا أن يشهد الله تعالى بكذبهم ونفاقهم.
١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ...) أي : يا محمد : لا تقم للصلاة في ذلك المسجد أبدا. (لَمَسْجِدٌ) أي : والله إن مسجدا (أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوى) أي قام أساس بنيانه على طاعة الله واجتناب معاصيه (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) منذ وضع أساسه (أَحَقُ) أجدر (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وهو أولى أن تقيم الصلاة فيه. قيل إنه مسجد قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا) أي يحبّون أن يصلّوا متطهّرين من الخبائث كالطهارة بالماء
من البول والغائط (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ) أي المتطهرين.
١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى
تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ...) إلى آخر الآية ... استفهام إنكاريّ بيّنا تفسيره فيما مضى
، فقد شبّه الله تعالى بنيانهم لهذا المسجد الممقوت ، بمن بنى بيتا على جانب نهر
قد يجرفه الماء ولا يثبت أمام فيضانه وكذلك بناؤهم هذا سينهار بهم في نار جهنم.
وهذا يعني أنه لا يستوي عمل المتّقين وعمل العاصين ...
١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ...) أي سيبقى البناء الذي بنوه حسرة أو شكّا في قلوبهم في
إظهارهم للإسلام وثباتهم على النفاق ، (إِلَّا أَنْ
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي : إلّا أن يموتوا فينقطع الشك والحسرة من نفوسهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ...) الاشتراء لا يجوز عليه سبحانه لأن المشتري يشتري ما لا
يملك ، وهو جلّ وعزّ مالك السماوات والأرضين. ولكنه لمّا ضمن الثواب على نفسه لقاء
الإيمان والقيام بالطاعات ، عبّر عن ذلك بالاشتراء مجازا. فهو هنا يرغّب المؤمنين
بالجهاد لأنه يشتري ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ نفوسهم التي يبذلونها في سبيل إعلاء
كلمته ، وأموالهم التي ينفقونها ابتغاء مرضاته (بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ) أي اشترى ذلك بالجنّة فجعلها ثمنا لأنفسهم ومالهم. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأوضح السبب الذي من أجله اشترى أنفسهم وأموالهم (فَيَقْتُلُونَ) أعداءهم الكافرين (وَيُقْتَلُونَ) أحيانا ويكونون شهداء (وَعْداً عَلَيْهِ) أي : وعدهم الله تعالى وعدا (حَقًّا) لا شكّ فيه (فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي في الكتب السماوية المقدّسة ، (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) وهل هناك من يفي بالعهد غير الله سبحانه. (فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون خذوا البشارة (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا ببيع الزائل بالباقي ، (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الكبير.
١١٢ ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ
الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ...) هذه كلّها صفات للمؤمنين الّذين اشترى سبحانه منهم أنفسهم
وأموالهم ، وهم الّذين يعبدونه وحده ولا يشركون به شيئا ، ويحمدونه على كل حال في
السرّاء والضرّاء ، والسائحون : أي الصائمون. وقيل هم المتردّدون في الأرض
المتأملون بعجائب صنعه ، أو الذين يضربون في الأرض لطلب العلم ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المقيمون للصلاة بأركانها ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الهادون غيرهم إلى فعل أوامر الله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المانعون الناس عمّا نهى الله تعالى عنه (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته حسبما حدّد في أوامره ونواهيه والواجبات ،
(وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي : يا محمد انقل هذه البشارة للمصدّقين بالله وبك ،
وخاصة لمن جمعوا هذه الصفات وأخبرهم بالثواب الجزيل والأجر العظيم.
١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) أي : ليس للنبيّ (ص) ولا للمؤمنين أن يطلبوا المغفرة من
الله تعالى للمشركين. (وَلَوْ كانُوا) أي : ولو كان المشركون (أُولِي قُرْبى) من أقرب الناس إليهم كأن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو غيرهم
(مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن اتّضح لهم كونهم من أهل النّار.
١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ ...) بعد النّهي عن الاستغفار للمشركين البتة ، ذكر سبحانه أن
استغفار إبراهيم (ع) لأبيه ، لم يكن (إِلَّا عَنْ
مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي : لم يصدر إلّا بسبب موعدة وعدها إياه وذلك قوله :
سأستغفر لك ربّي ... وقيل إنه كان يستغفر له بشرط الإيمان. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ
عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) مصرّ على الكفر : ترك الدعاء له (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي : إنه كثير الدعاء والبكاء صبور على الأذى صفوح عن
زلّات غيره.
١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ...) أي أن الله سبحانه لا يحكم بضلال قوم بعد ما هداهم (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي حتى يوضح لهم ما ينبغي أن يفعلوه وأن يجتنبوه فإن عصوا
حكم بضلالتهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يشذ شيء عن علمه.
١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) مر معناه. (يُحْيِي) الجماد (وَيُمِيتُ) الحي متى شاء بقدرته ، (وَما لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم ويحفظكم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ويدفع عنكم العذاب والسخط من الله.
١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) اللام في (لَقَدْ) هي لام القسم ، وهذا يعني أنه تبارك وتعالى قبل توبة
المهاجرين والأنصار ، وذكر على رأسهم النبيّ (ص) مفتاحا للكلام وتزيينا له وتحسينا
للكلام عنها ولكون النبيّ (ص) سبب كلّ خير أصابوه (الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ) وخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فِي ساعَةِ
الْعُسْرَةِ) أي حين الصعوبات التي عانوها فقد كان العشرة من المسلمين
يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان طعامهم من الشعير المسوّس والتمر المدوّد. (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي بعد أن كاد ينحرف ميل كثيرين منهم عن الجهاد ، وراودتهم
نفوسهم بالانصراف (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ الذي كاد أن يقع في قلوبهم (إِنَّهُ) سبحانه (بِهِمْ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ) قد عطف عليهم وتداركهم برحمته.
١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا ...) أي أنه تعالى تاب أيضا على الثلاثة الذين تأخروا عن مرافقة
النبيّ (ص) في حرب تبوك ، وهم :
كعب بن مالك
ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الذين تخلّفوا عن الزحف لا عن نفاق بل عن توان ،
ثم ندموا وجاؤوا إلى النبيّ (ص) بعد رجوعه ليعتذروا فلم يكلّمهم وهجرهم وأمر
المسلمين بهجرهم ، فهجروهم ، حتى الصبيان ، فجاءت نساؤهم إلى النبيّ (ص) فقلن : يا
رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكنّ. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى
رؤوس الجبال وكان ذووهم يأتونهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، ولمّا رأوا هذه الحال
تهاجروا فيما بينهم وتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان حتى مضى خمسون يوما كانوا
أثناءها يتضرّعون إلى الله ويبتهلون فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية ... (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنْفُسُهُمْ) لشدّة الغم التي غمر صدورهم (وَظَنُّوا) أي اعتقدوا (أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللهِ) أي لا عاصم منه (إِلَّا إِلَيْهِ) بصدق التوبة (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) يعني سهّل لهم طريق التوبة ليعودوا إلى حالتهم الأولى (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) الكثير القبول للتوبة من عباده الرحيم بهم.
١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين يشرّفهم به إذ يخاطبهم آمرا
إياهم باجتناب معاصيه واتّباع أوامره بالطاعات. (وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ) أي اقتدوا بالصادقين الذين لا يكذبون في قول ولا فعل. وروى
الكلبي عن ابن عباس : كونوا مع الصادقين : مع عليّ وأصحابه ، وعن الباقر (ع): مع
آل محمد (ص). وقيل غير ذلك.
١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ ...) أي ليس لأهل المدينة ومن يحيط بهم (مِنَ الْأَعْرابِ) سكّان البادية (أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي عن الغزو معه إلى تبوك ، أو غيرها بغير عذر مشروع (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ) وليس لهم ، ولا لأحد أن يطلب نفع نفسه دون نفس رسول الله (ص)
(ذلِكَ) أي ذلك النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب بدنيّ (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللهِ) أي مجاعة وهم في طريق طاعته سبحانه (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ
الْكُفَّارَ) يعني : ولا يضعون أقدامهم في موضع ليجلبوا الغيظ للكفار
حين مهاجمتهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلاً) أي : ولا يصيبون من أعدائهم أمرا من القتل والسّبي والكسب
، (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلّا اعتبره الله تعالى طاعة مقرّبة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) أي لا ينقص العاملين شيئا من عملهم الحسن الذي يستحقون به
المدح والثواب.
١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً ...) أي أن المجاهدين مع النبي (ص) لا يقدّمون من نفقة في
الجهاد صغيرة أو كبيرة (وَلا يَقْطَعُونَ
وادِياً) أي : لا يتجاوزونه في حال زحفهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أجر ذلك وثوابه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يأجرهم بقدر استحقاقهم بل (أَحْسَنَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) لأنه تعالى متفضل كريم يجعل الثواب دائما أحسن من العمل.
١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً ...) كان رسول الله (ص) إذا خرج في غزو لا يتخلف عنه إلّا
المنافقون والمعذرون ، ففضح الله تعالى المنافقين في تلك الغزوات ، فصار المسلمون
ينفرون جميعا كلّما أمر رسول الله (ص) بالسرايا ويتركون رسول الله (ص) وحده ،
فأنزل سبحانه أن ليس للمؤمنين أن يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبيّ (ص)
وحيدا. وقيل نزلت في النّفر للتفقه في الدين (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) جماعة معدودة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ) التفقه في الدين هو طلب الفقه أي العلم به. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي ليخوّفوهم إذا عادوا وليعلّموهم القرآن والسنّة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي عسى أن يخافوا سخط الله فلا يعملون بخلاف ما أمر؟.
١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ...) أي قاتلوا من بجوارحكم من الكفار الأقرب فالأقرب بالنسب أو
الدار والجوار وقد كان ابن عباس يقول : أمروا بقتال عدوهم الأدنى فالأدنى (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدّة وقسوة (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي هو يعينهم وينصرهم.
١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي : أن المنافقين الذين ذكرناهم لك ، إذا أنزلت عليك سورة
من القرآن (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ) فبعضهم يقول لمن يليه على سبيل الإنكار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي تصديقا؟ (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي زادت إيمان المؤمنين يقينا ووجه زيادة الإيمان هنا أن
المؤمنين كانوا يصدقون ما سبق نزوله من آيات فكلما نزلت آية جديدة صدّقوا بها
وانضم تصديقهم اللاحق إلى ما سبق منه. (وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ) أي يتناقلون البشارة وتتهلّل وجوههم فرحا بنزول ما ينزل من
الوحي.
١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ...) أي المنافقين الذين مرضت قلوبهم بالشكوك (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني كفرا ودنسا ، إلى جانب نفاقهم وريائهم وزيادة رجس
وكفر المنافقين عينا كزيادة إيمان المؤمنين مع استبدال التصديق هناك بالإنكار هنا.
(وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ) أي على حالة الكفر.
١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ...) أي : أولا يعلم المنافقون المذكورون أنّهم يمتحنون في كل
سنة دفعة أو دفعتين بالأمراض والآلام التي هي نذير بالموت؟ (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي لا يرجعون عن كفرهم (وَلا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ) ولا يتذكّرون نعم الله عليهم ووجوب شكرها.
١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي أنهم كلّما نزل وحي (نَظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ) تبادلوا في حضرة النبيّ (ص) النظرات الدالّة على كره ما
يسمعون وعلى أنهم يحذرون أن ينكشف نفاقهم لأحد (هَلْ يَراكُمْ مِنْ
أَحَدٍ؟) أي هل لاحظ هذه العلامة الفارقة فيكم أحد من المحدقين
بالنبيّ (ص)؟ (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا وخرجوا من المجلس ، (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن ذلك وعن كل ما ينتفع به المؤمنون ، وقيل : هو دعاء
عليهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون مراد الله بخطابه للناس.
١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ ...) المقصود بالرسول محمد (ص) والمعنى : أنه جاءكم رسول من
جنسكم من البشر ثم من العرب ثم من بني إسماعيل فهو منكم أيها البشر ومنكم أيها
العرب ومنكم يا بني إسماعيل (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ) أي صعب عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإسلام ، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على الكافر أن يؤمن لتشمله رحمة الله وينجو من
عذابه (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تشملهم رحمته ورأفته التي هي أشد من الرحمة ...
١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ
اللهُ ...) أي يا محمد : إذا اعرض هؤلاء عمّا تدعوهم إليه من الإقرار
بوحدانيّة الله وبصدق نبوّتك ، فقل حسبي الله : أي هو كافيّ ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وما من ربّ سواه يستحق العبودية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوضت إليه أموري (وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وربّ كل شيء فعلا ، ولكنه ذكر العرش بالخصوص هنا تفخيما
لشأنه عزّ وعلا ، لأن العرش كناية عن الملك والسلطان في السماوات والأرضين.
سورة يونس
مكية ، عدد آياتها ١٠٩ آية
١ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قد تكلّمنا عن معاني الحروف المعجمة الواقعة في أول
السور ، فيما مضى. (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه السور والتي كل واحدة منها عبارة عن مجموعة آيات هي
من ذلك الكتاب الذي ربما كان اللوح المحفوظ الذي سمّاه حكيما لأنه ينطق بالحكمة
ويؤدي إلى الصواب في العلم والمعرفة.
٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ
أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ...) هو استفهام إنكاري ، يعني : هل كان وحينا المنزل على رجل
من الناس وقيل بأن المقصود بهم أهل مكة ـ مدعاة لتعجّبهم؟ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) خوّفهم بالعذاب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا) عرّفهم الخبر السارّ المفرح وهو (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) أن لهم أجرا حسنا ومنزلة سامية عند الله بما قدّموا من
صالح الأعمال. (قالَ الْكافِرُونَ) المنكرون : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ
مُبِينٌ) أي أن النبيّ (ص) يأتي بسحر يخفي الحقيقة بالحيلة ،
ويظهرها على غير وجهها ، حتى يتوهّم الناس أنه يأتي بالمعاجز. وقد قالوا ذلك
لعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن ليعارضوه به.
٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن خالقكم ومدبّر شؤونكم الذي يجب عليكم عبادته هو الله
الذي انشأ السّماوات والأرض أيضا ، بما فيهما من التنظيم وعجائب الصنع (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا تزيد ولا تنقص مع أن قدرته تسع خلقهما دفعة واحدة ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فسرنا ذلك في سورة الأعراف ، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقدّره على الوجه الأكمل (ما مِنْ شَفِيعٍ) أي ليس من متوسط بالشفاعة لأحد (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي بعد أمره والترخيص له بذلك. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي أن الموصوف بتلك الصفات هو إلهكم المستحق للعبادة (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تشركوا معه شيئا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : هلّا تتفكّرون فيما يخبركم به؟.
٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ...) أي : إلى الله مرجعكم الّذي هو إمّا معادكم وإمّا موضع
رجوعكم يوم حشركم جميعا في صعيد واحد (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي : أنه سبحانه وعد بذلك عباده وعدا صادقا. (إِنَّهُ) جلّ وعلا (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئه ابتداء وعلى غير مثال (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موته (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ليعطيهم ثواب أعمالهم الحسنة (بِالْقِسْطِ) أي العدل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء حارّ غاية الحرارة من شدة نار جهنّم (وَ) لهم (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع (بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم وجزاء لهم عليه.
٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
...) أي أن هذا المتوحّد في الربوبيّة والخلق والتدبير هو الذي
جعل الشمس ضياء بالنهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل والضياء أبلغ في دفع الظلمة من النور. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أمكنة ينتقل من واحد منها إلى الآخر (لِتَعْلَمُوا) أي لتعرفوا بالقمر ومنازله (عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) أي أول كل شهر وآخره ، وتمام كل سنة وانقضاءها. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الخلق العجيب (إِلَّا بِالْحَقِ) إلّا شاهدا بحق الربوبيّة وبحقّ كونه آية دالّة على
الوحدانيّة ، والله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يشرحها ويوضحها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعونها ويعطونها حظّها من الفهم والتدبّر في عظمتها.
٦ ـ (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي : في اختلاف تعاقب اللّيل والنهار على ما تقتضيه الحكمة
في الآفاق وفعله في السماوات على ما تقتضيه الحكمة من النجوم والكواكب والمجرات
ثابتها ومتحركها وفعله في الأرض كذلك من الحيوان والجماد والنبات وجميع النعم
الأخرى (لَآياتٍ) براهين ودلالات على وحدانيته وحكمة صنعه (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) لجماعة يجتنبون المعاصي ويخافون العقاب.
٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا
...) أي : إن المنكرين للبعث الكافرين بالثواب والعقاب ، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي قنعوا بها فلا يعملون إلا لها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) يعني سكنوا إليها وركنت قلوبهم لمتعتها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا
غافِلُونَ) أي الذين هم في غفلة عن حججنا ودلائلنا.
٨ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ ...) أي مقرّهم نار جهنّم (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) جزاء معاصيهم.
٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا به وبرسله ثم أضافوا إلى ذلك التصديق عمل
الطاعات والخير. (يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يدلّهم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي من تحت قصورهم في الجنّة ومن بين أيديهم وهم يتنعّمون
غدا.
١٠ ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ
...) أي أن دعاء المؤمنين في الجنة وكلّ عملهم لا يتعدّى أكثر
من قولهم : سبحانك يا الله لا على وجه العبادة إذ لا تكليف في الجنة وإنما التذاذا
بالتسبيح (وَتَحِيَّتُهُمْ
فِيها سَلامٌ) التحية : التكرمة ، أي من الله لهم في الجنة هي : سلام ،
وقيل هذه تحية بعضهم لبعض. وقيل تحية الملائكة لهم. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) الدعاء الأخير عندهم : (أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهذا آخر كلّ كلام لهم ، لا أنه آخر كلمة يقولونها ولا
يتكلّمون بعدها بشيء.
١١ ـ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ
الشَّرَّ ...) أي لو أن الله سبحانه يعجّل في استجابة دعاء النّاس على
أنفسهم أو غيرهم بالشرّ ، وأهلهم حين يتضجّرون من شيء ويقولون : أمات الله فلانا ،
ولعن الله أبا فلان ، ولا بارك الله في رزق فلان ولا في عمره (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) يعني كما يعجّل لهم إجابة أدعيتهم في طلب الخير إذا
استعجلوه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ) أي لأهلكهم وفرغ من تدميرهم (فَنَذَرُ) ندع (الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا) الذين لا يصدّقون بالبعث ، (فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) أي يتحيّرون في كفرهم.
١٢ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ
دَعانا ...) أي إذا أصابه البلاء أو المحنة في الدنيا ، ابتهل إلينا
وتضرّع (لِجَنْبِهِ) وهو مضطجع (أَوْ قاعِداً) أو جالسا (أَوْ قائِماً) أو واقفا ، (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُ ضُرَّهُ) أي عندنا أزلنا عنه ذلك الضرّ الّذي أصابه (مَرَّ) استمرّ على حاله الأولى في إعراضه عن شكرنا (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ
مَسَّهُ) كأنّه ما دعانا لكشف ضرّه الذي أصابه (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي على هذا الشكل زيّن للمشركين عملهم هذا من قبل أنفسهم
أو من قبل الشيطان ، أو بعضهم من قبل بعض ، فمنحوا العافية بعد البلاء ولم يشكروا
مانحها.
١٣ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...) القرون : جمع قرن ، وهو أهل كل عصر من العصور ، وقد سمّوا
بذلك لمقارنة بعضهم ببعض. فالله تعالى قد أهلك أهل جميع العصور التي سبقتكم بأنواع
العذاب لأنها عصت أوامر ربّها وأشركت به. (وَجاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتاهم أنبياؤهم بالدلالات الواضحة والمعجزات (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : وفي معلومنا السابق ما كانوا ليؤمنوا لو أبقيناهم ، (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ) أي ، وبمثل ذلك نعاقب المشركين مستقبلا فنهلكهم إذا علمنا
أنهم لا يؤمنون بعد قيام الحجة عليهم.
١٤ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي
الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) الخطاب لأمّة محمد (ص) فقد جعل المسلمين يخلفون الأمم التي
أهلكها الله بظلمها ، وأسكنهم الأرض من بعدها ، (لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) أي لنرى عملكم وهل تقتدون بتلك الأمم في الكفر أم تصلحون.
١٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) الضمير في (عَلَيْهِمْ) يعود لمشركي قريش فقد نزلت في خمسة منهم اجتمعوا وقالوا
للنبيّ (ص) : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام أو بدّله. فهؤلاء وأضرابهم إذا
قرئت عليهم آياتنا الواضحة (قالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنَا) من أمثال هؤلاء الكافرين بالبعث والحساب : (ائْتِ) جيء (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) الذي تتلوه علينا (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما هو عليه من عيب الأصنام وترك عبادتها ،
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المعاندين : (ما يَكُونُ لِي) أي ليس لي حقّ (أَنْ أُبَدِّلَهُ) أغيّره (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي من جهة نفسي ، (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي : ما أتّبع إلا الوحي كما ينزل (إِنِّي أَخافُ) أخشى (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) في اتّباع غيره (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) عذاب يوم القيامة.
١٦ ـ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ ... قُلْ) يا محمد لهؤلاء : (لَوْ شاءَ اللهُ) أراد (ما تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ) ما قرأت آيات هذا القرآن عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم الله به (فَقَدْ لَبِثْتُ) أقمت (فِيكُمْ) بينكم (عُمُراً مِنْ
قَبْلِهِ) أي مدة طويلة قبل نزول القرآن عليّ فما ادّعيت رسالة ولا
تلوت وحيا حتى أكرمني الله برسالته وقرآنه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تتفكّرون بعقولكم.
١٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ...) أي ليس أحد أظلم ممن اخترع الكذب على الله وافتراه عليه. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) رفضها (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الْمُجْرِمُونَ) أي لا ينجح المشركون.
١٨ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ...) أي أن الكفار يعبدون غير الله وهو الأصنام مع أنها لا
تضرهم إذا تركوا عبادتها ، ولا هي تنفعهم إن عكفوا عليها (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ
اللهِ) أي يدّعون أنه سبحانه أذن لهم بعبادتها وسيشفّعها بهم يوم
القيامة. (قُلْ) لهم يا محمد : (أَتُنَبِّئُونَ) تخبرون (اللهَ بِما لا
يَعْلَمُ) بشيء لا يعرفه من عبادتكم للأصنام أو بما لا يعرفه ممّا (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فهو خالقهما والمحيط علمه بما فيهما. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه الله وسماه عن أن يستحق غيره العبادة.
١٩ ـ (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً
واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...)
قيل : إن الناس
كانوا أمة واحدة من حيث الفطرة على الإسلام والتسليم لله بالوحدانية منذ كانوا ،
ثم اختلفوا في الأديان واعتناق العقائد. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هي أنه لا يعاجل العصاة بالعقاب إذ سبقت رحمته غضبه فلو لا
ذلك (لَقُضِيَ) أي فصل (بَيْنَهُمْ) وحكم لهم أو عليهم (فِيما فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) وذلك بأن يهلك الكفار وينجي المؤمنين.
٢٠ ـ (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) يعني هؤلاء الكفار يقولون : هلّا أنزل على محمد آية من ربه
تلزم الخلق بتصديقه إلزاما فلا يلزمهم بعدها نظر ولا استدلال. (فَقُلْ) يا محمد لهؤلاء المتعنّتين : (إِنَّمَا الْغَيْبُ
لِلَّهِ) الله وحده يعلم الغيب وما في الأمور من المصالح قبل كونها
وبعد كونها ، ويعلم ما في إنزاله إصلاح فينزله ، كما أنه يعلم ما ليس في إنزاله
إصلاح فلا ينزله. (فَانْتَظِرُوا) ما يصيبكم من عقابه في الدنيا والآخرة. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وقد وعدني النّصر عليكم وأنا انتظر إعزاز الدّين وإذلالكم.
٢١ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ...) أي إذا أصبنا الكفار ـ لا الناس جميعا ـ برحمة منّا ،
تشملهم من بعد أن يكونوا قد أصيبوا ببلاء. (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ
فِي آياتِنا) يعني : فإذا هم يحتالون لإنكار آياتنا استهزاء وتكذيبا (قُلِ) لهم يا محمد : (اللهُ أَسْرَعُ
مَكْراً) يعني هو سبحانه أقدر جزاء على المكر وذلك بإنزال العقاب
بهم بأسرع من مكرهم (إِنَّ رُسُلَنا) أي الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ) يسجلون (ما تَمْكُرُونَ) ما تدبّرون من حيل وسوء تصرّف.
٢٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أي أنه تعالى هو الذي يمكّنكم من المسير في هذا وذاك بما
خلق لكم من آلات السير في كل منهما بما يناسبه (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ) أي لحين كونكم في السّفن (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي ومشت السفن وبراكبيها جارية كجري الماء. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي ليّنة (وَفَرِحُوا بِها) أي سرّوا بتلك الريح لأنها تساعدهم في السير نحو هدفهم ، (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي ضربت السفينة ريح عصفت عليها بهبوبها المخيف ، (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي اضطرب البحر وجاء الركاب الموج المتلاطم من جميع الجهات
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
أُحِيطَ بِهِمْ) اعتقدوا أن الموج طوّقهم وأيقنوا بالغرق ف (دَعَوُا اللهَ) ابتهلوا إليه (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي فعلوا ذلك على وجه الإخلاص في العقيدة ولم يذكروا وثنا
ولا صنما لعلمهم بأنه لا ينفع ولا يغني شيئا ، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا ربّنا (مِنْ هذِهِ) الورطة (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) أي لنصيرنّ في جملة من يشكرك على نعمتك وفضلك.
٢٣ ـ (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ
يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) أي : فلمّا خلّص الله تعالى ركاب السفينة من كارثة الغرق
التي أوشكت أن تحلّ بهم ، إذا هم يعملون بالمعاصي في الأرض وينشرون الظلم والفساد (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما
بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أن بغيكم فيما بينكم إنما تأتونه لحبكم الحياة العاجلة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي أن مآلكم في الآخرة إلينا (فَنُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بعملكم في الدّنيا لأننا سجّلناه عليكم.
٢٤ ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ ...) لمّا رغّب سبحانه في الآخرة وزهّد في الدنيا في الآيات
السابقة ، أتبع ذلك بصفة هذه وتلك ، فشبّه سرعة الفناء في الحياة الدّنيا بالماء
الذي أنزله (مِنَ السَّماءِ) مطرا مجتمعا ما لبث أن توزّع (فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ) لأن المطر يتخلّل النبات ويمتزج به ويغذّيه ويدخل في
تركيبه ويصير جزءا فيه جميعه (مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ) من حبوب وفواكه وخضار ، (وَالْأَنْعامُ) كالعشب المختلف (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي بهجتها وحسنها (وَازَّيَّنَتْ) يعني تزيّنت وتزخرفت في عيون الناظرين إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أي أيقن مالكوها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ
عَلَيْها) مستطيعون أن ينتفعوا بها على الدوام (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) جاءها قضاؤنا الذي حتمناه لإتلافها (فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي صيّرناها محصودة نقتلعها من الأرض يابسة جافّة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأنها لم تكن قائمة غنّاء زاهية في أمسها (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) وبمثل ذلك المثل نبيّن حججنا للمعتبرين.
٢٥ ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ
...) قيل إن السلام هو الله تعالى ، ودار السلام هي الجنّة التي
أعدّها للمطيعين ، وقيل إن دار السلام هي التي يسلم فيها المؤمنون من الآفات. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بواسطة رسله (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) إلى طريق الصلاح الموصلة إلى الدين الحق بنصب الأدلّة
للمكلّفين ، وقيل يهدي عباده الصالحين إلى طريق الجنة.
٢٦ ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ ...) الكلام متصل بين الآية وسابقتها ، أي قد أعدّ سبحانه في
دار السلام للمحسنين ممّن أطاعوا الله في الدنيا جزاء حسناهم ، مع زيادة من منازل
اللذّات والنعيم تفضلا منه. (وَلا يَرْهَقُ
وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي لا يلحق وجوههم سواد أو غبرة ولا هوان (أُولئِكَ) أي الّذين أحسنوا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) مضى تفسيره.
٢٧ ـ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) أي : ارتكبوا المعاصي (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِها) فهم يجزون بحسب ما يستحقون على أعمالهم دون زيادة ، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يلحقهم هو ان لأن في العقاب إذلالا لهم. (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ليس لهم مانع يمنع عنهم عقاب الله (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ
قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأن وجوههم غطّيت بظلمة الليل لسوادها من شدة خوفهم
وذلتهم (أُولئِكَ) المسيئون (أَصْحابُ النَّارِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) مر معناه.
٢٨ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) والمعنى : أننا يوم نجمعهم من كل حدب وصوب إلى موقف القيامة
(ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) مع الله غيره في عبادتهم وأموالهم. (مَكانَكُمْ) أي الزموا مكانكم ، (أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ) ومعكم شركاؤكم من الأوثان والأصنام في المحشر كما كنتم في
الدنيا (فَزَيَّلْنا
بَيْنَهُمْ) أي ميّزنا وفرّقنا بينهم لسؤال هؤلاء وحدهم ، وسؤال أولئك
بمفردهم ، (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) لهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا
تَعْبُدُونَ) إذ ينطقهم الله سبحانه بقدرته فيقولون لعبدتهم من المشركين
: لم نشعر بأنكم كنتم تعبدوننا.
٢٩ ـ (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمْ ...) أي كفى به عزّ اسمه فاصلا للحكم بالحق بيننا وبينكم أيها
الّذين أشركتم بعبادتنا مع الله (إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) مضى تفسيره.
٣٠ ـ (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما
أَسْلَفَتْ ...) أي حينئذ ، وفي ذلك المكان تجرّب وتختبر حاصل ما قدّمته من
حسنات وسيئات (وَرُدُّوا إِلَى
اللهِ) أرجعوا بالبعث والقيامة إلى ربّهم و (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وليّهم الحقيقي الذي لا يزول ولا يحول والذي يملك الحكم
عليهم وحده لأنه خالقهم ومالكهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع من بين أيديهم ما كانوا يعدّونه شريكا مع الله
تعالى ، افتراء عليه.
٣١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء : من يعطيكم الأرزاق من السماء
بالمطر ومن الأرض بالنبات والشجر (أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : فمن هو الذي يملك إعطاءكم حاستي السمع والبصر ولو شاء
لسلبهما؟ (وَمَنْ يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة. (وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالبيضة من الدجاجة وكالبذرة من النّبتة. وقيل : المقصود :
من يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (وَمَنْ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ) أي الأمور في السماوات والأرضين ، بالشكل المحكم الذي ليس
فيه خلل؟ ... (فَسَيَقُولُونَ :
اللهُ) يعني : سيعترفون بأن الله يفعل ذلك كلّه وأن معبوداتهم من
الأصنام لا تقدر عليها (فَقُلْ) يا محمد لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تفكّرون
بعقولكم وتدركون هذه المعاني؟
٣٢ ـ (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ...) والمعنى أن من وصفته الآية السابقة هو الله ربكم الحق الذي
وجبت له الألوهية والعبادة (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِ) الذي تقرّر بالحجة والبرهان (إِلَّا الضَّلالُ) أي الضياع في متاهات الكفر؟ (فَأَنَّى) كيف وأين (تُصْرَفُونَ) تعدلون عن عبادة الله الحق إلى الباطل.
٣٣ ـ (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي : بمثل ذلك الاستدراج البسيط والاستقراء الحكيم ، وجبت
كلمة ربّك ، وهي حكمة عليهم بالعقوبة على شركهم (عَلَى الَّذِينَ
فَسَقُوا) أي تعدّوا على حدود الله (أَنَّهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) يعني بأنهم لا يصدقون.
٣٤ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) قل يا محمد لهم : هل واحد من أصنامكم يملك إنشاء الخلق
وابتداعه ابتداء من العدم ثم يفنيه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) في نشأة ثانية بعد موته وفنائه؟ ... (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ) لأن جوابهم الحتمي : ليس من شركائنا من يفعل ذلك أو يقدر
عليه ، بل لله الخلق والإنشاء ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) كيف تقعون في الإفك وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟
٣٥ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...) فتابع معهم الحجاج يا محمد واسألهم : هل من معبوداتكم التي
أشركتموها مع الله معبود يدل على طريق الحق ويدعو إلى ترك الباطل ، ويأمر بالرشاد
والخير (قُلِ اللهُ يَهْدِي
لِلْحَقِ) وتابع جدالهم بقولك : (أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِ) ويدل على ما فيه الصلاح والخير في الدارين (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أي يؤخذ بأوامره ونواهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) يعني أم من لا يهتدي ولا يهدي أحدا إلى شيء (إِلَّا أَنْ يُهْدى) يدل إذا كان يسمع أو يرى. (فَما لَكُمْ) ما بكم ، وما عراكم؟ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) كيف تقضون في هذا الأمر؟.
٣٦ ـ (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا
ظَنًّا ...) أي لا يأخذ أكثر هؤلاء الكفار إلّا بالتخمين كتقليد
آبائهم. و (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأن الظّن غير العلم ، والعلم هو الحقيقة ، فالظنّ لا
يكفيهم بديلا عن الحق ، وقد يأتي على خلاف ما ظنّوا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما يَفْعَلُونَ) عارف جيدا بما يعملون من عبادة غيره وسيجزيهم على ذلك
الجزاء الملائم لشركهم.
٣٧ ـ (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرى ...) أي : ما كان يمكن افتراء هذا القرآن الكريم ، لكي يمكن قول
مثله (مِنْ دُونِ اللهِ) من غيره ، (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل هو مصدّق لما سبقه من الكتب الموحى بها وقيل : إنه
مؤكّد لما يأتي من بعده من البعث والحساب (وَتَفْصِيلَ
الْكِتابِ) أي : ومبيّنا لما كتب في اللوح المحفوظ من التكاليف ، (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ في أنه منزل (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) وحيا لا يمكن تبديله ولا افتراء مثله.
٣٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : أيقولون افترى محمد (ص) هذا القرآن؟ (قُلْ) لهم يا محمد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ) يعني : جيئوا بسورة واحدة تشبهه مع أنكم من أهل لغته
العربية ، (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي استعينوا بمن شئتم ـ غير الله ـ ليساعدوكم في معارضته (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم إنه مفترى ...
٣٩ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ ...) أي أنهم كذّبوا بالقرآن حين عجزوا عن فهمه فحكموا ببطلانه
إذ لم يعرفوا معانيه ومراميه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ) أي لم يجئهم بعد تفسيره وبيان ما فيه من المحكم والمتشابه
، وممّا يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، (كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كمثل تكذيبهم كذّبت الأمم السابقة أنبياءها (فَانْظُرْ) تأمل يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ) أي أن من قبلهم هلك بتكذيب الرّسل ، وعاقبة هؤلاء ستكون
كذلك بسبب تكذيبك.
٤٠ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ...) أي أن منهم من يؤمن به بينه وبين نفسه ويعترف بصحته ولكنه
شاكّ متحيّر ، ومنهم من لا يصدّق به ويخالف وقيل : بأن الآية ناظرة إلى حال هؤلاء
مستقبلا حيث يعلم الله بأن منهم من سوف يؤمن بهذا القرآن ومنهم من سوف يبقى على
تكذيبه به. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يدوم على الفساد ولا يقلع عن العناد ولا يرجع إلى
الصواب.
٤١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي
وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله (ص) يعني : إذا كذّبك قومك
وداوموا على معاندتك فقل لهم : لي عملي وما يجرّ عليّ من نفع أو ضرر ، ولكم عملكم
وجزاؤه الذي يترتّب عليه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ) لن يصيبكم شيء من نتيجة عملي (وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي وأنا أتبرّأ إلى الله من سوء عملكم ووزره.
٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
...) أي ومن هؤلاء الكفار من يطلب سماع ما تتلوه وما تدعو إليه
بدافع معاندتك (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَ) أي هل تقدر يا محمد أن توصل صوتك إلى من فقد حاسة السمع (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي : حتى ولو كانوا في غاية الجهل؟.
٤٣ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ...) أي ومن هؤلاء الكفار من ينظر إلى أقوالك وأفعالك نظرا لا
عبرة فيه (أَفَأَنْتَ) أي هل أنت يا محمد (تَهْدِي) تدل (الْعُمْيَ) على طريقهم وترشدهم إليه (وَلَوْ كانُوا لا
يُبْصِرُونَ) أي لا ينظرون المعالم التي تدلّهم عليها؟ والاستفهام في
كلتا الآيتين إنكاري.
٤٤ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ
شَيْئاً ...) أي أنه يوفّيهم جزاء أعمالهم غير منقوص لأنه منزّه عن
الظلم (وَلكِنَّ النَّاسَ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكن العباد العاصين يظلمون أنفسهم بأنفسهم حين ينصرفون
عن دعوته سبحانه اتباعا لأهوائهم.
٤٥ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ...) أي حين يجمع سبحانه هؤلاء الكفار يوم القيامة (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) كأنّهم لم يبقوا قبل البعث في الدنيا ، أي أنهم استقلوا
مكثهم في الدنيا إذ هو في جنب مكث الآخرة كساعة ليس إلّا (إِلَّا ساعَةً) من الزمن كجزء (مِنَ النَّهارِ) الذي هو من الفجر إلى أول الليل. (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يتعرّف بعضهم إلى بعض إذا خرجوا من قبورهم ، ويعرف بعضهم
خطأ بعض وكفره ، (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي قد ظهر خسرانهم بلقاء الجزاء على سوء عملهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للحق في دار الدنيا.
٤٦ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ ...) أي : فإمّا أن نريك يا محمد ـ في حياتك ـ بعض ما نعد هؤلاء
الكفار ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نأخذك من بينهم بالوفاة قبل نزول ما وعدناهم به في
الدّنيا من العقوبة بالقتل وغيره (فَإِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ) معادهم (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ) أي أنه تعالى ناظر عالم بما يقومون به وسيوفّيهم جزاء
عملهم.
٤٧ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ...) أي ولكل جماعة مجتمعة على طريقة واحدة نبيّ أرسلناه إليها
وحمّلناه ما ينبغي لها فعله وتركه ، (فَإِذا جاءَ
رَسُولُهُمْ) أي إذا بعث إليهم وبلّغهم. فصدّقه البعض وكذّبه الآخر. (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم بنجاة المصدّقين ، وإهلاك المكذّبين ، (بِالْقِسْطِ) أي العدل (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي لا يلحق جور على المكذّبين ، ولا ينقص من ثواب المطيعين.
٤٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) والوعد يكون للخير ، والوعيد للشر. والمعنى أن الكفار
يقولون إنكارا وتكذيبا : متى يقع هذا الوعد للمطيعين بالفوز بالجنّة؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في القول الذي تقولونه أيها الرّسل.
٤٩ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا
نَفْعاً ...) قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين : أنا لا أقدر على
جلب نفع لنفسي ولا على دفع ضرّ عنها فكيف أملكه لغيري؟ (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) إلّا ما أراد (لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ) أي لكل أمة وقت محدد أجله لتعذيبها على تكذيب رسوله (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) حان وقت موعدهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) يملكون طلب تأخير (ساعَةً) لنزول العذاب عن ذلك الموعد ، (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) يملكون طلب تقديم مثلها للوصول إلى الثواب.
٥٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ
عَذابُهُ بَياتاً ...) أي : قل يا محمد للمشركين : هل دريتم أنه إن جاءكم عذاب
الله الذي وعد به الكافرين ليلا وأنتم بائتون (أَوْ نَهاراً) وأنتم مستيقظون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ
مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي ما هو الشيء المطموع به الذي يطلب العصاة تعجيله لنفعهم؟.
٥١ ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ
...) ومعناه : أحين وقع عليكم العذاب في وقته المعيّن صدّقتم
بالله أو بالقرآن أو بالعذاب. (آلْآنَ) أفي هذا الوقت الذي لا يفيد فيه الندم ، تؤمنون؟ (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وكنتم قبل وقوعه تطلبون استعجاله.
٥٢ ـ (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ...) أي بعد وقوع العذاب يوم القيامة يقال لمن ظلموا أنفسهم :
ذوقوا العذاب الدائم الذي لا يخفّف ولا تنقضي مدته ، (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي هل نالكم إلّا جزاء ما ارتكبتم من المعاصي؟
٥٣ ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ...) أي يطلبون منك يا محمد أن تخبرهم أحقّ هو : ما جئت به من
الرسالة والقرآن والشريعة ، أو ما وعدتنا به من البعث والعذاب ، ف (قُلْ) مجيبا إياهم : (إِي وَرَبِّي) : نعم وحقّ الله (إِنَّهُ لَحَقٌ) لا شكّ فيه (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي لستم بفائتين له.
٥٤ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ
ما فِي الْأَرْضِ ...) أي : لو كانت كلّ نفس أشركت بال ٥٤ لّه ، تملك جميع ما في
الأرض (لَافْتَدَتْ بِهِ) لفدت نفسها به يوم القيامة من العذاب (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) أي وأخفوا ندامتهم حين شاهدوا العقاب الذي ينتظرهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي حكم بالعدل (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) لا يصيبهم ظلم ممّا يفعل بهم بسبب جنايتهم على أنفسهم.
٥٥ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) المعنى : اعلموا أن الله تعالى يملك السماوات والأرض وله
حق التصرف بهنّ وبمن فيهنّ ولا يقدر أحد على الاعتراض عليه إن أراد أن ينزل عذابه
على مستحقّيه (أَلا إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌ) بإنزال عقابه بالكافرين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ) أي لم يعرفوا صحة ذلك الوعد لجهلهم المطبق بالله تعالى.
٥٦ ـ (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) : أي أنه سبحانه يردّ الناس أحياء بعد موتهم ، ويميتهم بعد
أن جعلهم أحياء ، وإليه تردّون أيها الناس فيجازيكم على أعمالكم.
٥٧ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من
الله موعظة تخوّفكم من (جاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من
الله موعظة تخوّفكم من المعصية والعقاب وترغّبكم بالطاعة والثواب ، وهي القرآن. (وَ) هي (شِفاءٌ لِما فِي
الصُّدُورِ) برء للنفوس تعافيها ممّا فيها من الجهل. (وَهُدىً) أي دلالة إلى طريق الحق (وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ) أي نعمة لمن أخذ بها وانتفع بما فيها.
٥٨ ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ...) أي : قل يا محمد للناس : بإفضال الله ونعمته (فَبِذلِكَ) أي بفضله وبنعمته (فَلْيَفْرَحُوا) فليسرّوا ، فذلك (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ) من حطام الدّنيا ، لأن ما في الدنيا يزول وهذا باق.
٥٩ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) قل يا محمد لكفار مكة : هل نظرتم إلى ما أعطاكم الله من
رزق وجعله حلالا لكم (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَراماً وَحَلالاً) أي فجعلتم من عند أنفسكم بعضه حلالا وبعضه حراما كتحريم
السائبة والبحيرة وغيرهما (قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون. ومعناه : لم يأذن لكم بشيء من ذلك ، وأنتم
تكذبون عليه فيما حلّلتم وحرّمتم.
٦٠ ـ (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) يعني : أي شيء يظن الذين يكذبون على الله وماذا يعتقدون
أنه يصيبهم بسبب كذبهم عليه إلا العذاب الشديد (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما منّ عليهم من النّعم والأفضال (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يحمدونه على أفضاله ونعمه بل يجحدونها.
٦١ ـ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ...) ومعناه : أنك يا محمد ما تكون في حال من أحوالك (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي : وما تقرأ من الله من الكتاب الذي ينزله عليك منجّما ،
بل (وَلا تَعْمَلُونَ) أيها الناس جميعا (مِنْ عَمَلٍ) كائنا ما كان (إِلَّا كُنَّا
عَلَيْكُمْ شُهُوداً) مشاهدين لكم وناظرين إليكم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) إذ تخوضون فيه (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ) أي : وما يغيب عن رؤيته وعلمه (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أي أصغر وزن ممكن (فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ) من أعمال ساكنيهما (وَلا أَصْغَرَ مِنْ
ذلِكَ) أي : ولا أصغر من الذرّة (وَلا أَكْبَرَ) منها (إِلَّا) كان ذلك مسجّلا (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في كتاب بيّنه الله تعالى وهو اللوح المحفوظ.
٦٢ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ ...) ألا : للتنبيه ، افتتح بها للدلالة على أهمية المطلب ،
والله سبحانه يذكر في هذه الآية والآيتين بعدها أولياءه ويعرّفهم ويصف آثار
ولايتهم وما يختصون به من خصائص ، والمعنى : أي أن المطيعين لله لا خوف عليهم من
العقاب يوم القيامة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) أي ولا يصيبهم الهم والحزن. كل ذلك لأنهم حصلوا الدرجة
العليا من الإيمان الذي يتكامل به معنى العبودية لله والمملوكية له ، بحيث لا يرى
العبد معها أن لنفسه شيئا من الأمر حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
٦٣ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ
...) : أي الّذين صدّقوا بالله وبرسوله وبدينه ، وتجنّبوا
معاصيه.
٦٤ ـ (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ...) أي أن المؤمنين المتقين لهم بشارة من الله تعالى بالخير.
قيل إنها بشارته لهم في القرآن في ما ذكره عن المؤمنين المتقين ، وقيل هي بشارة
الملائكة (عليهمالسلام) لهم عند موتهم ، وقيل غير ذلك (وَ) لهم البشرى (فِي الْآخِرَةِ) حيث تبشرهم الملائكة بالجنّة عند خروجهم من القبور (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا خلف ولا تغيير لما وعد سبحانه من الثواب ، (ذلِكَ) أي الذي سبق ذكره من البشارة في الحياة وبعد الممات (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هو النجاح الكبير.
٦٥ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) أي لا ينبغي أن يجلب قولهم لك الحزن والغم لأنه مؤذ. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) والله الذي استأثر لنفسه بالعزة كلّها يمنع أذاهم عنك
بقدرته (هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) مر معناه.
٦٦ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) : أي أنه سبحانه مالك كل عاقل فيهما وغير العاقل تابع للعاقل.
(وَما يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي أنهم على لا شيء في شركهم ، إذ ما يعبدون ليسوا شركاء
لله في الحقيقة. (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) فليسوا على يقين من ربوبيّة تلك الأصنام ولكنّ عملهم تقليد
للآباء (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) فما هم إلّا كاذبين بهذا الزعم.
٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) أي أن ذلك المالك للسماوات والأرضين ومن فيهن هو خالق
الليل الذي تهدأون فيه وترتاحون من تعب النهار (وَالنَّهارَ
مُبْصِراً) أي جعله مضيئا تبصرون فيه وتهتدون إلى ما تحتاجون إليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) الحجج والبينات سماع فهم وتدبّر.
٦٨ ـ (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ...) المقصود بالقائلين النصارى وقريش التي قالت بأن الملائكة
بنات الله (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن ذلك وتقديسا (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عن أن يكون له ولد (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ بِهذا) أي : ما عندكم على هذا القول حجة مقنعة (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) حقيقته افتراء ، وتختلقون عليه.
٦٩ ـ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللهِ ...) أي : قل يا محمّد للمتقوّلين على الله المفترين عليه (الْكَذِبَ) باتّخاذ الولد وغيره : إنهم (لا يُفْلِحُونَ) لا يفوزون بنصر أو ثواب.
٧٠ ـ (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ ...) يعني أنهم قدّر لهم متاع ينعمون فيه قليلا بمتاع الحياة ،
ثم تنقضي أيامه ثم إلى حكمنا مصيرهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ
الْعَذابَ الشَّدِيدَ) عذاب النار (بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ) يعني : بكفرهم.
٧١ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ...) أي اقرأ عليهم يا محمد خبر نوح (إِذْ) حين (قالَ لِقَوْمِهِ) الّذين أرسلناه إليهم : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ
كَبُرَ) أي شقّ وعظم (عَلَيْكُمْ مَقامِي) إقامتي بينكم (وَتَذْكِيرِي) أي تنبيهي ووعظي إياكم (بِآياتِ اللهِ) ببيناته وحججه الدالّة على صدق التوحيد وما إليه ، وعلى
بطلان ما أنتم عليه من الكفر (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي أكل أموري إليه ليكفيني شرّكم ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي : اتّفقوا فيما بينكم على أمر واحد أنتم وشركاؤكم من
طردي أو قتلي (ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي لا تغتمّوا ممّا أنتم فيه ولا تحزنوا واكشفوا عداءكم (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي نفّذوا ما اتّفقتم عليه من طردي أو قتلي (وَلا تُنْظِرُونِ) : ولا تمهلوني.
٧٢ ـ (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ ...) أي إذا انصرفتم عن دعوتي ولم تقبلوا قولي (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) يعني : ما أجري إلا على ربّي الّذي قمت بأداء رسالته (وَأُمِرْتُ) منه عزّ اسمه (أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) المستسلمين لأمره بطاعته.
٧٣ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ
مَعَهُ ...) أي لم يقبلوا قوله واعتبروه كاذبا في ادّعاء النبوّة
فخلّصناه ، هو والمؤمنين الذين معه وأمرناه أن يركب (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة التي ألهمناه صنعها (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يعني قدّرنا أن يخلفوا قوم نوح بعد هلاكهم بالغرق (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا) أي غمرنا الأرض بالماء حتى مات جميع أهلها (فَانْظُرْ) أيها المستمع لقولنا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ) كيف كانت نهاية من خوّفناه من آياتنا فلم يرتدع.
٧٤ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً
إِلى قَوْمِهِمْ ...) أي أنه سبحانه أرسل بعد نوح (ع) أنبياء ، يعني بهم إبراهيم
وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا ، كلّ واحد منهم إلى جماعته التي كان فيها (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالبراهين والحجج الواضحة التي تدل على صدقهم (فَما كانُوا) فما كان أقوامهم (لِيُؤْمِنُوا) يصدّقوا (بِما كَذَّبُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ) أي بما رفضه أسلافهم وكذّبوه. (كَذلِكَ) كهذا الذي أصيب به قوم نوح (نَطْبَعُ عَلى
قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي نجعل في قلوبهم علامة دالة على كفرهم تكون مدعاة لذمّهم.
٧٥ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى
وَهارُونَ ...) ثم أرسلنا من بعد الرسل أو الأمم موسى وهارون نبيّين
رسولين. (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ) ورؤساء قومه ، (بِآياتِنا) بمعجزاتنا (فَاسْتَكْبَرُوا) تعالوا عن الانقياد لها والإيمان بها. (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي كانوا عصاة مستحقّين للعقاب.
٧٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنا ...) أي : وحين جاء فرعون وقومه الحقّ الظاهر من عند الله تعالى
، وهو ما أتى به موسى من الآيات والمعجزات (قالُوا إِنَّ هذا
لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي أنه سحر واضح.
٧٧ ـ (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ
لَمَّا جاءَكُمْ ...) يعني أن موسى قال للمنكرين لآيات ربّه (أَسِحْرٌ هذا)؟ هل هذا الذي جئتكم به سحر. مع أنه حقّ والسحر باطل؟ (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) مع أنه لا يظفر أهل السحر بحجة ولا ينجحون.
٧٨ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا
وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...) أي قال فرعون وقومه لموسى : هل أتيتنا لتصرفنا عن العقيدة
التي كان عليها آباؤنا (وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِياءُ) أي : تصير لك ولهارون السلطان علينا ، (فِي الْأَرْضِ) في مصر (وَما نَحْنُ لَكُما
بِمُؤْمِنِينَ) أي لسنا بمصدّقين ما تدّعيانه.
٧٩ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ
ساحِرٍ عَلِيمٍ) : أي أن فرعون حين أعجزته آيات موسى ولم يستطع دفعها بغير
ادّعاء كونها سحرا ، قال لقومه : جيئوني بكل ساحر متقن للسحر عارف بجميع نواحيه.
٨٠ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ
مُوسى ...) فعند ما أتى السحرة ، الذين استدعاهم فرعون فقال لهم موسى (ع)
: (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ
مُلْقُونَ) أي اطرحوا ما تريدون طرحه من سحركم. وقيل معناه : افعلوا
ما أنتم فاعلون من السحر.
٨١ ـ (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما
جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ...) أي حين ألقوا حبالهم وعصيّهم قال موسى لهم : هذا الذي جئتم
به هو السحر. (إِنَّ اللهَ
سَيُبْطِلُهُ) أي سيظهر عملكم باطلا (إِنَّ اللهَ لا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي أنه سبحانه لا يجعل عمل من قصد الإفساد في الدّين ناجحا
، لأنه يريد أن يظهر الحق من الباطل.
٨٢ ـ (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : أي يظهر الله الحقّ ويظهر أهله ويدحض الباطل وأهله بما
سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بذلك رغم أنوف الكافرين.
٨٣ ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ
مِنْ قَوْمِهِ ...) الذرّية هي الجماعة من نسل القبيلة. المعنى أنه لم يصدّق
بآيات موسى (ع) إلّا فئة من جيل الشباب والشابات من قوم فرعون ، وقيل من بني
إسرائيل : قوم موسى (ع) ، وقيل بعض يسير من قوم فرعون فيهم امرأة فرعون ومؤمن آل
فرعون والسّحرة وبعض من بني إسرائيل (عَلى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ) أن يفتك بهم ويقتلهم ، (وَ) خوف من (مَلَائِهِمْ) أي : أشرافهم ورؤسائهم (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي : يصرفهم فرعون عن عقيدتهم بما يمتحنهم به من عظيم
البلاء والعذاب (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ
لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي متكبر طاغ (وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد في الكفر والطغيان.
٨٤ ـ (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللهِ ...) أي قال موسى (ع) للذين آمنوا به يا جماعتي إن كنتم صدّقتم
بالله وبنبوتي (فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا) أسندوا إليه أموركم (إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ) مسلّمين له على الحقيقة.
٨٥ ـ (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ...) يعني : أجاب المؤمنون بالله وبدعوة موسى قائلين : توكّلنا
على الله ووكلنا أمورنا إليه (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : نسألك يا الله أن لا تجعلنا محلّ الابتلاء بكيد فرعون
ولا تظهره علينا ، لئلا يفتتن بنا الكفار ويظنّوا أن لو كنّا على الحق ما ظفر بنا
فرعون وقومه.
٨٦ ـ (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ) : معناها : خلّصنا يا رب بلطفك بنا ، من فرعون وقومه
المقيمين على الكفر.
٨٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ ...) أي أمرناهما بواسطة الوحي (أَنْ تَبَوَّءا) أي اتّخذا (لِقَوْمِكُما) للذين آمنوا بكما (بِمِصْرَ بُيُوتاً) يأوون إليها (وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي اجعلوها أماكن للصلاة. (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) أي : واظبوا على أدائها (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) بالجنّة.
٨٨ ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ...) أي : خاطب موسى ربّه قائلا : إنك أعطيت فرعون وقومه
المتكبّرين (زِينَةً) من الحليّ والثياب ، أو من الصحة والوسامة وطول القامة (وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فظهروا بذلك على من سواهم ، (رَبَّنا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ) أي أن ذلك يجعل عاقبتهم الإضلال عن طريق معرفتك ، وإن كان
سبحانه قد أعطاهم كل ذلك لمجرد الإنعام مع تعرّيه عن وجوه البطر والاستفساد (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي غيّرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قيل بأن أموالهم
صارت كالحجارة. (وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ) أي اطبع على قلوبهم وثبّتهم على المقام ببلدهم بعد إتلاف
أموالهم ليكون ذلك أشدّ عليهم ، (فَلا يُؤْمِنُوا
حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي لا يؤمنون إيمان اختيار مطلقا ، وإذا رأوا العذاب
الأليم لا يؤمنون إلّا إيمان إلجاء.
٨٩ ـ (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ...) أي : قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون حين دعا موسى
وأمّن هارون على دعائه على قوم فرعون : قد استجبت لكما دعوتكما (فَاسْتَقِيما) أي اثبتا على دعوة الناس للإيمان ، (وَلا تَتَّبِعانِ) لا تسلكا (سَبِيلَ) طريق (الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) الذين لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه.
٩٠ ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ
الْبَحْرَ ...) أي : عبرنا بهم البحر بين مصر وفلسطين سالمين (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) خرجوا في أثرهم (بَغْياً وَعَدْواً) أي من أجل البغي عليهم والظلم لهم. (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي وصل إلى فرعون وأيقن بالهلاك (قالَ آمَنْتُ) صدّقت (أَنَّهُ لا إِلهَ) لا ربّ (إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ) صدّقت (بِهِ بَنُوا
إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المستسلمين وهو إيمان لا ينتفع به.
٩١ ـ (آلْآنَ ...) والمعنى : أفي هذا الوقت يا فرعون تؤمن في وقت لا ينفعك
إيمانك؟ (وَقَدْ عَصَيْتَ
قَبْلُ) بترك الإيمان في الوقت الذي كان ينفعك فيه لو كنت آمنت قبل
الآن (وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ) بما نشرت من الفساد بقتل الناس وتذبيح الأطفال وادّعاء
الربوبية؟
٩٢ ـ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ...) أي : في هذا الوقت نخرج جسدك فنلقيه على نجوة من الأرض :
أي تلّة مرتفعة عمّا حولها ليراك الناس ، فقد قيل إن بعض بني إسرائيل قالوا : إن
فرعون أعظم شأنا من أن يغرق مثل سائر قومه ، (لِتَكُونَ لِمَنْ
خَلْفَكَ آيَةً) أي موعظة بالغة في النكال لمن يأتي بعدك (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ
آياتِنا لَغافِلُونَ) أي أنهم ساهون عن التفكّر بدلالاتنا.
٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
...) يقول تعالى إنه بعد إنعامه على بني إسرائيل بالنجاة أسكنهم
(مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : مكانا محمودا وهو الشام وبيت المقدس (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أنعمنا عليهم بحلال الرزق اللذيذ الكثير (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ
الْعِلْمُ) أي لم يختلفوا بشأن محمد (ص) إلّا بعد أن جاء القرآن ، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) يحكم فيما بينهم يوم القضاء الأكبر (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في الأمور التي تنازعوا بشأنها.
٩٤ ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ...) هو خطاب للأمة من خلال النبي (ص) والمعنى : فإن كنتم في شك
فاسألوا ... والدليل عليه قوله في آخر السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ، الآية ... فاعلم أن نبيّه (ص) ليس في شك ... وقيل أيضا :
(فَإِنْ كُنْتَ) أيها السامع (فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) على لسان نبيّنا إليك (فَسْئَلِ الَّذِينَ
يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) كالأحبار وكعبد الله بن سلام وتميم الدارمي وغيرهم ممّن
يعرفون نعوت النبي (ص) وصفاته في كتبهم التي بشّرت به قبل محمد (ص) والقرآن. (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي القرآن (مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الشاكّين.
٩٥ ـ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي : لا تكوننّ من جملة من يجحد بآياته سبحانه ولا يصدّقها
(فَتَكُونَ مِنَ
الْخاسِرِينَ) أي أنك إن كذّبت بآيات الله كنت من الخاسرين لتوفيق الله
في الدنيا ورضوانه في الآخرة.
٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) : أي أن الذين لا يصدّقون بالله وبرسوله مع القدرة على
الإيمان بذلك وجب لهم سخط الله تعالى.
٩٧ ـ (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) : هي تتمة للآية السابقة : يعني أن المتقاعسين عن الإيمان
الراغبين عنه لو أتتهم أيّة معجزة دالّة على وجود الله وصحة النبوّة ، فإنهم لا
يؤمنون حتى يقعوا في العذاب الموجع فيؤمنون إيمان إلجاء فلا ينفعهم.
٩٨ ـ (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ...) المعنى : فهلّا كان أهل كل قرية آمنوا في الوقت الذي
ينفعهم فيه إيمانهم؟ (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن ارتفع عنها عذاب الله ، ولم تؤجّل إيمانها حتى وقوع
العذاب إذ لن ينفعها حينئذ (إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ) مستثنيا قوم يونس الّذين (لَمَّا آمَنُوا) عند نزول العذاب وقربه منهم (كَشَفْنا عَنْهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صرفناه عنهم ونجّيناهم من عاره (وَمَتَّعْناهُمْ) تركناهم يرتعون في نعمنا (إِلى حِينٍ) أي : إلى انقضاء آجالهم.
٩٩ ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ ...) لو شاء : أراد الله تعالى الإيمان لكان ولصدّق أهل الأرض (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يا محمّد ولكن لا ينفع الإيمان بالإكراه (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) تجبرهم (حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) أي لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنك غير قادر
على ذلك إضافة إلى عدم جدواه.
١٠٠ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ...) أي ليس ميسورا لأحد أن يؤمن (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) تعالى ، بأن يطلق ذلك له ويمكّنه منه بما خلق له من الفهم
والعقل قيل إن الإذن هنا هو العلم ، يعني أنه لا يؤمن أحد إلّا بعلمه (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) : العذاب ، (عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ) أي من لا يتدبّرون.
١٠١ ـ (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) قل يا محمد لمن يسألك عن الآيات والمعاجز فليتدبّر الدلائل
والعجائب في مخلوقات الله تعالى كمجاري الشمس والقمر والنجوم والبحار واليابسة
وحركة الأرض وجميع ما في الكون من جمادات وأحياء (وَ) لكن (ما تُغْنِي الْآياتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا تفيد الدلائل والبراهين ولا أقوال الرّسل المخوفة
عند قوم لا ينظرون في الآيات التي حولهم نظر تفهّم وتعقّل.
١٠٢ ـ (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي فهل ينتظر الّذين تأمرهم بالإيمان فيأبون التصديق
بأدلّتك ومعجزاتك ، إلّا أن يصيبهم مثل ما أصاب الّذين مضوا من قبلهم ، في أيام
نزول العذاب عليهم كأيّام عاد وثمود وقوم نوح وغيرهم. (قُلْ) لهم يا محمد : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فتوقّعوا العذاب الذي وعد الله به الكافرين ، وأنا أنتظره
معكم في جملة من ينتظره.
١٠٣ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي نخلّص الأنبياء الذين بعثناهم وجميع من آمنوا معهم حين
حلول العذاب وحال وقوعه ، (كَذلِكَ) أي مثل نجاة من مضى من المؤمنين ننجّي من بقي ، (حَقًّا عَلَيْنا) في قضائنا ، (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) نخلّصهم من عذاب الدنيا والآخرة.
١٠٤ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي شَكٍّ ...) قل يا محمد للناس : أي الكفّار إن كنتم في ريب (مِنْ دِينِي) وهل هو حقّ فأنا (فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ) تقدّسون وتصلّون له من الأصنام (مِنْ دُونِ اللهِ) بدلا عن عبادته تعالى (وَلكِنْ أَعْبُدُ
اللهَ) وحده (الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقدر على إماتتكم (وَأُمِرْتُ) من قبل ربّي (أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين بتوحيده وإخلاص العبادة له.
١٠٥ ـ (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً ...) هذه الآية الشريفة معطوفة على سابقتها ، فكأنه قال وقيل لي
: (أَقِمْ وَجْهَكَ) أي توجّه (لِلدِّينِ) واستقم فيه وأقبل بوجهك على ما كلّفت به من القيام بأعباء
الرسالة (حَنِيفاً) أي : مستقيما. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) أي : ولا تعبد أحدا غير الله أو معه.
١٠٦ ـ (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُكَ ...) أي لا تذكر غير الله معبودا مما لا ينفعك إن أطعته (وَلا يَضُرُّكَ) إن أنت عصيته (فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : إذا عملت بخلاف ما أمرت به ، تكون ظالما لنفسك ،
بتسبيب العقاب لها ، والخطاب للخلق من خلاله (ص).
١٠٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) أي إذا أصابك من الله سوء أو شدة أو مرض أو غير ذلك (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي : لا مزيل له غيره سبحانه وتعالى لأنه وحده قادر على
ذلك (وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ) من نعمة أو من صحة أو أمن أو غيره (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي فلا أحد يمنع ذلك الخير عنك (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) فيعطي الواحد منهم ما تقتضيه الحكمة وما تدعو إليه المصلحة
(وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) المتجاوز عن ذنوب عباده الرؤوف بهم.
١٠٨ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ...) أي : أعلن يا محمد بين الناس أن قد أتاكم القرآن ودين
الإسلام من عند الله وقيل المراد بالحق النبي (ص). (فَمَنِ اهْتَدى) نظر وتأمل فعرف أن الدّين الإسلاميّ حق وصواب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي تعود عليه منفعة هدايته وإيمانه ، (وَمَنْ ضَلَ) عدل عن ذلك وكفر (فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) يكون وبال ضلاله على نفسه ، (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يعني أن ليس محمدا (ص) على الناس بحفيظ يدفع عنهم الهلاك.
١٠٩ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) هو خطاب لنبيّه الكريم أن سر بحسب ما ينزل عليك من ربّك
بالوحي (وَاصْبِرْ) على تكذيب الكافرين وأذاهم (حَتَّى يَحْكُمَ
اللهُ) يقضي بينك وبينهم بظهور دينه ونصرك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه الحاكم بالعدل والحق.
سورة هود
مكية ، عدد آياتها ١٢٣ آية
١ ـ (الر ...) الر : مرّ تفسير هذه الرموز في أول البقرة ، (كِتابٌ) يعني القرآن الكريم (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي أثبتت دستورا لا ينسخ أبد الدهر (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام وقد قيل في أحكمت ثم
فصّلت أقوال أخرى. (مِنْ لَدُنْ) من عند (حَكِيمٍ) في جميع تدابيره وأحكامه (خَبِيرٍ) عليم بأحوال خلقه وبمصالحهم.
٢ ـ (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أحكم آيات هذا الكتاب وفصّلها وأنزله على رسوله ليأمركم
أن لا تعبدوا غيره. وليقول لكم : (إِنَّنِي لَكُمْ) أنا رسول الله إليكم ، وأنا (مِنْهُ نَذِيرٌ) يخوّفكم البقاء على الكفر والعصيان (وَبَشِيرٌ) يبشّر المطيعين بالجنة وجزيل الثواب.
٣ ـ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ ...) أي جئت لآمركم أن تطلبوا المغفرة من الله بالتوبة النصوح.
فمتى استغفرتموه (يُمَتِّعْكُمْ) يمنحكم الله المتعة بنعمه (مَتاعاً حَسَناً) برغد ودعة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت قدّره لكم يعقبه الموت (وَيُؤْتِ) يعطي (كُلَّ ذِي فَضْلٍ
فَضْلَهُ) كلّ صاحب إفضال على غيره بالمال أو بسواه ، ثواب ما عمل. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن تعرضوا عما أمرتم به (فَإِنِّي أَخافُ) أخشى (عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي كبير شأنه ، وهو يوم القيامة.
٤ ـ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : يعني أن معادكم ومصيركم في يوم القيامة إلى حكم الله وهو
القادر على إحيائكم وبعثكم للثواب والجزاء فتجنّبوا معاصيه.
٥ ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
...) والمعنى : انتبه أيها السامع إلى أن المنافقين يطوون
صدورهم على ما هم عليه من غلّ وكفر حتى لا يسمعوا ما أنزل الله من آيات وبيّنات. (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) ليطلبوا الخفاء والتستّر مختبئين من الله أو النبي على قول
(أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي حين يتغطّون بثيابهم عن تآمرهم بشأن النبيّ (ص) (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) ما يقولونه في السّر (وَما يُعْلِنُونَ) وما يقلنون وما يقولونه علنا لأنه لا تخفى عليه خافية ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم وساوس الصدور وما تكنّه القلوب وتتحدّث به النفوس.
٦ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليس من حي يمشي على وجه الأرض (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فهو سبحانه متكفّل لها بالرزق الخاص بها (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) ويعرف مكان قرارها فيما بين الأصلاب والأرحام وفيما بعد
ذلك (وَمُسْتَوْدَعَها) حيث تموت وتبعث منه (كُلٌّ فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) أي كل هذه التفصيلات بشأن كل مخلوق وكائن ، مكتوب ومسجّل
في كتاب ظاهر هو اللّوح المحفوظ.
٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) أي أن الله هو منشئ السماوات والأرض وخالقهن بقدرته (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وهذا إخبار منه سبحانه بإنشائهما في هذه المدة مع أنه يقدر
على إيجادهما بمثل لمح البصر ، ولكنه أجرى ذلك مجرى الحكمة في الترتيب والتدبير. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي كان مكان منطلق سلطانه وقدرته على الماء ، وهذا يدل على
وجود الماء والعرش قبل السماوات والأرض كما تشير آيات كثيرة. (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أي أنه سبحانه خلق ودبّر ليظهر إحسان المحسن ، لأنه تعالى
عن أن يجازي الناس بحسب معلومه ومن غير اختبار وابتلاء (وَلَئِنْ) أي : والله إذا (قُلْتَ) لهم يا محمد : (إِنَّكُمْ
مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (مِنْ بَعْدِ
الْمَوْتِ) للحساب (لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا) فسيقول الكافرون مؤكّدا : (إِنْ هذا) ما هذا القول (إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) أي ليس سوى تمويه ظاهر لما لا حقيقة له في الواقع.
٨ ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ
...) أي : إذا أجّلنا عذاب الهلاك عن هؤلاء الكفار (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي إلى أجل وحين محسوب (لَيَقُولُنَ) أي من المؤكّد قولهم على وجه الاستهزاء : (ما يَحْبِسُهُ) أي ما يمنع ذلك العذاب عنّا إن كان حقّا؟ (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) إنّه حين يجيئهم (لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ) يكون من غير الممكن تحويله عنهم (وَحاقَ بِهِمْ) نزل بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا يسخرون منه.
٩ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا
رَحْمَةً ...) أي : إذا رحمنا الإنسان وأنزلنا عليه النّعم (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أي سلبنا تلك الرحمة منه (إِنَّهُ) أي الإنسان (لَيَؤُسٌ) قنوط (كَفُورٌ) لأن من عادته الكفر بنعمة ربّه.
١٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ...) أي إذا أعطينا الإنسان نعمة جزيلة بعد بلاء شديد أصابه (لَيَقُولَنَ) يقول بكل تأكيد : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ
عَنِّي) أي راح ما يسوؤني من الآلام والفقر وغيرهما ناسيا الله
سبحانه ووجوب شكره (إِنَّهُ) لقلّة تفكّره بشكر المنعم حين زوال الضرّ (لَفَرِحٌ) مسرور (فَخُورٌ) يتيه فخرا بين الناس لما أصابه من فضل وهو غير شاكر لذهاب
الضرّ ومجيء العافية.
١١ ـ (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) استثنى سبحانه ممن جحده (الَّذِينَ صَبَرُوا) قابلوا الضرّ بالصبر والنعمة بالشكر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فعلوا الطاعات وداوموا عليها (أُولئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثواب عظيم هو الجنّة بعد التجاوز عن ذنوبهم.
١٢ ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى
إِلَيْكَ ...) أي عساك يا محمد عند ما تتلو القرآن على مسمع من الكفار
تترك بعض ما فيه من التشنيع على آلهتهم دفعا لأذاهم (وَضائِقٌ بِهِ
صَدْرُكَ) أي تبدو متضايقا من تكذيبهم أو من اقتراحاتهم عليك (أَنْ يَقُولُوا) أي مخافة أن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ) يا ليت لو نزل عليه كنز من المال (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدّقه ويشهد له (إِنَّما أَنْتَ
نَذِيرٌ) أي منذر مخوف من عذاب الله (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي أنه حفيظ على كل شيء يقدر على النفع ودفع الضرر.
١٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : أيقولون افترى هذا القرآن واخترعه من عنده ونسبه إلى
الله ، ف (قُلْ) يا محمد لهم : (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي : جيئوا بعشر سور تضاهيه نظما وبلاغة وإعجازا تكون
مكذوبة على الله مثل هذا القرآن الذي تزعمون افتراءه وكذبه عليه ، وقد نزل بلغتكم
العربية وأنتم فصحاء. (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ) واطلبوا معونة من قدرتم عليه ليعينوكم على معارضته (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سوى الله (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في زعمكم إني افتريته.
١٤ ـ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ...) أي إذا لم يجب الكفار على هذا التحدّي (فَاعْلَمُوا) تيقّنوا أيها المسلمون (أَنَّما أُنْزِلَ) هذا القرآن (بِعِلْمِ اللهِ
وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ولم يفتر عليه. وقيل بل الخطاب للكفار : أي إذا لم يستجب
لكم من تدعونه لمشاركتكم في معارضة القرآن فاعلموا أن القرآن معجز من عند الله. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعني منقادون للحجة بعد قيامها عليكم ومسلّمون بأن القرآن
حقّ نزل من عند الله؟.
١٥ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها ...) والمعنى : أن الذين يرغبون في الحياة الدنيا وحسن بهجتها
من غير أن يحسبوا حسابا للآخرة (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمالَهُمْ فِيها) أي نعطهم جزاء أعمالهم تامة ، (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا يلحقهم النقص بشيء منه.
١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ ...) أي أن الذين يريدون الدنيا وزينتها فقط ، ليس لهم في
الآخرة (إِلَّا النَّارُ) التي يدخلونها بكفرهم (وَحَبِطَ) سقط لأنه جاء على خلاف الوجه المطلوب (ما صَنَعُوا) عملوا (فِيها) في الدّنيا (وَباطِلٌ) ذاهب سدى (ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من عمل لم يقصدوا به الله عزوجل.
١٧ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ ...) استفهام تقريري : أي هل من كان على برهان من الله. والبينة
هي القرآن أو نبوة محمد (ص) (وَيَتْلُوهُ) يتبعه (شاهِدٌ مِنْهُ) أي من يشهد بصحته وقيل الشاهد هو جبرائيل (ع) وقيل هو محمد
(ص). (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) وهو التوراة (إِماماً) دليلا يؤتمّ به في أمور الدين وأحكامه (وَرَحْمَةً) نعمة ولطفا منه سبحانه على عباده ، (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين هم على بينة من ربهم يؤمنون بمحمد (ص) أو
بالقرآن. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) يجحد بمحمد وبالقرآن (مِنَ الْأَحْزابِ) وهم المشركون عامة وأصحاب الأديان (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي هو موعود بها بحيث تكون مقرّه ومصيره. (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : لا تكن في شك من ربك ومما أنزله أيها النبيّ ، بل
أيها الإنسان السامع ، (إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ) الذي لا شك فيه من الله سواء أكان المقصود القرآن أم
النبيّ (ص) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون.
١٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً ...) هذا استفهام إنكاري يعني أنه ليس أظلم ممّن يكذب على الله
، (أُولئِكَ) المفترون (يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ) أي يوقّفون يوم القيامة بحيث يراهم الناس ويسألون عن
افتراءاتهم ، (وَيَقُولُ
الْأَشْهادُ) من الملائكة وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم الأئمة (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى
رَبِّهِمْ) أي كذبوا على رسل ربّهم وأضافوا إلى رسالاتهم ما لم يقله (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ) أي البعد عن رحمة الله للذين ظلموا أنفسهم بافترائهم.
١٩ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ ...) الجملة صفة للظالمين الذين لعنهم الله تعالى في الآية
السابقة ، أي : أولئك المفترون الملعونون هم الذين يصرفون الناس عن دين الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يريدون لسبيل الله زيغا وميلا عن الصواب (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالقيامة والحساب (هُمْ كافِرُونَ) جاحدون.
٢٠ ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ
فِي الْأَرْضِ ...) أي أولئك الكفار الملعونين سابقا ليسوا بفائتين الله إذا
حاولوا هربا في الأرض إذا أراد إهلاكهم (وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لهم من ينصرهم ويحميهم من بطش الله في الدنيا
والآخرة. (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) مضاعفته ليست زيادة والعياذ بالله عمّا يستحقون وقد علل
المفسرون هذه المضاعفة بأنه لا يقتصر لهم على عذاب الكفر ، بل يعاقبون على سائر
معاصيهم مجموعة ، (ما كانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ، وبما كانوا
يقدرون على الإبصار فلا يبصرون لعنادهم وكفرهم.
٢١ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ ...) أي أهلكوها بما استحقوا من عقاب فكان ذلك بمثابة الخسران
إذ ليس بعد ذلك عوض (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) فسّرناه سابقا.
٢٢ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : قيل : بأن هذا التعبير : لا جرم ، يستعمل في أمر لا
يرتاب فيه ، وعليه فيكون المعنى : لا شك أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة.
٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) بعد الكلام عن الكافرين وعن عذابهم الأخروي عقبه سبحانه
بالكلام عن المؤمنين أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وقاموا بطاعات ربهم التي رغّبهم
بها (وَأَخْبَتُوا إِلى
رَبِّهِمْ) أي أنابوا إليه وخشعوا (أُولئِكَ) الموصوفون (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيره.
٢٤ ـ (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى
وَالْأَصَمِّ ...) يضرب سبحانه هنا مثلا للمؤمنين والكافرين ، أي أن فريق
الكافرين (كَالْأَعْمى) الذي لا يبصر (وَالْأَصَمِ) الذي لا يسمع ولا يعي ، (وَ) فريق المؤمنين ك (الْبَصِيرِ
وَالسَّمِيعِ) الحاد البصر والقوي السمع (هَلْ يَسْتَوِيانِ) أي هل يتساوى السامع المبصر مع الأعمى الأصمّ (مَثَلاً) في مقام التمثيل والتشبيه؟ لا ، وكذلك لا يتساوى المؤمن
والكافر (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : ألا تتفكّرون بذلك لتجدوا الفرق بينهما؟
٢٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى
قَوْمِهِ ...) أي : قد بعثنا رسولنا نوحا إلى عشيرته فقال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فسّرناه سابقا.
٢٦ ـ (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أن توحّدوا الله وتعبدوه ولا تعبدوا غيره (إِنِّي أَخافُ) أخشى (عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي عذابه مؤلم موجع.
٢٧ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ...) أي فأجابه رؤوس الكفر والضلال من قومه قائلين : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) يعني أنك إنسان مثلنا زعما منهم بأن الرسول ينبغي أن يكون
من غير جنس المرسل إليهم ، (وَما نَراكَ
اتَّبَعَكَ) أي صدّقك وتابعك على أمرك (إِلَّا الَّذِينَ
هُمْ أَراذِلُنا) يعني السفلة ولم يتّبعك الأشراف والرؤساء (بادِيَ الرَّأْيِ) أي دون أن يتدبّروا قولك ، أو أنهم أظهروا لك ذلك وهم
يبطنون مخالفتك (وَما نَرى لَكُمْ
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ليس لك ولمن تبع مقالتك من إفضال علينا لا ماديا ولا
معنويا. (بَلْ نَظُنُّكُمْ
كاذِبِينَ) أي نحسبكم غير صادقين فيما أنتم عليه.
٢٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ ...) أي قال نوح (ع) : يا قوم ما رأيكم إن كانت دعوتي مبنيّة (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) برهان من ربي يصدّق نبوّتي (وَآتانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ) أي أعطاني نعمة جزيلة من عنده هي النبوّة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم لقلة تدبّركم فيها (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ) أي : أنكرهكم عليها ونلجئكم إلى الإيمان إلجاء؟ وهذا غير
مقدور لي.
٢٩ ـ (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
مالاً ...) قال نوح (ع) لقومه : إنني لا أطلب منكم مالا كأجر على
دعوتي لكم إلى الله فتمتنعوا عن إجابتي خوفا من دفعه. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ليس ثوابي في تحمّل أعباء الدعوة إلّا على الله وحده (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) لست بمبعدهم عني (إِنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ) أي سيقفون بين يديه يوم الحساب ويشكون إليه من طردهم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون الحق ، فإن الناس يتفاضلون بالدّين لا
بالدنيا وبهذا المقياس فهؤلاء الفقراء أفضل منكم فلما ذا أطردهم.
٣٠ ـ (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ
اللهِ ...) أي من يجيرني من عذاب الله (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أبعدتهم عني وخاصموني عند الله يوم القيامة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : أفلا تتفكرون فتدركوا حقيقة ما أقول.
٣١ ـ (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ
اللهِ ...) أي لا أتعالى وأرفع نفسي فوق قدرها فأدعي إنني أملك خزائن
الله وأتصرف فيها كيفما أشاء (وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ) لا أدّعيه حتى اطّلع على مكنونات صدوركم ومآل أموركم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي أنني لست من غير البشر لأخبركم بما ينزل من السماء من
عند نفسي ، (وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي لا أقول لمن تحتقرونهم من المؤمنين (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي لن يعطيهم في مستقبل حياتهم خيرا وثوابا على ما يعملون (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) لأنه مطّلع على ما في القلوب (إِنِّي إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ) لهم ، لو طردتهم تكذيبا لظاهر إيمانهم مع إني لا أعلم غيره.
٣٢ ـ (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا ...) أي أن قوم نوح (ع) قالوا له قد حاججتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فزدت في الحجاج (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) جئنا بالعذاب الذي وعدتنا به (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) بقولك أن ربّك يعذّبنا بكفرنا.
٣٣ ـ (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ
إِنْ شاءَ ...) أي : قال نوح : إن العذاب رهن بإرادة الله تعالى ، فإن شاء
قدّمه وإن شاء أخّره (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي لا تفلتون من قبضته.
٣٤ ـ (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ...) أي لا يفيدكم ما أقدّمه إليكم من النّصح (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ) إذا شاء الله أن يحرمكم من رحمته ويعاقبكم على الكفر. (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالله تعالى هو خالقكم ومالككم وإلى حكمه يصير أمركم.
٣٥ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي أنك يا محمد حين تروي قصة نوح (ع) مع قومه لكفار مكة :
هل يقولون افتريت هذا النبأ من عندك؟ (قُلْ) لهؤلاء المكابرين : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) إذا كنت قد كذبته وجئت به من عند نفسي (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) فأنا أتحمّل عقوبة جرمي (وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تُجْرِمُونَ) وأنا لا أتحمل وزر إجرامكم.
٣٦ ـ (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ...) أي أعلمه الله تعالى أنه لن يصدّقك في دعوتك أحد من قومك
في المستقبل ، (فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تغتم بسبب ما كانوا يفعلون من العناد والمعاصي.
٣٧ ـ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا
وَوَحْيِنا ...) أي اعمل السفينة التي قدّرنا أن تركبها أنت مع المؤمنين بك
بمرأى منا وعلى ما أوحينا إليك من صفتها وتجهيزها. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي لا تسألني العفو عن الكافرين من قومك فإنهم سيهلكون
بالطوفان.
٣٨ ـ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ...) أي وشرع نوح (ع) بصناعة السفينة كما أمر الله (وَ) كان (كُلَّما مَرَّ
عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي كلما اجتاز به جماعة من رؤساء قومه (سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به : (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي كان نوح يقول لهم : إننا نستهزئ بكم كما استهزأتم بنا
وننظر إليكم نظرنا إلى الجاهلين.
٣٩ ـ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ ...) أي ستعرفون أيها الساخرون المكابرون من منّا يحلّ به
العذاب الذي يفضحه ويهينه في الدّنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) ينزل به (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم يوم القيامة.
٤٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا ...) لفظة (حَتَّى) متعلّقة بقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا). أي استمرّ العمل والحوار حتى حلّ قضاء الله بإنزال العذاب
على قوم نوح (ع) (وَفارَ التَّنُّورُ) أي ارتفع الماء فيه بشدّة وخرج مندفعا. (قُلْنَا) أي قال الله لنوح : (احْمِلْ فِيها) خذ معك في السفينة (مِنْ كُلٍ) من كل جنس من الحيوان (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، (وَ) احمل (أَهْلَكَ) أي أفراد عائلتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من سبق أن وعدناه بالهلاك وهما امرأته واغلة وابنها
كنعان (وَ) احمل أيضا (مَنْ آمَنَ) بك وصدّقك من غير أهلك ، (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) فقيل هم ثمانون ، وقيل أقل من ذلك.
٤١ ـ (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها ...) أي قال نوح للمؤمنين معه : اركبوا في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي قائلين أو متبركين باسم الله وقت جريانها ووقت رسوّها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن ذكره سبحانه طاعة والطاعة تجلب المغفرة والرحمة.
٤٢ ـ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ ...) يعني أن السفينة كانت تسير بنوح (ع) وبمن معه وسط أمواج
كالجبال في عظمها وارتفاعها. (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) خاطب ولده كنعان وكان في قطعة من الأرض غير التي كان نوح
فيها. (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) اصعد في السفينة (وَلا تَكُنْ مَعَ
الْكافِرِينَ) لتسلم من الغرق.
٤٣ ـ (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي
مِنَ الْماءِ ...) أي قال ابن نوح سأدخل إلى مأوى في أعلى الجبل يحميني من
الغرق ف (قالَ) نوح : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ) لا مانع ولا دافع في هذا اليوم : يوم نزول العذاب (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) سوى من شمله لطف الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ) فصل الموج بين نوح وابنه (فَكانَ) أي فصار ابن نوح (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الذين غمرهم الماء.
٤٤ ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) أي جاء الأمر من الله أن يا أيتها الأرض اشربي الماء الذي
غمرك حتى يجف أديمك (وَيا سَماءُ
أَقْلِعِي) أي امسكي عن المطر (وَغِيضَ الْماءُ) أي انسرب في باطن الأرض (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تمّ أمر إهلاك الكفار ونجاة نوح والمؤمنين به (وَاسْتَوَتْ) استقرّت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو جبل معروف (وَقِيلَ بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال الملائكة أو نوح (ع) وجماعته النّاجون : أبعد الله
الظالمين من رحمته.
٤٥ ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ ...) أي دعاه دعاء تعظيم وابتهال قائلا : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي : اللهمّ خالقي إن ابني من عائلتي (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) فقد وعدتني بحمل أهلي معي ، ووعدك لا خلف فيه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) حكيم في فعلك وتدبيرك.
٤٦ ـ (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ ...) أي قال الله تعالى له : إن ابنك ليس من أهلك الّذين قضيت
بنجاتهم. وقيل إن المراد أنه ليس على دينك. (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) أي أنه ذو عمل غير صالح. (فَلا تَسْئَلْنِ) لا تطلب منّي معرفة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) ما لا تعرفه (إِنِّي أَعِظُكَ) أدعوك بالحسنى (أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) أي لئلّا تكون منهم.
٤٧ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْئَلَكَ ...) أي قال نوح أستجير بك يا ربّ من أن أسألك (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما لم أعرف أنه صواب (وَإِلَّا) أي : وإن لم (تَغْفِرْ لِي) تتجاوز عمّا صدر عنّي (وَتَرْحَمْنِي) ويشملني لطفك ورحمتك (أَكُنْ مِنَ
الْخاسِرِينَ) يكون نصيبي الخسران.
٤٨ ـ (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ ...) هذا من تمام كلامه سبحانه عن إرساء السفينة بعد هدوء
الطوفان ، حيث أمر نوح أن اهبط : انزل من السفينة (بِسَلامٍ مِنَّا) سالما ، وقيل بتحيّة من الله (وَبَرَكاتٍ) ونعم كثيرات (عَلَيْكَ وَعَلى
أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي عليك وعلى جماعة المؤمنين الذين معك في السفينة ، (وَأُمَمٌ) يكونون من نسلهم (سَنُمَتِّعُهُمْ) سننعم عليهم بما يرتعون به في الدنيا ويكفرون (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) يصيبهم (مِنَّا عَذابٌ
أَلِيمٌ) موجع غاية الوجع.
٤٩ ـ (تِلْكَ ...) أي تلك الأخبار
التي سردناها لك من قصة نوح هي (مِنْ أَنْباءِ) أخبار (الْغَيْبِ) الذي يغيب علمه عن الناس (نُوحِيها إِلَيْكَ) ننزلها عليك وحيا من السماء (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) لم تكن عارفا بها (أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
مِنْ قَبْلِ هذا) قبل هذا القرآن المنزل بها (فَاصْبِرْ) على أذى قومك (إِنَّ الْعاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ) أي الآخرة المحمودة تكون للمؤمنين المتجنّبين ما يسخط الله
تعالى.
٥٠ ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ...) عاد سبحانه يقص ما جرى على الأنبياء من أممهم فقال لمحمد (ص)
: وأرسلنا إلى قوم عاد (أَخاهُمْ) هودا. وقد عنى سبحانه أن هودا من قومه بالنّسب لا بالدّين.
وقد (قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ) أي وحّدوه وأطيعوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) ليس لكم ربّ خالق رازق سواه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُفْتَرُونَ) يعني : ما أنتم إلّا كاذبون في قولكم بألوهيّة الأصنام.
٥١ ـ (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً ...) أي : يا جماعتي لا أطلب منكم أجرة على دعائكم إلى الحق (إِنْ أَجْرِيَ) ليس جزائي (إِلَّا عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي) الذي خلقني وكلّفني بذلك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتدبّرون عني
ما أبلّغكم إياه؟
٥٢ ـ (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ...) أي اطلبوا مغفرة خالقكم (ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ) أعلنوا امتناعكم عن المعاصي وندمكم على ما سبق منكم (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) أي ينزل المطر عليكم من السماء متتابعا منهمرا (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) أي أطيعوه يغثكم ويزد في مالكم وأولادكم ، (وَلا تَتَوَلَّوْا) لا تنصرفوا عن دعوتي (مُجْرِمِينَ) مشركين.
٥٣ ـ (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا
بِبَيِّنَةٍ ...) يعني أن قوم هود حين دعاهم إلى الله لم يصدّقوا أنه رسول
وقالوا ما جئتنا بمعجزة تثبت صدقك (وَما نَحْنُ
بِتارِكِي آلِهَتِنا) ولسنا ندع عبادة الأصنام (عَنْ قَوْلِكَ) صدورا في ذلك عن قولك الذي لم نصدّقه. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي لسنا بمصدّقين لك.
٥٤ ـ (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ
آلِهَتِنا بِسُوءٍ ...) أي لا نقول إلّا أنّه قد أصابك سوء من بعض أربابنا فجننت (قالَ) هود لقومه : (إِنِّي أُشْهِدُ
اللهَ) أي أجعله شهيدا (وَاشْهَدُوا) أنتم أيضا (أَنِّي بَرِيءٌ) متبرّئ متنصل (مِمَّا تُشْرِكُونَ) تعبدون من دون الله.
٥٥ ـ (مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً
ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) : يعني أن هودا بعد أن تبرّأ من آلهتهم تحدّاهم وسخر من
زعمهم أن آلهتهم عاقبته فقال : احتالوا وامكروا ما وسعكم المكر لإلحاق المكروه بي
، ثم لا تمهلوني.
٥٦ ـ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ ...) أي : إني فوّضت أمري إلى الله خالقي وخالقكم (ما مِنْ دَابَّةٍ) ليس من كائن يسعى على الأرض (إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها) الناصية هي مؤخّر الرقبة وأعلاها ، فالله تعالى مالك
الرّقاب (إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي هو على عدل في حكمه وقضائه مع ملكه للنواصي ، وتدبيره
للخلق.
٥٧ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا ...) أي : إن تنصرفوا عن دعوتي فإنّي (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) أوصلت إليكم (ما أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ) ما بعثت لأنقله إليكم عن ربّي ، (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً
غَيْرَكُمْ) يأتون بعدكم ويستبدلكم بهم (وَلا تَضُرُّونَهُ
شَيْئاً) لا تقدرون على ضرّه إذا فعل بكم ذلك ولا إذا تولّيتم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحرسني ويحرس كل شيء عن التلف والهلاك.
٥٨ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
هُوداً ...) أي لمّا حان وقت قضائنا بإهلاك عاد خلّصنا هودا (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ومن صدّقوا به ، (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بنعمة منّا خصصناهم بها (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ
عَذابٍ غَلِيظٍ) من عذاب عظيم وهو عذاب الآخرة.
٥٩ ـ (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ ...) أي (تِلْكَ) القبيلة التي هي عاد كفروا بالمعجزات التي أراهم إياها
ربّهم للدلالة على صحة نبوّة هود (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أي تمرّدوا على رسوله ، وإنما جمع لفظة «رسل» لأن من كذّب
رسولا فقد كذّب سائر الرّسل. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ
كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي تابع قوم عاد رؤساءهم الجبّارين المتكبّرين المعاندين
لنبيّه.
٦٠ ـ (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً ...) أي : إهلاك عاد لحقت بهم لعنة في هذه الدّنيا ، هي إبعادهم
من رحمة الله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم البعث والنشور يبعدون أيضا من رحمة الله (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوا بربهم ، (أَلا بُعْداً لِعادٍ
قَوْمِ هُودٍ) أي إبعادا لهم من رحمة الله.
٦١ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ...) أي : وأرسلنا صالحا إلى قبيلة ثمود. (قالَ) صالح (يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فسّرناه سابقا (هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ) يعني ابتدأ خلقكم من الأرض لأن آدم من تراب (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي صيّركم عمّارا لها تعملون فيها بحسب حاجاتكم وقيل :
أطال أعماركم إذ كانت أعمارهم تتراوح بين ثلاثمائة وألف سنة (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ) مر معناه. (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ
مُجِيبٌ) أي برحمته لمن عبده مجيب لمن دعاه.
٦٢ ـ (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا
مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا ...) أي قالت قبيلة ثمود : يا صالح كنت محلّ رجائنا لكل خير قبل
دعوتك هذه ، (أَتَنْهانا أَنْ
نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) استفهام إنكار عليه لمنعه إياهم من تقليد آبائهم بعبادة
الأصنام (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) ريب (مِمَّا تَدْعُونا) تنتدبنا (إِلَيْهِ) من الدّين (مُرِيبٍ) باعث على الشك مثير للتهمة.
٦٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ ...) قد مرّ تفسير هذه الآية وقد وردت هنا على لسان صالح (ع). (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي منحني نعمة النبوّة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي
مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) أي من يمنع عني عذابه في حال معصيتي له. (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي أنني إن أجبتكم إلى ما تريدونه مني أخسر كثيرا. وعن ابن
عباس : ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم.
٦٤ ـ (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ
آيَةً ...) أي هذه الناقة التي جعلها الله سبحانه معجزة لي حين أخرجها
من بطن الصخرة وأنتم تشاهدون خروجها بحسب الصفات التي طلبتموها وهي حامل تشرب
الماء جميعه في يوم وتنفرد به فلا ترده معها دابّة غيرها ، وتدعه لهم يوما آخر. (فَذَرُوها) دعوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللهِ) ترعى العشب والنبات (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ) لا تصيبوها بمكروه (فَيَأْخُذَكُمْ) ينالكم إن فعلتم بها شيئا (عَذابٌ قَرِيبٌ) أي عاجل.
٦٥ ـ (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي
دارِكُمْ ...) العقر هو النحر عقرها أحمر ثمود الذي ضربت به العرب المثل
في الشؤم ، فقال لهم صالح : تنعّموا في بلادكم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) يحلّ بعدها بكم العذاب. وقيل إنه لما عقرت الناقة صعد
فصيلها الجبل ورغا ثلاث مرات فقال صالح : لكلّ رغوة أجل يوم ، فاصفرّت ألوانهم في
اليوم الأول واحمرّت في الغد ، ثم اسودّت في اليوم الثالث ، فهو قوله تعالى : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي وعد صدق لا كذب فيه.
٦٦ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
صالِحاً ...) مرّ تفسير مثلها ، (وَمِنْ خِزْيِ
يَوْمِئِذٍ) أي من العيب والفضيحة التي حلّت بهم في يوم نزول العذاب
عليهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر على ما يشاء الذي لا يمتنع عليه شيء.
٦٧ ـ (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ ...) أي : أماتتهم الصيحة التي قيل إن الله سبحانه أمر جبرائيل (ع)
بها ، فصاح صيحة ماتوا منها (فَأَصْبَحُوا فِي
دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي صاروا ميّتين في منازلهم قاعدين على ركبهم.
٦٨ ـ (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ...) أي كأنهم لم يظهر لهم أثر في منازلهم العالية لاجتثاثهم
بالهلاك. (أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) مرّ تفسير مثله بالنسبة لعاد.
٦٩ ـ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ
بِالْبُشْرى ...) انتقل سبحانه لقصة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) فذكر أن
رسله من الملائكة قد جاءته بالبشارة بإسحاق (ع) وقيل بإسماعيل (ع) من هاجر ، وأنه
يكون نبيّا. (قالُوا سَلاماً) أي نسلّم عليك سلاما ونحيّيك ، (قالَ) إبراهيم (ع) جوابا لهم (سَلامٌ فَما لَبِثَ
أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي : فما أبطأ أن جاءهم بعجل مشويّ.
٧٠ ـ (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ
إِلَيْهِ ...) أي فلما رأى أيدي الملائكة لا تمسّ العجل (نَكِرَهُمْ) أي أنكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً) أضمر منهم خوفا. (قالُوا) له : (لا تَخَفْ) لا تفزع يا إبراهيم (إِنَّا أُرْسِلْنا
إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي بعثنا إليهم بالهلاك.
٧١ ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ ...) هي امرأة إبراهيم (ع) : سارة بنت هاران وقيل كان واقفة على
خدمة الأضياف (فَضَحِكَتْ) قيل تبسّمت فرحا لأنها كانت تشمئز من غفلة قوم لوط وتنصح
إبراهيم بضم لوط إليه خوف نزول العذاب. وقيل : ضحكت بمعنى حاضت. (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي بنبيّين.
٧٢ ـ (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا
عَجُوزٌ ...) أي قالت سارة : يا ويلتي أو يا ويلي ، وهي كلمة حرب تقال عند
ورود الأمر العظيم الذي يصعب على الإنسان حمله. فقد تعجّبت سارة على كل حال كيف
تحمل وتلد وهي شيخة وزوجها شيخ وقد طعنا في السنّ؟ فكيف ألد وأنا عجوز (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وهذا زوجي كما ترونه شيخ متقدّم في عمره. (إِنَّ هذا) الذي بشرتموني به (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) غير مألوف عادة.
٧٣ ـ (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
...) أي قال الملائكة لسارة حين رأوا استهجانها : أتستغربين أمر
الله تعالى أن تلد العجوز بعد كبرها وكبر زوجها؟ (رَحْمَتُ اللهِ
وَبَرَكاتُهُ) أي لطفه وكثير خيراته النامية (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي : يا أهل بيت النبوّة. (إِنَّهُ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ) أي أن الله هو المحمود على جميع فعاله ، الكريم المعطي قبل
الاستحقاق.
٧٤ ـ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ
الرَّوْعُ ...) أي : حين زال الفزع عن إبراهيم (ع) مما دخله من أمر الرّسل
(وَ) حين (جاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد الجديد ، أخذ (يُجادِلُنا) أي يسائل رسل الله (فِي قَوْمِ لُوطٍ) وبشأن إنزال العذاب عليهم.
٧٥ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ
مُنِيبٌ) : فسّرنا معناها في سورة التوبة.
٧٦ ـ (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ...) أي قالت الملائكة له : انصرف عن الجدال في هذا الموضوع (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي قضي الأمر بنزول العذاب (وَإِنَّهُمْ) أي قوم لوط (آتِيهِمْ) نازل عليهم (عَذابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ) غير مدفوع.
٧٧ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ
بِهِمْ ...) أي حين خرج الملائكة من عند إبراهيم وجاؤوا لوطا في صورة
الآدميّين ساءه مجيئهم لأنه خاف عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ
ذَرْعاً) أي انقبض قلبه لمجيئهم (وَقالَ هذا يَوْمٌ
عَصِيبٌ) صعب كثير الشرّ مخيف.
٧٨ ـ (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ
...) أي أسرعوا يتدافعون ويسوق بعضهم بعضا نحو بيت لوط (وَمِنْ قَبْلُ) أي أسرعوا يتدافعون ويسوق بعضهم بعضا نحو بيت لوط (وَمِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيئهم هذا ومجيء الملائكة (عليهمالسلام) إلى بيته
وضيافته. (كانُوا) قوم لوط (يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ) أي يفعلون الفواحش ويطلبون الذكور ، ولذلك (قالَ) لوط : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ
بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أي لمّا أرادوا فعل القبيح وجاهروه به عرض عليهم نكاح
بناته لأنهنّ أحلّ ، لهم من الذكور. (فَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه وتجنّبوا عقابه (وَلا تُخْزُونِ فِي
ضَيْفِي) أي لا تلحقوا بي الخزي والعيب والعار بالهجوم على أضيافي ،
(أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ) ما فيكم رجل يتمتع برشد وعقل فينهى عن هذا المنكر.
٧٩ ـ (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي
بَناتِكَ ...) أي حين دعاهم إلى النكاح الحلال المباح وعرض عليهم بناته ،
قالوا : ما لنا في بناتك (مِنْ حَقٍ) أي ليس لنا بهنّ حاجة ، (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ
ما نُرِيدُ) تعرف مرادنا المنحصر في طلب الذكور دون الإناث.
٨٠ ـ (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ...) قال : يا ليت لو كان لي قدرة على منعكم أو جماعة يساعدوني
على ردعكم عن أضيافي (أَوْ آوِي إِلى
رُكْنٍ شَدِيدٍ) أو أدخل في عشيرة وشيعة لي تنصرني عليكم.
٨١ ـ (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ
...) أي قال الملائكة بعد ذلك الجدال : يا لوط إننا مرسلون من
الله تعالى لإهلاكهم (لَنْ يَصِلُوا
إِلَيْكَ) لا ينالونك بأذى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) أي : سر ليلا بعائلتك واترك القرية. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في ظلمته ، وقيل بعد مضيّ جزء منه وقيل في نصفه (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر نحو القرية ـ وراءكم ـ أحد منكم تعبّدا لله
بالطاعة (إِلَّا امْرَأَتَكَ) نستثني خروجها معك لأنها على دين قومها. (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي سيحلّ بها من العذاب ما يحلّ بهم (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) وقت إهلاكهم (أَلَيْسَ الصُّبْحُ
بِقَرِيبٍ) أي أنه غير بعيد.
٨٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ...) أي : فحين نزل أمرنا بإيقاع الهلاك ، (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) قلبناها ، أعني القرية التي كانت تعمل الخبائث ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً) أي أنزلنا على أهل القرية حجارة من السماء تغليظا
لعقوبتهم. (مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين الأرض الشديد الصلابة وقيل : كما في المجمع :
السجّيل : بمعنى السجّين وهو النار. وقال الراغب : هو حجر وطين مختلط ، وأصله فيما
قيل فارسي معرّب. يشير إلى أن أصله : سنك كل ، وقيل إنه : مأخوذ من السجلّ بمعنى الكتاب
، كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الهلاك ، وقيل : مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت. (مَنْضُودٍ) مرتّب الحروف والصقل.
٨٣ ـ (مُسَوَّمَةً ...) أي معلمة موسومة معدّة للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في علمه (وَما هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي : وليست تلك الحجارة بعيدة عن إصابة الظالمين من أمتك
يا محمد وغيرهم. وهي مسوقة للتهديد. وقد ورد في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير
عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى : وأمطرنا ... إلخ قال : ما من عبد يخرج من
الدنيا يستحل عمل لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه ، ولكن
الخلق لا يرونه.
٨٤ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) يعني : وأرسلنا إلى أهل مدينة مدين شعيبا. ومدين هو ابن
إبراهيم (قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فسّرناه قريبا (وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي لا تنقصوا من حقوق الناس بالتطفيف عند الكيل والوزن (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي في خصب ورخص أسعار. (وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي : أخشى عليكم عذابا لا يفلت منه أحد.
٨٥ ـ (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ...) أي أدّوا حقوق الناس عند الكيل أو الوزن بالعدل (وَلا تَبْخَسُوا) أي لا تنقصوا (النَّاسَ
أَشْياءَهُمْ) أموالهم وسلعهم (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تسعوا في الفساد وتنشروه في الأرض.
٨٦ ـ (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ...) أي ما يبقى لكم من رزق الله الحلال ، وممّا أنعم عليكم من
فضله هو خير من نقص الميزان وبخس المكيال فأداء الأمانة وتوفية الحقوق من شروط
الإيمان (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ) أي ولست كفيلا بحفظكم ولا بحفظ نعم الله عليكم.
٨٧ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ ...) فقال له قومه استهزاء : هل صلاتك التي تدّعي أنها تأمر
بالخير وتنهى عن الشر هي التي أمرتك (أَنْ نَتْرُكَ ما
يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟) ودينك يأمر بأن نترك نحن دين آبائنا ويقيّد حرّيتنا في
التصرف في أموالنا. (إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) اللطيف بمعاملة قومك.
٨٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ...) فسّرنا هذا التعبير فيما مضى (وَرَزَقَنِي مِنْهُ
رِزْقاً حَسَناً) أي أنه مع النبوّة موسع عليّ في الرزق وكان شعيب كثير
المال. (وَما أُرِيدُ أَنْ
أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لن أدخل في شيء أنهاكم عن فعله وأنا أول العاملين بما
آمركم به (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ
مَا اسْتَطَعْتُ) أي أريد إصلاح أموركم الدنيوية والأخروية ، بحسب قدرتي
عليها (وَما تَوْفِيقِي
إِلَّا بِاللهِ) أي لست موفقا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا
بعناية من الله ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يعني : أفوّض أمري إلى ربي.
٨٩ ـ (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي
...) أي يا أهل عشيرتي إن خلافي ونزاعي لا يمنع (أَنْ يُصِيبَكُمْ) يحلّ عليكم العذاب العاجل (مِثْلُ ما أَصابَ
قَوْمَ نُوحٍ) إذ هلكوا بالغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) إذ أهلكوا بالريح العقيم (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) الهالكين بالرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ
مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي أنهم أقرب ما يكون إليكم في الزمان والمكان فاتّعظوا
بهم. وقيل : كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون ، وقد كان لوط
معاصرا لإبراهيم (ع) ، وشعيب معاصرا لموسى (ع). وقيل : أريد به نفي البعد المكاني
والإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدسة.
٩٠ ـ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ ...) مر معناه (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ
وَدُودٌ) فهو لطيف بعباده شفيق عليهم محبّ لهم ومريد لمنافعهم.
٩١ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ
كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ...) أي قال قوم شعيب له : لسنا نفهم أكثر ما تقوله من وعظك
وإرشادك ونحن نسمعه ولا نعيه. (وَإِنَّا لَنَراكَ
فِينا ضَعِيفاً) هزيل البدن ضعيف القوة. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ
لَرَجَمْناكَ) أي لولا عشيرتك وأقاربك لقتلناك رميا بالحجارة وقيل : إن
الرهط من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة ، وعلى ذلك نفي قولهم : رهطك ، إشارة إلى
قلتهم وهوان أمرهم. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا
بِعَزِيزٍ) ولست ممتنعا منّا بقوّة تحميك.
٩٢ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ
عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ...)
قال شعيب لقومه : أعشيرتي
أعظم حرمة عندكم من الله ، (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي جعلتم الله تعالى (وَراءَكُمْ
ظِهْرِيًّا) وراء ظهوركم ونسيتم ذكره ولم تعتنوا به.؟ (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بجميع أعمالكم لا يفوته شيء منها. وفي الآية طعن
في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.
٩٣ ـ (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ ...) أي : اعملوا بحسب الحالة التي أنتم عليها من الكفر يعني
ابقوا (إِنِّي عامِلٌ) بما أمرني به ربّي ، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ستعرفون (مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) يفضحه ويهينه وسيتضح لكم الصادق من الكاذب منّا. (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) انتظروا ما أعدكم به من عذاب ربّي وأنا انتظر ذلك معكم. وقد
استبطن هذا القول تهديدا شديدا من شعيب ، فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا
يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوة
والتمكن فلهم عملهم وله عمله ، فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الذي
سوف يأخذه العذاب ، هم أو هو؟
٩٤ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
شُعَيْباً) إلى آخر الآية ... مضى تفسيرها بالنسبة للرّسل السابقين
صلوات الله عليهم.
٩٥ ـ (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) إلى آخر الآية ... فسّرناها سابقا.
٩٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بعثناه بحججنا المؤيدة لرسالته ونبوته (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة ناصرة له ومقوّية لأمره.
٩٧ ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي وأشراف قومه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ
فِرْعَوْنَ) أخذوا به ، وتركوا أمر الله (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ليس ذا رشد ولا يهدي إلى الخير.
٩٨ ـ (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) يمشي أمامهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم الحساب (فَأَوْرَدَهُمُ
النَّارَ) أي أدخلهم جهنم (وَبِئْسَ الْوِرْدُ
الْمَوْرُودُ) أي ساء وبؤس ذلك المكان الذي وروده كما يرد العطاش إلى
الماء.
٩٩ ـ (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ...) مر معناه (بِئْسَ الرِّفْدُ
الْمَرْفُودُ) أي ساء ذلك العطاء المعطى لهم وهو اللعنة بعد اللعنة.
١٠٠ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ
عَلَيْكَ ...) أي ذلك النبأ الذي أخبرناك به يا محمد ، هو من أخبار
البلدان للأمم السالفة (مِنْها قائِمٌ) أي معمور (وَحَصِيدٌ) مندرس وخراب.
١٠١ ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ...) أي ما جرنا عليهم بإهلاكهم ، ولكنهم ألحقوا الظلم بأنفسهم
بكفرهم (فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أي لم تفدهم الأصنام التي عبدوها بدفع الشر عنهم ، (الَّتِي) كانوا (يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ولم تنفعهم (لَمَّا جاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ) حين نزل عذابه
عليهم (وَما زادُوهُمْ) ما كانوا يدعونه من دون الله (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) سوى التخسير.
١٠٢ ـ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ
الْقُرى ...) أي على هذا الشكل العنيف الذي ذكرناه يكون إهلاك ربّك لأهل
القرى الجائرة حين يأخذ أهلها بكفرهم وبذنوبهم (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وأهلها ظالمون. (إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي أن تأديب الله للظالم بالهلاك موجع شديد الإيجاع.
١٠٣ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي أن فيما قصصناه عليك يا محمد من إهلاك تلك الأقوام على
وجه العقوبة على كفرهم ، لدلالة وعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ
الْآخِرَةِ) : لمن خشي وحذر من العقاب في يوم القيامة ، (ذلِكَ يَوْمٌ) أي يوم القيامة (مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ) محشور فيه الأوّلون والآخرون للحساب (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يراه الخلائق جميعهم ويشهدونه من الجنّ والإنس والملائكة.
١٠٤ ـ (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ
مَعْدُودٍ ...) أي : وما نؤخّر يوم القيامة إلا لوقت قد عيّناه وحتمنا
وقوعه فيه.
١٠٥ ـ (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ ...) أي : حين يجيء يوم القيامة ترى الخلائق فيه صامتين ذاهلين
لا يتكلّم أحد إلّا برخصة من الله. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) أي الناس يصيرون قسمين : الأشقياء المستحقّون للعقاب ،
والسعداء الفائزون بنعيم الله ورضوانه.
١٠٦ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ ...) أي أن الّذين صنّفوا أشقياء باستحقاقهم العذاب جزاء على
أعمالهم القبيحة يكونون في النار (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النّفس بقوّة ، والشهيق إدخاله بقوّة وهما من
أصوات كل محزون ومكروب.
١٠٧ ـ (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ ...) أي باقين فيها معذّبين بذنوبهم ما دامت السماوات وأرض
الآخرة المبدلتين وهو كناية عن الدوام والاستمرار (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) وقيل في معنى هذا الاستثناء : إنه استثناء في الزيادة من
العذاب لأهل النار ، والزيادة من النعيم لأهل الجنة بتقدير : إلّا ما شاء ربّك من
الزيادة على هذا المقدار وقيل غير ذلك. (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا ينازعه أحد في ملكه ولا في حكمه العدل.
١٠٨ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ ...) أي أن الذين نالتهم السعادة برضوان الله لطاعاتهم وبعدهم
عن المعاصي ، فيكونون في الجنّة (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) مر معناه وتعليله. (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع.
١٠٩ ـ (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ
هؤُلاءِ ...) أي فلا تشكّ بعد ظهور الدلالات على بطلان ما يعبد هؤلاء
المشركون من دون الله ، وعلى أن مصيرهم إلى النار (ما يَعْبُدُونَ
إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي على جهة تقليد آبائهم (وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ) لمعطوهم (نَصِيبَهُمْ) أي حظّهم من العقاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) بمقدار ما يستحقون ولا ننقصه أبدا.
١١٠ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) أي أعطى الله موسى التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي اختلف قومه في صحة نزوله عليه ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ) وهي تأخير الجزاء على المعاصي للآخرة لعلمه بالمصلحة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فصل الأمر بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي أن الكافرين في شك شديد من صدق وعد الله تعالى بالبعث.
١١١ ـ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ...) أي : وإن كلّا من الفريقين : المصدّقين ، والمكذّبين ،
ليعطينّهم ربّك جزاء أعمالهم وافيا دون نقص (إِنَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالهم لا تخفى عليه خافية.
١١٢ ـ (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ ...) أي داوم يا محمد على تبشيرك وإنذارك وامض لما أمرت به أنت
ومن عاد عن الشرك وآمن بك (وَلا تَطْغَوْا) يعني لا تتجاوزوا ما أمر الله زيادة أو نقصانا (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى ما أنتم عليه ويرى عملكم ولا يخفى عليه شيء من ذلك.
١١٣ ـ (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا ...) أي : ولا تطمئنوا وتميلوا إلى المشركين في شيء من دينكم عن
ابن عباس ، ولا تداهنوا الظّلمة عن السدي وكثيرين غيره. والركون المنهيّ عنه هو
الدخول معهم والرضا بفعلهم ومخالطتهم وموالاتهم ، وهو ـ كما عن أئمة الهدى عليهمالسلام ـ المودة والنّصيحة والطاعة. فلا تفعلوا ذلك (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي فيصيبكم عذابها (وَما لَكُمْ) حينئذ وفي كل حين (مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار غيره يدفعون عنكم عذاب النار (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) على أعدائكم في الدّنيا ولا تنصرون في الآخرة.
١١٤ ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ...) أي أدّ الصلاة تامة الأجزاء والشرائط في طرفي النّهار
اللذين هما الفجر والمغرب ، وزلفا من الليل : هي هنا الأوقات المتقاربة ، في أول
ساعات الليل كصلاة العشاء الآخرة ، ولم يذكر صلاتي الظّهر والعصر هنا لذكرهما
إجمالا في مورد آخر ولظهور أمرهما (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قيل أن الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب. وقيل في
المعنى أيضا : إن الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات فكأنه يذهب بها. (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي ما بيّنه من إذهاب الحسنات للسيئات هو عبرة وموعظة لمن
تذكّر وتفكّر.
١١٥ ـ (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) : أي اصبر على القيام بالصّلاة وجميع الواجبات وعلى أذى
قومك وكل ما تلاقيه من مشقات في طريق القيام بدعوتك وإن ربّك يحفظ لك أجرك وثوابك
لأنه لا يهمل مكافأة أي محسن.
١١٦ ـ (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ...) مفهوم هذه الصيغة هو النفي ، ومعناها : كان يجب أن يكون
قوم هذه صفتهم بعد أن أنعم الله تعالى عليهم بالعقل وهداهم بالرّسل وأقام عليهم
الحجج. ولا يخفى أن في ذلك توبيخا لمن سلك طريق الأولين من بثّ الفساد الذي كان
عليه قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم ، وتعجبا من حال من يكون كذلك مع معرفته
بهلاكهم. فكيف لم تكن من جملتهم بقية من جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،
وكيف اجتمعوا على الكفر حتى أهلكهم الله بالاستئصال (إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي : سوى عدد قليل منهم نهوا عن الفساد ، كالأنبياء
والصالحين من أتباعهم الذين جنّبناهم العذاب وخلّصناهم منه بقدرتنا. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما
أُتْرِفُوا فِيهِ) أي انصرف الكافرون والمشركون للنّعم التي كانوا فيها
واشتغلوا بها عن الإيمان والطاعة. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) مصرين على جرم الكفر وظلم أنفسهم.
١١٧ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى
...) قيل إن معناها : وما كان ربّك ليهلك القرى (بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) بظلم منه لهم ، وإنما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم ... وقيل إنه
لا يؤاخذهم بظلم واحد منهم مع أن أكثرهم مصلحون ، ولكن إذا عمّ الفساد وظلم
الأكثرون عذّبهم.
١١٨ ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً واحِدَةً ...) أي لو أراد الله أن يكون الناس على ملّة واحدة ودين واحد
بحيث يكونون مؤمنين مطيعين لفعل. ولكنه حينئذ يلجئهم إلى الإيمان إلجاء ولكنه
سبحانه لم يفعله لأن فيه إبطالا لحكمة التكليف وفلسفة الثواب والعقاب (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) متفرّقين في الدين بين يهودي ونصراني ومجوسي وغيره.
١١٩ ـ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ...) أي من المؤمنين فإنهم يجتمعون على الحق ولا يختلفون (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي وللرحمة خلقهم. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ) أي كمل وحيه ووعده ووعيده لعباده ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأركسنّهم فيها لكفرهم.
١٢٠ ـ (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْباءِ الرُّسُلِ ...) أي وكل هذه القصص نرويها لك من أخبار الأنبياء (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ما نقوّي قلبك به ونثبّته على الإيمان لتطيب نفسك (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) وأوصلنا إليك الحق في هذه الأنباء (وَمَوْعِظَةٌ) تزجر الناس عن المعاصي وترغّبهم بالطاعات (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تذكّرهم الآخرة وما فيها.
١٢١ ـ (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) أي : قل يا محمد للكافرين بقولك : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي افعلوا ما أنتم عليه من فعل ، (إِنَّا) نحن (عامِلُونَ) ما أمرنا به ربّنا.
١٢٢ ـ (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ...) أي : توقّعوا حصول ما وعدكم به ربّكم من العقاب على كفركم
، ونحن متوقّعون الوصول إلى ما وعدنا ربّنا من الثواب على الإيمان.
١٢٣ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي أنه تعالى عالم ما غاب في السّماوات والأرض ولا يخفى
عليه شيء فيهما ، (وَإِلَيْهِ) إلى الله وحده (يُرْجَعُ الْأَمْرُ
كُلُّهُ) فله الحكم الفصل يوم القيامة (فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه أهل للعبادة وتفويض الأمور إليه وهو على هذه الحال من
العظمة (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ) بساه (عَمَّا تَعْمَلُونَ) عن كل ما تفعلونه.
سورة يوسف
مكية ، عدد آياتها ١١١ آية
١ ـ (الر ...) قد سبق تفسيرها في أول سورة البقرة. (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات التي سيأتي ذكرها فيما بعد ، أو إشارة
إلى سورة يوسف ، أو هي (آياتُ الْكِتابِ
الْمُبِينِ) أي آيات القرآن الظاهر أمره في الإعجاز مع ظهور مانعيه
للمتدبّر فيها.
٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي هو القرآن وفق مجاري كلام
العرب في مخاطباتهم لتفهموا معانيه وتعلموا أنه من عند الله.
٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ ...) يخبر الله سبحانه نبيه (ص) أنه يبين له أحسن البيان وأتمه
وأوضحه. ثم إما أن يكون المراد بالقصص كل قصص القرآن أو خصوص قصة يوسف (ع). (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا
الْقُرْآنَ) أي بوحينا إليك هذا القرآن (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ
قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ) يعني غافلا عن قصة يوسف (ع) وما فيها من تفصيلات وحكم.
٤ ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ : لِأَبِيهِ يا
أَبَتِ ...) أي : اذكر يا محمّد قول يوسف (ع) لأبيه يعقوب وكان احبّ
اخوته الأحد عشر إليه يا أبت. (إِنِّي رَأَيْتُ) أي في منامي ، واللفظة من الرؤيا لا من الرؤية بقرينة قول
أبيه (ع) : لا تقصص رؤياك ، وقوله هو (ع) : هذا تأويل رؤياي من قبل. وبحديث الملك
للنفس وحديث الملك صادق ، أما الكاذبة فتكون من حديث الشيطان والشيطان كاذب. فقد
قال : رأيت في منامي (أَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فالقمر ـ على ما قيل ـ يرمز إلى أمه راحيل أو خالته لأن
أمه كانت قد ماتت والشمس ترمز إلى أبيه أو العكس والأحد عشر كوكبا ترمز إلى إخوته
الذين هم بهذه العدة وقد روي أنه رآها نزلت من السماء فسجدت له وقوله : لي ساجدين
، أي لأجلي ولأجل ما رأوا من عناية الله وتوفيقه كان سجودهم لله تعالى ، وما ينبغي
السجود لغيره.
٥ ـ (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ ...) أي قال له أبوه : لا تحك هذا الذي رأيته في منامك لإخوتك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) يعني مخافة أن يدبّروا لك مكيدة بالتأكيد لأنهم حاسدون لك (إِنَّ الشَّيْطانَ) الوسواس (لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ
مُبِينٌ) واضح العداوة.
٦ ـ (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ...) أي يختارك ربّك ويستخلصك (وَيُعَلِّمُكَ) يفهّمك (مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ) التعبير عن الرؤيا بشكل صادق (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ) يكمل فضله (عَلَيْكَ) أنت بالنبوّة والسّلطة على خزائن مصر (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أهل بيته الأقربين بأن يجعل منهم أنبياء وملوكا (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ) أي جدّيك إذ يقال للجدّ أبا وهما (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) فعلى إبراهيم أنعم الله سبحانه بالخلّة والرسالة والنجاة
من نار النمرود ، وعلى إسحاق منّ بالنبوّة وبإخراج الأسباط من صلبه (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بكل شيء (حَكِيمٌ) بفعله وتقديره وفعله طبق المصلحة والحكمة البالغة.
٧ ـ (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ
آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) : أي كان في قصة يوسف مع إخوته دلائل على قدرة الله وجميل
صنعه وعبر عجيبة لمن يستفسر من الناس عن خبرهم.
٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ...) فقد قال إخوة يوسف فيما بينهم : إن يوسف وأخاه لأبويه ـ وهو
بنيامين مقرّبان من أبينا يعقوب أكثر منّا ، فهو يؤثرهما علينا (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي ، والحال : نحن جماعة متكاتفون أقوياء. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنه غاب عنه كوننا أنفع له وأحرى بالتفضيل. أو أنه بعيد
عن طريق الصواب.
٩ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ
أَرْضاً ...) أي اقتلوه أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن العمران ليضيع (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يخلص لكم رضاه وحبّه (وَتَكُونُوا) تصيروا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد القضاء على يوسف قتلا أو تضييعا (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين من فعلتكم.
١٠ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا
يُوسُفَ ...) قيل إنه يهودا وقيل هو لاوى. وقيل : بل هو روبين فقد قال
هذا لا تقتلوا يوسف أي نهاهم عن قتله (وَأَلْقُوهُ فِي
غَيابَتِ الْجُبِ) أي ارموه في قعر البئر الذي يغيّبه عن الأنظار (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يعني يجده بعض المسافرين ويأخذونه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إذا كنتم عازمين على التفرقة بينه وبين أبيه.
١١ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا
عَلى يُوسُفَ ...) أي أن أبناء يعقوب (ع) جاؤوا أباهم وقالوا : لماذا لا تثق
بنا ولا تعتمد علينا في أمر من أمور أخينا يوسف. (وَإِنَّا لَهُ
لَناصِحُونَ) ونحن لا نغشّه ونحب له الخير.
١٢ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ ...) أي ابعثه معنا من الغد إلى الصحراء يذهب ويجيء ويلهو وينشط
(وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) أي نحن ليوسف حارسون ، نحوطه بالعناية لئلا يصله مكروه.
١٣ ـ (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ
تَذْهَبُوا بِهِ ...) أي أن أباه قال لإخوته إنه ليغمّني إذا أخذتموه معكم (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي أخشى أن يفترسه ذئب ضار (وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غافِلُونَ) أي حال كونكم ساهين عنه ، منشغلين ببعض شؤونكم.
١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : فردّوا على أبيهم بأنه لا يتأتّى للذّئب أن يأكله من
بينهم وهم جماعة كثيرون متعاضدون وإن فعلها الذّئب فهم إذن ضعفاء عاجزون.
١٥ ـ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا
أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ...) أي فلمّا أخذوا يوسف معهم واتّفقوا جميعا على إلقائه في
قعر البئر (وَ) حينئذ (أَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي ألهمناه وأفهمناه وحيا أعطاه الله النبوة ، (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) تخبرنّهم يقينا (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بقبيح فعلهم بك (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) دون أن يحسّوا إنك يوسف.
١٦ ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : أي رجع إخوة يوسف آخر النهار أو ليلا إلى أبيهم يعقوب
متظاهرين بالحزن ليلتبس الأمر عليه ويظنّهم صادقين.
١٧ ـ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا
نَسْتَبِقُ ...) أي قال اخوة يوسف لأبيهم : رحنا نتسابق ونعدو لننظر أيّنا
أسبق لغيره. (وَتَرَكْنا يُوسُفَ
عِنْدَ مَتاعِنا) أي أبقيناه عند أغراضنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي لست بمصدّق قولنا لسوء ظنّك بنا. (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) جواب لو محذوف أي ولو كنا صادقين ما صدّقتنا.
١٨ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ...) أي أنهم افتضحوا أمام أبيهم الذي عرف كذب روايتهم وأن الدم
الذي على القميص ليس دم يوسف بل هو مزوّر ، ف (قالَ) لبنيه ساعتئذ وهم وقوف بين يديه : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْراً) أي زيّنت وهوّنت عندكم أنفسكم أمرا فصنعتموه وهو ـ يقينا ـ
غير ما قلتم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري ، هو صبر لا شكوى فيه إلّا إلى ربّي ، (وَاللهُ) هو وحده (الْمُسْتَعانُ) الذي يعينني (عَلى) تحمّل (ما تَصِفُونَ) من التزوير وتضييع الأثر. وفي بعض التفاسير ذكر أنه (ع)
قال : والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا!! أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!.
١٩ ـ (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ
فَأَدْلى دَلْوَهُ ...) أي : بعد حصول ما كان من أمر إلقاء يوسف في البئر ، جاء
رفقة سائرون في سفر فنزلوا قريبا من البئر (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) يعني بعثوا واحدا يطلب الماء ويستقي لهم. والوارد في
القافلة هو من يتقدم الرفقة إلى الماء يستقي (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أنزل الدّلو ـ الذي يغترف به الماء من البئر ، فتعلّق
به يوسف (ع) (قالَ يا بُشْرى) أي قال الوارد يا قوم البشارة البشارة (هذا غُلامٌ) يعني ولد دون العاشرة. وانتشل يوسف من قعر البئر. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي أن هؤلاء الذين التقطوا يوسف أخفوا أمره عن رفاقهم من
التجار مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم فيه فقالوا هذا بضاعة استؤمنا عليها
لنبيعها لأصحابها (وَاللهُ عَلِيمٌ) عارف خبير (بِما يَعْمَلُونَ) من العثور عليه ، إلى إنقاذه ، إلى إخفائه عن الآخرين ،
فإلى الاتفاق على بيعه في مصر. وقيل : بما يعمل إخوة يوسف.
٢٠ ـ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، دَراهِمَ
مَعْدُودَةٍ ...) أي باعوه بثمن قليل بدليل قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، وقيل البخس هو ناقص البركة ، وقيل : الحرام لأن ثمن
الحرّ حرام. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) أي أن البائعين زهدوا به واستخفّوا بقدره ، وقيل بأن الذين
زهدوا فيه هم الذين اشتروه لأنهم وجدوا فيه علامة الأحرار وسيماء العظمة والسيادة
وأخلاق أهل البرّ ، وقيل غير ذلك.
٢١ ـ (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ
لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ ...) قصة يوسف (ع) لا تقتضي أزيد من وقوع بيع وشراء واحد ، وهو
بيع السيارة له من عزيز مصر الذي كان على خزائنها وكان اسمه قطفير. وعلى كل حال ،
فإن عزيز مصر الذي اشتراه من السيارة قال لزوجه : اجعليه عندك كريم المقام محفوظ
المنزلة وأحسني تربيته وتعهّده ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي يقوم بمهماتنا وإصلاح أمورنا ، فيفيدنا في أملاكنا
وضياعنا وعقارنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) يعني نتبنّاه. لأن عزيز مصر المذكور كان عقيما ولم يرزق
ولدا. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي أنعمنا عليه بأن أنجيناه من المهالك ، ومنحناه عنايتنا
وتأييدنا فجعلناه سلطانا وأعطيناه سطوة في مصر ليقيم العدل فيها ، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ) أي نلقّنه تعبير المنامات وتفسير الأحلام ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يمنع من مشيئته شيء ، وقيل غالب على أمر يوسف يحفظه
ويرزقه ويملّكه وينعم عليه بالنبوة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون تقديره وتدبيره.
٢٢ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ...) أي حين بلغ يوسف (ع) السن التي يكون معها في منتهى القوة
والإدراك وقيل بأنه سن الأربعين (آتَيْناهُ) أعطيناه (حُكْماً) يقضي به بين الناس ، أو حكمة يتمتع بها (وَعِلْماً) بوجوه المصالح وبفقه الدّين وتعبير الرؤيا وغيرها وقد كان
عزيز مصر يرجع الناس إليه للفصل في نزاعاتهم. (وَكَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الإنعام (نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) نكافئهم.
٢٣ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها
عَنْ نَفْسِهِ ...) المراودة طلب أمر باللين ليعمل به والمعنى : طالبت المرأة
يوسف الذي كان في بيتها وهي زليخا عن نفسه أي أن يواقعها. وهذا يعني أن المرأة
التي هو في بيتها ، حاولت معه. (وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوابَ) أي أقفلتها. وروي أنها كانت سبع حجر ـ غرف ـ بين كل منها
أبواب تفتحها على بعضها ، (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هيت : اسم فعل معناه هلمّ أو أقبل. وقرئت : هيئت لك.
ومعناه : قد أعددت نفسي لك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أنه يعوذ بالله ليعصمه من أن يجيبها إلى رغبتها ، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) والضمير في : إنه ، يحتمل فيه وجهان : إرجاعه إلى الله
لأنه جاء بعد قوله : معاذ الله فهو أقرب ما يصلح الإرجاع إليه ، أو إرجاعه إلى
عزيز مصر. والإحسان في المثوى أي الإقامة وحسن المعاملة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح ولا يصيب الرّشد والخير من تعدّى على الحرمات
وظلم نفسه وغيره.
٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ...) التفسير اللفظي يعني أنها مالت إليه وقصدته باهتمام ، ومال
إليها وقصدها بمثل ذلك ولكن ميله معلّق على قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يمكن أن يكون منه ذلك لولا رؤية برهان ربّه جلّ
وعلا. وحيث لم يحصل المعلّق عليه ، لم يحصل المعلّق أيضا. فالنتيجة أنه ما حصل له (ع)
ميل ولا قصد سوء معها ، وقيل : ولقد همّت بالفاحشة وهمّ يوسف بضربها ودفعها عن
نفسه. وبرهان ربه الذي رآه على ما في رواية الإمام علي بن الحسين (ع) هو أن زليخا
ـ في حالة الجذب والاجتذاب ـ قامت إلى صنمها فألقت عليه ثوبا يغطيه. فقال لها يوسف
: ما هذا؟ فقالت : أستحي من الصّنم أن يرانا. فقال لها يوسف : أتستحين ممّن لا
يبصر ولا يفقه ولا أستحي ممّن خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، ويبصر الغيب والعيان؟
(كَذلِكَ) أي مثل هذا كان الحال وكانت النتيجة (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشاءَ) أي أريناه البرهان لنذهب عنه الخيانة وركوب الفاحشة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الّذين أخلصوا أنفسهم لله وطاعته.
٢٥ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ ، وَقَدَّتْ
قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ...) أي تسابقا نحو الباب ، يوسف بقصد الفرار منها وزليخا بقصد
منعه والإمساك به فتعلقت بقميصه فشقته طولا من الخلف. فالقدّ هو الشق طولا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها يبدو فجأة عند الباب الذي كان يوسف قد قصده
ليهرب من خلاله. والتعبير عن زوجها بلفظ سيّدها إشارة إلى أنه مالك لأمرها. (قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ
بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) ما هو عقاب من أراد بأهلك خيانة ـ وأهل الرجل زوجه وعياله
ـ ثم عيّنت نوع الجزاء هذا فقالت : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ
أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أن يحبس أو أن ينال الإيذاء والتعذيب الشديد أي الضرب
الموجع بالسّياط محاولة بذلك تبرئة ساحتها واتهام يوسف.
٢٦ ـ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ...) أي : قال يوسف (ع) تنزيها لنفسه ودفعا لاتهامها إياه : هي
حاولت هذا الأمر وطلبت مني السوء ورغبت فيّ فامتنعت. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
أَهْلِها) أي أدّى أحد أقربائها ـ قيل أنه ابن عمها وقيل غير ذلك ـ شهادة
هي أنه : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي إذا كان ثوبه قد شقّ من الامام فإن الدلالة تقوم على
أنه قصدها فدفعته عن نفسها.
٢٧ ـ (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
...) أي إذا كان ثوبه مشقوقا من الخلف (فَكَذَبَتْ) في ادّعائها عليه (وَهُوَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في قوله. إذ من الواضح أنّ شقّه من الخلف يعني أنه فرّ
منها فجذبته بثوبه فانشقّ لمّا تعلّقت به.
٢٨ ـ (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ ...) أي فلمّا نظر الشاهد ورأى أن القميص مشقوق من جهة القفا (قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من عملكنّ وحيلتكنّ قاصدا نوع النساء ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيدهنّ يعلق بالنّفس ويؤثّر على القلب. وربما كان
القائل عزيز مصر ، أو الرجل الذي كان معه.
٢٩ ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ...) أي أن العزيز قال : يا يوسف : انصرف بكلّيتك عن هذا الحادث
واكتمه (وَ) أنت يا زليخا : (اسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ) أي توبي منه وأقلعي تماما (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخاطِئِينَ) أي مرتكبي الأخطاء والذنوب. وعبّر بلفظ : الخاطئين باعتبار
الغلبة أي من القوم الخاطئين.
٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ...) أي تحدّثت النساء في مصر في مجالسهنّ قائلات : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها
عَنْ نَفْسِهِ) أي أنها تحاول بمملوكها أن يفجر بها وأنّه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) يعني أحبته حيا تملّكها وأصاب شغاف قلبها
(إِنَّا لَنَراها فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منحرفة عن طريق الحق ، تائهة عن الرّشد.
٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ...) أي حين نقل لها ما تقوله نساء المدينة عنها وعرفت ما
يخفينه من قصد وهو تمكينها لهن من رؤية يوسف لما سمعنه عن حسنه (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي دعتهنّ إلى بيتها (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً) أي هيأت لهنّ ما يتّكئن عليه للراحلة التامة (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ
سِكِّيناً) أي أعطت كل امرأة سكّينا لتقشر الفاكهة التي أعّدتها لهنّ.
(وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَ) يعني أمرت يوسف بالظهور أمامهنّ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي عظّمنه وبهتن من جماله ففقدن الوعي (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحن أيديهن بدل قطع الفاكهة وهنّ ذاهلات مشدوهات من حسن
يوسف (وَقُلْنَ : حاشَ
لِلَّهِ) أي حاشاه سبحانه ، يعني أنه تعالى منزّه عن العجز أن يخلق
مثل يوسف وعلى هذه الصورة من الحسن والجمال ... (ما هذا بَشَراً) أي ليس يوسف من سنخ النّاس المعروفين في الخلق ولم يعهد في
البشر هذا الحسن (إِنْ هذا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي ملك يزيد على الملائكة بأنه كريم الطبع فكأنهنّ بالغن
في وصفه بالحسن كالملك وزدن على ذلك بأنه كريم لأنه لم يلتفت إليهنّ مع أنهنّ كنّ
من أجمل نساء عصرهنّ.
٣٢ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ ...) قالت لهنّ امرأة العزيز : هذا هو الفتى الذي تعذلنني على
مراودته عن نفسه والتصدّي له. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ) وطلبت منه مجامعتي (فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع وعاذ بالله ليعصمه عن هذه الزلة. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) يعمل (ما آمُرُهُ) به من مضاجعتي ، مقسمة (لَيُسْجَنَنَ) أي يحبس مؤكّدا (وَلَيَكُوناً) يعني : ليصيرنّ (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء.
٣٣ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...) يروى بأن جميع النسوة اللائي دعتهن امرأة العزيز إلى
مجلسها وبعد أن دهشن بحسن يوسف وافتتنّ به راودنه عن نفسه كل واحدة على انفراد
وبشتى الأساليب والحيل ومع ذلك فإن يوسف (ع) بقي على تمنّعه معها ومعهن واستعصامه
بالله منهن ، وتوجه إلى الله بهذا الدعاء : يا رب إن السجن أحبّ إليّ من دعوة
هؤلاء النسوة لي إلى الفحشاء ، فأنا أفضّل الحبس على أن أمارس الفجور إذ أخلو
وأتفرّغ لعبادتك (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي : وإن لم تصرف عنّي وتحوّل احتيالهن بلطفك (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أميل إليهن بهواي (وَأَكُنْ مِنَ
الْجاهِلِينَ) أي غير العارفين بأوامرك ونواهيك أو المستحقين للذم بالجهل.
٣٤ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ...) أي أن يوسف (ع) دعا ربّه فاستجاب له دعاءه وحوّل عنه
مكرهنّ وحيلهنّ (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) مر معناه.
٣٥ ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ ...) أي : ظهر لهم ـ أي للنسوة مع زليخا وزوجها وأعوانها بعد
الشواهد الدالة على براءته ، وهي الآيات المعجزات التي ظهرت لتبرئته. (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ظهر لهم أنه لا بد من حبسه إلى أمد معدود وظرف مناسب
بحيث ينسى حديث المرأة معه وينقطع الخوض فيه والتعليق عليه ، وبحيث يبدو لأعين
الناس أنه هو المأخوذ بالذنب ...
٣٦ ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ...) انتقل سبحانه إلى بيان أحوال يوسف في السجن فأخبر بأنه قد
سجن مع يوسف (ع) اثنان في ريعان الشباب أحدهما ساقي الملك وثانيهما طبّاخه ، وقد
اتّهما أنهما كانا بصدد دسّ السمّ للملك فأمر بحبسهما (قالَ أَحَدُهُما) أي واحد من الفتيين (إِنِّي أَرانِي) أي رأيت نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني يعصر عنبا وقد سمّاه خمرا بعلاقة الأول (وَقالَ الْآخَرُ) أي الفتى الثاني (إِنِّي أَرانِي) رأيت نفسي في المنام (أَحْمِلُ فَوْقَ
رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يعني كأنّ فوق رأسه طبقا فيه خبز تأكل منه الطيور. ثم قالا
له : (نَبِّئْنا) أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) أي عبّر لنا عما قصصناه عليك وما يؤول إليه أمره. (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي تؤثر الإحسان إلى الناس قالا له ذلك لأنه كان جميل
المعاملة مع المساجين حسن المعاشرة لهم.
٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ
تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ ...) أي قال لرفيقي السجن : لا يجيئكما طعام يقرّر لكما إلّا
أخبرتكما عنه كيفا وكما (قَبْلَ أَنْ
يَأْتِيَكُما) أي قبل رؤيته ووصوله إليكما. وقد أراد بذلك (ع) تهيئة
ذهنيهما لتقبّل دعوته لهما إلى الله إذا كانا مشركين. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي أن هذه الموهبة على الإخبار بالغيب هي من الإلهام
والوحي الذي منحني إيّاه خالقي (إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) أي تخلّيت عن مذهب الكافرين الذين لا يصدّقون بوجود الله
ولذلك خصّني الله بلطفه (وَ) الذين (هُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) أي عبدة الأصنام والأوثان.
٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي : لحقت بشريعة آبائي الذين هم أنبياء الله ورسله للناس
، وأنا على نهجهم القويم نعبد الله وحده و (ما كانَ لَنا أَنْ
نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) فنعبد معه غيره من الأصنام أو غيرها (ذلِكَ) أي ما أشرت إليه من التوحيد والتوفيق لنا معاشر الأنبياء (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) ونعمه التي أنعمها علينا (وَعَلَى النَّاسِ) أي بإرسالنا لهدايتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ) من الكافرين بنعم ربهم والمشركين معه غيره (لا يَشْكُرُونَ) ربهم أي لا يحمدونه ولا يعترفون بفضله ونعمته.
٣٩ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ...) أي نادى يوسف السائلين قائلا يا ملازمي السجن ونزيليه (أَأَرْبابٌ) أي آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) مختلفون من حجر وخشب وغيرهما لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا
تبصر ولا تسمع (خَيْرٌ) لعبّادها (أَمِ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) أي الرب الفرد الصّمد الذي يسمع ويرى ومالك لكل شيء في
الوجود وبيده النفع والضر والموت والحياة.
٤٠ ـ (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ ...) أي أن الآلهة التي تحصرون عبادتكم بها وأطلقتم عليها أسماء
تعني الأرباب والآلهة ما هي إلا أسماء فارغة بلا مسميّات دعوتموها كذلك أنتم
وآباؤكم لم ينزل الله من حجة تسوّغ عبادتها ولا هي تستحق العبادة. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقد (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ) أمر بعبادته وحده ونهى عن الشّرك به. (ذلِكَ) أي ما أشار إليه ، هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي طريقة العبادة ذات القيمة العظيمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) بل يجهلون هذه الحقيقة ويضلّون عنها.
٤١ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ...) أي يا رفيقي الحبس (أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقي الملك وصاحب شرابه (فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً) أي يقدّمه لسيّده يشربه وهذه بشارة له بنجاته (وَأَمَّا الْآخَرُ) أي صاحب رؤيا الخبز (فَيُصْلَبُ
فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي يحكم بالإعدام صلبا فتتغذّى الطيور الجارحة من لحمه
ورأسه أثناء بقائه مصلوبا (قُضِيَ الْأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي انتهى تعبير رؤياكما وما سألتما عنه.
٤٢ ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ
مِنْهُمَا ...) ظنّ هنا بمعنى : علم فقد قال للذي تأكد نجاته : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي ائت على ذكري عند سيدك وأنني حبست ظلما (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطان يوسف ذكر الله في تلك الحال حتى استغاث
بمخلوق فالتمس من الساقي أن يذكره عند سيّده فلذلك لبث في السجن بضع سنين روي أنه
بقي سبع سنين بعد خمس سنين سبقتها لأن العرب تطلق لفظ البضع على السبع. وقالوا :
بل الضمير في أنساه ، يرجع إلى الساقي الذي سها عن ذكر يوسف ونسيه سبع سنين.
٤٣ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ
بَقَراتٍ سِمانٍ ...) أي قال (الرّيان) ملك مصر : إني رأيت فيما يرى النائم أن
سبع بقرات سمان. (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي سبع بقرات (عِجافٌ) أي هزيلات ضعيفات. وقد رأى أن الضعيفات ابتلعت السمان (وَ) رأيت أيضا (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي هذه كانت جافّة ، وتلك كانت خضراء يانعة. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي يا أيها العلية من الناس (أَفْتُونِي) يعني أعطوني الفتيا والحكم (فِي) تعبير (رُءْيايَ) ما رأيته في منامي (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم عالمين بتفسيرها وتأويلها.
٤٤ ـ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ...) أي مجموعة منامات مختلطة لا يتميّز بعضها من بعض. وقد
شبّهوا أحلام الملك بالأضغاث لاختلاطها وتعسّر تمييزها ، وقيل المعنى : أباطيل
أحلام. (وَما نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هي على هذا الشكل المختلط (بِعالِمِينَ) ولسنا بمعبّرين للأباطيل أيها الملك.
٤٥ ـ (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ
بَعْدَ أُمَّةٍ ...) أي قال للناس ، ذلك الساقي الذي نجا من السجن وخلص من
الموت ، من ذينك السّجينين ، وتذكر بعد مدة طويلة ما أوصاه به يوسف من قوله اذكرني
عند ربك (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ) أي ابعثوني إلى من يعلم تأويل الرؤيا ...
٤٦ ـ (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ...) أي أرسل الساقي إلى السجن وخاطب يوسف (ع) قائلا : يا يوسف
أيها الكثير الصدق فيما تخبر به (أَفْتِنا فِي سَبْعِ
بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يابِساتٍ) أي دلّني على تفسير ذلك (لَعَلِّي أَرْجِعُ
إِلَى النَّاسِ) يعني : عسى أن أعود إلى الملك وحاشيته ومن في مجلسه (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون تأويله الحقيقي ، ويعرفون فضلك ومكانتك ومكانك في
السجن فيطلقوك.
٤٧ ـ (قالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَباً ...) أي أجابه يوسف : إنكم تزرعون كدأبكم وعادتكم سبع سنين
متوالية يصادفها الخصب والنّماء (فَما حَصَدْتُمْ) أي جنيتم من تلك الزّروع (فَذَرُوهُ فِي
سُنْبُلِهِ) اتركوه في قشّه كما تحصدونه من دون ذري ولا دوس. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي ما يلزمكم للأكل في كل سنة فدوسوه واستخرجوا حبّه من
قشه ...
٤٨ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ
شِدادٌ ...) أي أنه يجيئكم بعد السنوات السبع المخصبة ، سبع سنوات
مجدبة لا زرع فيها ولا ضرع ، وهذه السنوات القواحط (يَأْكُلْنَ ما
قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي تأكلون فيهن ما ادّخرتم لهن وخبأتموه من المواسم
الماضية. (إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي تحفظونه للبذر والزراعة.
٤٩ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ
فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ ...) أي بعد ذلك الجدب الذي يستمرّ سبع سنين ، يجيء عام بركة
وخصب يمطر فيه الناس لأن الغيث هو المطر وقيل من الغوث أي ينقذون من الجدب. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يستخرجون الخير مما يعصر كالزيتون والعنب والتمر وغيرها.
٥٠ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...) أي جيئوني به حتى أسمع منه وذلك بعد رجوع الساقي وإخباره
بتأويل يوسف لرؤياه. (فَلَمَّا جاءَهُ
الرَّسُولُ) أي لما أتى رسول الملك إلى يوسف يستدعيه إليه. ف (قالَ) يوسف للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي إلى سيّدك (فَسْئَلْهُ) واستفهم منه (ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما حال تلك النساء (اللَّاتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَ) وجرحنها بالسكاكين حين خرج عليهن يوسف بأمر من امرأة
العزيز. (إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي ٥١ ـ (قالَ ما خَطْبُكُنَّ
إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ...) هذا يعني أن الرسول أبلغ الملك قول يوسف ، فجمع الملك
النساء وسألهنّ : ما شأنكنّ حين دعوتنّ يوسف إلى أنفسكن (قُلْنَ) للملك : (حاشَ لِلَّهِ) هذه كلمة تنزيه أي نزّهن يوسف مما اتهم به فقلن معاذ الله
ممّا نسب إليه و (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ
مِنْ سُوءٍ) أي ما عرفنا له ذنبا ولا خيانة. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) زليخا نفسها (الْآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُ) أي ظهر وثبت (أَنَا راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ) وأعترف بذلك (وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ) في قوله السابق للعزيز هي راودتني عن نفسي ...
٥٢ ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ ...) هذا من كلام يوسف أي ذلك الذي فعلته من رد رسول الملك إليه
بشأن النسوة كان ليعرف الملك أو العزيز أنني أحفظ غيبته ، وأني أمين في الغيب
والحضور (وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يهديهم بكيدهم ولا يجعله نافذا ولا يسدّدهم فيه.
وقيل إن هذا من كلام امرأة العزيز.
٥٣ ـ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ...) هذا من كلام يوسف (ع) أي لا أنزّهها ولا أزكّيها على سبيل
العجب بالنفس (إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الميل إلى الشهوات (إِلَّا ما رَحِمَ
رَبِّي) أي إلا النفس التي تنالها رحمة الله تعالى وعنايته فلا
تأمر بالسوء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يتجاوز عن الذنوب بعد التوبة ويرحم العباد. وقيل إن هذا
الكلام هو لزليخا.
٥٤ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ...) أي احضروا يوسف إليّ أجعله خالصا لنفسي يعاونني في تدبير
مملكتي ويشير علي في أموري. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي كلّم يوسف الملك ـ أو العكس ـ (قالَ) له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنا مَكِينٌ) أي أنك منذ اليوم صرت عندنا ذا مكانة وشأن وقد مكّنتك في
حكمي نافذ الكلمة (أَمِينٌ) ثقة مؤتمن على كل شيء.
٥٥ ـ (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ
الْأَرْضِ ...) أي قال يوسف للملك : اجعلني حفيظا وواليا على خزائن أرضك
لأقوم بتدبيرها (إِنِّي حَفِيظٌ) شديد المحافظة عليها ، فلا تقع فيها خيانة (عَلِيمٌ) بكيفية التصرّف فيها ، وبوجوه المصالح كلّها وقيل في معنى
عليم غير ذلك.
٥٦ ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ ...) أي وبهذا الشكل الجليل أقدرنا يوسف وأرسينا منزلته في أرض
مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها
حَيْثُ يَشاءُ) أي يتّخذ منها منزلا يقيم فيه أينما يريد ، ويتصرّف فيها
على ما يهوى (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا
مَنْ نَشاءُ) أي نشمل من نريد بنعمتنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) لأننا نحفظ لهم إحسانهم ونثيبهم عليه في الدنيا والآخرة.
٥٧ ـ (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ...) يعني وثواب الآخرة خير من ثواب الدنيا لخلوصه عن الأكدار
والأقذار (لِلَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي الذين صدّقوا به وعملوا صالحا وتجنّبوا ما نهى عنه وما
يغضبه.
٥٨ ـ (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ ...) حين أصاب الجدب الناس وآل يعقوب فيهم ـ وكانوا بأرض فلسطين
ـ توجهوا بمن فيهم إخوة يوسف بأمر من أبيهم إلى مصر ليمتاروا منها كغيرهم ، أي
ليجلبوا الطعام منها إلى أرضهم سكان فلسطين ـ وحين صار الجدب ، ودخلوا على يوسف (ع)
(فَعَرَفَهُمْ) مع طول العهد (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه.
٥٩ ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ
ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ ...) أي حينما أعد لهم الميرة المطلوبة وأكرمهم وهيأ لهم ما
يحتاجون إليه في سفرهم قال لهم جيئوني بأخ لكم (مِنْ أَبِيكُمْ) أي ليس من أمّكم بل من أم ثانية وكان يقصد أخاه لأمه وأبيه
واسمه بنيامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ) أعطيه كاملا بلا نقص (وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ) يعني خير المضيفين.
٦٠ ـ (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ...) أي إذا لم تحضروه لي معكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ
عِنْدِي) فلا أعطيكم طعاما أكيله لكم (وَلا تَقْرَبُونِ) ولا تقربوا دياري.
٦١ ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ
وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) : أي أجابوه : بأنا سنطلبه من أبيه ليرسله معنا وإنّا
لفاعلون أيها العزيز ما أمرتنا به.
٦٢ ـ (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا
بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ...) يعني أنه قال لغلمانه : ضعوا بضاعة إخوتي التي جاؤوا بها
داخل أسباب سفرهم لتبقى لهم إمّا تفضلا عليهم ورحمة بهم ولئلا يأخذ الثمن منهم وهم
في ضيق وعسر ، وإمّا خوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به ، وإما لغير ذلك. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي عسى أن يعرفوها حين يعودون إلى أهلهم ووطنهم. وفي هذا
إشارة إلى أن يوسف لم يرد لإخوته أن يطّلعوا على أنه ردّ عليهم بضاعتهم التي كانوا
قد حملوها معهم إلى مصر للمقايضة لئلا يقعوا في الخجل والحرج. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليكون في رد البضاعة تشجيعا لهم على الرجوع إليه
مصطحبين أخاه بنيامين.
٦٣ ـ (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ
قالُوا ...) أي حين عادوا إلى وطنهم واجتمعوا بأبيهم قالوا له : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أخبروه أن الامتيار الآتي ممنوع عليهم بعد هذه المرة ،
وأبلغوه قول يوسف أن لا كيل لهم إلّا إذا أحضروا أخاهم الصغير معهم وقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) لنفي بالوعد ، وحينئذ (نَكْتَلْ) أي نحصل على كيل ما نريده من الطعام ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) نحرس أخانا من المكاره.
٦٤ ـ (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ؟ ...) الاستفهام للإنكار ، أي لا آمنكم عليه ولا أثق بقولكم. وهل
أثق بكم وأستأمنكم على بنيامين (إِلَّا كَما
أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) حين ضمنتم سلامته ووددتم راحته ثم لم تفوا بعهدكم وأضعتموه
أو أهلكتموه. (فَاللهُ خَيْرٌ
حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي فحفظ الله خير من حفظكم وهو يرحم ضعفي وشيبتي ويردّه
علي.
٦٥ ـ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ...) أي حين فتحوا أكياسهم وجواليقهم التي حملوها من مصر ، رأوا
أن بضاعتهم التي حملوها معهم إلى مصر ثمنا للحبوب التي اشتروها قد أعيدت إليهم ، (قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا
رُدَّتْ إِلَيْنا) فهل نطلب أكثر من هذا الإحسان من الملك الذي أوفى لنا
الكيل وردّ الثمن فإذا أذنت لنا في الرجوع مع أخينا نربح (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب الطعام لعيالنا وأولادنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) نحرسه حتى نردّه إليك (وَنَزْدادُ كَيْلَ
بَعِيرٍ) أي نربح زيادة حمل جمل آخر هو جمل أخينا ، و (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي سهل إعطاؤه على الملك ،
٦٦ ـ (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى
تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ...) أي أنني لما رأيت منكم من الغدر بيوسف ، فأنا لن أرسل أخاه
معكم إلّا بعد أن تعطوني عهدا وثيقا بإشهاد الله سبحانه وبالحلف عليه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لترجعنّه سالما (إِلَّا أَنْ يُحاطَ
بِكُمْ) أي إلّا في حال هلاككم أو : إلا أن يحال بينكم وبينه بحيث
لا تقدرون على إرجاعه (فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ) يعني أبرموا له عهدهم وحلفهم. (قالَ) يعقوب (اللهِ) تعالى شاهد على ذلك ، وهو (عَلى ما نَقُولُ) فيما بيننا (وَكِيلٌ) أي مفوّض ومعتمد وكاف.
٦٧ ـ (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ
بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ...) أي قال يعقوب (ع) لبنيه : لا تدخلوا مصر مجتمعين بل توزعوا
على أبواب متعددة وادخلوا متفرقين وقيل : كان لمصر أربعة أبواب ، وقيل في وجه أمر
يعقوب لأولاده بذلك هو أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة مع كثرة
عددهم وقوة أجسامهم ، وقيل غير ذلك. (وَما أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) منبّها إياهم أن تحذيره لهم من باب الحيطة عليهم ولكن
الحذر لا يرد قضاء الله لو قضى بإصابتكم بالعين. (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) فهو القاضي المقدّر الفعّال لما يشاء والحاكم بما يريد ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوّضت أمري إليه سبحانه فيكم (وَعَلَيْهِ) سبحانه (فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليفوضوا أمورهم إليه.
٦٨ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ
أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ...) أي حين دخولهم إلى مصر من عدة أبواب طبق ما وصّاهم به
يعقوب (ما كانَ) أي يعقوب (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) أي لم يكن ليدفع عنهم من شيء قدّره الله تعالى لهم بوصيته
بل لم يكن ذلك منه (إِلَّا حاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) يعني أن في نفسه شيئا أخفاه عنهم وقد كان يقصد من وراء ذلك
الإشفاق عليهم والرحمة بهم لما أصابه من اضطراب حين مغادرتهم البلد فبإظهارها قضى
حاجة له في نفسه وسكن هيجان عاطفته (وَإِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) يقين (لِما عَلَّمْناهُ) وفهّمناه بتعليمنا إياه بطريق الوحي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) لا يعرفون مثل هذه الأسرار والحكم التي نعلّمها رسلنا.
٦٩ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى
إِلَيْهِ أَخاهُ ...) أي حين دخل إخوة يوسف عليه ضم إليه بنيامين أخاه لأبويه
وأنزله عنده (قالَ) يوسف لأخيه : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي يذكره أبوك كثيرا وتتحدّثون عنه مليّا (فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن ولا تغتم (بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي ما كان يفعله إخوتك سالفا معنا.
٧٠ ـ (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ...) أي لمّا هيّأ لهم ميرتهم ومتاعهم ، (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي وضع الوعاء الذي يكال به في حمل بعير أخيه بنيامين. وكان
المكيال من ذهب مرصعا بالجواهر الثمينة ، وقيل إنه قبل استعماله للكيل كان يشرب به
ولذا أطلق عليه اسم : السّقاية بهذا الاعتبار. (ثُمَّ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد من خدم الملك (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي يا أصحاب الإبل : (إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ) وهذا التأكيد لكونهم سارقين بإنّ وباللّام علّله الإمام
الصادق (ع) بقوله : ما سرقوا ، وما كذب يوسف. فإنما عنى سرقة يوسف من أبيه (ع) ...
٧١ ـ (قالُوا ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ، ما
ذا تَفْقِدُونَ؟ ...) عند سماع النداء ، وقف إخوة يوسف وقالوا للمنادي ولمن تبعه
عند سماع ندائه : أي شيء ضاع منكم حتى اتّهمتمونا بالسّرقة؟.
٧٢ ـ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ...) أي أجاب غلمان الملك : قد افتقدنا صاع الملك الذي نكتال
به. وقال المنادي من باب الإغراء (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ) مكافأة له على إرجاعه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل ضامن.
٧٣ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما
جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ...) أي قال إخوة يوسف للمؤذّن ومن معه من عمّال الملك : نحلف
لكم بالله أننا ما جئنا لنرتكب مثل هذا الجرم الشائن ولا لنرتكب فسادا في هذه
البقعة من الأرض وأنتم تعلمون حسن سيرتنا وأمانتنا معكم في سفرتنا السابقة وفي هذه
السفرة. (وَما كُنَّا
سارِقِينَ) أي ولسنا بسارقين لما افتقدتم.
٧٤ ـ (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ
كاذِبِينَ؟) أي أن جماعة الملك قالوا لإخوة يوسف : فما جزاء السارق إن
كنتم كاذبين في قولكم ما كنا سارقين وانكشفت السرقة؟
٧٥ ـ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ...) أجاب إخوة يوسف أن جزاء السارق في شرعة يعقوب النبيّ (ع)
هو نفس السارق الذي يوجد الصاع المسروق في متاعه بحيث يحلّ استرقاقه. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) نعاقب السارقين باسترقاقهم.
٧٦ ـ (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ
وِعاءِ أَخِيهِ ...) أي أن يوسف (ع) بدأ بتفتيش متاع وأحمال إخوته قبل أن يفتش
عن الصواع في متاع أخيه بنيامين لإبعاد التهمة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها
مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي أخرج السقاية من متاع بنيامين وقيل إنه لمّا وجدها مع
بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت هذا الصاع؟ (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي على هذا الشكل دبّرنا مكيدة لطيفة ليوسف ، فإن هذا
العمل منه كان بإذن الله وبوحي منه لتبدأ مرحلة التفريج عن يعقوب (ع). (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ) أي أنه لم يكن ليحقّ ليوسف أن يستبقي أخاه عنده في شرع ملك
مصر لأن السارق في شرعه كانت عقوبته الجلد وتغريمه ضعف المسروق (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا في حال أنّ الله تعالى يريد القضاء في هذه الواقعة
بشكل يخوّل يوسف أخذ أخيه لمصلحة اقتضت ذلك في المقام. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) نرفع من نريد بالعلم والحكمة والتأييد والنبوة وغيرها كما
فعلنا بيوسف نسبة إلى إخوته (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي أن فوق كل ذي علم أعلم منه إلى أن يصل الأمر إلى الله
العالم الذي ليس فوقه عالم.
٧٧ ـ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ
أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ...) أي قال إخوة يوسف له بعد استخراجه للصواع من رحل بنيامين :
إن يسرق بنيامين فقد سبق أن سرق أخ له يعنون يوسف نفسه في صغره عند ما كانت تحتضنه
عمته وتحبه حبا شديدا بحيث لا تقوى على فراقه ، وعند ما أراد أبوه يعقوب أن يسترده
منها احتالت بأن شدّت على وسط يوسف منطقة إسحاق (ع) التي كان أولاده يتوارثونها
بالكبر وكانت عمته الأكبر في ذلك الوقت بينهم ، وادّعت بأنه سرقها لتستطيع بتلك
الحيلة أن تستبقيه عندها وكان الحكم أن يسترق السارق سنة وهكذا كان. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي سمع مقالتهم واحتفظ بتأثيرها في نفسه ولم يظهر لهم شيئا
و (قالَ) في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكاناً) أي أسوأ منزلة فيما فعلتم بأخيكم في سرقتكم له من أبيه ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي أنه تعالى أعلم منكم بأن يوسف لم يسرق وكذا أخوه.
٧٨ ـ (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ
لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ...) إنهم رقّوا في قولهم فخاطبوا الملك باستعطاف وقالوا : إن
أبا بنيامين شيخ طاعن في السن أو كبير في القدر (فَخُذْ أَحَدَنا
مَكانَهُ) أي خذ من شئت منّا عوضا عنه (إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) إن فعلت وأخذت البديل عنه من بيننا.
٧٩ ـ (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا
مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ...) أجاب يوسف (ع) : أعوذ بالله أن آخذ البريء بالمذنب ولن
نأخذ إلّا الذي وجدنا الصاع عنده ، وإن فعلنا غير ذلك (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) حتى في شرعكم.
٨٠ ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا
نَجِيًّا ...) أي حينما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف لطلبهم وأخذ البديل
عن بنيامين ، تسلّلوا وانفردوا جانبا يتهامسون ويتشاورون فيما بينهم. (قالَ كَبِيرُهُمْ) سنا أو علما وهو كما عن الإمام الصادق (ع): يهودا. وقيل :
غيره (أَلَمْ تَعْلَمُوا
أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) هل نسيتم عهد الله الذي قطعتموه لأبيكم؟ (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي
يُوسُفَ) ثم ألم تذكروا أنكم. قد تهاونتم قبل ذلك بأمر يوسف
وأضعتموه هدرا؟ (فَلَنْ أَبْرَحَ
الْأَرْضَ) أي لن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي
أَبِي) إلّا بعد أن يسمح لي أبي بالرجوع (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي الله سبحانه لي بما يكون لنا عذرا عند أبينا. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) وقضاؤه خير قضاء.
٨١ ـ (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا
أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ...) أمرهم قائلا : عودوا إلى أبيكم وقولوا له أن ابنك سرق في
الظاهر (وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا) أي لم نقل إلّا ما قد رأينا ، ولم نشهد إلّا بحسب ما ظهر
من واقع الأمر (وَما كُنَّا
لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ما كنّا مطّلعين على ما خفي عنّا من ملابسات قبل سؤالنا
لك بخروج بنيامين معنا ولا بعده.
٨٢ ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيها ..) وقولوا لوالدنا : يا أبانا اسأل أهل البلدة الّتي كنّا
فيها في مصر أو المراد أن يسأل بعض أهل مصر من الذين صاروا إلى الناحية التي فيها
أبوهم (وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب القافلة التي كنّا معها من أهالي كنعان
الذين هم من جيرانه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نخبرك به.
٨٣ ـ (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ...) أي أن يعقوب (ع)
قال : ليس الأمر كما تقولون ، بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه وسهّلته لكم
فقرّرتموه واجتمعتم عليه لتنفّذوه في ابني بنيامين كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري صبر جميل. (عَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي بيوسف وأخيه وأخيهما الذي تخلّف في مصر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مر معناه.
٨٤ ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى
عَلى يُوسُفَ ...) أي وانصرف يعقوب بوجهه عن أولاده حزينا وقال : أي وا حزني
على يوسف. (وَابْيَضَّتْ
عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي ذهب سوادهما من كثرة البكاء حزنا (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلئ بالغيظ ولكنه لا يظهره.
٨٥ ـ (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ
يُوسُفَ ...) الّذين قالوا ليعقوب ذلك هم أولاده أو الناس إشفاقا : لا
زلت تذكره ولا تنفكّ عن التحدّث به مع طول المدة (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً
، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي حتى تمرض بفساد جسمك وعقلك أو تموت.
٨٦ ـ (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللهِ ...) أي قال يعقوب جوابا لهؤلاء : إني أشكو همي ـ وقيل البث هو
الحاجة ـ إلى الله لا إليكم (وَأَعْلَمُ مِنَ
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي واعلم من رحمة الله وقدرته على كشف همي وسد حاجتي ما
تجهلونه. وقيل : أي أعلم من أمر يوسف وأخيه بوحي الله ما لا تعلمونه.
٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا
مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ...) يستشعر من قول يعقوب السابق وأعلم من الله ما لا تعلمون
ومن قوله هنا فتحسّسوا ويستفاد من بعض الروايات أنه قد ألهم أن ابنيه حيان ولذا
أمر أبناءه بالرجوع إلى مصر ليتفحّصوا عن يوسف وأخيه قائلا لهم : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته تعالى وقيل : إنه لما أخبره أولاده
بسيرة الملك قال لعله يوسف لأن شمائله شمائل الأنبياء ، وبناء على ذلك قال اطلبوه
وأخاه ، واستقصوا الأمر فإنه قد ألقي في روعي أن الذي احتبس بنيامين بمكيدة إخفاء
الصاع في رحله لا بد أن يكون يوسف أو ذا علاقة به لأنه افتعل هذه القصة مع أخي
يوسف من أمه دون سائر إخوته. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) أي أن المؤمن دائما من الله على خير يرجوه في البلاء
والضرّاء ويشكره في الرخاء والكافر ليس كذلك.
٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ...) أي فلما وصل إخوة يوسف إلى مصر ودخلوا عليه قالوا له : يا
أيّها العزيز ـ وهو لقب لحاكم مصر ـ أي المنيع الجانب : قد أصابنا وأصاب أهلنا سوء
الحال والشّدة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ) سلع للبيع (مُزْجاةٍ) أي قليلة الاعتبار لا تقبل إلا مع النقيصة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) بأن تعطينا حاجة عيالنا الكثيرة كما عوّدتنا فيما مضى (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي سامحنا بما بين الثمن والمثمن من الفرق وقيل تصدّق
علينا بإطلاق سراح أخينا رحمة بأبيه وبنا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم.
٨٩ ـ (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ ...) يعني هل عرفتم أهمية فعلكم مع يوسف وكيدكم له وما فعلتم
بأخيه بنيامين لأمه وأبيه عند ما فرقتم بينه وبينه لتذلّوه وتستفردوه وتقسوا عليه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ!) حيث كنتم جاهلين مرتبته وقيمته وقيل : إذ أنتم صبيان أو
شبان يتملككم طيش الصبا أو الشباب.
٩٠ ـ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ ...) وهذا استفهام تقريري. وقرئ بغير استفهام على الإيجاب مع
التأكيد الذي يدل على أنهم عرفوه بلا شبهة ـ إنّك لأنت يوسف ـ وبناء على استفهامهم
أو تأكيدهم قال (ع) مقرّرا قولهم (قالَ أَنَا يُوسُفُ
وَهذا أَخِي) كما ترون (قَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا) أنعم وتفضّل وزادنا فضلا بالاجتماع مع السلامة والكرامة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله (وَيَصْبِرْ) على البلايا وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وفي ختام هذه الآية الكريمة تنبيه لنكتة دقيقة حيث وضع
الاسم الظاهر مقام الضمير ليدل أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر ...
٩١ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ
عَلَيْنا ...) أي أقسم إخوة يوسف بالله أنه فضّله عليهم واختاره منهم
بحسن الخلق والخلق والمداراة والعدل معهم رغم أنهم عاملوه بقساوة فبادلهم باللطف
وكريم الضيافة وإيفاء الكيل ، فاعترفوا بذنبهم كما اعترفوا له بالتفضيل عليهم
قائلين : (وَإِنْ كُنَّا
لَخاطِئِينَ) أي آثمين بما صنعنا بك وبما فعلناه معك من القبائح بجهلنا
وبسوء سريرتنا.
٩٢ ـ (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
...) أي لا توبيخ ولا تعيير ولا خوف عليكم في هذا الوقت من
جرّاء ما فعلتم (يَغْفِرُ اللهُ
لَكُمْ) فأنا استغفر الله لكم (وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) في تجاوزه عن ذنوبكم أو بما فعله بي من حسن صنيعه وتكرمته.
٩٣ ـ (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ
عَلى وَجْهِ أَبِي ...) أي قال يوسف لإخوته بعد أن تم التعارف بينهم وبينه وعاتبهم
وسامحهم واستغفر لهم ذنبهم اذهبوا بقميصي هذا فألقوه أي ضعوه على وجه أبي (يَأْتِ بَصِيراً) أي يعود حديد النظر سليم العينين وهذا القميص ـ على ما في
بعض الروايات ـ هو الذي ألبسه الله إبراهيم بواسطة جبرائيل يوم ألقاه نمرود في
النار فجعلها بردا وسلاما ثم ألبسته جبرائيل يوسف يوم ألقاه إخوته في البئر فصار
عليه البئر سلاما. (وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أحضروهم جميعا. وقال يوسف (ع) إنما يذهب بقميصي هذا إلى
أبي من ذهب بقميصي الملطّخ بالدم يوم فارقت أبي. فقال يهودا : أنا ذهبت به يومئذ
وأخبرته بقصة الذئب. قال يوسف (ع) : اذهب بهذا وأخبره أني حيّ فأخرحه كما أحزنته
أول مرة.
٩٤ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ
أَبُوهُمْ ...) فصلت أي عند ما انفصلت قافلة أبناء يعقوب عن مصر وفارقتها
من عند يوسف متجهة نحو أرض كنعان. (قالَ أَبُوهُمْ) أي يعقوب (ع) قال للحاضرين في مجلسه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال أبو عبد الله (ع): وجد يعقوب ريح قميص يوسف وهو بفلسطين
من مسيرة عشر ليال. قائلا لهم : (لَوْ لا أَنْ
تُفَنِّدُونِ) أي لو لا أن
تسفّهوني أو
تكذبوني.
٩٥ ـ (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ) : أي أن الحاضرين أجابوه : نقسم بالله إنك كما كنت قبل
فراق يوسف مفرطا في حبه وإيثاره ، مبتعدا عن الصواب في أمره ، وكانوا يعتقدون موت
يوسف منذ سنين بعيدة.
٩٦ ـ (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ ...) أي لما وصل يهودا حامل البشارة بحياة يوسف إلى يعقوب (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أي طرح القميص على وجه أبيه يعقوب (فَارْتَدَّ) أي عاد (بَصِيراً) سليم النظر صحيح العينين وعادت إليه جميع قواه (قالَ) يعقوب للحاضرين (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أما أخبرتكم (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف وعدم اليأس من روح الله عزّ اسمه وإنه سيجمع
بيننا وبينه تصديقا لرؤياه وكنتم تجهلون ذلك.
٩٧ ـ (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي : آثمين فيما فعلناه والذين قالوا ذلك هم أخوة يوسف.
٩٨ ـ (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي
...) قد وعدهم بالاستغفار ولم يظهر من الآية الشريفة أنه عفا
عنهم واستغفر لهم حالا ، إذ روي أنه أخّر الاستغفار إلى السّحر من ليلة الجمعة ، كما
روي أنه أجّله لسحر ليلته تلك. (إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) واضح المعنى وقد مر. وقد روي أن يعقوب (ع) بقي نيفا وعشرين
سنة يستغفر الله لذنب أولاده حتى غفر لهم.
٩٩ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى
إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ...) أي لما وصل يعقوب ومن معه إلى مصر ودخلوا على يوسف في دار
ملكه ضم يوسف إليه أبويه وأنزلهما عنده. وقد ذكر أكثر المفسرين أن أم يوسف كانت قد
ماتت وأن من كانت مع يعقوب هي زوجة أبيه أي خالته فسمى الخالة أما كما سمّى في
القرآن العم أبا. (وَقالَ ادْخُلُوا
مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي في حال كونكم في أمن من خوف القحط والمشقة وجميع أصناف
المكاره. وعن ابن عباس أن تعليق دخولهم مصر على المشيئة لأن الناس كانوا يخافون من
دخول مصر بغير إجازة الفراعنة. وقيل إنهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثا وسبعين نسمة.
وأن بني : إسرائيل ـ وهم أبناء يعقوب وذراريهم ـ قد خرجوا مع موسى (ع) وهم ستمائة
ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا ، ومائتا ألف امرأة وطفل. وكان فرعون في عهد موسى
من أولاد الريان فرعون مصر في أيام يوسف.
١٠٠ ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ...) أي فرفع يوسف أباه وخالته على سرير الملك. وذلك بعد أن دخل
الجناح الخاصّ به وادّهن وتطيّب واكتحل ولبس ثياب العز بعد أن كان لا يتطيّب ولا
يكتحل مدة فراق أبيه ، ثم دخل على هذه الهيئة الفتانة وقرّب إليه أبويه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجدوا شكرا لله من أجل ما أعطاه من نعم (وَقالَ) يوسف (ع) : (يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير الحلم الذي رأيته في منامي (مِنْ قَبْلُ) أي منذ زمن بعيد حيث قصصت ذلك عليكم (قَدْ جَعَلَها) أي الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) يعني صدقا. وقيل إنه كان بين رؤياه وبين تأويلها أربعون
سنة ، وقيل ثمانون. (وَقَدْ أَحْسَنَ) الله تعالى (رَبِّي) أي لطف بي (إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ) بعد تلك الفرية ، (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ) لأنهم كانوا من أصحاب المواشي يرتحلون في طلب الكلأ
والمراعي لمواشيهم ـ جاء بكم إلى هذا الملك بعد البداوة (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي بعد أن أفسد الشيطان بينهم وتحرّش بهم فأوقعهم في الحسد
فارتكبوا ما ارتكبوه. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ
لِما يَشاءُ) أي يدبر أمورهم على ما يريد وقد شاء بلطفه أن جمع شملنا
وألّف بيننا بعد تلك الوحشة (إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مر معناه.
١٠١ ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
...) أي أن يوسف في مناجاته مع الله ، قال ربّ قد اعطيتني ملك
مصر بعد أن اعطيتني النبوة وقد قيل : بأن من هنا هي للتبعيض لأنه لم يكن له الملك
كلّه بل كان له شيء منه فعن الإمام الباقر (ع): إن الله تعالى لم يبعث أنبياء
ملوكا إلا أربعة ... إلى أن قال : وأما يوسف فقد ملك مصر وبراريها ولم يتجاوزها
إلى غيرها ... (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) فأفهمتني ما يؤدي بي إلى معرفة ما لا يعرفه غيري ، وقيل
تأويل الأحاديث أي تأويل الرؤيا. (فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما من العدم (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) أي متولّي أمري وناصري في معاشي ومعادي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك على الإيمان بك والتسليم إليك (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واجعلني مع صالحي عبادك الذين ارتضيتهم.
١٠٢ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ ...) أي أن بيان قصة يوسف التي قصصناها من جملة الأخبار الغيبية
التي ننزلها إليك يا محمد بواسطة الملائكة (وَما
كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي ولم تكن عند أولاد يعقوب إذ اتفقوا على إلقاء يوسف في
البئر (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي يحتالون في أمر يوسف. وقيل بأن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) إلى آخر الآية تنديد بعلماء اليهود الذين كانوا قد سألوا
النبي (ص) عن قصة يوسف وطمع في إيمانهم بعد سماعها ولكنهم أصروا على الكفر.
١٠٣ ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ ...) أي وليس أكثر الناس بمصدقين ولو اجتهدت في دعوتهم إلى
الإيمان.
١٠٤ ـ (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
...) لست تطلب منهم يا محمد أجرة دنيوية مادية (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي هذا الذي ننزله عليك ، ما هو إلا موعظة وتذكير. (لِلْعالَمِينَ) لسائر الناس.
١٠٥ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي كم من حجة وبرهان فيهما تدل على وجود الله ووحدانيته (يَمُرُّونَ عَلَيْها) تعترضهم وتقع تحت أبصارهم (وَهُمْ عَنْها
مُعْرِضُونَ) منصرفون عن التفكر والتدبر فيها.
١٠٦ ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ ...) فالأكثر منهم لا يصدّق بالدعوة إليه سبحانه (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشّرك هنا شرك طاعة وليس شرك عبادة ، إذ إنهم يعملون
بالمعاصي إطاعة للشيطان فهم يعبدون الله ويطيعون سواه.
١٠٧ ـ (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ
غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ ...) يعني هل أمنوا جانب النقمة وأن تجيئهم عقوبة تعمّ الجميع
فلا تخلّي أحدا ، وتكون نوعا من عذاب الله كالخسف والرّمي بالحجارة من السماء
وكالريح الصرصر وعذاب يوم الظّلة وغيرها. (أَوْ تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً) أم أمنوا أن تقوم القيامة فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم غافلون عن قيامها بين يدي ربّ الأرباب. فعن ابن
عباس : تهجم الصيحة بهم وهم في الأسواق.
١٠٨ ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى
اللهِ ...) قل يا محمد لهؤلاء الكفرة ولغيرهم : هذه طريقي الواضحة ،
وأنا أدعو الناس إلى الإيمان بالله وعدله وتوحيده (عَلى بَصِيرَةٍ) أي بمعرفة تامة وحجة قاطعة لا تقليدا. (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي ادعوهم أنا ويدعوهم إليه سبحانه كذلك من صدق بي (وَسُبْحانَ اللهِ) تنزيها له وتقديسا (وَما أَنَا) لست (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون غيره معه.
١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالاً ...) أي إن كنت رجلا مرسلا من قبلنا ولم تكن ملكا كما طلب
المعاندون ، فإننا لم نرسل قبلك إلّا رجالا وقد كنا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ننزل عليهم الوحي على يد رسولنا الأمين جبرائيل (ع) وهم (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل المدن لا من سكان البوادي. وقد قيل بأنه سبحانه
لم يرسل نبيا قط من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أما جال وتنقل هؤلاء المشركون المعاندون في الأرض (فَيَنْظُرُوا) ويروا بعين عقلهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف كانت نهاية من سبقهم من معاندي الرّسل ومكايديهم
وكيف أن الله أهلكهم فيعتبروا بمصيرهم ويتعظوا؟ (وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ) من دار الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ما يغضب الله وتجنّبوه ، وعملوا بأوامره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تفهمون أيها الناس ما يقال لكم فتستبصروا.
١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ...) يعنى لا تهتمّ يا محمد بمن لا يؤمن ، فليس عليك من حسابهم
من شيء حتى إذا بلغوا حالة يأس الرسل عن إيمانهم وتيقن أولئك الرسل أن أقوامهم
كذبوهم على نحو العموم بحيث لم يعودوا يرجون إيمان ولو واحد منهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي ورد عليهم خبر صدق ما بعثناهم به حين أنذروا الناس
وخوّفوهم النقمة ، فحلّت النقمة بالمكذّبين (فَنُجِّيَ مَنْ
نَشاءُ) أي خلص من الهلاك ونجا من العذاب من نريد من المؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي لا يقف في وجه بلائنا والبؤس الذي ننزله مع نقمتنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين.
١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبابِ ...) أي لقد كان في قصص يوسف واخوته موعظة وبصيرة من الجهل لذوي
العقول الكاملة (ما كانَ حَدِيثاً
يُفْتَرى) أي أن القرآن ما كان خبرا مكذوبا (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ) بل كان تصديقا وتأييدا لما سبقه من الكتب السّماويّة
كالتوراة والإنجيل وغيرهما. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ) أي بيانا لكل ما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه (وَهُدىً) دليلا (وَرَحْمَةً) لطفا ونعمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدّقون بما جاء فيه.
سورة الرعد
مدنية ، عدد آياتها ٤٣ آية
١ ـ (المر ...) قد سبق الكلام في تفسير : الم ونظائره في أول سورة البقرة.
(تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) أي هذه السورة هي آيات القرآن ليست بمفتريات (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ) أي وهذا القرآن الذي أنزل إليك من الله وحيا قدسيّا ، هو (الْحَقُ) الثابت من ربّك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) جلّهم يكونون معاندين فلا يصدّقون لا بكونه من عند الله
ولا بحقانيته مع وضوح آياته وبيناته.
٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...) في الآية احتمالان : الأول : نفي وجود عمد للسماوات
المرفوعة أصلا وعليه يكون المعنى انه سبحانه رفع السماوات من غير عمد وأنتم ترونها
كذلك. والثاني : إثبات العمد للسماوات المرفوعة ولكنها غير مرئية وعليه يكون
المعنى انه رفع السماوات بعمد غير مرئية لكم وهذه العمد هي قدرة الله تعالى. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه بقدرته وسلطانه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما لمنافع خلقه ، (كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل واحد منهما يجري إلى وقت معيّن يتمّ فيه أدواره ، والله
تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمور ملكه وملكوته في الأرض والسماوات (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ينزلها ويبيّنها تفصيلا ، أو المراد إتيانها آية بعد
آية فصلا فصلا ، (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لكي تصدّقوا بالبعث والحساب.
٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ...) والمراد بمدّ الأرض دحوها وبسطها طولا وعرضا لمنافع خلقه (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) أي جبالا ثوابت وشق فيها أنهارا تجري فيها المياه. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي صنفين مختلفين : أسود وأبيض ، وحلوا وحامضا ، وصيفيّا
وشتويّا .. (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) أي تغطّي ظلمة الليل ضوء النهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) أي فيما ذكر دلائل واضحة على وحدانية الله وقدرته لقوم
يتدبرونها.
٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ...) أي أقسام متلاصقة متقاربة وهي مع ذلك مختلفة من حيث
السهولة والحزونة ، ومنها السبخة والصالحة للزرع وغير الصالحة. (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو أو النّخلات من أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي النخلات من أصول شتى. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) من الأنهار أو من السماء (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها
عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الأثر والثمر والقدر والشكل واللون والطعم وغيرها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) أي فيما ذكرناه دلالات واضحة على وحدانية الله وقدرته لقوم
يتدبرونها ويفهمونها.
٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ...) يعني يا محمد ، إن تعجب وتستغرب إنكار الكفرة البعث مع
إقرارهم بإبداع الخلق أول مرة فاستغرابك في محله لأن قولهم عجيب فعلا (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) مقول قولهم العجيب أي أنعاد كما كنا من جديد بعد أن صرنا
إلى تراب ، ووجه العجب في إنكارهم عدم تعقلهم ان خلقهم الأول الذي أقروا به هو
أصعب وأكمل من الثاني لأنّه إنشاء وهذا ترميم (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي الذين أنكروا البعث هم الذين جحدوا بقدرة الله (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) ستوضع قيود النار في رقابهم يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.
٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ ...) وذلك بأنهم سألوا رسول الله (ص) أن يأتيهم بالعذاب استهزاء
منهم بقوله. والمعنى : يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب قبل الرحمة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ
الْمَثُلاتُ) أي مضت قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذّبين للرّسل كالخسف
والمسخ والرجفة وغيرها (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي هو متجاوز عنهم بالرغم من الحالة التي هم عليها من
المعاصي والآثام (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للمستحق وهذه الآية تضمنت مبدأ الترغيب والترهيب والخوف
والرجاء.
٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي اقترحوا على النبيّ (ص) معجزة كعصا موسى وإحياء الموتى
ونحوهما من المعاجز التي صدرت عن الأنبياء قبله (ص). فالله تعالى لم يعتن بما
سألوه لاستلزامه العبث ويؤدي إلى ما لا نهاية بل قال (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي إنما أنت مخوّف من العقاب ومرشد لكل قوم إلى الحق
والخير وليس بيدك إنزال الآيات والمعجزات.
٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ
أُنْثى ...) أي أنه سبحانه يعلم حمل المرأة ذكرا كان أو أنثى أو سقطا
لأنه يعلم ماذا خلق ، (وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ) أي ويعلم ما تنقص فتضع المولود أو تسقطه قبل تمام مدته (وَما تَزْدادُ) من حيث المدّة والخلقة وغيرهما (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر محدد على وفق الحكمة.
٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عارف بما غاب عن حس العباد وبما يشاهدونه وعالم السر
والعلانية والموجود والمعدوم. (الْكَبِيرُ) في قدرته وعلمه (الْمُتَعالِ) في شأنه وعظمته والمنزه عما يقوله المشركون في ذاته وصفاته
وأفعاله.
١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ...) أي يستوي في علمه من أخفى شيئا في نفسه ومن أعلنه ، (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي طالب للخفاء فيه (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ذاهب في سربه متّبع طريقه علنا.
١١ ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ...) أي أنه سبحانه جعل للإنسان ملائكة يتعاقبون في حفظه ليلا
ونهارا أمامه ووراءه ومن جميع جهاته بأمر الله سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من عافية أو نعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة بالمعصية أو العكس. (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا وبلاء (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا مدفع له (وَما لَهُمْ) للناس جميعا (مِنْ دُونِهِ مِنْ
والٍ) مالك يقدر أن يلي أمورهم ويستطيع أن يرد السوء عنهم
ويتولّى مصالحهم.
١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً ...) أي أنه سبحانه يرسل البرق نذيرا لمن كان يخاف ضرر المطر
والغيث ولذلك قال تعالى : (وَطَمَعاً) في نزول المطر لمن كان ينتظره أو يرغب فيه لزرعه وماشيته
ونفسه. (وَيُنْشِئُ السَّحابَ
الثِّقالَ) أي ويخترع ويخلق الغيوم المثقلة بالماء ويرفعها من الأرض
إلى طبقات الجو العليا.
١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ...) تسبيح الرعد دلالته على تنزيه الله ووجوب حمده فكأنه هو
المسبح وروي أنّ النبيّ (ص) سئل عن الرعد فقال : ملك موكّل بالسحاب معه ، وعليه فالمعنى
: أن الملك الموكل بالسحاب ينزه الله ويحمده وهو يزجر السحاب (وَ) هو الذي (يُرْسِلُ الصَّواعِقَ
فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) والصواعق : جمع صاعقة ، وهي النّار التي تسقط من السماء
أثناء الرعد الشديد والبرق الخاطف ، وكلّ عذاب مهلك يقال له الصاعقة. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي هؤلاء الجهلة يحاجّون ويخاصمون في قدرة الله مع ما
يشاهدونه من الآيات (وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ) قويّ الكيد ، شديد القدرة والعذاب للمجادلين بالباطل.
١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ...) اختلفوا في معنى دعوة الحق ، وأنسب ما يقال في المقام أن
المراد بالحق كلمة الإخلاص التي هي قول : لا إله إلّا الله ، أو أن يقال : الحقّ
هنا نقيض الباطل ، (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ) أي والذين يدعونهم المشركون من الأوثان لحاجاتهم (مِنْ دُونِهِ) سواه (لا يَسْتَجِيبُونَ
لَهُمْ بِشَيْءٍ) لا تستجيب أصنامهم لهم أدعيتهم ولا توصل إليهم شيئا
يطلبونه. (إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي كالعطشان الذي يبسط كفيه إلى الماء عن بعد ليتناوله
ويروي به عطشه ولكن ذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة فكذلك ما كان يعبده
المشركون من الأوثان لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيبون لدعائهم لأنّهم لا يسمعون
ولا يبصرون ولا يعقلون (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لا يصادف محل إجابة ليكون في طريقه المستقيم للإجابة.
١٥ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أن كل من في السماوات والأرض شأنه السجود لعظمته سبحانه
ويجب عليه السجود. ويسمّى لهذا بالسجود الشأني ، وهو بهذا المعنى عامّ والمراد به
عام. أو أن المراد بالسجود الخضوع والاعتراف بالعبودية ، وهو بهذا المعنى أيضا
عامّ لأن كلّ من في السماوات والأرض معترفون ومقرّون بالعبودية ، (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي باختياره ، وقهرا ، وكذلك يكون شأن المخلوق لخالقه ، (وَ) كذلك تسجد (ظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) والغدوة هي البكرة أو بين طلوع الفجر وشروق الشمس ،
والآصال : جمع أصيل ، وهو هنا الوقت الواقع بين العصر والمغرب. وقيل إن كل ظلّ
يسجد لله تعالى ولو كان ذو الظلّ لا يسجد ، أو إذا سجد ، سجد لغيره تعالى. وقيل :
أريد بالظلّ الجسد لأنه ظلّ الروح.
١٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي يا محمد اسأل هؤلاء الكفرة : من ربّ السماوات والأرض
وخالقهما ومتولّي أمرهما؟. (قُلِ اللهُ) أي أجيبهم بذلك إذ لا جواب غيره (قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) الهمزة للإنكار ، أي : فكيف اتّخذتم غيره يتولّى شؤونكم مع
أن الأصنام التي اتخذتموها لا تملك نفعا ولا ضرّا .. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي
الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي الكفر والإيمان؟. والحاصل أنه لا يستوي من يعيش في ظلمة
الكفر والشّرك ولا يبصر شيئا ، مع من هو في نور الإيمان وحقيقة اليقين (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ
خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) إلى آخرها. الهمزة فيها للإنكار. وحاصل الآية الكريمة أنهم
ما اتّخذوا لله شركاء مثله تعالى في القدرة والخلق حتى يشتبه الأمر على النّاس ،
ولا بين مخلوقين له ولشركائه ، حتى يتشابه ما خلقه وما خلقته أصنامهم ، بل أمر
الخلق وفعله هو من مختصات الله سبحانه ولا يقدر عليه أحد غيره (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) المتوحّد في الرّبوبيّة ، الغالب على كل شيء القاهر لكل
جبّار عنيد.
١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) أي مطرا (فَسالَتْ) منه (أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو المنخفض بين الجبلين الذي تجري فيه المياه (بِقَدَرِها) أي بقدر اتّساع المجاري وضيقها ، أو على حسب المصلحة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أن السيل جرف معه ما استعلى على وجهه من ذلك الأبيض
المنتفخ فقاقيع وأوساخا. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثلما يعلو الزبد على وجه الماء حين جريانه الشديد ،
يعلو على صفحته ما يوقد عليه النّار عند تذويبه كأنواع الفلزّات من حديد وذهب
وفضّة ، لطلب زينة أو لأي انتفاع آخر كالأواني وغيرها. فإنّ الحاصل من تلك المعادن
عند تذويبها يكون على سطحه زبد كزبد السيل وهو خبث المعادن وغشّها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ
وَالْباطِلَ) إلى آخر الآية أي كذلك يشبّه الإيمان والكفر بالبصير
والأعمى ، وبالنور والظّلمة ، فالحقّ والإيمان شبّههما بالماء الصافي النافع للخلق
المستقر في الأودية للانتفاع ، وشبّه الباطل والكفر بالزبد الذاهب الذي لا ينتفع
به أبدا.
١٨ ـ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى ...) أي للّذين سمعوا دعوة ربّهم وآمنوا بها وأجابوا داعيه ،
لهم الحسنى وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُ) ما أطاعوه ولا أجابوا دعوته (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ثم يضاعف لهم أيضا معه (وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لَافْتَدَوْا بِهِ) ثم جعلوا ذلك كلّه فدية عن أنفسهم من العذاب يوم القيامة
لا يقبل منهم ، (أُولئِكَ لَهُمْ
سُوءُ الْحِسابِ) أي أسوأه وأتعسه. (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي مصيرهم إلى جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم نار جهنم فراشا
موطأ لنومهم.
١٩ ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ ... كَمَنْ هُوَ
أَعْمى ...) أي ليس من يعرف أنّ ما أنزل إليك من القرآن حقّ ، كالذي هو
أعمى القلب والبصيرة. إنما يتفكر فيه ويستدل أولو العقول. وهذه الآية الكريمة تحث
على طلب العلم للوصول إلى المعرفة الحقّة ، لأنه إذا كان حال الجاهل كحال الأعمى
وحال العالم كحال البصير ، وأمكن لهذا الأعمى أن يصير بصيرا فما الذي يقعده عن طلب
العلم الذي يخرجه من حال العمى إلى حال الإبصار.
٢٠ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ...) أي بما عقدوه على أنفسهم لله سبحانه (وَلا يَنْقُضُونَ) أي لا ينكثون (الْمِيثاقَ) وهو ما أوثقوا نفوسهم به فيما بينهم وبينه تعالى أو بينهم
وبين العباد. وهذا تعميم بعد تخصيص ، لأن الميثاق أعم ، والعهد هو العقد بين العبد
والخالق أو بين المخلوق والمخلوق ، وينبغي القيام بشروطه غير منقوصة.
٢١ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ...) هم أيضا ـ عطفا على من سبق ـ يقومون بأوامر الله تعالى ونواهيه.
وعن الصادق عليهالسلام : نزلت في رحم آل محمد ، وقد تكون في قرابتك. (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي هو له وقيل : هو أن يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم
الحسنات.
٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ ...) أي صبروا على طاعته وعن معصيته وعلى بلائه طلبا لرضاه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالطاعة المعصية ، وبالعمل الصالح العمل القبيح
، و (أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ) عاقبتها الحسنة وهي الجنة.
٢٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) وهذه الآية إلى آخر الآية التالية وقوله : بما صبرتم ،
بيان لعقبى الدار. وقد روي أنها نزلت في الأئمة (ع) وشيعتهم الّذين صبروا.
٢٤ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ...) أي يسلّمون عليهم ويحيّونهم بسبب صبرهم في الدنيا. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الجنة يقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ) إلخ ...
٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ...) أي يدعون ما أوثقوا به أنفسهم من الإقرار والقبول. وقد روي
أنها في ولاية أمير المؤمنين (ع). وهذه الآية المباركة على طرف نقيض مع الآية
السابقة. فالّذين ينقضون ذلك العهد (وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) بتهييج الفتن والحروب والظلم أولئك (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) أي عذاب يوم القيامة ومصيره السيّئ.
٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
...) أي : يوسّع الرّزق : (وَيَقْدِرُ) ه : يضيّقه بحسب المصلحة (وَفَرِحُوا
بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي أن الدنيا في جنب الآخرة متاع زائل.
٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ...)
أي يطلبون معجزة
كعصا موسى وناقة صالح ، فقل لهم يا محمد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشاءُ) أي يخذله بسوء فعله ويحرمه عنايته لعدم اعتداده بالآيات
المنزلة. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ أَنابَ) أي رجع عن الفساد إلى الطاعة والحق.
٢٨ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وتأنس قلوبهم بذكر الله
وتسكن إليه وقيل : الذكر هو محمد (ص) (أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تسكن وتأنس.
٢٩ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا ... طُوبى لَهُمْ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وعملوا ما وجب عليهم من
الطاعات. لهم طوبى : قيل هي شجرة في الجنة أصلها في داره (ص) وقد روي عن الصادق (ع)
قوله : وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلّا أتاه
به ذلك الغصن ، ولو أن راكبا مجدّا سار في ظلها مائة عام ما خرج منه ، ولو طار من
أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما ، ألا ففي ذلك فارغبوا. وقيل طوبى : مصدر
من الطيب وقيل هي مؤنث أطيب. (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي المآل الحسن.
٣٠ ـ (كَذلِكَ ...) أي : كما أرسلنا الرّسل قبلك (أَرْسَلْناكَ فِي
أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة. (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو القرآن. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعني : إليه توبتي ومآبي ورجوعي.
٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ) أي زعزعت عن مقارّها وأزيلت عن مواضعها بقراءة القرآن
عليها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الْأَرْضُ) أي تشقّقت وتصدّعت (أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتى) بعد إحيائهم بقراءته عليهم ، فيسمعون ويجيبون. وجواب لو :
محذوف ، والتقدير : لكان هذا القرآن. أو : لما آمنوا لفرط عنادهم (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي له تعالى القدرة الكاملة على كلّ شيء بما في ذلك إنزال
الكتاب الذي تترتب عليه تلك الآثار. ولكن المصلحة اقتضت عدم الإنزال لأنه أعلم بما
يفعل (أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يعلموا أن هؤلاء المطالبين بالآية قد تصيبهم (بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) من الكفر وسوء الأفعال؟. والقارعة هي المصيبة العظيمة التي
تقرعهم (أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة. فيفزعون من أن يصل إليهم شررها ،
٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ ... فَأَمْلَيْتُ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : الإملاء أن يترك الإنسان ويمهل ملأة من الزمان في أمن
ودعة حتى يطول الأمل ثم يؤخذ بغتة ، وهكذا فعلت مع الّذين كفروا (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب وأهلكتهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) للمعاندين للرّسل. وهذه الآية تسلية للرسول (ص) ووعيد
للمستهزئين به والمقترحين عليه الآيات.
٣٣ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ
...) أي رقيب وحفيظ يسمع قولها ويراقب فعالها. (قُلْ سَمُّوهُمْ) : لا اسم من يستحقّون به الإلهية لأن الأصنام أحجار لا
تعقل (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ) تعرّفونه بشيء لا يعرفه ممّا (فِي الْأَرْضِ) من مخلوقاته (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ) إذ تسمّون معبوداتكم من الأوثان شركاء له من غير حقيقة
واعتبار كأنّ الله تعالى لا يعلم حقيقة المسمّى الذي تدّعونه. وقد (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لهم (مَكْرُهُمْ) كيدهم (وَصُدُّوا) ضاعوا (عَنِ السَّبِيلِ) الطريق الحق ، ومن كان هذا شأنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يدلّه على الصواب.
٣٤ ـ (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
...) بالقتل والسبي وأخذ الأموال ، و (لَعَذابُ الْآخِرَةِ) سيكون عليهم (أَشَقُ) أي : أشدّ لدوامه وخلودهم فيه. ويؤمئذ ليس لهم (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي دافع يدفع عنهم ويقيهم سخطه وغضبه.
٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ ...) أي صفتها ، وهي مقرّ المؤمنين ، أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) بين بساتينها (أُكُلُها) ثمرها (دائِمٌ) باق لا ينفد (وَظِلُّها) كذلك لا تنسخه شمس ف (تِلْكَ) الجنّة (عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا) المتّقين أي مآلهم الأخير (وَعُقْبَى
الْكافِرِينَ النَّارُ) التي لا يقضى عليهم فيها فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم عذابها.
٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...) وهم المؤمنون بك يا محمد ، والكتاب هو القرآن ، (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن وقيل المراد بهؤلاء أيضا من آمن من اليهود
والنصارى وذلك لموافقته لكتابهم. (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين تحزّبوا عليك بالعداوة من المشركين وكفرة أهل
الكتاب (مَنْ يُنْكِرُ
بَعْضَهُ) وهو ما خالف أحكامهم وشريعتهم. فقل لهؤلاء (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ
وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ولا أستطيع أن أغيّر شيئا من عندي (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره (وَإِلَيْهِ مَآبِ) رجوعي ورجوع الخلق أجمعين.
٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) أي كما أنزلنا على الأنبياء السابقين كتبا بلسان قومهم ،
أنزلنا القرآن (حُكْماً عَرَبِيًّا) أي شريعة وأحكاما بلغة العرب من قومك ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي سلكت طريقتهم وسرت بحسب رغباتهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما
لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ناصر (وَلا واقٍ) دافع يردّ عنك غضبه ويحفظك من عقوبته.
٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً ...) عيّر بعض المشركين نبيّنا (ص) بأنه كثير الأزواج مهتمّ
بالنساء ، فنزلت هذه الكريمة تبيّن أن الرسل من قبله قد كانت لهم نسوة وأزواج
كسليمان وداود وغيرهما (وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي معجزة (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) برخصته وبمشيئته (لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ) أي أن العذاب وغيره من الأمور التي ستنزل بهم ، كلّها لها
مواقيت مقدّرة معيّنة في اللوح المحفوظ ، بل كلّ عذاب ، وكلّ أمر ينزل في وقته
وعلى حسب المصالح التي قدّرها الله تعالى ، وهي كآجال الموت والحياة وكقوله : «ما
كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله».
٣٩ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) : فهو ينسخ ما يشاء ويبقي ما يريد في كلّ عصر وكلّ زمان
بحسب ما تقضي مصالح العباد. وهذا رد على طعن الكفار عليه (ص) بأنه لو كان صادقا
لما نسخ الأحكام التي ادعى تشريعها قبلا وأم الكتاب : اللوح المحفوظ.
٤٠ ـ (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ ...) وقد نريك يا محمد بعينك وأنت على قيد الحياة بعض ما
هدّدناهم به من القتل والإذلال (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نقبضك إلينا ونوقع بهم ما وعدناهم ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وظيفتك تبليغ الأحكام إليهم من قبلنا (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي السؤال والمحاسبة والمجازاة.
٤١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي
الْأَرْضَ نَنْقُصُها ...) أي : أفلا ينظر هؤلاء الكفّار أنّا نعمد إلى الأرض فيأتيها
أمرنا بنقصها (مِنْ أَطْرافِها) أي جوانبها وما حولها بالفتح على المسلمين وبأخذ أقسام
منها من أيدي الكافرين والمشركين وقيل إن معناه : أو لم يروا إلى ما يحدث في
الدنيا من الخراب بعد العمار ، والموت بعد الحياة ، والنقصان بعد الزيادة؟. (وَاللهُ يَحْكُمُ) بنقصان الأرض وازديادها بما ذكر (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه ولا حكم بعد حكمه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) للعباد.
٤٢ ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) أي قد كاد الذين من قبل قومك لأنبيائهم كيدا كثيرا (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) وعليه مجازاة الماكرين ، وهو يأخذهم بسوء تصرّفهم (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ولا يفوته علم شيء ولا يشغله شيء عن شيء (وَسَيَعْلَمُ) سيعرف هؤلاء (الْكُفَّارُ) المعاندون لك (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة يوم القيامة.
٤٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ
مُرْسَلاً ...) أي أنهم ينكرون رسالتك من عند الله ونبوّتك ، ف (قُلْ) لهم : (كَفى بِاللهِ
شَهِيداً) شاهدا عالما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يفصل في هذا الأمر وفي غيره (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتابِ) ومن يملك الأحكام ويفصل في الأمور. وقد سأل رجل عليا (ع)
عن أفضل منقبة له فقرأ هذه الآية ، وذلك أنه سئل النبي (ص) عن هذه الآية فقال :
ذاك أخي علي بن أبي طالب كما سئل الإمام (ع) عن الذي عنده علم الكتاب أعلم أم الذي
عنده علم من الكتاب؟ فقال : ما كان الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم
الكتاب إلّا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.
سورة إبراهيم
مكية ، عدد آياتها ٥٢ آية
١ ـ (الر ، ...) قد مرّ التعليق على الحروف التي تقع في مفتتح السور في أول
سورة البقرة ، (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ) وحيا من عندنا (لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لتخرجهم من ظلمات الكفر والضلال الذي هم فيه إلى نور
الإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه وتسهيله (إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي طريق الله المنيع الجانب اللائق بالحمد.
٢ ـ (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) الله الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ويتصرّف به
كيف يشاء (وَوَيْلٌ
لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) تهديد لهم بالعذاب العظيم يوم القيامة ، ووعيد بالويل الذي
يقال إنه واد في قعر جهنم.
٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ...) فالكافرون هم الذين يختارون المقام في هذه الدّنيا
والانغماس في مغرياتها ، ويفضّلون ذلك على العمل للآخرة ، (وَيَصُدُّونَ) يمنعون غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصلة إلى مرضاة الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويريدون طريق الحق معوجّة ذات لفّ وزيغ فينحرفون بالناس
إليها عن الحق (أُولئِكَ) المنحرفون (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) في ضياع عظيم عن الحق.
٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ ...) أي أن كل رسول نزل بكتاب بلغة قومه الذين تولّد منهم ونشأ
بينهم وبعث إليهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي ليوضح لهم ما أرسل به فيفهموا قوله بلغتهم الدارجة
بينهم لتتمّ الحجة عليهم. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فيضل من يشاء الضلال بسوء سريرته ويهدي من يريد بتيسير
الهداية له كيلا يكون الإيمان إلجاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر تفسيره.
٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بعثناه بدلائلنا ومعجزاتنا وأمرناه (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فاهدهم إلى الإيمان وأنقذهم من الجهل والكفر (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي أنذرهم بوقائعه وآياته التي حلّت بالأمم التي سبقتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلائل وبراهين (لِكُلِّ صَبَّارٍ) صبور على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه عزوجل.
٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي اذكر إذ قال موسى ذلك لقومه فدعاهم لشكر ربّهم (إِذْ) حيث (أَنْجاكُمْ) خلّصكم الله تعالى (مِنْ) ظلم (آلِ فِرْعَوْنَ) حيث كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) أي يذيقونكم أتعس أنواع العذاب فيستعبدونكم ويكلفونكم
بالأعمال الشاقة. (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) عند ولادتهم لئلا يخرج منهم النبي الموعود (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقونهنّ للخدمة ، (وَفِي ذلِكُمْ) العمل الشنيع والشاق (بَلاءٌ) مصيبة عظيمة (مِنْ رَبِّكُمْ) قدّره عليكم (عَظِيمٌ) حمله.
٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ...) أي واذكر إذ أعلم ربكم والأذان هو الاعلام (لَأَزِيدَنَّكُمْ) لأعطينّكم زيادة منها (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
...) ان أنكرتم نسبة نعمتي إليّ. وقد عبّر عن عدم الشكر بالكفر
لأن كفران النعمة وعدم عرفان الجميل أمر منكر ، وذلك أن الكافر هو منكر لله ، فهذا
كفر وذاك كفر سواء بسواء ، إذ إن من لا يعرف آلاء الله وينكر فضله أشد كفرا ممن لا
يعرفه مطلقا ، وعن الصادق (ع) في تفسير وجوه الكفر : الوجه الثالث من الكفر : كفر
النعم ، واستدل (ع) بهذه الآية الكريمة عليه. وعنه (ع): ما أنعم الله على عبد
بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها.
٨ ـ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ...) أي قال موسى لقومه : إن تجحدوا نعم الله أنتم وسائر أهل
الأرض (فَإِنَّ اللهَ) سبحانه (لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي مستغن عن شكركم محمود في أفعاله كما هو محمود بذاته.
٩ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ ...) يعني : ألم تسمعوا بأخبار من سبقكم من الأمم التي كفرت
بأنعم ربّها وأشركت به كقوم (نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ) المعروفي الحال والمآل (وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) قد كفروا مثلهم وأصابهم ما أصابهم من الهلاك والدمار (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي : لا يعرفهم غيره سبحانه لكثرة عددهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الدّلائل الساطعة (فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي كمّوا أفواه رسلهم بأيديهم حتى يمنعوهم من تبليغ
رسالاتهم ومنعوهم عن الكلام وترويج الدعوة. وقيل : عضّوا أناملهم من شدة الغيظ
والحنق على رسلهم (وَقالُوا) لهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ننكر رسالاتكم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍ) ريب (مِمَّا تَدْعُونَنا
إِلَيْهِ) وتدّعون أنه من عند الله ، (مُرِيبٍ) مشكوك فيه.
١٠ ـ (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ ...) أي أجاب الرّسل أقوامهم عند تكذيبهم لهم : متعجّبين (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما وموجدهما من العدم بقدرته ، (يَدْعُوكُمْ) للإيمان به (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) يتجاوز عن ذنوبكم ، (وَ) هو (يُؤَخِّرَكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت عيّنه سبحانه وجعله منتهى أعماركم (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) أي : أجابهم أقوامهم ما أنتم إلّا أناس منّا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ
آباؤُنا) تحوّلوننا عنه (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تبيّن صحة دعواتكم.
١١ ـ (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) أي أجابوا أقوامهم بأننا بشر مثلكم حقّا (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ) يتفضّل (عَلى مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) الذين يرتضيهم ويختارهم رسلا دون بقية الخلق ويجعل فيهم
خصائص ليست في بني جنسهم (وَما كانَ لَنا أَنْ
نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) وليس بيدنا إتيان المعجزة والبرهان ، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بمشيئته فهو الذي يختص كل رسول بآية معينة من عنده ويجعلها
من جملة براهينه. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) المصدّقون به وبرسله يفوضون أمورهم إليه.
١٢ ـ (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى
اللهِ ...) يعني : أي عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه سبحانه؟ ومن
التوكل الشكر عند العطاء والصبر عند البلاء والرضا في سائر الأحوال (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) دلّنا على طريق الخير الذي وصلنا إليه في إيماننا وحملنا
الرسالة (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى
ما آذَيْتُمُونا) فنتحمّل في سبيله تعالى كلّ أذى يصدر منكم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ) الذين يفوّضون أمرهم إليه.
١٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ...) أي لنطردنّكم من بلادنا (أَوْ لَتَعُودُنَ) لترجعنّ (فِي مِلَّتِنا) متّبعين ديننا وعباداتنا للأصنام (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أوحى سبحانه لرسله وأنبيائه (لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ) سنبيد الظالمين لكم.
١٤ ـ (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِهِمْ ...) هذا وعد وبشارة منه سبحانه بنصر رسله بأن يدمّر الكافرين
ويسكن الأنبياء والمؤمنين بهم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم (ذلِكَ) هذا الوعد (لِمَنْ خافَ مَقامِي) خاف من الوقوف بين يديّ للحساب ، (وَخافَ وَعِيدِ) أي عقابي.
١٥ ـ (وَاسْتَفْتَحُوا) : أي أن الرّسل طلبوا الفتح والنصر منه تعالى فأعطاهم ذلك (وَخابَ) خسر (كُلُّ جَبَّارٍ) ظالم لهم ، شديد الظّلم (عَنِيدٍ) مكابر معاند لله ورسله.
١٦ ـ (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) : أي جهنم بين يدي ذلك الجبار العنيد الذي وقف في وجه دعوة
الرسول ووراء هنا ضد أمام ، ولكنها بمعنى أمام حيث سيلاقي هذا المعاند عما قريب
عذاب جهنم. (وَيُسْقى) يكون شرابه فيها (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) هو الدم القذر والقيح الذي يخرج في النّار من فروج الزواني.
١٧ ـ (يَتَجَرَّعُهُ ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ
...) أي يتكلّف شربه فيشربه مغصوبا جرعة جرعة ونفسه لا تقبله
لحرارته ونتنه ولكنه مكره عليه (وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي تحلّ به موجبات الموت في كلّ لحظة يقضيها في النار من
كل موضع من جسده ولكنه لا يموت موتا يستريح بعده ويخلص من العذاب ، فهو لا يزال
يموت ويحيا ، وينضج جلده ويتبدّل. وروي أن روحه ستبقى في ترقوته فلا هي تعود إلى
جسمه فيرتاح ولا هي تخرج منه فتخف آلامه. (وَمِنْ وَرائِهِ
عَذابٌ غَلِيظٌ) أي من وراء هذا الكافر الخلود في النار. أو من بعد كلّ
عذاب يذوقه عذاب آخر أشد منه.
١٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
أَعْمالُهُمْ ...) قرّب سبحانه لأذهان السامعين جزاء عمل الكفار به ، وأنه (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) مثل الرماد الذي ينتج من حريق النار يعصف به الهواء الشديد
(فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) شديد الريح والهبوب. (لا يَقْدِرُونَ
مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا ينتفعون بأعمالهم يوم القيامة ولا يجدون ثوابا (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي أن عملهم ذلك هو الذهاب البعيد عن الحق.
١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...) خطاب للرسول (ص) ومن خلاله لكل الخلق بأنه سبحانه خالق
السماوات والأرض بالحكمة والغرض الصحيح ولم يخلقها عبثا (إِنْ يَشَأْ) أي إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) يهلككم ويدمركم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ) غيركم :
٢٠ ـ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) : أي : ليس إهلاككم وخلق غيركم بمتعذّر على الله سبحانه
ولا بمتعسّر عليه. إذ هو القاهر فوق عباده فلا يعجزه شيء.
٢١ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ...) أي أحضروا بين يدي الله تعالى جميعا يوم القيامة للحساب
والجزاء ، وقد أتى بلفظ الماضي وهو يقصد المستقبل ، كقوله تعالى : ونفخ في الصور ،
مع أنه سينفخ فيه يوم القيامة. وذاك بسبب تحقق وقوعه وتأكيد حصوله فكأنه شيء مضى
إذ سبق فيه القضاء وصار بحكم الكائن. (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم ممّن لا رأي له من ضعفاء العقول والأدنياء (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تكبّروا عن الإيمان بالله وبرسوله وهم قادتهم في الدنيا وفي
خطبة الغدير لأمير المؤمنين (ع): أفتدرون الاستكبار ما هو؟ هو ترك الطاعة لمن
أمروا بطاعته ، والترفّع عمن ندبوا إلى متابعته. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل أنتم دافعون عنّا شيئا من عذاب الله. (قالُوا) لهم مجيبين : (لَوْ هَدانَا اللهُ) دلّنا إلى طريق الخلاص من العقاب (لَهَدَيْناكُمْ) دللناكم على الهدى ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا
أَمْ صَبَرْنا) فلا الجزع يفيدنا ولا الصبر ينجينا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) فليس لنا من مفرّ ولا مهرب من العذاب.
٢٢ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ
الْأَمْرُ ...) أي قال إبليس حين فرغ من الحساب ودخل أهل الجنّة الجنّة
وأهل النار النار. (إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) بالجنّة (وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ) وغششتكم وأغريتكم بالكفر (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي لم أجبركم على العمل بغشّي (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) وسوست إليكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وأطعتم وسوستي (فَلا تَلُومُونِي) وتحمّلوني مسئولية ضلالكم ، (وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ) واجعلوا لومكم كلّه لأنفسكم لأنكم اتّبعتم هواكم (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي لست بمغيثكم (وَما أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَ) فلا تفيدونني ولا أفيدكم في هذا اليوم (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ
مِنْ قَبْلُ) أي جحدت اليوم إشراككم إيّاي مع الله في الدّنيا ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) قيل : انه من تتمة كلام الشيطان وقيل انه كلام مبتدأ من
الله تعالى.
٢٣ ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ ...) إلخ أي بعد الفراغ من الحساب أدخل الله تعالى المؤمنين إلى
الجنان وكتب لهم الخلود فيها بمشيئته وكرمه (تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ) مر معناه في سورة يونس.
٢٤ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً ...) أي : ألم تنظر أيها الإنسان كيف مثل الله شبها مثّل بأن (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي الدعوة إلى التوحيد أو كلّ ما دعا إلى الحق تكون (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي شجرة نامية زاكية قيل هي النخلة وقيل غير ذلك (أَصْلُها ثابِتٌ) متين ضارب في الأرض (وَفَرْعُها فِي
السَّماءِ) مرتفع في الجو.
٢٥ ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّها ...) أي أن هذه الشجرة تجود بثمارها لآكليه في كل وقت بمشيئة
خالقها وبأمره (وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ) يبيّنها (لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيتدبّرونها ويتفكّرون فيها.
٢٦ ـ (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ
خَبِيثَةٍ ...) الكلمة الخبيثة هي كلّ قول باطل يدعو إلى الضلال والفساد ،
وهي كالشجرة الخبيثة التي لا يقبل الطبع ثمرها لمرارته كشجرة الحنظل (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) اقتلعت واستؤصلت من الأرض (ما لَها مِنْ قَرارٍ) ليس لها فيها من ثبات.
٢٧ ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي أنه سبحانه يسدد المؤمنين عن حجة وبرهان ويؤيدهم فيثبت
إيمانهم (بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ) الّذي هو كلمة التوحيد (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) طيلة حياتهم (وَفِي الْآخِرَةِ) يثبّتهم أيضا فيرجح موازينهم ولا تزلّ أقدامهم (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) يحرمهم عنايته ويخلّي بينهم وبين اختيارهم (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ولا يفعل ما يشاء غيره.
٢٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ...) أي : ألم تنظر يا محمد إلى الكافرين بنعمة الله الذين
قابلوا فضله بالكفر به وبنعمته ، (وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي أنزلوهم دار الهلاك.
٢٩ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ
الْقَرارُ) : هذا تفسير لدار البوار أي هي النّار التي يحترقون بلهبها
، وهي المقرّ البئيس الذي ينزل فيه الكفار.
٣٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي جعلوا له سبحانه أمثالا وأشباها من أصنامهم أشركوها معه
بالرّبوبيّة ابتغاء إضلال الناس عن سبيل الله والإيمان به ، ف (قُلْ) لهم يا محمد : (تَمَتَّعُوا) اقضوا حياتكم لاهين متمتّعين برغد العيش في الدنيا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) مرجعكم (إِلَى النَّارِ) والكون فيها أبدا.
٣١ ـ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي قل يا محمد للمؤمنين بي المصدّقين قولك أن (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) يؤدّوها ويداوموا على إقامتها (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي يدفعوا من أموالهم في وجوه الخير من الواجب والمندوب (سِرًّا) خفية عن الناس (وَعَلانِيَةً) على رؤوس الأشهاد (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ) يجيء (لا بَيْعٌ فِيهِ) أي لا يبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره ، (وَلا خِلالٌ) ولا صداقة نافعة.
٣٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) أي انشأهما من غير شيء (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي أخرج بذلك الماء أرزاقكم مما تعيشون به من المطعوم
والملبوس. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) فجعل السفن مسخّرة لكم تمشي في البحر بأمر الله بواسطة
الرياح التي أنشأها سبحانه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهارَ) التي تجري بالمياه التي ينزلها من السماء.
٣٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
...) أي ذلّلها لمنافعكم فضوء القمر ليلا وضوء الشمس نهارا (دائِبَيْنِ) أي مستمرّين مجدّين يجريان لما فيه صلاح حياة الإنسان
والحيوان والنبات (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي جعلهما متعاقبين واحدا بعد واحد من أجل العمل في
النّهار ، والراحة في اللّيل.
٣٤ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ
...) أي أعطاكم من فضله كلّ ما سألتم مما فيه صلاح دينكم
ودنياكم. (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : لا تطيقوا حصرها ولا تبلغوا معرفة أنواعها وأفرادها. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) والظلوم كثير الظّلم لنفسه والكفّار كثير الكفران لنعم
ربه. وقيل غير ذلك.
٣٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ...) أي اذكر يا محمد قول إبراهيم داعيا ربّه (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي مكة المكرّمة وما حولها وقد مر معناه في سورة البقرة (وَاجْنُبْنِي) أي جنّبني (وَبَنِيَ) وأولادي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ونشرك بك.
٣٦ ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ ...) أي أن الأصنام صرن سببا لإضلال الكثيرين من الناس. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي فمن كان على طريقتي واتّبع سيرتي فإنه بعضي لشدة
اختصاصه بي. (وَمَنْ عَصانِي) أي لم يطعني ويتبع ملّتي (فَإِنَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ساتر معاصيهم عليهم كثير الرحمة لهم.
٣٧ ـ (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي ...) أي آويت بعض أولادي وهو إسماعيل (ع) وكانت معه أمه هاجر وعن
الباقر (ع): نحن هم ، ونحن بقيّة تلك الذريّة ، وكانت دعوة إبراهيم لنا. ولذلك قال
النبيّ (ص): انا دعوة إبراهيم ، (بِوادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ) وهي وادي مكة القاحلة المجدبة فلا ماء فيها ولا نبات. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي الكعبة المشرّفة التي حرّم الله إهانتها في كل الأوقات
والأحوال (رَبَّنا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) أي أسكنتهم بهذا الوادي ليداوموا على إقامة الصلاة بشروطها
وقيودها وكامل أجزائها (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي تحنّ وتميل إليهم وإلى ذلك الموضع فيكون بذلك أنس
لذريته (ع) بمن يرد عليهم وبما يدر أرزاقهم (وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي ليشكروا نعمك.
٣٨ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي
وَما نُعْلِنُ ...) هذا الكلام يرتبط بما سبقه لبيان أنه (ع) حين طلب من ربّه
ما طلب ، اعتذر بأنّنا وإن طلبنا منك حوائجنا فليس ذلك من باب أنك لم تكن عالما
بها بل أنت تعلم ما في ضمير الإنسان وما توسوس به نفسه ولكنّنا ندعوك إظهارا
لعبوديّتك وافتقارا لرحمتك الواسعة واستعجالا لنيل ما عندك ، (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). هو إخبار منه سبحانه بذلك ابتداء وليس من تتمة كلام
إبراهيم (ع).
٣٩ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
...) أي أعطاني على نحو الهبة (عَلَى الْكِبَرِ) كبر سنّه (إِسْماعِيلَ) ابنه من هاجر وله (ع) تسع وتسعون سنة (وَإِسْحاقَ) وله مائة واثنتا عشرة سنة ، (إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) قابله ومجيبه.
٤٠ ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ،
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ...) دعا الله تعالى بأن يكون هو وبعض ذريّته من المؤمنين
المقيمي الصّلاة ولم يدع لجميعهم لإعلام الله السابق بأنه سيكون فيهم كفّار (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي استجبه.
٤١ ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ ...) أي تجاوز عنّي وعنهما وعنهم (يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسابُ) أي يوم يقوم الخلق للحساب.
٤٢ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...) أي : اطمئنّ بالا يا محمد ، ولا تظننّ أن الله غير منتبه
لما يفعله الكافرون ولا ساه عن عقابهم. (إِنَّما
يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخّر عذابهم والانتقام لك منهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي ليوم تتفتّح فيه العيون واسعة دون أن تطرف وهو يوم
القيامة.
٤٣ ـ (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا
يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ...) أي أنك سوف تراهم مقبلين بسرعة وانقياد إلى دعوة الداعي
رافعين رؤوسهم نحو السماء فزعا بحيث لا يرى الواحد مكان قدميه من شدة رفع الرأس
ولا يطبقون أجفانهم ولا يغمضون أعينهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ) أي أن قلوبهم خاوية فهم لا يدركون شيئا لفرط الدهشة والفزع.
٤٤ ـ (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذابُ ...) أي : خوّفهم يوم الموت أو يوم القيامة من العذاب الذي
ينتظرهم (فَيَقُولُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أنفسهم وغيرهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي أمهلنا إلى وقت قصير نقبل دعوتك فنطيع رسلك فيما
يدعوننا إليه. (أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ألم تحلفوا في دار الدّنيا (ما لَكُمْ مِنْ
زَوالٍ) أنكم خالدون فيها.
٤٥ ـ (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ...) أي قل يا محمد للمعاندين موبّخا لهم لقد سكنتم ديار من كذب
الرسل من قبلكم فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من عاجل العذاب. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) لتفهموا وتتدبّروا ، فاعتبروا.
٤٦ ـ (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ...) أي قد جهدوا في كيدهم لإبطال أمر الرّسل وتثبيت الباطل (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) مكتوب عنده وهو يجازيهم عليه (وَإِنْ كانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال ، وينبغي
لها أن تزول من ذلك الكيد الكبير وهو مبالغة في شدّة مكرهم.
٤٧ ـ (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ
وَعْدِهِ رُسُلَهُ ...) فلا تظنّنّ يا محمد أن الله يخلف أنبياءه ما يعدهم من
نصرهم وإهلاك أعدائهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
ذُو انتِقامٍ) فهو منيع الجانب شديد النقمة.
٤٨ ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ...) أي السماوات أيضا تبدل وقيل في معناها قولين : أولهما :
أنها تبدّل صورة نفس الأرض وهيئتها. وثانيهما : أن الأرض تبدّل وتنشأ أرض غيرها ،
والسماوات كذلك تستبدل بسواها. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي ظهروا بين يدي الله الواحد الغالب من قبورهم للحساب
والجزاء.
٤٩ ـ (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) : أي في ذلك اليوم العصيب ترى الكفار مقيدين بالأغلال قرنت
أيديهم بها إلى أعناقهم.
٥٠ ـ (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) : أي قمصانهم ولباسهم من القطران الذي يطلى به الجمل
الأجرب ليكتوي جربه بحدّته وحرارته ، وهو سريع الالتهاب شديد الحرارة أسود اللّون
منتن الرائحة ، تطلي به جلود أهل النار لتصبح سريعة الالتهاب شديدته ، (وَتَغْشى) تغطّي (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) إذ لا قطران عليها.
٥١ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ ...) أي ليعاقب كل نفس مجرمة بما اكتسبته من ذنوب وآثام (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مرّ تفسيره.
٥٢ ـ (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ...) أي أن هذا القرآن ، أو هذه السورة ، أو هذا التهديد والوصف
الذي قدّمناه ، هو. إعلام للخلق (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) وليكونوا مخوّفين به (وَلِيَعْلَمُوا) يعرفوا بالدلائل والبراهين (أَنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ) ربّ خالق فرد (وَلِيَذَّكَّرَ) يتدبّر (أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول.
سورة الحجر
مكية ، عدد آياتها ٩٩ آية
١ ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ
مُبِينٍ) : أي : هذا الذي ننزله عليك هو آيات القرآن الواضح البيّن.
٢ ـ (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
كانُوا مُسْلِمِينَ) : يعني أن الكفرة إذا عاينوا حال المسلمين من النّصر في
الدنيا ، أو الفوز بالجنّة في الآخرة ، يحتمل أن يتمنّوا الإسلام.
٣ ـ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ...) أي : دعهم ـ يا محمّد ـ يأكلوا كما تأكل الأنعام في
الدّنيا ، مكتفين بلذة الأكل وغيره وتشغلهم آمالهم الكاذبة عن الحق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) خسران طريقتهم حين يحلّ بهم العذاب.
٤ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ...) يعني أننا لم نهلك أهل قرية في السابق (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مقدّر مكتوب لا بدّ أن تبلغه.
٥ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ ...) أي : لم تكن أمة من الأمم الماضية لتهلك قبل أجلها المحدد
لها ولا لتتأخر عنه بل تهلك حين تستوفي ذلك الأجل.
٦ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ...) أي وقال المشركون لمحمد (ص) : يا أيها الذي يزعم أن الله
أنزل عليه القرآن أنت مجنون في دعواك تلك وفي توهمك انا نؤمن بك.
٧ ـ (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : هلّا جئتنا بالملائكة من السماء ليشهدوا بصدق نبوّتك
ودعوتك.
٨ ـ (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا
بِالْحَقِّ ...) أي لا نرسل الملائكة من السماء إلى الأرض إلا بالموت عند
حلول الأجل (وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ) يعني أن الكافرين ما كانوا حين نزولهم ممهلين بل تقبض
أرواحهم على الفور.
٩ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : أي أنّه سبحانه هو منزل القرآن على نبيّنا (ص) وهو حافظه
على مدى الأزمان من الهجر والمحاربة والتحريف.
١٠ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي
شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) : الشّيع : الفرق ، أي بعثنا قبلك يا محمد رسلا إلى جميع
فرق الأمم السابقة على أمتك هذه.
١١ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : يعني لست وحدك الرسول الذي استهزأ به قومه ، بل جميع
الرسل قبلك قد استهزأ بهم أقوامهم.
١٢ ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ) : أي كما سلكنا دعوة الرّسل السابقين في قلوب أممهم
المخالفة لهم ، كذلك سلكنا القرآن في قلوب المجرمين من قومك. فهم :
١٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي لا يصدّقون بالقرآن ماضين على طريقة من تقدمهم في
تكذيب الرسل وعدم الإيمان بما حملوه معهم من كتب من عند الله.
١٤ ـ (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ
السَّماءِ ...) أي لو أننا فتحنا على هؤلاء المقترحين أحد أبواب السماء
ليصعدوا إليها (فَظَلُّوا فِيهِ
يَعْرُجُونَ) أي يصعدون طيلة يومهم ليروا عجائب قدرتنا وغرائبها
وبدائعها : إذا :
١٥ ـ (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا
...) يعني ومع ذلك لقالوا من فرط عنادهم : سدّت أبصارنا عن
الحقيقة وغطيت (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمّد والذي نراه غير حقيقي.
١٦ ـ (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ
بُرُوجاً ...) أي خلقنا منازل للشمس والقمر ، (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي جعلنا السماء مزخرفة بالكواكب والنجوم التي يتأملها
الناظر إليها فيذعن لقدرة الله وحكمته.
١٧ ـ (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ) : أي حرسنا السماء من كل شيطان مقذوف بالشهب.
١٨ ـ (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ
فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) : أي إلا من حاول أخذ ما يسمع من السماء خفية من هؤلاء
الشياطين فلحقته شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض.
١٩ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ ...) أي والأرض بسطناها طولا وعرضا ووضعنا فيها الرواسخ من
الجبال (وَأَنْبَتْنا فِيها) أنشأنا نباتا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ) مقدّر بميزان ومعلوم في نوعيته وجميع خواصه.
٢٠ ـ (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ
وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) : أي وأوجدنا في الأرض ما تعيشون به من زروع ونبات أنتم
ومن لستم بمكلفين برزقه من العبيد والدواب وغيرها.
٢١ ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ ...) أي : ليس من شيء ينزل من السماء أو يكون في الأرض إلا ونحن
مالكوه والقادرون عليه وخزائنه سبحانه مقدوراته (وَما نُنَزِّلُهُ) أي الشيء الذي حكى سبحانه عنه لا ينزله من خزائن علمه في
السماء إلى الأرض (إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ) أي بمقدار ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
٢٢ ـ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ...) أي أجرينا الرياح ملقحة للسحاب حاملة للمطر أو ملقحة
للنبات حاملة لطلعها المذكر والمؤنث من نبات إلى نبات (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لشربكم وشرب حيواناتكم ونباتاتكم (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى سبحانه عنهم ما أثبته لنفسه. فهو خالق الماء ، وهو
القادر على إنزاله ، وخزائن الماء عنده ، وهم لا يستطيعون خزن ما يكفيهم منه ، وإن
هم خزنوه تحوّل إلى ماء آسن.
٢٣ ـ (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) : أي أنه سبحانه خالق الموت والحياة ولا يقدر على الإحياء
والاماتة غيره (وَنَحْنُ
الْوارِثُونَ) لأنه تعالى يرث الأرض ومن عليها وهو الحي الباقي بعد فناء
كل شيء.
٢٤ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ ...) أي علمنا الماضين منكم وعرفنا حالهم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي الباقين ، أو عرفنا الأوّلين والآخرين.
٢٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : أي أنه سبحانه أيها السامع يحشر جميع الناس إليه فيجمعهم
في صعيد يوم القيامة ويحاسبهم بحسب أعمالهم وبحسب علمه بهم وهو حكيم في تدبيره
خبير بما يستحقون.
٢٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) : أي خلقنا آدم من طين يابس إذا نقر صلصل وصوّت. والحمأ :
الطين المتغيّر الذي تبدو له رائحة لطول بقائه والمسنون المصبوب المصوّر المفرغ في
صورة.
٢٧ ـ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل خلق آدم ، والجان قيل إنه إبليس ، وقيل هو أب
الجن وسمّي جانّا لتواريه عن أعين الناس كما يسمّي الجنين جنينا لهذا السّبب. (مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي شديد الحر النافذ في المسامّ.
٢٨ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ...) أي اذكر يا محمد ، يوم قال الله للملائكة اني موجد إنسانا (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وهو الذي مرّ تفسيره.
٢٩ ـ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي ...) أي إذا أتممت خلقته وأجريت الروح فيه ، إذ هو معنى النفخ
وقد أضاف سبحانه روح آدم إلى نفسه تكريما.
٣٠ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ) : أي امتثلوا أمر ربّهم عزّ وعلا.
٣١ ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ
مَعَ السَّاجِدِينَ) : رفض السجود واستكبر عنه فاستثناه الله تعالى.
٣٢ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا
تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : أي قال الله تعالى ذلك القول لإبليس موبخا : ما منعك أن
تسجد؟
٣٣ ـ (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
...) إلخ أي : ما كان ينبغي لي أن أسجد لجسم ماديّ كثيف أوجدته
من التراب وأنا أشرف أصلا منه لأني مخلوق روحاني.
٣٤ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ
رَجِيمٌ) : أي : اخرج من الجنة فانك ملعون مطرود من الكرامة. أو
مرجوم. وقيل الضمير في (مِنْها) يرجع إلى السماء.
٣٥ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى
يَوْمِ الدِّينِ) : أي مع طردك من منزلتك هذه فإنك مبعد عن رحمة الله إلى
يوم القيامة.
٣٦ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) : أي قال إبليس : ربّ امهلني إلى يوم البعث.
٣٧ و ٣٨ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي انك من المؤخّرين الممهلين إلى ما قبل يوم القيامة.
وهو آخر يوم من أيام التكليف وهو النفخة الأولى في الصور. فيموت إبليس – كما عن
الصادق (ع) ـ بين النفخة الأولى والثانية ، وفسّر في بعض الروايات بيوم يبعث فيه
القائم عجّل الله فرجه. وقيل : بأن المراد بيوم الوقت المعلوم هو يوم يذبحه رسول
الله (ص) على الصخرة التي في بيت المقدس في عهد الرجعة على رأي البعض وهم قليل جدا.
٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ...) أي قال إبليس : بسبب إغوائك إياي يا رب والإغواء هو
الإضلال ، والإضلال لا تجوز نسبته إلى الله تعالى فيحمل على أن إبليس اعتقد الجبر
كما هو مذهب الأشاعرة. وقيل إن الإغواء هنا بمعنى التخييب ، أي بما خيّبتني من
رحمتك وطردتني من نعمتك (لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : لأحسّننّ للناس فعل القبائح والمعاصي ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأزيننّ لهم الباطل فأضلهم جميعا (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ) أي ما عدا المخلصين لك في العبودية.
٤١ ـ (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : أي قال الله سبحانه : إن هذا الصراط الذي أضعه صراط حقّ
لا عوج فيه وهو :
٤٢ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ ...) أي عبادي الذين يعبدونني ولا يشركون بي شيئا لن تكون
مسلّطا عليهم ولن تقدر على إغوائهم ، (إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ) وسمع لوسوستك وتزيينك (مِنَ الْغاوِينَ) الضالّين.
٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ
أَجْمَعِينَ) : أي أن النار تكون مكان ملتقى إبليس وأتباعه جميعا. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي أطباق أو ادراك بعضها فوق بعض (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من أتباعك (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي نصيب مفرز مفروض.
٤٥ و ٤٦ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ ...) أي أن المتجنّبين لعقاب الله بترك معاصيه في بساتين ذات
العيون والأنهار من الماء والخمر واللبن والعسل وغيرها (ادْخُلُوها) على إرادة القول : ادخلوا الجنة (بِسَلامٍ آمِنِينَ) سالمين لا تخافون فيها محذورا قط.
٤٧ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ ...) أي : أزلنا من قلوبهم كلّ عداوة وكلّ حقد (إِخْواناً) متآخين كأنهم أبناء أب واحد فيصفو لذلك عيشهم (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) يجلسون على أرائك بعضهم يواجه بعضا.
٤٨ و ٤٩ و ٥٠ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ...) أي لا يصيبهم في الجنة تعب (وَما هُمْ مِنْها
بِمُخْرَجِينَ) فهم مخلّدون فيها.
٥١ ـ (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : عطف على قوله تعالى : نبّئ عبادي ، أي وأخبرهم عن قصة
ضيوف إبراهيم.
٥٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ...) أي الملائكة إذ دخلوا عليه (ع) في صورة الأضياف ولذا سماهم
الله ضيفا (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلّم عليك سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ
وَجِلُونَ) أي خائفون ، وكان قد ظنهم لصوصا.
٥٣ ـ (قالُوا لا تَوْجَلْ ...) أي لا تخف منّا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ) أي ولد ذكر (عَلِيمٍ) يعلم عند بلوغه علما كثيرا.
٥٤ ـ (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ
مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ...) أي على حالة أصابتني الشيخوخة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي أبأمر الله حتى أصدّق أم من عند أنفسكم.
٥٥ ـ (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي قال الملائكة لإبراهيم (ع) : حملنا إليك هذه البشارة
بأمر الله الذي هو حق لا شك فيه (فَلا تَكُنْ مِنَ
الْقانِطِينَ) اليائسين.
٥٦ ـ (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ
رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) : أي أجاب إبراهيم (ع) رسل ربّه بأنه لا ييأس من رحمة الله
تعالى إلّا الجاهلون لقدرته التائهون عن طريقه.
٥٧ و ٥٨ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ) : أي ما هو شأنكم بعد هذه البشارة يا رسل ربّي (قالُوا) مجيبين : (إِنَّا أُرْسِلْنا) بعثنا من قبل ربّنا (إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ) إلى جماعة كافرين مذنبين وهم قوم لوط.
٥٩ و ٦٠ ـ (إِلَّا آلَ لُوطٍ ...) فاستثنوا آل لوط وقالوا : (إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ) مخلّصوهم من الهلاك (أَجْمَعِينَ ، إِلَّا
امْرَأَتَهُ) استثنوا من النّجاة امرأة لوط فإنها على ديدن قومها وقد (قَدَّرْنا) أي قضينا (إِنَّها لَمِنَ
الْغابِرِينَ) أي من الهالكين الذّاهبين في الهلاك.
٦١ و ٦٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ
...) أي فلما حضر رسل الله من الملائكة إلى القرية التي فيها
لوط وأهل بيته ودخلوا عليه (قالَ) لوط لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ) أي غير معروفين من قبلي.
٦٣ و ٦٤ ـ (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ
يَمْتَرُونَ ...) فأجابوه قائلين : لا تخف منّا وإنّما أتيناك بما يسرّك وهو
العذاب الذي كان قومك يشكون فيه (وَأَتَيْناكَ) جئناك (بِالْحَقِ) بالأمر الحق ، وهو العذاب (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نخبرك به.
٦٥ ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ...) : أي سر بأهلك ليلا ، (بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ) أي بجزء منه (وَاتَّبِعْ
أَدْبارَهُمْ) أي سر خلف عائلتك لتعلم حالهم فلا يتخلّف منهم أحد (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر أحد منكم جميعا إلى ما وراءه ممّا خلّف في
المدينة (وَامْضُوا حَيْثُ
تُؤْمَرُونَ) سيروا إلى الناحية التي نأمركم بها.
٦٦ ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ...) أي أوحينا إلى لوط أمرا محتوما قد وقع القضاء به ، وهو (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) القوم ، أي أن آخر من يبقى منهم (مَقْطُوعٌ) مستأصل مهلك (مُصْبِحِينَ) حين يدركهم الصباح.
٦٧ ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ) : أي حضر أهل مدينة سدوم التي كان لوط (ع) فيها يبشّر
بعضهم بعضا بالأضياف الذين نزلوا عليه طمعا بالفجور بهم.
٦٨ و ٦٩ ـ (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا
تَفْضَحُونِ ...) أي قال لوط لقومه إنّ هؤلاء ضيوفي فلا تلحقوا بي العار
بقصدكم السيّئ بهم (وَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه (وَلا تُخْزُونِ) لا تجعلوني مسربلا بالعار من جرّاء فعلتكم القبيحة.
٧٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ
الْعالَمِينَ) : أي قال للوط قومه : ألم ننهك أن تجير أحدا أو تضيفه؟
٧١ ـ (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) : المراد بناته من الصّلب ، أو أراد نساء القوم ، لأن كل
نبيّ بمنزلة الأب لأمته (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) تريدون قضاء الوطر فتزوّجوهنّ بالحلال.
٧٢ ـ (لَعَمْرُكَ) : أي وحياتك يا محمّد ، (إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في ضلالتهم يتحيّرون فكيف يسمعون النّصح ويقبلون
الهداية؟.
٧٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) : أي فعمّتهم صيحة جبرائيل الهائلة (مُشْرِقِينَ) حين شروق الشمس.
٧٤ ـ (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) : صارت منقلبة بهم رأسا على عقب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ) مرّ معناه في سورة هود.
٧٥ و ٧٦ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أي ان في قصة قوم لوط وعقابهم الشديد عبرة لمن اعتبر من
المتفرّسين الذين ينظرون إلى الأشياء بتعمق (وَإِنَّها
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي أن هذه المدن بما ظهر فيها من آثار نقمة الله سبحانه
لموجودة في طريق ثابت يسلكه الناس أثناء أسفارهم ويرونها.
٧٧ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي أن في قصة قوم لوط لعبرة للمصدقين بالله ورسله إذ هم
الذين ينتفعون بها دون غيرهم.
٧٨ و ٧٩ ـ (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ
لَظالِمِينَ ...) أصحاب الأيكة هم أصحاب الأشجار الملتفة أرسل إليهم وإلى
أهل مدين أيضا النبي شعيبا (ع) فكذبه أصحاب الأيكة هؤلاء كما كذبه أهل مدين فكانوا
ظالمين بذلك (فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ) أحللنا بهم نقمتنا فأهلكناهم. وكان هلاك أصحاب الأيكة
بالظلة وهي الحر الشديد المحرق وأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة. (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) يعني سدوم والأيكة ، فهما آيتان موجودتان بطريق واضح يتبع
ويهتدى به للساكنين.
٨٠ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ) : أي ثمود كذبوا صالحا. وفي تكذيبه تكذيب لجميع الرسل.
والحجر واد كان يسكنه القوم بين المدينة والشام فسمّوا باسمه.
٨١ ـ (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا ...) أي آتينا أصحاب الحجر الحجج والبراهين الدّالة على صدق
المرسلين. ومنها الناقة. (فَكانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ) أي لم يقبلوها ولم يتفكروا فيها.
٨٢ ـ (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتاً) : أي يحفرون في الجبال مساكن لهم (آمِنِينَ) مطمئنّين من عدم خرابها وسقوطها عليهم ومن العذاب الذي
أوعدهم الرّسل به فيما لو كفروا.
٨٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) : أي أهلكتهم صيحة جبرائيل (مُصْبِحِينَ) وقت الصبح.
٨٤ ـ (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ ...) أي ما نفع ودفع عنهم ما كانوا يحصّلون من البيوت المحصنة
وازدياد الأموال.
٨٥ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ...) أي ما خلقناهما وما بينهما خلقا عبثا بل لما اقتضته الحكمة
(وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ) أي ساعة الجزاء في دار الانتقام سوف تحل فيجازى كلّ بعمله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم واعف
عنهم عفوا جميلا.
٨٦ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ ...) للأشياء كلها وبيده أمرك وأمرهم وهو (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم وما فيه صلاحكم.
٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ
الْمَثانِي) : المثاني : جمع مثنى ، وقيل المثاني هي القرآن أو آياته.
وقيل هي سورة الحمد سميت بذلك كما قيل لأنها نزلت مرتين. وقيل السبع المثاني
الطوال من أول القرآن سميت مثاني لأنه ثنى فيها الاخبار والعبر. (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تقديره : وآتيناك القرآن العظيم.
٨٨ ـ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما
مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي لا تنظر نظر طمع ورغبة وتعظيم إلى ما جعلناه متعة
زائلة لأصناف من المشركين فإن ما ينعمون به هم وأهلوهم مستحقر في جانب ما آتيناك
من الإسلام والقرآن (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) إذا لم يؤمنوا بالله ولم يشكروا نعمه وما يصيرون إليه من
العذاب (وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ) تواضع لمن معك من المؤمنين.
٨٩ ـ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ) : أي قل للكفّار مخوفا أنا المنذر لكم بعقاب الله إن كفرتم
والمظهر صدق دعواي بالحجج والبراهين.
٩٠ و ٩١ ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
...) أي نحن أنزلنا عليك هذا القرآن كما أنزلنا على المقتسمين :
وهم اليهود والنّصارى.
(الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي صيّروه أجزاء وأقساما وأعضاء كأعضاء الجزور فآمنوا ببعضه
وكفروا بالآخر. وقد روي عن الصادقين (ع) في معنى هاتين الآيتين فقالا : إن كفار
قريش كان بعضهم يقول : إن سورة البقرة لي ، وآخر منهم يقول : إن سورة النحل لي
والباقي لكم ، وهكذا كان كل واحد يختار سورة استهزاء ويتقسّمون القرآن بهذه
الكيفية فسمّاهم الله : المقتسمين ووصفهم بالذين جعلوا القرآن عضين أي قطعا قطعا.؟
٩٢ و ٩٣ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي وحق ربك يا محمد : لنسألن هؤلاء الكفار توبيخا لهم :
لم عصيتم وما هي حجتكم فيما فعلتم فلا يكون لديهم جواب فيفتضحون بكفرهم.
٩٤ و ٩٥ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ ...) أي اجهر بتبليغ الأوامر والنواهي التي حمّلتها من ربك غير
خائف ولا مبال بالمشركين (إِنَّا كَفَيْناكَ) منعناك وحفظناك من (الْمُسْتَهْزِئِينَ) بإهلاكهم.
٩٦ ـ (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ ...) أي اتخذوا معه إلها يعبدونه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سيعرفون بطشه حين يذوقون عذابه.
٩٧ الى ٩٩ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) : أي نحن نعرف يقينا انك يا محمد يضيق قلبك ويعتصر ألما
بما يقوله قومك من تكذيبك والاستهزاء بك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) نزّهه عن كل ما لا يليق به واحمده وذلك بقولك سبحان الله
وبحمده. (وَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ) اسجد لعظمته وفوّض أمورك إليه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ) أي ما دمت حيّا ، فاليقين هنا الموت.
سورة النحل
مكية ، عدد آياتها ١٢٨ آية
١ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
...) أي قرب أمر الله بعقابكم أيها المشركون فلا تطلبوا الإعجال
به. والعقاب إما بقيام القيامة أو العذاب الدنيوي. وقيل معناه أن أمر الله أي
احكامه وفرائضه قد بلغ. (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها لله عما لا يليق به وبصفاته وعن أن يكون له شريك
في عبادته.
٢ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ...) أي ينزّلهم بما يحيي القلوب الميتة بالجهل (مِنْ أَمْرِهِ) بإرادته وبما ينزل من الوحي والقرآن. وقيل إن المراد
بالرّوح هو جبرائيل (عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ) ممّن يختصّهم بالرسالة (أَنْ أَنْذِرُوا) أعلموا الخلق ونبّهوهم بأنه (أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا أَنَا) لا ربّ سواي ولا معبود غيري (فَاتَّقُونِ) تجنّبوا مخالفتي.
٣ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ ...) أي أوجدهما ليستدلّ بهما على معرفته ويتوصل بالنظر فيهما
إلى العلم بكمال قدرته وحكمته (تَعالى) سما (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه غيره في الألوهية.
٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ...) أي ابتدعه وأوجده من ماء ضعيف مهين (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا بهذا الإنسان الضعيف الذي تعهّده صانعه وأنشأه ،
مجادل له منازع فيه ، ينكر ربوبيّته ويلحد بأسمائه وقدرته بشكل واضح.
٥ ـ (وَالْأَنْعامَ ...) أي الأصناف الثمانية (خَلَقَها لَكُمْ
فِيها دِفْءٌ) أي ما تستدفئون به من البرد من الألبسة (وَ) لكم أيضا فيها (مَنافِعُ) من نسل ودرّ وركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من اللحوم والألبان.
٦ ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ ...) أي زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي زمان تردّونها إلى مراحها بالعشيّ (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) في الوقت الذي ترسلونها إلى مرعاها بالغداة.
٧ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ ...) أي تنقلون عليها
أحمالكم من بلد إلى بلد بعيد (لَمْ تَكُونُوا
بالِغِيهِ) واصلين إليه (إِلَّا بِشِقِّ
الْأَنْفُسِ) إلا بالتعب الشديد (إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ذو رأفة بكم ورحمة. حيث أنعم بها وبغيرها عليكم.
٨ ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ
...) هذه الحيوانات كلّها خلقها سبحانه ، لفائدتكم (لِتَرْكَبُوها) في أسفاركم وتنقلوا عليها أثقالكم (وَ) جعلها (زِينَةً) لكم تتباهون في اقتنائها (وَيَخْلُقُ) بعدها (ما لا تَعْلَمُونَ) ما لا تعرفونه من المراكب التي تستحدث من بعدكم. وقد عنى
سبحانه مراكب اليوم من المخترعات والمصنوعات الحديثة البرية والبحرية والجوية وما
قد يوجد فيما بعد ، عدا المركبات الفضائية التي غزيت بها كواكب عديدة بعيدة ، وهذه
كلها بإفاضته سبحانه وهدايته وتوفيقه.
٩ ـ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ...) أي وعليه هداية الطريق المستقيم الموصل إلى الحق (وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن هذه السبل ما هو مائل عن الاستقامة معوجّ ، (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أرشدكم على طريق الإلجاء ، ولكنّه ينافي التكليف.
١٠ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ... لَكُمْ
مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) : أي منه لشربكم ومنه لشرب الشجر والنبات وسقيه (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي ترعون مواشيكم.
١١ ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ ...) إلخ. أن ينبت لكم الله بذلك المطر كل هذه الأشياء المذكورة
لانتفاعكم وما يتغذى به الحيوان من النبات وذكر ما ينفع للإنسان ممّا يتغذى به ، وهو
على قسمين : حيوانيّ وقد ذكر في خلق الأنعام ، ونباتىّ وهو الحبوب والفواكه ، ومن
الزرع كالحنطة والشعير والأرز ونحوها والزيتون كذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالة وحجة لأولئك الذين يستدلّون بها على عظمة خالقها
وكمال قدرته وحكمته.
١٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ...
وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) والمعنى : أنه أعدّها لمنافعكم حال كونها مسخّرة لحكمه
وتدبيره تعالى ومنافع الليل والنهار كثيرة ، فالليل وقت للاستراحة والطمأنينة ،
بينما النهار للحركة والسعي والعمل. وكذلك منافع الشمس والقمر أكثر من أن تحصى
ومنها إنضاج الفواكه وإدراك الزرع ومعرفة حساب الشهور والسنين وغيرها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) أي أن فيما عدّده من مخلوقاته حججا وأدلة وبراهين لأرباب
العقول الذين هم أهل التدبّر والاعتبار.
١٣ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ ...) أي خلق (فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات ومعادن ومطاعم ومشارب (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أشكاله وأصنافه هي أيضا متأثرة والمؤثر غيرها وهو الله
الواحد القهار (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي أن فيما ذكر مما ذرأ حجة وبرهانا للذين يتفكرون في
الأدلة فيتعظون بها.
١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ...) أي أنّ الله تعالى بقدرته ذلّل البحر وهيّأه (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي لتصطادوا منه لأكلكم لحما جديدا ذا طراوة. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) أي لتغوصوا فيه وتخرجوا منه ما تتزيّن به نساؤكم لكم من
اللؤلؤ والمرجان. وإنما صحّت نسبة اللبس إلى الرجال مع أن التي تلبس الحلية المرأة
فلأنها إنما تتزين للرجل ، ويحتمل أن الحلية إنما هي مما يتزين به الرجال أيضا. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي جواري تشق الماء بصدرها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) تطلبوا من سعة رزقه بركوبه للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على نعمه المذكورة بعد معرفتها.
١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ ...) أي خلق على الأرض جبالا رفيعة كبيرة ثابتة لئلّا تتحرّك وتضطرب
، (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا. (وَسُبُلاً) أي جعل في الأرض طرقا عديدة من موضع إلى موضع لتسهيل تحصيل
المقاصد والمنافع. وقيل : المراد طرق معرفة الله. (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى توحيد الله تعالى.
١٦ ـ (وَعَلاماتٍ) : هي معالم الطّرق وما يستدلّ به المارّة من جبل وسهل. (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) في الليالي كالمسافرين في البرّ والبحر. وقيل إن المراد به
الثريا والفرقدان والجديّ وبنات نعش.
١٧ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ
...) الاستفهام إنكاريّ ، يعني أفمن يوجد كل هذه الأشياء
المذكورة هو في استحقاق العبادة والربوبية كالأصنام التي لا تخلق شيئا ولا تضر ولا
تنفع حتى يسوّى بينه وبينها في العبادة؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي تتنبّهون وتلتفتون فتعرفوا فساد ذلك.
١٨ ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها ...) أي لا تقدروا على ضبطها وإحصائها ولذا لا تطيقون القيام
بشكرها (إِنَّ اللهَ
لَغَفُورٌ) يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها (رَحِيمٌ) يرحمكم بمزيد النعمة وتوفيرها.
١٩ ـ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ ...) أي ما تخفون من العقائد الحقّة والباطلة ، أو المراد أعمّ
منها (وَما تُعْلِنُونَ) من الأعمال الحسنة والسّيئة ، أو الأعمّ منها ومن العقائد.
٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
...) إلخ. أي الآلهة التي تعبدونها من الأصنام التي لا تقدر على
خلق شيء لأنها بنفسها منحوتة من الحجر والخشب وغيرهما.
٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ...) أي الأصنام ، أكّد كونها أمواتا بقوله غير أحياء لنفي
الحياة عنها على الإطلاق. (وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا يعلم العبدة وقت بعثهم ، أو لا يعلم المعبودون وقت
بعثهم وبعث عبدتهم.
٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ...) إلخ. لا يقدر غيره على خلق أصول النعم مما يستحق به العبادة
فاثبتوا على عبادته والكافرون قلوبهم مملوءة كفرا وهم مستكبرون عن العبادة وعن
الإذعان للحق.
٢٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ...) الجرم : الكسب. أي : لا محالة.
٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ) : إلخ. الخطاب لمشركي قريش والجواب منهم ، قالوا أباطيل
الأولين أي هذا المنزل في زعم المسلمين هو عندنا أحاديث الأقدمين الكاذبة الخرافية.
٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ...) إلخ. لللام للعاقبة ، والمعنى كانت عاقبة أمرهم حين فعلوا
ذلك أن يحملوا أوزار كفرهم تامّة يوم القيامة مع بعض أوزار الذين يضلّونهم لأنهم
شاركوهم في إثم ضلالهم إذ دعوهم إليه فاتّبعوهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين (أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ) أي بئس ما يحملونه من أوزار الضّلالة ووبال إضلالهم.
٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
...) أي قد فعل الخدع والحيل الّذين كانوا قبل مشركي قريش
بأنبيائهم إيذاء لهم (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي فجاءهم أمر الله وعذابه فاقتلع أساس أبنيتهم المتقنة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ) فسقط السقف وانهدم عليهم البنيان وهم تحته. (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ) أي جاءهم عذاب الاستئصال حين كونهم فارغي البال مرفّهين لا
يترقّبون العذاب ولا يتوقّعونه.
٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ
وَيَقُولُ ...) وفي يوم القيامة يعبد الله تعالى عن رحمته كل من دعوا أنفسهم
آلهة ويقول لعبدتهم (أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟) أين هم الذين ألّهتموهم وعبدتموهم وجعلتموهم شركاء لي ،
وكنتم تخاصمون المؤمنين وتعادونهم من أجلهم؟ (قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أجاب الأنبياء أو الأوصياء والعلماء الذين كانوا يدعون
البشر إلى الدّين والحق ، قالوا : (إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قد باءوا بغضب الله وطردوا من رحمته وأصبحوا محلّ لعنته.
٢٨ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
...) هم الكافرون المذكورون في الآية السابقة ، تتوفّاهم :
تتلقّاهم ملائكة العذاب (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بأن عرّضوها للعذاب والخلد فيه بكفرهم ، (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا عند الموت (ما كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ) أي اعتذروا كما يعتذر الأطفال الضعفاء بغير المعقول. لأنهم
جحدوا ما كانوا عليه من الشّرك والكفر وأنكروا عصيانهم في الدنيا ، فأجابهم
الملائكة (بَلى إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى كنتم تعملون السوء ، ومسجّل عليكم ما عملتموه.
٢٩ ـ (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) أي ادخلوا من أبوابها وقد ذكر الأبواب لأن كل باب معدّ لصنف
من المجرمين ، فلجوها (خالِدِينَ فِيها) مؤبّدين فيها (فَلَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) أي : لساء مقام المتكبرين عن التوحيد والعبوديّة.
٣٠ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ...) أي : ثم يسأل الذين تجنّبوا الشّرك. ماذا قال ربكم قالوا
أنزل الله القرآن الذي كله هدى وخير بخلاف الجاحدين الذين قالوا : أساطير الأوّلين
، (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) عقيدة وعملا (حَسَنَةٌ) إحسان إليهم من الله (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) المعدّة لهم في الجنّة (خَيْرٌ) مما هم فيه في دار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ) دارهم في الآخرة.
٣١ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) جزاء عملهم الصالح ، وقصورها (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تسير بين حدائقها الغناء ، (لَهُمْ) للمتّقين في الجنّة (فِيها ما يَشاؤُنَ) كلّ ما يريدون (كَذلِكَ) كمثل هذا الثواب الجزيل (يَجْزِي اللهُ) يثيب الله تعالى (الْمُتَّقِينَ) العاملين بأوامره ونواهيه.
٣٢ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ ...) فهم المتوفّون طاهري النفوس من دنس الشّرك ، أنقياء القلوب
من شوائب الظلم والملائكة يقولون لهم عند توفّيهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية لكم من عند الله تعالى ، أو من أنفسهم لأنهم يكونون
ملائكة رحمة ، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بعد البعث والنشور.
٣٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ ...) أي هل ينتظر الذين لا يؤمنون بالآخرة في آخر حياتهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملائكة العذاب لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ) يعني قضاؤه عليهم بالموت ، أو عذابه الذين يخبرون به ، (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عمل الأولون من المشركين ، (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وحاشاه أن يظلم أحدا. بل ظلموا أنفسهم هم بالمعاصي التي
استحقوا بها الهلاك.
٣٤ ـ (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) أي وقع عليهم سوء عملهم (وَحاقَ بِهِمْ) أحاط بهم جزاء (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.
٣٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ...) أي هؤلاء الذين مرّت صفة حالهم ومآلهم في الآية السابقة
وقالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ ، مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ) فلو أراد الله إرادة إلجاء ما عبدنا غيره ، نحن (وَلا آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) بل نحرّم ما حرّم فنسبوا قبائح أفعالهم إليه سبحانه وتعالى
عن ذلك علوا كبيرا. (كَذلِكَ) مثل فعلهم هذا (فَعَلَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) من المشركين (فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ) من واجب (إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) الاعلام الواضح الذي يكشف عن الحق؟ وعلى الناس بعد ذلك أن
يختاروا لأنفسهم.
٣٦ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً ...) أي أرسلنا لكل جماعة من الناس نبيّا يرشدهم قائلا لهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده دون غيره (وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ) مرّ تفسيره (فَمِنْهُمْ مَنْ
هَدَى اللهُ) لأنهم أهل للهداية فآمنوا (وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) اعتبروا ضالّين حقّا لتكذيبهم رسل ربّهم (فَسِيرُوا) امشوا (فِي الْأَرْضِ) فيما حولكم (فَانْظُرُوا) بأعينكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) للرّسل إذ دمّرناهم ، وآثار تدميرهم باقية.
٣٧ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ ...) أي : إن كنت مهتمّا يا محمد بأن يؤمنوا بك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي أن الله لا يمنح الهداية لمن ليس من شأنه أن يهدى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مساعدين ينصرونهم ويخلصونهم من العذاب.
٣٨ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ ...) أي أنهم حلفوا وبالغوا في الحلف واجتهدوا وهذه الآية عطف
على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا ...) إلخ. إيذانا بأنهم أنكروا التوحيد والبعث. (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) لا يعيد الله الأجسام بعد فنائها إلى حياة ثانية. (بَلى) يبعث الله الأموات ، وقد وعد بذلك (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا باطل فيه ولا خلف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره.
٣٩ ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ...) أي : يبعثهم ليظهر لهم ما يختلفون فيه من أمر البعث والحشر
(وَلِيَعْلَمَ) يعرف (الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنكروا ذلك ، (أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ) في أيمانهم وفي عقيدتهم وعملهم.
٤٠ ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ ...) إلخ. أورد سبحانه هذا القول للتقريب إلى الأذهان إذ أنه
تعالى لا يحتاج إلى لفظ (كُنْ) حتى يكون ما يريد ، فلو أراد شيئا لكان لمجرّد إرادته ،
والبعث والنشور لا يتوقّفان إلّا على أمره الذي إذا شاءه يريده (فَيَكُونُ) يصير حسب إرادته عزّ وعلا حالا.
٤١ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ...) أي الذين فارقوا أهليهم فرارا بدينهم في سبيل الله وابتغاء
مرضاته واتباعا لرسوله إلى حيث يأمنون على أنفسهم ودينهم. (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بعد أن ظلمهم المشركون في مكة وعذبوهم وبخسوهم حقّهم
لايمانهم بالله وكفرهم بالأصنام (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي لنسكننّهم فيها مساكن يعيشون فيها عيشة حسنة ،
ولنبدّلنهم بأوطانهم أوطانا أحسن منها ، قيل : هي مدينة الرسول (ص) فإنها طيبة
حسنة مباركة. (وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ) الثواب والجنّة (أَكْبَرُ) أوسع وأجمل (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لو عرفها هؤلاء المهاجرون لرأوا ما أعدّ الله لهم في الجنّة
فازداد سرورهم وحرصهم على التمسّك بالدّين.
٤٢ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا ...) إلخ. أي صبروا على مفارقة الأوطان وأذى الكفّار وهم
يفوّضون أمرهم إلى ربّهم. وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) ، خبر لمبتدإ محذوف تقديره : المهاجرون الذين ...
٤٣ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ...) أي جرت سنّتنا وعادتنا على أن نرسل من جنس البشر لا من
الملائكة ، أوحينا إليهم كما أوحينا إليك وإن اعتبرتموه أمرا غريبا (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إلخ. والمراد به ـ والله أعلم ـ أحبار اليهود والنّصارى
ورهبانهم الذين كانت قريش تعتقد بأقوالهم.
٤٤ ـ (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ...) متعلّق بأرسلنا ، أي أرسلناهم بالبراهين والمعجزات والكتب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الأحكام والدّلائل والشّرائع (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي يتأمّلون فيه فيعلموا انه الحق.
٤٥ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئاتِ ...) استفهام إنكاري ومعناه أيّ شيء أمن هؤلاء القوم الّذين
دبّروا التدابير السّيئة في توهين أمر النبيّ (ص) ، وإطفاء نور الدّين وإيذاء
المؤمنين من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ
بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي بغتة كما فعل بقوم لوط.
٤٦ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي يحل بهم العذاب في ذهابهم ومجيئهم للتجارة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فليسوا بفائتين.
٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ...) أي حال كونهم خائفين مترقّبين العذاب (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث أمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا ويرجعوا.
٤٨ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ) : أي أولم ينظروا إلى أشياء خلقها الله لها ظلال من شجر
وجبل وبناء ونحوها من الأجسام (يَتَفَيَّؤُا
ظِلالُهُ) يتمايل ظلّه (عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ) من موضع إلى موضع على حسب حركة ذي الظل أو الشمس (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي مستسلمين لله منقادين مسخّرين.
٤٩ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) أي ينقاد ويخضع لأمره وإرادته تعالى جميع من فيهما سواء
كان الانقياد إراديا أو تكليفيا (مِنْ دابَّةٍ) بيان للموصولين حيث إنّ الدّبّ عبارة عن الحركة الجسمانيّة
سواء كانت في الأرض أم في السّماء ، (وَالْمَلائِكَةُ) إمّا عطف الخاصّ على العامّ أو بيان لما في السّماء بناء
على كون الدابّة بيانا لما في الأرض خاصّة. (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) يتواضعون له.
٥٠ ـ (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) : أي عذاب ربّهم أن يجيء وينزل عليهم من فوق رؤوسهم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من العبادة والذّكر ، وتدبير الأمور ، وإنزال العذاب ،
وإمطار المطر وغير ذلك.
٥١ ـ (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ
اثْنَيْنِ) : هذا تأكيد يؤذن بمنافاة الاثنينيّة للإلهية أي لا تعبدوا
مع الله أحدا لأنه لا يستحق العبادة غيره. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ) أيضا أكّد تنبيها على لزوم الوحدة الإلهيّة ، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فخافوني دون غيري.
٥٢ ـ (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) : أي وله الطاعة واجبة على الدوام وقيل : معنى الواصب
الدائم ، وقيل واصبا : أي خالصا (أَفَغَيْرَ اللهِ
تَتَّقُونَ) أي أتخشون غيره تعالى مع أن غيره لا يضرّ ولا ينفع.
٥٣ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ
...) النّعم كالصّحة والسّعة ودفع المضارّ كلّها منه تعالى وهو
وليّ نعمكم (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي متى لحقكم ضرّ وبلاء تتضرّعون إليه سبحانه بالدّعاء
وترفعون أصواتكم للاستغاثة به تعالى.
٥٤ ـ (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ ...) أي بعد أن يكشف السوء الذي يحيق بكم استجابة لدعائكم (إِذا فَرِيقٌ) جماعة كثيرة (مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ) به ويعزون كشف الضرّ لغيره سبحانه.
٥٥ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران نعمة كشف الضرّ وإنكار كونها
منه تعالى جحدا أو جهلا (فَتَمَتَّعُوا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أمر تهديد ووعيد.
٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ ...) أي لأصنامهم التي لا علم لها ولا حس ولا شعور لأنها مجرد
جماد لا يضر ولا ينفع. (نَصِيباً مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) من الزرع والأنعام ، (تَاللهِ
لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي عن أنها آلهة وأهل لأن يتقرّب إليها ، وقد أقسم سبحانه
على ذلك.
٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ...) فقريش قالت : إن الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه له تعالى عمّا قالوه ويمكن أن تكون واردة مورد
التعجب (وَلَهُمْ ما
يَشْتَهُونَ) أي البنين.
٥٨ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى
...) إلخ. أي إذا أخبر بالأنثى صارت صورته متغيّرة إلى السواد
من الحزن ومن الحياء من الناس (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ غيظا وحنقا من أنه رزق بنتا.
٥٩ ـ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ ...) إلخ. أي يختفي من قومه وأهل بلده مخافة العار من الأنثى
التي رزقها (أَيُمْسِكُهُ عَلى
هُونٍ) أي يتركه على ذلّ وهوان (أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ) أي يئده ويدفنه في التراب كما كانت عادة بني تميم وبني مضر
في الجاهلية. (أَلا ساءَ ما
يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا جعلهم أولادا لربّهم المتنزّه عن
الأولاد. وقيل معناه ساء ما يحكمونه من قتل البنات وعدم مساواتهن للبنين ولعل
الجارية خير من الغلام. وروي عن ابن عباس : لو أطاع إله الناس الناس لما كان الناس
، لأنه ليس أحد إلا ويحب أن يولد له ولد ذكر ، فلو كان الجميع ذكورا لما كان لهم
أولاد فيفنى النوع الانساني وينقرض.
٦٠ ـ (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ ...) أي الصفة القبيحة كسواد الوجه حين بشّر بالأنثى ، والحزن
والجهل ، وقتل البنات خشية الإملاق ، والذل وغير ذلك (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) وهي الصّفة الحسنة من وجوب وجوده الذاتي ، والغنى المطلق ،
والجود العام وغير ذلك (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه.
٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ ...) إلخ. أي بكفرهم ومعاصيهم (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على وجه الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) إلخ. ممن يستحق ذلك لأن البليّة إذا جاءت عمّت ولكن يمهلهم
إلى وقت معلوم عنده هو يوم القيامة.
٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ
...) أي ما لا يحبّون لأنفسهم من البنات والشركاء وغيرهم (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ومع ذلك تقول ألسنتهم الكاذبة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي عند الله لهم المثوبة أو الجنّة. (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) هذا ردّ لما كانوا يعتقدونه بزعمهم الفاسد وإثبات لضدّه (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدّمون إلى النار ، وقيل : معذّبون.
٦٣ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ
مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) : أي فأصرّوا على قبائح أعمالهم وكفروا بالمرسلين (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) إلخ. أي الشيطان ناصرهم ولا ناصر لهم غيره في الدنيا
ومصاحبتهم في الآخرة.
٦٤ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) خطاب للنبيّ (ص) أننا ما أنزلنا عليك القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) لتوضح للكافرين والمشركين كلّ (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وتجعلهم على بيّنة من الأوامر. فهو لهذه الغاية (وَ) هو كذلك (هُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) مرّ تفسيره مثله مكرّرا.
٦٥ ـ (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
...) هو سبحانه منزل المطر من السماء على الكيفية التي سبق
بيانها فيما مضى من تفسير أمثال هذه الآية الكريمة (فَأَحْيا بِهِ) بالماء (الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها) بعد جفافها وموت ما فيها من نباتات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) حجة ودليلا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لمن يسمع ويعي معنى المثل.
٦٦ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً ...) أي هي معبر يعبر بها من الجهل إلى العلم واعتبار وعظة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) تذكير الضمير هنا باعتبار اللفظ (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً
خالِصاً) الفرث هو الروث من ذوي الحوافر والمراد باللّبن الخالص
خلوصه من لون الدم ورائحة الرّوث مع اتّصاله واقترانه بهما لأنه بينهما على ما عنى
ابن عباس. (سائِغاً
لِلشَّارِبِينَ) أي جائزا في حلوقهم.
٦٧ ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنابِ ...) متعلق بفعل محذوف ، أي نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب
الذي (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً) وفي تفسير السّكر وجوه : قيل هو الخمر وقيل هو الخل وقيل
غير ذلك (وَرِزْقاً حَسَناً) إلخ. قال ابن عباس : الرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها كالخل
والزبيب والرّب والرطب وغيرها.
٦٨ ـ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ...) أي قذف وألقى في قلبها ، أو المراد منه وحي التعليم أي
علّمها على وجه لا سبيل لأحد الوقوف عليه (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) للعسل ولا يقدر على مثلها أحد وكذا من الأشجار (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يرفعون من السّقوف وما يصنع لوضع الكرم عليها في
البساتين.
٦٩ ـ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ...) أي ألهمناها الأكل من جميع الثمرات الطيّبة وأزهارها
وأنوارها بل ومن حلوها ومرّها كما هو مقتضى عموم اللفظ. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي الطّرق الّتي ألهمك الله في صنع العسل وعمله (ذُلُلاً) أي حال كون السّبل مذلّلة بأمره تعالى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) أي العسل (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) اختلاف الألوان بحسب الفصول وقيل بحسب الأزهار والثمر وقيل
بحسب سن النحلة فحديث السن عسله أبيض وكبيره عسله أحمر أو أخضر أو أسود ومتوسط
السن عسله أصفر (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ) عن النبيّ (ص): إن يكن في شيء شفاء ففي شرطة الحجّام وفي
شربة عسل. وعن أمير المؤمنين (ع): لعق العسل شفاء من كلّ داء. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) أي في أمر النحل وما يخرج منه دليل وحجة واضحة على وجود
صانع حكيم قادر لمن تفكر وتدبّر فيه.
٧٠ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم وأنعم عليكم بأقسام النعم (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يميتكم (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أدونه وأخسّه حتى يصير إلى حال الهرم والخوف فيظهر
النقصان في جوارحه وحواسّه وعقله. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ
بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لينسى ما كان عليه حال شبابه لأجل الكبر وتختلط
معلوماته بمجهولاته (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمصالح عباده (قَدِيرٌ) على أن يعمّركم إلى أرذل العمر أو إلى أدناه.
٧١ ـ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ ...) أي أنه هو الذي زاد الملّاك والسادة والأغنياء رزقا وملكا
لحكمة تخفى عليكم (فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا) أي فليس هؤلاء المزادين رزقا (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ
عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بمرجعيه إلى عبيدهم ، (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي السادة والموالي ، أو الأغنياء والفقراء ينبغي أن
يعيشوا فيه سواء فليس واحد منهما أفضل من الثاني ، (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَجْحَدُونَ؟) أي يكفرون.
٧٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ...) أي : خلق لكم من جنس أنفسكم ـ مثلكم ـ نساء تأنسون بهنّ ، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ
بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي وهبكم أبناء وبنات ، وأبناء أبناء وأبناء بنات. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ممّا أنعم به عليكم (أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) يعني أهم مع ذلك يؤمنون بما يعتقدونه من ربوبيّة الأصنام
وشفاعتها ويكفرون بالمنعم الحقيقي الذي نعمه ظاهرة للعيان؟
٧٣ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي الكافرون والمشركون يتعبّدون لغيره سبحانه ويقدّسون (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) أي ليس في قدرته إنزال المطر ولا إنبات الزرع والشجر
وإعطاء الرزق ولا يملك شيئا ومعبوداتهم التي لا تعقل ولا تسمع والتي أنزلوها منزلة
الألوهيّة لا تقدر على شيء (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) خلقا ولا رزقا.
٧٤ ـ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ...) فلا تجعلوا له أشباها وأندادا ولا تسمّوها أربابا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) حكمة ما خلق (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك.
٧٥ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ...) أي أنه تعالى ضرب مثلا لنفسه ولما يشرك به (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) عبدا عاجزا عن التصرّف. وهذا مثل للأصنام (وَمَنْ) أي وحرّا (رَزَقْناهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً) مالا وافرا (فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) يتصرّف فيه كيف يشاء وهو مثله تعالى (هَلْ) هي للإنكار ، ومعناها : لا (يَسْتَوُونَ) ولعلّ معناه إذا لم يستو هذان مع تشاركهما في الجنسية
والمخلوقية فكيف تستوي الأصنام التي هي أعجز المخلوقات ، مع الغنيّ القادر على كل
شيء؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي لا يستحقّه سواه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) لا يعرفون اختصاص الحمد به.
٧٦ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ ...) الأبكم هو الذي انعقد لسانه عن الكلام وصفته الثانية : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي ثقيل عليه وصفته الثالثة : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ
بِخَيْرٍ) أي بأيّ جهة يرسله مولاه لأمر من الأمور يرجع خائبا (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) للاستفهام والإنكار ، يعني لا يستوي هذا الرجل (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي مع رجل فصيح آمر بالحق (وَهُوَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي دين قويم لا عوج فيه ، والحاصل أن الأبكم العاجز لا يكون
مساويا في الفضل للناطق الكامل مع استوائهما في البشرية ، فكيف يحكم بأن الجماد
يكون مساويا لربّ العالمين في المعبودية مع عدم السنخية بينهما؟
٧٧ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي جميع المعلومات الغيبية والأسرار والمكنونات السّماوية
والأرضيّة تختصّ به تعالى ، (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ) القيامة (إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ) كارتداد الطّرف (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) من ذلك وهذا مبالغة في ضرب المثل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء.
٧٨ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ ...) بالولادة ، وأنتم عندها (لا تَعْلَمُونَ
شَيْئاً) بل تجهلون أنفسكم (وَجَعَلَ) بعد ذلك (لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي ركّب فيكم الحواس السليمة حتى تعرفوا جزئيّات الأشياء
بمشاعركم وتتعقّلوها بقلوبكم (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي لكي تحمدوا الله على هذه النعم الجزيلة.
٧٩ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ ...) ألا ينظر الناس إلى الطيور (مُسَخَّراتٍ) أي مذللات خاضعات (فِي جَوِّ السَّماءِ
ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) ما بين الأرض والسّماء ولذا كانت محتاجة إلى الإمساك ،
وليس الممسك إلّا هو تعالى وإلّا فإنّ كلّ جسم ثقيل بحسب طبعه يقتضي السّقوط إلى
الأسفل بلا ممسك من فوقه وبلا دعامة من تحته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في طيران الطيور المسخّرات في الجو على خلاف طباعها (لَآياتٍ) علامات على ممسكها والمسخّر لها (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم الذين ينتفعون بذلك.
٨٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً ...) فقد جعل الله لكم مساكن وبيوتا تتخذونها في الحجر والمدر
وغير ذلك مما تقيمون فيه آوين إلى الراحة (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إِقامَتِكُمْ) أي بيوتا من نوع آخر خفيفة الحمل وهي قباب الأدم والخيم
المتخذة من الجلود أو الوبر أو الصوف أو الشعر ، تنقلونها حين سفركم وحين مكثكم (وَ) جعل لكم (مِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أي ممّا تأخذونه من جلود الأنعام حين جزّ صوفه وقصّ شعره ،
جعل لكم (أَثاثاً) فراشا وأكسية (وَمَتاعاً) أدوات تتمتعون وتنتفعون بها (إِلى حِينٍ) إلى وقت الموت أو وقت فنائها.
٨١ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ
ظِلالاً ...) أي من الشجر والبيوت وكل ما يستظلّ به مطلقا ، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع كنّ وهو ما يستكنّ به ويستتر كالكهوف والبيوت المنحوتة
في الجبال ، (وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) مفردها : سربال وهو القميص من القطن أو الكتّان أو الصوف
وغيره ، (وَسَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي دروعا وجواشن وكلّ ما يلبس للوقاية في الحرب (كَذلِكَ) أي كما أنعم عليكم بهذه الأشياء وبما سبق ذكرها (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) كاملة (لَعَلَّكُمْ) تنظرون في جميع تلك النّعم و (تُسْلِمُونَ) فتؤمنون وتوحدون وتصدّقون بأنه المنعم.
٨٢ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : أي إذا انصرفوا عن قولك ولم يأبهوا لوعدك ووعيدك ، فلا
تبتئس لأنك رسول مبلّغ موضح فقط.
٨٣ ـ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها ...) يعني ولاية علي (ع) ثم يجحدونها (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) بها المنكرون لها.
٨٤ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً ...) أي نبيّها وإمامها القائم مقامه يشهد لهم وعليهم بالإيمان
والكفر (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار حيث لا عذر لهم (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون بحيث يقال لهم اعملوا عملا يرضى الله به
عنكم فإن الآخرة ليست بدار عمل.
٨٥ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
الْعَذابَ ...) أي حين يشاهد المشركون النار يوم القيامة يثقل عليهم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) العذاب (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي يمهلون.
٨٦ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ ...) أي الذين جعلوهم شركاء الله في عبادتهم إيّاهم من الأصنام
والشياطين. وقيل سمّاهم شركاء لأنّهم جعلوا لهم نصيبا من الزّرع والأنعام ، (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) إلخ : الّذين أشركناهم معك في الإلهيّة والعبادة (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ
إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي أنطق الله الأصنام فقالت الأصنام : إنكم لكاذبون فيما
أسندتم إلينا من أنّا أمرناكم بأن تعبدوننا.
٨٧ ـ (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ
السَّلَمَ ...) أي استسلم المشركون لحكمه وانقادوا يوم القيامة لأمره ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع وبطل عنهم ما كانوا يقولونه افتراء من أن الأصنام
شركاء الله في العبادة أو أنهم ينصرونهم ويشفعون لهم.
٨٨ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) : أي منعوا عن الإسلام وحملوا النّاس على الكفر (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ
بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) أما أصل العذاب ، فلكفرهم ، وأما الزيادة فللصّدّ لأنهم
مفسدون.
٩ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...) أي من الأئمة (وَجِئْنا بِكَ
شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي على قومك وأمّتك ، وإنما أفرده بالذكر تكريما وتشريفا
له. وقيل : إن الأئمة شهداء على الناس ، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه شهيد على
الأئمة ، والأنبياء يكونون شهداء على أممهم. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) أي بيانا بليغا لكلّ أمر ومشكل ممّا يحتاج الخلق إليه في أمر
دينهم إما بالتنصيص عليه تفصيلا أو إجمالا ، أو بالإحالة إلى ما يوجب العلم ، من
بيان نبي أو من يقوم مقامه من الأوصياء ، أو إجماع الأمة ، فيكون حكم الجميع
مستفادا من القرآن. (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي القرآن دالّ على الرّشد والنّعمة (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي بشارة لهم بالثواب الدّائم.
٩٠ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ ...) أي الإنصاف التامّ (وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى) لعلّ المراد به صلة الرّحم (وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ما جاوز حدود الله (وَالْبَغْيِ) أي التطاول على الناس بغير حق ، أو الكبر وروي بأن الفحشاء
والمنكر والبغي ، فلان وفلان وفلان ، وقيل : لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية
لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء (يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي يعظكم بما تضمنته هذه الآية من مكارم الأخلاق لكي
تتفكروا وترجعوا إلى الحق.
٩١ ـ (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ...) إلخ. أي ما يجب الوفاء به أو البيعة للرّسول (بَعْدَ تَوْكِيدِها) أي بعد الحلف والتوثيق باسم الله تعالى إذ جعلتموه (عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شهيدا بالوفاء (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما تَفْعَلُونَ) من النّقض أو الوفاء.
٩٢ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ...) أي كالمرأة التي أفسدت ما غزلته من بعد أن أحكمته (أَنْكاثاً) هو ما ينكث فتله أي يحلّ نسجه ، جمع : نكث بالكسر. (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) أي خيانة وخديعة. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) أي لأن تكون جماعة (هِيَ أَرْبى مِنْ
أُمَّةٍ) أي أكثر من أخرى. أي لا تنقضوا العهد بسبب أن تكون جماعة
وهم كفرة قريش أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة المؤمنين. (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي يختبركم بكونكم أربى لينظر وفاءكم بعهده أو تفتخرون
بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم (وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلخ. أي وليفصلنّ لكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون في صحته
فيعرف الحق من الباطل.
٩٣ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً ...) أي لو اقتضت الحكمة أن يجعلكم أمة إسلامية لكان قادرا ،
والمراد المشيئة الإلجائيّة (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ
يَشاءُ) أي يخذل من يشاء من الّذين رأوا الآيات الواضحة ومع ذلك
جحدوا واختاروا الكفر والضلالة بسوء اختيارهم (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) بلطفه وكرمه ممّن كان من أهله فيوفّقه ويؤيّده لتحصيل
الهداية واختيارها من دون إلجاء إلى هذا أو ذاك. (وَلَتُسْئَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سؤال مجازاة وتقريع والغلبة بالحجّة.
٩٤ ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ ...) كرّر تأكيدا. والتصريح بالنهي مبالغة في النهي عنه شديدا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجّة الإسلام والمراد بالقدم : الأقدام والتوحيد
والتنكير للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم عنده تعالى فكيف بأقدام كثيرة. وهو مثل
لمن وقع على بلاء بعد عافية. (بَعْدَ ثُبُوتِها) استقرارها عليها (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي العذاب (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) بامتناعكم ومنعكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم عنه لكي
يقتدي بسلوككم. (وَلَكُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) في الآخرة. وهذا تهديد عظيم لضعفاء النفوس من المسلمين
الذين أرادوا نكث عهدهم مع النبي (ص) لوعد قريش إياهم لو فعلوا ذلك بالمنافع
الوافية والعطاءات الكثيرة.
٩٥ ـ (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) أي ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله (ثَمَناً قَلِيلاً) بعرض قليل من متاع الدّنيا (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من عرض الدّنيا (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) تدركون وتفهمون.
٩٦ ـ (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ...) ما تملكونه من متاع الدّنيا ينقضي ويفنى (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والأجر على الوفاء بالعهد وغيره. (باقٍ) لا ينقطع ولا ينفد. وهذا علة لكون ما عند الله هو خير ،
لأن القليل الذي يبقى خير من الكثير الذي يفنى ، فكيف بالكثير الذي يبقى في مقابلة
القليل الذي يفنى. (وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا ...) إلخ. أي لنكافئن الذين صبروا على الطاعات وثبتوا على
العهود ثوابهم بأحسن من عملهم ذاك.
٩٧ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً ... حَياةً
طَيِّبَةً) إلخ. أي يعيش عيشا طيّبا. فذو العمل الصالح له أجر عظيم
ذكرا كان أو أنثى. وروي عنه (ص) أن المقصود بالحياة الطيبة : القناعة والرضا بما
قسم الله.
٩٨ ـ (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ...) أي إذا أردت قراءته يا محمد فاستعذ بالله من شر الشيطان
المطرود المرجوم الملعون ووسوسته لتسلم في التّلاوة من الزّلل ، وفي التأويل من
الخطل. والاستعاذة عند التلاوة مستحبة بلا خلاف في الصلاة وخارجها ، وكيفيتها : أعوذ
بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، على ما عن سدير عن الصادق عليهالسلام. وعن ابن مسعود قال : قرأت على رسول الله (ص) هكذا : أعوذ
بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال (ص) : يا ابن أم عبد ، قل : أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ. ولفظ
القرآن موافق لرواية ابن مسعود هذه.
٩٩ ـ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي أن الشيطان اللّعين ليس له تسلّط ولا حكم على المؤمنين (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوّضون أمورهم إليه.
١٠٠ ـ (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ ...) أي إنما تسلطه وقدرته على الذين يطيعونه ويتبعون إغواءه ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي بسببه يشركون ، أو بالله يشركون.
١٠١ ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) أي أتينا بآية ناسخة بدلا عن المنسوخة لمصالح العباد (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) أي بمصالح العباد حسب الأزمان (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي قال المشركون للرسول (ص) إنما أنت كاذب على الله فيما
تقول (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) فوائد النسخ وحكمة الأحكام.
١٠٢ ـ (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ ...) أي أنزل الناسخ جبرائيل (ع) بالأمر الصحيح الثابت والقدس
بضم الدال أو بسكونها بمعنى الطهر. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ
آمَنُوا ...) إلخ. والله ينزل الوحي لتثبيت المؤمنين وليهديهم ويبشّرهم.
١٠٣ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
...) إلخ. أي يضيفون إليه التعليم على يد (أَعْجَمِيٌ) أي غير فصيح وفي تفسير القمي ، لسان الذي يلحدون إليه هو
لسان أبي فكيهة مولى ابن الحضرمي كان أعجمي اللسان وكان قد اتبع النبي (ص) وآمن به
وكان قبل ذلك من أهل الكتاب ، وقيل : إنه كان روميا ، فقالت قريش : هذا والله يعلم
أحمد ، علّمه بلسانه. (وَهذا لِسانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي فصيح ذو بيان.
١٠٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ
اللهِ ...) يعني بهم الكفرة والمشركين الّذين لم يقتنعوا بدلائل الله
وبراهينه ، فإن الله تعالى (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) لأنهم ليسوا مستحقّين لعنايته ورحمته بسبب عنادهم الشديد (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع.
١٠٥ ـ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ ...) أي أنكم أيها المتّهمون رسولنا (ص) بالافتراء علينا ، أنتم
أهل الافتراء والكذب لأنكم لا تصدّقون (بِآياتِ اللهِ) وأنتم أهل الكذب والافتراء.
١٠٦ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمانِهِ ...) أي من ارتد عن الإسلام فهو في معرض غضب الله وسخطه ، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي إلا إذا نطق بكلمة الكفر على وجه التقية مكرها وقلبه
ثابت على الإيمان ساكن إليه. وقد نزلت في عمار بن ياسر. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) أي ولكن من اتسع قلبه للكفر وطابت نفسه به فله العذاب
الشديد في الآخرة (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ). وقد أكره جماعة على الارتداد في بدء الدعوة الإسلامية ،
منهم عمار بن ياسر وأبواه ، فقتل عتاة قريش أبويه لإصرارهما على التوحيد ، وأعطاهم
عمار بلسانه ما أرادوا مكرها ، فقال قوم : كفر عمار ، فقال (ص) : كلّا ، إنّه مليء
إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتاه عمار يبكي ، فمسح (ص)
عينيه بيده الشريفة وقال له : إن عادوا لك فعد لهم. فنزلت الآية الشريفة
١٠٧ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا
الْحَياةَ الدُّنْيا ...) أي آثروها (عَلَى الْآخِرَةِ) إلخ : وغرّتهم زهرتها وبهجتها لكفرهم بالآخرة ، فحرمهم
الله تعالى هدايته وعنايته.
١٠٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ ...) ختم عليها حتى لا يدركوا قول الحق (وَسَمْعِهِمْ) كيلا يسمعوا كلام الحق (وَأَبْصارِهِمْ) إلخ. لئلا يشاهدوا الآيات الدالة على الحق فامتنعوا على
الاعتراف بالحق بتاتا وضيّعوا أعمارهم بصرفها في ما يفضي إلى العذاب الدائم
بغفلتهم عن سوء المصير.
١٠٩ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْخاسِرُونَ) : مرّ تفسيرها.
١١٠ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
هاجَرُوا ...) أي وكذلك الذين هاجروا من مكة هربا من جور عتاة قريش (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي بعد أن عذّبوا واختبروا كعمّار وغيره. (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) على الآلام والمشقّات التي لاقوها من الكفار (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد ذلك العذاب وتلك المشقّات (لَغَفُورٌ) متجاوز عما فعلوا من قبل وهو خبر إن الأولى والثانية
جميعا. ونظيره كثير في القرآن. (رَحِيمٌ) رؤف بهم.
١١١ ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ
عَنْ نَفْسِها ...) أي تحاجّ عن ذاتها وتدافع عنها يوم القيامة إذ لا يهمها
غيرها لشدة أهوال يوم القيامة فتسعى للخلاص بكل وسيلة. (وَ) لكنّها (تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ) تعطى يومئذ استحقاق (ما عَمِلَتْ) أي جزاء عملها إن خيرا فخير وإن شرا فشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ولا يظلم ربّك أحدا.
١١٢ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ...) أي ويعطي الله سبحانه للناس مثلا محسوسا ملموسا رأوه قد
أصاب من قبلهم من الأمم. وهو أن قرية كانت آمنة من المخاوف السماوية والأرضية ،
هادئة البال (يَأْتِيها رِزْقُها
رَغَداً) أي واسعا هنيئا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جميع النواحي (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ
اللهِ) بطرت ولم تشكر نعم الله (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فابتلاها الله بالحاجة والمجاعة (بِما) بسبب ما (كانُوا) أهلها (يَصْنَعُونَ) من المعاصي والعناد والكفر بأنعم الله. وعن ابن عباس أن
القرية هي مكة المكرمة ، وقد ابتلى الله أهلها بالقحط سبع سنين وهو الجوع ،
وابتلاهم بالخوف من النبي (ص) ومن أصحابه ، فقد تركت قريش تجارتها مع الشام خوفا
من سطوة المسلمين وهيبتهم لأنهم كانوا يغيرون على قوافلهم ويأخذون أموالهم
ويأسرونهم بعد الهجرة ، وبعد أن دعا عليهم النبي (ص) بقوله : اللهم اشدد وطأتك على
مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف. وقيل غير ذلك.
١١٣ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ ...) يعني أهل مكة الذين بعث الله تعالى إليهم رسولا هو منهم في
الصميم ، ومع ذلك فقد جحدوا نبوته فجزيناهم بعذاب القحط والجوع والخوف (وَهُمْ ظالِمُونَ) له ولأنفسهم. ولا يخفى أن إرسال رسول منهم عرقا ولغة هو من
منن الله تعالى عليهم وكان ينبغي لهم أن يؤمنوا به ويشكروا الله سبحانه على ذلك.
١١٤ ـ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ
حَلالاً طَيِّباً ...) أي : كلوا ذلك أكلا هنيئا مباحا لكم مطهّرا من الرجس والنجس
(وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ) احمدوه عليها (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إي اعتقدتم وحدانيّته وربوبيّته وعبدتموه دون غيره.
١١٥ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ... وَما
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ...) مر تفسير هذه الآية في سورة البقرة رقم (١٧٣).
١١٦ ـ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ ...) أي لا تحلّلوا ولا تحرّموا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من
غير حجة ولا برهان وقوله تعالى (هذا حَلالٌ وَهذا
حَرامٌ) بيان لقوله تعالى : (الْكَذِبَ) الذي هو مفعول لقوله (وَلا تَقُولُوا) أي لا تحلّلوا ما حرّمه الله ولا تحرّموا ما حلّله الله ،
ومن فعل ذلك لا يفلح في الآخرة.
١١٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : ما يحصّلون بالافتراء هو متاع زائل ثم يتعقّبه عذاب موجع
خالدين فيه يوم القيامة.
١١٨ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا ...) إلخ. صاروا يهودا أي أننا حرّمنا على اليهود ما قصصناه
عليك سابقا في سورة الأنعام من غير أن نظلمهم ، ولكنهم هم (كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسولنا إليهم من
الأحكام.
١١٩ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ...) إلخ. أي أنّ من يعمل سيئة عن جهل ثم يتوب إلى الله توبة
نصوحا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
١٢٠ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ...) وذلك أنه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره ، فكأنّه أمة
واحدة. (قانِتاً لِلَّهِ) مطيعا لله (حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مسلما موحدا. وعن الكاظم (ع): لقد كانت الدنيا ، وما فيها
إلا واحد يعبد الله ، ولو كان معه غيره إذن لأضافه إليه حيث يقول : إن إبراهيم كان
أمة ... الآية ، ثم إن الله سبحانه آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة ، فإبراهيم (ع)
كان وحده المسلم المطيع لله ، وكان أيضا :
١٢١ ـ (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ...) حامدا ربّه على أفضاله ، وقد (اجْتَباهُ) اختاره (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) لدينه الحنيف الذي لا عوج فيه.
١٢٢ ـ (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ...) إلخ. أي حبّبه إلى جميع الناس ورزقه خيرا كثيرا وعمرا
طويلا وذرية طيبة ، وهو في الآخرة من جملة الصالحين في علو الرتبة وشرف المنزلة.
١٢٣ ـ (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : أوحينا إليك يا محمد أن تتبع شريعة إبراهيم (ع). (حَنِيفاً) مسلما موحدا. (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) لم يشرك بالله طرفة عين أبدا.
١٢٤ ـ (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ...) إلخ. أي حصرنا عيد اليهود يوم السبت وضيّقناه عليهم بأن
فرضنا تعظيمه وحرمته عليهم لاختلافهم فيما أمرهم به نبيّهم موسى ولم يسمعوا قوله.
وقد قيل إن الله أمر موسى (ع) أن يدعو بني إسرائيل إلى ترك الأعمال يوم الجمعة وأن
لا يشتغلوا فيه للدنيا بل يتفرغوا لعبادة الله فقط وأن يجعلوه يوم عيدهم ،
فاختلفوا فيه. فقبل بعضهم ورفض البعض الآخر ، ومن هؤلاء من اختار السبت ، ومنهم من
اختار الأحد. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ) يفصل (بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) إلخ. ويظهر اختلافهم وتحكّمهم في الأمور التي ليست من
شأنهم.
١٢٥ ـ (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي نادهم إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بالحجة التي تثبت الحق وتزيل الشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أي المقالة والخطاب المقنع والقصص النافعة ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج المزيحة للشبهة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) أي من عندهم قابلية الهدى.
١٢٦ ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...) أي إذا قاصصتم أحدا تعدّى عليكم ـ أيها المسلمون ـ فليكن
قصاصكم له مثل تعدّيه عليكم دون تجاوز لحدود ما رسم الله تعالى لكم في تشريع
العقوبة (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) على التعدّي (لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ) صبركم ، خير وأبقى لكم لما فيه من عظيم الأجر.
١٢٧ ـ (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ
...) الخطاب للنبيّ (ص) أن اصبر على ما تلقاه من أذى أعدائك وما
صبرك إلّا بتوفيق الله تعالى وتثبيته لك (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) أي على أصحابك وما أصابهم من القتل والمثلة ، (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) انقباض صدر وحزن (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من كيد الكفار.
١٢٨ ـ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
...) فهو ناصرهم على أعدائهم (وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ) لأنفسهم ولغيرهم.
سورة الإسراء
مكية ، عدد آياتها ١١١ آية
١ ـ (سُبْحانَ الَّذِي) أي أبرّئ الله وأنزّهه من كل سوء. (أَسْرى) سار به في الليل (بِعَبْدِهِ) وهو محمد (ص) وهذا التعبير : بعبده ، في هذا المقام ،
يستنتج منه أن هذه الصفة وهي العبودية لله من أسمى الأوصاف وأرفعها ، ولو كان أعلى
وأفضل منها كان لا بد من ذكره لأهمية المورد ، وهو كذلك حسب استقصاء الآيات
والأخبار ولذا نرى أنه مهما ابتلي نبي من الأنبياء ببلاء كان ذلك لنقص في عبوديته
، فأراد سبحانه أن يكمله بذلك البلاء (لَيْلاً) ظرف للإسراء ، وفائدته ـ مع أن الإسراء لا يكون إلا بالليل
ـ هي تقليل مدّة الإسراء وأنّه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة. (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) المسجد الحرام هنا يمكن أن يكون مكة ، ومكة والحرم كلّها
مسجد كما قيل. وقيل الإسراء كان من نفس المسجد (إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) أي بيت المقدس. (الَّذِي بارَكْنا
حَوْلَهُ) أي جعلنا البركة فيما حوله ، بجعله مقرّ الأنبياء
وباحتفافه بالأشجار والأنهار وغير ذلك من الخيرات (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا) أي العجائب والأسرار السّماويّة والأرضيّة وما بينهما. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مر معناه.
٢ ـ (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) إلخ. يعني التوراة التي جعلها سبحانه دليلا وهاديا لبني
إسرائيل إلى الحق (أَلَّا تَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي : وكيلا ومعتمدا في أموركم غيري. وإفراد الوكيل باعتبار
أنه في معنى الجمع ، لأن صيغة فعيل يكون لفظها مفردا ولكن معناها على الجمع ،
كقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا.
٣ ـ (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ...) أي : يا بني إسرائيل اذكروا جدّكم الأعلى وهو نوح الذي
انجيناه من الطوفان ومن معه وأنتم ذريته. (إِنَّهُ كانَ عَبْداً
شَكُوراً) فاقتدوا به ولئن شكرتم لأزيدنّكم.
٤ ـ (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ ...) أي أخبرنا أو أوحينا إليهم ، في التوراة. (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) والمراد بالفساد هنا بقرينة التحديد هو القتل أي : حقّا لا
شكّ فيه أن أخلافكم سيفسدون في البلاد (مَرَّتَيْنِ) أوّلهما قتل شعيا النبي ، وثانيهما قتل زكريا (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) بالاستكبار عن طاعة الله وظلم النّاس ظلما عظيما.
٥ ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ...) أي عقاب المرّة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا) أي سلّطنا عليكم جماعة من مخلوقينا للانتقام لمن قتلوه من
النبيّين والمظلومين في دار الدّنيا حسما لمادّة الفساد ، (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شوكة وقوة (فَجاسُوا خِلالَ
الدِّيارِ) أي طافوا وتردّدوا يطلبونكم وسط دوركم ليقتلوكم. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي حتما لا ريب فيه.
٦ ـ (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ ...) أي الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) أي على المهاجمين والمبعوثين لكم (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي وأكثرنا لكم أموالكم وأولادكم وجعلناكم أكثر عددا
وأنصارا من أعدائكم.
٧ ـ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ...) يعني : كلّ من
يعمل عملا فهو يرجع إلى نفسه من خير أو شر ، فله الثواب وعليه العقاب. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) إلخ. والمعنى أنه إذا جاء وعد عقوبة الإفساد الثاني بعثنا
على وجه التخلية جمعا من عبادنا عليكم ليجعلوا على وجوهكم آثار الإساءة ، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي بيت المقدس فيخربوه (وَلِيُتَبِّرُوا ما
عَلَوْا تَتْبِيراً) أي يهلكوا كلّ شيء استولوا عليه.
٨ ـ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ...) أي بعد المرة الثانية ، إن تبتم (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الإفساد مرة أخرى (عُدْنا) مرة ثالثة إلى عقوبتكم ، (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي فصارت جهنّم لهم سجنا ومحبسا في الآخرة بعد أن عادوا
إلى إفسادهم بتكذيبهم رسول الله (ص).
٩ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ ...) تأكيد لكون القرآن متصفا بالهداية والإرشاد للطريقة التي
هي أقوم الطّرق وأشدّها استقامة. وعن الإمام الصادق (ع): يهدي إلى الإمام ، مستدلا
بهذه الآية. وقيل : معناه أنه يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل وأقوم الكلمات وهي
كلمة التوحيد. (وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ) إلخ. بالفوز العظيم ، وبالأجر الكثير.
١٠ ـ (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ ...) أي الكافرين بالبعث والنشور والحساب (أَعْتَدْنا لَهُمْ) هيّأنا لهم (عَذاباً أَلِيماً) شديدا موجعا في نار جهنم.
١١ ـ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ...) قيل في معناه أقوال أحدها أن الإنسان ربما يدعو في حال
الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه ، كما يدعو لنفسه
بالخير. فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه ، لكنه لا يستجيب بفضله ورحمته. (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يعجل بالدعاء في الشر عجلته بالدعاء في الخير من دون نظر
في عاقبته.
١٢ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
آيَتَيْنِ ...) أي علامتين دالّتين على قدرتنا وعلمنا (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي القمر ، طمسنا نورها (وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ) أي الشمس (مُبْصِرَةً) مضيئة (وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيّناه تبيينا.
١٣ ـ ١٤ ـ (وَكُلَّ إِنسانٍ ...) الإنسان أعمّ من الذكر والأنثى ، وهو مشتق من الانس ، أو
من النسيان ، حذفت الياء تخفيفا. (أَلْزَمْناهُ
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي أن عمله ملازم له لزوم القلادة للعنق فلا يفارقه. وإنما
عبّر عن العمل بالطائر إما من الطّيرة ، حيث جرت عادة العرب على أن يتشاءموا أو
يتفاءلوا بالطائر عند إرساله ومروره يسارا أو يمينا. أو لأنه يقال ليوم القيامة
ومن أسمائه يوم تطاير الكتب ، التي تكون أعمال البشر مكتوبة فيها ، حيث تنزل على
رؤوس البشر في ذلك اليوم كالطيور المنتشرة في الجو قبل وقوعها في أيدي أصحابها إما
بأيمانهم أو بشمائلهم. (وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي عند المحاسبة يرى صحيفة مفتوحة عليه ليقرأها فيقال (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي اقرأه في نفسك حتى تعلم ما فيه من أعمالك فتكون أنت
محاسبا لنفسك.
١٥ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ ...) فإنه ينفعها بذلك دون غيرها من النفوس (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) إذ يكون سوء ضلالة خاصا بنفسه أيضا دون غيرها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فكلّ نفس تحمل وزر أخطائها وذنوبها ولا يحمل عنها أحد شيئا
ولا يعاقب أحد بذنوب غيره. (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبيّن الحجج ويمهّد الشرائع ويهدي الناس فتلزمهم الحجة.
١٦ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
...) أي إذا أردنا تدمير قرية بسبب معاصي أهلها وكفرهم (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أغنياءها المتنعّمين فيها. وقرئ : أمّرنا بالتشديد وفسّر
بالتكبير والتسليط. أمرناهم بالطاغوت (فَفَسَقُوا فِيها) فجروا وارتكبوا المعاصي (فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ) أي فوجب عليها الوعيد (فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) أهلكناها إهلاكا.
١٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
بَعْدِ نُوحٍ ...) أي كثيرا ما دمّرنا من الأمم بعد تدمير قوم نوح بالطوفان ،
(وَكَفى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي : كفى ربّك سبحانه أن يكون عالما بذنوب عباده بصيرا بما
هم عليه من طاعة أو عصيان.
١٨ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ
عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ...) أي من أراد الدنيا أعطيناه جزاء عمله في الدنيا ما نريده
من بسط أو تقتير لمن نريد إعطاءه وقد علّق سبحانه ذلك بمشيئته لأنه لا يجد كل متمنّ
ما تمنّاه ولا كل أحد جميع ما يهواه فالأمور كلها مرهونة بالمشيئة الإلهية (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي ليس له في الآخرة إلا جهنم (يَصْلاها) أي يحترق بنارها (مَذْمُوماً) ملوما (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله.
١٩ ـ (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) من رغب في الدار الآخرة وعمل لها عملها الصالح بشرط أن
يكون مؤمنا مصدّقا (فَأُولئِكَ) العاملون المؤمنون (كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً) محمودا مثابا من الله سبحانه.
٢٠ ـ (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ ...) أي أنّ كل واحد من الطائفتين : طالب الدنيا وطالب الآخرة ،
نعطيه على مقتضى المصلحة (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) رزقه وفضله (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا ومحبوسا عن الكافر لكفره ، ولا عن الفاسق لفسقه ،
فكيف بالمؤمنين؟
٢١ ـ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ ...) أي تأمّل كيف تفاوتت درجاتهم في دار الدنيا ، (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أعظم تفاوتا في المراتب (وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً) من درجات الدنيا وهي مستحقة على قدر الأعمال.
٢٢ ـ (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) أي لا تشرك بالله وتعبد معه غيره (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أي فتكون ـ لو فعلت ذلك ـ مذموما على لسان العقلاء ولا
ناصر لك في الدنيا والآخرة.
٢٣ ـ (وَقَضى رَبُّكَ ...) أي : أمر ربّك وحكم (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) عبادته وحده وعدم عبادة غيره (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) أي وقضى بالإحسان إلى الوالدين (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) أي إذا عاشا عندك أيها الولد حتى يكبرا في السن فيصيرا
بمنزلة الطفل الذي يحتاج إلى متعهد أو بلغ أحدهما ذلك (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قال الصّادق (ع): لو علم الله لفظة أوجز في عقوق الوالدين
من أف لأتى بها. (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تزجرهما ولا تخاصمهما في شيء. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) خاطبهما بقول جميل لطيف بعيد عن القبح والغلظة.
٢٤ ـ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ ...) إلخ. أي تذلّل لهما وتواضع من فرط رحمتك بهما. وبعد ما
أوصى فيهما بما ذكر أمر تعالى بالدّعاء لهما وهذا يدل على غاية لطفه وتمام عنايته
بهما. فهما شريكان له تعالى في تربية الأولاد والمحافظة عليهم حتى يبلغوا رشدهم
ويستغنوا عن الحافظ والمربي في كثير من أمورهم.
٢٥ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ... فَإِنَّهُ كانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي التوّابين الراجعين عن ذنوبهم فإنه متجاوز عن ذنوبهم
بفضله.
٢٦ ـ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) المراد بحق القرابات هو صلة الرّحم بالمال والنفس. وعن أهل
البيت (ع) أن المراد به ذوو قرابة الرسول ، وقيل : نزلت في فاطمة (ع) والمراد
بالحق هو فدك. (وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط المسكين حقه الذي أوجبه الله له وهو الزكاة وغيرها
وآت المجتاز المنقطع عن بلاده ولا مال عنده ليعود إليه حقه أيضا (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي لا تصرف المال فيما لا ينبغي ولا تنفقه.
٢٧ ـ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ ...) أي أن المسرفين (كانُوا إِخْوانَ
الشَّياطِينِ) لأنهم من أتباعهم وعلى سنّتهم في الإسراف ، (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي شديد الكفر.
٢٨ ـ (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ...) إلخ. أي : إن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم
حياء لأنك لا تجد ما تعطيهم تنتظر الفضل والسعة من الله بشكل يمكنك معه صلتهم. (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) فلا تعرض بل قل لهم قولا ليّنا وعدهم وعدا جميلا أو ادع
لهم باليسر.
٢٩ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى
عُنُقِكَ ...) أي لا تقبضها عن الإنفاق كل القبض ، فتكون بمنزلة من يده
مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل. (وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ) أي لا تعط جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا
يستقر فيها شيء. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً) تلوم نفسك ويلومك الناس ومنقطعا بك ليس عندك شيء.
٣٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ...) أي يوسع مرة ويضيّق أخرى حسب ما تقتضيه المصلحة. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً) يعلم مصالحهم وما ينبغي لهم.
٣١ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ ...) إلخ. كان العرب في عصر الجاهلية يقتلون بناتهم مخافة الفقر
والجوع فنهوا عنه ، ونبهوا إلى أن الله سبحانه يرزقهم جميعا فإننا نرزقهم وإيّاكم
، وإن قتلهم لهم كان (خِطْأً كَبِيراً) أي ذنبا عظيما.
٣٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ...) أي أن الزنى معصية كبيرة قبيحة غاية القبح وبئس الطريق هو
لأنه يؤدي إلى قطع الأنساب واختلاطها وغير ذلك من المفاسد.
٣٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ ...) نهي عن القتل الذي حرّمه الله سبحانه وجعل عقابه النّار (إِلَّا) إذا كان القتل (بِالْحَقِ) أي بأحد المجوّزات الشرعيّة (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً) بغير حدّ شرعيّ ثابت (فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ) المفوّض بالمطالبة بحقّه (سُلْطاناً) سلطة وحقّا بأن يقتل قاتله به جزاء له ، (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) لا يقتل غير الغريم ولا يمثّل به (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) بإعطائه حدّ القود فليقف في الحدود عند حدّه.
٣٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) أي لا تمسّوه ولا تنفقوا منه شيئا إلّا بالطريقة التي هي
أحسن لحفظ مال اليتيم وتثميره وتنميته (حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) أي غاية قوّته ببلوغه ورشده (وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ) في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل ما أمر الله به ونهى
عنه فهو من العهد وإن لم يجب ابتداء ، (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلاً) عن المعاهد به إذا كان ناكثا يعاقب ، أو وافيا يجزى به.
٣٥ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ ...) لا تبخسوا فيه وأكملوه (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بميزان العدل السّويّ .. (ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مآلا وعاقبة.
٣٦ ـ (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
...) أي لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم
تعلم. وقيل : إن المراد به النهي عن شهادة الزور. (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي أن السمع يسأل عما سمع والبصر عما رأى والقلب عما عزم
عليه.
٣٧ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ...) أي بطرا وفرحا (إِنَّكَ لَنْ
تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تشقّها بكبرك حتى تبلغ آخرها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) بتطاولك وطول قدّك.
٣٨ ـ (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ ...) أي كل الخصال المذكورة في هذه الآيات كان معصيته عند ربك (مَكْرُوهاً) أي مبغوضا محرّما.
٣٩ ـ (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) أي هذه الوصايا الكريمة هي ممّا أنزله إليك ربّك وحيا (مِنَ الْحِكْمَةِ) والصواب والرشد ، (وَلا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تشرك بالله ، فإن فعلت ذلك (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) تلوم نفسك ويلومك الملائكة وجميع أهل الإيمان ، وتكون (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله مطرودا منها.
٤٠ ـ (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
...) يعني هل اختصّكم بالصبيان وجعلهم لكم عطاء صافيا (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) وجعل لنفسه بنات هم الملائكة بزعم المشركين (إِنَّكُمْ) أيها المفترون (لَتَقُولُونَ قَوْلاً
عَظِيماً) كبيرا في الإثم والعقوبة.
٤١ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ
...) أي بيّنا الدلائل وفصّلنا الأمثال (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا ويعلموا الحق. (وَما) كان تصريف الأمثال لهؤلاء الكافرين (يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي فرارا عن الحق.
٤٢ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ...) أي لو كان معه سبحانه شريك (كَما يَقُولُونَ) افتراء (إِذاً لَابْتَغَوْا
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي أن الشركاء كانوا حينئذ يطلبون طريقا إلى الصعود إلى
صاحب الملك لمنازعته ملكه أو أنهم يسعون للتقرب إليه.
٤٣ ـ (سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له وتقديسا لذاته (وَتَعالى) سما وارتفع (عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيراً) بحيث لا ينال ولو بخطرات الظّنون.
٤٤ ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ...) أي تقدّسه وتنزّهه هي ومن فيها بطرق التسبيح التي ألهمها
سبحانه لكل كائن من الموجودات ومعنى التسبيح هنا الدلالة على وحدانيته وعدله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) أي ليس شيء من الموجودات إلا يسبّح بحمد الله من جهة خلقته
لمكان حدوثه وحاجته إليه سبحانه. (وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي لا تعلمون تسبيحها حيث لا تتفكرون فتعلموا طريق دلالتها
على التوحيد (إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً) يمهلكم فلا يعاجلكم بعقوبته (غَفُوراً) لمن تاب بعد الإيمان.
٤٥ ـ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ...) أي إذا تلوته يا محمد (جَعَلْنا) أوجدنا (بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الكافرين بها (حِجاباً مَسْتُوراً) أي سترا على أعينهم فيمرون فلا يرونك.
٤٦ ـ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
...) إلخ. مر تفسيره في سورة الأنعام. والأكنة جمع كنّ بمعنى
الغطاء والوقر الصمم وثقل السمع (وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي إذا ذكرت الله يا محمد بالتوحيد وأبطلت مقولة الشرك (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي يرجعون مدبرين نافرين.
٤٧ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ
بِهِ ...) إلخ. أي نحن ندري لأيّ سبب هم يستمعون القرآن ، إنما
يستمعون للّغو والاستهزاء به (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) حين كونهم متناجين يتهامسون فيما بينهم (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) إلخ. يمكن أن تكون هذه الجملة بيانا للنّجوى ، أي يتناجون
حين خروجهم من عندك بأن يقولوا : هؤلاء الّذين آمنوا بمحمد إنما يتّبعون رجلا
مجنونا لأنه سحر فجنّ.
٤٨ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ ...) أي مثلوك بالسّاحر والشاعر والكاهن والمجنون (فَضَلُّوا) بذلك عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) لا يقدرون على أن يجدوا حيلة إلى تكذيبك إلا طريق البهت
والافتراء.
٤٩ ـ (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً ...) أي قال الكفار المنكرون للبعث : أإذا صرنا ترابا أو غبارا
وعظاما بالية ونحن بهذه الحالة ونعود ونحن بهذه الكيفية (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً
جَدِيداً) أي : أنبعث خلقا متجددا كما خلقنا أول مرة.
٥٠ ـ (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ...) أي كونوا إن استطعتم حجارة في القوة أو حديدا في الشدة
واجهدوا عندئذ الا تعادوا وهذا الأمر تعجيزي.
٥١ ـ (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ ...) أي من كل شيء له وقع وأهمية عندكم فإنكم لن تعجزوا الله وعن
الباقر (ع) ، الخلق الذي يكبر في صدوركم : الموت ، والمقصود المبالغة ، أي لو صرتم
بأبدانكم نفس الموت فالله تعالى يعيدها وينشرها (فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنا) بعد الفناء ويرجعنا أحياء ، (قُلِ) يا محمد لهم : يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ) خلقكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهو الله تعالى ، (فَسَيُنْغِضُونَ
إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحرّكونها متعجّبين مستهزئين. والنّغض : هو تحريك الرأس
ارتفاعا وانخفاضا. (وَيَقُولُونَ مَتى
هُوَ) البعث (قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً) حيث إن كلّ ما هو آت قريب.
٥٢ ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ ...) أي يدعوكم الله من قبوركم على لسان إسرافيل عند النفخة
الثانية فتجيبون (بِحَمْدِهِ) حامدين له أو مطاوعين لبعثه مطاوعة الحامد له. (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا
قَلِيلاً) أي إذا رأيتم طول ذلك اليوم تعلمون أن مكثكم في الدنيا في
غاية القلة وذلك لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة. وقيل بأن المخاطبين بقوله : يوم
يدعوكم .. ، هم المؤمنون لأنهم هم الذين يستجيبون لدعوة ربهم ويحمدونه على نعمه
ويرون قصر مدة لبثهم في البرزخ لأنهم كانوا منعمين فيه فلم يشعروا بطول المدة.
٥٣ ـ (وَقُلْ لِعِبادِي ...) أي المؤمنين منهم (يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) أي يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين في مقام
الإرشاد وإلقاء الحجة عليهم (إِنَّ الشَّيْطانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم بسبب الغلظة فتشتد النفرة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ ...) إلخ عداوته كانت قديمة مع الإنسان.
٥٤ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ...) أي هو سبحانه أعرف بكم وأدرى بمصالحكم (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بفضله (أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ) بعدله. فيكون الخوف منه والرجاء إليه. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا إليك أمرهم بحيث تجبرهم على الإيمان ، وما عليك
إلّا البلاغ.
٥٥ ـ (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ ...) إلخ أي يخصّ كلّا منهم بما يليق به من النبوّة والولاية
وغيرهما من المناصب والعناوين. ويفضل بعض النبيين على بعض للجهات المعنوية التي لا
يعلمها إلا هو سبحانه. وعن الصّادق (ع): سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو
العزم من الرّسل وعليهم دارت الرّحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد (ص).
٥٦ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ...) أي زعمتم أنهم آلهة (مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، (فَلا يَمْلِكُونَ
كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) لا يقدرون على دفع شيء كالمرض والقحط (وَلا تَحْوِيلاً) صرفا له عنكم إلى غيركم.
٥٧ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...) أي ينادونهم آلهة وهم (يَبْتَغُونَ) يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) فهؤلاء الآلهة يطلبون إلى الله القربة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) من هو أقرب منهم إلى الله تعالى ، فالمحتاج كيف يصير
للمحتاجين إليها (وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كباقي العباد فكيف تزعمونهم آلهة؟ (... كانَ مَحْذُوراً) ينبغي بأن يحذر ويخاف منه.
٥٨ ـ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ
مُهْلِكُوها ...) إلخ بإماتة أهلها كما عن الصّادق (ع). (أَوْ مُعَذِّبُوها) إلخ بقتل وقحط وغيرهما. (كانَ ذلِكَ فِي
الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك الحكم في اللّوح المحفوظ مكتوبا.
٥٩ ـ (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
...) إلخ أي لم نستجب للمقترحات من المشركين كقولهم اجعل الصّفا
ذهبا ونحو ذلك لأنا لو استجبنا لهم وأرسلنا الآيات المقترحة فلم يؤمنوا لاستحقوا
المعاجلة بالعقوبة كما حصل بالنسبة للأمم السالفة ، حيث اقترحوا مثلها فاستجيب لهم
فكفروا بها فأخذهم العذاب (وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ) هذه بيان لقوله كذّب بها الأوّلون (مُبْصِرَةً) بيّنة (فَظَلَمُوا بِها) أنفسهم بسبب عقرها. (وَما نُرْسِلُ
بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي لا نظهر الآيات على الأنبياء إلا زجرا للناس وعظة
ليخافوا من عذاب الله.
٦٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ
أَحاطَ بِالنَّاسِ ...) أي أوحينا إليك أن حكمته وقدرته محيطة بالنّاس ، فهم في
قبضته وتحت قدرته. ولعلها نزلت لتشجيع النبي الأكرم (ص) بأنهم لا يقدرون على أن
يمنعوه من إنفاذ أمر الرسالة وتبليغها وإظهار الإسلام على الدين كله ولو كره
الكافرون. كما قال في موضع آخر : والله يعصمك من الناس. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْناكَ) أي عيانا ليلة الإسراء أو في المنام إذ رأى بني أميّة
ينزون على منبره نزو القردة فاغتمّ به. (إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ) أي امتحانا لهم (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على الرّؤيا ، وهي بنو أميّة (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ
إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي نرهبهم بما نقصّ عليهم من اخبار الأمم السالفة فما
يزيدهم ذلك إلا عتوّا عظيما متجاوزا عن الحدّ. وقيل : المراد بالرؤيا ، أنه (ص)
رأى في المنام مصارع الكفار في وقعة بدر وكان يقول حين ورد بدرا ، والله لكأني
أنظر إلى مصارع القوم وهي على الأرض ويقول : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ...
إلخ.
٦١ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ ...) إلخ مرّ تفسيرها سابقا و (طِيناً) منصوب بنزع الخافض ، أي : من طين.
٦٢ ـ (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ ...) إلخ أي : أخبرني عن هذا ، الّذي فضّلته عليّ ، بالأمر
بتعظيمه ، لم فضّلته عليّ؟ (لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ) إلخ أي لأقودنّهم من أحناكهم بالإغواء ولأجرنّهم بحبائلي
إلى المعصية إلا من اصطفيته منهم.
٦٣ ـ (قالَ اذْهَبْ ...) إلخ : هذا الأمر أمر إهانة وإبعاد ، يعني طرده تعالى عن
مقام قربه ورحمته على وجه التهديد والوعيد بنار جهنم له ولمن استجاب لإغوائه
وإغرائه من الناس. (جَزاءً مَوْفُوراً) أي تامّا غير منقوص.
٦٤ ـ (وَاسْتَفْزِزْ ...) أي استخفّ واستنزل بسهولة (مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي بدعوتك إيّاهم إلى الفساد. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) إلخ أي صح على ولد آدم بخشونة وانزعاج بفرسانك وراجليك حتى
تستأصلهم (وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ) المكتسبة من الحرام (وَالْأَوْلادِ) المتولّدين من الزّنا (وَعِدْهُمْ) بالأمور الباطلة (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي تزيين الخطإ بما يوهم أنه صواب.
٦٥ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ) : أي المؤمنين المخلصين فهؤلاء لا تقدر أن تغويهم حيث
إنّهم لا يغترّون بك ولا يسمعون قولك ولا يطيعونك فلا نفاذ لك عليهم ، (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) حافظا من الشّرك لمن التجأ إليه.
٦٦ ـ (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ ...) إلخ : أي يجريها بالأرياح التي تجري السفن بها أو أنها
تساعد الفلك في جريها لو كان الجري بأسباب أخر وذلك لتطلبوا من فضل الله ما فيه
صلاح دينكم ودنياكم (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ
رَحِيماً) حيث أنعم عليكم بهذه النعم.
٦٧ ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ...) أي خوف الغرق بسكون الرياح واحتباس السفن أو باضطراب
الأمواج وغيره من أهوال البحر وطول مدة وصول الركبان إلى المقصد. (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) أي غاب عن خواطركم كلّ من تعبدونه من آلهتكم (إِلَّا إِيَّاهُ) إلّا الله إذ لا كاشف للضر سواه. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ) من الغرق وأوصلكم إلى خارج البحر (أَعْرَضْتُمْ) عنه تعالى ورجعتم إلى جحودكم بنعمه (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كثير الكفران. وهذا بمنزلة التعليل للإعراض.
٦٨ ـ (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ ...) إلخ : أي أن الّذي يقدر أن يغرقكم في الماء إذا كنتم فيه
هو القادر أن يهلككم بأن يخسف بكم طرف البر حيث أنتم على اليابسة (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) من الريح الشديد المحملة بالحصى. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) حافظا من ذلك.
٦٩ ـ (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ
تارَةً أُخْرى ...) أي في البحر مرّة أخرى وذلك بتقوية دواعي العودة فيه مرة
أخرى لتركبوه. (فَيُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ قاصِفاً) أي كاسرا شديدا يكسر الفلك فتغرقون (تَبِيعاً) مطالبا يتبعنا بثأركم أو دافعا عنكم حيث إنّا نفعل ما نشاء.
٧٠ ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ...) بالعقل والنّطق واعتدال الخلق وتسخير الأشياء له وغير ذلك (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ) أي على الدوابّ والسّفن. بل في الجو أيضا حيث بلغت المراكب
الجوية في هذا العصر حدا عظيما من التطور. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي الأشياء الطيبة واللذائذ. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) والمراد هو التفضيل بفنون النعم الدّنيوية وأقسام الملاذ
وممّا لم يجعله لشيء من الحيوان. وذلك كتسخير الكائنات لبني آدم وكالثواب على
العمل ، فإن المراد بالتفضيل هو التفضّل البدوي.
٧١ ـ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ
بِإِمامِهِمْ ...) أي يوم القيامة ننادي كل قوم بمن كانوا قد ائتموا به في
دار الدنيا من نبي أو وصي نبي أو شقي. وقيل بإمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل
زمانه (فَمَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فيفرحون ويسرّون بقراءتهم لما في الكتاب من الأعمال الحسنة
ولا ينقصون من حقّهم مقدار ما في شقّ النواة من المفتول الذي فيه كالخيط بين شحم
التمرة وبزرها.
٧٢ ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ...) إلخ أي أن من كان في الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن
الحق منحرفا عن الدين فهو في الآخرة أشد ضلالا وانحرافا وتحيرا وذهابا عن طريق
الجنة أو عن الحجة إذا سئل وأعمى الأولى اسم وأعمى الثانية فعل من العمى.
٧٣ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...) كلمة (إِنْ) مخفّفة ، أي الشأن قاربوا أن يستزلّوك ويصرفوك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأحكام والقرآن (لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتخترع علينا غير ما أوحينا إليك ، وعندئذ يتّخذونك (خَلِيلاً) صاحبا.
٧٤ ـ (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ...) أي ثبتنا قلبك على الحق والرشد بالعصمة (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلاً) تطمئنّ إلى قولهم بعض الاطمئنان.
٧٥ ـ (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ ...) إلخ. أي : لعذّبناك عذابا مضاعفا في الحياة وكذا بعد
الممات ، (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنا نَصِيراً) أي ناصرا ينصرك.
٧٦ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ...
إِنْ) مخفّفة ، أي قارب أهل مكة أن يزعجوك بمعاداتهم (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة ليخرجوك ولو أخرجوك منها (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) بعدك (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا يسيرا.
٧٧ ـ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ
مِنْ رُسُلِنا ...) أي جرت عادتنا على أن نهلك من الأمم الّذين فعلوا
بأنبيائهم مثل ما فعلوا بك من الاستخفاف والإهانة والإزعاج مقدّمة للإخراج. (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي تبديلا. فلن يقدر أحد على أن يقلب سنّة الله ويبطلها في
هذا المورد أو في غيره.
٧٨ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
...) أي عند زوالها أو وقت الزوال وهو وقت الظهرين بناء على أن
اللام بمعنى الوقت. (إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ) أي ظلامه وهو وقت العشاءين. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصّبح ، وتسميتها قرآنا لتضمّنها له ، كتسمية
الشيء باسم جزئه (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) يشهده ملائكة اللّيل والنهار ويكتبان في ديوانهما.
٧٩ ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) لكنّه يستفاد من الأخبار والإجماع أن
نافلة الليل ليست منحصرة به. نعم اختلفوا في أنها واجبة عليه أم لا؟ و (الهجود) من
الأضداد يطلق على النوم والسّهر ، والمعنى : يا محمد أترك النوم في بعض الليل
للصّلاة المشتملة على القرآن وهي النافلة. (نافِلَةً لَكَ) أي فريضة زائدة على الفرائض بناء على وجوبها عليه (ص) أو
فضيلة لك تخصّك زائدة على فضائلك ، وأمّتك بناء على عدم الوجوب. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً) أي يوصلك درجة يمدحك بها جميع الخلائق منه ، والمراد
بالمقام المحمود لعلّه هو الشفاعة أو إعطاؤه لواء الحمد.
٨٠ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ...) أي فيما حمّلتني من الرسالة ، أي في مكة ، أو عند البعث ،
أو في جميع ما أرسلتني به (مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني إدخالا مرضيّا (وَأَخْرِجْنِي) من أعباء الرّسالة بأدائها ، أو من مكة ، أو عند البعث (مُخْرَجَ صِدْقٍ) إخراجا لا أرى فيه مكروها (وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي قوة وعزّا تنصرني بهما على أعدائك.
٨١ ـ (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْباطِلُ ...) إلخ. أي : جاء الإسلام واضمحلّ الشّرك والكفر.
٨٢ ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ
شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...) أي أنّ في آيات القرآن ومعانيه شفاء للأرواح من الأمراض
الروحية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة ، وفي ألفاظه شفاء للأبدان ، وببركة
تلاوته نور للقلوب وجلاء للأبصار والبصائر. وقد روي عن النبيّ (ص): من لم يستشف
بالقرآن فلا شفاه الله. وأمّا كونه رحمة للمؤمنين فلأنهم المعتقدون به فينتفعون به
دون غيرهم (وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أعني الظالمين الذين لم يقبلوا كونه من عند الله فهم
يخسرون الشفاء والرحمة والثواب ويستحقون العقاب.
٨٣ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ ...) بالصّحة والسّعة في الرزق والكثرة في الولد (أَعْرَضَ) عن ذكرنا (وَنَأى) بعد (بِجانِبِهِ) أي بشخصه مستكبرا يرى نفسه مستغنيا عنّا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) آيسا يأسا شديدا من رحمة ربّه.
٨٤ ـ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ...) أي على طبيعته وعادته الّتي يعتادها ويتخلّق بها (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدى سَبِيلاً) أوضح طريقا وأصوب دينا.
٨٥ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أي يسألك يا محمد كفار قريش أو اليهود عن الروح ما هو؟
فقل لهم إن الروح من فعل ربي وخلقه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي فوق كلّ ذي علم عليم.
٨٦ ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ
بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي القرآن لو ذهبنا به ومحوناه من المصاحف والصّدور (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً) أي من يتوكّل علينا باسترداده وإرجاعه.
٨٧ ـ (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إلا أن يرحمك ربّك فيردّه إليك محفوظا. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) عظيما حيث اختارك للنبوّة وخصّك بالقرآن وأبقاه. وعن ابن
عباس : حيث جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود.
٨٨ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) : أي في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وجامعيّة المعاني (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) مع أن فيهم الفصحاء والبلغاء ، و (ظَهِيراً) معينا وهذا ردّ لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا).
٨٩ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا ...) إلخ. أي : بيّنّا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ليعتبروا من ترهيبنا وترغيبنا فلم يقبلوا ولم يزدهم (إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا وإنكارا للحق.
٩٠ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ...) أي قال المكابرون من الجبابرة لن نصدّقك حتى تأتي بأمور
ستة هي : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فتجري لنا الماء في بطاح مكة فنستقي ونزرع. ونستغني عن
الناس.
٩١ ـ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ
وَعِنَبٍ ...) أي أن تجعل لنفسك جنة وارفة الأشجار كثيرة الثمار (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها
تَفْجِيراً) وتجعل المياه تتدفّق في أنحائها على نحو الإعجاز.
٩٢ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ
عَلَيْنا كِسَفاً ...) أي توقعها علينا قطعا تركب بعضها على بعض على ما أوعدتنا
وهدّدتنا. وكسف : جمع كسف ، كقطع : جمع : قطع ، لفظا ومعنى. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً) أي كفيلا ومعناه أن تأتي بكل واحد حتى يكون ضامنا لنا بصدق
ما تقول.
٩٣ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ
...) أي من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي
السَّماءِ) تصعد إليها بمعجزة ونحن ننظر إليك ونرى صعودك. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) أي ولو فعلت ذلك فلن نصدّقك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا
كِتاباً نَقْرَؤُهُ) ونطّلع عليه. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) تنزّه وتقدّس (هَلْ كُنْتُ إِلَّا
بَشَراً رَسُولاً) يعني إظهار الآيات المقترحة ليس بإرادتي ، وأنا رسول إليكم
وما على الرّسول إلّا البلاغ. وتلك الآيات المقترحة هي أمور تحت قدرته تعالى إن
شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها.
٩٤ ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) : أي ما صرف المشركين عن التصديق بالله ورسوله ، (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي الحجج الظاهرة الواضحة (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ
اللهُ بَشَراً رَسُولاً) دخلت عليهم الشبهة في أنّه لا يجوز أن يبعث الله بشرا
رسولا ولا بدّ من أن يكون الرسول من الملائكة ، كما دخلت عليهم الشبهة في أن
عبادتهم لا تصلح لله فتوجهوا بها إلى الأصنام فعظموا الله بجهلهم بما ليس فيه
تعظيم وعبدوا بما فيه المعصية. فنعوذ بالله من الجاهل المتنسك.
٩٥ ـ (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ
...) أي يا محمّد قل جوابا لهم : إن أهل الأرض لو كانوا ملائكة (يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) قاطنين متوطّنين فيها (لَنَزَّلْنا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لكان من اللّازم أن يكون رسولهم من الملائكة لأن ذلك
مشروطا بنوع من التّناسب والتجانس بين المرسل والمرسل إليهم. لأن الجنس إلى الجنس
أميل فيمكنهم إدراكه والتلقي منه. وأما إرسال الملك إلى النبي (ص) فلتمكّنه من ذلك
لقوة نفسه.
٩٦ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ ...) مر تفسيره في الآية (٤٣) من سورة الرعد.
٩٧ ـ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ
...) أي من وفّقه الله وكان أهلا للهداية (وَمَنْ يُضْلِلْ) لأنه ليس أهلا للهدى (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يتولّون الدفاع عنهم (وَنَحْشُرُهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) أي يسحبون على وجوههم إلى النار مبالغة في إهانتهم ، عميا
وبكما وصمّا لا يبصرون ما تتلذذ به أعينهم ولا يسمعون ما تتلذذ به مسامعهم ولا
ينطقون بما ينفعهم. وقد سئل النبي (ص) : كيف يحشر الكفار على وجوههم؟ فقال (ص) :
إن الذي أمشاهم على رجلين قادر على أن يمشيهم على وجوههم يوم القيامة. (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهبها (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي لهبا واشتعالا بهم بإعادتهم بعد إفنائهم. وهذا من باب
قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
٩٨ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِآياتِنا ...) إلخ أي أن إدخالهم النار وازدياد السعير كلما خبت استحقوه
بسبب كفرهم بالبراهين والحجج الإلهية. وبسبب إنكارهم للمعاد وتعجبهم من إمكان عودة
أجسامهم بعد فنائها.
٩٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ ...) إلخ أي أن القادر على الأعظم كخلق السّماوات والأرض قادر
على الأدون وليست الإعادة أصعب عليه تعالى من الابتداء. والمراد بالمثل في قوله
تعالى : مثلهم إما هو الإعادة مثل الأول ، أو المراد بالمثل : النفس ، ويعبّر أهل
العربية عن النفس بالمثل. (وَجَعَلَ لَهُمْ
أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) مدّة معيّنة لا شك فيها وهو الموت أو البعث (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي امتنعوا عن كلّ شيء ممّا نزّلناه إلّا الكفر والجحد
بالحق مع وضوحه.
١٠٠ ـ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ ...) إلخ أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين لو أن خزائن أرزاق
العباد كانت تحت سلطتكم (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) لبخلتم وامتنعتم من أن تنفقوا وتعطوا الناس خوفا من النفاد
بالإنفاق وذلك لعدم التوكل وعدم التصديق بما أنزل ربكم عليكم في كتابه من قوله
سبحانه : وفي السماء رزقكم وما توعدون. (وَكانَ الْإِنْسانُ
قَتُوراً) أي بخيلا طبعا. وهذا الذيل تأكيد لما في صدر الآية وتثبيت
لما تشتمل عليه من كونهم ممسكين ، وبيان لعلّة الحكم بكونهم أشحة على الخير.
١٠١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ
بَيِّناتٍ ...) عن الصادق (ع): هي الجراد والقمّل والضفادع والدم والطوفان
والبحر والحجر والعصا ويده البيضاء (فَسْئَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ) عمّا جرى بين موسى وفرعون ، أو عن الآيات. (إِذْ جاءَهُمْ) عمّا جرى بين موسى وفرعون ، أو عن الآيات. (إِذْ جاءَهُمْ) موسى (ع). (فَقالَ) له فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ
يا مُوسى مَسْحُوراً) أي أعطيت علم السحر.
١٠٢ ـ (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ
هؤُلاءِ ...) أي قال موسى لفرعون : لقد تيقّنت أنه ما أنزل هذه الآيات
عليّ (إِلَّا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ، (بَصائِرَ) دلائل تتبصّرون بها طريق الحق فيما لو تدبرتموها ولكن أنت
لمّا كنت معاندا أو جاحدا فأظنّك (مَثْبُوراً) أي مهلكا أو تتبصّرون بها طريق الحق فيما لو تدبرتموها
ولكن أنت لمّا كنت معاندا أو جاحدا فأظنّك (مَثْبُوراً) أي مهلكا أو ملعونا.
١٠٣ ـ (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ
الْأَرْضِ ...) أي يزعج موسى وقومه بالنفي من أرض مصر أو بالقتل (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) أي اغرقناه مع قومه ولم نستثن أحدا.
١٠٤ ـ (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ...) أي أرض مصر التي أراد فرعون أن يبعدكم عنها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) قيام السّاعة (جِئْنا بِكُمْ
لَفِيفاً) أي جميعا أو
مختلطين أنتم وهم للحكم والجزاء.
١٠٥ ـ (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ...) أي ما أردنا من إنزال القرآن إلّا تركيز الحق (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ما نزل إلّا بالدّعوة إلى الحقّ ، ولست (إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع بالثواب (وَنَذِيراً) للعاصي بالعقاب.
١٠٦ ـ (وَقُرْآناً ...) أي أنزلنا قرآنا. (فَرَقْناهُ) أي فصلناه وجعلناه قطعا متمايزة من حيث الإنزال ، نجوما في
نحو نيّف وعشرين سنة أو فرقناه من حيث بيان الحقّ والباطل (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى
مُكْثٍ) أي إمهال لتنظر بمعنى آية وآية ، وسورة وسورة كي يسهل فهمه
وحفظه ولتتفكّروا فيه ، (وَنَزَّلْناهُ
تَنْزِيلاً) حسب المقتضيات.
١٠٧ ـ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا
...) أي قل يا محمّد لهؤلاء المشركين : سواء آمنتم بالقرآن أم
لا ، (إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) من المؤمنين أو ممن أعطوا علم التوراة قبل نزول القرآن (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) يقرأ عليهم (يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي يسقطون على وجوههم تذلّلا وخشوعا لله تعالى.
١٠٨ ـ (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ
كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) : أي ننزّهه تعالى عن خلف الوعد. إنّ وعد ربّنا كائن لا
محالة.
١٠٩ ـ (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ...
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) : أي أنّهم يسجدون عند سماع تلاوة القرآن ويزيدهم ذلك
خضوعا وتذلّلا لازدياد علمهم به ويقينهم بصدق ما جاء فيه. وقد خصّ الذقن لأن من
سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه ، وتسمى هذه السجدة بسجدة العلماء لاختصاصها
بهم على ما يتراءى من ظاهر الآية الكريمة.
١١٠ ـ (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ ...) لمّا نزلت هذه الآية الشريفة قال المشركون عند ما سمعوا
النبيّ (ص) يتلوها : يقول : يا الله يا رحمان؟ نهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين؟
إذ (أَيًّا ما تَدْعُوا) إلخ من هذين الاسمين الأقدسين تكونوا قد دعوتم الله الواحد
(وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي اسلك طريقا وسطا بين الجهر والإخفات في صلاتك.
١١١ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) إلخ. أي احمد الله عزّ اسمه ، ونزّهه عن الولد والشّريك ،
ووحّده وعظّمه عن كل ما لا يليق بألوهيّته. وقد روي أن رجلا قال عند الصادق (ع): الله
أكبر ، فسأل (ع) : من أي شيء؟ قال : من كل شيء ، فقال (ع) : حدّدته ، فقال الرجل :
كيف أقول؟ قال : قل الله أكبر من أن يوصف.
سورة الكهف
مكية ، عدد آياتها ١١٠ آية
١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ...) تعليم للخلق بأن يقولوا : كل الحمد والشكر لله الذي أنزل
على محمد (ص) القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) أي لم يجعل في القرآن الكريم اختلالا في ألفاظه ، ولا
تناقضا في معانيه.
٢ و ٣ و ٤ ـ (قَيِّماً ...) أي سوّاه على حد الاعتدال ، لا إفراط فيه ولا تفريط. وقد
نصبت (قَيِّماً) بفعل محذوف تقديره : جعله. وورد في كتاب (تأويلات الكاشي)
أن الضمير في (لِلَّهِ) راجع إلى العبد ، فالعوج صفة منفية عنه (ص) ، وكذلك (قَيِّماً) صفة له (ص) (لِيُنْذِرَ) يحذّر الكافرين (بَأْساً شَدِيداً) قوة وبطشا وعذابا يأتيهم (مِنْ لَدُنْهُ) من قبله تعالى حين يقضي بإهلاكهم لعنادهم وشدة كفرهم ، ول (يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) يخبرهم الخبر السارّ بنجاتهم وفوزهم في الدنيا وب (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) ثوابا جميلا جزيلا في الآخرة (ماكِثِينَ فِيهِ
أَبَداً) مقيمين في النّعيم باستمرار (وَيُنْذِرَ) يحذّر (الَّذِينَ قالُوا
اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) المشركين من اليهود والنصارى الذين قالوا بأن عزيرا
والمسيح ابنان لله.
٥ ـ (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ...) إلخ أي ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع معرفة وحجة
وكذلك آباؤهم من قبلهم.
٦ ـ (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) : أي قاتل نفسك (عَلى آثارِهِمْ) أي آثار قومك الذين قالوا لن نؤمن لك تمرّدا منهم على
ربّهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) متعلق بباخع نفسك. آسفا : أي حزنا مفرطا وهذا الحديث أي
القرآن.
٧ ـ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ...) أي من زخارفها (زِينَةً لَها) أي ما يصلح لأن يكون زينة لها ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ) لنختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أي بعمله لآخرته وزهده بالدنيا.
٨ ـ (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها
صَعِيداً جُرُزاً) : أي أرضا يابسة لا نبات فيها.
٩ ـ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ
...) أي بل ظننت أن أصحاب الكهف ، وهم فتية هربوا بدينهم من
ملكهم المشرك دقيانوس إلى مغارة وسيعة في الجبل الذي كان حوالي تلك القرية (وَالرَّقِيمِ) هم النّفر الثلاثة الذين دخلوا في الغار لا فرارا بل لرفع
التعب والاستراحة ، فانقطع حجر عظيم من الجبل ووقع على باب الغار فانسدّ عليهم ،
وقصّتهم معروفة كقصّة أصحاب الكهف. وقيل معاني أخر للرّقيم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي ما كان عجبا ، فإن خلق السّماوات والأرض وما فيهن من
العجائب والأسرار أعجب.
١٠ ـ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ
...) أي التجأوا إلى الغار لما ذكر آنفا (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ
رَحْمَةً) أي الأمن والفرج ممّا نزل بنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أعطنا أمنا من السّلطان وسبّب لنا طريقا نهتدي به في أمر
ديننا.
١١ ـ (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ...) أي ألقينا على آذانهم ستارا من النّعاس والنوم المانع عن
نفوذ الأصوات إليها يمنع السماع ، (فِي الْكَهْفِ
سِنِينَ عَدَداً) أي ذوات عدد كثير.
١٢ ـ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ...) أي أيقظناهم ونبّهناهم من نومتهم لنعرف أي الفريقين
اللّذين اختلفا في أمر أصحاب الكهف. من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ
وضبط مدّة لبثهم ، وعلم ذلك.
١٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ
بِالْحَقِّ ...) أي نتلو عليك يا محمد خبرهم بالصدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شباب ، (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) بيان للفتية. (وَزِدْناهُمْ هُدىً) بصيرة في الدين.
١٤ ـ (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ...) أي قوّيناها بالألطاف فأظهروا الحق ردّا على دقيانوس ، (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ فهزّوا عرش دقيانوس (لَقَدْ قُلْنا إِذاً
شَطَطاً) قولا ذا بعد عن الحق مفرطا في الظلم إن دعونا إلها غيره
تعالى.
١٥ ـ (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً ...) أي قالوا فيما بينهم : إن قومنا أشركوا بالله تعالى وجعلوا
غيره آلهة من الأصنام يتعبّدون لها (لَوْ لا يَأْتُونَ) ليتهم يجيئون (عَلَيْهِمْ) على آلهتهم ومعبوداتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي بحجة ظاهرة (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تعجب من افتراء قولهم الكذب على الله جلّ وعلا.
١٦ ـ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ...) إلخ. هذا قول بعض أصحاب الكهف لبعض ، أي لمّا أعرضتم عنهم
وعن عملهم من الشّرك (فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ) أي التجأوا إليه واجعلوه مأواكم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ) يبسط لكم بعض نعمه في الدنيا والآخرة. (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقاً) أي يسهّل لكم ما تنتفعون به وتصلحون به أمركم.
١٧ ـ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ ...) أي لو كنت عندهم ونظرت إلى الشمس حين طلوعها لرأيت أنها (تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) أي تميل عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) إلى جهة يمين الكهف (وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أي حين غروبها تجاوزهم لجهة الشمال من الكهف ، فلا تدخل
كهفهم ولا تصيبهم. حتى لا تبلى أجسادهم وثيابهم ، بل بمقدار تعدّل هواء الكهف
وتنقّيه من الرطوبات والعفونات المتولدة عن الأبخرة الأرضية والأنفسية والجوية في
بعض فصول السنة ، وقيل : إن الكهف واقع في الجهة الجنوبية من جبال الروم. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في فضاء متّسع من الكهف (ذلِكَ) أي المذكور (مِنْ آياتِ اللهِ) من دلائل قدرته (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بالتوفيق والإعانة (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) كأصحاب الكهف (وَمَنْ يُضْلِلْ) كدقيانوس وأصحابه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً) أي من يلي أمره ويرشده إلى الحق.
١٨ ـ (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً ...) إلخ. أي لو رأيتهم لحسبتهم منتبهين وهم نائمون في الحقيقة. وقيل
لأنهم مفتحة عيونهم يتنفّسون كأنهم يريدون أن يتكلّموا ولا يتكلّمون. وقيل إنهم
ينقلبون كما ينقلب اليقظان. (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي فناء الغار من جهة الدّاخل. وقيل كان ذلك كلب صيدهم. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ...) إلخ أي لو أشرفت عليهم في كهفهم وهم على ما هم عليه من
هيئة لأعرضت عنهم لاستيحاشك الموضع ولمليء قلبك خوفا لأن الله منعهم بالرعب لئلا
يصل إليهم أحد. قال ابن عباس وأكثر المفسرين : إن هؤلاء الفتية هربوا من ملكهم
ليلا فمرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه فطردوه ، فخاطبهم الكلب : ما
تريدون مني فأنا أحبّ أولياء الله فدعوني حتى أحرسكم ، فذهب معهم إلى الغار فنام
عند عتبة الكهف وناموا هم في فضائه.
١٩ ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ...) أي كما أنمناهم بقدرتنا كذلك أيقظناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن مدة لبثهم (... يَوْماً أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ) ظنّا من هذا القائل منهم. فلما رأوا تغيير أحوالهم من طول
أظفارهم وشعورهم صار الأمر ملتبسا عليهم. (قالُوا رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ردّوا علم مدة لبثهم إليه تعالى (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ
هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) الورق دراهم فضية عليها رسم الملك دقيانوس وهي جمع ورقة.
وقيل : بأنها الفضة سواء كانت مسكوكة أو غير مسكوكة (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي مدينة أفسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أيّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) أي أحلّ وأطيب. لأن أكثرهم كانوا مجوسا وفيهم قوم مؤمنون
يخفون إيمانهم (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ) أي بما ترزقون أكله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : فلا يماكس البائع ولا ينازعه وقيل : فليدقّق النظر
وليتحايل حتى لا يطّلع عليه أحد من أهل المدينة فيعرفه ، وذلك ظنا أن الناس في
المدينة هم الناس الذين تركوهم عند فرارهم من الطاغوت. (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي لا يخبرنّ بكم ولا بمكانكم أحدا.
٢٠ ـ (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
يَرْجُمُوكُمْ ...) أي لو يطّلعوا عليكم يقتلوكم رجما (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يرجعوكم إلى دينهم (وَلَنْ تُفْلِحُوا ...) إلخ لن تنجحوا أبدا.
٢١ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ...) أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا عليهم أهل مصرهم (لِيَعْلَمُوا) بعد اطّلاعهم على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌّ وَأَنَّ
السَّاعَةَ) لآتية (لا رَيْبَ فِيها) لا شك فيها. وفي الحديث : كما تنامون تستيقظون وكما تموتون
تبعثون ، النوم أخ الموت. (إِذْ يَتَنازَعُونَ) يعني أثرنا عليهم حين كانوا يتنازعون (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أمر الفتية فقد قيل ماتوا ، وقيل ناموا (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) كالمقابر حتى يخفوا عن أعين الناس الكفرة. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي لم تقولون ما لا تعلمون؟ نحن العالمون أنّهم نائمون أم
ميّتون. (قالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) إلخ أي الملك المؤمن وأعوانه الذين غلبوا على أمر الناس
وحكموهم أمروا ببناء مسجد يصلّي فيه المسلمون ويكون ذكرى وعبرة لمنكري البعث
والحشر.
٢٢ ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ...) أي أهل المدينة وملكهم أو المراد بالمتنازعين في العدد ،
وهم أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبيّنا (ص) فكما اختلفوا في مدة لبثهم في الغار
كذلك اختلفوا في عددهم ، فمن قائل : هم ثلاثة ، ومن قائل هم خمسة ، إلى قائل : هم
سبعة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) إلخ أي يقولون قولا من حيث لا علم لهم بالغيب ولا معرفة
لهم بعددهم. بل قل يا محمد بأن الله أعلم بعددهم (ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) وهم النبيّ وأوصياؤه ومن تعلّم منهم. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً
ظاهِراً) أي لا تجادل في أمر الفتية إلّا أن تتلو عليهم ما أوحي
إليك بلا تعنيف ودون أن تتعمّق فيه (وَلا تَسْتَفْتِ
فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لا تسأل في شأن الفتية من أهل الكتاب أحدا.
٢٣ و ٢٤ ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ
ذلِكَ غَداً ...) إلخ أي لا تصدر إلّا عن مشيئة الله تعالى ، وإلّا متلبّسا
بها ، قائلا : إن شاء الله. قال الأخفش : فيه إضمار القول ، وتقديره : إلا أن تقول
إن شاء الله والنهي في الآية تنزيهي لا تحريمي ، بل هو إرشاد إلى أمر مطلوب وهو
خروج قولك بهذا الاستثناء عن الكذب إذا قلت شيئا بنحو قاطع وجازم ، فلا يلزم كذب
إذا حلفت ولم تفعل. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) أي إذا نسيت الاستثناء والتّقييد فاستثن متى ذكرت أنّك لم
تستثن ولم تقيّد كلامك ، فقل : إن شاء الله. وعن أمير المؤمنين (ع): الاستثناء في
اليمين متى ما ذكرت وإن كان بعد أربعين صباحا. (وَقُلْ عَسى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي) إلخ أي أرجو من ربّي أن يلهمني ويعطيني ما هو أقرب وأوضح
دلالة على نبوّتي من قصة أصحاب الكهف.
٢٥ ـ (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ
مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ...) أي ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما.
٢٦ ـ (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ...) أي أعرف من الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب ، فلا بدّ من
أن يؤخذ بما أخبر به الله وأن يترك قول أهل الكتاب. (لَهُ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم الغيب مختصّ به تعالى (أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ) أي بالله تعالى وهي صيغة تعجّب أي ما أبصره بكل موجود وما
أسمعه لكل مسموع (ما لَهُمْ) أي لأهل السّماوات والأرض (مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَلِيٍ) يتولّى مصالحهم ويفوّضون أمرهم إليه (وَلا يُشْرِكُ) لا يشارك الله (فِي حُكْمِهِ) قضائه وسلطانه (أَحَداً) من مخلوقاته المفتقرة إليه.
٢٧ ـ (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ
كِتابِ رَبِّكَ ...) أي اقرأ على الناس ما ننزله عليك من الوحي المكتوب في
القرآن (لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) لا مغيّر لما أخبر به فيه وما أمر به (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملجأ.
٢٨ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...) أي احبسها. و (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي رضاه وطاعته (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ) لا تجاوز عينيك عن المؤمنين إلى غيرهم من أهل الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مجالسة الأشراف وأصحاب الأموال من أهل الدنيا (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي إفراطا وتجاوزا للحدّ.
٢٩ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ...) أي أنّ القرآن من عند ربّكم (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ) فليقبل (وَمَنْ شاءَ
فَلْيَكْفُرْ) أي فليأب ، فإن له الاختيار ، وهذا تهديد ووعيد بصيغة
الأمر ، ولذلك عقّبه بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين الذين باعوا أنفسهم بعبادة غيره سبحانه (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي فسطاطها ، (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا
... كَالْمُهْلِ) أي القيح المختلط بالدّم من الميّت خاصّة ، أو ما هو
المذاب من المعدنيّات كالنحاس. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ينضجها حرّه إذا ادني منها (بِئْسَ الشَّرابُ) أي المهل. (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي متّكأ. والارتفاق : هو نصب المرفق تحت الخدّ ، وذكره
للمقابلة والمشاكلة بقوله : وبئست مرتفقا ، وإلا أين المخدّة والمتّكأ لأهل النار.
٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... أَحْسَنَ
عَمَلاً) : أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا ، بل نجازيهم ونوفّيهم من
غير بخس. وتدل الآية على أن العمل شرط في تحصيل هذه المثوبات إذ إن العطف يدل على
المغايرة ، والإيمان المجرد عن العمل مقتض لا أنه علة لها.
٣١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ ...) أي للذين ذكرناهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي جنات إقامة لأنهم يبقون فيها ببقاء الله دائما. وقيل
عدن هو بطنان الجنة أي وسطها (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إمّا باعتبار أنهم على غرف في الجنّة أو لأنّ أنهار الجنة
تجري في أخاديد وأقنية مرتبة في الأرض وتحت الغرف والقصور (يُحَلَّوْنَ فِيها) إلخ أي يجعل لهم فيها حليّ من أساور من ذهب (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) وهي أبهى الألوان (مِنْ سُنْدُسٍ) أي ما رقّ من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ما غلظ منه (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السّرير (نِعْمَ الثَّوابُ) أي الجنّة ونعيمها (وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقاً) أي السّرر من حيث الاتّكاء عليها والارتياح بها في تلك
الجنّات.
٣٢ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) : أمر الله تعالى نبيّه (ص) بضرب مثل للكفرة ويريد الله
بالرّجلين ابني ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين ومالا جزيلا فأخذ أحدهما
حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرّب به إلى الله تعالى وتصدّق به ، وأخذ الآخر وهو
الكافر حقه فتملّك به ضياعا ، منها هاتان الجنتان اللّتان ذكرهما الله تعالى ومنها
دار بني بألف دينار وتزوّج بامرأة بألف دينار ثم اشترى خدما بألف دينار ، فوصف
الله سبحانه البستانين بصفات منها كونهما جنّتين بظلّ الأشجار. والصفة الثانية
قوله سبحانه : (وَحَفَفْناهُما
بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل محيطا بالجنّتين ، إلى آخر الأوصاف
المذكورة.
٣٣ ـ (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها
...) أي أعطت ثمرها (وَلَمْ تَظْلِمْ) لم تنقص (مِنْهُ شَيْئاً) من الثمر المعهود ، (وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً) أي شققنا وسطهما نهرا ليسقيهما.
٣٤ ـ (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ...) أي كان للكافر أثمار من أموال مثمرة غير ثمر الكرم والنخل
، واختصاصهما بالذكر لغالبيتهما وإلا فالتنكير للتعميم. (فَقالَ لِصاحِبِهِ) أي لأخيه المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يجادله ويفتخر عليه (أَنَا أَكْثَرُ
مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أقوى رهطا وخدما وأولادا وأعوانا.
٣٥ ـ (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ...) أي أدخل أخاه المؤمن معه في البستانين يطوف به فيهما
ويفاخره بهما ويعيّره على إتلاف أمواله في سبيل ربّه وإفراد الجنة هنا ، إما
لأنهما بحكم الواحدة لتواصلهما ، أو لإرادة الجنس ، أو لأنه أدخله في واحدة منهما
فقط دون الأخرى لأنها كانت مؤثرة في نفسه أكثر من أختها لطراوتها وبهجتها ونضارتها
وسعتها .. إلخ ، كما هو الظاهر من إضافتها إلى نفسه. (وَهُوَ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) أي ضار لها بعجبه وكفره. (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ
تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أي لا أحسب أن تفنى هذه الجنة.
٣٦ ـ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ما أظن أن القيامة آتية (وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلى رَبِّي) بالبعث كما تزعم أيها الأخ (لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً) أي والله لتكوننّ عاقبة أمري ومرجعي يوم القيامة خيرا من
دنياي. وإنما قال ذلك لتوهمه أو لأنه كان معتقدا بأن استحقاقه الذاتي مقتض لكونه
موردا لألطافه تعالى في الدنيا ، وإذا كانت هذه هي العلة فهي باقية إلى يوم البعث.
٣٧ ـ (قالَ لَهُ صاحِبُهُ ... أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ...) لأن النّطفة أصل خلق الإنسان هي من الغذاء الذي ينبت من
تراب الأرض والمقصود بصاحبه أخوه المؤمن عند جوابه له (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ما هو المادة القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلاً) جعلك إنسانا مستقيما مستوي الخلقة.
٣٨ ـ (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ...) يعني : أنا أقول هو الله الذي ربّاني بعد ما أوجدني (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لا أعبد غيره معه.
٣٩ و ٤٠ ـ (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ ...) إلخ أي هلّا قلت حين دخلت جنّتك كلمة المشيئة ، أي ما شاء
الله إلخ (إِنْ تَرَنِ أَنَا
أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي وإن كنت تراني فقيرا لا مال عندي ولا أولاد (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً
مِنْ جَنَّتِكَ) أي فأرجو أن يرزقني ربّي ما هو أحسن من جنّتك في الآخرة ،
كما أخشى أن تخرب جنّتك (وَيُرْسِلَ) الله (عَلَيْها حُسْباناً
مِنَ السَّماءِ) أي يبعث عليها لكفرك عذابا أو شرّا أو بلاء من السّماء
كالصّاعقة ونحوها (فَتُصْبِحَ صَعِيداً
زَلَقاً) أي أرضا ملساء لا تثبت عليها قدم. وقيل أرضا محترقة.
٤١ ـ (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً ...) أي ذاهبا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ
لَهُ طَلَباً) أي لن تجد حيلة تردّه بها.
٤٢ ـ (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ...) أي أهلكت أمواله ومخبّاته. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ) إلخ أي يضرب إحداهما على الأخرى كناية عن التندم والتحسّر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أن الأبنية ساقطة عن دعائم كرومها (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) كأنّه تذكّر نصح أخيه ووعظه له وتنبّه إلى أن هذا العذاب
من ناحية شركه.
٤٣ ـ (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ ...) إلخ أي جماعة تعينه على مصيبته (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا بقوّته عن انتقام الله منه.
٤٤ ـ (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
...) أي يوم القيامة. أو في حال تنازع المؤمن والكافر والولاية
بفتح الواو : هي النصرة ، وبكسرها السّلطان والملك. (خَيْرٌ عُقْباً) أي أحسن عاقبة.
٤٥ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ
الدُّنْيا ...) أي اجعل يا محمد لقومك وللناس مثلا هو هذه الحياة التي
يعيشونها في الدنيا فإنها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ) كالمطر الذي انحدر من السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ) فنما وكبر ونضج (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي يابسا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تنسفه وتطيّره بهبوبها. (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا على الإنشاء والإفناء.
٤٦ ـ (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ
الدُّنْيا ...) المال والبنون ممّا يتزيّن به في الحياة ولا ينتفع بهما في
الآخرة. (وَ) لكن (الْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) من أعمال الخير والطاعات (خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي أفضل ثوابا وأصدق أملا من سائر زينة الدنيا. وقيل إن
الباقيات الصالحات هي الولاية ، وقيل هي التسبيحات الأربع وقيل الولد الصالح
والكتاب النافع وغيرها.
٤٧ ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ...) أي نقلعها قلعا من أماكنها يوم القيامة (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ظاهرة من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها (وَحَشَرْناهُمْ) جمعناهم إلى الموقف (فَلَمْ نُغادِرْ
مِنْهُمْ أَحَداً) أي لم نترك أحدا إلا حشرناه.
٤٨ ـ (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ ...) أي وقفوا للحساب بين يديه سبحانه (صَفًّا) مصفوفين ، (لَقَدْ جِئْتُمُونا
كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي أحضرناكم على الحالة التي أوجدناكم فيها حين خلقكم عراة
ليس معكم من الأموال والأولاد شيء (بَلْ زَعَمْتُمْ
أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي : أيها المنكرون للبعث ليس الأمر كما تزعمون من أنّا لن
نجعل لكم وقتا للبعث والحساب.
٤٩ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي جنسه من صحائف الأعمال لبني آدم في الأيمان والشمائل (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) إلخ أي خائفين مما فيه من الذّنوب (وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا) هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة وهمّ فيدعو على
نفسه بالويل (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي شيء لهذا الكتاب (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي لا يترك الصغيرة ولا الكبيرة من السيئات والذنوب إلا
عدّها واثبتها وفي هذا التعبير دلالة على مدى إحاطة علمه سبحانه (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في صحيفة العمل (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) لا ينقص من ثواب أحد ولا يزيد في عقاب مسيء.
٥٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ...) إلخ لقد مر تفسيره فيما تقدم في سورة البقرة وذكر هذه
القصّة تقريرا للتّشنيع على أهل الكبر من المنكرين للبعث وغيرهم من العصاة بأنّ
ذلك من سنن إبليس وقيل : كرره تعالى في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها
في تلك الحال ، وهكذا كل تكرار في القرآن. (أَوْلِياءَ) أي محبوبين (بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) بئس بدل الظالمين بدلا عن الله تعالى من الشيطان وذرّيته.
٥١ ـ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) إلخ أي الشيطان وذرّيته ما أحضرتهم حين خلق السماوات
والأرض اعتضادا بهم (وَما كُنْتُ
مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي عونا.
٥٢ ـ (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ ...) إلخ يقول الله تعالى يوم القيامة لعبدة الأصنام نادوا
شركائي الذين زعمتم في الدنيا أنهم كذلك فلينصرونكم دوني. وإضافة الشركاء إليه
تعالى على زعمهم إنما هو من باب التوبيخ لهم والاستهزاء بهم. (فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للإعانة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ) فلم يلبّوا النداء (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ) أي بين الكفار وآلهتهم (مَوْبِقاً) حاجزا بين الكفار ومعبوديهم. من الملائكة والمسيح وعزير ،
فندخل الكفرة في النار بينما ندخل هذين المعبودين الجنة ، كما فسّر الموبق بالمهلك
، وهو على ما قيل : دار في الجحيم ينزلها العبدة وآلهتهم حيث يشتركون في العذاب.
٥٣ ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ...) أي أيقنوا الدّخول فيها (مَصْرِفاً) أي موضع فرار.
٥٤ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ
...) أي بيّنا فيه مفصّلا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شيء يحتاجون إليه من قصص الأمم الماضية للعبرة ،
ومن دلائل القدرة الكاملة تقوية للبصيرة. وقد مر تفسيره في سورة بني إسرائيل (جَدَلاً) أي خصومة.
٥٥ ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
...) إلخ أي لم يحجزهم عن الإيمان وطلب المغفرة بعد مجيء
الدلالة غير طلب ما جرت العادة الإلهيّة عليه من إهلاك الظّلمة الماضين في الدّنيا
، و (الْعَذابُ) عذاب الآخرة (قُبُلاً) أي عيانا.
٥٦ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ...) إلخ أي لم نبعث الأنبياء إلا ليرغّبوا الناس بالثواب
وليخوّفوهم من العقاب (وَيُجادِلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي يخاصم الكفار أهل الحقّ دفاعا عن مذهبهم (بِالْباطِلِ) من إنكار إرسال البشر كقولهم للأنبياء : ما أنتم إلا بشر
مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، ومن اقتراحهم الآيات بعد ظهور المعجزات ، ومن
نسبة ما جاء به الأنبياء إلى السحر والشعر والكهانة (لِيُدْحِضُوا بِهِ) أي ليزيلوا بالجدال (الْحَقَ) القرآن أو الدّين القويم (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني دلائل وجودي وقدرتي. (وَما أُنْذِرُوا) من ذكر القيامة وعذابها ، (هُزُواً) سخرية.
٥٧ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ ...) إلخ أي ليس أظلم من الإنسان الذي ترشده إلى الحق فيعرض عنه
(إِنَّا جَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفهموا القرآن ، (وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) إلخ صمما وثقلا ، كناية عن غباوة قلوبهم ومسامعهم عن قبوله
، فهم لا يهتدون أبدا.
٥٨ و ٥٩ ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ
...) إلخ واضح المعنى ، وهو لا يؤاخذ الناس بذنوبهم ولا يعجّل
لهم العذاب في الدّنيا (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) يوم القيامة و (مَوْئِلاً) ملجأ. و (الْقُرى) عاد وثمود وأمثالهم (لِمَهْلِكِهِمْ
مَوْعِداً) أي لإهلاكهم وقتا معلوما لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون. وورد
في تفسير القمي : لما سأل اليهود النبي (ص) عن قصة أصحاب الكهف وأخبرهم بها ،
قالوا له (ص) : أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه وما قصته فأنزل الله
تعالى قوله :
٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ...) أي يوشع بن نون سمّي فتى لأنه كان حديث السنّ أو لأنه كان
يتبعه ويخدمه ، (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي ملتقى بحري فارس وبحر الروم وهو المكان الذي وعد فيه
موسى بلقاء الخضر (عليهماالسلام) (أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً) أسير زمنا طويلا الحقب ثمانون سنة.
٦١ ـ (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ...) أي ملتقى البحرين ، و (نَسِيا حُوتَهُما) أي تركاه ذهولا عنه (فَاتَّخَذَ) أي سلك الحوت (سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ سَرَباً) بارزا وقيل : مستترا. وقيل : إن موسى وفتاه لما بلغا ذلك
الموضع جلسا ليستريحا فنام موسى من شدة التعب وعناء السفر ، واشتغل يوشع بالوضوء
من ذلك الماء وكانت ماء الحياة فوقعت قطرة منه على ذلك الحوت المشوي أو المملوح
فدبّت فيه الحياة فاتخذ الحوت سبيله ... إلخ.
٦٢ ـ (فَلَمَّا جاوَزا ... آتِنا غَداءَنا ...) إلخ أي لمّا انصرفا وقطعا مسافة قال موسى ليوشع : أعطنا ما
نتغذّى. والغداء : طعام الغداة كما أن العشاء طعام العشي. و (نَصَباً) عناء.
٦٣ ـ (قالَ أَرَأَيْتَ ...) أي : أو تدري (إِذْ أَوَيْنا إِلَى
الصَّخْرَةِ) إذ استرحنا إليها (فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ) عندها وقد (وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ) إلخ فسهوت عنه ، (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي سار الحوت في البحر وكان بحيث يتعجّب منه لأنه كان
ميّتا فصار حيّا.
٦٤ ـ (قالَ ...) أي قال موسى ليوشع (ع) (ذلِكَ) أي فقدان الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) هو الّذي نطلبه حيث إنّه علامة لمن نريده ونطلبه ، (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) فرجعا في الطريق الذي جاءا منه على آثار أقدامهما (قَصَصاً) رجوعا من حيث جاءا.
٦٥ ـ (فَوَجَدا عَبْداً ... آتَيْناهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ...) أي النبوّة ، أو الولاية ، أو الوحي. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي من علم الغيب الذي لم يكتب في الألواح.
٦٦ ـ (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى
أَنْ تُعَلِّمَنِ ...) أي هل تسمح لي بمصاحبتك والمضيّ معك لأجل أن تعلّمني (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) بعض ما أفاضه الله تعالى عليك من الهداية؟ وقيل : بأن موسى
(ع) لما رآه قال له : السلام عليك ، فأجابه : السلام عليك يا عالم بني إسرائيل ،
ثم وثب فأخذ عصاه بيده ، فقال له موسى (ع) : إني قد أمرت أن اتّبعك على ... إلخ.
٦٧ و ٦٨ ـ (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً) : أجابه الخضر (ع) قائلا : إنك يثقل عليك الصبر بمرافقتي
لأنني وكّلت بأمر لا تطيقه ، ووكّلت بعلم لا أطيقه (وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي كيف يتأتّى لك الصبر على أشياء قد تقع أمامك ولا تعرف
وجه الحكمة فيها. أو تسكت عما يحدث أمامك وأنت لا تعرف السر في حدوثه؟
٦٩ ـ (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ
صابِراً ...) قال موسى (ع) : سترى أنني أصبر بمشيئة الله (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وسأطيعك وأمتثل أوامرك أثناء مصاحبتي لك.
٧٠ ـ (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا
تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ...) أجابه الخضر (ع) : إذا أردت مصاحبتي فلا تسأل عن شيء تراني
أفعله أثناء صحبتنا (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبتدئك بتفسيره.
٧١ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي
السَّفِينَةِ ...) فمضيا معا حتى ركبا سفينة ف (خَرَقَها) أي ثقبها الخضر (قالَ) موسى (ع) : (أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها) لتعرّض ركّابها للغرق في البحر؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي فعلت شيئا عظيما أو منكرا.
٧٢ و ٧٣ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ ...) إلخ قال الخضر مجيبا موسى (ع) : ألم أقل لك سلفا : إنك لا
تقدر على الصبر أثناء متابعتي لأنك لا تعرف وجه الحكمة في أفعالي.؟ (قالَ) موسى (ع) : (لا تُؤاخِذْنِي بِما
نَسِيتُ) آمل العفو عمّا نسيته من شرط متابعتك (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تعاملني بما لا أطيق في مرافقتك ، وفي اعتراضي عليك
واستباقي للحوادث.
٧٤ ـ (فَانْطَلَقا ، حَتَّى إِذا لَقِيا
غُلاماً فَقَتَلَهُ ...) ثم نزلا إلى البر ومشيا فصادفا في طريقهما فتى فقتله الخضر
، ف (قالَ) موسى (ع) : (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً) نفسا طاهرة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) بدون أن تستحق القتل بقود وشبهه (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فعلت فعلا منكرا بقتل هذا الغلام من دون سبب.
٧٥ و ٧٦ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ ...) إلخ مرّ تفسيرها ، ف (قالَ) موسى (ع) : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) إذا استفهمت منك عن شيء تفعله من الآن وصاعدا فلا ترافقني (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي أنك معذور من جانبي. لأنني أنا الذي لم ألتزم بشرط
مصاحبتك.
٧٧ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ
قَرْيَةٍ ...) فتابعا سيرهما إلى أن دخلا قرية ، وكان من عادة أهلها أن
يسدّوا بابها عند غروب الشمس. فلا يفتحوه لأحد إلا عند طلوعها ، وكلما اجتهدوا
وطلبوا فتح الباب لهم لم يجبهم أحد. (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي طلبا الطعام من أهلها. (فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُما) فبقيا دون أكل خارج سور القرية إلى أن أصبح الصباح (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) أي رأيا في ضاحية القرية حائطا مشرفا على الانهيار (فَأَقامَهُ) بناه الخضر وساعده موسى ولكنه (قالَ) له : (لَوْ شِئْتَ) أردت (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً) أجرة نشتري بها طعاما نقتات به.
٧٨ ـ (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ...) أي أن قولك : لو شئت لاتّخذت عليه أجرا ، صار سببا للفراق
بيننا وقد ذكر الفراق ثم كرر ذكر البين ليؤكد عدم مصاحبته بعدها. (سَأُنَبِّئُكَ) سأخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي بحكمة الأشياء التي لم تقدر على السكوت عليها حتى تعرف
وجه الحكمة فيها. والتأويل : هو صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى معنى أخفى منه ،
وهو مأخوذ من آل إذا رجع ، ويقال : تأوّل فلان الآية ، أي نظر إلى ما يؤول إليه
معناها.
٧٩ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ
لِمَساكِينَ ...) إلخ أمّا السّفينة التي خرقتها فإنها ملك لبعض الفقراء من
البحّارة ، (فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها) قصدت أن أجعل فيها عيبا لتصير غير صالحة للاستعمال. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ظالم (يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْباً) من أصحابها ليسخّرها في مصالحه الشخصيّة. فأنقذتها بهذا
العمل من المصادرة.
٨٠ و ٨١ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ
مُؤْمِنَيْنِ ...) أي الفتى الذي قتلته هو ابن لمؤمنين مرضيّين وهو مكتوب في
جبينه أنه كافر ، (فَخَشِينا) أي خفنا (أَنْ يُرْهِقَهُما) يثقل كاهلي أبويه (طُغْياناً وَكُفْراً) ظلما وجحودا (فَأَرَدْنا) رغبنا بقتله (أَنْ يُبْدِلَهُما
رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أن يرزقهما غيره ولدا خيرا منه طهارة وصلاحا (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أشد عطفا عليهما ورحمة بهما. وعن الصادق عليهالسلام أنه سبحانه أبدلهما جارية فولدت لهما سبعين نبيا.
٨٢ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ...) وأمّا الحائط الذي بناه في المدينة تبرعا فهو لولدين فقدا
أبويهما (وَكانَ تَحْتَهُ) أي تحت الجدار (كَنْزٌ لَهُما) مال مدفون لهما. وقيل لم يكن مالا بل صحف علم وكان مكتوبا
فيها : لا إله إلا أنا ، من أيس لم يضحك سنّه ، ومن أيقن بالموت لم يفرح قلبه ،
ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله. (وَكانَ أَبُوهُما
صالِحاً) مؤمنا بالله مطيعا له ، (فَأَرادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي أن يكبرا ويصبحا راشدين (وَيَسْتَخْرِجا
كَنزَهُما) يكشفانه (رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ) لطفا منه بهما (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي) يعني أنني ما قمت ببناء الجدار من تلقاء نفسي ، بل أمرني
بذلك ربّي. (ذلِكَ تَأْوِيلُ) تفسير (ما لَمْ تَسْطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً) هي : تستطع.
٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ
...) أي يسألك يا محمد كفار المدينة ويهودها عن خبر ذي القرنين (قُلْ) لهم : (سَأَتْلُوا) أقرأ (عَلَيْكُمْ مِنْهُ
ذِكْراً) أي خبرا.
٨٤ ـ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ...) أي جعلنا له فيها سلطانا حتى استولى عليها (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي أعطيناه من كل شيء في الأرض طريقة توصله إلى ما يريد.
٨٥ و ٨٦ ـ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) : أي فاتّخذ طريقا وسلكه (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض.
(وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الطّين الأسود
المنتن. (وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً) أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا كفرة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) موحين له وملهمين : (إِمَّا أَنْ
تُعَذِّبَ) هؤلاء القوم بقتلهم إن اصرّوا على الكفر (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْناً) أو أن تسلك فيهم طريقة الإحسان إليهم بهدايتهم إلى الإيمان.
٨٧ و ٨٨ ـ (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ ...) أي قال ذو القرنين في نفسه : إنني سأدعوهم إلى الإيمان فإن
أصرّوا على الكفر فقد ظلموا أنفسهم ، فنعذّب المصرّ بالقتل أو بالأسر في دار
الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى
رَبِّهِ) بعد الموت (فَيُعَذِّبُهُ
عَذاباً نُكْراً) أي منكرا غير معهود أي في النار (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) مر معناه. (وَسَنَقُولُ لَهُ
مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي سنأمره بما يسهل عليه القيام به من التكاليف.
٨٩ و ٩٠ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : أي أخذ طريقا آخر وسلكه (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من المعمور (وَجَدَها تَطْلُعُ) تشرق (عَلى قَوْمٍ) جماعة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِها سِتْراً) أي أنهم عراة لا يتّقون أشعّتها بأيّ لباس ، وليس في أرضهم
أي جبل أو شجر أو بناء لأنها أرض رخوة.
٩١ ـ (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ
خُبْراً) : أي علمنا بما كان لدى ذي القرنين من جند كثير ، وعدّة
عديدة ، وعلم غزير وسياسة وتدبير.
٩٢ و ٩٣ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : ثم تابع سيره (حَتَّى إِذا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي وصل إلى ما بين جبلين فاجتازهما ف (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) وراءهما (قَوْماً لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي اختصوا بلغة لا يكادون يعرفون غيرها.
٩٤ ـ (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ...) أي أنهم كلّموه رأسا. (إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ) وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالقتل والنهب والإتلاف ، فقد قيل إنهم كانوا يأكلون كلّ
ما يدبّ على الأرض حتى الناس (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ
خَرْجاً) مبلغا من المال. (عَلى أَنْ تَجْعَلَ
بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي من أجل أن تجعل فاصلا ما بيننا وبينهم يحجزهم عنّا
كالسور وغيره.
٩٥ ـ (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
...) أي أنه أجابهم قائلا : إن ما ملّكني إياه ربّي ، وأقدرني
عليه من المال والسلطان (خَيْرٌ) ممّا تبذلون لي من مالكم (فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ) فساعدوني بقوة الرجال أو هم مع الآلات (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْماً) أي حاجزا حصينا متراكبة طبقاته بعضها فوق بعض.
٩٦ و ٩٧ ـ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ...) أعطوني قطع الحديد (حَتَّى إِذا ساوى
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي سوّى بين جانبي الجبلين بما جعل بينهما من ردم الحجارة
والأتربة وقطع الحديد (قالَ) ذو القرنين : (انْفُخُوا) بالمنافخ التي صنعها لهذه الغاية من أجل إشعال النار
وإضرامها في مختلف أجزاء الردم ، فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً) أي صيّر الحديد نارا (قالَ آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أعطوني النحاس الذي أعددته لأفرغه على الحديد الملتهب (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي ما قدروا على تجاوزه والصعود عليه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) ولا قدروا على ثقبه وتدميره لصلابته وثخنه.
٩٨ ـ (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...) أي قال ذو القرنين : هذا السد نعمة من نعم الله لعباده
أنعم بها عليهم في دفع شر يأجوج ومأجوج عنهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) فإذا اقترب مجيء أشراط الساعة وهو خروج يأجوج ومأجوج قبيل
ذلك ، فحينئذ يجعله ربّي مدكوكا حتى يسوّيه بوجه الأرض. (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي أنه كائن قطعا.
٩٩ ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ...) أي خلّينا يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السدّ يندفعون بكثرة
مختلطين حالهم حال المياه الكثيرة التي تضطرب أمواجها وتتلاطم في جريانها
واندفاعها. (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) وقد اختلف في شكل ذلك الصور فقيل هو قرن ينفخ فيه إسرافيل (ع)
ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ،! والثانية النفخة التي يصعق منها من في السماوات
والأرض وبها يموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي حشرناهم في صعيد واحد للحساب.
١٠٠ و ١٠١ ـ (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) : أي أبرزناها لهم حتى شاهدوها قبل دخولها ، فهم (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي
غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي الذين غفلوا عن الاعتبار والتفكّر بقدرتي الموجب لذكري
واعرضوا عن الاعتبار بآياتي فصاروا بمنزلة من يكون على عينيه غطاء يمنعه عن
الإدراك (وَكانُوا) مع ذلك العمى (لا يَسْتَطِيعُونَ
سَمْعاً) أي يعرضون عن استماع ذكر الله تعالى.
١٠٢ ـ (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
يَتَّخِذُوا عِبادِي ...) أي : هل ظنّوا أن يتخذوا عبادي الذين خلقتهم ودانوا
بربوبيّتي : (مِنْ دُونِي
أَوْلِياءَ) آلهة ومعبودات لهم. وأن ذلك ينجيهم من عذابي؟ (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (جَهَنَّمَ) بعذابها الشديد (لِلْكافِرِينَ
نُزُلاً) أي مأوى ومنزلا.
١٠٣ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) : أي قل يا محمد للناس : أتريدون أن نخبركم بأشد الناس
خسرانا في العمل يوم القيامة؟
١٠٤ ـ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا ...) إلخ أي ضاع عملهم وكدّهم لكفرهم فلم يأجرهم الله عليه
ويظنون أنهم محسنون وأن أفعالهم طاعة وقربة.
١٠٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ...) أي جحدوا دلائل ربّهم من القرآن وغيره ، وأنكروا البعث
والقيامة (فَحَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) أي بطلت بكفرهم لأنهم أوقعوها على خلاف ما أمر الله (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) أي لا نرفع لهم ميزانا توزن به أعمالهم إذ ليس لهم أعمال
بعد الحبوط ، أو أن المعنى : لا نجعل لهم مقدارا ولا اعتبارا.
١٠٦ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ...) هي تفسير لسابقتها بمعنى أن عدم اعتبار عملهم ذا أهمية جعل
جزاءهم يوم القيامة جهنّم (بِما كَفَرُوا
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) بسبب كفرهم واتخاذهم دلائلي على وحدانيتي ورسلي موضع هزء
وسخرية.
١٠٧ و ١٠٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي أن المصدّقين به وبرسله وآياته (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ
نُزُلاً) في يوم القيامة ، فهي مثواهم الذي يخلدون فيه ويتنعّمون.
والفردوس أعلى درجات الجنة. (خالِدِينَ فِيها) يعيشون أبدا. (لا يَبْغُونَ عَنْها
حِوَلاً) لا يطلبون تحوّلا عنها إلى غيرها.
١٠٩ ـ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً
لِكَلِماتِ رَبِّي ...) قل يا محمد ، لو كان البحر حبرا أو مدادا تكتب بها كلمات
ربي ويسجّل به علمه (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) انتهى (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي) وتنتهي آياته وعلمه (وَلَوْ جِئْنا) لهذا البحر (بِمِثْلِهِ مَدَداً) عونا يرفده ولو كان مثله حجما.
١١٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحى إِلَيَّ ...) أي : قل يا محمد للناس : أنا مخلوق لله تعالى كما أنكم
مخلوقون له ، لا فضل لي عليكم إلا بالوحي والنبوة (أَنَّما إِلهُكُمْ
إِلهٌ واحِدٌ) لا ربّ سواه ولا شريك له (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) أي يطمع في الحصول على جزاء ربه والوقوف بين يديه يوم
القيامة لنيل ثوابه. (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صالِحاً) أي خالصا لله (وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي لا يقصد بعمله الرياء الذي يسمّى بالشّرك الخفيّ الذي
يكون في الأعمال.
سورة مريم
مكية ، وعدد آياتها ٩٨ آية
١ ـ (كهيعص) : لقد مر معنا الكلام حول هذه الحروف المقطعة في أوائل
السور فلا نعيد.
٢ ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا) : أي هذا خبر رحمة ربك لزكريا عبده ويعني بالرحمة إجابته
إياه حين دعاه وسأله الولد. ووصفه له بالعبودية كاشف عن سمو مقامه وعلو رتبته ،
كما فعل من نبينا (ص) حيث وصفه بذلك الوصف الشريف في سورة الإسراء.
٣ ـ (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) : أي حين دعا ربّه دعاء ستره عن الآخرين. ويستشمّ من هذه
الآية الكريمة استحباب الدعاء إخفاتا ولعل وجهه أن ذلك يكون أبعد عن الرياء وأقرب إلى
الاجابة ، كما أن هناك فرقا بين موارد الدعاء ولا سيما فيما يدعو به لنفسه أو
لغيره أو يدعى له به من قبل الغير. ويلاحظ أن دعاء زكريا (ع) كان دعاء شيخ طاعن في
السن وامرأته عاقر وقد يستهزئ به الناس إذا دعا ربه طالبا الذرية بشكل علني مسموع
ولذا أخفت في دعائه ذاك.
٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي ...) أي ضعف العظم مني (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) أي عمّه البياض وتلألأ فيه الشيب (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ
شَقِيًّا) أي بدعائي إيّاك فيما مضى من أيام عمري لم أكن مخيّبا
محروما.
٥ و ٦ ـ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ
وَرائِي ...) أي إني خفت أن يرثني بنو عمومتي وهم من شرار الخلق بعد
موتي إذ لا وارث لي غيرهم. (وَكانَتِ امْرَأَتِي
عاقِراً) أي أنها لا تلد أبدا (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي ارزقني ولدا ذكرا يكون أولى بميراثي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أي يرث النبوّة منّي ومنهم وما هو دونها وأعم منها (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيّا عندك وعند الناس جميعا.
٧ ـ (يا زَكَرِيَّا ...) ها هنا حذف تقديره : فاستجبنا دعاءه وأوحينا إليه : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) نخبرك الخبر السارّ (بِغُلامٍ) ولد ذكر (اسْمُهُ يَحْيى) كما قدّرنا و (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم نخلق قبله أحدا سمّي بهذا الاسم. وروي أن الحسين (ع)
عند ما خرج إلى كربلاء كان لم يهبط واديا ولا نزل منزلا إلا ذكر يحيى بن زكريا
قائلا من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني
إسرائيل.
٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
...) أي قال زكريّا (ع) ذلك في مقام التعجب لا من حيث إنكار
قدرة الله تعالى والمعنى كيف يكون لي ولد (وَكانَتِ امْرَأَتِي) زوجي (عاقِراً) لا تلد أصلا ، (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي وصلت إلى سنّ العجز. والعتوّ كبر السنّ.
٩ ـ (قالَ كَذلِكَ ...) أي قال الله تعالى له ، أو الملك : الأمر على ما أخبرت من
هبة الولد على الكبر ومن المرأة العاقر (قالَ رَبُّكَ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل يسير (وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي أنشأتك من العدم ولم تكن موجودا قبل خلقك. فإزالة عقر
زوجتك ، وإرجاع قوّتك أهون بنظر الاعتبار من بدوّ الإنشاء.
١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...) أي علامة أستدل بها أمام الناس على وقت كونه (قالَ) الله سبحانه (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ
النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) يعني أنك تبقى ثلاث ليال غير قادر على مكالمة الناس
ومخاطبتهم من غير علّة في جسدك.
١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرابِ ...) أي أنه بعد سماع هذا القول ظهر على الناس وترك مصلّاه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) يعني أومى إليهم وأشار. (أَنْ سَبِّحُوا) أي نزّهوا الله واذكروه وصلّوا له (بُكْرَةً) صباحا (وَعَشِيًّا) مساء.
١٢ ـ (يا يَحْيى ...) انتقل سبحانه إلى خطاب يحيى وطوى ذكر الفترة الطويلة التي
مضت ، فقال تعالى له : (خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ) بعزيمة وقم بما فيها من أوامر ونواه (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي أعطيناه الحكمة والعقل والرشد وهو في زمن طفولته.
١٣ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : أي رحمة منّا به وتعطّفا عليه آتيناه الحكم صبيّا (وَزَكاةً) أي تزكية له من الخبائث والأدناس (وَكانَ تَقِيًّا) متجنّبا للخطايا لم يهمّ بسيئة.
١٤ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) : أي أنه كان حافظا لحق أبويه تمام الحفظ ولم يكن (جَبَّاراً) متكبّرا (عَصِيًّا) عاصيا لربّه.
١٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ...) إلخ أي تحية مباركة له من ربّه وأمان منذ ولادته إلى يوم
القيامة.
١٦ و ١٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ...) بعد قصة زكريّا ويحيى (عليهماالسلام) المعجزة ، شرع
سبحانه في بيان قصة عيسى ومريم (عليهماالسلام) التي هي أكبر إعجازا في عالم الخلق
والقدرة. (اذْكُرْ فِي
الْكِتابِ) القرآن (مَرْيَمَ) أي قصّتها (إِذِ انْتَبَذَتْ) حيث اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) فابتعدت عن ذويها واتّخذت (مَكاناً شَرْقِيًّا) إذ أقامت في مسجد القدس ولم تزل تشتغل بالتبتّل والعبادة ،
وقيل شرقي منازل أهلها (فَاتَّخَذَتْ مِنْ
دُونِهِمْ حِجاباً) جعلت بينها وبينهم سترا (فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا) فبعثنا لها جبرائيل (ع) (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) أي تصوّر بصورة آدميّ تامّ الخلق.
١٨ ـ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ) : فمريم (ع) لمّا رأت جبرائيل (ع) في ذلك المكان قالت :
اعتصمت بالله منك (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مطيعا لله متجنّبا لما يغضبه ...
١٩ ـ (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ...) أي أنا مرسل إليك من الله تعالى (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) لأمنحك من الله ولدا ذكرا طاهرا من الأدناس.
٢٠ و ٢١ ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ...) كيف يكون لي ولد ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ) والحال أنني لم يلمسني إنسان على نحو الزوجية (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولم أن زانية (قالَ) جبرائيل (كَذلِكِ) أي الأمر كما تقولين ولكن (قالَ رَبُّكِ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلق الولد بلا زوج هو عليه في غاية السهولة (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد يهتدون به (وَكانَ) أي إحداث الولد منك ، بلا أب كان (أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدّرا من عنده تعالى ومحتوما ومحكوما به.
٢٢ ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكاناً قَصِيًّا) : أي حملت بعيسى (ع) واعتزلت به بعيدا عن الناس حياء من
أهلها وغيرهم وكانت مدة حمله تسع ساعات.
٢٣ و ٢٤ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ ...) أي ألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد
عليه عند الوضع. (قالَتْ :) مريم (ع) عند المخاض : (يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا) الأمر الذي ابتليت به ، (وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا) أي شيئا حقيرا لا يذكر ولا يعبأ به. وعلى كل حال ، قال ابن
عباس : فسمع جبرائيل (ع) كلامها (فَناداها مِنْ
تَحْتِها) قيل : المنادي كان جبرائيل وكان أسفل منها تحت أكمة أو أن
المنادي كان عيسى (ع) (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تغتمي (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي جعل تحت قدميك جدول ماء عذب تشربين منه وتتطهّرين.
٢٥ ـ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
...) أي حرّكيها واجذبيها إلى نفسك. (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي تنزل عليك رطب التّمر اليانعة السهلة الاجتناء.
٢٦ ـ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ...) أي : كلي من الرّطب ، واشربي من ماء السّري ، وكوني مهنّأة
مرتاحة البال بهذا المولود المبارك ، ولتكن دمعة السرور باردة في عينيك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَداً) أي : إذا ما رأيت آدميّا ـ كائنا من كان ـ إن استنطقك
وسألك عن ولدك هذا (فَقُولِي) له : (إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا والمعنى أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلّم مع أي
إنسان.
٢٧ و ٢٨ ـ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ...) يعني أنها بعد أن ولدته لفته في خرقة وحملته وعادت إلى
قومها (قالُوا يا مَرْيَمُ
لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أتيت بمنكر عظيم لأنك جئت بولد من غير زوج يكون أبا له ...
(يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا من تنسب إلى هذا النسب الشريف ، وقد نقل أن هارون
كان أخاها من أبيها ، وأنه كان قد اشتهر بالزّهد والصلاح وحسن السيرة وكثرة
العبادة في عصره. (ما كانَ أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ) أي ما كان يفعل السيّئات والمنكرات (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) زانية تبغي الرجال.
٢٩ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ...) فأومأت إلى عيسى (ع) بأن كلّموه واسألوه عن أمري (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ
فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي كيف نخاطب طفلا رضيعا في الحجر.
٣٠ ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ
الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) : قدّم إقراره بالعبودية أولا ليبطل قول من يدّعي له
الرّبوبية. والمعنى : إني عبد الله سيؤتيني الكتاب وسيجعلني نبيا. وقيل المراد
بالكتاب الإنجيل. وقيل التوراة وأنه سبحانه علّمه إياها.
٣١ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ
...) أي خلقني الله تعالى نفّاعا للناس معلّما للخير في أيّ
مكان أكون (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ) أمرني بها (وَالزَّكاةِ) أؤدّيها. (ما دُمْتُ حَيًّا) أي ما بقيت على وجه الأرض.
٣٢ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي ، وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) : أي جعلني بارّا بها حسن المعاملة لها ولم يجعلني متجبرا
متكبرا ولا من الأشقياء.
٣٣ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ...) إلخ وقد مرّ تفسيرها. في الآية (١٥) من هذه السورة.
٣٤ ـ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ
الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) : أي ذاك الذي قال إني عبد الله هو عيسى (ع) نقول فيه قول
الحق الذي يشكك فيه اليهود والنصارى ويتخاصمون.
٣٥ و ٣٦ ـ (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
وَلَدٍ سُبْحانَهُ ...) أي ما يصلح لله ولا يستقيم أن يتخذ ولدا فهو منزّه عن ذلك
وهو رد على النصارى واليهود معا. (إِذا قَضى) الله (أَمْراً) وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أنه حين يريد أمرا هو قادر على إحداثه وإيجاده على
الوجه الذي أراده بمجرد الأمر بكونه. (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) هذا من قول عيسى (ع) وقد مرّ تفسير مثلها.
٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ ...) أي اختلف اليهود والنصارى في عيسى فمنهم من قال هو الله
ومنهم من قال هو ابن الله وقال بعضهم هو ثالث ثلاثة والمؤمنون قالوا هو عبد الله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هي كلمة وعيد معناها شدة العذاب للذين كفروا بالله في
قولهم بالمسيح (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) أي من حضورهم يوم القيامة الذي يكون عظيما عليهم بأهواله.
٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ
يَأْتُونَنا ...) هاتان الكلمتان للتعجب والمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم
القيامة وإن كانوا في الدنيا صمّا وبكما عن الحق. (لكِنِ الظَّالِمُونَ
الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ، يوم القيامة سوف يرون
أنهم في ضلال واضح عن الحق.
٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ
قُضِيَ الْأَمْرُ ...) يعني : حذّرهم يا محمد من يوم يتحسّر فيه المسيء على
إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانه إذ فرغ من الأمر وأدخل قوم الجنة وقوم النار
ووجد كل إنسان جزاء عمله. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا ولا يصدّقون به.
٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها ...) أي نفني سكانها فنرثها ومن عليها من العقلاء إذ بعد
افنائنا لهم لا يبقى فيها مالك غيرنا (وَإِلَيْنا) إلى الله (يُرْجَعُونَ) يردّون يوم القيامة عند النفخة الثانية في الصور.
٤١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ
إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) : أي بعد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى عليهمالسلام اذكر يا محمد لهؤلاء القوم حال إبراهيم (ع) الذي كان صادقا
مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله وكان عليا رفيع الشأن برسالة الله سبحانه.
٤٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ...) أي اذكر حين قال لأبيه : كيف تعبد شيئا لا يسمعك إذا دعوت
، ولا يراك إذا وقفت بين يديه (وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً) أي لا يكفيك لا في دفع ضرّ ولا في جلب نفع.
٤٣ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ...) أي قد آتاني الله من المعرفة به ما لم يجئك (فَاتَّبِعْنِي) كن على طريقتي (أَهْدِكَ صِراطاً
سَوِيًّا) أرشدك إلى طريق قويم لا عوج فيه.
٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ...) كرّر مخاطبته بلطف عجيب أي انته عن عبادة الشيطان بإطاعته
في وسوسته (إِنَّ الشَّيْطانَ
كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) كثير العصيان.
٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ
عَذابٌ ...) أي إني أخشى عليك من أن يصيبك عذاب مؤلم (مِنَ الرَّحْمنِ) الربّ الرؤوف بالناس (فَتَكُونَ
لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا للشيطان موكولا إليه ولن يغني عنك من العذاب من شيء.
٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا
إِبْراهِيمُ ...) أي قال آزر لإبراهيم بعد دعوته له إلى الإيمان ، أمعرض أنت
عن عبادة آلهتي وهي الأصنام. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لم تدع هذا الأمر (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنّك رجما بالحجارة حتى تموت (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي فارقني زمنا طويلا.
٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِّي ...) أي لن يصيبك منّي مكروه ثم استعطفه ووعده بالدّعاء له
بالمغفرة ، لعلّ الله سبحانه يوفّقه للإيمان وللتوبة والرجوع عن الكفر وقال له (إِنَّهُ) أي الله (كانَ بِي حَفِيًّا) أي مبالغا في البرّ بي والعطف والرحمة.
٤٨ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ...) وإنّي منصرف ومبتعد عنكم وعمّا أنتم فيه من عبادة غير الله
من الأصنام ، (وَأَدْعُوا رَبِّي) فأعبده وأطلب منه وحده حاجاتي (عَسى) أي آمل (أَلَّا أَكُونَ
بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) سوف لا أكون خائبا بدعائه كما خبتم بدعائكم الأصنام.
٤٩ ـ (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي حين تنحّى عنهم وعن أصنامهم ، وفارقهم من أرض بابل إلى
بلاد الشام وتزوّج فيها بسارة (وَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) رزقناه الولدين هذين (وَكُلًّا) منهما (جَعَلْنا نَبِيًّا) رسولا من الله لقومه في زمانه.
٥٠ ـ (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ...) أي أعطيناهم ثلاثتهم سوى الأولاد البررة ، نعم الدّين
والدّنيا (وَجَعَلْنا لَهُمْ
لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي جعلنا لهم ثناء جميلا حسنا ، وروي أن المقصود بقوله
تعالى : (مِنْ رَحْمَتِنا) هو محمد (ص) الذي هو من نسل إسماعيل. والمقصود بقوله تعالى
: (عَلِيًّا) أمير المؤمنين (ع).
٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ
كانَ مُخْلَصاً ...) بعد الكلام عن عطاياه الجليلة لإبراهيم وبنيه (عليهمالسلام)
شرع بقصة موسى بإيجاز أي : يا محمد بيّن لقومك خبر موسى (ع) الذي أخلصه الله
سبحانه من كل سوء واختص جميع أحواله بنفسه تعالى. وقيل : مخلصا : موحدا أخلص
عبادته من الشرك. (وَكانَ رَسُولاً
نَبِيًّا) أرسله الله عزوجل إلى فرعون وقومه وكان رفيع الشأن.
٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ ...) أي من ناحية جبل هناك معروف بالطّور وكان حين مناداة الله
له على يمينه. (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي جعلناه قريبا منّا تقريب كرامة وتشريف ومناجيا كليما.
٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ
هارُونَ نَبِيًّا) : أي منحناه بأن رحمناه وجعلنا أخاه هارون نبيّا يؤازره
ويشدّ عضده إجابة لدعوته.
٥٤ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ ...) أي اذكر يا محمد لقومك خبر إسماعيل في القرآن. (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) بحيث إذا وعد بشيء وفي به ولم يخلف أبدا حتى صار مشهورا
بذلك (وَكانَ رَسُولاً
نَبِيًّا) مر تفسيره.
٥٥ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ
وَالزَّكاةِ ...) إن كان المراد بالصلاة والزكاة المفروضتين ، فالمراد
بالأهل هنا هو الأمّة والقوم ، وإن حمل على الصلاة والزكاة المندوبتين ، فالمراد
هم أهله خاصّة. (وَكانَ عِنْدَ
رَبِّهِ مَرْضِيًّا) في جميع أقواله وأفعاله لأنها كانت كلها طاعات ليس فيها
قبائح.
٥٦ و ٥٧ و ٥٨ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ
إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ...) مر تفسير مثله. وإدريس هو جد أبي نوح (ع) ودعي بإدريس
لكثرة دراسته. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) أي مكانا عاليا وقيل إنه رفع إلى السماء الرابعة أو
السادسة. (أُولئِكَ) من تقدم ذكرهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ) إلخ بالنبوة والثواب العظيم وبسائر النعم الدينية
والدنيوية. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا
وَاجْتَبَيْنا) أي اخترنا. (إِذا تُتْلى) إن تقرأ (عَلَيْهِمْ آياتُ
الرَّحْمنِ) أي آياته المنزلة التي تتضمّن الوعد والوعيد (خَرُّوا سُجَّداً) انكبّوا على الأرض ساجدين خضوعا وخشية (وَبُكِيًّا) جمع باك ، أي حال كونهما باكين.
٥٩ و ٦٠ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ...) أي فعقبهم من بعدهم عقب سوء. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بتركها أو تأخيرها عن وقتها (وَاتَّبَعُوا
الشَّهَواتِ) فعلوا ما حرّم عليهم ممّا تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سينالون الشر وجزاء الضلال ، يوم القيامة ، (إِلَّا مَنْ تابَ) ندم على ما سلف (وَآمَنَ) في مستقبل عمره (وَعَمِلَ صالِحاً) فقام بالواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا ينقصون من حقّهم شيئا.
٦١ و ٦٢ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ
الرَّحْمنُ عِبادَهُ ...) فالتائبون يدخلون جنات عدن التي وعد الله تعالى بها عباده
المؤمنين (بِالْغَيْبِ) أي بوعد وأمر هو غائب عنهم غير مشاهد من قبلهم ، (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي أمرا واقعا آتيا لا محالة. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنان (لَغْواً) فضول كلام. (إِلَّا سَلاماً) تسليما وتحيات من الملائكة عليهم ، ومن بعضهم على بعض ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) يكون موفورا حاضرا بلا تعب ولا جهد (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في أوقات الحاجة إليه والمواعيد المرغوب فيها.
٦٣ ـ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي هذه الجنّة الّتي وعدنا بها المؤمنين والعاملين
المنيبين إلينا ، هي التي نورثها للأتقياء من عبادنا ، أي للذين تجنّبوا غضبنا
وعملوا بأوامرنا.
٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ ...) هذه الآية الكريمة حكاية قول جبرائيل (ع) في جواب النبيّ (ص)
عند ما أبطأ عليه الوحي مرة فسأله : ما منعك أن تزورنا؟ فأجاب : وما نتنزّل إلّا
بأمر ربّك (لَهُ ما بَيْنَ
أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي أن له مستقبل أمرنا ، وما مضى منه ، وحاضره ، وجميع ذلك
بيده تعالى ، (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) أي أن عدم أمر ربّك لي بالنزول ما كان ناشئا عن نسيانه لك
إذ هو ممتنع في حقه تعالى.
٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما ...) أي فالذي نعتناه لك بأنه لا ينسى هو ربّ هذه الكائنات كلها
بما فيها وما بينها. (فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) فقم بما أوجب عليك من العبودية له بصبر ورضى ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثلا وشبيها. وقيل : هل تعلم أحدا يستحق أن يسمّى إليها
غيره.
٦٦ و ٦٧ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ
لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ...) نزلت هذه الآية عند ما قال أبيّ بن خلف أو غيره من
المشركين بعد أن أخذ عظاما بالية ففتّها بيده : أيزعم محمد أننا نبعث بعد ما نموت؟
(أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) أفلا يتفكّر بأننا
أوجدناه أولا من العدم المحض؟ أولا يقدر الخالق من العدم ، أن يعيد ما كان أوجده
وأحياه ، ثم أماته وأفناه؟
٦٨ و ٦٩ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّياطِينَ ...) وحقّ إلهك يا محمد ، لنجمعنّهم يوم القيامة مع قرنائهم من
الشياطين (ثُمَّ
لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي لنأتينّ بهم ولنجعلنّهم جاثين على ركبهم حول نار جهنم ،
(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لنأخذنّ عنوة من كل فرقة ممن اتّبعوا مبدأ مّا ، الضالّين
المضلّين فنجعلهم في جهنم ونحن نعلم (أَيُّهُمْ أَشَدُّ
عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) نعرف من كان منهم عصيا معاندا للرّحمان.
٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ
هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) : ونحن أيضا أعرف بالمستحقّين منهم للإحراق بالنار.
٧١ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ...) أي وما منكم أحد إلّا وارد جهنم والورود على الشيء هو
الوصول إليه والإشراف عليه لا الدخول فيه. (كانَ عَلى رَبِّكَ
حَتْماً مَقْضِيًّا) أي أوجبه الله على نفسه وصار أمرا محتوما.
٧٢ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ...) فسنخلّص المتّقين للشرك والذين صدّقوا من عذاب جهنم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) وندع الكفار والمشركين (فِيها جِثِيًّا) أي في جهنم مكبكبين جماعات باركين على ركبهم.
٧٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي إذا تقرأ على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات
الإعجاز والدلالة (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) خاطبوهم مستهزئين قائلين : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين بها والجاحدين لها (خَيْرٌ مَقاماً) خير منزلا ومكانا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أعلى وأجمل مجلسا.
٧٤ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ...) أي كثيرا ما أهلكنا قبلهم (مِنْ قَرْنٍ هُمْ
أَحْسَنُ أَثاثاً) جيل وأمّة أحسن منهم متاعا وفرشا (وَرِءْياً) منظرا.
٧٥ و ٧٦ ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ...) أي قل يا محمد : من رضي بأن يكون ضالّا كافرا بالإسلام
فليمدد له الله بطول العمر والتمتّع بالعيش استدراجا له إلى أن يجيء أجله ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين (إِمَّا الْعَذابَ) بقتلهم أو أسرهم بأيدي المسلمين في دار الدّنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي تأتيهم بيوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) يعرفون عند كلا الحالين (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الحياة أو بعد الممات (وَأَضْعَفُ جُنْداً) وأقلّ ناصرا ومعينا. (وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) على يديه (ص) (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) أي الأعمال الحسنة التي تبقى عائدتها إلى القيامة (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أجرا (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي مرجعا ونفعا عائدا منها وهي خير لأن ما عداها من النعم
يفنى ويزول.
٧٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا
...) هذا إخبار بقصة الكافر العاص بن وائل حين طالبه الخبّاب بن
الأرتّ بدين كان له عليه و (قالَ) أي العاص. ألستم تزعمون البعث بعد الموت؟ قال : نعم. فقال
مستهزئا : أحلف بإلهك أنني يوم القيامة (لَأُوتَيَنَ) لأعطينّ (مالاً وَوَلَداً) فأعطيك هناك بأزيد ممّا تطلبني هنا إذا بعثنا.
٧٨ و ٧٩ ـ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : ومعناه : أعلم الغيب حتى يعرف أنه لو بعث رزق مالا وولدا
، أم هل بيده عهدا من الله تعالى بذلك؟ (كَلَّا) هذه كلمة ردع وتنبيه إلى أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه ، (سَنَكْتُبُ) نسجّل عليه (ما يَقُولُ) من الخطل (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
الْعَذابِ مَدًّا) ونطيل زمن عذابه فنخلّده فيه تخليدا.
٨٠ ـ (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) : أي أننا نرث قوله من بعد أن نهلكه ، (وَيَأْتِينا) يجيء إلينا يوم القيامة (فَرْداً) وحده لا يصحبه مال ولا ولد ولا ناصر.
٨١ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً
لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) : أي جعل هؤلاء الكافرون لأنفسهم أربابا من دون الله تعالى
وادّعوا أن هذه الأرباب تقرّبهم من الله زلفى ، وهي تعزّهم وتكرّمهم بين يديه
سبحانه.
٨٢ ـ (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) : لا ، فإنهم يوم القيامة سينكرون أنهم كانوا يعبدون تلك
الأصنام وتكون هي ضدّهم لأنها تتبرّأ من شركهم بالله.
٨٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا
الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ ...) أي : ألا ترى يا محمد كيف بعثنا الشياطين وخلّينا بينها
وبين الكافرين فوسوست إليهم ودعتهم إلى الضلال وهي (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تحثّهم على المعاصي بالتسويلات والإغراءات؟
٨٤ ـ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما
نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) : لا تستعجل يا محمد بهلاكهم لتستريح من شرورهم ، فإنهم لم
يبق لهم إلّا أنفاس معدودة ونحن نحصيها عليهم إحصاء ونأخذهم بأعمالهم الشريرة
المعدودة عليهم أيضا.
٨٥ و ٨٦ ـ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ
...) يعني يوم القيامة حين يجمع الله المؤمنين به في دار كرامته
ومحلّ قدسه. (وَفْداً) أي جماعة وافدين واردين. (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ) نحثّهم على السير إليها كما تساق البهائم وندفعهم إلى
النار دفعا ويأتونها (وِرْداً) واردين إليها عطاشا كالإبل التي ترد الماء.
٨٧ ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ
اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : أي : يومئذ لا تكون الشفاعة ملك أحد إلّا من وعده
الرّحمان بذلك وعهد إليه أن يأذن بشفاعته ، كالأنبياء والأوصياء.
٨٨ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : هذه حكاية قول اليهود والنصارى ومشركي العرب أيضا.
٨٩ و ٩٠ و ٩١ و ٩٢
ـ (لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا ...) أي أنكم أيها المدّعون لله ولدا قد أتيتم بشيء منكر شنيع ،
(تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي لو تشقّقت السّماوات لشيء عظيم لكانت تشققت لهذه الفرية
(وَتَنْشَقُ) تتفطّر أيضا (الْأَرْضُ) منها (وَتَخِرُّ الْجِبالُ
هَدًّا) تنهدم وتتساقط في السفوح وينقلب أعلاها على أسفلها. (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) حيث جعلوه كائنا ذا أولاد. (وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ولا يليق بحضرته وقدسه وتعاليه عن الشبيه والمثل ، أن يكون
له ولد لا بكيفيّة التجانس ، ولا بالتبنّي ، لأنه إمّا أنه مستلزم للمحال أو
للتجسيم الذي هو محال أيضا.
٩٣ و ٩٤ و ٩٥ ـ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ...) فإنّ كل كائن عاقل في السّماوات أو في الأرض هو عبد داخر
لله عزوجل ، ويأتي يوم القيامة خاضعا لربوبيّته مذعنا لحكمه (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) حسبهم وعرف عددهم بأشخاصهم وأفعالهم وأقوالهم بل وأنفاسهم
وأعيانهم واحدا واحدا. (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي كل واحد منهم يجيئه يوم القيامة بمفرده لا مال له ولا
ولد ولا عشيرة ولا ينفعه إلا عمله.
٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) مر معناه (سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ) يحدث لهم ربّهم (وُدًّا) محبة في القلوب ، قلوب بعضهم البعض مضافا إلى مودّته لهم
المترجمة بالرحمة.
٩٧ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ
لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ...) أي : إنّما سهّلنا عليك هذا القرآن بأن جعلناه بلغتك ولغة
قومك لتسهل عليهم معرفة ما فيه فتتمّ الحجة عليهم ، فتفرح المؤمنين بتبشيرهم بما
وعدهم الله تعالى من الأجر والثواب (وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا) ولتحذّر الأعداء الشديدي العداء لك ولدعوتك.
٩٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ ...) مرّ تفسير مثلها. (هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بوجود أحد منهم (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزاً) أي صوتا خفيفا ونأمة؟.
سورة طه
مكية ، عدد آياتها ١٣٥ آية
١ ـ (طه) : قد سبق تأويل الحروف المقطّعة في أوائل السور.
٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقى) : أي لم نوح به إليك لأجل أن تتعب نفسك وتجعلها في العسر.
٣ ـ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) : أي لكننا أنزلنا القرآن عليك للوعظ لمن يتّعظ ، ويخشى
الله.
٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّماواتِ الْعُلى) : أي : أنزلناه عليك لهذه الغاية تنزيلا من خالق السماوات
الرفيعة وخالق الأرض ومنشئ الكائنات.
٥ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : أي : هو الرّحمان ، خالق ذلك ، وهو الذي استولى على
العرش وعلى جميع الممكنات من الذرّة وما دونها ، والدّرة وما فوقها.
٦ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ...) له كل ذلك (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثّرى : هو التراب النديّ ، فلله سبحانه وتعالى ملك
السّماوات والأرضين ، وما فيهن وما بينهن وما وارى الثرى من معادن وكنوز وما أشبه
ذلك.
٧ ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) : والمعنى أنك إن رفعت صوتك بذكر الله ، أو إذا أخفتّه
وذكرت بما دون الجهر فإنه تعالى يعلم ويسمع السرّ ويعلم ما هو أخفى من السرّ كالذي
توسوس به النفس من حديثها الخفيّ.
٨ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : ذاك هو الله لا معبود يستحق العبادة غيره وله الأسماء
الدالة على توحيده وأنعامه وعلى المعاني الحسنة فبأيها دعوته جاز.
٩ و ١٠ ـ (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ
رَأى ناراً ...) أي هل بلغك يا محمد قصة رسولنا موسى بن عمران حينما خرج من
مدين متجها إلى مصر وضلّ الطريق فرأى نارا مضيئة من بعيد (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن عمران حينما خرج من مدين متجها إلى مصر وضلّ
الطريق فرأى نارا مضيئة من بعيد (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن معها (امْكُثُوا) أقيموا مكانكم (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا (لَعَلِّي) متمنيا أن (آتِيكُمْ مِنْها
بِقَبَسٍ) أي بشعلة من النار تتدفّؤون بها (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أو لعلي أصادف هناك هاديا يدلني على الطريق.
١١ و ١٢ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى :
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ...) فلما وصل إلى المكان الذي ظنّ فيه نارا دعي باسمه : يا
موسى ، إني أنا ربّك وخالقك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي انزع نعليك ، وامش حافيا ، (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي في الوادي المطهّر المبارك المسمّى بطوى ، وقيل طوى :
أي المبارك مرتين.
١٣ ـ (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما
يُوحى) : أي قد انتجبتك للنبوّة والرسالة ، فأصغ بكل وعيك لما
ينزل عليك من كلامي.
١٤ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا
أَنَا ...) إنّني أنا الله ، وهذا فيض من نوري ، لا إله غيري ولا
معبود سواي (فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فاجعل عبادتك خالصة لي ، وصلّ واذكرني في صلاتك وعبادتك
وحدي.
١٥ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ
أُخْفِيها ...) أي إن القيامة متيقّنة الوقوع لا محالة ، وأنا أريد
إخفاءها عن عبادي لئلا تأتيهم إلا بغتة وذلك رحمة بهم ولتخويفهم فيحذروا منها
ويهيئوا أنفسهم لها. (لِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي لتثاب أو تعاقب بحسب عملها.
١٦ ـ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا
يُؤْمِنُ بِها ...) أي لا يمنعنّك عن الإيمان بما ذكرنا لك من التوحيد ،
والعبودية ، وإقامة الصلاة ، والتصديق بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ
بِها) الذي يكفر بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) سار مع هوى نفسه في طريق الضلال (فَتَرْدى) فتهلك.
١٧ ـ (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ ...) سأله عما في يده اليمنى من العصا تنبيها له إليها ليثبت
فيها تمهيدا لحصول المعجزة.
١٨ ـ (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها
...) المراد من ذلك السؤال وهذا الجواب بهذه الأمور الواضحة
إضافة إلى ما تقدم إطالة الحديث مع الحبيب بعبارات وألفاظ مختارة غاية الاختيار.
فهل العصا لأكثر من الاعتماد عليها عند التعب؟ ... (وَأَهُشُّ بِها عَلى
غَنَمِي) أي أضرب بها الأشجار لتتناثر أوراقها على الأغنام فترعاها؟
(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ
أُخْرى) أي قضاء حاجات مختلفة من صدّ العدوّ والوحش الضاري
والتهويل في كل مناسبة؟.
١٩ و ٢٠ ـ (قالَ أَلْقِها يا مُوسى ...) أي قال الله تعالى له : ارمها من يدك واطرحها على الأرض (فَأَلْقاها) موسى : رماها (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعى) أفعى مدهشة تنسرب على الأرض.
٢١ ـ (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ...) قال الله تعالى لموسى : خذها ولا تأخذك الرهبة منها (سَنُعِيدُها) نرجعها (سِيرَتَهَا الْأُولى) حالتها التي كانت عليها من الهيئة والخاصيّة.
٢٢ ـ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ...) أي أدخل يدك تحت إبطك ، (تَخْرُجْ) يدك (بَيْضاءَ) مشرقة لها نور قوي يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير مرض أو علة كالبرص. (آيَةً أُخْرى) أي فنزيدك حجة ودلالة ثانية.
٢٣ ـ (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) : أي لتنظر إلى دلائلنا ومعاجزنا العظيمة التي يعجز الخلق
عن الإتيان بما يشبهها.
٢٤ ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) : ثم أمره سبحانه بأن يذهب إلى فرعون ملك مصر المتربّب على
الناس الذي تكبر وتجبّر في كفره.
٢٥ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٨
ـ (قالَ : رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي ...) أي امنن عليّ بسعة الصدر لأصبر على عناد فرعون ومقاومة
كفره. (وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي) سهّل لي أمر تبليغ رسالتك وأعنّي عند الدخول على فرعون
لدعائه إلي أمر تبليغ رسالتك وأعنّي عند الدخول على فرعون لدعائه إلى الإيمان. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) أي أطلق لساني من عقاله واجعله فصيحا بليغا في الأداء. (يَفْقَهُوا قَوْلِي) يتفهّمونه حين أبلّغهم رسالتك ويكون أوقع في نفوسهم إذا
كان واضحا فصيحا.
٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢
ـ (وَاجْعَلْ لِي
وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي) : أي صيّر لي أخي هارون وزيرا لي في التكليف يعينني في هذه
المهمة وهو من المؤازرة : أي المساعدة. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قوّ به أمري وشدّ عضدي (وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي) اجعله شريكا لي في أمر الدعوة.
٣٣ و ٣٤ و ٣٥ ـ (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ
كَثِيراً ...) أي : كي نقدّسك وننزهك ونذكر آلاءك ونعماءك علينا (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وأمورنا واحتياجنا في أداء رسالتنا إلى ما
سألتك إياه.
٣٦ ـ (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى
...) أي : قال الله لموسى : قد أجيبت دعوتك وقضيت حاجتك.
٣٧ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً
أُخْرى ...) أي أن نعمتنا جارية عليك قديما وحديثا وقد عدّدها بقوله :
مرة أخرى قبل هذه النعمة التي أوليناك إياها ، وذلك.
٣٨ و ٣٩ ـ (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) يوم ألهمناها ما كان فيه نجاتك حين ولدتك فخلّصناك من
القتل (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ) ضعيه بلا تباطؤ في الصندوق المستطيل المصنوع من سعف النخل
، (فَاقْذِفِيهِ) أي التابوت بمن فيه (فِي الْيَمِ) في البحر. (فَلْيُلْقِهِ
الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي أن موج البحر يقذف ذلك التابوت على الشاطئ فلا يغرق ولا
يصيبه مكروه. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي فرعون حيث كان عدوا لله ورسله وعدوا لموسى خاصة لمعرفته
بأن زوال ملكه إنما يكون على يديه. (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي جعلت في جميع القلوب محبة لك بحيث يحبك كل من يراك حتى
أن امرأة عدوّك آسية ، وعدوّك فرعون ، قد أحبّاك وتبنّياك وربّياك في حجرهما (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربّى وأنا راعيك وحافظك.
٤٠ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ...) وذلك حين كانت شقيقتك تستقصي أخبارك فرأتهم يطلبون لك
مرضعة فتقول لهم : هل أرشدكم إلى مرضعه وأهل بيت يهتمّون به ويتعهدون راحته وحفظه؟
بعد أن رفض ثدي أية مرضعة غيرها (فَرَجَعْناكَ إِلى
أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) فرددناك سالما محفوظا إلى أمّك إقرارا لعينها وإثلاجا
لصدرها ، ولئلا تحزن لفراقك (وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهو القبطيّ الكافر (فَنَجَّيْناكَ مِنَ
الْغَمِ) خلّصناك من القتل وغمّه وامنّاك من الخوف (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك اختبارات متعددة وأوقعناك في الفتن حتى خلصت
للاصطفاء بالرسالة. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي بقيت عشر سنين في بلدة مدين راعيا لشعيب (ثُمَّ جِئْتَ) حضرت الآن (عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي في زمان مقدّر أن تتلقى فيه الوحي وتكون نبيا.
٤١ و ٤٢ ـ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ، اذْهَبْ
أَنْتَ وَأَخُوكَ ...) أي اخترتك لرسالتي ووحيي فامض للأمر أنت وأخوك هارون (بِآياتِي) معجزاتي التّسع (وَلا تَنِيا) أي لا تفترا وتضعفا (فِي ذِكْرِي) تبليغ رسالتي والدعوة إليّ.
٤٣ و ٤٤ ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ ...) تقدم هذا الأمر الإلهي وكان هناك خاصا بموسى وهنا أشرك فيه
هارون. (إِنَّهُ طَغى) تكبّر وتجبّر (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) أي ارفقا به في الدعوة ولا تغلظا له. وقيل : قولا لا يحبّه
ولا يكرهه ، بحيث يظنّ أنه يؤثّر فيه ، (لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) المراد بيان الغرض من بعثتهما وهو أن يتذكر فرعون ما أغفل
عنه من ربوبية الله وعبودية نفسه ويخشى العقاب والوعيد. وقيل : بأن التعبير بلعل
هنا المقصود فيه : ادعواه على الرجاء والطمع لا على اليأس من فلاحه فالرسل إنما
يبعثون وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم.
٤٥ ـ (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا ...) أي نخشى أن يعجل علينا فيأخذنا ويعاقبنا فلا نقدر على
إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. (أَوْ أَنْ يَطْغى) يتكبّر ويتجبّر.
٤٦ ـ (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) : لا ينبغي أن تخافا فرعون ، وأنا معكما أتولّى حفظكما من
بطشه اسمع ما تقولان وما يقول فألهمكما الجواب السديد وأرى ما يحدث بينكما وبينه.
فلن يصل كيده إليكما.
٤٧ ـ (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ ...) فاذهبا إليه ، وقولا له : إننا مرسلان من قبل خالقك (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) دعهم من أسرهم واتركهم لنا لنرحل بهم عن بلادك (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأعمال الشاقة وقتل الرجال واستعباد النساء ، (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) أتيناك بمعجزة دالّة على صدق رسالتنا هي (مِنْ رَبِّكَ) إذ لا يستطيع البشر أن يصنع مثلها ، (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي أن من آمن سلم من عذاب الله.
٤٨ ـ (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ
الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) : أي فقولا لفرعون إن ربّنا قد أوحى إلينا أن نقول لك : إن
من رفض دعوة ربّه بتكذيب رسله فإن العذاب الأليم يقع عليه من الله انتقاما لدينه.
٤٩ ـ (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟) : أي قال فرعون في مقام الجواب من ربك ورب أخيك يا موسى؟
وخصّ موسى (ع) وحده بالنداء لأنه هو الذي دعاه ، وهارون (ع) إنما هو وزيره وتابعه.
٥٠ ـ (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) : قال موسى : ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته التي قدّرها
له ثم هداه إلى مأكله ومشربه ومنكحه وغير ذلك. بل يشمل جواب موسى كل مخلوقات الكون
من الحيوان والنبات والجماد.
٥١ ـ (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟) : أي قال فرعون : ما حال الأمم السابقة من حيث العبادة ،
إذ عبدت غير ما تدعوان إليه.
٥٢ ـ (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ
...) أجاب موسى (ع) أمرهم وعلمهم عند ربّي ، وقد سجّل عليهم كلّ
ما عملوه في اللوح المحفوظ إذ (لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى) فالأشياء المثبتة في ذلك الكتاب كلّها نصب عين ربّي وهي لا
تذهب عن علمه ولا ينساها بل سوف يجازيهم.
٥٣ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً ...) أي فراشا ممهدا لإقامتكم (وَسَلَكَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً) جعل لكم فيها طرقا (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) أي المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ
أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فكان من أثر الماء أن خرج نبات الأرض بقدرة الله على
اختلاف أشكاله وألوانه وأنواعه ، لأنه جعل من الماء كل شيء حيّ. وشتّى جمع شتيت ،
كمرضى جمع مريض.
٥٤ ـ (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ...) أي كلوا مما أنبت لكم من الأرض وارعوا مواشيكم منه. وفي
هذه الآية الكريمة إشارة إلى أقسام النباتات ، فمنها ما يصلح لطعام الإنسان ، ومنها
ما يصلح لغيره من الحيوانات ، وقد خاطب الإنسان أولا باعتبار أن كل ما في الأرض
مسخّر له من نبات وجماد وحيوان. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : إن فيها ذكر لكم لعبرا وأدلة لذوي العقول. والنّهى :
جمع نهية ، سمّي بها العقل لنهيه عن القبيح ، وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال : قال
النبي (ص): إن خياركم أولو النهي ، قيل : يا رسول الله : ومن أولو النهى؟ قال :
أولو الأخلاق الحسنة والأحلام الرزينة ، وصلة الأرحام ، والبر بالأمهات والآباء ،
والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ويطعمون الطعام ، ويفشون السلام في العالم
، ويصلّون والناس نيام.
٥٥ ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) : أي من التراب أنشأناكم ، وفي ذلك التراب نعيدكم عند
الموت فتدفنون في الأرض وتنحلّ أجسادكم إلى تراب ومن ذلك التراب نخرجكم تارة أخرى
، فنحشركم للحساب بتأليف أجزائكم الترابية وردّ الأرواح إليها لتعدوا أحياء كما
كنتم.
٥٦ ـ (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها
فَكَذَّبَ وَأَبى) : أي عرّفنا فرعون معاجزنا التّسع التي بعثنا بها موسى
لتكون دالّة على نبوّته وصدق رسالته ، فكذّب بها عنادا واستكبارا وامتنع عن
قبولها.
٥٧ ـ (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ
أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟) : أي قال فرعون : إنك لساحر ، وهل جئتنا بهذا السحر
لتخرجنا من مصر.
٥٨ ـ (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ...) أكّد بأنه سيجيئه بسحر مثل سحره (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ
مَوْعِداً) فاضرب موعدا معيّنا يكون بيننا وبينك ، نحن وأنت أثناءه (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) فلا يتأخّر أحدنا عنه (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) واختر له (مَكاناً سُوىً) معيّنا مستويا مسافة وبعدا فيما بيننا وبينك.
٥٩ ـ (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ...) أي قال موسى : الموعد بيننا يوم العيد الذي جعلتموه لكم في
كلّ عام تتزينون فيه وتزينون أسواقكم (وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ ضُحًى) أي أنهم يجتمعون بعد شروق الشمس من ذلك اليوم فينظرون في
أمري وأمرك.
٦٠ ـ (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ
كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) : أي فارق موسى من المجلس على هذا الموعد فجمع السحرة من
أطراف مملكته ثم جاء معهم في الموعد المضروب.
٦١ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا
تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي قال موسى ذلك القول للسحرة الذين أحضرهم فرعون الويل
والعذاب لكم ، لا تكذبوا على الله فتنسبوا معجزاتي إلى السحر وسحركم إلى الحق. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) فيهلككم بعذاب (وَقَدْ خابَ) خسر (مَنِ افْتَرى) فنسب الباطل إلى الله.
٦٢ ـ (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوى) : أي فتشاوروا فيما سمعوه من حديث موسى وفرعون وفيما
توعدهم به موسى من عذاب الله فيما لو كذبوا عليه وأخفوا تشاورهم عن فرعون وغيره.
٦٣ ـ (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ...) إلخ. أي : ثم قال فرعون وجنوده للسحرة إن موسى وهارون ليسا
سوى ساحرين يريدان أن يكيدا بكم ليخرجاكم من مصر. (وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي بدينكم وما أنتم عليه من نظام الأشراف والعبيد واستخدام
بني إسرائيل. وقيل بأن الذين قالوا ذلك هم السحرة.
٦٤ ـ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا
صَفًّا ...) أي هيّئوا مكركم للقاء موسى وهارون ثم تقدّموا مصطفّين
منظّمين (وَقَدْ أَفْلَحَ
الْيَوْمَ) فاز اليوم (مَنِ اسْتَعْلى) من كان فعله غالبا متفوّقا.
٦٥ ـ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
...) إلخ. أي خيّروه بين أن يبتدءوا هم بعرض ما هيئوه أو يبتدئ
هو.
٦٦ ـ (قالَ بَلْ أَلْقُوا ...) أي أمرهم بإلقاء ما معهم على مشهد من الناس ليكون معجزه
أظهر عند ما تبتلع عصاه ما افكوا فألقوا (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ) ما كانوا قد أعدّوه من حبال وعصيّ ، كان (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) شبّهت لموسى من شدّة ما كان عندهم من البراعة في السّحر (أَنَّها تَسْعى) تتحرّك وتعدو على الأرض كالأفاعي الهائجة لأنهم جعلوا
داخلها الزئبق فتمدد بحرارة الشمس فحرك الحبال والعصيّ تلك. وقيل بأن الذي خيل
إليه ذلك هو فرعون.
٦٧ ـ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) : أي وجد في قلبه خوفا من أن يلتبس الأمر على الناس
فيتوهموا المساواة بين فعله وفعلهم فلا يتبعونه.
٦٨ ـ (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْأَعْلى) : أي ألهمناه أن لا يخاف عدم التصديق بآياته لأنه هو
المتفوّق عليهم بالنهاية.
٦٩ ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما
صَنَعُوا ...) أي : ارم العصا التي في يمينك يا موسى تبتلع ما صنعوا من
السّحر والتخييل بقدرة الله تعالى. وقيل : لمّا ألقى موسى عصاه صارت حيّة طافت حول
الصفوف حتى رآها الناس كلهم ثم قصدت الحبال والعصي فابتلعتها جميعها على كثرتها مع
أن السحرة كانوا أربعمائة نفر وكان مع كل واحد مائة عصا وحبل ، وفي بعض التفاسير
أنهم كانوا ثلاثين ألفا ، وقيل : سبعين ، لأن السحر كان منتشرا في ذلك العصر. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي مكر واحتيال (وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي لا ينجح ولا يفوز على من خاصمه في سحره بالحق أين كان
وحيث أقبل.
٧٠ ـ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ...) أي فخرّ السّحرة ساجدين تعظيما لما رأوه (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) وأعلنوا تصديقهم بوجود الله الذي يدعو إليه موسى وهارون.
وإنما فعلوا ذلك لأنهم قد تحققوا وأذعنوا بأن ما أتى به موسى (ع) إن هو إلا أمر
سماوي وأنه فوق القوانين المألوفة بل خارق للنواميس الطبيعية وليس من السحر الذي
كانوا يعملونه ويعلمونه في شيء.
٧١ ـ (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ ...) أي قال فرعون مستنكرا فعلهم : صدّقتم موسى قبل أن يطلب
إعلانكم بتصديقه وقيل : يرجع الضمير في آذن إلى فرعون ، أي آمنتم بموسى قبل إذني (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) أي أستاذكم وأنتم تلاميذه (الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ) فأتقنتموه (فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي لأقطعنّ من كل واحد منكم يده اليمنى مع رجله اليسرى أو
العكس (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي على جذوع النخل (وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) وسترون من منّا القوي على تعذيب الآخر والقدرة عليه ومن
الأدوم أنا أو رب موسى الذي آمنتم به.
٧٢ و ٧٣ ـ (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا
مِنَ الْبَيِّناتِ ...) أي لن نقدّمك على ما تحقق لدينا من المعجزات الواضحات التي
جاء بها موسى ، (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي ولن نؤثرك على الذي فطرنا. وقيل : أي وحتى الذي فطرنا. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاحكم بالحكم الذي تشاؤه لنا (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ
الدُّنْيا) فحكمك ماض في هذه الدّنيا الزائلة (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ
لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) صدّقنا بربّنا القاهر ليتجاوز عن ذنوبنا الماضية من الكفر
والمعاصي ، وعن حملك إيّانا على تعاطي السحر للوقوف بوجه آيات الله تعالى
وإبطالها. (وَاللهُ خَيْرٌ
وَأَبْقى) أي خير ثوابا للمطيع ، وأبقى عقابا للعاصي.
٧٤ و ٧٥ و ٧٦ ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً
فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ...) أي أن من يموت على كفره وآثامه دون توبة منها ، فإن نار
جهنّم معدّة له بعذابها الأبديّ (لا يَمُوتُ فِيها) فيخلص من العذاب (وَلا يَحْيى) حياة هانئة بل كلها عقاب. (وَمَنْ يَأْتِهِ
مُؤْمِناً) من يجئه مصدقا به وبرسله (قَدْ عَمِلَ
الصَّالِحاتِ) قام بالطاعات (فَأُولئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجاتُ الْعُلى) لهم عند ربّهم أسمى الدرجات وأعلاها في الخلد (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) مرّ تفسيرها مكرّرا ، (خالِدِينَ فِيها) إلى أبد الأبد (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ
تَزَكَّى) وهذا هو ثواب من تطهّر من الأدناس في هذه الدار الفانية.
٧٧ و ٧٨ و ٧٩ ـ (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ
أَسْرِ بِعِبادِي ...) أي بعد ما رأى فرعون وقومه جميع الآيات التي جاء بها موسى
وظلّوا مصرين على عنادهم وكفرهم أوحينا إلى موسى أن اخرج من مصر ليلا مع المؤمنين
برسالتك من عبادي (فَاضْرِبْ لَهُمْ
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي : اضرب بعصاك البحر فإنه ينفلق إلى قسمين وتظهر اليابسة
تحت الماء فيمشي الناس بين فلقتي البحر بإذن الله ، (لا تَخافُ دَرَكاً
وَلا تَخْشى) أي آمنا من أن يدرككم فرعون ، ومؤمّنا من الغرق. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي لحق بهم فرعون مع جنوده وأصابهم منه ما أصابهم من الغرق
في مائه. (وَ) هكذا (أَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ) أي صرفهم عن الحق (وَما هَدى) وما هداهم إلى طريق النجاة.
٨٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ ...) ثم أخذ سبحانه يبيّن نعمه على بني إسرائيل ويذكّرهم بها
فمن النعم التي ذكرها قوله سبحانه : (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ) خلّصناكم (مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وحزبه (واعَدْناكُمْ جانِبَ
الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي ضربنا معكم بواسطة رسولنا موسى أن ننزل عليه كتابا فيه
تبيان كلّ ما تحتاجون إليه ، وكان الموعد عند الطرف الأيمن من جبل الطور. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوى) يعني في التيه حيث لم يكن لديكم غذاء ولا مؤونة وقد مر
تفسيره في الآية رقم (٥٧) من سورة البقرة.
٨١ ـ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
...) الأمر هنا للإباحة لأنه في مقام رفع الحظر ، (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي فلا تتعدوا فيه فتأكلوه على الوجه المحرّم. أو لا
تتناولوا من الحلال لتستعينوا به على المعصية. (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي) أي يجب عقابي (وَمَنْ يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي : هلك. وقيل : وقع في الهاوية ، وهي واد في نار جهنّم ،
أشد حرارة منها.
٨٢ ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) : أي أني أتجاوز عن ذنوب التائب الذي لا يعود إليها ،
وللمؤمن بي والعامل بأوامري ونواهيّ ، والمهتدي إلى ولاية أهل البيت (ع).
٨٣ ـ (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) : أي : لم تقدّمت عن قومك وجئتنا وحدك مع أن المقرر أن
توافي إلى الموعد معهم؟
٨٤ ـ (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ...) أي هؤلاء قومي آتون من ورائي وسيدركونني قريبا (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي أن مسارعتي كانت مبادرة لامتثال أمرك وأزداد رضى إلى
رضاك.
٨٥ ـ (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِنْ بَعْدِكَ ...) أي قال الله لموسى : إنا قد امتحنّا قومك وشددنا عليهم
التكليف من بعد انطلاقك إلينا (وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُ) أي دعاهم إلى الضلال فأطاعوه.
٨٦ ـ (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ
أَسِفاً ...) أي بعد ما استوفى الأربعين يوما ، وبعد أن نزلت التوراة
عليه ، عاد موسى شديد الغضب متلهفا حزينا لما فعلوه وحين وصل إليهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) ألم يضرب ربّكم موعدا ينزّل فيه التوراة عليكم لتعلموا ما
فيها وتعملوا به؟ (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ) هل طالت إقامتي وأنتم تعلمون مقدارها (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أم قصدتم أن تبوؤا بغضب الله وسخطه فتأخرتم عن متابعتي
واللحاق بي إلى جبل الطور؟
٨٧ ـ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ
بِمَلْكِنا ...) فأجابه الذين لم يعبدوا العجل : ما تأخرنا عنك وعن الموعد
معك باختيارنا (وَلكِنَّا حُمِّلْنا
أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) بل حملنا أثقالا من حليّ القبط التي كنّا استعرناها منهم
يوم عيدنا وبقيت معنا ، أو هي زينة القبط التي قذفها البحر مع القبط فأخذوها (فَقَذَفْناها) ألقيناها في النار بتسويل السامريّ ، (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي وألقى السامريّ شيئا في النار كما ألقينا نحن الزينة
فيها.
٨٨ ـ (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ
خُوارٌ ...) فصنع لهم السامريّ من الزينة الذائبة تمثال عجل له صوت خشن
كان يحصل بسبب دخول الريح فيه من طرف وخروجها من آخر. (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) أي قال السامري ومن تبعه من الأراذل : هذا العجل معبودكم
ومعبود موسى. (فَنَسِيَ) قيل إنه من السامري أي قال لهم السامري : إن هذا إله موسى
نسيه وذهب يلتمسه عند الطور. وقيل : انه قول الله تعالى عن السامري أي : ترك
السامري ما كان عليه من الإيمان الذي بعث الله به موسى إلى عبادة العجل.
٨٩ ـ (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً ...) أي : كيف لا يتدبّرون أن هذا العجل الذي اتّخذوه إلها لا
يستطيع ردّ جوابهم إذا هم سألوه (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يقدر أن يضرّهم أو أن ينفعهم وما كانت هذه صفاته فكيف
يكون إلها.
٩٠ ـ (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ
قَبْلُ ...) أي قبل أن يرجع موسى من الميقات : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي امتحنتم بهذا العجل فاعلموا إلهكم واعبدوه ولا تعبدوا
العجل فقد غشّكم السامريّ ، (وَإِنَّ رَبَّكُمُ
الرَّحْمنُ) وإلهكم الله الذي يرحم العباد ويخلقهم ويرزقهم (فَاتَّبِعُونِي) فيما أدعوكم إليه. (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في عبادة الله ولا تطيعوا أمر السامري في عبادة العجل.
٩١ ـ (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ
عاكِفِينَ ..) أجابوا : لن ننفك عن عبادته (حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنا مُوسى) أي حتى يعود لننظر أيعبده أم لا.
٩٢ و ٩٣ ـ (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ...) إلخ. أي أيّ شيء منعك يا هارون من متابعتي مع من ثبت على
الإيمان وقد رأيتهم انحرفوا عن الدّين إلى عبادة العجل؟ (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟) يعني : هل خالفتني فيما أمرتك به؟
٩٤ ـ (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ...) أي قال هارون : أي يا أخي من أبي وأمي ، لا تقبض على لحيتي
ولا تجذب شعر رأسي فإني لم أترك متابعتك عصيانا لأمرك (إِنِّي خَشِيتُ) خفت (أَنْ تَقُولَ) بعد مجيئك إلينا : (فَرَّقْتَ بَيْنَ
بَنِي إِسْرائِيلَ) بالنزاع معهم أو بالقتال (وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي) ولم تنتظر أمري فيهم.
٩٥ و ٩٦ ـ (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ ...) أي قال موسى للسامري : ما شأنك وما دعاك إلى ما صنعت (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا
بِهِ) أريت ما لم يروا ، أي أنه رأى أثر حافر فرس جبرائيل (ع)
على الأرض فأخذ حفنة تراب من مكانه (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً
مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي رسول الله ، وهي تراب الحياة (فَنَبَذْتُها) قذفتها في النار مع المعادن الذائبة من زينة القوم (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) وهذا هو الذي زيّنته لي نفسي الأمّارة بالسوء.
٩٧ ـ (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي
الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ...) أي قال موسى للسامري : انصرف من وجهي وان لك أن تقول ما
دمت حيا : لا أمسّ ولا أمسّ لك ولولدك أيضا. وقيل معناه : إن موسى أمر الناس ألا
يخالطوه ولا يجالسوه ولا يؤاكلوه. (وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي أن لك يوم القيامة وقتا تتلقّى فيه عذاب الآخرة الأشد
ولن تجد خلفا في ذلك الوعد (وَانْظُرْ إِلى
إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي انظر إلى الرّب المزيّف الذي صنعته وكنت لا تزال ملازما
له (لَنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنحرقنّه بالنار ثم بعدها نذرّيه في البحر.
٩٨ ـ (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي يا بني إسرائيل : إن إلهكم الذي خلقكم ، هو الله الذي لا
إله غيره ، وهو الذي يستحق العبادة (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً) أي أحاط علمه سبحانه بكل شيء.
٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ ـ (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ
ما قَدْ سَبَقَ ...) أي : على هذا الشكل نخبرك يا محمد أخبار الأمم الماضية (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) وهو القرآن الذي يحتوي على كل أمور الدين مما يحتاج إليه (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) وانصرف إلى غيره (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي حملا ثقيلا من الإثم (خالِدِينَ فِيهِ) أي في عذاب ذلك الوزر (وَساءَ) قبح (لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : ساء هذا الوزر حملا حملوه واحتملوا إثمه يوم القيامة.
١٠٢ و ١٠٣ ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ...) أي وذلك ـ يعني يوم القيامة ـ وقد مر تفسيره. (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين نجمعهم أحياء (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (زُرْقاً) مسودّة وجوههم (يَتَخافَتُونَ
بَيْنَهُمْ) أي يتسارّون فيما بينهم. (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا عَشْراً) أي لم تبقوا أمواتا أكثر من عشر ليال.
١٠٤ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ...) أي أن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يتسارّون به (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أحسنهم قولا وعقلا. (إِنْ لَبِثْتُمْ) ما بقيتم في رقدتكم (إِلَّا يَوْماً) سوى يوم واحد.
١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ ـ
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ ...) حكي أن كفّار قريش سألوا النبيّ عن الجبال وما يصيبها يوم
القيامة على ثقلها وصلابتها فنزلت هذه الآية. (فَقُلْ) يا محمد لهم : (يَنْسِفُها رَبِّي
نَسْفاً) أي يدكّها ربّي تعالى دكّا ويصيّرها كالرمال الناعمة ويأمر
الريح فتفرّقها على سطح الأرض (فَيَذَرُها قاعاً
صَفْصَفاً) فيدعها أرضا منبسطة كبقية السهول ، ف (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) فلا تنظر فيها التواء من انخفاض أو ارتفاع.
١٠٨ ـ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ...) أي يوم القيامة يلحقون بداعي الله الذي يدعوهم للمحشر ،
وهو إسرافيل (لا عِوَجَ لَهُ) أي ليس لأحد أن ينحرف عما يشير به من خط السير. وقيل : لا
يعدل هو عن أحد بل يحشر الجميع. (وَخَشَعَتِ
الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي سكنت لمهابة البارئ تعالى وعظمته (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي فلا تسمع في ذلك الجمع إلا صوتا خفيّا لا يكاد يسمع.
وقيل الهمس هو صوت وقع الأقدام.
١٠٩ ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ...) أي في ذلك اليوم لا تقبل شفاعة أحد في أحد إلا شفاعة من
أذن الله له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.
١١٠ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ ...) أي يعرف سبحانه جميع أحوالهم مما كان في حياتهم وما يكون بعد
مماتهم أي ما تقدم وما تأخر. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) أي يعرف سبحانه جميع أحوالهم مما كان في حياتهم وما يكون
بعد مماتهم أي ما تقدم وما تأخر. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) أي لا يحيط علمهم بمعلوماته ولا بذاته سبحانه.
١١١ ـ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ ...) أي خضعت وجوه المخلوقات لله الذي لم يمت ولا يموت خضوع
العاني الأسير في يد من قهره (وَقَدْ خابَ) خسر ثواب الله ورحمته (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي من كان زاده للآخرة الشّرك والمعاصي.
١١٢ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) أما الذي عمل شيئا من الطاعات وهو مصدق بجميع ما جاء عن
ربّه على لسان رسله (فَلا يَخافُ ظُلْماً
وَلا هَضْماً) فلا يحذر أن يظلم بزيادة سيّئاته ، ولا ينتقص حقّه بإنقاص
حسناته.
١١٣ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا ...) أي : وهكذا أنزلنا هذا الكتاب قرآنا باللغة العربية (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) وكرّرنا فيه آيات التهديد بالعذاب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) بأمل أن يتجنّبوا المعاصي ويعملوا بالطاعات (أَوْ يُحْدِثُ) أي يجعل هذا القرآن (لَهُمْ ذِكْراً) عظة تذكّرهم بما أصاب الأمم الماضية فتجعلهم يتّعظون
ويعتبرون.
١١٤ ـ (فَتَعالَى اللهُ ...) أي ارتفع وسما بذاته وبصفاته عن مماثلة المخلوقات
ومشابهتها ، لأنه (الْمَلِكُ الْحَقُ) الذي يحق له الملك وهو النافذ التصرّف فيهم وفي ملكوته
بأجمعه ، (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي لا تتعجّل قراءته قبل أن يفرغ جبرائيل من تلاوته عليك
وإبلاغه إياك ، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) أي استزد من الله علما إلى علمك فيما يوحى إليك.
١١٥ ـ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ
قَبْلُ ...) أي أمرنا آدم بعهد منّا أن لا يأكل من الشجرة التي نهيناه
عن الأكل منها من قبل زمانك يا محمد. (فَنَسِيَ) ما أمر به من الكفّ عنه (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْماً) أي ثباتا وتصلّبا في الالتزام بما أمر به.
١١٦ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) مرّ تفسيره.
١١٧ ـ (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ
لَكَ وَلِزَوْجِكَ ...) حوّاء. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) فلا تطيعاه فيكون سببا لخروجكما من الجنة فتقع يا آدم في
عناء الكد للإنفاق على نفسك وزوجتك.
١١٨ و ١١٩ ـ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا
تَعْرى ...) أي نؤكّد لك أنك إذا أطعت الأمر أن تبقى في الجنة فلا تشكو
جوعا فيها ولا عريا. (وَأَنَّكَ لا
تَظْمَؤُا فِيها) لا تعطش (وَلا تَضْحى) لا يصيبك حرّ الشمس لأن ظلّها ظليل أي دائم بلا شمس ولا
غيرها مما يسبب الحرارة.
١٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ
يا آدَمُ ...) أي فهمس له الشيطان الخبيث قائلا : (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ) أتريد أن أرشدك
إلى الشجرة التي من أكل منها خلد فلا يموت أبدا؟ (وَ) هل أدلّك أيضا على (مُلْكٍ لا يَبْلى) لا يفنى.
١٢١ ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما ...) فأكل آدم وحواء من الشجرة بإغراء إبليس فظهرت لهما
عوراتهما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وأخذا يقطعان ورقا من شجر الجنّة ويلصقانه بجسديهما
ليتستّرا (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمر ربه وان كانت المخالفة هنا بمعنى ارتكاب خلاف
الأولى. (فَغَوى) فضلّ وخاب من ثواب الله.
١٢٢ ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) : أي اختاره للرسالة (فَتابَ عَلَيْهِ
وَهَدى) أي قبل توبته وهداه إلى ذكره.
١٢٣ ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ...) أي : انزلا يا آدم ويا حواء من دار كرامتي إلى دار التعب والبلاء
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) فإن العداوة بين إبليس من جهة ، وآدم وحواء من جهة ثانية (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي إن جاءكم هدى مني على يد رسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ
وَلا يَشْقى) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
١٢٤ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ...) ومن انصرف عن كتابي : القرآن ، أو ما يذكّر بي من دلائل
فإن له ضيقا في معيشته وعناء وتعبا (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى) قال : يعني أعمى البصر.
١٢٥ ـ (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى
وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي كيف رددتني إلى الحياة يوم القيامة أعمى وقد كنت في
الدنيا مبصرا.
١٢٦ ـ (قالَ) الله (كَذلِكَ) أي مثل ذلك فعلنا بك ، لأنك (أَتَتْكَ آياتُنا
فَنَسِيتَها) جاءتك دلائلنا وبراهيننا فتركتها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي تترك في النار ، وتعتبر كأنك منسيّ.
١٢٧ ـ (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ
يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ...) أي وبمثل هذا الجزاء نجزي من فرّط ولم يصدّق بدلائلنا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا (وَأَبْقى) أدوم.
١٢٨ ـ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ...) أي أفلم ينكشف لهم طريق الهدى إلى ما يبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ) كم أفنينا بالعذاب كثيرا من الأمم الماضية المكذّبة للرّسل
(يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) في مساكن الذين دمّرناهم بالعذاب (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إهلاكنا لتلك الأمم (لَآياتٍ) دلالات (لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول.
١٢٩ ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ ...) أي : ولو لا الوعد الذي أخذه ربّك على نفسه أن لا يعذب
الأمة المرحومة بوجودك يا محمد ، (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) لازما لهم في الحال (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على كلمة : لو لا ، أي لولا الكلمة ولولا الأجل
المضروب من عذابهم في الآخرة لعجّلناه لهم.
١٣٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ ...) أي اصبر على تكذيبهم إيّاك واشتغل بتنزيه ربّك وتقديسه (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلاة الفجر وصلاة العصر ومن ساعات الليل أي نافلة الليل.
وقيل : يريد المغرب والعشاء. والمقصود بأطراف النهار صلاة الظهر (لَعَلَّكَ تَرْضى) أي بأمل أن ترضى بما يعطيك ربّك في الدارين.
١٣١ ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما
مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ...) نهى الله تعالى نبيّه (ص) عن التطلّع إلى ما استمتع به
القوم الكافرون من نعم الدّنيا. ومدّ العينين هنا كناية عن الأسف ، أي لا تأسف على
ما يفوتك ممّا ينالونه من حظّ الدنيا ، (زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أي زينتها وبهجتها ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم ونعذّبهم بسببه في الآخرة (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) وما أعطاك ربّك من نعم هي أدوم لك.
١٣٢ ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ...) أي وأمر يا محمد أهل بيتك خاصة وأهل دينك عامة بالصلاة (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي حافظ عليها ، وقيل معناه : داوم على الأمر بها (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لا نكلّفك بطلب الرزق (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ونمنّ عليك (وَالْعاقِبَةُ) الآخرة المحمودة (لِلتَّقْوى) يعني لأهل التقوى والطاعة.
١٣٣ ـ (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّهِ ...) أي نتمنّى عليه أن يأتينا بمعجزة من المعاجز التي نقترحها
عليه (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟) أي : أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب السابقة من
أنباء الأمم التي أهلكناها لما اقترحت الآيات فاستجبنا لها ومع ذلك كفرت بها.
١٣٤ ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
...) يعني أننا لو أنزلنا على قريش عذابا يهلكهم ويفنيهم (مِنْ قَبْلِهِ) قبل بعث محمد ونزول القرآن (لَقالُوا) لنا يوم القيامة : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) هلّا بعثت إلينا نبيّا (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَذِلَّ وَنَخْزى) أي قبل أن يلحقنا الهوان والذل والخزي في الدار الآخرة.
١٣٥ ـ (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ، فَتَرَبَّصُوا
...) أي قل لهم يا محمد قطعا للجدال : كلّ منّا منتظر عاقبة
أمره فانتظروا أنتم (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) وستعرفون من كان على الطريقة المستقيمة ومن اتّبع طريق
الهدى.
سورة الأنبياء
مكية ، عدد آياتها ١١٢ آية
١ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) : أي : قربت ساعة القيامة للحساب. وإنما وصفت بالقرب لأن
من أشراط الساعة بعثة رسول الله (ص) إذ
قال : بعثت أنا
والساعة كهاتين ، ثم جمع بين السبابة والوسطى ، ولذا صار خاتم الأنبياء وقال
سبحانه : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا. ووجه آخر لوصفها بالقرب هو أن كل آت قريب
وأن ما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب. وعن أمير المؤمنين (ع): فإن الدنيا قد ولّت
حذّاء ـ أي تصرّمت خفيفة سريعة ـ ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ... (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ساهون عنها. (مُعْرِضُونَ) عن الإيمان بالساعة والتفكر فيها.
٢ و ٣ ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ...) أي ما يجيئهم هذا القرآن الجديد عليهم ، المبتدأ التلاوة
سورة بعد سورة. (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ
وَهُمْ يَلْعَبُونَ) استمعوا تلاوته مستهزئين به لفرط إعراضهم عنه. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال كونها غافلة عن تدبّره (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني المشركين تناجوا فيما بينهم فقالوا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ) أي أن محمدا ليس بملك وليس برسول ، وما يأتي به سحر أفتقبلونه
(وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ) ترون أنه بشر أو ساحر؟
٤ ـ (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) أي قال محمد (ص) : ربي الذي فطرني يعلم السر وأخفى في
السماء والأرض (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) مر معناه.
٥ ـ (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ...) أي قالوا عن الوحي إنه رؤيا مختلطة رآها في المنام ليست
بقابلة للتعبير (بَلِ افْتَراهُ) بل هو قول كاذب تخرّصه محمد (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وقالوا أيضا إن محمدا شاعر (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) فليجئ بمعجزة دالّة على صدق نبوّته (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) كما بعثوا بالمعاجز كعصا موسى وغيرها.
٦ ـ (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟) : أي أن كلّ قرية دمّرناها وأهلكنا أهلها ، أتتها آيات
منّا فلم تؤمن بها ولذلك أنزلنا عليها عذابنا. أفهم يؤمنون إذا جاءتهم آية؟
والاستفهام إنكاري ، أي : لن يؤمنوا.
٧ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا
رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ...) أي لم نرسل ملائكة ، وكلّ رسلنا رجال أنزلنا عليهم الوحي
بأوامرنا ونواهينا (فَسْئَلُوا) عن ذلك أيها المعاندون (أَهْلَ الذِّكْرِ) هم علماء اليهود والنصارى (إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) لا تعرفون حقيقة الرّسل.
٨ ـ (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا
يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ...) أي أن الرّسل ما جعلناهم ملائكة ، بل كانوا رجالا يأكلون
الطعام. والآية تضمنت نفي ما اعتقدوه من أن الرسالة من خواص الملائكة إذ كانوا
يقولون : ما لهذا النبي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، يعيّرونه بذلك ، فالرسل
كذلك رجال يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبقية الناس. (وَما كانُوا خالِدِينَ) باقين في دار الدّنيا. بل يموتون كما تموتون.
٩ ـ (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ
فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ ...) أي أن عاقبة الرّسل والمؤمنين بهم ، كانت أننا وفينا لهم
بما وعدناهم به فأنجيناهم من القتل والعذاب (وَأَهْلَكْنَا
الْمُسْرِفِينَ) أفنينا المتجاوزين للحدّ في كفرهم ومعاصيهم.
١٠ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ ...) الخطاب لقريش ، والكتاب هو القرآن الذي فيه عزكم ان تمسكتم
به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تملكون عقولا
لتؤمنوا به؟.
١١ ـ (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ
ظالِمَةً ...) أي : كثيرا ما أهلكنا القرية التي كان أهلها يظلمون أنفسهم
بالكفر. وقيل : المقصود بها قرية خاصة هي حضورا من أعمال اليمن عدت على نبيها
فقتلته (وَأَنْشَأْنا
بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) عاشوا مكانهم وفي بيوتهم وأرضهم.
١٢ و ١٣ ـ (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ
مِنْها يَرْكُضُونَ ...) أي لمّا شعروا بقرب نزول عذابنا عليهم ، أخذوا يفرّون
مسرعين خوفا من بطشه وجبروته ، (لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا) لا تهربوا مسرعين ، وعودوا (إِلى ما أُتْرِفْتُمْ
فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) إلى النّعم التي كنتم تتقلّبون في رغدها وإلى بيوتكم (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) عن أعمالكم أو أن الناس يسألونكم شيئا من دنياكم.
١٤ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) : أي نادوا بالويل والثبور واعترفوا بأنهم كانوا ظالمين
لنبيّهم الذي قتلوه ، ولأنفسهم بكفرهم.
١٥ ـ (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ ...) أي ما داموا يردّون تلك الدعوى من الويل والتحسّر (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) إلى أن سوّيناهم كالزرع المحصود الملقى على الأرض (خامِدِينَ) موتى مطفئين كما تطفأ النار.
١٦ و ١٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ...) لاهين عابثين في إيجادهما وإيجاد ما فيهما من مخلوقات ،
وما كانت أعمالنا إلا بالحقّ ووفق الحكمة (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) فلو شئنا أن نلهو بشيء مما يلهي الإنسان لجعلناه ممّا هو
عندنا في السماء دون أن نأخذه من الأرض. (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) في حال فعلنا ذلك.
١٨ ـ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ...)
أي نرمي الباطل
بالحقّ ونضربه به فيذهبه. (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) مضمحلّ معدوم (وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ) يعني أن لكم العذاب الشديد أيها الكفار من وصف الله تعالى
بما لا يجوز نسبته إليه.
١٩ و ٢٠ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي أنه سبحانه كيف يكون كما وصفتم وهو يملك جميع ما في
السماوات وجميع ما في الأرض ، (وَمَنْ عِنْدَهُ) من الملائكة العظام الشّداد (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ) بل يخضعون لعظمته ويسبّحون بحمده ويقدّسون له (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يملّون من تسبيحه وتنزيهه (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) قال : أنفاسهم تسبيح .. لا يتبعون ولا يضعفون.
٢١ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ
هُمْ يُنْشِرُونَ؟) : الاستفهام للجحد أي لم يتخذوا آلهة من الأرض يحيون
الموتى فهذه الآلهة التي اتخذوها ما هي إلا منحوتات عاجزة لا تسمع ولا تفعل
وجمادات لا حياة فيها وفاقد الشيء لا يعطيه.
٢٢ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا ...) أي : لو كان في السماوات والأرض ، آلهة سوى الله تتمكّن من
التصرف لفسدت السماوات والأرض ، وهذا دليل التمانع الذي ذكره المتكلمون على مسألة
التوحيد واستحالة الشريك للباري سبحانه (فَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزّه ربّ العرش العظيم الذي هو مصدر التدابير ومنشأ
المقادير ، عمّا يصفونه به من اتّخاذ الشريك والصاحبة والولد.
٢٣ ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) : أي لا يسأله أحد عن فعل يفعله لأنه لا يفعل إلّا عين
الحكمة ، بل العباد يسألون عن أفعالهم لأنهم يصيبون ويخطئون.
٢٤ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) مر معناه (قُلْ) لهم يا محمد : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أعطوا دليلكم على صحة ما تقولون من أن مع الله آلهة أخرى ،
(هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ) أي هذا القرآن الذي فيه عظة أمّتي وفيه كل ما تحتاج إليه
في معاشها ومعادها (وَ) فيه (ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي أخبار كتب سائر الأمم السابقة ، وليس فيه ولا فيها أن
مع الله إلها آخر ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ الْحَقَ) لا يعرفونه (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) منصرفون عنه إلى الباطل الذي هو الشرك.
٢٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ ...) أي ما من رسول أرسلنا من قبلك (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ننزل عليه الوحي بالتوحيد والدعوة إليه ، وبعبادتي دون شرك.
٢٦ و ٢٧ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
...) وهم خزاعة قبيلة خزاعة الذين قالوا : إن الملائكة بنات
الله ، واليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن
الله. (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن ذلك ، (بَلْ عِبادٌ) يقرّون له بالرّبوبيّة (مُكْرَمُونَ) أكرمهم الله واصطفاهم (لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم. (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وكذلك لا يعملون إلا بما يأمرهم بعمله.
٢٨ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ ...) أي أنه سبحانه يدري ما الذي مضى من عملهم والذي هو آت (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ولا يطلبون الشفاعة إلّا عمّن ارتضى الله دينه (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) من مهابة الله (مُشْفِقُونَ) خائفون.
٢٩ ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ
مِنْ دُونِهِ ...) أي : ومن يدّع الألوهيّة من المخلوقين من دون الله (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) فإن عذاب جهنّم يكونان جزاء قوله هذا (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي بمثل هذا
الجزاء نعاقب المشركين والكافرين.
٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) ألم ينظر الكافرون إلى خلق السماوات والأرض وأنهما (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي كانت السماء رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتقنا
السماء بالمطر والأرض بالنبات. (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي جعلنا حياة كلّ حيوان من الماء لأنّه مخلوق من النّطفة
التي هي ماء ، (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ألا يصدقون بعد رؤية الآيات المذكورة الدالة على وجود
الصانع الحكيم.
٣١ ـ (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِهِمْ ...) أي خلقنا في الأرض الجبال الثابتة ، حتى لا تضطرب الأرض
بالناس وتهتزّ (وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً سُبُلاً) أي في الأرض جعلنا طرقا واسعة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ليستدلوا بها على بلادهم ومواطنهم ومقاصدهم.
٣٢ ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً ...) أي جعلنا السماء كالسقف للكائنات بمجموعها ، محفوظا عن
الوقوع بقدرتنا ، أو عن الشياطين يحفظها بالشهب (وَهُمْ عَنْ آياتِها
مُعْرِضُونَ) أي والناس منصرفون عن التفكر بما فيها من آيات ودلالات.
٣٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ ... كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يجرون أو يدورون كل واحد منها في فلكه المخصص له.
٣٤ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ
الْخُلْدَ ...) ومعناها أننا لم نخلق قبلك يا محمد بشرا خالدا يعيش إلى
الأبد ولا يموت. (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ
الْخالِدُونَ) يعني هل إذا متّ أنت يكون مشركو مكة خالدين في الدنيا من
بعدك؟
٣٥ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي كل من قدم من باب مدينة العدم إلى ساحة عالم الوجود ،
فلا بد له أن يشرب شربته من كأس الفناء ، (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي نختبركم بالمنح والمحن ابتلاء لكم. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) تعودون للثواب أو الانتقام.
٣٦ ـ (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ...) أي حين يشاهدك الكافرون لا يذكرونك فيما بينهم إلّا
بالسخرية ، (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ
آلِهَتَكُمْ؟) يعيب عبادتها وتأليهها (وَهُمْ بِذِكْرِ
الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) يقولون ذلك في حال أنهم هم كافرون بالرّحمان ، وهم أولى
بأن يستهزأ بهم.
٣٧ ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ...) روي عن عطاء أن نصر بن الحارث كان يستعجل من النبيّ العذاب
استهزاء ، فأراد سبحانه أن ينهاه عن استعجاله العذاب لطفا منه بعباده. وقيل :
المراد بالإنسان آدم (ع) لأنه لم يخلقه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما هو
المعهود في خلق الإنسان وإنما أنشأه إنشاء. وقيل : المراد بالإنسان نوعه. أي أنه
فطر الإنسان على حب العجلة في أموره. (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي سأجعلكم أيّها البشر تنظرون إلى آياتي الدالّة على
وحدانيّتي وعلى صدق محمد (ص) فيما يعدكم به من العذاب في الدنيا والآخرة (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فلا تطلبوا مني تعجيل نقماتي.
٣٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي يسألون عنه على وجه الاستبعاد والإنكار ، ويقولون :
في أي وقت يجيء العذاب الموعود (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) فيما تقولون؟
٣٩ ـ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ
لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) أي : لو أن الكفار يعلمون الوقت الذي لا يستطيعون أن
يدفعوا فيه النار عن وجوههم وظهورهم حين تحرقها ، لأنها تحيط بهم من كل الجهات (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعانون على دفعها.
٤٠ ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً
فَتَبْهَتُهُمْ ...) أي أن النار تأتيهم بعذابها الموعود فجأة فتوقعهم في
الحيرة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
رَدَّها) فيعجزون عن دفعها (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) فلا يمهلون ساعتئذ.
٤١ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ ...) هذا تسلية للنبي (ص) فهو تعالى يخبره بأن الأمم السابقة قد
سخرت من رسلها كما سخر منك قومك. (فَحاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أحاط بهم جزاء استهزائهم بأقوالهم وأفعالهم.
٤٢ ـ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ ...) أي : يا محمد اسألهم من الحافظ لهم ليلا ونهارا (مِنَ الرَّحْمنِ)؟ أي من بأس الله وعذابه والاستفهام إنكاري أي لا حافظ لكم.
(بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) يعني أنهم من فرط جحودهم لا يخطر الله ببالهم ولا يتذكّرون
أنه الحافظ لهم.
٤٣ ـ (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ
دُونِنا ...) أي هل لهم أرباب غيرنا تقدر أن تمنع عذابنا عنهم. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) لا يقدرون أن يدفعوا عن ذواتهم فكيف ينصرون غيرهم؟ (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي ولا الكفار يجأرون لأن المجير صاحب المجار.
٤٤ ـ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ
حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ...) أي أمهلنا هؤلاء القوم الّذين كذّبوا برسلهم كما أمهلنا
آباءهم من قبل ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى طالت أعمارهم فغرّهم ذلك (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي
الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : أفلم ير هؤلاء الكفار أن الأرض يأتيها أمرنا فننقصها
بتخريبها وبموت أهلها. وقيل : بموت العلماء. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟) فإنه سبحانه ينكر غلبتهم ، فليسوا هم الغالبين بل نحن
الغالبون.
٤٥ ـ (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ
...) قل يا محمد لهؤلاء الكفرة إنني إنما أخوّفكم بما نزل عليّ
من ربّي وحيا من عنده. فليس التهديد والوعيد من عندي. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا
ما يُنْذَرُونَ) ولا يسمع الإنذار من كان به ثقل في السمع أو عاهة تمنعه من
السماع.
٤٦ ـ (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ
عَذابِ رَبِّكَ ...) أي إذا لامستهم لفحة من العذاب الذي أعدّه لهم ربّك (لَيَقُولُنَّ : يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ) أي يدعون بالويل والثبور معترفين بكفرهم.
٤٧ ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ...) أي أننا يوم القيامة نزل الأعمال بموازين العدل. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) فلا ظلم في ذلك اليوم لأحد حتى ولو أن الإنسان أحسن بمثقال
حبة الخردل لجئنا له بأجر إحسانه ، (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) أي حافظين عالمين. وعن الإمام السجّاد (ع): عباد الله ، إن
أهل الشرك لا ينصب لهم موازين ولا ينشر لهم دواوين ، وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا ،
وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام فاتقوا الله عباد الله.
٤٨ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ
الْفُرْقانَ ...) أي : أعطيناهما الكتاب الذي يفرّق بين الحق والباطل ، وهو
التوراة ، (وَضِياءً) نورا يهتدي به أتباعهما إلى الحق (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي عظة ونصحا للذين يعملون به ويتعظون.
٤٩ ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ ...) أي الذين يحذرون الله حالة كونه غائبا عن جميع حواسّهم ، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) خائفون من القيامة وأهوالها.
٥٠ ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ...) أي : وهذا القرآن أنزلناه من عندنا لتذكيركم ووعظكم وهو
ثابت ودائم نفعه (أَفَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ) هذا استفهام توبيخ أي فلم أنتم تجحدونه وترفضونه؟
٥١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ
...) أي أعطيناه الحجج والبراهين التي توصله إلى الرشد من معرفة
الله وتوحيده. والرشد هو ما فيه صلاح دينه ودنياه وقيل : الرشد هو النبوة والخلّة
، وقيل : هو الاهتداء والاستقامة على طريق الحق. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بلوغه ، أو من قبل موسى وهارون ومن قبلك يا محمد
، (وَكُنَّا بِهِ
عالِمِينَ) أي عارفين بأنه أهل لما أعطيناه من الرّشد.
٥٢ و ٥٣ و ٥٤ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما
هذِهِ التَّماثِيلُ ...) أي سأل أباه ـ هو عمّه أو جدّه لأمّه ـ وسأل قومه عن تلك
الصور الممثّلة التي هي مجسّمات جامدة لا روح فيها ولا حياة وهي الأصنام (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي مقيمون على عبادتها (قالُوا وَجَدْنا
آباءَنا) قبلنا (لَها عابِدِينَ) يؤدّون العبادة لها ونحن على دين آبائنا (قالَ) إبراهيم (لَقَدْ كُنْتُمْ
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنكم جميعا تائهون عن الحق ضائعون عن الهدى.
٥٥ و ٥٦ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ
مِنَ اللَّاعِبِينَ ...) : سألوه هل أنت جادّ في قولك أم أنت لاعب هازل فيه؟ (قالَ) لهم : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بل إلهكم إله السموات والأرض (الَّذِي فَطَرَهُنَ) سوّاهن على ما هنّ عليه من نظام الفطرة والخلق. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي على ما ذكرته لكم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المحقّقين المثبتين له.
٥٧ ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ
بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ...) : أي : والله لأحلّنّ بها الكيد ولأدبّرن طريقة تكسيرها
تدبيرا خفيّا عنكم يسوؤكم بعد أن تنطلقوا منصرفين. وقيل إنه كان لهم في كل سنة عيد
يجتمعون فيه ، وكانوا إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام وسجدوا لها ، وقد قالوا
يومئذ : ألا تخرج معنا ، فخرج معهم ماشيا إلى أن كان في بعض الطريق اشتكى من ألم
في رجله وتخلّف عنهم.
٥٨ ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً
لَهُمْ ...) أي : فكسّرهم قطعا
قطعا وترك أكبر الأصنام ، ذاك الذي كان في نظرهم عظيمها. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) عسى أن يرجعوا إليه باعتباره الرئيس ، ثم يسألونه عن شأن
بقية الأصنام المحطّمة فيستبصرون.
٥٩ و ٦٠ ـ (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ...) إلخ. أي الذي صنع هذا الصنيع بأربابنا فإنه ظالم لنفسه
لأنه سيقتل وظالم لنا ولأصنامنا. وقيل : من للاستفهام وليست موصولة. (قالُوا) فيما بينهم : (سَمِعْنا فَتًى) شابا فتيّا (يَذْكُرُهُمْ) بالسوء ويعيبهم (يُقالُ لَهُ
إِبْراهِيمُ) يدعى إبراهيم.
٦١ ـ (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ
النَّاسِ ...) أي : جيئوا به على مرأى من الناس (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي بما قاله فيكون ذلك حجة عليه.
٦٢ و ٦٣ ـ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا
بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ...) : هل أنت الذي كسّر أصنامنا (قالَ) إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) أي صنع هذا التكسير كبير الأصنام (فَسْئَلُوهُمْ) اسألوا هذه الأصنام المحطّمة (إِنْ كانُوا
يَنْطِقُونَ) إذا كانوا يتكلّمون. وقد علّق إبراهيم (ع) فعله بالأصنام
على نطق عظيمها في نظرهم والذي كان قد أبقى عليه وبذلك أعجزهم وبكّتهم لأن
الجمادات لا تنطق ولا تجيب ، ومن كان هذا شأنه بحيث لا يسمع خطابا ولا يعقل ولا
يحير جوابا بل لا يقدر على شيء فكيف يجوز أن يكون ربا ويحتلّ هذه المرتبة من
الألوهية؟ بل كيف يجوز للإنسان أشرف المخلوقات أن يخضع له ويتذلل أما في حال
ادّعائهم أن الأصنام تنطق وتجيب فسوف يفضحهم واقعها ويكذبهم حالها حين يسألونها
فلا ترد ، ولهذا لم يجدوا بدا من الاعتراف بالحقيقة إضافة إلى ضلالهم وقلة عقلهم.
٦٤ ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا
إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) : أي : فعادوا إلى التعقّل والتدبّر في أنفسهم ، فكانوا
كأنّهم يقول بعضهم لبعض : إنّكم أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الأحجار.
٦٥ ـ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ...) أي تحيروا وعلموا أن أصنامهم لا تنطق فاعترفوا بما هو حجة
عليهم (لَقَدْ عَلِمْتَ) عرفت أن (ما هؤُلاءِ
يَنْطِقُونَ) أن الأصنام لا تتكلّم.
٦٦ و ٦٧ ـ (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ ...) قال لم تعبدون أحجارا لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرّا؟
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : تبّا لكم ولها ، وقبحا لصنيعكم الذي لا يرتكز على
معقول في عبادة غير الله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتدبّرون ما
أنتم عليه من الضلال؟ ٦٨ ـ (قالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) : أي قال بعضهم لبعض : احرقوا إبراهيم بالنار دفاعا عن
آلهتكم إن كنتم تريدون تعظيمها ونصرتها.
٦٩ ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) : أي جعل الله تعالى النار كذلك بردا لا يضرّه ، وسلاما
عليه ، فلم تحرق منه إلّا وثاقه.
٧٠ ـ (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ) أي رغبوا في كيد إبراهيم وقتله ، فانقلب عليهم مكرهم وخسرت
صفقتهم.
٧١ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً ...) أي وخلّصناه من كيد النمرود والهلاك بناره وكذلك نجّينا
لوطا ـ ابن أخيه ـ الذي آمن به (إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وهي أرض الشام ، وصفها سبحانه بالبركة لأنها أرض خصب وسعة
وقيل المراد بالأرض المباركة بيت المقدس.
٧٢ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
...) أي أعطينا لإبراهيم ولده إسحاق حين طلب الولد ثم رزقه
يعقوب (نافِلَةً) أي زيادة من غير ابتداء دعاء منه (ع). وقيل : إنما كان
يعقوب نافلة لأنه ابن إسحاق والعرب يقولون لولد الولد نافلة. (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) وجعلنا كلّ واحد منهم صالحا للنبوة من عبادنا المؤمنين.
٧٣ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ...) أي قادة وسادة (يَهْدُونَ) يدلّون الناس إلى طريق الهدى (بِأَمْرِنا) لهم بذلك لأنهم رسلنا إلى الناس. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْراتِ) أي أن يفعلوا الخيرات ويأمروا الناس بفعلها (وَإِقامَ الصَّلاةِ) تأديتها والمحافظة عليها ، (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) إعطاءها (وَكانُوا لَنا
عابِدِينَ) لا يشركون بنا طرفة عين. وعن الصادق (ع) أن الأئمة في كتاب
الله عزوجل إمامان ، قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا)
لا بأمر الناس ،
يقدّمون ما أمر به الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم. وقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ) ، يقدّمون أمرهم على أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ،
يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله ، نعوذ بالله من ذلك.
٧٤ ـ (وَلُوطاً آتَيْناهُ ...) ولوطا أعطيناه (حُكْماً) وظيفة الفصل بين الناس ، أو نبوّة ، أو حكمة (وَعِلْماً) معرفة بما يحتاج إلى العلم به (وَنَجَّيْناهُ) خلّصناه (مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي بلدة سدوم والقرى التي كانت تجاورها فإن أهلها كانوا
ينكحون الرجال وكانوا قطاع طرق. بخلاء (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فهم قوم كانوا يعملون السوء وكانوا خارجين عن طاعة الله.
حيث كانوا يشهدون الزور ويتعاطون اللواط والسحاق والربا واللصوصية والكذب وغير ذلك
من القبائح.
٧٥ ـ (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ
مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي شملناه بنعمتنا وفضلنا وهو من الأنبياء. وقيل : أي
فعلنا به ذلك لأنه من عبادنا الذين يعملون الطاعات والقربات.
٧٦ ـ (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ ...) أي واذكر نوحا حيث دعانا للحكم بينه وبين قومه الكافرين من
قبل إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أجبناه لما طلب (فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ) سلّمناه هو ومن آمن به من أهله وغيرهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي هو الغرق.
٧٧ ـ (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي جعلناه منصورا عليهم بعد أن سخروا به وكذّبوا بدلائلنا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أهل شرّ (فَأَغْرَقْناهُمْ) بماء الطوفان (أَجْمَعِينَ) بكاملهم. فلم ينج منهم أحد إلا المؤمنون الذين حملهم نوح (ع)
معه في فلكه.
٧٨ ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ
فِي الْحَرْثِ ...) أي واذكر القصة التي حدثت لداود وابنه سليمان حين حكما في
الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعاة قطيع من الغنم (وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي حاضرين.
٧٩ ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ...) أي علّمناه الحكومة في ذلك ، (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) أي كل واحد من داود وسليمان (ع) ، أعطيناه الحكمة والعلم
بأمور الدين والدنيا (وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) أي كلّفناها أن تسبّح معه كما يسبّح وتقدّس كما يقدّس. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي كنّا نحن فاعلين ذلك بقدرتنا.
٨٠ ـ (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ
...) أي علّمنا داود صناعة الدروع لأجلكم حتى تنتفعوا به في
الحروب (لِتُحْصِنَكُمْ) تحميكم ، (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من وقع السلاح وتأثيره فيكم. وقيل : من حربكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ...) أي : هل أنتم حامدون لله على هذه النعمة؟ وهذا أمر في صورة
الاستفهام يعني : اشكروا الله على هذه النعمة.
٨١ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ ...) أي : وسخّرنا لسليمان الهواء المتحرّك بقوّة شديدة الهبوب
تسير حسب رأيه ومبتغاه (إِلى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بيت المقدس أو بلاد الشام ، أو كليهما. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي أن ذلك كان يتمّ بعلمنا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
٨٢ ـ (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ
لَهُ ...) أي : وسخّرنا له جماعة من الشياطين يغوصون في البحار
ويستخرجون له نفائسها (وَيَعْمَلُونَ
عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من بناء المدن والقصور إلخ (وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ) أي محافظين عليهم من أن يزيغوا عن أمره أو أن يفسدوا ما
عملوا لرسوله.
٨٣ ـ (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ ...) أي : اذكر يا محمد أيوب حين دعا ربّه لما طال أمد المحنة
عليه (أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ) والضر بالضم يختص بما يصيب النفس من أمراض أي نالني المرض
وأصابني الجهد (وَأَنْتَ) يا الله (أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) لا أحد أرحم منك.
٨٤ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ
مِنْ ضُرٍّ ...) إلخ. أي سمعناه دعاءه واستجبنا لطلبه ، وأزلنا الضرّ عنه
وأمرنا بشفائه ومعافاته من المرض والآلام (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي أعطيناه أهله وأرجعناهم له وكانوا قد أهلكوا وثروته قد
زالت ، كل ذلك فعلناه له نعمة منا عليه وموعظة للناس ليعرفوا نتيجة الصبر على
البلاء.
٨٥ ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا
الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) : أي واذكر هؤلاء الرسل الذين كانوا صابرين على مشاقّ
التكاليف وعلى الشدائد والمصائب التي ابتلوا بها.
٨٦ ـ (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي اخترناهم للنبوّة التي هي من أعظم الرحمة للعبد
الصالح ، وفعلنا ذلك بهم لأنهم من عبادنا الصالحين.
٨٧ و ٨٨ ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً
...) اذكر يا محمد ذا النّون : وهو صاحب الحوت ، يونس بن متّى (ع)
الذي خرج من قومه قبل أن يأذن الله بذلك غضبانا عليهم لما رأى من عصيانهم وتماديهم
في الكفر (فَظَنَ) حسب (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ) أننا لا نضيّق عليه بما قضيناه من حبسه ببطن الحوت. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) دعا واستغاث في ظلمات : الليل ، وبطن الحوت ، وغمر الماء ،
(أَنْ لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ) لا ربّ سواك ولا معبود غيرك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك يا الله عن كل ما لا يليق بك (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : كنت من الظالمين لأنفسهم حين تركت فعل الأولى حيث
خرجت من قومي قبل صدور الإذن من عندك (فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) خلّصناه من الضيق الذي حاق به أثناء حبسه في بطن الحوت (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي إذا دعونا لرفع الشدة عنهم.
٨٩ ـ (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ...) أي واذكر يا محمد زكريّا (ع) حين نادى داعيا الله (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي لا تتركني أبتر بلا عقب (وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوارِثِينَ) هذا ثناء منه على الله بأنه الحي الباقي بعد فناء الأشياء.
٩٠ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ
يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ...) أي سمعنا دعاءه ، وأعطيناه ابنا اسمه يحيى (ع) وأعدنا
لزوجته بعض شبابها لأنها كانت شيخة وكانت لا تحيض فحاضت ، وقيل كانت عقيما
فجعلناها ولودا. (إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي من ذكرنا كانوا يبادرون إلى أفعال الخير ويسبقون إليها
غيرهم ، (وَيَدْعُونَنا
رَغَباً وَرَهَباً) راغبين في الطاعة محبّين لها وخائفين من المعصية ، (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) متواضعين.
٩١ ـ (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ...) أي مريم ابنة عمران (ع) والمعنى : اذكر يا محمد مريم التي
حفظت فرجها وعفّت فالإحصان : كناية عن غاية العفة والصون وكمال العصمة لأنها (ع)
ما رآها أحد لأنها كانت منذ نعومة أظفارها قابعة في المحراب تتبتّل وتتهجّد وتصلي لربها
سبحانه فلم تبرز في مناسبة من مناسبات قومها. (فَنَفَخْنا فِيها
مِنْ رُوحِنا) أي أجرينا فيها روح المسيح (ع) كما يجري الهواء بالنفخ. (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) وهي وابنها (ع) معجزة خارقة للعادة والعرف لأنها جاءت به
من دون أب.
٩٢ ـ (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً ...) أي إن ملّة الإسلام ملّتكم حال كونها مجتمعة غير متفرقة (وَأَنَا رَبُّكُمْ) خالقكم (فَاعْبُدُونِ) لا تشركوا بي شيئا.
٩٣ ـ (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) : أي تفرّقوا في الدّين ، والتقطّع بمنزلة التقطيع وان
كلّا ممن اجتمع أو افترق يرجع إلى حكمنا يوم القيامة.
٩٤ ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ...) أي فمن يفعل ما أمرناه به من الطاعات والقربات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق بنا وبرسلنا (فَلا كُفْرانَ
لِسَعْيِهِ) فلا تضييع لسعيه ولا جحود لعمله (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي ونحن نسجّل له ذلك بواسطة ملائكتنا لنوفّيه ثوابه.
٩٥ ـ (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : حرام هنا معناها : ممتنع رجوعهم إلى الدنيا أو إلى
التوبة بعد إهلاكهم. وعلى هذين التفسيرين تكون (لا) مزيدة ، وقيل عدم رجوعهم للجزاء ممتنع بل رجوعهم واجب
للمجازاة.
٩٦ ـ (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ ...) هما قبيلتان من الناس ، أي : حتى إذا فتح السدّ الذي يحيط
بموطنهما. (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) والحدب : التلّة من الأرض ، أي يأتون مسرعين من كل ناحية
وكل صوب يتراكب بعضهم فوق بعض. وقيل : بأن ما تضمنته هذه الآية الشريفة هو من
علائم قرب الفرج بخروج الإمام الحجة صاحب العصر والزمان (ع) لأنه يسبق يوم القيامة
، فيكون فتح سد يأجوج ومأجوج من علامات ظهوره (ع).
٩٧ ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ...) أي دنا الموعد الصّدق وهو قيام الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : فإذا القصة أن أبصار الكافرين تنظر ولا تكاد تطرف
من شدّة أهوال ذلك اليوم (يا وَيْلَنا) فإنهم يدعون بالويل والثبور (قَدْ كُنَّا فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي ويقولون : كنّا في دار الدنيا ساهين عن هذا اليوم وتلك
الأهوال (بَلْ كُنَّا
ظالِمِينَ) لأنفسنا بعبادة غير الله تعالى وتكذيب رسله.
٩٨ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ ...) أي أنتم والأصنام (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يعني حطبها ووقودها (أَنْتُمْ لَها
وارِدُونَ) داخلون إليها.
٩٩ ـ (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها
...) أي لو كان ما عبدتموه من دون الله تعالى أربابا ما دخلوا
جهنّم (وَكُلٌ) من العبدة والمعبودين (فِيها) في جهنّم (خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.
١٠٠ ـ (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا
يَسْمَعُونَ) : أي للكفار في جهنم صوت كصوت الحمار وهو شدة تنفسهم في
النار عند إحراقها لهم ولا يسمعون فيها ما يسرّهم. وقيل : لما نزلت هذه الآية قال
ابن الزبعرى : قد عبد عزير وعيسى والملائكة فهم في النار. فقال (ص) : إنما عبدوا
الشياطين التي أمرتهم بذلك ، ثم نزل قوله تعالى :
١٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى ...) أي من سبق له الوعد بالجنة من الأنبياء والأولياء والمؤمنين
الصالحين. وقيل : الحسنى هي السعادة. (أُولئِكَ عَنْها) عن جهنّم (مُبْعَدُونَ) في مكان بعيد أمين من أن يروها.
١٠٢ ـ (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ...) لا يسمعون صوت النار ولا زفيرها (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ
خالِدُونَ) أي هم باقون منعّمين في كلّ ما أحبّت أنفسهم. وفي كل ما
ترغب فيه إلى الأبد.
١٠٣ ـ (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ
...) لا يهمهم هول يوم القيامة الأعظم (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم قائلة : (هذا يَوْمُكُمُ
الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هذا يوم النعيم المقيم الذي وعدتموه وأنتم في الدنيا.
١٠٤ ـ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ...) أي يوم القيامة نطوي السماء بقدرتنا كما تطوى أوراق الكتب (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) فنرجع الخلق كما بدأناه (وَعْداً عَلَيْنا) نقلته رسلنا للعالمين (إِنَّا كُنَّا
فاعِلِينَ) إننا صانعون لذلك كما وعدناكم. لأن قدرتنا على الخلق من
العدم كقدرتنا على إرجاع السماوات إلى ما كانت عليه قبل خلقها فقد نحوّلها دخانا ،
ثم نبعث الخلق للحياة كما بدأناهم أول مرة.
١٠٥ و ١٠٦ ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ ...) أي قد أنزلنا ما قضيناه من مشيئتنا ، وأثبتناه في زبور
داود (ع) من بعد إثباته في التوراة. وقيل : الزبور كتب الأنبياء والذكر اللوح
المحفوظ. (أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يملكها بعد انقضاء الأمم أصحاب الإمام المهديّ (عج) ويكون
ذلك في آخر الزمان. وقد روي عن النبي (ص): لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل
الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما
وجورا. (إِنَّ فِي هذا) الذي كتبناه في اللوح المحفوظ وفي كتبنا التي أنزلت على
رسلنا ، (لَبَلاغاً) إعلاما بلّغناه (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) لنا بإخلاص.
١٠٧ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) : أي لم نرسلك يا محمد إلّا نعمة منّا لجميع الناس. تسبّب
لهم السعادة التي أعددناها لهم في دار النعيم في الآخرة من جهة ، وتسبب لهم
السعادة في معاشهم في دار الدنيا من خلال ما حملته لهم من نظام حياة يضبط سلوكهم
ويتعالى بهم في درجات الكمال الإنساني. ووجه كونه (ص) رحمة للكافرين فلأن وجوه
الشريف رفع عنهم الخسف والمسخ والعذاب والاستئصال وهو ما كان ينزل بالأمم السابقة
عند كفرها برسالات الله.
١٠٨ و ١٠٩ ـ (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ ...) إلخ ... مرّ تفسير هذه الآية في آخر سورة الكهف. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) إذا أعرضوا ولم يسلموا (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم ما أمرت به (عَلى سَواءٍ) مستوين في ذلك ولم أخصّ بإعلامي أحدا دون أحد ، (وَإِنْ أَدْرِي) أي ولا أعلم (أَقَرِيبٌ أَمْ
بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) يعني أجل يوم القيامة.
١١٠ و ١١١ ـ (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ
الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) : أي أن الله يعلم السر والعلانية (وَإِنْ أَدْرِي) ولا أعلم (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ
لَكُمْ) يحتمل أنه اختبار لكم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فترة تتمتّعون بها وتخلعونها عند الموت كما يخلع المتاع
البالي.
١١٢ ـ (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ...) قل يا محمد ربّ احكم بما هو عدل من الانتقام من الظّلمة ، (وَ) قل (رَبُّنَا الرَّحْمنُ
الْمُسْتَعانُ) أي الذي يطلب منه المعونة للصبر (عَلى ما تَصِفُونَ) من شرككم وكذبكم على الله.
سورة الحج
مدنية ، عدد آياتها ٧٨ آية
١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) افتتح الله سبحانه هذه السورة المباركة بتوجيه الخطاب
للناس عامة من مؤمن وكافر وذكر وأنثى ، وحاضر وغائب ، وموجود بالفعل ومن سيوجد
منهم وذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل لاتحاد الجميع بالنوع. رأفة
بهم ورحمة ، فأنذرهم قائلا : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) تجنّبوا مخالفته الموصلة لعذابه (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) أي زلزلة الأرض يوم القيامة ، أمر هائل لا يتحمل. والزلزلة
والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة ، وكأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من : زلّ ،
بمعنى زلق تكرر للمبالغة ، والإشارة إلى تكرر الزلّة ، وهو شائع في نظائره مثل :
ذب وذبذب ، ودمّ ودمدم ، وكبّ وكبكب ورفّ ورفرف وغيرها.
٢ ـ (يَوْمَ تَرَوْنَها ...) ذلك يوم القيامة بأهواله التي (تَذْهَلُ) تغفل وتتلهّى (كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن رضيعها وتنساه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها) أي كلّ امرأة حبلى ، تسقط جنينها من الفزع والحمل بالفتح
الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن ، وبالكسر الثقل المحمول في الظاهر كحمل
بعير ـ كما قال الراغب الأصبهاني ـ. (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى) من شدة الخوف (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب (وَلكِنَّ عَذابَ
اللهِ شَدِيدٌ) والذي أحدث كلّ ذلك الذّعر هو شدة عذاب الله في ذلك اليوم.
٣ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...)
نزلت هذه الآية
الكريمة في النّضر بن الحارث الذي كان ينكر البعث والحساب ويجادل في ذلك عن جهل
وهي تشمله وتشمل كلّ واحد من الناس يناقش في الأمور التي يجهلها بلا برهان. (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي يقلّد ويطيع كلّ متمرّد على حرمات الله.
٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ ...) أي سجّل في اللوح المحفوظ ، أو في علمه تعالى ، أنّ من
يتّخذ الشيطان وليّا (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) يغويه (وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ) ويدلّه على الطريق الموصلة لعذاب جهنّم.
٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ...) أي في شك من النشور للمحشر (فَإِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) فنحن أوجدناكم من التراب بالأصل يعني خلقة آدم (ع) (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم خلقنا أولاد آدم من ماء قليل صاف يقذفه الذكر في رحم
الأنثى (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة من الدم جامدة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) لحم كأنه ممضوغ (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ) أي تامة الخلقة وغير تامة. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) لنوضح لكم بهذه الانتقالات والتبدّلات على سبيل التدرّج ،
قدرتنا وحكمتنا ، (وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) نبقي في أرحام الأمّهات ما نريد من الأجنّة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى زمان معيّن هو وقت وضعه. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) أي نخرج كل واحد منكم طفلا من بطن أمه. (ثُمَ) نربّيكم شيئا فشيئا (لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) لتصلوا إلى كمال قوّتكم في العقل والجسد. وقيل الأشد هو
وقت البلوغ. (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى) يموت قبل بلوغ الأشد (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى أسوإ العمر وأهونه عند أهله ، وهي حال الهرم
والخرف. (لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي إلى وقت لا يستفيد فيه علما بل ينسى ما كان عالما به. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي ميّتة يابسة (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) فإذا أمطرناها بالماء تحرّكت بالنبات (وَرَبَتْ) نمت وانتفحت (وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) من كل صنف من الزرع ذي رونق حسن.
٦ و ٧ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) أي ذلك المذكور من أحوال الإنسان والأرض ، كان بسبب أنه
تعالى هو الثابت في ذاته الذي يستحق العبادة وحده (وَأَنَّهُ يُحْيِ
الْمَوْتى) يعيدهم بقدرته الكاملة. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه. (وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ) أي وليعلموا أن القيامة جائية (لا رَيْبَ فِيها) بدون شكّ (وَأَنَّ اللهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يحييهم ويعيدهم كما كانوا.
٨ و ٩ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) مر معناه قبل قليل. (وَلا هُدىً) أي بلا حجة ولا دلالة. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : ذي نور يهتدى به : أي ليس لديه حجّة نقلية ولا عقلية.
(ثانِيَ عِطْفِهِ) لاويا عنقه متكبرا. (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) ليصرف الناس عن الدين (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) ذل وهو ان بالقتل وغيره. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار التي تحرقهم.
١٠ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ...) أي نقول له : بوّئت بذلك الخزي والعذاب بما كسبت يداك أيها
الكافر بنا. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يجزي العبيد على قدر استحقاقهم دون زيادة أو نقصان.
١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ ...) أي أن بعض الناس يعبدون الله عبادة من يقف على طرف جبل أو
غيره يكاد يقع عنه لأقلّ دفع أو أزمة. وقيل يعبده بلسانه دون قلبه ، (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي إذا أصابه عافية أو مال أو رزق استقرّ على عبادة الله (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) لحق به اختبار وامتحان بمرض أو جدب أو نقصان مال (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) رجع عن دينه إلى وجهه الذي أتى منه ، أي الكفر ، (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي خسر الدنيا بفراقه جماعة المسلمين والآخرة بنفاقه وحبوط
عمله. (ذلِكَ) الخسران (ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الواضح العظيم.
١٢ ـ (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ...) أي يتّخذ معبودا من دون الله كالوثن الذي لا يضرّه إن لم
يعبده ولا ينفعه إن هو عبده. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) ذلك الحال الموصوف من شأنه الكفر والضياع البعيد عن الحق.
١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ ...) هو يدعو معبودا غير الله توجب عبادته الضرر لأنها تؤدي إلى
عذاب الدارين فضرر الصنم الذي يعبده أقرب له من نفعه لأنه لا يملك نفعا ولا يقدر
عليه. (لَبِئْسَ الْمَوْلى
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي ساء هذا الناصر وقبح هذا الصاحب المعاشر.
١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) إلخ مر معناه. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يُرِيدُ) يصنع ما يشاء بأهل طاعته من الكرامة وبأعدائه وأهل معصيته
من الإهانة.
١٥ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ
اللهُ ...) أي من شكّ أن الله لم ينصر رسوله بإعلاء كلمته وإظهار دينه
في الدنيا وإعلاء درجته والانتقام ممّن كذّبه في الآخرة (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ
ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي فليطلب وسيلة يصل بها إلى السماء ليمنع نصر الله نبيه (فَلْيَنْظُرْ) أي فليتفكر (هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي هل يذهب كيده وغيظه من نصر الله لرسوله؟ والاستفهام
إنكاريّ أي فلن يذهب صنعه ذلك ، بغيظه فإن الله ناصر رسوله.
١٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) أي كما أنزلنا تلك الآيات المذكورة أنزلنا القرآن بتمامه (آياتٍ بَيِّناتٍ) حججا واضحات في العقدة والأحكام (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يوفّق للهدى من يشاء. والجملة خبر لمبتدإ محذوف ، أي
والأمر أن الله يهدي من يريد وأما من لا يريد أن يهديه فلا هادي له ، فمجرد كون
الآيات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته.
١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا ...) أي أن المؤمنين بمحمد وكذلك اليهود ممن آمن بموسى ومن قبله
من الرسل الواقفون فيه وكتابهم التوراة وقد أحرقها بخت نصّر ملك بابل حينما استولى
عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح ثم أعاد كتابتها لهم عزرا الكاهن في أوائل
القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كورش ملك الفرس بابل وتخلص بنو إسرائيل من
الأسر ورجعوا إلى الأرض المقدسة. (وَالصَّابِئِينَ) الذين يعبدون الكواكب (وَالنَّصارى
وَالْمَجُوسَ) الذين يعبدون النار (وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا) هم عبدة الأصنام (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بإظهار المحقّ منهم والمبطل (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو مراقب لهم مطلع على جميع أحوالهم على كل شيء وكل ما
يصدر عن مخلوقاته.
١٨ ـ (أَلَمْ تَرَ ...) أي ألم تعلم ... (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ
لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من العقلاء. (وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) إلخ أي يسجد له جميع هذه المخلوقات سجود خضوع وانقياد لما
يريد منها. (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) يعني المؤمنين الذين يسجدون لله. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي من الناس بكفره لإبائه الانقياد والسّجود (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي من يحتقره الله (فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) لا يكرمه أحد (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يَشاءُ) من الإنعام والانتقام بالفريقين.
١٩ ـ (هذانِ خَصْمانِ ...) أي جمعان من المؤمنين والكفار من أهل الملل الخمس المذكورة
يعني : اليهود والنّصارى والصّابئين والمجوس والمشركين (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي المؤمنون على حدة ، والكفار بأجمعهم على حدة ، تجادلوا
في دين ربهم وفي أحقية كل منهما برضا الله ورضوانه. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصّل لهم ألبسة ناريّة على قدر جثثهم الخبيثة. وقال أبو
سعيد الخدري : ثياب من نحاس أذيب بالنّار يلبسونها. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء المغلي.
٢٠ ـ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) : أي يذاب بذلك الحميم أحشاؤهم وأمعاؤهم (وَالْجُلُودُ) كما يذاب به جلودهم.
٢١ ـ (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) : أي سياط أو أعمدة من حديد تضرب بها رؤوسهم.
٢٢ ـ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها) : أي قاربوا الخروج من جهنم (مِنْ غَمٍ) أي ألم العذاب (أُعِيدُوا فِيها) ضربا بتلك الأعمدة والسّياط (وَذُوقُوا) يقال لهم احتقارا : ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار المحرقة.
٢٣ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
...) إلخ. أي يدخل المؤمنين به وبرسله الجنة الوارفة الظّلال
الجارية المياه (يُحَلَّوْنَ فِيها) يلبسون في الجنّة حليّا (مِنْ أَساوِرَ) وهي ما يلبس في اليد. والأساور : جمع أسورة وهي جمع سوار. (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي ومن لؤلؤ. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) يلبسون في الجنّة الدّيباج الخالص حيث حرم لبسه عليهم في
الدنيا.
٢٤ ـ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ) : أي أرشدوا في الجنة إلى كلمة الإخلاص والتوحيد أو قول :
الحمد لله ، أو القرآن أو إلى التحيات الحسنة التي يحيّي بها بعضهم بعضا نفوسهم (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي دين الله المحمود ، أو طريق المحل المحمود وهو الجنة.
٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي يمنعون الناس عن طاعة الله وعطف المضارع على الماضي
للدّلالة على الاستمرار ، فالمعنى أنهم مستمرّون على الصدّ كانوا ولا يزالون
مانعين عن طريق الحق. (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) أي ويصدون عن المسجد الحرام (الَّذِي جَعَلْناهُ
لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي المقيم في مكّة والغريب مساويان في القبلة أو في السكنى
أو في الأمن من القتل والأسر. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) أي : من يقصد أمرا فيه ملابسا للعدول عن القصد أي عن الحق
إلى الباطل ، وملاصقا للظلم قيل هو الشرك وعبادة غير الله فيه ، وقيل كل شيء نهي
عنه (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) أي نعذبه عذابا وجيعا.
٢٦ ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ ...) أي اذكر يا محمد حيث أحللنا إبراهيم (ع) أو هديناه إلى
مكان البيت حتى يعمره ويبنيه (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) أي أوحينا إليه بأن لا يعبد غيري (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي طهّره أنت وابنك إسماعيل من أن يدنّسه الشّرك ، وقد مر
تفسيره في سورة البقرة.
٢٧ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ...) أي ناد فيهم وأعلمهم بوجوب الحج (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي يأتوك ركبانا على نوق ضامرة مهزولة (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد.
٢٨ ـ (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ...) أي ليحضروا فوائدهم الدنيوية وهي التجارات والأخروية
كتعلّم أحكام دينهم ونيلهم عفو الله ورضوانه. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قيل هي العشر الأواخر من ذي الحجة وقيل هي أيام التشريق
الثلاثة ويوم النحر. واختلف أيضا في هذا الذّكر ، قيل هو التلبية حين الإحرام
وبعده والتكبير وغيرهما من الأذكار ، وقيل هي التسمية على ما يذبح أو ينحر ويؤيد
هذا المعنى الأخير قوله : (عَلى ما رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ذبح ونحر ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم. (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ) الأمر بالأكل لنقض ما هو المرسوم عند المشركين من عدم أكل
الذبيحة التي كانوا يذبحونها باسم آلهتهم ، وأمرهم بأن يطعموا منها الفقراء
والمساكين. والبائس أفقر من الفقير.
٢٩ ـ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ...) أي ليزيلوا وسخهم بتقليم الأظفار وقصّ الشّوارب وحلق الرأس
إلخ (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) أي ما نذروا من البرّ والطاعات (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) أي القديم لأنه أول بيت وضع ، أو الكريم أو الحر.
٣٠ ـ (ذلِكَ ...) خبر للمبتدإ المحذوف ، أي الأمر ذلك يعني هكذا أمر الحج
والمناسك (وَمَنْ يُعَظِّمْ
حُرُماتِ اللهِ) أي أحكامه وما لا يحلّ هتكه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) أي تعظيمها خير له ثوابا (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ) أي الثلاثة (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) الآية ٣ من المائدة (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) من ، بيانيّة (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ) أي الكذب أو شهادة الزور أو الغناء إلخ.
٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ ...) أي موحّدين له (غَيْرَ مُشْرِكِينَ) أي مسلمين مخلصين لله لا يشركون في تلبية الحج به أحدا. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ ، فَكَأَنَّما
خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي فقد أهلك نفسه هلاك من سقط منها (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تأخذه بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي تسقطه من مكان مرتفع إلى موضع عميق جدا.
٣٢ ـ (ذلِكَ ...) أي الأمر ذلك الذي ذكرنا (وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعائِرَ اللهِ) أي معالم دينه ومناهجه ، قيل هي كل مناسك الحج. وقيل هي
البدن إذا أشعرت بشق سنامها من الجانب الأيمن (فَإِنَّها) أي تعظيمها (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ناشئ من تقوى قلوبهم.
٣٣ ـ (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ...) أي لكم أيها الناس في الشعائر التي هي البدن منافع من شرب
ألبانها وركوب ظهورها إلخ إلى أن يسمى هديا وذلك بوصولها إلى الكعبة أو منى. (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) أي محلّ نحر الهدايا هو الكعبة في العمرة المفردة ومنى في
الحج ، وعندها تنقطع الاستفادة منها.
٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً
...) أي لكلّ أهل دين جعلنا قربانا أو ما يتعبّد به ويتقرّب به
إليه تعالى ، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الثلاثة أي عند ذبحها (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) أي معبودكم لا شريك له (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي انقادوا (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) أي المطمئنّين به تعالى والمتواضعين له.
٣٥ ـ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ ...) أي خافت من هيبته (وَالصَّابِرِينَ عَلى
ما أَصابَهُمْ) أي من المصائب (وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ) في أوقاتها (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في الطاعات الواجب والندب.
٣٦ ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ ...) إلخ (الْبُدْنَ) جمع بدنة وهي الناقة أو البقرة المسمّنة. جعلنا البدن لكم
من أعلام ديننا وعلائم مناسك الحج وفي سوقها إلى البيت وتقليدها عبادة لله. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) نفع دينيّ ودنيويّ (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها) أي عند نحرها (صَوافَ) أي حال كونها قائمة مقيدة (فَإِذا وَجَبَتْ
جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض بعد خروج تمام الروح منها (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ) القانع الذي يقنع بما يعطى ، والمعترّ الذي يعترض بسؤال أو
بدونه. (كَذلِكَ) أي الأمر كما وصفنا (سَخَّرْناها لَكُمْ) ذلّلناها لكم بخلاف السباع الممتنعة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمنا.
٣٧ ـ (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا
دِماؤُها ...) أي لن تصعد إليه اللّحوم ولا الدّماء (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يصعد إليه من هو من لازم عملكم هذا وهو التقوى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) تقدم ذكره ، (لِتُكَبِّرُوا اللهَ
عَلى ما هَداكُمْ) أي أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. وقيل المراد بالتكبير
هو ما يكون في أيام التشريق : الله أكبر على ما هدانا. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي الموحدين.
٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا ...) يدفع غائلة المشركين عنهم بأن يمنعهم عنهم وينصرهم عليهم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ) وهم الذين خانوا الله بجعلهم شريكا له وجحدوا نعمه.
٣٩ ـ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...) إلخ أي رخّص للمؤمنين أن يقاتلوا المشركين بسبب مظلوميتهم
من قبل المشركين وسينصرهم الله عليهم. والقراءة الشائعة (يُقاتَلُونَ) بفتح التاء مبنيا للمفعول ، والباء في (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) للسببية وفيه تعليل الإذن في القتال ، وأما ما هو الظلم
فتفسيره قوله :
٤٠ ـ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
...) إلخ. يعني ما كان موجب لإخراجهم من مكة بعد أن اضطروا بسبب
الإيذاء سوى التوحيد الملازم للإقرار بالرّبوبيّة. وفيه إشارة إلى أن المشركين
انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل : ربنا الله ، وهو
كلمة الحق ، يبيح لهم أن يخرجوه من داره. وتوصيف الذين آمنوا بهذا الوصف ـ كونهم
مخرجين من ديارهم ـ وهو وصف بعضهم وهم المهاجرون ، من باب توصيف الكل بوصف البعض
بعناية الاتحاد والائتلاف فإن المؤمنين إخوة وهم يد واحدة على من سواهم. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بنصر المؤمنين على الكفار (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) جمع صومعة وهي معبد الرّهبان (وَبِيَعٌ) جمع بيعة وهي معابد النّصارى (وَصَلَواتٌ) أي معابد اليهود (وَمَساجِدُ) وهي معابد المسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة للأربع أو للمساجد فقط ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على النّصر (عَزِيزٌ) لا يغلب. وفي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من
فروع هذه السنّة الفطرية الجارية وهي دفع الناس بعضهم بعضا عن شؤون حياتهم ، وإذا
نسب إلى الله كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضياع.
٤١ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ ...) إلخ بدل (مَنْ يَنْصُرُهُ) أو وصف للذين أخرجوا. ومعنى التمكّن في الأرض هو إعطاء
السلطان والقدرة عليها (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) أي تصير إليه بلا منازع.
٤٢ إلى ٤٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ ...) إلخ وإن يكذبك قومك يا محمد فقد كذبت كل أمة من هذه الأمم
نبيها وهذه الآيات الكريمات تسلية للنّبي (ص). (وَكُذِّبَ مُوسى) تغيير النظم وإيراد الفعل مجهولا للإشارة بأن المكذّبين
لموسى ما كانوا من قومه وأنّ المكذّبين له هم القبطيّون. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالانتقام منهم في الدنيا والآخرة.
٤٥ ـ (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ...) أي خالية من أهلها ساقطة حيطانها على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي متروكة بموت أهلها وقيل : الإمام الصامت. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي رفيع مجصص
تداعي الخراب بهلاك أهله. وقيل : هو الإمام الناطق.
٤٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ ...) هذا حثّ لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا
بعد ما يدركوا أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله وإعراضهم عن آياته
واستكبارهم على الحق بتكذيب الرسل ، فيردعه كل ذلك عن أن يحذو حذوهم ويسلك طريقهم.
(فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي ما يجب أن يعقل (أَوْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها) أي ما يجب أن يسمع (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي أن العيون لا تعمى لأنه ليس في مشاعرهم خلل ولا عيب ،
ولكن تعمى البصائر عن مشاهدة العبر فالعمى الحقيقي هو عمى القلب.
٤٧ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) الموعود به ، ولا يخفى أن استعجالهم كان استهزاء برسول
الله (ص) (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) والحال أنه تعالى يمتنع الخلف في وعده بإنزال العذاب. قيل
: يعني يوم بدر. (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ) أي يوما من أيام العذاب في الآخرة (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ممّا تحسبون في الدنيا. وتضمن هذا حكما بتساوي اليوم
الواحد والألف سنة عند الله تعالى ، فلا يستقل هذا ولا يستكثر ذاك حتى يتأثر من
قصر اليوم الواحد وطول الألف سنة ، فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب ، بل هو
حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدّر لهم من أجل
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ولذلك عقّب الكلام بقوله سبحانه :
٤٨ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ
لَها ...) أي كم من قرية أمهلتها كما أمهلتهم الآن (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مستحقة للعقاب بكفرها (ثُمَّ أَخَذْتُها) أهلكتها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع. وفيه بيان وجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما
كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.
٤٩ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما
أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) قل يا محمد للناس أنا مخوّف لكم من عذاب الله إن كفرتم به
وعصيتموه.
٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) لطاعتهم الله سبحانه. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو نعيم الجنّة.
٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ ...) أي الذين بذلوا طاقتهم في إبطال دلائلنا وحججنا. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) هم أهل النار الملازمون لأسفل دركات جهنّم.
٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...) أي لم نرسل قبلك يا محمد رسولا ولا نبيا (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) تلا ما أوحينا به إليه من تمنّى الكتاب : أي قرأه وتلاه. (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أدخل في تلاوته ما يوهم أنّه من جملة الوحي والإلقاء في
الأمنية : المداخلة فيها بما يخرجها عن صفائها ويفسد أمرها. (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي
الشَّيْطانُ) أي يزيله ويبطله بظهور حججه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ) يثبتها ويقرّها كما نزلت من عنده. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ليصير إلقاء الشيطان امتحانا واختبارا لمرضى القلوب
ومزعزعي العقيدة (وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) المتحجّرة التي لا يلجها ذكر الله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ
بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحقّ.
٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) أي ليعرف الذين منحوا المعرفة بتوحيد الله وبمنهج الحق
وطريق الصواب ، أن هذا القرآن حق من ربك يا محمد لا يجوز عليه التبديل والتحريف. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) يصدّقوا به (فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ) تخشع وتطمئن للقرآن أو لله. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق واضح لا عوج فيه وهو الإسلام.
٥٥ ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ ...) أي في شك من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً) إلى أن يجيء يوم القيامة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أو يجيئهم عذاب يوم القيامة الذي يسمّى عقيما لأنه لا مثيل
له في الشدة. أو لأنه لا يخلف يوما بعده.
٥٦ و ٥٧ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ ...) ففي يوم القيامة لا يملك أحد سواه شيئا لأن الحكم من فروع
الملك فإذا لم يكن لأحد يومئذ نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم. ويومها يفصل
بين المؤمنين والكافرين (فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يتنعّمون بعطاياه السنيّة خالدين فيها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بنا وبالرّسل (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) أنكروا دلائلنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) عذاب يهانون فيه ويحتقرون.
٥٨ و ٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ...) أي الذين فارقوا أوطانهم ثم قتلوا في الجهاد أو ماتوا في
ديار هجرتهم أو في الطريق وإنما قيد الهجرة بكونها في سبيل الله ، لأن المثوبة
إنما تترتب على صالح العمل ، وإنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه
وكونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية ،
وبذلك يقيد أيضا قوله : ثم قتلوا أو ماتوا : أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا وقد
اغتربوا في سبيله. (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) وهو الجنة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ) بل لا رازق سواه بالحقيقة لأنه هو مسبّب الأسباب للحصول
على رزقه (لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ليدخلنّهم الجنّة التي يرضونها ويحبّونها (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بأحوال الكفار وغيرهم ويمهل الكافر ويلطف بالمؤمن.
٦٠ ـ (ذلِكَ ...) أي أمر الله ذلك الذي ذكرنا (وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي جازى من ظلمه بمثل ما ظلمه به وإنما سميت المجازاة
عقابا لأنها تأتي بعد الفعل. (ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ) أي عاوده الظالم بالظلم (لَيَنْصُرَنَّهُ
اللهُ) يعني المظلوم الذي بغي عليه (إِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمنتصر. وفيه إيحاء بأن العقاب وإيصال المكروه إلى الناس
مبغوض في نظام الحياة ، غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية ويستر على
أثره السيّئ إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه ، فيجيز
له ذلك ولا يمنعه بالتحريم والحظر.
٦١ ـ (ذلِكَ ...) أي المذكور من النّصر الإلهي للمظلوم على الباغي (بِأَنَّ اللهَ) أي بسبب أنه تعالى قادر على أن (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل كلّا منهما في الآخر بنقصان زمان كل واحد وزيادته
على الآخر (وَأَنَّ اللهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ) مر معناه.
٦٢ ـ (ذلِكَ ...) أي اتّصافه بكمال القدرة والعلم (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بسبب أنه تعالى هو الثابت في نفسه والواجب بذاته لذاته (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها (هُوَ الْباطِلُ) أي ما يعبدونه من الأصنام هو زائل وزاهق (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) فهو في ذاته أعلى ممّن سواه وفي سلطانه أكبر ممّا عداه.
فعلوّه تعالى بحيث يعلو ولا يعلى عليه وكبره سبحانه بحيث لا يصغر لشيء بالهوان
والمذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال وموجودا لا يمسه عدم.
٦٣ و ٦٤ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ ...) هذه الشريفة والآيات الثلاث بعدها جرت في بيان قدرته
الكاملة وحكمته التامة فهو جلّت قدرته (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) فصارت الأرض (مُخْضَرَّةً إِنَّ
اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) بالأعشاب والنباتات والأشجار ، (لَهُ) وهو مالك (ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ) وهو (الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) المحمود في كل شأنه.
٦٥ و ٦٦ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ
ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ
السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ...) أي آخر الآيات الثلاث فتدمّرها رأفة منه بعباده ولطفا بهم
، كما أنه تعالى هو المحيي المميت المعيد بعد الموت ، وهذه الحياة ثم الموت ثم
الحياة من النعم الإلهية العظيم احتم بها الامتنان ، وسياق الماضي في (أَحْياكُمْ) يدل على أن المراد به الحياة الدنيا ، وأهمية المعاد
بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية. ولكنّ
الإنسان (لَكَفُورٌ) جحود بهذه النّعم التي منحه الله سبحانه إياها.
٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً
هُمْ ناسِكُوهُ ...) أي قرّرنا لكل قرن ممن مضى شريعة هم عاملون بها. فالمنسك :
مصدر ميمي بمعنى النسك وهو العبادة ، وليس اسم مكان كما احتمله بعضهم. والمراد بكل
أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم
المختلفة الموجودة في زمانه (ص) كالعرب والعجم والروم لوحدة الشريعة وعموم النبوة.
(فَلا يُنازِعُنَّكَ
فِي الْأَمْرِ) فلا يجوز لهم أن يجادلوك في أمر الدّين وأحكامه لأنّ الله
وحده يملك حق التشريع ، رفعا ووضعا (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى توحيده ودينه (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً
مُسْتَقِيمٍ) أي أنت على دين واضح لا عوج فيه ولا خلل. ووصف الهدى
بالاستقامة من المجاز العقلي.
٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ ...) أي إذا ناقشوك في أي حكم من أحكام الدين (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعرف حالكم ويجازيكم بأعمالكم. وفيه تمهيد وتوطئة إلى
إرجاعهم إلى حكم الله سبحانه ولذلك قال :
٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ ...) إلخ أي هو سبحانه يفعل يوم القيامة فيما اختلفتم به من أمر
الدّين.
٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ ...) إلخ هذه الكريمة تسليمة للنبيّ لأنه يعرف أن الله علمه
محيط بعجائب العلويّات وغرائب السّفليّات وليس شيء يخفى عليه ، (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي العلم بجميع الأشياء مثبت في اللوح المحفوظ. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إثباته في اللوح المحفوظ أمر سهل لا يحتاج إلى معالجة
بأدوات كتابة بل يتم بقوله كن.
٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلخ. أي يخضعون للأصنام ونحوها من غير علم ضروري بجواز
عبادتهم ولا استدلاليّ عقليّ ، ولا نقليّ بل عن جهل وتقليد (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ليس للمشركين من يدفع العذاب عنهم لا في الدنيا ولا في
الآخرة.
٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت عليهم حججنا واضحات الدّلالة على دعاوى رسلنا
وأنبيائنا ترى في وجوه الكافرين (الْمُنْكَرَ) الإنكار أي أثره من العبوس والاشمئزاز (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يبطشون والسطوة : كما عن الطبرسي : إظهار الحال الهائلة
للإخافة. (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي من غيظكم على التّالين لآياتنا (النَّارُ) أي هو النار.
٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...) أي سماع تدبّر وتفكّر والمثل هو الوصف الذي يمثل الشيء في
حاله سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال المشتملة على تحاور الحيوانات
أو الجمادات أو غيرها. (إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إن الأصنام التي تعبدونها (لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي ليسوا بقادرين على خلق ذباب مع صغر حجمه وحقارته وإن
تعاونوا جميعا على ذلك. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لو سلب الذباب مما على آلهتهم التي يعبدونها من الطّيب
والعسل الذي كانوا يلطخونها به لا تستطيع تلك الآلهة استرجاعه منه. (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي الذباب والأصنام. وفي هذه الجملة بيان غاية ضعفهم ،
فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من المخلوقات التي فيها شيء من الشعور
والقدرة.
٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته وما نزّلوه المنزلة التي يستحقها
وما عاملوه بما يليق به حيث جعلوا الأصنام شركاء له وفيه إشارة إلى عدم التزامهم
بربوبيته وإعراضهم عن عبادته. (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر وغالب وليس شيء يغلبه.
٧٥ و ٧٦ ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...) فهو وحده سبحانه يختار من بين ملائكته رسلا يحملون الوحي
إلى من يختارهم من بين الناس رسلا للبشر ، وهو (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ) مر معناه. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فعلوه سابقا وما سيفعلونه آتيا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ) تعود (الْأُمُورُ) كلّها يوم القيامة فيحكم فيها ويجازي عليها.
٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. خطاب منه تعالى للمؤمنين اعتناء بهم ليركعوا له
ويسجدوا إجلالا لعظمته ، وليعبدوا خالقهم من أجل أن يكونوا من الناجحين الفائزين
بمرضاته.
٧٨ ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ...) قيل : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى عن
الرياء والسمعة وغيرهما في أي جهة من جهات الجهاد للعدو كان أو للنفس وهذا نضير
تقوى الله حق تقاته. (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي أنه تعالى لم يضيق عليكم أمر الدّين ولم يكلّفكم ما لا
تطيقونه. وهذا امتنان منه تعالى على المؤمنين ، بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة
الدين من عند أنفسهم وبحولهم غير أن الله منّ عليهم فوقهم لدينه ورفع عنهم كل حرج
فيه فهو دين السماحة واليسر. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ) أي دينه لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد (ص) وإنما
سمّاه أبا للجميع لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على الولد فالغالب عليهم
أنهم أولاده (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي إبراهيم (ع) إشارة لدعائه (ع) (ومن ذريتنا أمة مسلمة)
قبل نزول القرآن (وَفِي هذا) وفي هذا القرآن خاصة. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ) : ليكون محمد يوم القيامة شاهدا عليكم بطاعتكم أو بعصيانكم
(وَتَكُونُوا) بشهادته (ص) لكم بالإيمان والطاعة أيّها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) إلخ بتبليغ رسلهم إليهم فحافظوا على صلاتكم وأدوا زكاتكم (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسّكوا بدينه (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولّي أموركم ، وهو (فَنِعْمَ الْمَوْلى) لمن تولاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن استنصره بلوغ الفوز في الدارين. والحمد لله وحده.
سورة المؤمنون
مكية ، عدد آياتها ١١٨ آية
١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) الفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما
طلبوا. والفلاح ـ كما عن الراغب ـ ضربان : دنيوي وأخروي ، فالدنيوي الظفر
بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز. والأخروي أربعة
أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، ولذلك قيل :
لا عيش إلا عيش الآخرة.
٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خاشِعُونَ ...) أي خاضعون متذللون متوجهون بقلوبهم وعقولهم وأجسادهم إليه
وحده.
٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ ...) اللغو كلّ قول أو فعل ساقط لا فائدة مرجوّة منه وحقه أن
يلغى ويدخل فيه الغناء والملاهي ، فالمؤمنون منصرفون عن كل ذلك.
٤ و ٥ و ٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ
...) أي مؤدون بشرائطها. (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) يحفظون أنفسهم من تعاطي الزّنا والمحرّمات الجنسية ولا
يأتون سوى أزواجهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي الإماء التي يملكونها بالحلال ، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يؤاخذون في ذلك لأنه مما أحلّه الله تعالى لهم.
٧ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ ...) ومن قصد غير من ذكر من النكاح المحلل (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتجاوزون لحدود الله.
٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي حافظون لأمانات الله وأمانات العباد وافون بعهودهم
وعقودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس.
٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ
يُحافِظُونَ ...) بإقامتها مع المحافظة على أوقاتها وحدودها المعيّنة.
١٠ و ١١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ
...) إلخ. أي أن الموصوفين في الآيات السابقة الذين أفلحوا في
أعمالهم يفوزون بإرث الفردوس التي هي أعلى مراتب الجنة. وما ذكر من أوصاف للمؤمنين
هنا ـ عند التأمل فيها ـ هي ملازمة لكون وصف الإيمان ليس معنى جامدا وإنما هو حي
فعّال متحرك يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب وهو الفلاح.
إذ أن هذه الأوصاف كلها إنما هي أوصاف عملية تتداخل وتتفاعل لتنتج في الخارج شخصية
إيجابية على الصعيدين الفردي والاجتماعي. وأما وراثة المؤمنين للفردوس فقد ورد في بعض
الأخبار أن لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فإذا مات ودخل النار ورث
أهل الجنة منزله.
١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) أي هذا النوع من الحيوان أو المراد آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي صفوة سلّت من الطين. وقيل : إن المراد بالطين آدم (ع)
لأنه كان في بدء أمره طينا.
١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ...) أي جعلنا الإنسان قطرة من الماء الصافي يقذفه الرجل من
صلبه (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مستقر حصين وهو الرحم.
١٤ و ١٥ و ١٦ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
...) أي قطعة دم جامد ، و (مُضْغَةً) قطعة لحم كأنّه ممضّغ (فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً) جعلناها صلبة قوية (فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً) أي من بقايا المضغة ، أو لحما جديدا. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي نفخنا فيه من روحنا فصار إنسانا كاملا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تعالى الله ودام خيره وثبت وتقدس.
١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ ...) أي سبع سماوات ، جميع طريقة ، لأنها طرق الملائكة على ما
قيل. (وَما كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ) أي المخلوقات جميعا لم نكن (غافِلِينَ) أي تاركين تدبيرهم.
١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ ...) أي بمقدار يوافق المصلحة ، ويقتضيه التدبير التام الإلهي
لا يزيد قطرة على ما قدّر ولا ينقص. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ) أي أثبتناه فيها مددا للينابيع والآبار (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي إذهابه وإفنائه. ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات ولفنيت
النباتات.
١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ...) أي أوجدنا بهذا الماء بساتين مما ذكرنا لمنافعكم أيها
الناس (لَكُمْ فِيها
فَواكِهُ) إلخ أي في الجنات الفواكه الكثيرة من أصناف مختلفة تتفكهون
بها وتأكلون.
٢٠ ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْناءَ ...) أي وانشأنا لكم بذلك المطر شجر الزيتون ، وسيناء اسم
المكان الذي فيه جبل الطور. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي تنبت تلك الشجرة المباركة بالشيء الجامع بين كونه دهنا
يدهن وسرج به ويوقد منه وكونه صغبا أي أداما ، فإن به يصبغ الخبز أي يغمس فيه
ويؤكل. وإنما خص شجرة الزيتون لعظيم منافعها وعجيب أمرها. وقد ورد في الخبر ، عنه (ص):
الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادّهنوا.
٢١ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً ...) أي فيها دلالة تستدلون بها على قدرة الله (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان (وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من ظهورها وأصوافها وشعورها وأوبارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من لحومها وأولادها.
٢٢ ـ (وَعَلَيْها ...) أي على بعضها أي الإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي الإبل والسفن تحملكم في البرّ والبحر.
٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ...) إلخ. أي من المرسلين في الأمم الماضية هو نوح ، فدعا قومه
إلى عبادة الله وإلى توحيده وخوّفهم بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن
يهلككم الله بكفركم به.
٢٤ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ...) قال الجماعة الكافرون من قومه ما هذا إشارة إلى نوح (ع) (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هو إنسان مثلكم (يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يريد أن يترأس عليكم ويؤيد ذلك أنه يدعوكم إلى اتباعه
وطاعته (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا (لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) من عنده يبلّغون الناس رسالته (ما سَمِعْنا بِهذا) بمثل ما يدعونا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فيمن سبقنا من الأمم.
٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
...) ما نوح إلا رجل اعتراه جنون فقال ما قال. ويحتمل أن المراد
بالجنّة : مفرد الجن ، أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله
العقل السليم ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله. (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا به (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت ما ، فيفيق من جنونه أو يموت.
٢٦ و ٢٧ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ
...) بعد هذا العناد الشديد من قومه ، دعا نوح ربّه أن ينصره
على قومه بسبب تكذيبهم إياه (فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ) أنزلنا عليه وحيا من عندنا (أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ابدأ بصناعة السفينة مقدّمة لإهلاك قومك بمنظر ومرأىّ منا (وَوَحْيِنا) بتعليمنا كيف تصنع (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بنزول العذاب (وَفارَ التَّنُّورُ) أي أن العلامة بيني وبينك بزمان نزول العذاب هو فوران
الماء ونبعه من التنّور. فإذا رأيت الماء يفور منه (فَاسْلُكْ فِيها) أي فأدخل فيها (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى. (وَأَهْلَكَ إِلَّا ...) إلخ مر تفسيره في سورة هود (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي تأكيد بالدّعاء بإنجائهم (إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ) أي هالكون.
٢٨ و ٢٩ ـ (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ
مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ...) يعني إذا صعدت ومن حملت إلى السفينة ، واستقرّيتم عليها (فَقُلِ) داعيا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الحمد لله الذي خلصنا من القوم الذين ظلمونا بسخريتهم
وظلموا أنفسهم بكفرهم. (وَقُلْ رَبِّ
أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) إلخ أي أدع بذلك حين نزولك. وقيل المنزل المبارك هو
السفينة لأنها سبب النجاة ، وقيل المكان المبارك بالمياه والشجر وكثرة النعم. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لأنه لا أحد غيره يقدر على أن يحفظ أحدا أنزله منزلا من
جميع الآفات.
٣٠ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ...) أي في إغراق قوم نوح ونجاته وأهله ، إلّا من سبق عليه
القول بإهلاكه ونجاة المؤمنين به (لَآياتٍ) دلالات لأهل العبرة (وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ) أي : وإن كنا لمختبرين قوم نوح بإرساله إليهم ومتعبدين
عبادنا المؤمنين بالاستدلال بتلك الآيات على قدرتنا.
٣١ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ ...) أي أوجدنا بعد إهلاك قوم نوح (قَرْناً آخَرِينَ) قوما غيرهم وهم عاد وثمود ، وقيل هم عاد فقط.
٣٢ ـ (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ
...) أي بعثنا رسولا منهم : بشرا ، هو هود يأمرهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ...) واضح المعنى وقد مر.
٣٣ و ٣٤ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا ...) إلخ قال الكافرون من قومه من منكري البعث (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) وكنّا قد أنعمنا عليهم في حياتهم. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) مرّ تفسيره (يَأْكُلُ مِمَّا
تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من الطعام (وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) ولا يمتاز عنكم بشيء (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يدعوكم إليه (إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ) لا تصيبون ربحا بذلك.
٣٥ و ٣٦ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ
وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً ...) أي هذا الذي يدّعي النبوّة يقول لكم أنكم تعدون بعد أن
تموتوا وتصيروا ترابا وعظاما بالية (أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ) تبعثون أحياء من قبوركم في دار الحياة؟ ... (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي : بعدا بعدا لما يقوله ومن المحال فيما يعدكم ليوم
البعث.
٣٧ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
...) إلخ أي ما هي إلّا هذه الحياة التي يموت قوم منا فيها
ويحيا آخرون (وَما نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ) ولسنا بمعادين بعد الموت.
٣٨ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى ...) إلخ أي ليس هود سوى رجل اختلق كذبا على الله (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ولسنا بمصدّقين ما اختلقه.
٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ
...) مرّ تفسيرها قريبا (قالَ) الله تعالى له مجيبا دعاءه : (عَمَّا قَلِيلٍ) بعد فترة بسيطة (لَيُصْبِحُنَّ
نادِمِينَ) ليصيرنّ نادمين على تكذيبك.
٤١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ...) صاح بهم جبرائيل صيحة واحدة هائلة أهلكتهم جميعا (بِالْحَقِ) بالحكم العدل من عند الله لأنهم كانوا مستحقّين لها. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الغثاء : اليابس الهامد من نبات الأرض. أي جعلناهم هلكى
كالغثاء. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) أي بعدوا بعدا من رحمة الله.
٤٢ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُوناً آخَرِينَ ...) مرّ تفسيرها وهي تعني قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
٤٣ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يسبق وقت هلاكها الأجل المعيّن له ولا يتأخر عنه.
٤٤ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ...) أي متتالية واحدا بعد واحد ، (كُلَّ ما جاءَ
أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) فلم يصدّقوا قوله (فَأَتْبَعْنا
بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي أهلكنا بعضهم إثر بعض. (وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) إلخ فما أبقينا منهم أثرا إلّا حديث الناس عنهم.
٤٥ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ
هارُونَ ...) أي بعثناهما (بِآياتِنا) بمعجزاتنا التسع المشهورات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة ملزمة للخصم.
٤٦ ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ...) الملأ أشراف القوم وعليتهم (فَاسْتَكْبَرُوا) تجبروا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً
عالِينَ) أي أرباب علوّ وقهر واستيلاء.
٤٧ ـ (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنا ...) فقال آل فرعون مثلما قال من سبقهم : هل نؤمن لإنسانين
مثلنا وليسا من الملائكة (وَقَوْمُهُما لَنا
عابِدُونَ) أي يطيعوننا طاعة العبد لمولاه ويقصدون بني إسرائيل.
٤٨ ـ (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ ...) أي أن فرعون وقومه لم يصدقوا موسى وهارون فكانوا ممّن
قضينا عليهم بالغرق.
٤٩ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ...) أي : قد أنزلنا على موسى التوراة لكي يهتدوا بها إلى الحق.
٥٠ ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً ...) أي جعلناهما معجزة أظهرناها للنّاس بقدرتنا (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أسكنّاهما في أرض مرتفعة هي بيت المقدس ، أو هي دمشق أو
مصر (ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ) أي مستوية يستقرّ عليها والمراد بالمعين هو الماء الجاري
الصافي.
٥١ ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ ...) أي المستلذّات المباحات (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي الإتيان بالخير في سبيل الله والعمل بأوامره وترك
نواهيه.
٥٢ ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً ...) أي دينكم دين واحد وشريعة واحدة ومتوحدة على التوحيد (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي خالقكم ليس لكم ربّ سواي فلا تتفرّقوا عن عبادتي (فَاتَّقُونِ) فلذلك فخافوني.
٥٣ ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
زُبُراً ...) أي أنهم مع تلك الوصايا بوحدة الكلمة في أمر الدّين فإنّهم
جعلوا دينهم أديانا مختلفة وطوائف متنازعة ، وزيرا : أي قطعا قطعا ، (كُلُّ حِزْبٍ) كل فريق (بِما لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ) مسرورون راضون بما اتّخذوه دينا لأنفسهم.
٥٤ ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ ...) أي اتركهم يا محمد في جهلهم إلى وقت الموت أو العذاب بعد
حشرهم.
٥٥ و ٥٦ ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ ...) إلخ أي أيظن هؤلاء الكفّار أنّ ما نعطيهم ونزيدهم في
أموالهم وأولادهم إنما نعطيهم ثوابا ومجازاة لهم على أعمالهم ولرضائنا عنهم كلا
ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراج لهم وإملاء وابتلاء. (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكّروا في ذلك
أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات.
٥٧ و ٥٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ ...) أي من خوف عذاب (رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ) أي حذرون. (وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).
٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا
يُشْرِكُونَ ...) أي يوحّدونه ولا يجعلون له شريكا ...
٦٠ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ...) أي يعطون ما أعطوه من الصّدقات الواجبة والمندوبة أو أعمال
البرّ كلّها (وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ) خائفة أن لا يقبل منهم (أَنَّهُمْ إِلى
رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي لأن مرجعهم إليه فهو يعلم ما يخفى عنهم مما قد قصّروا
فيه أو لم يقبله منهم.
٦١ ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ
...) أي يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرون بها. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي وهم لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنّة.
٦٢ ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
...) يعني لا نلزمها إلا بما هو دون طاقتها من التكاليف. (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي صحيفة الأعمال أو اللوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يبيّن الحق ويشهد بالصّدق فيما كتب فيه من أعمال العباد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان الثواب أو بازدياد العقاب على مقدار استحقاقهم.
٦٣ ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا
...) والمعنى أن قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب
المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) سيّئة خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي سوى ما هم عليه من الشرك (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون على فعلها.
٦٤ ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ ...) أي إلى أن نأخذ متنعّميهم (بِالْعَذابِ) في الآخرة أو القتل ببدر أو الجوع (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يستغيثون.
٦٥ ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ...) أي لا تستغيثوا هذا اليوم وهو يوم القيامة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قيل لهم : لا تمنعون منّا أو لا يأتيكم نصر من ناحيتنا.
٦٦ ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
...) أي تقرأ (فَكُنْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تعرضون وترجعون القهقرى مكذبين.
٦٧ ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ...) أي بالقرآن أن تقبلوه (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تتحدثون في الليل بالطّعن في القرآن وبالرسول (ص).
٦٨ ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ...) أي القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدّلالات والعبر ويعلموا
أنّه الحق من ربّهم. (أَمْ جاءَهُمْ ما
لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) استفهام إنكاريّ ، أي جاءهم رسول وكتاب من عند الله كما
جاء أسلافهم من الأمم الماضية ، فلست بدعا من الرسل وليسوا بدعا من الأمم.
٦٩ ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ...) أي ألا يعرفونه بالصّدق والأمانة ومكارم الأخلاق وكمال
العلم مع عدم التعلّم ، وبشرف النّسب (فَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ) وهذا الاستفهام كما في السّابق للإنكار أي بل عرفوا جميع
ذلك فلا وجه لإنكارهم له (ص).
٧٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ...) أي أنه مجنون ، فلا يعتنون بقوله (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي بدين الحق المستقيم وهو الإسلام (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) حيث لم يوافق أهواءهم.
٧١ ـ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ
...) الحق هو الله سبحانه. والمعنى : لو جعل الله لنفسه شريكا
كما يهوون (لَفَسَدَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) وهذه الشريفة تفيد ما يستفاد من قوله سبحانه : لو كان
فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا ، ووجه الفساد هو التمانع والتزاحم. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بكتاب فيه وعظهم وعزهم لأن القرآن نزل بلغتهم والرسول
منهم. (فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي تاركون له وراء ظهورهم.
٧٢ ـ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ...) أي هل تسألهم يا محمد على ما جئتهم به أجرا. (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي فرزق ربك في الدنيا خير من خرجهم. وكذلك ثوابه الأخروي.
(وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) أي أفضل من أعطى.
٧٣ ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ ...) إلخ أي إلى دين الإسلام الذي لا عوج فيه.
٧٤ ـ (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ...) أي عادلون عن جادة الهدى متمايلون إلى تيه الضلالة فإن
الإيمان بالآخرة من أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.
٧٥ ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما
بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ...) أي لو رفعنا عنهم القحط الذي أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لداوموا على ضلالتهم وإفراطهم في كفرهم يترددون.
واللّجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه والعمه : التردد في الأمر
من الحيرة.
٧٦ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ...) أي القتل يوم بدر وقيل : الجدب الذي ابتلي به أهل مكة. وقد
ورد في بعض الروايات أن أبا سفيان جاء إلى النبي (ص) فقال : يا محمد : أنشدك الله
والرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله : ولقد أخذناهم بالعذاب ... (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما
يَتَضَرَّعُونَ) أي فما انقادوا لله وما يرغبون إليه بالدعاء.
٧٧ ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً
ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ...) أي نوعا آخر من العذاب ، يعني الجوع فإنه أشد من القتل
والأسر. أو المراد هو فتح مكة (إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون أو آيسون.
٧٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ...) أي خلق لكم هذه الحواس من لا شيء ، وخصّها بالذكر لأنها
وسائل المعرفة إذ أن الإنسان ينظر ويسمع ويتفكر فيعلم. والأفئدة جمع فؤاد وهو
القلب. (قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) أي لا تشكرون ولو شكرا قليلا.
٧٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ ...) أي أوجدكم فيها (وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي إليه تبعثون يوم القيامة ليجازيكم.
٨٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي اختلافهما بالازدياد والانتقاص فذلك يختص به تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي لم لا تتفكرون فتعلموا أن لذلك صانعا حكيما قادرا.
٨١ ـ (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ
الْأَوَّلُونَ ...) أي قلّد كفّار مكة آباءهم السابقين في مقالتهم الفاسدة التي
هي :
٨٢ ـ (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً ...) هل إذا متنا وصرنا ترابا وفنيت أجسادنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) إلى الحياة مرة أخرى. وهذا الكلام منهم مبني على الاستبعاد
لحصول البعث والمعاد.
٨٣ ـ (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا
مِنْ قَبْلُ ...) أي أن مسألة الوعد بالبعث والنشور أمر سمعناه وسمعه آباؤنا
من سائر الأنبياء قبلك يا محمد (إِنْ هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذه أكاذيب سطّرها السابقون من عندهم ، وهي مما لا حقيقة
له. إذ إن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوّفوننا بقيام الساعة ولو
كان حقا غير خرافي لوقع.
٨٤ و ٨٥ ـ (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ...) إلخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين لمن خلق الأرض وملكها
ومن فيها من العقلاء سيجيبوك بأن كل ذلك لله فقل لهم عندئذ : أفلا تتفكرون فتعلمون
أن من قدر على ذلك قادر على أن يعيدكم أحياء بعد الموت فلم تنكرون البعث؟
٨٦ إلى ٨٧ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ
...) إلخ أي اسألهم يا محمد عن مدبّر السّماوات السّبع والعرش
وخالقهما فلا بدّ لهم من الاعتراف والقول بأنّه هو الله (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فلم لا تخافونه وتنكرون المعاد مع أن بدء الخلق ليس
بأهون من إعادته.
٨٨ و ٨٩ ـ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ ...) الملكوت هنا هي الخزائن أي من بيد قدرته خزائن الدّنيا
والآخرة (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يؤمّن من عذابه من شاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي ليس لأحد أن يؤمّن أحدا من عذابه تعالى إلا بمشيئته ...
(إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) إلخ تدركون ولن تقولوا إلّا أن الله تعالى يملكه (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فكيف يتلبّس عليكم الحق فتتخيلونه باطلا؟.
٩٠ ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ...) أي نحن جئناهم بالحقّ وبيّنا لهم الحق ولكنهم أصروا على
كذبهم وباطلهم.
٩١ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ...) أي لم يتبنّ أحدا ، لا المسيح ولا عزير ولا الملائكة إذ
كون ولد له ممتنع في حقه سبحانه لأنه الواجب الوجود لذاته. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) لتقدسه عمّن يساهمه في الألوهيّة (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) مفادها ، مفاد قوله : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا.
وقد تقدّم شرحها. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) أي ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته كما هو شأن الملوك (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من نسبة اتخاذ الولد إليه والشريك له تعالى.
٩٢ ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عالم بما غاب وبما حضر (فَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) أي تنزّه عن إشراكهم في علمه وقدرته وألوهيته.
٩٣ و ٩٤ ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما
يُوعَدُونَ ...) أي إن كان ولا بدّ من أن تريني ما تعدهم من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) فلا تعذبني معهم.
٩٥ ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما
نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ...) أي نحن قادرون على أن نريك العقوبة التي وعدنا أن نعاقبهم
بها ، لكن التأخير لمصلحة وحكمة اقتضته.
٩٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ ...) أي ادفع بالإغضاء والصّفح عن إساءة المسيء. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي بما يصفونك به من السحر والشعر والجنون. أو ما يصفوننا
مما لا يليق بساحة قدسنا من الشريك والولد.
٩٧ و ٩٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ...) أي قل على وجه الابتهال رب أعتصم بك. (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي من وساوسهم (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ
أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يقاربوني في شيء من الأحوال.
٩٩ و ١٠٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
قالَ ...) كلمة (حَتَّى) متعلقة ب (يَصِفُونَ) أي أن الكفّار يبقون على سوء ما هم عليه حتى يجيء إليهم
الموت فيقول أحدهم (رَبِّ ارْجِعُونِ) مخاطبا الملائكة أو مستغيثا بالله (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي عملا صالحا (فِيما تَرَكْتُ) من الطاعات (كَلَّا) كلمة ردع عن طلب الرجعة ، أي لا سبيل إلى إرجاعك. (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي هو مجرّد لفظ لا حقيقة تترتّب عليه قاله لفرط تحسّره. (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) ومن بين أيديهم حاجز بين الموت والبعث من القبور في
القيامة.
١٠١ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ...) أي فإذا نفخ إسرافيل في القرن المعدّ إيذانا بيوم البعث
فلا تنفعهم الأنساب بالتّعاطف والتراحم في ذلك اليوم. (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي يومئذ لا يسأل أحد أحدا عن حاله ومجاري أموره كما كان الحال
بينهم في الدنيا وذلك من فرط الحيرة واستيلاء الدّهشة.
١٠٢ و ١٠٣ و ١٠٤ ـ
(فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ...) أي من رجحت موزونات أعماله الحسنة المبنيّة على عقائده
الصحيحة ، فهو من الفائزين (وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ) لخلوّها من العمل الصالح أو لرجحان السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) غبنوها بإبطال أوقاتهم وأعمارهم في الدنيا فلم ينتفعوا بها
(فِي جَهَنَّمَ
خالِدُونَ) باقون في عذابها دائما (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرقها أشد حرق بلهبها وهم عابسون.
١٠٥ ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ...) أي ألم تكن تقرأ عليكم آياتي في القرآن أو حججي على أيدي
أنبيائكم فكنتم بها تجحدون؟
١٠٦ ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا
شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ...) والمعنى : استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاوة
وكنا قوما ذاهبين عن الحق.
١٠٧ ـ (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ
عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ...) أي يقولون : ربنا أخرجنا من النار فإن رجعنا إلى الكفر
والمعاصي نكون ظالمين لأنفسنا. وقيل هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار.
١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ و
١١١ ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ ...) أي اسكتوا ممقوتين خائبين مخيّبين. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) المؤمنين بي (يَقُولُونَ رَبَّنا
آمَنَّا) صدّقنا بكلماتك (فَاغْفِرْ لَنا) تجاوز عن ذنوبنا (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أرأف بنا فإنك أحرم من كل رحيم. وكان هذا دعاؤهم في الدنيا
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) جعلتم هؤلاء المؤمنين (سِخْرِيًّا) هزأتم بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي) وقد نسب الإنساء إلى المؤمنين وإن لم يفعلوا لأنهم كانوا
السبب في ذلك ، فمن فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم نسيتم ذكري وكذّبتم بهذا اليوم. (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم. (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) إلخ بصبرهم على أذيّتكم لهم (أَنَّهُمْ هُمُ
الْفائِزُونَ) الظافرون بالجنة يوم القيامة.
١١٢ و ١١٣ ـ (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ ...) السائل هو الله تعالى ، أو الملك المأمور بالسؤال للكفار
في يوم البعث. كم بقيتم في قبوركم أو فيها وفي حياتكم الدنيا وهذا سؤال توبيخ
واستهزاء لمنكري البعث والحساب. (قالُوا) بفشل وخيبة : (لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا ينكرون الآخرة وانحصر اللبث في الدنيا
فاستقبلوا حياتهم في الدنيا أو فيها وفي القبور لطول مكثهم في النار. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعنون الحفظة الذين يحصون أعمال العباد.
١١٤ ـ (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً
...) هذا القول منه تعالى تصديق وتوبيخ لهم في كون مكثهم في
الدنيا يسير بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنم. (لَوْ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسبة الدنيا كلها في جنب الآخرة وخلودكم في النار.
١١٥ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً ...) أي هل ظننتم أيها الجاحدون للبعث أننا خلقناكم لا لحكمة بل
للهو (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا
لا تُرْجَعُونَ) لمجازاة الأعمال؟.
١١٦ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ...) إلخ أي الذي يحق له الملك تسامى عما يصفه به الجاهلون من
الشريك والولد ، إذ لا إله غيره. (رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ) أي خالق السّرير الأعظم.
١١٧ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ...) أي لا حجة له فيما يدّعيه لأن الباطل لا برهان له ، (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) إلخ أي فإن معرفة مقدار ما يستحقه من العذاب مختصة بالله ،
إنه لا يظفر الجاحدون للبعث بخير.
١١٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ...) إلخ وقل يا محمد رب اغفر الذنوب وأنعم على خلقك وأنت أفضل
المنعمين وأوسعهم رحمة.
سورة النور
مدنية ، عدد آياتها ٦٤ آية
١ ـ (سُورَةٌ ...) أي هذه قطعة من القرآن (أَنْزَلْناها) من عالم القدس إليك (وَفَرَضْناها) أوجبنا العمل بأحكامها (وَأَنْزَلْنا فِيها
آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالة على وحدانيّتنا أو الحدود والأحكام (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا فتعلموا بما فيها فتعملوا.
٢ ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ...) أي من زنت من النّساء وزنى من الرّجال. (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا حكم الأعزب غير المحصن أمّا المحصن فحدّه الرجم
بالحجارة. (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي رحمة في حكمه فتعطّلون حدّه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي أن الإيمان يقتضي الحدّ في طاعة الله والاجتهاد في
إقامة أحكامه. (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وليحضر حين إقامة حد الجلد على الزانية والزاني
المحصنين جماعة من المؤمنين وهم ثلاثة فصاعدا.
٣ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
...) إلخ معناها أنّ الزنا لا يرغب فيه الصّلحاء غالبا وإنما
يرغب الإنسان بمشاكله ومماثله. (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صرفت الرغبة بالزنا عن المؤمنين. والتحريم هنا تنزيهيّ
، فقد نزّههم الله تبارك وتعالى عن إتيان الزنا.
٤ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) أي يقذفون العفائف بالزنا ، (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إلخ عدول يشهدون على صحّة ما رموهنّ به من الزنا فعقوبتهم
الجلد كل واحد منهم ثمانون جلدة. (وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي في شيء قبل الجلد وبعده أبدا ما لم يتب (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بفعل هذه الكبيرة.
٥ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ ...) أي عن القذف بأن يكذّبوا أنفسهم (وَأَصْلَحُوا) إلخ عملهم فإنّ الله يغفر لهم.
٦ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ
إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى : أن الذين ينسبون الزنا إلى زوجاتهم ولم يكن لهم
أربعة شهداء يشهدون لهم بصحة قولهم فلا بد لهم أن يشهدوا بالله أربع مرات مرة بعد
أخرى إنه لمن الصادقين.
٧ ـ (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ
عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ...) أي والشهادة الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين في شهادته عليها. وعندئذ يدرأ عنه حد القذف ويفرّق بينه وبين زوجته من
دون طلاق وتعتدّ. ثم إنّها إن كانت تريد أن تدفع الحدّ عن نفسها قد بيّنه سبحانه
بقوله :
٨ ـ (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ...) أي يدفع عنها الرّجم (أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) تقول أربع مرات مرة بعد أخرى : أشهد بالله إلخ.
٩ ـ (وَالْخامِسَةَ ...) أي تشهد شهادة خامسة (أَنَّ غَضَبَ اللهِ
عَلَيْها) أي عذابه عليّ (إِنْ كانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الزّنا. ثم يفرّق الحاكم بينهما ولا تحلّ
له أبدا.
١٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ ...) أي بالنّهي عن الزنا والفواحش ، وإقامة الحدود ورحمته من
يرجع عن المعاصي منكم (وَأَنَّ اللهَ
تَوَّابٌ) يقبل التوبة (حَكِيمٌ) فيما يحكم.
١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) أي بالكذب العظيم (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (لا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ) لا تظنّوا ذلك الإفك أمرا سيئا لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور ما نزل من القرآن في
براءة ساحتكم وتشديد الوعيد في من تكلّم بهذا الأمر (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب منه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تحمّل معظمه (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو عبد الله بن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه بين
الناس عداوة لرسول الله عند ما أشاع عن إحدى زوجات النبي (ص) بالفاحشة. (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا من جلده ووهنه ورد شهادته.
١٢ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...) إلخ. أي هلّا حينما سمعتم أيها المؤمنون بالإفك والكلام
الباطل أنكرتم ذلك؟ وكان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه وأن
لا يسرعوا إلى التهمة بل يشتغلون بحسن الذكر لمن عرفوا طهارته ولم يظنّوا به إلّا
خيرا لأنّه كأنفسهم.
١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ ...) يعني هؤلاء الأفكة إذا كانوا صادقين في قولهم لماذا لا
يجيئون على مدّعاهم ببيّنتهم ، بأربعة شهداء؟ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ) ولن يأتوا بهم أبدا (فَأُولئِكَ عِنْدَ
اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فلا بدّ من أن يجري عليهم حد القذف لأنهم كاذبون في حكم
الله.
١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) إلخ أي لو لا فضل الله عليكم في الدّنيا بأنواع النّعم
التي من جملتها الإمهال للتّوبة ، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة (لَمَسَّكُمْ) أصابكم (فِيما أَفَضْتُمْ
فِيهِ) أي خضتم فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) دائم.
١٥ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...) أي ينقله بعضكم عن بعض (وَتَقُولُونَ
بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) تحكون الخبر بلا حجّة ومن غير برهان (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي سهلا لا إثم فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيمٌ) في الإثم لأنه كذب وافتراء.
١٦ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
...) أي هلّا قلتم حينما سمعتم قول الإفك (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) لا يصحّ لنا حكايته وذكره لحرمة ذلك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك يا رب (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي الذي قالوه زور عظيم وزره.
١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ ...) أي ينهاكم الله أو يحرّم عليكم العود لمثله من الإفك (أَبَداً) طول أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله ورسوله.
١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ...) الدّالة على الشّرائع ومحاسن الآداب كي تتّعظوا وتتأدّبوا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ...) أي يفشو ويظهر الزنا والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة الحد ورد شهادتهم (وَالْآخِرَةِ) بالنّار. (وَاللهُ يَعْلَمُ) الضّمائر والمصالح والمفاسد (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك.
٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ...) أي لو لا فضله ورحمته لعاجلكم بالعقوبة أو ما زكى أحد منكم
وقد مر تفسير شبيهتها قبل آيات.
٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...) أي لا تتبعوا آثاره ومسالكه مما يؤدي إلى موالاته. وقيل
خطواته وساوسه. (وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يطيعه (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) تابعيه (بِالْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء هو ما أفرط في قبحه ، والمنكر ما أنكره الشرع
والعقل. (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ) أي ما طهر أحد منكم من دنس الذّنوب (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهّر بلطفه من هو أهل لذلك (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.
٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ ...) أي لا يحلف من الإيلاء أو لا يقصّر من ألى يألو (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) بالحسب والنّسب (وَالسَّعَةِ) في المال (أَنْ يُؤْتُوا) قال الذين يفسرون الائتلاء بمعنى الحلف : إن كلمة (لا) هنا محذوفة أي : لا يحلفون أن لا يؤتوا ، لأن لا تحذف في
اليمين كثيرا. وإن قلنا بأن الائتلاء من ألى يألو أي التقصير يكون المعنى : لا
يقصروا بإيتاء إلخ. (أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل : نزلت في جماعة من الصّحابة حلفوا ألّا يتصدّقوا على
من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا) أمرهم الله أن يعفو عما صدر عن الآفكين الآثمين وليصرفوا
أنفسهم عن الانتقام منهم. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي إذا فعلتم كان غفران الله ورحمته شاملين لكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ) : أي يقذفون العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش التي نسبت إليهنّ (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي أبعدوا من رحمة الله في الدارين. وقيل عذّبوا في الدنيا
برد شهادتهم وفي الآخرة بالنار.
٢٤ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ ...) إلخ بإنطاق الله هذه الجوارح ليعترفوا بما صدر عنها من
الأقوال والأفعال.
٢٥ ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ
دِينَهُمُ الْحَقَّ ...) أي يوم القيامة يتمم الله لهم جزاءهم المستحق (وَيَعْلَمُونَ) علما وجدانيا (أَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي هو الثابت بذاته الظاهر بألوهيته يبيّن لهم حقائق
الأمور.
٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) أي أن النسوة الخبيثات للرّجال الخبثاء وأن النسوة
الطاهرات للرجال الطاهرين وهكذا العكس بحكم انجذاب الطبع إلى ما يناسبه (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أن الطيبين والطيبات مبرأون مما يقال فيهم من الإفك
دليل ظاهره على أن المعنى الثاني هو المراد من الآية وقيل : إن الإشارة راجعة إلى
النبيّ (ص) وصفوان وعائشة ، أي أنهم مبرأون مما قيل. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي رزق لا نقص فيه ولا تعب لأنه كثير دائم.
٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) : أي لا ينبغي لكم الدخول في بيوت يسكنها غيركم (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا ، (وَتُسَلِّمُوا عَلى
أَهْلِها) بالتحيّة الإسلاميّة كقوله السّلام عليكم. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان والتّسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون مواعظ الله لتتأدّبوا بآدابه.
٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ...) يأذن لكم (فَلا تَدْخُلُوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي حتى يأذن لكم ربّ البيت في ذلك. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي إن طلب منكم الانصراف فانصرفوا بلا إلحاح منكم بالدخول
فهو أطهر لكم وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها.
٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ...) كالرّبط والحوانيت فيجوز لكم الدخول فيها بغير استئذان (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي للاستمتاع بها كالتحفظ من الحر والبرد إلخ. وربما قيل :
ـ كما في تفسير الميزان ـ إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي ، وهو الأثاث والأشياء
الموضوعة للبيع والشراء كما في بيوت التجارة والحوانيت ، فإنها مأذونة في دخولها
إذنا عاما ، ولا يخلو من بعد لقصور اللفظ. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي مطلع على سركم وجهركم ونواياكم.
٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ ...) عمّا يكون محرّما عليهم النظر إليه فإن النظر بريد الزنا. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) يستروها من النظر المحرّم وقيل : عمن لا يحل لهم وعن
الفواحش. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر وأنفع لهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما يَصْنَعُونَ) أي بما يصدر عن أبصارهم وفروجهم وجميع جوارحهم.
٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَّ ...) إلخ أمر النساء بما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج.
فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ويجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي
والأجنبية. (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحرم ومن هو في حكمه (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قيل : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم ، وقيل : هي الثياب. وقيل
: الوجه والكفان. (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) الخمر جمع خمار وهو الذي تستر المرأة به رأسها ورقبتها. أمرهن
سبحانه بإلقاء خمرهن على صدورهن تغطية لنحورهن. (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَ) الإبداء : هو الإظهار ، والمراد بزينتهن : مواضع الزينة.
كرّره مقدّمة لبيان من يحلّ له الإبداء ومن لا يحلّ ، ومن يحلّ هم الذين استثناهم
الله تعالى بقوله (إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَ) أي أزواجهن إلى قوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) الآية ، والمراد بقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فلا يتجرّدن للكافرات ، وقيل إن الأمة إذا
كانت مملوكة لا بأس أن تتجرّد السيّدة المالكة لها عندها ولو كانت كافرة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون الناس ويدخلون معهم
البيوت لفضل طعام أو ما يحتاجون إليه ، ولا حاجة لهم إلى النساء لهرم أو بله أو
جنون وأمثالهم (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أن الطفل إذا كان بحيث لم يعرف العورة ولم يميّزها
لقلّة سنّة وعدم بلوغه حدّ الوطء فلا بأس بتجرد المرأة عنده. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) إلخ على الأرض حين المشي ليتبين خلخالها أو تسمع قعقعته. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بسعادة الدارين.
٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ ...) إلخ أيامى جمع أيّم وهو الأعزب أي زوّجوا أيها المؤمنون من
لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم. وزوجوا أيضا المؤمنين المستورين من عبيدكم
والمؤمنات المستورات من إمائكم. (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إلخ أي إن لم يكن لديهم سعة مالية للتزوج فإن الله يوسّع
عليهم لو تزوجوا فإنه سبحانه واسع كريم.
٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ ...) أي لا بدّ من الجهد في تحصيل العفة وقمع الشهوة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يجد السبيل إلى أن يتزوج من المهر والنفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) أي من إحسانه وكرمه. (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي يطلبون المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) أي من مماليككم عبدا كان أو أمة فأجيبوهم إلى ما رغبوا (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي قدرة على اكتساب مال المكاتبة. وقيل رشدا. وقيل دينا
ومالا. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للسّادة بإعطائهم شيئا من أموالهم ومثله حطّ شيء من
مال المكاتبة. (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي إمائكم ، والبغاء هو الزّنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعفّفا (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) علة للإكراه ، أي من كسبهن أو بيع أولادهن. (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات لا للمكرهين لأن الوزر عليهم.
٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات في الأحكام والحدود (وَمَثَلاً) إلخ خبرا من أخبار من كان قبلكم ، لتعتبروا بها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي زجرا لهم عن المعاصي.
٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أنه سبحانه الهادي أهل السموات والأرض إلى ما فيه
صلاحهم في الدارين. (مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ) أي كوّة في الحائط (فِيها مِصْباحٌ) سراج (الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ) في قنديل زجاجيّ (الزُّجاجَةُ
كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) تضيء كأنّها الزّهرة في لمعانها (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع (زَيْتُونَةٍ) بدل من الشجرة. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) أي لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب بل هي في مكان تكون فيه
ضاحية للشمس باستمرار وبذلك يكون زيتها أصفى وأنفع. (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي قبل أن تمسّه النار لفرط صفائه وكثير لطافته (نُورٌ عَلى نُورٍ) متضاعف صفاؤه حيث انضمّ إلى نور المصباح ولمعان الزّجاجة
التي وضع فيها صفاء الزيت أيضا. (يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يرشده إلى هداه ويبيّن له الضلالة (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا للمعقولات إلى المحسوسات للأفهام ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مر معناه.
٣٦ ـ (فِي بُيُوتٍ ...) الجارّ متعلق بما قبله وهو المشكاة أي هذه المشكاة في بيوت
هذه صفتها وهي المساجد وقيل هي بيوت الأنبياء أو بيوت النبي (ص) (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) إلخ بتعظيمها من تلاوة كتابه فيها ، أو ذكر أسمائه الحسنى
فيها ، أو تطهيرها. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) أي يصلّي له فيها (بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) أي بالغدايا وهي بكور النهار والعشايا وهي أواخرها. وقد
يمتد ذلك إلى العتمة.
٣٧ ـ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ ...) أي يسبح له فيها رجال لا تشغلهم (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) لا شراء ولا بيع (عَنْ ذِكْرِ اللهِ
وَإِقامِ الصَّلاةِ) إلخ أي إقامة الصّلاة ودفع الزكاة المفروضة إلى مستحقيها (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب فيه القلوب والأبصار من الهول أو تتغير أحوالها
فتتيقّن القلوب بعد الشك وتبصر الأبصار بعد العمى وهو يوم القيامة.
٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما
عَمِلُوا ...) أي يعطيهم أحسن جزائهم (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم على أعمالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بلا استحقاق على عمل بل تفضلا منه سبحانه.
٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ...) أي التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات كشعاع بأرض بياض
مستوية (يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ ماءً) يظنّه العطشان ماء (حَتَّى إِذا جاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) حتّى إذا انتهى إليه لم يجد مما حسب وقدّر شيئا أرضا لا
ماء فيها. (وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ) عند جزائه محاسبا إيّاه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أعطاه جزاء عمله تماما (وَاللهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ) لا يمنعه حساب بعض عن محاسبة الآخر.
٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) أي أن أعمالهم في خلوّها عن نور الحق مثل ظلمات في بحر
عميق (يَغْشاهُ مَوْجٌ) إلخ أي من فوق الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) من فوق الموج الثاني سحاب حجب نور الكواكب (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي الظلمات المتراكمة إذا أراد أن يلاحظ يده فأخرجها إلى
مقابل عينيه لم يقارب أن يراها لشدّة الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً) من لم يقدّر له الهداية (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وهو في ظلمة الباطل دائما.
٤١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ
...) إلخ أي ينزّهه عمّا لا يليق به أهل السّماوات من
الرّوحانيّين وأهل الأرض من الإنس والجن (وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهنّ وواقفات في الجوّ. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) إلخ معناه أن جميع ذلك من المسبّحين ، وقد علموا صلوات
أنفسهم وتسبيحهم ، وهم يؤدّونها في وقتها ، أو أنه سبحانه قد علم ذلك كله من
الجميع وهو وسع كل شيء علما.
٤٢ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي على الحقيقة لا يشاركه فيه أحد (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع.
٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً
...) أي يسوقه برفق إلى حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ) بضمّ بعضها إلى بعض فتصير قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما ومتراكبا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ) ترى المطر يخرج من فتوقه وفرجه ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ) أي ينزّل من السحاب مما تحمله من الجبال المتكونة من البرد
وهو قطع الثلج. (فَيُصِيبُ بِهِ) بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من يريد (وَيَصْرِفُهُ عَنْ
مَنْ يَشاءُ) يدفعه عنه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برقه (يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ) أبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة.
٤٤ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
...) أي يصيّرهما بذهاب واحد ومجيئ آخر متعاقبين وهذا بيان آخر
لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي عبرة ودلالة لذوي العقول والبصائر.
٤٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ...) أي كلّ حيوان يدبّ على الأرض (مِنْ ماءٍ) قيل من الماء المتعارف لأنه أصل الخلق. وقيل المراد به
النطفة. (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي) إلخ الآية من آثار العالم السفلي من الحيوانات وغيرها على
وجود الصّانع وتوحيده وحكمته وقدرته التامة ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع
لأنه كالذي يمشي على الأربع للرائي والعبرة تكفي بذكر الأربع لحصول الغرض بهذا
المقدار. (يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ) إلخ أي ينشئ ما يريد لأنه القادر المطلق من حيوان وغيره.
٤٦. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي دلالات واضحات (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) بالتوفيق للنّظر فيها (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) للطّريق الموصل إلى الجنّة ، وهو الإيمان.
٤٧. (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ...) أي صدّقنا بهما وأطعناهما فيما حكما به (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض فريق منهم عن إطاعتهما (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم آمنّا بالله وبالرسول (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي الذين يقولون آمنا بهما ثم يعرضون عن حكمهما. وهذا بيان
حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان والطاعة أولا ثم تولوا ثانيا.
٤٨ ـ (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
...) أي إذا انتدبوا لحكم الله وحكم رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي الرسول (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) يمتنعون عن الاستجابة. ويشهد سياق الآية أن الآيات إنما
نزلت في بعض المنافقين حيث دعوا إلى حكم النبي (ص) في منازعة وقعت بينه وبين غيره
فأبى الرجوع إليه (ص).
٤٩ ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا
إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ...) أي إلى النبيّ (ص) إن علموا أن الحكم في صالحهم ، وأنهم
أصحاب حق.
٥٠ ـ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي شك في نبوّتك أو نفاق ، (أَمِ ارْتابُوا) أم رأوا منكم ما أوقعهم في ريبة من أمرك فلم يعودوا يثقون
بقولك. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي أن يجور الله عليهم والرّسول بظلمهم في الحكم (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم ولغيرهم من خصومهم.
٥١ ـ (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) إلخ أي أن قول المصدقين بالله ورسوله إذا دعوا إليهما
ليحكم فيما بينهم هو : سمعنا قول النبي وأطعنا أمره وقبلناه وأنفذناه ولو كان على
خلاف رغبتنا. وأولئك هم الفائزون بالثواب والرضوان.
٥٢ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) فيما أمراه به ونهياه عنه. (وَيَخْشَ اللهَ
وَيَتَّقْهِ) أي ويخف عقابه ويتق غضبه بإطاعته تلك (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الرابحون لرضوانه وجنته.
٥٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ ...) المنافقون حلفوا بالله حلفا غليظا وشديدا. (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج في غزواتك (لَيَخْرُجُنَ) معك (قُلْ لا تُقْسِمُوا) يا محمد قل لهؤلاء المنافقين : لا تحلفوا (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي : المطلوب منكم هي الإطاعة الحسنة للنبي (ص) الصادقة لا
الإطاعة النفاقية. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما تَعْمَلُونَ) هو عالم بسرائركم وأعمالكم.
٥٤ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ ...) أي قل لهم ذلك يا محمد وتصدير الكلام بقل : إشارة إلى أن
الطاعة جميعا لله وقد أكده بقوله : وأطيعوا الرسول ، دون أن يقول : وأطيعوني ، لأن
إطاعة الرسول بما هو إطاعة الرسول طاعة المرسل وبذلك تتم الحجة ، ولذلك عقب الكلام
بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن اعرضوا عن الطاعة لله ولك (فَإِنَّما عَلَيْهِ) على الرسول (ما حُمِّلَ) من أداء الرّسالة (وَعَلَيْكُمْ ما
حُمِّلْتُمْ) من المتابعة (وَإِنْ تُطِيعُوهُ
تَهْتَدُوا) إلى الحقّ والجنة (وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغ ، فإن قبلتم فلكم وإلّا فعليكم.
٥٥ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليجعلنّهم خلفاء بعد نبيّكم متصرّفين فيها وهذه الآية
وعد جميل للمؤمنين العاملين الصالحات أنه سبحانه سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم
فيستخلفهم في الأرض ويمكّن لهم دينهم (كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي بني إسرائيل بدل الجبابرة أو المراد بهم بشكل عام
المؤمنون من أمم الأنبياء السابقين الذين أهلك الله الكافرين والفاسقين منهم ونجّى
الخلّص من مؤمنيهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب إلخ. (وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي الإسلام (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) إلخ أي وليصيّرنهم بعد خوفهم من المشركين بمكة آمنين بقوة
الإسلام لا يخافون غيري (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ) ارتدّ أو كفر بهذه النعم (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) الخارجون إلى أقبح الكفر.
٥٦ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ ...) إلخ واضح المعنى (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أي لترحموا جزاء على ذلك.
٥٧ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : لا تظننّ أن هؤلاء الكافرين فائتين سابقين قدرة الله (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) فهي مقرّهم وإليها مرجعهم وبئس المقر والمرجع.
٥٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ...) إلخ أي ليطلب الإذن في الدخول عليكم المملوكون من الرجال
والنساء والصبيان الذين بلغوا الحلم (وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار الذين يميّزون بين العورة وغيرها (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في الأوقات الثلاثة التي بيّنها الله تعالى لنبيّه (ص)
وهي : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ
الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع وتبديل لبس الليل بلبس النهار (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ
الظَّهِيرَةِ) أي للقيلولة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ
الْعِشاءِ) لأنه وقت يأوي الرّجل إلى امرأته ويخلو بها (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي الأوقات
الثلاثة وإنّما سمّيت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان في هذه الأوقات غالبا ما يضع
ثيابه وجلبابه فتبدو عورته. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ظاهر هذه الجملة أن المماليك يطوفون على الموالي ، ولكن ،
قوله سبحانه (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) إلخ يدل على أنّ الفريقين كل واحد يحتاج إلى الآخرة ويطوف
الموالي أيضا على العبيد لاستدعاء الضرورة ذلك ، ولرفع الحرج والمشقة.
٥٩ ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ
الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ...) أي أطفالكم أيّها الأحرار يجب أن يستأذنوا ثلاث مرات في
الأوقات الثلاثة المذكورة (كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين بلغوا قبلهم من الأحرار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي يوضّح الدلالات على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.
٦٠ ـ (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ ...) أي المسنّات والقواعد : جمع قاعدة ، وهي المرأة التي قعدت
عن النكاح فلا ترجوه كما سوف يذكر. (اللَّاتِي لا
يَرْجُونَ نِكاحاً) وصف توضيحي ، أي اللاتي لا يرغبن في الأزواج ولا طمع لهن
في الشؤون الجنسية ، لكبرهنّ. وقيل : هن اللواتي يئسن من المحيض فالوصف احترازي. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) أي ذنب (أَنْ يَضَعْنَ
ثِيابَهُنَ) ولعلّ المراد بعض ثيابهن كالخمار أو الجلباب (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهنّ ومحاسنهنّ. والتبرّج
: ـ كما في المجمع ـ إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره ، وأصله الظهور ،
ومنه البرج : البناء العالي لظهوره. (وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي لا يضعن الثياب مطلقا (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) مر معناه.
٦١ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) إلخ كان أهل المدينة قبل إسلامهم معتزلين الأعمى والأعرج
والمريض ولا يأكلون معهم في مجامعهم ومجتمعاتهم ، وهؤلاء الأصناف هم أيضا كانوا لا
يأكلون معهم ويقولون : لعلّهم يتأذّون إذا أكلنا معهم. فلمّا قدم النبيّ (ص) سألوه
عن ذلك فأنزل الله عزوجل : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي جناح (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ) إلخ أي بيوت عيالكم وأزواجكم وأولادكم وقد تضمنت هذه الآية
الإذن بالأكل من بيوت المذكورين ولكن لا بد من تقييده بمقدار الحاجة من غير إسراف
أو إفساد. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به ، أي وكّلتم بحفظه أو بيوت
مماليككم. (أَوْ صَدِيقِكُمْ) إذا علم أن نفسه تطيب بذلك. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) إلخ عن الصّادق (ع) قال : بإذن وبغير إذن مجتمعين
ومتفرقين. والأشتات : جمع شت وهو مصدر بمعنى التفرق ، استعمل بمعنى المتفرق مبالغة
ثم جمع ، أو صفة : بمعنى المتفرق. والآية عامة وإن كان نزولها لسبب خاص كما روي. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي على أهلها الذين هم منكم (تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللهِ) مشروعة من لدنه (مُبارَكَةً) لأنها يرجى بها من الله تعالى زيادة الخير (طَيِّبَةً) أي طيب الرزق وطيب النفس بالتواصل والثواب. وقد فرّع هذا
وهو ما يتعلق بأدب الدخول للبيوت بعد ما ذكر البيوت نفسها وحكم دخولها. (كَذلِكَ) أي كما أنّ الله تعالى بيّن السّلام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يظهر لكم وينزل آيات أحكامه (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) معالم دينكم ومصالحها فتعلموا بها. وقد تضمنت هذه الآيات
المباركة ما يؤكد نظرة الإسلام الاجتماعية وحرصه على ضرورة بث روح الألفة والتسامح
بين أفراد المجتمع العابد سواء كانت بينهم قرابة رحيمة أو لا ، وفي ذلك ما فيه من شد
الروابط وتقوية اللحمة وتقريب القلوب وتأليفها ، بحيث يصبح المجتمع كعائلة كبيرة
واحدة تتصرف بعفوية ومن دون تصنّع ونفاق.
٦٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي الكاملون في الإيمان هم الذين صدّقوا بهما حقيقة
التصديق وأيقنوا بتوحده تعالى ، واطمأنت نفوسهم وتعلقت قلوبهم برسوله (ص) ، ولذلك
عقّبه بقوله : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي مع الرّسول على عمل يقتضي الإجماع عليه بعد التدبر في
جميع أطرافه والتشاور والعزم عليه. (لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي لم ينصرفوا ويتفرقوا قبل البت في ذلك الأمر حتى
يستأذنوا الرسول (ص) (فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) لمهامّهم (فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ) هذا تفويض للأمر إليه (ص) وتخيير له في أن يأذن لمن يشاء
ويمنع الإذن عمن يشاء حسب ما تقتضيه المصلحة العليا للإسلام. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي اطلب لهم المغفرة من الله لخروجهم ذاك بعد الاستئذان
وذلك تطييبا لنفوسهم ورحمة بهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
٦٣ ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...) أي لا تسمّوه باسمه عند ندائه كما تدعون بعضكم بعضا.
وقولوا : يا رسول الله ، وقيل : إن المراد بدعاء الرسول (ص) هو دعوته الناس إلى
أمر من الأمور ، كدعوته لهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ودعوتهم ليشاورهم في أمر
جامع ، ودعوتهم إلى الصلاة جامعة ، وأمره بشيء من أمر دنياهم أو آخرتهم فكل ذلك
دعاء ودعوة منه (ص) ويشهد بهذا المعنى قوله في ذيل الآية : قد يعلم الله الذين
يتسللون منكم لواذا ، وما يتلوه من تهديد مخالفي أمره (ص). ولكن المعنى الأول أنسب
بسياق الآية وموردها كما لا يخفى. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) أي يخرجون عن الجماعة بخفية (لِواذاً) هي حال عن ضمير يتسللون ، أي هم يلوذ أحدهم بمن يؤذن له
ويستر نفسه به عند الخروج فلا يعبأون بدعاء الرسول ولا يعتنون به. (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يعصون أمره والضمير يرجع إلى النبي (ص). (فِتْنَةٌ) أي بلية في الدّنيا و (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.
٦٤ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
...) إلخ أي اعلموا أن له تعالى ما في السموات والأرض ملكا خاصا
به (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي حقيقة حالكم وهذا من لوازم ملكيته الخاصة للكون وما فيه
ومن فيه وأنتم منه. من النفاق أو الإخلاص (بِما عَمِلُوا) من خير وشر والباقي مرّ تفسيره.
سورة الفرقان
مكية ، عدد آياتها ٧٧ آية
١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ ...) أي كثرت بركاته سبحانه وتقدس وهو الذي نزّل القرآن على
محمد (ص) ، (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) للجنّ والإنس وكل أصناف الخلق العاقل منذرا ومخوّفا من
العذاب.
٢ ـ (... وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ ...) أي كما زعم الوثنية والثنوية والملك بكسر الميم ، أعم من
الملك بضمها ، والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة
الناطقين ولهذا يقال : ملك الناس ولا يقال : ملك الأشياء ، والملك بالضم ضبط الشيء
المتصرف فيه بالحكم ، والملك بالكسر كالجنس للملك ، فكل ملك بالضم ملك بالكسر وليس
العكس. (فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) أي فهيّأه لما يصلح له في الدّين والدّنيا ، أو قدّر له
أجلا مسمّى.
٣ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أي أنه مع قدرته هذه وملكه هذا قد جعل الكافرون لأنفسهم
أربابا غيره سبحانه لا تملك شيئا ولا تقدر على شيء ، تلك هي أصنامهم وأوثانهم ، (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ) لأنهم عاجزون عن ذلك ، فالله تعالى وحده هو الخالق البارئ
، وهم أيضا (وَلا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فلا يجلبون لها خيرا ولا يدفعون عنها شرّا وبذلك لم يكن
لهذه الأصنام التي عبدوها من الألوهية شيء إلا اسم سموها به من غير أن تتحقق من
حقيقتها بشيء كما قال تعالى في سورة النجم : (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ...)(وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً
وَلا نُشُوراً) فليس بيدهم شيء بل هم راضخون لمشيئة الله سبحانه.
٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا
إِلَّا إِفْكٌ ...) إلخ. أي قالوا : ليس القرآن غير كذب قد ألّفه محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) من أهل الكتاب مما في كتبهم. (فَقَدْ جاؤُ) أي فعلوا (ظُلْماً) تجاوزا عن حدود الشرع (وَزُوراً) بهتانا.
٥ ـ (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ...) أي ما سطره المتقدّمون (اكْتَتَبَها) كتبها بنفسه أو بواسطة غيره (فَهِيَ تُمْلى
عَلَيْهِ) تقرأ عليه فالإملاء : إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه
ليحفظه ويعيه ، أو إلى الكاتب ليكتبه ، والمراد به في الآية المعنى الأول على ما
يعطيه سياق الكلام ، إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعة والاملاء تدريجا على نحو
الاستمرار. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي طرفي النّهار ليحفظها. وقيل : هو كناية عن الوقت بعد
الوقت.
٦ ـ (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ ...) إلخ. أي يعلم الغيب في السموات والأرض (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ولذا لا يعاجلكم بالعقوبة.
٧ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ ...) أي الزاعم أنه رسول ، على نحو التهكم والاستهزاء منهم
بدعواه. (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي فِي
الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي له ، والاستفهام للتعجب. وكأنهم
كانوا مقتنعين بأن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق ، لاكتساب
المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية. (لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ) إلخ. يصدقه في دعواه.
٨ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ...) أي يقذف إليه من السّماء مال كثير يستغني به عن طلب المعاش.
(أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) من محصولها (وَقالَ الظَّالِمُونَ
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي ما تتبعون إلّا من سحر فغلب على عقله.
٩ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ ...) أي انظر يا محمد كيف قالوا فيك الأقوال النادرة وماثلوك
بالمسحور ، (فَضَلُّوا) عن الطّرق الموصلة إلى الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) إلى القدح في نبوّتك أو إلى الهدى.
١٠ ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ ...) أي تقدّس الذي إن أراد (جَعَلَ لَكَ خَيْراً
مِنْ ذلِكَ) ممّا قالوا فيك (جَنَّاتٍ تَجْرِي) إلخ. الآية بيان لقوله خيرا من ذلك (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) مساكن رفيعة ومنازل عالية.
١١ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ...) أي أنكروا البعث وهذا هو سبب تكذيبهم لك لا ما زعموه من
أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق بل كان هذا منهم كلاما صوريا أرادوا به التغطية
على السبب الأصلي لتكذيبهم لك وهو إنكارهم المعاد والبعث. وقد هيّأنا لمن كذّب به (سَعِيراً) نارا شديدة الاستعار.
١٢ ـ (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) القمّي قال : من مسيرة سنة (سَمِعُوا لَها
تَغَيُّظاً) أي غليانا منها ، ومن أهلها والغيظ ـ كما في المفردات ـ أشد
الغضب ... والتغيّظ : هو إظهار الغيظ ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما يدل عليه
قوله : سمعوا (وَزَفِيراً) أي صوتا خاصا من جوفهم. لأن الزفير هو تردد النفس حتى
تنتفخ الضلوع منه ثم قذفه إلى الخارج. والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا
برزوا لها يوم القيامة وأنها تشتد إذا أشرفوا عليها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.
١٣ و ١٤ ـ (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً
ضَيِّقاً ...) أي يرمون بهم في أمكنة ضيّقة منها (مُقَرَّنِينَ) مقيّدين بالأغلال (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان الضيّق (ثُبُوراً) أي هلاكا (وَادْعُوا ثُبُوراً
كَثِيراً) لأن عذابكم أنواع كثيرة وفي كل نوع تموتون وتهلكون ثم
تعودون وتحيون.
١٥ ـ (قُلْ أَذلِكَ ...) أي المذكور من الوعيد (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ
الْخُلْدِ) أضيف إليه تنبيها على الخلود فيها للمؤمنين جزاء على
إيمانهم. والسؤال سؤال عن أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل ، وهو دائر في
المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان
فيكلف أن يختار بين أحدهما فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره وإن اختار
الباطل افتضح.
١٦ ـ (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ
كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) : أي كان ما يشاء المؤمنون موعدا واجبا عليه تعالى إنجازه
بحيث لهم حق المطالبة بذلك.
١٧ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ
...) إلخ. أي يوم القيامة نجمعهم مع معبوداتهم (فيقول) ـ أي
يسأل الله ـ المعبودين (أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أي سبيل الهدى والجنة.
١٨ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ ...) أي قال المعبودون : تقدست وتنزّهت عن الشريك وقد بدأوا
بالتسبيح على ما هو الجاري من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو
ما يوهم ذلك بوجه من الوجوه. (ما كانَ يَنْبَغِي
لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لنا أن نوالي أعداءك فنحن نقر بك واتّخذناك وليّا
ومعبودا لأنفسنا. (وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي لما أنعمت عليهم بأنواع النعم تركوا ذكرك أو كتابك
والتدبّر فيه وبالنتيجة (وَكانُوا قَوْماً
بُوراً) أي هالكين.
١٩ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ...) أي : فقد كذبكم المعبودون (بِما تَقُولُونَ) من قولكم إنهم آلهة وهؤلاء أضلّونا (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) أي لا يقدر المعبودون على صرف العذاب عنكم (وَلا نَصْراً) لكم بدفع العذاب والترديد بين الصرف والنصر باعتبار
استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم وهو الصرف ، وعدم استقلالهم بأن يكونوا جزء
السبب وهو النصر. (وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ) نفسه بالشرك والمعاصي (نُذِقْهُ عَذاباً
كَبِيراً) وهو النّار.
٢٠ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ ...) إلخ. هذه الشريفة جواب وردّ لقولهم : ما لهذا الرّسول يأكل
الطعام ويمشي في الأسواق؟ (وَجَعَلْنا
بَعْضَكُمْ) أيّها الناس (لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي ابتلاء (أَتَصْبِرُونَ) أي ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أو لا ، (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر وبغيره.
٢١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا
...) أي الآيسين من الوصول إلى رحمتنا وخيرنا لكفرهم بالبعث ، (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلائِكَةُ) أي هلّا أنزلوا فيخبرون بصدق محمد (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيأمرنا باتّباع محمد (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) عدوّا أنفسهم ذات كبرياء وسيادة حيث توقّعوا نزول الملائكة
عليهم أو رؤية الرب (وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيراً) طغوا طغيانا كبيرا بالغا الغاية.
٢٢ ـ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ...) أي عند الموت أو في القيامة. (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) أي لا خبر مفرح في ذلك اليوم (لِلْمُجْرِمِينَ) للذين ارتكبوا الآثام (وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) أي يقول المجرمون عند لقاء الملائكة هذه الكلمة استعاذة
منهم زاعمين أنها تفيدهم كما كانوا يقولونها في الدّنيا عند لقاء عدوّ ونحوه ممّا
كانوا يخافونه.
٢٣ ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا ...) أي عمدنا إلى أعمال الكفار في الدنيا ممّا رجوا به النفع
وطلبوا به الثواب (فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) والهباء هو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس أو ما تسفيه
الرياح وتذروه من ناعم التراب. والحاصل تذهب أعمالهم باطلا ولا نقيم لها وزنا.
٢٤ ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا ...) أي مكانا يستقر فيه (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع الاستراحة في الظّهيرة ، أو النوم فيها.
٢٥ ـ (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ
بِالْغَمامِ ...) أي يرون يوم تتشقّق السّماء عن الغمام (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) من عنده سبحانه يوم القيامة وبأيديهم صحائف أعمال العباد.
٢٦ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ ...) أي الملك ثابت له تعالى يوم القيامة ويزول ملك سائر
الملوك. (وَكانَ يَوْماً) أي يوم القيامة (عَلَى الْكافِرِينَ
عَسِيراً) أي شديد الأهوال بمخاوفه.
٢٧ ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى
يَدَيْهِ ...) ندما وتحسّرا ، والمراد به كل ظالم نادم يوم القيامة. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى.
٢٨ ـ (يا وَيْلَتى ...) أي يا هلكتي فهذا وقتك (لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) المراد بفلان هو من أضلّه والخلل الصاحب والصديق.
٢٩ ـ (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ...) إلخ. أي صرفني عن القرآن والإيمان (وَكانَ الشَّيْطانُ) أي الخليل المضلّ أو إبليس (لِلْإِنْسانِ
خَذُولاً) أي يسلّمه إلى الهلاك ثم يتركه.
٣٠ ـ (وَقالَ الرَّسُولُ ... هذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُوراً ...) أي جعلوه متروكا وراء ظهورهم لا يسمعونه ولا يتدبرون آياته.
٣١ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ ...) إلخ. أي كما جعلنا لك أعداء من قومك كذلك جعلنا لكل نبيّ
عدوّا من المجرمين فصبروا على ما لقوه منهم حتى نصروا ، فكذلك لا بدّ لك من الصّبر
حتى يأتيك النصر من عنده فحسبك بالله هاديا إلى الحق وناصرا لأوليائه على أعدائه.
٣٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...) أي دفعة واحدة كما أنزل التوراة والإنجيل والزّبور. (كَذلِكَ) أي أنزلناه متفرّقا (لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤادَكَ) لنقوّي بتفريقه قلبك على حفظه وفهمه (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي نزّلناه شيئا بعد شيء أو بيّناه تبيينا.
٣٣ ـ (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ...) أي لا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك في مخاصمتك وقيل :
المثل : هو الوصف ، أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا فيه عن الحق أو أساؤا
تفسيره (إِلَّا جِئْناكَ
بِالْحَقِ) أي بالقرآن الذي يدحضه وعلى القول الآخر : إلا جئناك بما
هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق
يدفعه ، أو حق محرّف عن موضعه فالتفسير الأحسن يردّه إلى مستواه ويقوّمه. (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أحسن بيانا وكشفا ممّا أتوا به من المثل.
٣٤ ـ (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ
إِلى جَهَنَّمَ ...) إلخ. أي يسبحون على وجوههم إلى النار وهم كفار مكة وهم شر
منزلا واضلّ طريقا من المؤمنين.
٣٥ و ٣٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) إلخ. أي التوراة. عرّف نبيّه محمدا بما نزل على من سبقه من
الأنبياء من أممهم من تكذيبهم إيّاهم ، إشارة إلى أنّه لست يا محمد بأوّل من أرسلت
فكذّبت ، وآتيناك الآيات فرددت ، فإن موسى قد آتيناه التوراة وقوّينا عضده بأخيه ،
ومع ذلك فقد ردّه قومه وكذّبوه فنصرناه وأهلكنا عدوّه فرعون إهلاكا.
٣٧ ـ (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ ...) أي اذكر يا محمد قصة قوم نوح حين كذّبوا الرّسل أي نوحا
ومن قبله (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان وجعلنا إهلاكهم (آيَةً) أي عبرة للناس (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا لهم سوى ما حلّ بهم في الدّنيا (عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة.
٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ
...) وأهلكنا هؤلاء. والرسّ بئر ألقوا فيها نبيهم فسمّوا بها.
وكانوا ـ كما قيل ـ قوما بعد ثمود وكانوا نازلين على تلك البئر. (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي أهلكنا أهل أعصار كثيرين بين نوح أو عاد وأصحاب الرس.
٣٩ ـ (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ...) أي بيّنّا لهم القصص العجيبة فلم يعتبروا وأصرّوا على
تكذيبهم للأنبياء فأهلكوا (وَكُلًّا تَبَّرْنا
تَتْبِيراً) دمّرناهم تدميرا.
٤٠ ـ (وَلَقَدْ أَتَوْا ...) أي أن قريشا مرّوا مرارا في أسفارهم إلى الشام (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ
مَطَرَ السَّوْءِ) عن الباقر (ع): هي سدوم قرية قوم لوط ، أمطر الله عليهم
حجارة من سجّل وقد مرّ ذكرها فيما سبق. (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها) في مرورهم فيتّعظوا والاستفهام توبيخي ، إذ أنهم كانوا
يرونها بأعينهم. (بَلْ كانُوا لا
يَرْجُونَ نُشُوراً) أي أنهم لا يتوقعون بعثا ولا يترقّبون حسابا فلذلك لم
يعتبروا مع انهم رأوها.
٤١ ـ (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ...) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) مهزوءا به قائلين : (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أي بعثه إلينا رسولا؟
٤٢ ـ (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا
...) أي أنّه أراد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا بدعوته أو قارب أن
يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا (لَوْ لا أَنْ
صَبَرْنا عَلَيْها) لو لا ثبوتنا عليها وتمسكنا بعبادتها (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذابَ) الذي سيحل بهم في الآخرة (مَنْ أَضَلُّ
سَبِيلاً) أي أخطأ طريقا أهم أم أنت. وفي هذا توعد وتهديد منه سبحانه
لهم وتنبيه على أنهم في غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين حينئذ بالغي
والضلال.
٤٣ ـ (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ ...) أي أخبرنا عن الذي أطاع هواه في دينه. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) فلست وكيلا عليه فدعه وشأنه ولا يضرّك ضلاله.
٤٤ ـ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ ...) أي سماع تفهّم (أَوْ يَعْقِلُونَ) يتدبّرون ما تأتي به من الحجج ، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) ما هم إلّا مثل البهائم في عدم تفهّم وتدبّر حججك (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام لأن الأنعام ألهمت منافعها ومضارها فهي لا تفعل
ما يضرها بخلافهم هم إذ مكنوا من المعرفة فلم ينتفعوا.
٤٥ و ٤٦ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ ...) أي ألم تنظر إلى صنعه سبحانه كيف بسط ظلال الأشياء من
الفجر إلى طلوع الشمس. فالظل نسخته الشمس وهو بالغداة. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا مقيما ، (ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) قال ابن عباس تدل الشمس على الظلّ بمعنى أنّه لو لا الشمس
لما عرف الظل. وقيل لا يعرف وجوده ولا يتفاوت طوله وقصره إلّا بطلوعها وحركتها. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) أي أزلنا الظل بإيقاع الشعاع موقعه .. (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا أي لا دفعة.
٤٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِباساً ...) أي ساترا بظلامه كاللّباس ، (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع الأعمال (وَجَعَلَ النَّهارَ
نُشُوراً) فلمّا كان النوم بمنزلة الموت عبّر بذلك ونسب النّشور إلى
النهار. أي جعل النهار ذا نشور ينتشر فيه الناس للمعاش وغيره من حوائجهم التي لا
تحصل في غير النهار إلّا بتعب كثير.
٤٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
بُشْراً ...) إلخ. أي مبشّرات قدام المطر. وقد مر في سورة الأعراف. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً) أي الطاهر في نفسه المطهر لغيره.
٤٩ ـ (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ...) هو محيي البلاد به بالنباتات والنّعم الأخرى وأراد بالبلدة
المكان. (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا
خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي ولنسقي من ذلك الماء أنعاما جمّة وأناسا كثيرين.
٥٠ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ...) أي فرّقنا المطر بين الناس في البلدان والأوقات المختلفة (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا كمال القدرة فيعرفوا ربّهم فيعبدوه ، ويشكروه. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا
كُفُوراً) جحودا لنعمه سبحانه وإنكارا لقدرته.
٥١ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً ...) إلخ. أي نبيّا يخوّف أهلها ولكنا لم نفعل وكنت أنت وحدك
المبعوث للعالمين.
٥٢ ـ (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ...) فيما يدعونك إليه من المداهنة والاستجابة لأهوائهم بل
خالفهم. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ
جِهاداً كَبِيراً) أي لا بد لك من الاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم بالقرآن.
٥٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ...) أي خلّاهما وأرسلهما في مجاريهما متجاورين متلاصقين بحيث
لا يتمازجان ، (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي أحدهما طيب شديد الطيب (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً) حاجزا بقدرته تعالى يمنعهما من الاختلاط (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي جعل بينهما حدّا محدودا.
٥٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً ...) أي الماء الذي خمّر به طينة آدم (ع) ، أو المراد النطفة (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي قسمين : ذوي نسب ذكورا ، لأن نسبة النسب تتحقّق به
وذوات صهر إناثا يصاهر بهنّ فتوجد المصاهرة (وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) على أيّ شيء أراد.
٥٥ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ ... وَكانَ
الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً ...) أي معينا للشيطان على معصية الله لأنه يتابعه بكلّ ما يأمر
به.
٥٦ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً ...) أي بعثناك بشيرا للمؤمنين بالمثوبة ومنذرا للكافرين
بالعقوبة. وليس لك وراء ذلك من الأمر شيء فلا عليك إن كانوا معاندين لربهم مظاهرين
لعدوه عليه فليسوا بمعجزين لله وما يمكرون إلا بأنفسهم.
٥٧ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
...) على تبليغ الرّسالة أو على القرآن بما أن قراءته عليهم ما
هي إلا تبليغ للرسالة. (إِلَّا مَنْ شاءَ
أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) يعني أجري هو إطاعة المطيعين وإيمان المؤمنين وتقرّبهم
بأعمالهم إليه تعالى. والاستثناء منقطع في معنى المتصل ، فإنه في معنى : إلا أن
يتخذ إلى ربه سبيلا من شاء ذلك. وقد علّق اتخاذ السبيل على مشيئتهم للدلالة على
حريتهم الكاملة من قبله (ص).
٥٨ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا
يَمُوتُ ...) في دفع المضارّ وجلب المنافع فإنه الحقيق لأن يتوكّل عليه
حيث إنه الباقي وغيره الفاني ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي احمده منزّها له عما لا يليق به من صفات (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً) أي كفى الله معرفة بذنوب عباده فيحاسبهم ويجازيهم عليها.
٥٩ ـ (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
...) أي أوجدهما من العدم مع (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقين من الملائكة والكواكب وغيرها من الموجودات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مر تفسيره في سورة الأعراف. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) أي استولى أمره عليه وهو أعظم المخلوقات ، أو استولى على
الملك. (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ
بِهِ خَبِيراً) أي عمّا ذكر من الخلق والاستواء فاسأل عارفا بهما وهو الله
، أو جبرائيل يخبرك به وقيل محمد (ص).
٦٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ ...) أي قيل للمشركين لأنهم ما كانوا يطلقونه عليه تعالى (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أيّ شيء وأيّ شخص هو ، (أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرنا بالسّجود له ، ولو لم نعرفه ولم نعتقد به ،
أو لأمرك لنا فقط. (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي الأمر بالسجود للرحمان زاد الكفرة تباعدا عن الإيمان.
٦١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ ...) أي كثير الخير والبركة ذاك الذي جعل بقدرته الكاملة (فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي الانثي عشر المعروفة وهي منازل الكواكب السبعة السيارة.
(وَجَعَلَ فِيها
سِراجاً) أي الشمس.
٦٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً ...) أي يخلف أحدهما الآخر بأن يقوم مقامه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي يتفكر ويستدل بذلك على أنّ لهما مدبّرا ومصرّفا (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي أن يشكر نعمة ربّه عليه فيهما.
٦٣ ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ...) أي بالسّكينة والوقار والطاعة غير أشرين ولا مرحين ولا
متكبّرين ولا مفسدين ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) إذا خاطبهم الجهلة والحمقى بما يثقل عليهم أو بما يكرهونه
قالوا في جوابهم سلاما ، أي سدادا من القول.
٦٤ ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّداً وَقِياماً ...) أي في الصّلاة.
٦٥ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... إِنَّ
عَذابَها كانَ غَراماً ...) أي لازما دائما لا ينفكّ عن أهله.
٦٦ ـ (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً
...) أي بئس المقرّ والمقام جهنّم.
٦٧ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ...) أي لم يجاوزوا الحدّ في النفقة ولم يضيّقوا فيها ، أو لم
ينفقوا في المعاصي ولم يمنعوا الحقوق (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ
قَواماً) أي وسطا بين الإقتار والإسراف.
٦٨ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ ... يَلْقَ
أَثاماً ...) أي يرى ويلاقي جزاء إثمه وقيل : أثاما واد في جهنم. وحيث
إن أصول الشرك والوثنية لا تجيز دعاءه تعالى وعبادته أصلا لا وحده ولا مع أوثانهم
وإنما توجب دعاء أوثانهم آلهتهم وعبادتها ليقرّبوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم
عنده ، كان لا بد من أن يكون بدعائهم مع الله إلها آخر إما التلويح إلى أنه تعالى
إله مدعو بالفطرة على كل حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه وإن لم يذكر الله ، أو
أنه سبحانه ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا ، فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر
مع وجوده ، وبتعبير آخر : تعديه إلى غيره.
٦٩ ـ (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ ... وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهاناً ...) أي يعذّب بأنواع العذاب في الآخرة ويقيم فيه أبدا في غاية
التحقير.
٧٠ ـ (إِلَّا مَنْ تابَ ... يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) أي إلا من تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل عملا صالحا فيما
بينه وبين الله فهؤلاء يمحو السيئة عنه ويثبت له بدلها حسنة. وقد أخذ في المستثنى
التوبة والإيمان والعمل الصالح ، أما التوبة وهي الرجوع عن المعصية وأقل مراتبها
الندم ، فلو لم يتحقق لم ينزع العبد عن المعصية ولم يزل مقيما عليها ، وأما إتيان
العمل الصالح فهو مما تستقر به التوبة وتكون نصوحا.
٧١ ـ (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ...)
أي يرجع إلى الله
بذلك مرجعا مرضيّا دافعا للعقاب جالبا للثواب.
٧٢ ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ...) أي لا يحضرون محاضر الباطل ، أو لا يقيمون شهادة الكذب. (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أصل اللغو هو الفعل أو القول الذي لا فائدة فيه ، (مَرُّوا كِراماً) أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه معهم.
٧٣ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ ...) أي القرآن أو الوعظ (لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي لم يكبّوا عليها غير منتفعين بها كالصّمّ والعميان ، بل
يكبّون عليها وأعين لها متبصّرين ما فيها.
٧٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... قُرَّةَ
أَعْيُنٍ ...) بأن نراهم موفّقين مطيعين لك ، وقرّت عينه تقرّ : سرّت.
وقيل : أصله من القرّ أي البرد ، فقرّت عينه ، قيل : معناه بردت فصحّت. وقيل : بل
لأن للسرور دمعة باردة قارة والحزن دمعة حارة ولذلك يقال لمن يدعى عليه : اسخن
الله عينه. وقيل : هو من القرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح
إلى غيره. (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي اجعلنا ممّن يقتدي بنا المتقون. وقيل : اجعلنا نقتدي
بمن قبلنا من المتّقين فيقتدي المتقون بنا من بعدنا.
٧٥ و ٧٦ ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ...) أي أعلى منازل أهل الجنة (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على الطاعات وعن المعاصي ولكن لا يمكن إغفال
الصبر عند النوائب والشدائد تسليما لأمر الله سبحانه. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً
وَسَلاماً) أي يعطون في الجنة ، كل قول يسرّ ولك بشارة لهم بعظيم
الثواب.
٧٧ ـ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ
لا دُعاؤُكُمْ ...) أي ما يصنع بكم ، أو لا يكترث بكم ، لو لا تضرعكم إليه إذا
مسّكم الضر أو أصابكم السوء (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به حيث خالفتموه (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) أي لازما لكم جزاء تكذيبكم في الآخرة.
سورة الشعراء
مكية ، عدد آياتها ٢٢٧ آية
١ ـ (طسم ...) قد مرّ معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السّور.
٢ ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ...) تلك الآيات الّتي وعدتم بها هي آيات القرآن الذي يبيّن الحق
من الباطل أو البيّن إعجازه.
٣ ـ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) أي أشفق على نفسك يا محمد من أن تهلكها لأن قومك لا يؤمنون
بل يقيمون على الكفر.
٤ ـ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ آيَةً ...) أي علامة تضطرهم إلى الإيمان (فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ) إلخ. فصارت أعناقهم لها خاشعة منقادة.
٥ و ٦ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ...) أي القرآن (مِنَ الرَّحْمنِ
مُحْدَثٍ) بوحيه إلى نبيّه (ص) مجدّد تنزيله. (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) لا يتدبرون فيه مصرّين على كفرهم (فَقَدْ كَذَّبُوا) بالآيات القرآنية (فَسَيَأْتِيهِمْ
أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي عمّا قريب يعلمون بأيّ شيء استهزؤا إذا مسّهم العذاب
يوم القيامة.
٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ ...) أي أو لم ينظروا إلى عجائبها نظر تدبّر وتفكّر (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها) من بعد مواتها (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ) من كلّ صنف ممّا هو كثير النفع.
٨ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ...) أي إن في الآيات ، أو في هذا الإنبات (لَآيَةً) أي برهانا وحجّة على وحدانيتنا وكمال قدرتنا (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لا يصدّون بذلك عنادا وتقليدا لأسلافهم.
٩ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ...) أي أنه الغالب القادر على الانتقام من الفسقة الكفرة (الرَّحِيمُ) بالعباد حيث أمهلهم.
١٠ و ١١ ـ (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ...) أي أذكر يا محمد الوقت الذي نادى فيه ربّك رسوله موسى فقال
يا موسى (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) بالكفر وتعذيب بني إسرائيل وهم فرعون وقومه. (أَلا يَتَّقُونَ) أي أما آن لهم أن يتجنبوا عقاب الله بالعمل بطاعته وترك
معصيته.
١٢ و ١٣ و ١٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ ...) إلخ. أي أخاف أن يكذّبوني بالرسالة (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم لي ، (وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي) أي لا ينبعث بالكلام للعقدة التي كانت فيه منذ طفولة موسى.
(فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) ليعاونني كما يقال إذا نزلت بنا نازلة فنرسل إليك ، أي
لتعيننا ، (وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ) تبعة ذنب ، وهو القود. والمراد من الذنب قتل القبطي ، (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلوني قبل أداء الرسالة.
١٥ ـ (قالَ كَلَّا ...) أي لا يكون كذلك ، ولن يقتلوك (فَاذْهَبا بِآياتِنا) أي أنت وهارون بدلائلنا ومعجزاتنا (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وخصمهما فرعون (مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون ما يجري بينكم.
١٦ و ١٧ ـ (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي نحن مبعوثان من عند الله مربيك وخالقك مع جميع العوالم
لندعوك إلى توحيده وترك الشرك. (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) خلّهم يذهبوا معنا إلى الشام وأطلقهم من الاستعباد.
١٨ و ١٩ ـ (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
...) أي قال فرعون لموسى : ألم تكن عندنا حبيبا صغيرا فربيناك (وَلَبِثْتَ) بقيت (فِينا) بيننا (مِنْ عُمُرِكَ
سِنِينَ) أي سنين كثيرة وهي ثماني عشرة سنة وقيل أكثر. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي. (وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) بنعمتي عليك.
٢٠ ـ (قالَ فَعَلْتُها إِذاً ...) أي قال موسى : فعلتها حين فعلت (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي وأنا من الجاهلين بأن فعلي يؤدي إلى القتل إذ كان غرضي
تخليص الإسرائيلي فقط.
٢١ ـ (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ... فَوَهَبَ لِي
رَبِّي حُكْماً ...) أي نبوّة يتبعها الحكمة ، وهي معرفة التوراة. أو المراد
بالحكم هو العلم ، (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) أي نبيا من الأنبياء.
٢٢ ـ (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ...) إلخ. قيل إنّه إنكار للمنّة أصلا فكأنّه قال : أو تلك نعمة
تمنها عليّ بأن ربّيتني في حجرك مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل؟
٢٣ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ ...) أي من أي جنس ربّكم الذي تدعوني إلى عبادته؟
٢٤ ـ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي مبدعهما ومنشئهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الحيوان والنبات والجماد (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) إذا كنتم تصدّقون بأن هذه الأمور محدثة وليست من فعلكم
أنتم.
٢٥ ـ (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا
تَسْتَمِعُونَ؟ ...) أي قال فرعون لوزرائه وأعوانه : ألا تسمعون مقالة موسى
وتفهمون ما يقوله.
٢٦ ـ (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ ...) فأجاب موسى ثانيا برفق تأكيدا للحجة مقرّرا أن الله تعالى
هو ربّكم وربّ آبائكم السابقين لا فرعون.
٢٧ ـ (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ...) أي قال فرعون مخاطبا من حوله ، مستهزئا : إن رسولكم بزعمه
مجنون لأني أسأله عن ماهية رب العالمين الذي ادعاه فيجيبني عن غير ما سألته.
٢٨ ـ (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَما بَيْنَهُما ...) أي قال موسى : إن ربّي هو الربّ الذي يجري النيّرات من
مشارقها إلى مغاربها على نظام مستقيم (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل تدبّر وتفكّر فيما أقول.
٢٩ ـ (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي
...) أي قال فرعون مهددا موسى : لئن عبدت غيري (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي من المحبوسين. قيل بأنه كان يسجن في هوة سحيقة فلا يخرج
السجين منها حتى يموت.
٣٠ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ
مُبِينٍ ...) أي استجنني ولو أتيتك بشيء ظاهر يدلّ على صدق دعواي ، يعني
المعجزة.
٣١ ـ (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ ...) أي هات ما ادّعيته إن كنت صادقا في دعواك.
٣٢ ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ ...) أي ظهرت ثعبانيّته على فرعون وجميع جلسائه لا أنّه كان
شيئا شبيه الثعبان.
٣٣ ـ (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ ...) أي أخرج يده من جيبه فأنارت الوادي من شدّة بياضها من غير
برص أو علّة أخرى وبدت كذلك لكل ناظر إليها.
٣٤ و ٣٥ ـ (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا
لَساحِرٌ عَلِيمٌ ...) أي متفوق فيه (يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي من مصركم بسبب سحره. (فَما ذا تَأْمُرُونَ) فبما تشيرون علي.
٣٦ و ٣٧ ـ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ...) أي أخّر أمرهما (وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) وأرسل إلى أنحاء مملكتك جميع خدمك (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يجمعون السّحرة الحاذقين في صنعهم.
٣٨ ـ (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ ...) أي لوقت معيّن وقد مر في سورة طه.
٣٩ ـ (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ ...) أي قال للناس بعض خدمه بأمره بادروا إلى هذا الاجتماع.
٤٠ ـ (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ...) في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ
الْغالِبِينَ) لموسى وأخيه.
٤١ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا ...) أي حين اجتمعوا سألوا فرعون قائلين (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) هل تعطينا أجرة وجزاء على عملنا ، (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إن انتصرنا بسحرنا على ما جاء به موسى؟
٤٢ ـ (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ...) أي : نعم أمنحكم أجرا كثيرا ، ومضافا إلى ذلك ألتزم لكم
بالقربى عندي إن غلبتم.
٤٣ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ
مُلْقُونَ ...) أي قال موسى للسحرة : هاتوا ما عندكم من سحر وأظهروا للناس
غاية ما تصنعون من الشعوذة.
٤٤ ـ (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
...) أي رموا ما كان معهم من حبال وعصي (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا
لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أكّدوا معتقدهم بالحلف ولام التأكيد وهذا الحلف من قسم عهد
الجاهلية.
٤٥ ـ (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ
تَلْقَفُ ...) أي تبتلع (ما يَأْفِكُونَ) أي ما يقلبونه عن وجهه الطّبيعي بتمويههم.
٤٦ ـ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ...) أي خرّوا ساجدين.
٤٧ و ٤٨ ـ (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ...) إلخ. أي صدقنا بمن دعانا إليه موسى وهارون وقالا إنه رب
العالمين. فاستهزأ بهما فرعون.
٤٩ ـ (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ ...) أي قال فرعون مهددا السحرة : صدقتم به بلا إذن مني (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي أنه رئيسكم الّذي تعلّمتم منه علم السحر (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فيما بعد وبال أمركم (لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الآية والمراد بالخلاف : أقطّع من كلّ شقّ طرفا ، أي اليد
اليمنى والرجل اليسرى ، أو بالعكس (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ) أعلّقكم على الأخشاب بعد قتلكم.
٥٠ ـ (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ ...) أي لا يضرّنا ذلك فافعل بنا ما شئت فاننا بعدها إلى نعيم
ربنا وثوابه راجعون.
٥١ ـ (إِنَّا نَطْمَعُ ... أَنْ كُنَّا
أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) أي لأنّا كنّا أوّل المؤمنين في زماننا أو من قوم فرعون
ورعاياه.
٥٢ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى ...) فبعد سنين أقامها بينهم يدعوهم بالآيات إلى الحق فلم
يجيبوه أوحى الله تعالى إليه (أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي) أي اخرج من مصر أنت ومن آمن بك ليلا (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي أن فرعون وجنوده يتعقبونكم.
٥٣ ـ (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ
حاشِرِينَ ...) أي بعث الجنود والخدم ليحشروا إليه الناس ويجمعوا الجيش
ليقبضوا على موسى وقومه.
٥٤ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
...) أي أن موسى ومن معه عصبة قليلة.
٥٥ ـ (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ...) أي لفاعلون ما يغيظنا إمّا بمخالفتهم في الدين أو لخروجهم
من مصر بدون رضا من فرعون.
٥٦ ـ (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ...) أي شاكون في السّلاح ومعدّون للقتال ، أو خائفون من شرهم.
٥٧ و ٥٨ ـ (فَأَخْرَجْناهُمْ ...) أي آل فرعون (مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) أي من بساتين وعيون جارية فيها. (وَكُنُوزٍ) أموال مخبأة وخزائن (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي منازل حسنة ومجالس بهيّة.
٥٩ ـ (كَذلِكَ ...) أي أمرهم كما وصفناه (وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) ذلك أنّ الله ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون
وقومه ، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكين.
٦٠ ـ (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ...) يعني قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين أشرقت الشمس.
٦١ ـ (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ...) أي تقابلا قال قوم موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي لحق بنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم.
٦٢ ـ (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي
سَيَهْدِينِ ...) أي قال موسى ثقة بنصر الله : لن يدركونا ان معي الله بنصره
سيرشدني إلى سبيل النجاة كما وعدني.
٦٣ ـ (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ ...) أي نهر النيل (فَانْفَلَقَ) أي ضربه فانشق (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كل قطعة فرقت عن أخرى كالجبل الشامخ وقام الماء عن يمين
الطريق ويساره.
٦٤ و ٦٥ و ٦٦ ـ (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ ...) أي قرّبنا هناك ، في المكان الذي انشقّ من البحر (الْآخَرِينَ) هم فرعون وقومه وجنوده حتّى سلكوا جميعا مسلك بني إسرائيل (وَأَنْجَيْنا مُوسى) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ). أي خلّصنا بني إسرائيل من الغرق وأغرقنا فرعون وجنوده في
النيل.
٦٧ و ٦٨ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي في فلق البحر وإنجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون لدلالة
واضحة على قدرة الله ووحدانيته (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع هذا البرهان القاطع ما آمن أكثرهم. (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الرَّحِيمُ) بعباده.
٦٩ و ٧٠ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ
...) أي اقرأ يا محمد على مشركي العرب خبر إبراهيم ، (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أي لعمّه آزر ، والمراد بالقوم أهل بابل : (ما تَعْبُدُونَ) الاستفهام إنكاري ، أي أن ما تعبدونه لا يستحق العبادة.
٧١ ـ (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ
لَها عاكِفِينَ ...) أي ثابتين على الصلاة لها.
٧٢ و ٧٣ ـ (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ ...) إلخ. أي هل يستجيبون لدعائكم إذا دعوتموهم أو ينفعونكم إن
عبدتموهم أو يضرّون إن تركتم عبادتهم؟
٧٤ ـ (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا ...) إلخ. أعرضوا عن جواب سؤاله وتمسكوا بالتقليد لآبائهم في
عبادتها.
من ٧٥ إلى ٧٩ ـ (قالَ ... فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ...) أي قال إبراهيم لهم : ما تعبدون أنتم وآباؤكم خصم لي. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء من جميع المعبودين ثم أنّه (ع) أخذ في بيان أوصاف
ربّه إتماما للحجّة على خصمائه حيث إن تلك الأوصاف لا توجد إلّا فيه تعالى فمنها (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي أوجدني من العدم وهو يرشدني إلى المنافع الدنيوية
والأخروية. (يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ) أي يرزقني ما اتغذى به من طعام وشراب.
٨٠ ـ (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ...) أي يفعل ما يصحّ به بدني.
٨١ ـ (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
...) أي يميتني بعد أن كنت حيا ويحييني يوم القيامة بعد أن أكون
ميتا. والأوجاع التي هي نقمة قد لا يقاس الموت بها بالأولوية وقوله (ثُمَّ يُحْيِينِ) أي في الآخرة.
٨٢ ـ (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
...) إلخ. أي يستر على ذنبي ويتجاوز عنه يوم الحساب.
٨٣ ـ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ...) أي كمالا في العمل والعلم وقيل : النبوة. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي بمن قبلي من النبيين في الدرجة. وقيل : ارزقني كمال
القوة العملية لأنتظم في عداد الصالحين الكاملين.
٨٤ ـ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ ...) يعني اللهم اجعل لي جاها وحسن صيت في الذين يعقبونني من
الأمم إلى يوم القيامة.
٨٥ ـ (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ ...) أي ممّن يعطاها في الآخرة.
٨٦ ـ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ ...) بالهداية والإيمان لأنه كان من المنحرفين عن طريق الحق
والغافلين عن سبيل الصّواب.
٨٧ إلى ٨٩ ـ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ...) أي لا تهنّي ولا تفضحني بأمر صدر عنّي يوم القيامة. ولم
يكن لك رضا فيه. وهذا من إبراهيم وغيره من الأنبياء إنما يصدر على سبيل الخضوع
والانقطاع إلى الله لما ثبت في محله من عدم جواز وقوع القبيح أو المعصية من
الأنبياء والمعصومين (ع) (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...) من الشرك ومن حبّ الدنيا.
٩٠ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
...) أي قرّبت لهم ليدخلوها.
٩١ ـ (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ ...) أي كشفت وظهرت (لِلْغاوِينَ ...) أي الضالّين عن طريق الحق.
٩٢ إلى ٩٥ ـ (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...)
أي الأصنام التي
تزعمون أنّها شفعاؤكم (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) أي بدفعه عن أنفسهم؟ (فَكُبْكِبُوا فِيها) طرحوا فيها ويقصد الأصنام ، هم (وَالْغاوُونَ) أي عبدتها (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
أَجْمَعُونَ) أي أتباعه وذرّيته جميعا.
٩٦ إلى ٩٨ ـ (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ...) أي أن العبدة وهم في النار يخاصم بعضهم بعضا يقولون (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) يعني إنّنا كنّا في ضلال واضح (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) حيث جعلناكم مساوين في العبادة والخضوع لربّ العالمين.
٩٩ ـ (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
...) يعني المشركين الذين اقتدى بهم هؤلاء فاتّبعوهم على شركهم.
١٠٠ و ١٠١ ـ (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ...) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي لا حبيب ذو شفقة ورحمة يهمّه أمرنا.
١٠٢ ـ (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ...) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنكون من المصدقين.
١٠٣ و ١٠٤ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي أن في ذلك المقصوص لحجة ودلالة لمن اعتبر (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أكثر قوم إبراهيم (مُؤْمِنِينَ) به (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مر معناه.
١٠٥ إلى ١١٠ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ
...) نوح أخوهم نسبا فإنّه (ع) كان منهم (رَسُولٌ أَمِينٌ) مشهود له بالأمانة فيهم. قد قال لقومه : إنّي رسول لكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) تجنبوا غضبه بطاعته وأطيعوني فيما أدعوكم إليه لأني رسول
أمين (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لا أطلب منكم على أداء رسالتي أجرا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ) أي ليس جزائي وثوابي إلّا على خالق الخلائق. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لأني لا أسألكم أجرا فتخافون تلف أموالكم به.
١١١ ـ (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ ...) أي أنصدّقكم فيما تدعونا إليه (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الفقراء وسفلة الناس فلو اتبعناك لصرنا مثلهم.
١١٢ ـ (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ ...) أي وأيّ علم لي بأعمالهم وصنائعهم ولم أكلّف ذلك. وقيل :
لا أعلم إن كان إيمانهم عن بصيرة ويقين أو طمعا في مال أو جاه ، فأنا أعامل الناس
بحسب ظاهرهم وقد دعوتهم فاستجابوا لي.
١١٣ ـ (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي ...) أي ليس حساب بواطن الأمور علينا بل هو أمر راجع إلى ربّي
فإنه المطلع على البواطن والمراد بقوله : ربي ، أي رب العالمين فإنه الذي كان يختص
نوح بالدعوة إليه من بينهم (لَوْ تَشْعُرُونَ) لو تدرون أو لو كان لكم شعور لما قلتم ما قلتم.
١١٤ و ١١٥ ـ (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ...) أي بالذي يردّ إيمان الذين تزعمون أنهم الأرذلون (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) لأني لست إلا نذيرا مخوفا من معصية الله داعيا إلى طاعته
مبينا لها.
١١٦ ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ
...) عمّا تقول وعن دعوة الناس إلى عبادة ربك (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) من المضروبين بالحجارة أو من المشتومين.
١١٧ و ١١٨ ـ (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ...) أراد أنه إنما يدعو عليهم لتكذيبهم بالحق لا لإيذائهم له (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) أي فاحكم بيننا (فَتْحاً) حكما وقضاء بالعذاب بقرينة قوله : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) أي من العذاب.
١١٩ و ١٢٠ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ...) أي خلصناهم بواسطة السفينة المملوءة من كل زوجين اثنين كما
ذكره في سورة هود. أو المجهزة. التي قد فرغ منها ولم يبق إلّا دفعها ، كما ورد في
رواية أبي الجارود عن الباقر (ع). (ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ) أي بعد إنجائه مع
المؤمنين به (ع) (الْباقِينَ) الذين لم يركبوا السفينة معه.
١٢١ و ١٢٢ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ... الْعَزِيزُ ...) إلخ. مر معناه.
١٢٣ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ...) أي قبيلة عاد.
١٢٤ إلى ١٢٧ ـ (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ...) كان هود أخاهم في النسب تصدير القصص بقوله (أَلا تَتَّقُونَ ...) الله باجتناب معاصيه (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) إلى قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) مر معناه.
١٢٨ ـ (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ) أي بكل مكان مرتفع كرؤوس الجبال أو نحوها ، علامة للمارّة
على مقدار المسافة ، أو لمعرفة البلاد. وقيل بأنهم كانوا يبنون بكل مكان مرتفع
برجا يجلسون به ويسخرون من الناس ويؤذون من يمرّ بهم من المؤمنين.
١٢٩ ـ (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ ...) حياضا كبارا يجمع فيها ماء المطر ، أو المراد منها الحصون
المشيّدة والقصور العالية للسّكنى (لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) أي ترجون الخلود فيها. ولولا رجاء الخلود ما عملتموها.
١٣٠ ـ (وَإِذا بَطَشْتُمْ ...) أي ضربتم بسوط أو بسيف (بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ) مستعلين بالضرب أو القتل بلا رأفة ولا رحمة بل بظلم وغشم.
والتجبر في صفة الله سبحانه مدح وفي صفة غيره ذم.
١٣١ إلى ١٣٥ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ...) تجنّبوا غضبه وأطيعوا أمري ، (الَّذِي أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) إلخ. فأعطاكم سبحانه الأولاد والنّعم والأنعام والخيرات
وبساتين ومياها غزيرة وغير ذلك من النعم التي يجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في
موضعها من غير إسراف ولا استكبار فإن كفران النعمة يستتبع السخط والعذاب. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن كذبتموني (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ ...) هو يوم القيامة. في الآخرة.
١٣٦ ـ (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ
لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ...) أي أن وعظك لنا أو عدمه سواء عندنا ، فلا تتعب نفسك في
الدعوة.
١٣٧ ـ (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي تدعونا إليه وتحذرنا منه ويمكن أن تكون
الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك وعبادة الأوثان من دون الله اقتداء بآبائهم
الأولين كقولهم : وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. (إِلَّا خُلُقُ
الْأَوَّلِينَ) إلّا ممّا جرت به عادة السابقين عليك. من أهل الأساطير
والخرافات. واحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد : ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين
نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا حساب ولا عقاب.
١٣٨ ـ (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ...) لا في الدنيا ولا بعد الموت.
١٣٩ و ١٤٠ ـ (فَكَذَّبُوهُ ...) فكذّبوا رسولهم هودا (فَأَهْلَكْناهُمْ) إلخ. بريح صرصر شديدة ثم أخذ سبحانه في بيان شرح قوم صالح (ع)
وهم ثمود وكيفيّة فعل صالح وقوله معهم في الآيات ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٥ إلى
أن يقول سبحانه : ١٤٦ إلى ١٤٨ ـ (أَتُتْرَكُونَ فِي ما
هاهُنا ...) أي أتطمعون أن تتركوا وتبقوا في النّعم الدنيوية والظاهر
أن الاستفهام إنكاري ، و (ما) موصولة. و (هاهُنا) إشارة إلى المكان الحاضر القريب وهو أرض ثمود (آمِنِينَ) من زوالها وهو حال من نائب فاعل (تُتْرَكُونَ). (فِي جَنَّاتٍ) إلخ. أي بساتين وعيون جارية فيها. (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) أي ثمرها لطيف نضيج ليّن.
١٤٩ إلى ١٥٢ ـ (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
...) أي تنقرون في الصخر بيوتا (فارِهِينَ) حاذقين أو نشيطين بنحتها. وقيل : الفره : الأشر ، وعليه
تكون الآية مسوقة للإنكار ، أي لا يمكن أن يتم لكم كل ذلك وأنتم مطلقوا العنان لا
تسألون عما تفعلون آمنون من أية مؤاخذة إلهية. (فَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه (وَأَطِيعُونِ وَلا
تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) يعني الرؤساء منهم قد عقروا الناقة لأنهم يتعدّون حدّ
المعقول والخطاب هنا للتابعين دون الرؤساء المتبوعين لأن هؤلاء قد يئس من إيمانهم
واتباعهم للحق. (الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) يعيثون فيها فسادا ويرتكبون المعاصي.
١٥٣ و ١٥٤ ـ (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ ...) أي من الذين سحروا كثيرا حتّى أنهم لا يعقلون. (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا مزيّة لك علينا حتى تكون أنت رسولا إلينا من عند الله
كما تزعم. (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي بمعجزة تثبت دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) فيها.
١٥٥ ـ (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ...) بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها قال :
هذه الناقة (لَها شِرْبٌ ...) أي شراب يوم تشرب فيه ماءكم جميعا (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ولكم نصيب من الماء يوما بعد يومها.
١٥٦ ـ (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ...) لا بضرب ولا عقر ولا منع ماء ، وإن فعلتم (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) توصيف اليوم بالعظمة لعظم ما يحلّ فيه من العذاب.
١٥٧ ـ (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ...) مر معناه وما بعده في سورة الأعراف. وقد قلنا هناك بأن
نسبة العقر إلى الجميع مع أنه لم يعقرها إلا بعضهم لرضاهم بفعله. وفي نهج البلاغة
: أيها الناس ، إنما يجمع الناس الرضى والسخط ، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد
فعمهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا ، فقال سبحانه : فعقروها فأصبحوا نادمين.
١٦٠ إلى ١٦٥ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ... أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ ...) إلخ. أي اخترتم الذّكران من الناس وتركتم أزواجكم اللاتي
خلقهنّ الله لكم؟. والاستفهام إنكاري توبيخي ، والذكران جمع ذكر مقابل الأنثى ،
وإتيانهم كناية عن فعل اللواط معهم وقد كان شاع فيما بينهم. والعالمين : جمع عالم
وهو الجماعة من الناس. وقوله : من العالمين ، يمكن أن يكون متصلا بضمير الفاعل في (تَأْتُونَ) والمراد : أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع
فيكون في معنى قوله في سورة العنكبوت : ما سبقكم بها من أحد من العالمين. ويمكن أن
يكون متصلا بقوله : (الذُّكْرانَ) والمعنى على هذا : أتنكحون من بين العالمين على كثرتهم
واشتمالهم على النساء ، الرجال فقط؟!.
١٦٦ ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ...) أي متجاوزون عن حدود أحكام الله. أو خارجون عن الحد الذي
خطته لكم الفطرة والخلقة فهو في معنى قوله : أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل
...
١٦٧ ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ
...) أي لئن لم ترجع عن مقالتك (لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمُخْرَجِينَ) المبعدين والمنفيّين.
١٦٨ ـ (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقالِينَ ...) أي المبغضين الكارهين.
١٦٩ إلى ١٧١ ـ (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا
يَعْمَلُونَ ...) أي سلّمني من وباله (إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) أي كانت باقية في البلد مع الذين لم يؤمنوا فأهلكت معهم
لرضاها بفعلهم وإعانتها لهم عليه.
١٧٢ إلى ١٧٥ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا ...) أي أهلكنا (الْآخَرِينَ) من قوم لوط (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً) كان من الحجارة لأنه مطر عذاب ، وهو السجّيل الذي مر ذكره
في أكثر من موضع. (فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ) أي بئس وشؤم مطر الكافرين مطرهم. وما بعد مر تفسيره.
١٧٦ ـ (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ
الْمُرْسَلِينَ ...) هذه هي القصة السابقة التي أخبر فيها سبحانه عن أصحاب
الأيكة الذين بعث إليهم شعيبا (ع) وما كانوا من قومه وكان شعيب أخا مدين ، وقد
أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، وأصل الأيكة هو الشجر الملتفّ ، ومدين يسكنها قوم
بعث إليهم شعيب.
١٧٧ إلى ١٨٠ ـ (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ...) إلخ. وقد مر معناه لأنه محكي في دعوة كل نبي مرت قصته إلى
قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ). ويفهم من الآية أن شعيبا كان غريبا عنهم أجنبيا منهم
ولذلك قال : إذ قال لهم شعيب ولم يقل أخوهم شعيب كما قال فيما يتعلق بهود وصالح
ولوط حيث عبر هناك بأخوهم.
١٨١ إلى ١٨٣ ـ (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ ...) أي أتمّوه ولا تكونوا من المنقصين منه في حقوق الناس
بالتطفيف ، (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي الميزان العدل. (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لا تنقصوا شيئا من حقوقهم. (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تسعوا في الأرض مبالغين في الفساد من الكفر والمعاصي.
والعثيّ والعيث : الإفساد ، فقوله : مفسدين : حال مؤكد ، وقد تقدم في قصة شعيب من
سورة هود. ولا إشكال في أن للتطفيف والبخس في المكاييل والموازين دخالة عظمي في
إفساد المجتمع الإنساني وإشاعة الانحلال الخلقي فيه وكذلك الاختلال الاجتماعي من
حيث التوازن بين طبقاته.
١٨٤ ـ (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي أوجدكم بعد العدم (وَالْجِبِلَّةَ
الْأَوَّلِينَ ...) أي الخليقة ممن سبقكم. وهم الذين خلقهم الله وقرّر في
طبائعهم تقبيح الفساد والاعتراف بشؤمه.
١٨٥ إلى ١٨٨ ـ (قالُوا ...) إلخ. مر معناه. (وَإِنْ نَظُنُّكَ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا نظنك كاذبا من جملة الكاذبين. (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ) أي قطعا من السماء (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في دعواك. والأمر مبني على التعجيز والاستهزاء. (قالَ) شعيب (رَبِّي أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ) بكفركم.
١٨٩ إلى ١٩١ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ ...) إلخ. أي أصابهم حر شديد سبعة أيام وحبس عنهم الريح ثم
غشيتهم سحابة فلما خرجوا إليها طلبا للبرد وهربا من الحر أمطرت عليهم نارا
فأحرقتهم (إِنَّهُ كانَ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ) وسمّي هذا العذاب بعذاب يوم الظّلة بهذا الاعتبار. والظلة
هي السحابة التي أظلّتهم. وقد تقدمت قصتهم في سورة هود أيضا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) مفسر إلى آخره.
١٩٢ و ١٩٣ ـ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ ...) أي القرآن المشتمل على هذه القصص وغيرها مرسل من عند الله
، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) أي جبرائيل (ع). ملك الوحي بدليل قوله تعالى في سورة
البقرة (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ...). وقد سماه في سورة النحل / ١٠٢ بروح القدس.
١٩٤ ـ (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ) أي لتخوف به الناس وتنذرهم بآيات الله ليفهموا ما فيه.
١٩٥ و ١٩٦ ـ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ...) أي بيّن المعنى وواضحه ، (وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي ذكر القرآن أو معناه في كتب الأنبياء المتقدّمين.
١٩٧ ـ (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ...) أي علامة لقريش على صحة القرآن ونبوّة محمد (ص) (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي
إِسْرائِيلَ) أي يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم حيث كان من آمن من علماء
اليهود يخبرونهم بذلك.
١٩٨ و ١٩٩ ـ (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ ...) أي لو نزّلنا القرآن على رجل من غير العرب (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ) أي فتلاه على العرب لم يؤمنوا به وأنفوا من اتباعه لكنا لم
نفعل هذا بل نزّلناه بلسان العرب على أفصح رجل من أشرف بيت ليتدبّروا فيه وليكون
ادعى إلى تصديقه.
٢٠٠ ـ (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ ...) أي كما أنزلناه بلغة عربيّة فصيحة ، كذلك أدخلنا معانية
وإعجازه في قلوبهم ، وأ فهمناهم معانيه وهم مع ذلك.
٢٠١ إلى ٢٠٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ ...) فهؤلاء المجرمون لا يصدّقون به حتى يصيروا مع العذاب الموجع
الذي وعدناهم به وجها لوجه (فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) أي يجيئهم فجأة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يحسّون بوقوعه وعندئذ يقولون : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي مؤخرون لنصدّق بالله ورسوله.
٢٠٤ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ...) هذا توبيخ لهم بتهكّم. أي كيف يستعجله من إذا أنزل به سأل
النّظرة؟
٢٠٥ إلى ٢٠٦ ـ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ
سِنِينَ ...) أي أخبرنا عن حالهم ، لو أمهلناهم سنين وجعلناهم يتلذذون
فيها بالدنيا (ثُمَّ جاءَهُمْ ما
كانُوا يُوعَدُونَ) أتاهم عذابنا الذي وعدناهم به.
٢٠٧ ـ (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يُمَتَّعُونَ) أي لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه.
٢٠٨ و ٢٠٩ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَها مُنْذِرُونَ ...) أي لأهل القرية أنبياء منصوبون من قبل الله تعالى لإنذارهم
إلزاما للحجّة ، وبعد تكذيبهم لأنبيائهم نهلكهم (ذِكْرى وَما كُنَّا
ظالِمِينَ) أي للتّذكير نرسل لهم الأنبياء ليتعظوا ونحن لسنا من
الظالمين بإهلاكهم بعد ذلك.
٢١٠ إلى ٢١٣ ـ (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ...) أي ما جاءت الشياطين بالقرآن كما كان يزعم المشركون. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي لا يتيسّر للشياطين ذلك (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه
بها المبطل. (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي لمطرودون عن استماع كلام الملائكة وممنوعون عن استماع
القرآن من السّماء بالشهب. (فَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ) إلخ. الخطاب للنبي (ص) ولكن المقصود به الأمة وإنما أفرده
بالخطاب ليعلم أن العظيم الشأن إذا أوعد فكيف حال من دونه.
٢١٤ ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
...) أي رهطك الأدنين.
٢١٥ ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : أي عاشرهم بالملاطفة ولين الجانب وحسن الأخلاق والتواضع.
٢١٦ ـ (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ ...) فإذا امتنع أقاربك أو قريش عن طاعتك فيما أمرتهم به
ودعوتهم إليه فتبرأ منهم ومن عملهم.
٢١٧ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ ...) أي يا محمد لا بدّ وأن يكون توكّلك عليّ وأنا القادر على
قهر أعدائه الرحيم بأوليائه.
٢١٨ إلى ٢٢٠ ـ (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ...) أي توكّل على الذي يراك حين تقوم من مجلسك أو فراشك
للتهجّد أو للصّلاة في أوقاتها ، (وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ ...) أي ويرى تصرّفك في المصلّين بالقيام والركوع والسّجود
والقعود حين تؤمّهم أو مطلقا ولو منفرّدا (إِنَّهُ) أي ربّك (هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) مرّ تفسيره.
٢٢١ و ٢٢٢ ـ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ ...) أي هل أخبركم على من تنزل الشياطين (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي كذاب مرتكب للذنب وهم الكهنة أو رؤساء الكفار بينما
تتنزل عليك يا محمد الملائكة.
٢٢٣ ـ (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
كاذِبُونَ ...) أي الأفاكون يلقون سمعهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم مع أن
أكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الأفاكين. وقيل الضمير في (وَأَكْثَرُهُمْ ...) يرجع إلى الأفّاكين.
٢٢٤ إلى ٢٢٦ ـ (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ
...) ثم إنه تعالى لما أبطل زعم المشركين أنّ القرآن من قبيل ما
يلقي به الشياطين على كهنتهم ، فأخذ في إبطال قولهم أنّ محمدا شاعر بأن الشعراء هم
الذين يتّبعهم الضّالّون المضلّون فذمّهم بمصاحبيهم ومتابعيهم ، والمقصود شعراء
الباطل (أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي أنهم في كل مذهب يذهبون غير مبالين بما نطقوا به من
الباطل مدحا أو ذما. (وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) إذ يعظون الناس ولا يتّعظون وينهون عن المنكر ولا ينتهون
ويأمرون بالمعروف ولا يعملونه واستثنى من هذا الذم للشعراء (الَّذِينَ آمَنُوا) صدّقوا بدعوة النبيّ (ص) (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) من الأعمال ، وتعدّى عليهم الكافرون بذمّهم ف (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) فقالوا الشعر انتصارا لأنفسهم ، وسيعلم الظالمون كيف ينتقم
الله تعالى منهم حينما (يَنْقَلِبُونَ) يعودون إليه يوم الحشر والحساب.
سورة النمل
مكية ، عدد آياتها ٩٣ آية
١ ـ (طس ـ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ
مُبِينٍ ...) مرّ بيان (طس) وغيرها من الحروف المقطّعات والرموز ، (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) إشارة إلى آي السّورة (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي مبيّن للحق من الباطل. والقرآن اسم للكتاب باعتباره
مقروءا ، والمبين من الإبانة بمعنى الإظهار.
٢ و ٣ ـ (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ...) هدى للمصدقين من الضّلالة إلى الحق ، وبشرى لهم بالثواب
والجنة. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) يؤدونها في أوقاتها وبحدودها المشروعة (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بتمامها وكمالها ، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر من بين
كل الأعمال الصالحة هنا لكون كل منهما ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله
تعالى والزكاة فيما يرجع إلى الناس ، وبنحو آخر فالصلاة من أعمال البدن والزكاة من
أعمال المال. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ) لا يشكون فيها.
٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ...) تزيين الأعمال يكون إمّا بتخلية الشيطان حتى يزيّنها لهم
وإمّا بجعلها مشتهاة لطبائعهم محبوبة لأنفسهم (فَهُمْ يَعْمَهُونَ
...) أي متحيّرون فيها ضلّوا الطريق.
٥ ـ (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ
الْعَذابِ ...) أي العذاب في الدنيا كالقتل أو الأسر والفدية (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ) فإنهم أشدّ الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة
في جهنم.
٦ ـ (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ...) أي لتلقّنه وتعطاه (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) في أمره (عَلِيمٍ) ذي علم ، بمصالح خلقه.
٧ ـ (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ ...) أي اذكر يا محمّد قصّة موسى حين قال لامرأته ، وهي بنت
شعيب (إِنِّي آنَسْتُ ناراً
...) أبصرت (سَآتِيكُمْ مِنْها
بِخَبَرٍ) أي خبر عن الطريق لأنهم ضلّوا ، (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بشعلة مضيئة (لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ) لكي تستدفئوا بها.
٨ ـ (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ ...) أي لما قرب منها خوطب (أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ) أي في مكان النار وهم الملائكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي موسى أو الملائكة أو كليهما. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تنزيها له.
٩ ـ (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ...) أي أن الذي يكلمك هو الله الذي لا يقهر المحكم لتدبيره.
١٠ ـ (وَأَلْقِ عَصاكَ ...) ارم عصاك (فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ) تتحرّك (كَأَنَّها جَانٌ) كالجنّ السريع الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) كرّ راجعا ، إلى الوراء (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع (يا مُوسى لا تَخَفْ) من تلك الحيّة (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) لأنني معهم أسمع وأرى.
١١ ـ (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ...) إلخ. أي رجع بعد ظلم نفسه إلى التوبة والإنابة والعمل
الصالح بعد العمل السيّئ فالله غفور لمن تاب رحيم بمن أناب.
١٢ ـ (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضاءَ ...) إلخ. هذه آية أخرى زوّده الله بها وقد مر بيانها. (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي مع تسع آيات أخر أنت مرسل بها إلى فرعون وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله إلى أقبح وجوه الكفر.
١٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً
...) إلخ. من أبصر الطريق أي استبان أي حججنا ظاهرة واضحة قالوا
هذا سحر بيّن.
١٤ ـ (وَجَحَدُوا بِها ...) إلخ. أي أنكروها وكذّبوا بها بألسنتهم مع أنهم تيقنوا أنها
من عند الله. (ظُلْماً) لأنفسهم (وَعُلُوًّا) ترفّعا عن الإيمان (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض من الغرق في الدّنيا والحرق في الآخرة.
١٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ
عِلْماً ...) أي علما بالقضاء بين الخلق وبكلام الطير والدوابّ (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي اختارنا من بينهم بأن جعلنا أنبياء وملوكا ، وبالمعاجز
وإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجنّ والإنس.
١٦ ـ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ...) أي ورث الملك والنبوّة بأن قام مقامه دون سائر بنيه وهم
تسعة عشر. (وَقالَ يا أَيُّهَا
النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)
القمي عن الصّادق (ع):
أعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان ومعرفة اللّغات ومنطق الطير
والبهائم والسّباع. (وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) إلخ. أي أعطينا من كل شيء يعطى الأنبياء والملوك أو من كل
شيء يمكن أن يطلبه طالب لحاجته إليه وانتفاعه به ، وهذا هو فضل الله البيّن الظاهر.
١٧ ـ (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ ...) إلخ. أي جمع له (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحسبون ويمنعون من التفرّق حين الحركة.
١٨ ـ (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى ...) إلخ. أي فسار سليمان وجنوده حتى إذا أشرفوا على واد قيل
إنه بالطائف أو الشام كثير النمل قالت نملة قيل إنها رئيسة النمل لأخواتها (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) قراكم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) إلخ. يدهسكم سليمان وجنوده دون أن يحسّوا بوجودكم.
١٩ ـ (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ...) أي تجاوز حدّ التبسّم إلى حدّ الضّحك تعجّبا من حذرها
وتحذيرها جنده. (وَقالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي ألهمني وذكرني شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أما النعمة التي أعطاها الله تعالى له فهي نعمة النبوّة
والملك وهذا ما كان لأبيه (ع) إضافة إلى إلانته الحديد له وأما ما أنعم به على
والدته فهي تزويجها من نبيه (ع) (وَأَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ ...) عطف على أن أشكر (وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي أثبت اسمي مع أسمائهم وقيل إنهم إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ومن بعدهم من النبيين.
٢٠ ـ (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ...) أي طلب الطير الذي لم يكن في مكانه وكانت الطير إذا جلس
على عرشه تظله بأجنحتها من أشعة الشمس. (فَقالَ ما لِيَ لا
أَرَى الْهُدْهُدَ) إلخ. أي ما بال الهدهد لا أراه هل تأخر عصيانا أم لعذر.
٢١ ـ (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ...) أي بنتف ريشه وتشميسه أو حبسه مع ضدّه في قفص واحد (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ليعتبر به أبناء جنسه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة تبيّن عذره أو يبين عذره بها.
٢٢ ـ (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ...) أي فلم يلبث سليمان إلا زمانا يسيرا حتى جاء الهدهد. (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي خاطب الهدهد سليمان قائلا له : اطّلعت على ما لم تطّلع
عليه (وَجِئْتُكَ مِنْ
سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) سبأ اسم للحيّ أو هو أبوهم : سبأ بن يشجب بن يعرب ، أي
بخبر متيقّن لا ريب فيه.
٢٣ ـ (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
...) يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريّان كان ملكا في اليمن
وتمام نواحيها (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) أي أعطيت كل شيء من الأموال وما يحتاج إليه الملوك من زينة
وأسباب. (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) سرير أعظم من سريرك وكان مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت.
٢٤ إلى ٢٦ ـ (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ ...) أي رأيتهم يعبدون الشمس (مِنْ دُونِ اللهِ) ولا يعبدون الله عزوجل (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) خلّى سبحانه بين الشيطان وبينهم فحسّن لهم الشيطان عبادة
الشمس (فَصَدَّهُمْ) منعهم الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) عن طريق الحق (فَهُمْ لا
يَهْتَدُونَ) إلى العبادة الحقيقية وإطاعة الله تبارك وتعالى (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي لا بد وأن يسجدوا لله سبحانه ، وهي بمعنى (هلّا)
التحضيضية. وقيل بأنها من كلام الهدهد (الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يظهر ما استتر وخفي سماويّا كان أو أرضيّا (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) تسترون (وَما تُعْلِنُونَ) تشهرونه وتبدونه ، فهو (اللهُ) الخالق القادر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود سواه (رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ) ربّ كرسيه التي وسعت كل شيء.
٢٧ ـ (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْكاذِبِينَ ...) قال سليمان (ع) للهدهد : سنتأمل لنعرف إذا كنت صادقا في
قولك أم كاذبا.
٢٨ ـ (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ ...) أي احمل رسالتي هذه وألقها إلى الجماعة الذين دينهم كما
ذكرت. (ثُمَّ تَوَلَّ
عَنْهُمْ) أي تنحّ عنهم بحيث ترى وتسمع (فَانْظُرْ ما ذا
يَرْجِعُونَ) فاستمع مناقشتهم ورأيهم وما يقول بعضهم لبعض.
٢٩ ـ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي
أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ...) أي قالت لأشراف قومها جاءني كتاب مختوم جدير بالاحترام.
٣٠ ـ (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ...) أي الكتاب من سليمان (وَإِنَّهُ ...) أي المكتوب (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
٣١ ـ (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ ...) أي لا تترفعوا ولا تتكبروا عليّ وأتوني منقادين طائعين
لأمري وقيل : مؤمنين بالله.
٣٢ ـ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَفْتُونِي ...) إلخ. أي استشارت سراة قومها وطلبت منهم الفتيا في أمر
إسلامهم وتسليمهم لسليمان وعدمه (ما كُنْتُ قاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ...) لا أمضي أمرا إلّا بحضوركم ومشاورتكم.
٣٣ ـ (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ ...) أي ذوو عدد وعدة وقدرة. (وَأُولُوا بَأْسٍ
شَدِيدٍ) أي قوّة في الحرب وشجاعة عظيمة (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي الأمر مفوض إليك. (فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ) من الحرب أو الصّلح.
٣٤ ـ (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ ...) إلخ. أي قالت الملكة : إن في دخول الملوك البلد مفاسد
كثيرة منها إفساد نفس البلدة بنهب الأموال وتخريب الديار ، ومنها إذلال الأعزة
والأشراف بالإهانة والأسر والقتل ، ومنها هتك الأعراض والنواميس.
٣٥ ـ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ ...) ففي المرحلة الأولى ، نحن في مقام الصلح ، ولسنا من أهل
الحرب فأنا باعثة إليهم بهديّة أولا (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي منتظرة حتى يجيئنا الخبر عن حاله وكيفيّة عمله وقوله مع
المبعوثين فنعمل على حسب تكليفنا بعد ذلك.
٣٦ ـ (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ ...) أي فلما جاء الرسول سليمان قال (ع) : أتساعدونني
وتزوّدونني بمال وهذا استفهام إنكار (فَما آتانِيَ اللهُ
خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) ما أعطاني ربّي من النبوّة والملك والحكمة خير مما أعطاكم
من الدّنيا وأموالها (بَلْ أَنْتُمْ
بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) نعم أنتم تفرحون بهدايا بعضكم لبعض حبّا لزيادة المال ،
إشارة إلى عدم اعتباره واعتنائه بأموال الدّنيا.
٣٧ ـ (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ...) أيّها الرسول ارجع إلى بلقيس وملئها بما جئت من الهديّة (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا
قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة ولا قدرة لهم على دفعها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) نخرجهم من سبأ والملك فيها (أَذِلَّةً) بذهاب عزّهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) ذليلون بأسر وإهانة.
٣٨ ـ (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا ...) أخبر جبرائيل سليمان أنّها خرجت من اليمن مقبلة إليك فقال
سليمان لأشراف عسكره (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وتقييد إتيان العرش بقبل إسلامهم لأن بعده لا يجوز التصرف
فيه إلّا بإذنها.
٣٩ ـ (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ ...) أي مارد قويّ (أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلس حكومتك. (وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي على حمله لقادر وعلى الجواهر المركوزة فيه وعلى ذهبه
وفضته أمين لست بخائن.
٤٠ ـ (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ
الْكِتابِ ...) أي الكتاب السّماوي الذي فيه الاسم الأعظم قيل هو آصف بن
برخيا (أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي أنا آتيك بعرشها قبل أن يبلغ طرفك مداه ويرجع إليك.
وقيل : حتى يرتد إليك طرفك بعد مدّة إلى السماء. (فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ...) أي حاصلا حاضرا بين يديه (قالَ) شكرا (هذا مِنْ فَضْلِ
رَبِّي) أي تمكّني واقتداري على عرش بلقيس في هذا الزمان اليسير من
مسيرة شهرين من إحسان ربّي عليّ بلا استحقاق لي (لِيَبْلُوَنِي) ليختبرني (أَأَشْكُرُ) نعمته (أَمْ أَكْفُرُ) أقصّر في أداء واجباته وفي شكر نعمه (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ) لأنه به يستجلب دوام النعمة ومزيدها (رَبِّي غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (كَرِيمٌ) بالإنعام عليهم شاكرهم وكافرهم.
٤١ ـ (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها ...) إلخ. أي غيّروا هيئته اختيارا لعقلها لنرى فيما إذا كانت
تعرفه بعد هذا التغيير أم لا.
٤٢ ـ (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟
...) أي عرشك مثل هذا العرش. (قالَتْ كَأَنَّهُ
هُوَ) أي لم تقل هو هو لاحتمال أن يكون مثله حيث إنه كان في
نظرها بعيدا عادة لبعد الطريق وتشديد الحراسة عليه ولكنها لم تنف لأنها وجدته يشبه
سريرها وهذا كاشف عن رجحان عقلها. (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) هذا من تتمة كلام بلقيس أي وأعطينا العلم بصحة نبوة سليمان
من قبل هذه الآية في العرش. (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) طائعين لك قبل مجيئنا إليك. ويحتمل أن يكون من كلام سليمان
، يعني : (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ) بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها.
٤٣ ـ (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ ...) إلخ. أي منعتها عبادة الشمس عن عبادة الله تعالى (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) هذه الجملة في مورد التعليل ، أي نشوؤها بين أظهر الكفار
وفي بلادهم صار موجبا وسببا لأن تعبد الشمس والانصراف عن عبادة الله تعالى.
٤٤ ـ (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ...) أي القصر ، أو كل بناء عال (فَلَمَّا رَأَتْهُ
حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء عظيما. (وَكَشَفَتْ عَنْ
ساقَيْها) لتخوضه (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ
مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) أي قال سليمان إن ما تظنّيه ماء بناء مملّس من الزجاج. (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالكفر الذي كنت عليه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أسلمت بمصاحبة سليمان وإمداده وتسبيبه لله رب العالمين.
٤٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ ...) أي إلى قبيلة ثمود (أَخاهُمْ صالِحاً) أخاهم في النّسب (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي لأن يقول لهم : اعبدوا الله وحده (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي لمّا أمرهم بالتّوحيد صاروا فرقتين : مصدق له ومكذب ،
ثم تنازعوا فيما بينهم. وتوصيف التثنية بالجمع ، يعني قوله (فَرِيقانِ) بقوله (يَخْتَصِمُونَ) لكون المراد بالفريقين مجموع القبيلة والقوم. و (فَإِذا) فجائية.
٤٦ ـ (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
بِالسَّيِّئَةِ ...) أي بالعذاب بقولكم ائتنا بما تعدنا (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل الثواب والرحمة (لَوْ لا
تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) إلخ. هلّا تتوبون إليه تعالى قبل نزوله بأمل أن يرحمكم
الله؟. ويظهر منه أن صالحا (ع) إنما وبّخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة وقالوا
له : يا صالح ائتنا بما تعدنا ... إلخ.
٤٧ ـ (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ
مَعَكَ ...) أي تشأمنا بكم إذ تتابعت علينا الشدائد ووقع بيننا
الافتراق منذ أظهرتم دينكم (قالَ طائِرُكُمْ) سبب شؤمكم (عِنْدَ اللهِ) هو قدّره بكفركم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ) تختبرون بالرّخاء والشدّة ليعلم حالكم.
٤٨ ـ (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ
رَهْطٍ ...) إلخ. أي تسعة رجال من أشراف القوم وأكابرهم من الأشرار.
وقيل : الرهط : العصابة إلى الأربعين والمراد بالمدينة هي المدينة التي كان بها
صالح وتسمّى بالحجر.
٤٩ ـ (قالُوا ...) أي فيما بينهم (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي تحالفوا بالله (لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ) أي لنقتلنّه وأهله ليلا (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ) لوليّ دمه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ
أَهْلِهِ) ما كنّا حاضرين حين قتلهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي نحلف على صدقنا في إنكارنا قتلهم.
٥٠ و ٥١ ـ (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً
...) أي جازيناهم على مكرهم السيّئ بتعجيل عقوبتهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكرنا وأن فوق مكرهم مكرا. (فَانْظُرْ ...) إلخ. أي كانت نتيجة إفسادهم وتدبيرهم السيّئ (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي التسعة الذين هم أشقى القوم وأقدموا على عقر الناقة (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني الباقين الذين كانوا راضين بعمل التسعة. وكان تدميرهم
بصيحة جبرائيل ، أو صوت الرعد أو الزلزلة.
٥٢ و ٥٣ ـ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً ...) أي خالية أو ساقطة على عروشها (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي في تدمير الظّلمة وتعذيبهم علامة لأهل الإدراك والمعرفة
فيتّعظون بها ويعتبرون (وَأَنْجَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي يتّقون الكفر والمعاصي والشّرك فخصّوا بالنجاة لذلك.
وفيه بشارة للمؤمنين ، إذ التقوى كالمجنّ للإيمان وقد قال تعالى : والعاقبة
للمتقين. كما قال سبحانه : والعاقبة للتقوى.
٥٤ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ ...) المراد بالفاحشة هنا هو إتيان الذّكران والاستفهام
للإنكار. (وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ) أي حال كونكم ترون قبحها وشناعتها.
٥٥ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) إلخ. الاستفهام إنكاري أيضا ، وهو في مقام التعجّب والكره (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ...) أي سفهاء أو تجهلون عاقبتها الوخيمة أو قبحها. أو أنكم
مستمرون على الجهل لا فائدة من توبيخكم والإنكار عليكم فلستم بمرتدعين.
٥٦ ـ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قالُوا ...) إلخ. لما أفحموا عن الجواب أمر أمراء القوم قائلين أخرجوا
آل لوط ، فأمروا بتسفير لوط ومن آمن به (إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ) أي يتبرّءون ويتنزّهون عن أعمالنا ويستنكرونها. والكلام
وارد مورد السخرية والاستهزاء ويحتمل أنه يبرز مرادهم الجدّي لأنهم كانوا حقيقة
كما قيل عنهم.
٥٧ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ ...) أي خلصناهم قبل التسفير والمراد بأهله أهل بيته لقوله
تعالى في سورة الذاريات (فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(إِلَّا امْرَأَتَهُ
قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) حكمنا عليها كونها من الباقين في العذاب.
٥٨ ـ (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ...) إلخ. كان مطرا من الحجارة نزل على قوم لوط الذين أنذرهم
لوط وأعلمهم بموقع المخافة ليتقوها فعصوا.
٥٩ ـ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي يا لوط قل الحمد لله على إهلاك الكفرة (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ
اصْطَفى) اختارهم حججا على خلقه. وقيل : بأن المأمور بأن يحمد الله
ويسلّم على المصطفين من عباده هو رسول الله (ص) وليس لوطا (ع) (آللهُ خَيْرٌ) لمن يعبده (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي ما يعبد أهل مكّة من الأصنام؟
٦٠ ـ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) إلخ. أي بل من خلق السماوات والأرض خير فإن الله تعالى بيّن
أنه الذي اختصّ بخلق السماوات والأرض ويجعل السماء مخزنا للماء والأرض مقرّا
للنّبات والأشجار وما يتحصّل منهما من الحدائق ذوات البهجة المونقة ولا يقدر على
هذا الإنبات إلّا الله ، ولذا فهو المختص بالعبادة ، والخضوع له. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي هل يتصوّر أن يكون مع هذا الذي بتلك القدرة والعظمة كفء
وشريك له يسمّى بالإله؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ) أي يعرضون عن الحق الظاهر وهو التوحيد ، إلى الباطل الظاهر
وهو الشّرك.
٦١ ـ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ...) إلخ. بل من جعل الأرض هكذا بأن دحاها وسوّاها مستقرا
للمخلوقات وجعل بين مساربها أنهارا تجري بالمياه التي هي حياة لتلك المخلوقات من حيوان
ونبات. (وَجَعَلَ لَها
رَواسِيَ) أي الجبال لأن تثبّتها ولئلّا تميد وتتزلزل (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والمالح (حاجِزاً) أي برزخا لئلّا يختلطا فيفسدان بالاتّصال. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لا يَعْلَمُونَ) الحق لعدم تدبّرهم وتفكّرهم فيشركون.
٦٢ ـ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ...) إلخ. أي بل من يجيب المكروب المجهود فيكشف كربه ويستجيب
دعاءه وإنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء والمسألة إذ ما
لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار وكان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب. (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يدفع عن عباده كل ما يسوؤهم (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) بتوارثكم سكناها والتصرّف فيها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون اتعاظا قليلا.
٦٣ ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ ...) إلخ. أمّا هدايته في البراري فبعلامات أرضيّة ، وأمّا في
البحار فبالنجوم والكواكب وقد يكون المقصود بالظلمات مدلهمات طرقهما. (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي بشارة قدّام المطر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي لا إله إلّا الله وحده (تَعالَى اللهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدس.
٦٤ ـ (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ...) أي بل من يوجد المخلوقات من العدم وبعد الإيجاد يفنيهم ثم
يعيدهم بالبعث ، وقيل : المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم
إهلاكه وإيجاد نظيره بعده ، وبالجملة : إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أن المشركين
منكرون للمعاد فكيف يحتج عليهم به؟. (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بأسباب سماوية كالمطر وأرضية كالنبات والثمرات (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل شيئا مما ذكر (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم من أن لله شريكا.
٦٥ ـ (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي من الملائكة والثقلين لا يعلم (الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي ما يحسّ أهل السّموات والأرض متى يحشرون. وهذا برهان
آخر على بطلان ألوهية آلهتهم وهو عدم علمهم بالغيب وعدم شعورهم بالساعة. والمقصود
بآلهتهم هنا الملائكة والجن وقدّيسو البشر.
٦٦ ـ (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي
الْآخِرَةِ ...) أي تتابع منهم العلم وتلاحق حتى كمل علمهم في الآخرة بما
أخبروا به في الدنيا (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي من الآخرة في الدنيا عميان القلوب ، جهلة.
٦٧ و ٦٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... أَإِذا
كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) إلخ. أي آباؤنا كانوا ترابا هل نحن وآباؤنا مخرجون من
الأجداث إلى الحياة من جديد (إِنْ هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيب السّابقين الذين كانوا قبل محمد (ص).
٦٩ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) إلخ. أي مرهم يا محمد بالسّير الآفاقي حتّى ينظروا في
مساكن أهل الشرك ودورهم كيف سقطت على عروشها ولم يكن فيها أحد كديار الحجر
والأحقاف والمؤتفكات ، ويتفكروا كيف أهلكهم الله. وفيه إنذار وتخويف لهم على
إنكارهم وعد الأنبياء بالبعث ، ولا إشكال في أن في النظر في العواقب كفاية
للمعتبرين من أولي الأبصار.
٧٠ ـ (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...) أي على تكذيبهم وإعراضهم (وَلا تَكُنْ فِي
ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) لا تضيّق صدرك بالحرج مما يدبّرون لك من مكائد فإن الله
حافظك منهم.
٧١ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) إلخ. أي متى تحقّقه إن كنت صادقا في قولك؟
٧٢ ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ
...) أي سيلحقكم (بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ) قسم ممّا تطلبون معجّلا في الدنيا وهو عذاب يوم بدر أو
القحط والغلاء إلخ.
٧٣ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ ...) إلخ. أي أنه تعالى متفضّل على عباده حتى الكفرة منهم ومنه
تأخير عقوبتهم لعلّهم ينتبهون فيتوبون إلى ربهم (وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فضله وحقّ نعمته عليهم.
٧٤ و ٧٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ ...) أي ما تخفيه من الحقد والحسد والمكر (وَما يُعْلِنُونَ) من التكذيب وإظهار العداوة فيجازيهم بهما (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فما من شيء من الأمور الخفيّة من حوادث الدهر ونوازله
وغيرها إلّا وهو مكتوب ومبيّن في اللوح المحفوظ.
٧٦ و ٧٧ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى
بَنِي إِسْرائِيلَ ...) إلخ. أي يبيّن لهم ما يختلفون فيه من جهلهم كأمر عزيز وقصة
مريم وعيسى وأحوال المعاد وغيرها. وهو دلالة على الحق ونعمة للمصدقين بالله ورسله.
٧٨ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ...) أي بين من آمن من بني إسرائيل ومن كفر منهم (بِحُكْمِهِ) بما يقتضي به عدله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب (الْعَلِيمُ) بالقضاء بالحق.
٧٩ ـ (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ...) يا محمد (إِنَّكَ عَلَى
الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي الواضح الظاهر ، والمحقّ أولى بالتوكل من المبطل.
٨٠ و ٨١ ـ (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) التعبير عن الكفرة بالموتى لأنهم مثلهم لعدم انتفاعهم بما
يقرأ عليهم ، ومن هذا القبيل قوله تعالى (وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) إذا أعرضوا عن الاستماع وجعلوا دعوة الدّاعي وراءهم ، (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ
ضَلالَتِهِمْ) في الدين ، بالآيات الدالة على الهدى إذا أعرضوا عنها كما
لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي ما يسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا فهم منقادون
مستسلمون. أي مخلصون بالتوحيد.
٨٢ ـ (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ...) أي قرب وقوع المقول وهو ما وعدوه من البعث والعذاب (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ) تخرج بين الصفا والمروة فتخبر المؤمن بأنه مؤمن والكافر
بأنه كافر وعند ذلك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة (أَنَّ النَّاسَ
كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) بالقرآن أو بخروجها.
٨٣ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
...) أي في الرجعة عند قيام الحجّة (فَوْجاً) جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ
بِآياتِنا) وهم رؤساؤهم وقادتهم والمراد بآياتنا إمّا القرآن أو
الأئمة (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ويتلاحقوا.
٨٤ ـ (حَتَّى إِذا جاؤُ ...) أي إلى الموقف (قالَ أَكَذَّبْتُمْ
بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟) قال الله تعالى لهم مقرّعا : هل كذّبتم بالقرآن أو
بالمعاجز التي صدرت على أيدي الأنبياء والرّسل؟ ولم تطلبوا معرفتها ولم يحصل لكم
العلم الكامل بها؟ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أم أيّ شيء كنتم تعملونه إذا لم تكذّبوا بها؟
٨٥ ـ (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ...) أي حلّ بهم العذاب الموعود (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم بالتكذيب بآيات الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) بعذر من الأعذار لعدمه ولشغلهم بالنّار.
٨٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
اللَّيْلَ ...) أي خلقناه (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) يستريحوا فيه
بالنّوم والدّعة (وَالنَّهارَ
مُبْصِراً) لطلب المعيشة (إِنَّ فِي ذلِكَ) في خلق الليل والنهار متعاقبين (لَآياتٍ) دلالات لهم على التّوحيد والنبوّة والبعث والنشور ، ولكن
لمن يعتبرون فيصدقون بقدرة الله.
٨٧ ـ (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ...) الصور شيء يشبه القرن ، أو هو قرن يشبه البوق كما عن النبيّ
(ص). وقيل إن الصور جمع صورة ، والمراد هو : يوم ينفخ في صور الخلائق لتعود إلى
الأجساد. (فَفَزِعَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ماتوا لشدة الفزع (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) من الملائكة وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
وحملة العرش. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ
داخِرِينَ) أي كل من أميت ثم احيي يأتي الله في المحشر صاغرا ذليلا ،
وذلك بعد النفخة الثالثة.
٨٨ ـ (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً
...) أي ثابتة واقفة في مقرّها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحابِ) في السرعة ، (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي صنع الله ذلك صنعا وخلقه خلقا على وجه الإحكام
والإتقان. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَفْعَلُونَ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم بها وعليها.
٨٩ و ٩٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها ...) أي من جاء يوم القيامة بكلمة التوحيد والإيمان فله من ذلك
الخير في ذلك اليوم. وقيل فله أفضل منها (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) وقرئ بالإضافة. ومن المحتمل قويّا أن هذه الجملة مفسّرة
للخير أي فلهم أنهم لا يفزع الناس لأنهم في الجنة (وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي من جاء يوم القيامة بالمعصية الكثيرة وهي الكفر فهؤلاء
ألقوا في النار على وجوههم. (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيقال لهم : إن هذا جزاء أعمالكم التي فعلتموها وليس بظلم.
٩١ ـ (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ...) أي قل يا محمد : أنا مأمور من عند ربّي أن أعبده وهو (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكّة ، (الَّذِي حَرَّمَها) من كلّ ما يستلزم هتكها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من المنقادين.
٩٢ ـ (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ
اهْتَدى ...) : بإجابته لي في ذلك (فَإِنَّما) إلخ ، لعود نفعه إليه (وَمَنْ ضَلَ) بترك الإجابة (فَقُلْ إِنَّما أَنَا
مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي فما عليّ إلا الإنذار والبلاغ.
٩٣ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) على نعمة النبوّة ومنافعها لي وللخلق (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) القاهرة في الدنيا والآخرة (فَتَعْرِفُونَها) وتصدّقونها (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يمهلكم لوقته المحدّد.
سورة القصص
مكية ، عدد آياتها ٨٨
١ ـ (طسم ...) معناه كسائر الفواتح من السّور وقد تقدّم فلا نعيده.
٢ ـ (تِلْكَ ...) إشارة إلى الآيات الموعود بها ، أو آيات هذه السورة أن
تكون الآيات المذكورة في هذه السورة (آياتُ الْكِتابِ
الْمُبِينِ) أي المبيّن الرشد من الغي.
٣ ـ (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى
وَفِرْعَوْنَ ...) أي نبيّن لك بأمرنا جبرائيل نقل بعض قصص موسى وفرعون (بِالْحَقِ) بالصّدق (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) متعلّق ب (نَتْلُوا) أي لمن نعلم بأنهم يصدّقون ويعتقدون به.
٤ ـ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ...) أي انه بغى وتجبّر في أرض مصر وجعل أهلها فرقا ، أذلّ
بعضهم بالاستعباد كطائفة بني إسرائيل ، وأعزّ الآخرين بإعطائهم المناصب الرفيعة
كالقبطيّين. (يَسْتَضْعِفُ
طائِفَةً مِنْهُمْ) أي بني إسرائيل (يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) إلخ. أي يقتل الأبناء منهم ويخلّي النساء والبنات
ويستخدمهنّ لحرمه والنساء القبطيّين ولذا فهو من المفسدين بالقتل وارتكاب الآثام.
٥ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ...) أي نتفضّل (عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بخلاصهم من بأسه في المآل. (وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً) مقدّمين في الدّنيا والآخرة (وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ) لملك فرعون وقومه.
٦ ـ (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) نقوّيهم ونسلّطهم على أرض مصر ونعطيهم مكانا يملكونه
ويستقرون فيه. وعن الخليل : إن المكان مفعل من الكون ، ولكثرته في الكلام أجري
مجرى فعال فقيل : تمكن وتمسكن نحو تمنزل. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من بني إسرائيل ما كانوا يخافون من ذهاب ملكهم وهلاكهم
على يد مولود منهم. فقد تعلقت الإرادة الإلهية بأن تنجي بني إسرائيل ما كانوا
يخافون من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. فقد تعلقت الإرادة الإلهية بأن
تنجي بني إسرائيل من آل فرعون وتحوّل ثقل النعمة من هؤلاء الأقوياء العتاة إلى بني
إسرائيل الأذلّاء المستضعفين وتبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم وما كان
لآل فرعون عليهم والله يحكم لا معقب لحكمه.
٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ...) أي ألهمناها (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما أمكنك إخفاء أمره (فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ) بأن أحسست باشتهار أمره فخفت عليه القتل (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي النيل (وَلا تَخافِي) ضيعته وغرقه (وَلا تَحْزَنِي) على فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ) سالما عمّا قريب (وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) نعطيه منصب الرّسالة ورتبة النبوّة.
٨ ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...) فأخذوه بتابوته من دون طلب (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) أي ليكون لهم في عاقبة أمره كذلك لا أنهم أخذوه لذلك. (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) قيل إنه من الخطإ لأنهم ما شعروا أنّه الذي يذهب بملكهم
ويهلكهم إلى آخرهم.
٩ ـ (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ
عَيْنٍ لِي وَلَكَ ...) لمّا أراد فرعون قتله بعد أن حذّروه قالت آسية زوجته : لا
تقتل الصبيّ عسى أن يكون ضياء عيننا جميعا (لا تَقْتُلُوهُ عَسى
أَنْ يَنْفَعَنا) حيث إن فيه مخايل الخير واليمن ودلائل النفع (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبنّاه فإن هذا الولد أهل لذلك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : هم لا يشعرون أنّه هو الذي ذهاب ملكهم على يديه.
١٠ ـ (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً
...) أي صار قلب أمّ موسى خاليا من الصّبر والعقل لدهشتها حينما
سمعت أن الصّندوق وصل إلى يد فرعون ، (إِنْ كادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ) أي أو شكت أن تقر وتعترف بأنه ابنها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أوثقناه وأحكمناه بالصّبر والثّبات. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدّقات بوعدنا لها بردّه إليها.
١١ ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ...) أي أن أمّ موسى قالت لأخته : امشي وراء الصندوق لتعرفي
أثره وخبره. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ) أي فرأت أخاها من بعيد ، وقيل عن جانب كانت تنظر إليه خلسة
(وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يلتفتون أنها تقصّه.
١٢ و ١٣ ـ (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ ...) أي منعناه من أن يرتضع منهنّ (مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء أمّه إلى عنده وأخذه (فَقالَتْ) أي أن أخته عند ما رأت محبة آل فرعون له وحرصهم على إرضاعه
وطلبهم مرضعة يقبل ثديها قالت لهم : (هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يقومون بتربيته وجميع أموره (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصّرون في أموره لأجلكم (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أراد وعد الله لها عند ما أوحى إليها إنا رادوه إليك
وجاعلوه من المرسلين.
١٤ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ...) أي غاية قوّته ونشوئه ونموّه ، وهو بلوغه إلى الثلاثين ،
وعن ابن عباس إلى الأربعين سنة. (وَاسْتَوى) تمّ في استحكامه وبلغ الأربعين. وقيل : الاستواء :
الاعتدال والاستقرار ، فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته ويختلف
في الأفراد وهو على الأغلب عند بلوغ الأشدّ. وقد ورد في بعض الأخبار أن استوى : التحى.
(آتَيْناهُ حُكْماً
وَعِلْماً) أي النبوّة وعلما بالدّين (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) أي كما فعلنا مع موسى وأمّه من اللّطف والكرم والإحسان
هكذا نجزي المحسنين من كلّ من يعمل عملا حسنا مرضيّا عندنا.
١٥ ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ...) أي المصر المعروف بمدينة فرعون (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) بين المغرب والعشاء ، أو يوم عيد لهم وهم مشغولون وقيل :
حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق وتخلو الشوارع والأزقة من المارة كالظهيرة
وأواسط الليل. (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي إسرائيلي (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفه ، أي القبطي. (فَوَكَزَهُ مُوسى
فَقَضى عَلَيْهِ) ضربه بجمع كفّه أو دفعه بشدّة بحيث كان فيه إزهاق روحه ، (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي الاقتتال الذي وقع بين الرجلين كان من عمل الشيطان
ووسوسته لا ما فعله موسى من قتل القبطي.
١٦ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ...) بهذا القتل إذ لو ظفروا بي لقتلوني (فَاغْفِرْ لِي) يعني استرني من أعدائك (فَغَفَرَ لَهُ) الآية. وهذا الاعتراف بالظلم وسؤال المغفرة نظير ما وقع من
آدم (ع) وزوجه المحكي في سورة الأعراف : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا
... الآية.
١٧ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ...) من القوّة. ويحتمل أن الباء في قوله (بِما) للسببية كما قيل إن الباء للقسم والجواب محذوف ، والمعنى :
أقسم بما أنعمت علي لأمتعنّ فلن أكون (ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي معينا لهم.
١٨ ـ (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً
يَتَرَقَّبُ ...) خائفا من أولياء الدّم من فرعون والقبطيّين ويترصّد
الأخبار وما يقال فيه (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به على الآخر (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) ضال عن طريق الرشد ظاهر الغواية لكثرة مخاصمتك.
١٩ ـ (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ ...) إلخ. أي أن يأخذ القبطيّ ويدفعه عن الإسرائيلي بقوّة وشدّة
، (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أي قال القبطي لموسى ذلك (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) إلخ. أي ما تريد إلا أن تكون طاغيا في الأرض بالظلم والقتل
ولا ترغب أن تكون من المصلحين بين الناس.
٢٠ ـ (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ ...) إلخ. المراد من الرجل هو مؤمن آل فرعون ، واسمه حبيب
النجار ابن عمّ فرعون ، وقد جاء من آخر المدنية مسرعا وأنذره قائلا : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ) إلخ. أي أن الأشراف من آل فرعون يتشاورون فيك ليقتلوك
فاخرج من أرض مصر إلخ.
٢١ ـ (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً ...) إلخ. أي من مصر خائفا على نفسه ينتظر لحوق طالب ويلتفت
يمنة ويسرة ، وكان يدعو ربّه للنجاة من شر فرعون وقومه.
٢٢ ـ (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ
...) أي نحو قرية شعيب (ع) بعد أن فرّ من أرض مصر. ومدين ـ كما
في مراصد الاطلاع ـ تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل ، وهي أكبر من تبوك
وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (ع) كما قيل بأن بينها وبين مصر مسيرة
ثمان ، وكانت خارجة من سلطان فرعون ولذا توجه إليها موسى (ع). (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي
سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المؤدّي إلى النجاة أو الذي فيه صلاحي.
٢٣ ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ...) أي وصل إليه وهو بئر لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي على شفيره ، جماعة من أهل القرية يسقون مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ) أي تمنعان أغنامهما عن الماء فسألهما (ما خَطْبُكُما؟) أي : لم تمنعان الأغنام عن شرب الماء؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ) أي ينصرف ويخلص جميع الرّعاة من السقي. (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كبير السّن لا يستطيع أن يسقي فيرسلنا اضطرارا.
٢٤ ـ (فَسَقى لَهُما ...) أي فروّى غنمهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِ) أي رجع إلى الشجرة التي كانت قريبة من البئر فجلس في ظلّها
(فَقالَ رَبِّ إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) المراد بالخير في الكريمة هو ما يسدّ جوعه فقد كان منذ خرج
من مصر لا يأكل إلا بقل الأرض. وقيل : إن المراد من قوله هذا إشارة إلى القوة
البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي هي رضى الله سبحانه كالدفاع عن
الاسرائيلي والهرب من فرعون بقصد مدين وسقي غنم شعيب ...
٢٥ ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما ...) وهي أكبرهما سنّا (تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْياءٍ) مستحيية وكانت تستر وجهها بكمّها ، (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي جزاء سقيك لنا. (فَلَمَّا جاءَهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي لما جاء موسى شعيبا وحكى له ما جرى عليه من يوم ولادته
إلى يوم فراره وتشرّفه بخدمة شعيب (ع) خوفا من فرعون ، (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) أي قال شعيب لموسى لا تخف نجوت من فرعون وقومه حيث أنّه لا
سلطان له على أرضنا ولسنا في مملكته.
٢٦ ـ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ ...) أي اتّخذه أجيرا لرعي أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي أحسن من تتّخذه أجيرا هو الرجل القويّ على العمل الأمين
على أداء الأمانة.
٢٧ ـ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ...) أي واحدة من هاتين وكانت هي الكبرى (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أن تكون أجيرا لي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي أنت مخيّر في الإتمام ، فإتمامه من عندك تفضّل ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي أجور وأظلم بإلزامك بالعشرة أو بالمناقشة في استيفاء
الأعمال (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ) للتبرّك (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في حسن الصّحبة والوفاء بالعهد.
٢٨ ـ (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ...) أي قال موسى إن الذي شارطتني عليه قد تمّ بيني وبينك (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي من الثماني أو العشر أتممت فلي أن أختار أي الأجلين شئت
فإن اخترت الثمان فليس لك أن تعدو علي وتلزمني بالزيادة ، وإن اخترت الزيادة عليها
فليس لك أن تعدو علي بمعني عنها. (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) بطلب الزيادة منك أو بترك الزائد مني. (وَكِيلٌ) أي هو تعالى على ما نقول ونشارط شهيد.
٢٩ ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ...) أي أتمّ ما كان عليه من الإيجار ، (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي بامرأته وبغنمه. (آنَسَ مِنْ جانِبِ
الطُّورِ ناراً) أي رأى من جانب جبل الطور نارا (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ ناراً) أي توقفوا هنا فإني أبصرت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي بخبر عن الطّريق وكان قد ضلّ عنه (أَوْ جَذْوَةٍ) إلخ. أي قطعة أو شعلة من النار (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها.
٣٠ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ ...) أي أتى النار ووصل إليها سمع موسى مناديا يناديه (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي من الجانب الأيمن لموسى أو للوادي (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متعلق بنودي أي النداء ، كان فيها ، وهي البقعة التي قال
فيها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوادِ ...) إلخ. وإنّما كانت مباركة لأنها كانت مهبط الوحي والرّسالة
ونزول الكتب السماويّة غالبا (مِنَ الشَّجَرَةِ) فإن الشجرة كانت محلّا للكلام ومصدرا له (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ) أي أن مناديك هو مالك العالمين وخالق الخلائق أجمعين تعالى
عن أن يحل في محل لأنه ليس بعرض ولا جسم.
٣١ ـ (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ...) أي إرم عصاك من يدك وإنّما أعاد سبحانه هذه القصّة وكرّرها
في السور إثباتا للحجّة على أهل الكتاب واستمالة لهم إلى الحق ، ومن أحبّ شيئا
أحبّ ذكره. والقوم كانوا يدّعون محبّة موسى ، وكلّ من ادّعى اتّباع سيّده مال إلى
من ذكره بخير وتبجيل وفضل. على أن كلّ موضع من موارد التكرار لا يخلو من مزيد
فائدة (فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) أي بعد إلقائها رآها تتحرّك بكمال السّرعة كأنّها حيّة
صغيرة مع عظم جثّتها وغاية كبرها ، ولذا خاف و (وَلَّى مُدْبِراً) أي منهزما على عقبه من الفزع (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إلى موضعه ، فنودي (يا مُوسى أَقْبِلْ
وَلا تَخَفْ) أي ارجع ولا تفزع (إِنَّكَ مِنَ
الْآمِنِينَ) من كلّ مخوف حيث إنّك من المرسلين ، ولا يخاف لديّ
المرسلون.
٣٢ ـ (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ...) أي أدخلها فيه. والجيب من القميص طوقه ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) ذات شعاع (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي مثل البرص أو أيّ عيب آخر (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى ، وكذلك العكس ، حتى يذهب
بروعك وخوفك. (فَذانِكَ بُرْهانانِ
مِنْ رَبِّكَ) أي العصا واليد حجّتان نيّرتان أنت مرسل بهما من عند ربك (إِلى فِرْعَوْنَ) الآية ، فإن فرعون وقومه قوم فاسقون.
٣٣ و ٣٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ
نَفْساً ...) إلخ. يريد القبطي الذي قتله فبيّن أن سبب خوفه منهم هو
قتلهم له قودا بذلك القبطي (وَأَخِي هارُونُ) الموجود في مصر (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِساناً) إنما قال ذلك لعقدة ولكنة كانت في لسانه ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي عونا لي (يُصَدِّقُنِي) يكون مصدّقا لي في بيان الحجج وتزييف الشّبه (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) حيث لا يفهمون مقصدي من عقدة لساني ولقصور بياني.
٣٥ ـ (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ...) أي نجعله عونا لك ونقوّيك به (وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً) أي غلبة وسلطة بالحجج (فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما) أي فرعون وقومه لا يصلون إلى الإضرار بكما (بِآياتِنا) بسبب ما نعطيكما من الآيات (أَنْتُما وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) لفرعون وملئه ، القاهرون لهم.
٣٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا
بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ...) أي سحر موصوف بأنه مختلق كسائر أنواع السحر. (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا أنّ هذا الذي يقوله موسى يصدّق به آباؤنا
ويقبلونه ممّن ادّعاه من مدّعي النبوة السابقين. أو اتخذوه في وقت من الأوقات.
٣٧ ـ (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ
جاءَ بِالْهُدى ...) أي جاء بإراءة طريق الحق للناس ومقتضى السياق كونه جوابا
من موسى (ع) عن قولهم : (وَما سَمِعْنا ...) إلخ ، في ردهم لدعواه (ع). وهو جواب مبني على التحدي. (مِنْ عِنْدِهِ) بأمره (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ) عاقبة الدّنيا المحمودة وهي الجنّة ، وإما نفس الدار
الدنيا كما في قوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها
من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. أو المعنى الأعم الشامل للدنيا والآخرة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوز من عصى ربه وكفر به. فظلم بذلك نفسه. وفيه
تعريض بفرعون وقومه ، وإن هؤلاء لن تكون لهم عاقبة الدار حيث بنوا سنّة الحياة على
الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة
للنظام الكوني.
٣٨ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ ...) خاطب فرعون قومه بذلك ، (ما عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فلا ربّ سواي. وفيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة
الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة. (فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اصنع الآجرّ وأوقد النار على الطين ليشتدّ ويستحكم وابن
لي صرحا عاليا وهامان مستشاره ووزيره. (لَعَلِّي أَطَّلِعُ
إِلى إِلهِ مُوسى) في السماء. وقد نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي
يدعو إليه. وقوله : لعلّي أطّلع ... إلخ ، كأنه كان يرى أنه تعالى جسم من الأجسام
يسكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك ، أو كأن هذا القول من قبيل التعمية على الناس
وإضلالهم. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أعتقد كذبه.
٣٩ ـ (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) أي استعلى هو وجنده وأعوانه وأخذتهم العزة بالإثم (وَظَنُّوا) زعموا (أَنَّهُمْ إِلَيْنا
لا يُرْجَعُونَ) لا يردّون يوم القيامة.
٤٠ ـ (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ ...) فاستدرجناهم في أثر بني إسرائيل وأغرقناهم في البحر (فَانْظُرْ) تفكّر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ) كيف كان مصيرهم.
٤١ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ...) أي اعتبرناهم وأقمناهم قدوة ضلال (يَدْعُونَ) أتباعهم (إِلَى النَّارِ) يوردونهم إياها بكفرهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.
٤٢ ـ (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا
...) أي ألحقنا بهم وأوصلنا لهم في الدّنيا (لَعْنَةً) إبعادا عن الرحمة. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ممّن قبحت وجوههم ومن المشوّهين أو ممّن قبحت أعمالهم وساء
حالهم. أو بحيث كانوا يتنفّروا وتشمئزّ عنهم النفوس ويفر منهم الناس ولا يدنوا
منهم أحد.
٤٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى ... بَصائِرَ
لِلنَّاسِ ...) أي أعطينا موسى التوراة أنوارا لقلوبهم يستبصرون بها ، أو
حججها وبراهين لهم وعبرا يعرفون بها أمور دينهم (وَرَحْمَةً) لنيل الرحمة ولئلا يبقوا من المغضوب عليهم.
٤٤ ـ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ...) أي ولم تكن حاضرا يا محمد في طرف جبل الطور الغربي حيث كلّم
الله فيه موسى (إِذْ قَضَيْنا إِلى
مُوسَى الْأَمْرَ) حين أوحينا إلى موسى أمرنا بالرسالة والشريعة. (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لتكليمه فتخبر قومك به عند مشاهدة وعيان وإنما هو من الغيب
الذي أطلعناك عليه ليكون حجة على صدق دعواك.
٤٥ و ٤٦ ـ (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً ...) أي أوجدنا أمما. (فَتَطاوَلَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فمضت عليهم مدة طويلة بحيث نسيت الأخبار وتغيّرت الشرائع
وطالت فترة النبوّة ، والناس صاروا في حيرة الضلالة وتيه الجهالة فحملهم ذلك على
الاغترار والتوحّش (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) إلى أن يقول (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ) ثم يقول سبحانه (وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ) فعلّمناك ذلك رحمة منّا ، وهو أن بعثك ربّك نبيّا وأنزل
عليك القرآن وأعطاك دين الإسلام وأخبرك هذه الأخبار لتكون معجزة لصدق نبوّتك ، و (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لتخوّف الذين لم يأتهم رسول في زمن الفترة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتّعظون ويعتبرون. والظاهر أن المراد بذلك القوم أهل عصر
الدعوة النبوية ، أو هم من يقارنهم من آبائهم ، فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود
وصالح وشعيب وإسماعيل (ع).
٤٧ ـ (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ
...) تنزل بهم (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) إلخ. جوابه محذوف. أي لو لا قولهم إذا أصابتهم مصيبة
وعقوبة ، بسبب كفرهم ومعاصيهم ، ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلّغنا آياتك
فنتبعها ونكون من المصدّقين ما أرسلناك ، وإنّما أرسلناك قطعا لعذرهم وإلزاما
للحجة عليهم.
٤٨ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنا ...) أي جاء محمد رسولا من عندنا إلى مشركي العرب أو أن المراد
بالحق هو الكتاب النازل عليه (ص) وهو القرآن. (قالُوا لَوْ لا
أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي قالوا تعنتا واقتراحا هلا أعطي محمد من المعجزات مثل ما
أعطي موسى كالعصا واليد البيضاء وغيرهما (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فبيّن كفر القبطيين ومشركي عصر موسى بقولهم : (سِحْرانِ) أي اليد والعصا أو المراد به : ساحران ومرادهم موسى وهارون
أو المراد التوراة والقرآن كما سوف ننبه أيضا. (تَظاهَرا) تعاونا (وَقالُوا إِنَّا
بِكُلٍ) منهما (كافِرُونَ) جاحدون مكذبون. وقيل بأن هذه مقالة مشركي قريش وأرادوا
بالسحرين التوراة والقرآن وقالوا إنا كافرون بكل الأنبياء.
٤٩ و ٥٠ ـ (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ ... هُوَ أَهْدى
مِنْهُما ...) أي من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ) وأؤمن به معكم وأتديّن به إن كنتم صادقين فيما تزعمونه. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) لم يأتوك بكتاب أهدى (فَاعْلَمْ أَنَّما
يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي يتكلمون من عند أنفسهم بلا حجة ويدافعون عن مشتهيات
طباعهم بمثل هذه الأباطيل. (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) أي لا أضلّ ممن اتخذ دينه رأيه. (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي بغير إمام من أئمّة الهدى (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين ظلموا أنفسهم بانهماكهم في اتّباع الهوى فجّروا
عليها ويلات العذاب في نار جهنم. وغير المتهدي هو الضالّ.
٥١ ـ (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ...) أي أنزلنا القرآن متّصلا بعضه في أثر بعض ليتصل الذّكر. أو
المعنى متواصلا حججا وعبرا (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) فيتدبّرون ويعتبرون فيطيعون.
٥٢ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِهِ ...) أي أنزلنا عليهم التوراة والإنجيل قبل محمد والقرآن. (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون بمحمد لأنهم وجدوا نعته عندهم. وقيل وهم يصدقون
بالقرآن.
٥٣ ـ (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا
آمَنَّا بِهِ ...) أي آمنا بالقرآن (إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّنا) لا شك فيه (إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أسلمنا به قبل نزوله وتلاوته علينا لأنّا وجدنا في كتبنا
السماوية ذكره.
٥٤ ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ ...) أي لمّا آمنوا بالقرآن مرة قبل نزوله وأخرى بعد نزوله فلذا
يعطون أجرين (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيمان به قبل النزول وبعده ، وقيل بصبرهم على
الإيمان وأذى الكافرين (وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بطاعاتهم سيّئاتهم ومعاصيهم التي عملوها قبل
الحسنات فتمحى بها أو المراد بالحسنة كلمة التوحيد والسيئة هو الشرك فهي ماحية لها
، وقيل : يدفعون الجهل بالحلم.
٥٥ ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ ...) اللغو هو السفه من الناس والقبيح من القول فإذا سمعوه لم
يقابلوه بمثله (وَقالُوا) أي قال المتصفون بالأوصاف المذكورة (لَنا أَعْمالُنا) من الحلم والصفح (وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ) من السفاهة واللغو ، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل إنّ هذا سلام متاركة يعنون به أن هذا فراق بيننا
وبينكم. وقيل سلام تحيّة حلما وكرامة يعنون به أننا لا نقابل لغوكم بمثله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي لا نريد مخالطتهم ولا نطلب مجالستهم.
٥٦ ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ...) أي من أحببت هدايته. والمراد بالهداية هنا هو اللطف
والتوفيق الذي من عنده تعالى ، ولا يقدر عليه غيره (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بلطفه وتوفيقه فيريهم السبيل إليه ويعينهم عليه. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بمن له الأهلية والسعادة الذاتية للتشرف بشرف الإسلام
وللتنوّر بنور الإيمان.
٥٧ ـ (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ ...) أي نستلب (مِنْ أَرْضِنا) يعني مكة والحرم. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أي أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت (يُجْبى إِلَيْهِ) أي يجمع فيه (ثَمَراتُ كُلِّ
شَيْءٍ) من كلّ أوب ومكان (رِزْقاً مِنْ
لَدُنَّا) عطاء من عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ) فهم جهلة جحدة لا يتفكّرون.
٥٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ...) أي أهلكنا أهلها وكانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش
فأعرضت عن الشكر وتكبّرت (فَتِلْكَ
مَساكِنُهُمْ) إشارة إلى ما يمرّون به في أسفارهم للتّجارة من ديار عاد
وثمود وقوم لوط (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي خالية من أهلها ليس فيها إلا المارّون في أسفارهم (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) المالكين لديارهم من بعد إهلاكهم.
٥٩ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً ...) أي حتى يرسل في عاصمتها وهي القرية التي تكون أعظم قراها ،
رسولا. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا) يقرأ عليهم حججنا (وَأَهْلُها ظالِمُونَ) لأنفسهم بتكذيب الرسل والتوغّل في الجحود والكفر.
٦٠ ـ (وَما أُوتِيتُمْ ... أَفَلا تَعْقِلُونَ؟
...) فإن هذا الاستبدال للذين هو أدنى لفنائه بالذي هو خير
لبقائه ، وإيثاره عليه أمر غير عقلائي. والإيتاء : الإعطاء. وقوله : من شيء : بيان
ل (ما) لإفادة العموم ، أي كل شيء أوتيتموه ، والمتاع : ما يتمتع
به. والزينة : ما ينضم إلى الشيء ليفيده حسنا وجمالا والحياة الدنيا ، الحياة
المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا ، وتقابلها الحياة الآخرة التي هي
خالدة مؤبدة.
٦١ ـ (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ...) أي الجنة في الآخرة جزاء على طاعته (فَهُوَ لاقِيهِ) أي فهو واصل إليه لا محالة (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب إما للثواب أو للعذاب.
٦٢ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ ...) أي ينادي الله الكفار توبيخا لهم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا انهم شركائي في الألوهية وتعبدونهم.
٦٣ ـ (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ ...) أي وجب عليهم الوعيد بالعذاب من الجن والانس والشياطين. (رَبَّنا هؤُلاءِ) مبتدأ (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) خبره ، (أَغْوَيْناهُمْ) أضللناهم عن الدين بالوسوسة فغووا باختيارهم غيّا (كَما غَوَيْنا) مثل غيّنا باختيارنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم وممّا اختاروه لأنفسهم من الكفر (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنّما كانوا عابدين لأهوائهم.
٦٤ ـ (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ...) أي ويقال للأتباع ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله
لينصروكم من الله (فَدَعَوْهُمْ) من فرط الحيرة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ) لعجزهم عن الإجابة والنصر (وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي لمّا رأوا العذاب تمنوا لو كانوا مهتدين ، وقيل : لو
انهم آمنوا لاعتقدوا أن العذاب حق.
٦٥ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ...) أي اذكر يا محمد يوم ينادي الله الكافرين فيقول (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) بأيّ شيء أجبتم الأنبياء حين دعوكم؟ فهم قد سئلوا أولا :
عن شركائهم وأمروا أن يستنصروهم ، وثانيا : عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.
٦٦ ـ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ
يَوْمَئِذٍ ...) أي خفيت ولم يدروا بماذا يجيبون يوم القيامة. (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لدهشتهم يوم القيامة.
٦٧ ـ (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ ...) أي تاب من الشرك وآمن بالله ورسوله (وَعَمِلَ صالِحاً) إلخ. مشفعا الإيمان بالعمل الحسن فإنه من الفائزين برضوان
الله يوم القيامة.
٦٨ و ٦٩ ـ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ...) أي يوجد كلّ شيء يريده بلا مانع ولا رادع (وَيَخْتارُ) لرسالته من هو الأصلح لعباده ، فإنه الخالق لهم وهو يعرف
الأصلح من غيره فليس لعباده كالوليد بن المغيرة وغيره من صناديد العرب أن يطعنوا
في من اختاره الله واصطفاه للرسالة (ما كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم الاختيار. (سُبْحانَ اللهِ) أي هو تعالى منزّه عن أن ينازعه أحد بما اختاره (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ارتفع عن إشراكهم الحامل لهم أن يختاروا على مختاره تعالى
غيره. (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي يعلم سرهم وجهرهم. ولكون الصدر يعدّ مخزنا للأسرار نسب
الإكنان إلى الصدور والإعلان إليهم أنفسهم.
٧٠ ـ (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي أنه لا معبود بحقّ سواه ، و (لَهُ الْحَمْدُ) أي المدح والثّناء (فِي الْأُولى) أي في الدّنيا والآخرة (وَلَهُ الْحُكْمُ) الأمر والنهي. أو الحكم بالمغفرة لأهل الطاعة وبالشقاء
لأهل المعاصي.
٧١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ... عَلَيْكُمُ
اللَّيْلَ سَرْمَداً ...) إلخ. السّرمد : على فعلل بمعنى الدائم أي دائما بلا نهار
وقيل : هو من السّرد والميم زائدة ومعناه : المتتابع المطّرد وتقييده بيوم القيامة
، إذ لا ليل بعد يوم القيامة. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ) إلخ. هل يقدر غير الله إله آخر أن يأتي بضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) مواعظ الله وبيان آياته بأذن التدبّر والتفكّر لتعتبروا؟
٧٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ ...
النَّهارَ ...) أي أخبروني عمّا إذا جعل النهار (سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) دائما بلا ليل أو كما قيل في سابقه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أيّ قادر يقدر على حركة الشمس سوى الله (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) تستريحون فيه (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إمّا من البصيرة
يعني : أفلا تتبصّرون؟ وإمّا من البصر بمعنى المشاهدة أي : أفلا تشاهدون تلك
الآيات الظاهرة بعين التعقّل فتعلمون أنها من صنع مدبّر حكيم عليم؟
٧٣ ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ ...) أي من إحسانه ونعمته (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) خلقهما لكم (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لاستراحتكم في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) في النهار من الرزق (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعم الله عليكم في هذا وغيره. والآية بمنزلة نتيجة الحجة
المذكورة في الآيتين السابقتين ، سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار
الابتدائي لثبوته من غير معارض
٧٤ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ ...) إلخ. مر تفسيره وإنما كرّر هذه الآية تقريعا لهم بعد تقريع
أو لحكمة أخرى.
٧٥ ـ (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً
...) أي أخرجنا من بين أفراد كلّ أمّة نبيّهم الذي أرسل إليهم يشهد
عليهم بما كان منهم وبما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمم الذين كذّبوا أنبياءهم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على صحة ما كنتم عليه (فَعَلِمُوا) بعد عجزهم عن الإتيان ببرهان على مدّعاهم (أَنَّ الْحَقَ) أي في الإلهيّة (لِلَّهِ) وحده (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب (ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) من الكفر. وفيه إشارة إلى ظهور بطلان مزاعمهم لهم يوم
القيامة
٧٦ ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى
...) أي من بني إسرائيل ثم من سبط موسى وهو ابن خالته كما قيل. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) تكبّر وتجبر واستطال عليهم بكثرة أمواله. والبغي ـ كما في
المجمع ـ طلب العتوّ بغير حق. (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ) من الأموال المدّخرة (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) أي ما يفتح من الغلق وقيل خزائنه (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) إلخ. تثقل عليهم وتعجز عن حملهم إياها وحفظهم لها. والعصبة
: قيل هو العشرة وقيل الأربعون. وقيل الستون. (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي لا تبطر بالنّعمة ولا يلهك المال عن الآخرة ان الله لا
يحب من كان بهذه الصفة. وقد فسّر الفرح بالبطر وهو لازم الفرح والسرور المفرط
بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بها ينسي الآخرة ويورث البطر والأشر.
٧٧ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ ...) إلخ. أي من الأموال ، فاطلب بها الآخرة بإنفاقها في سبل
الخير الموصلة إليها. (وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) واعمل في الدنيا للآخرة ولا تنس أن تعمل لآخرتك ، أو
المراد لا تنس حظ نفسك من هذه الأموال (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أنفق إلى عباد الله بإزاء إحسان خالقهم إليك ، (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) إلخ. أي لا تطلب العمل في الأرض بالمعاصي إن الله لا يحب
من كان كذلك.
٧٨ ـ (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ
عِنْدِي ...) أي أراد إنما أعطيت هذا المال بفضل وعلم عندي ليسا موجودين
عندكم ، أو لرضا الله عني ومعرفة باستحقاقي وهذا منه جواب عن جميع ما قاله
المؤمنون من قومه ونصحوه به ، وكان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه
الله إحسانا إليه وفضلا منه من غير استيجاب واستحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار
الآخرة ويحسن به إلى الناس ولا يفسد في الأرض بالاستعلاء والاستكبار والبطر. فأجاب
بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق ، وإذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل
بملكه وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء وكيفما شاء. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وَأَكْثَرُ جَمْعاً) كشدّاد وعاد وثمود وأصحاب الرس (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ) أي لا يسأل من كان قبلهم عن ذنوب هؤلاء المهلكين.
٧٩ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
...) أي خرج قارون على بني إسرائيل في زينته التي كان يتزين بها
وابّهته وخدمه وحشمه (قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) أي أن الكفار والمنافقين وضعيفي الإيمان. بما للمؤمنين من
ثواب الجنة تمنّوا مثله لا عينه حذرا من الحسد. (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ) أي نصيب وافر من الدنيا.
٨٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي الخلّص من أصحاب موسى (وَيْلَكُمْ ثَوابُ
اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) مما أوتي قارون وهذه كلمة زجر عما هو غير مرضيّ. وهو في
المقام زجر عن التمنّي الباطل. (وَلا يُلَقَّاها
إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا يوفّق لمثل هذه الكلمة إلا الصابرون على طاعة الله
وقيل لا يعطى الجنة إلا هؤلاء.
٨١ ـ (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ
...) أي ابتلعته وداره وما فيها من كنوز (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ) إلخ. أي من أعوان يدفعون عنه العذاب.
٨٢ ـ (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ ...) أي الذين كانوا يترجّون مكانة قارون ويأملون منزلته ورفيع
جاهه قبل الخسف ، ويك كلمة تستعمل لإظهار الندم بعدم انكشاف الخطإ. (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي أن سعة الرزق وضيقه بيد قدرته وحسب ما تقتضيه الحكمة
وتحكم المصلحة. (لَوْ لا أَنْ مَنَّ
اللهُ عَلَيْنا ...) إلخ. أي لولا ان أنعم الله علينا بنعمه فلم يعطنا ما أعطى
قارون لخسف بنا كما فعل به ولا يفوز بثواب الله وينجو من عقابه الجاحدون لنعمه.
٨٣ ـ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ...) إلخ. أي التي سمعت خبرها وبلغك وصفها والاشارة إليها بلفظ
البعيد للدلالة على شرفها وبهائها وعلو مكانتها وهو الشاهد على أن المراد بها
الدار الآخرة السعيدة ولذا فسروها بالجنة. (لا يُرِيدُونَ
عُلُوًّا) غلبة وقهرا (وَلا فَساداً) بغيا وظلما.
٨٤ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ... إِلَّا ما
كانُوا يَعْمَلُونَ ...) أي مثل ما كانوا يعملون لا يزاد على قدر استحقاقهم في
عقابهم ، وفي هذا كمال العدل ، بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق فإنّه
يكون تفضلا. ففيه كمال الفضل والإحسان.
٨٥ ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ ...) أي أوجب تلاوته وتبليغه وامتثال ما فيه من الأحكام عليك يا
محمد ففيه مجاز في النسبة. (لَرادُّكَ إِلى
مَعادٍ) لمرجعك إلى مكة وهذا من الإخبار بالغيب الذي حصل بفتح مكة.
وقيل : إن المراد بالمعاد الموت ، وقيل هو القيامة ، وقيل هو المحشر ، وقيل : هو
المقام المحمود وهو موقف الشفاعة الكبرى ، وقيل : هو الجنة ، وقيل : هو بيت المقدس
، وهو على هذا الأخير وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في
المعراج الأول. وقيل : هو الأمر المحبوب ، فيقبل الانطباق على جلّ هذه الأقوال أو
كلها. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي قل يا محمد إن ربّي لا يخفى عليه المهتدي وما يستوجبه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الضالّ الذي لا شك في ضلالته وفيما يستحقّه.
٨٦ ـ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ...) إلخ. أي ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك
ويشرّفك بإنزال القرآن عليك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ) أي ما ألقي إليك إلّا رحمة منه خصّك بها. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) معينا لهم بمداراتهم والتحمّل عنهم والإجابة لطلبتهم.
٨٧ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ...) أي لا يصرفك الميل إلى الكفرة عن قراءة آيات الله والعمل
بها بعد إنزالها إليك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. وقد كرر صفة الرب مضافا إليه (ص)
للدلالة على اختصاصه بالرحمة والنعمة وأنه (ص) متفرّد في عبادته لا يشاركه
المشركون فيها. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم والرّضا بطريقتهم.
٨٨ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) إلخ. أي لا تعبد معه غيره إذ لا معبود سواه وكل شيء فان
إلا ذاته. وقيل : كل شيء هالك إلا ما قصد به وجهه فإن ذلك يبقى ثوابه. (لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق والعدل.
سورة العنكبوت
مكية ، عدد آياتها ٦٩ آية
١ ـ (الم ...) أشرنا سابقا إلى تفسير الحروف المقطّعة فلا نعيده.
٢ ـ (أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أي أظنّ الناس (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فيهملوا ويخلّوا إذا قالوا إنّا مؤمنون فقط ، ولا يمتحنون
بما تظهر به حقيقة إيمانهم؟
٣ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) أي اختبرناهم ، فهي سنّة جارية قديمة في الأمم كلّها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي ليميّزن الله الذين صدّقوا من الذين كذّبوا بالجزاء
والمكافأة.
٤ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ ...) هذا استفهام منقطع عمّا قبله والمعنى : بل أحسب الذين
يفعلون الكفر والقبائح (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فوت السابق لغيره فلا نستطيع معاقبتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا.
٥ ـ (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ...) أي من كان يأمل الوصول إلى ثوابه ، أو يخاف عقابه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الموقّت للقائه (لَآتٍ) أي لقادم ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأفعالهم.
٦ ـ (وَمَنْ جاهَدَ ...) أي من حارب الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه. ويحتمل من جاهد
أعداء الدّين لإحيائه ، (فَإِنَّما يُجاهِدُ
لِنَفْسِهِ) لأن نفعه يرجع إليها (إِنَّ اللهَ
لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه.
٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا ...
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي ...) أي نجزيهم على أحسن عملهم بأحسن جزاء ، وبعد ذلك نجزيهم
على أعمالهم الأخر التي دون العمل الأحسن طبق العمل الأحسن. ويتبين من ذلك أن
عاقبة إيمانهم ونفعه يعود إليهم لا إلى الله سبحانه وأنه عطية من الله وفضل. وعلى
هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان والعمل الصالح ،
فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة : ومن جاهد .. من قوله في هذه الآية : والذين
آمنوا و... إلخ.
٨ و ٩ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حُسْناً ...) إلخ. أي أمرناه : افعل بهما حسنا وإذا دعياك وألحّا عليك (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) أي لتشرك بي في العبادة ما ليس لك ولا لأحد علم بإلهيّته
وهذا تتميم للتوصية بخطاب شفاهي ، وإشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى
الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل ، وعبادة ما ليس له به علم افتراء
على الله وقد نهى الله عن اتباع عدم العلم في كثير من الآيات. (فَلا تُطِعْهُما) إلخ. في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والصالحون من الناس ندخلهم يوم القيامة مع الصالحين.
١٠ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ...
فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ...) أي لدينه ، يعني لأخذه طريق الحق يؤذيه الكفرة (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) يعدّ عذاب الناس من المشركين (كَعَذابِ اللهِ) أي عذاب الناس يصير صارفا له عن إيمانه كما أن عذاب الله
صارف لأهل الإيمان عن الكفر مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت ولا يقاس
ذلك بعذاب الله المؤيد الذي يستتبع الهلاك الدائم. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ) أي فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا
كُنَّا مَعَكُمْ) ولنا في الغنيمة مثلكم (أَوَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي يعلم الإخلاص والنفاق ويعلم الصدق والكذب.
١١ ـ (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي يعرف حقيقة ما في القلب لا باللّسان فقط (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
١٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ...) أي قال الكافرون للمؤمنين : كونوا على طريقتنا ، وإذا كان
البعث والحساب والعقاب حقّا كما يقول محمّد فنحن نتحمّل ذنوبكم وهو سبحانه ردّهم
وكذّبهم لأن قولهم : ولنحمل خطاياكم ، يشتمل على معنى ضمني ودعوى أن خطاياهم تنتقل
إليهم لو احتملوها وأن الله يجيز لهم ذلك. وبعد ذلك قال :
١٣ ـ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ...) إلخ. أي أنّهم تضاعف أثقالهم بحملهم أثقال من تبعهم
وتسبّبوا في إضلاله من غير أن ينقص من أثقال تابعيهم شيء بسبب أنهم ضالّون مضلّون.
فالآية في معنى قوله تعالى في سورة النحل : (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) ، وبعد ذلك نسألهم بالتأكيد (عَمَّا كانُوا
يَفْتَرُونَ) من الكذب لإضلال الناس.
١٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى
قَوْمِهِ ...) يدعوهم إلى التوحيد والإيمان (فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يؤمنوا به وأبوا أن يجيبوه ، (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) إلخ. أهلكهم بالغرق وهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم. والطوفان
هو الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض. وقيل : هو كل ما يطوف
بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام ، والغالب استعماله في طوفان الماء.
١٥ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ
...) أي أنجينا نوحا ومن ركب معه فيها. وهم أهله وعدة قليلة من
المؤمنين به ولم يكونوا ظالمين. (وَجَعَلْناها) أي القصة أو الواقعة أو النجاة. (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي علامة للخلق من الأجيال اللاحقة بهم. يعتبرون بها.
١٦ ـ (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) إلخ. أي : اذكر يا محمد قصة إبراهيم إذ قال لقومه أطيعوا
الله وخافوه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه. (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ) أي الاتّقاء والعبادة خير لكم من شرككم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه خيركم.
١٧ ـ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
...) أي غير الله (أَوْثاناً) جمادات تسمّونها أربابا والوثن : الصنم (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تكذبون كذبا في تسميتهم آلهة والإفك : الأمر المصروف عن
وجهه قولا أو فعلا. (لا يَمْلِكُونَ
لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم شيئا ممّا تحتاجون إليه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ) العبادة ينبغي أن تختص بمن هو الرزاق ذو القوة المتين وهو
الله (وَاشْكُرُوا لَهُ) إلخ. فإن الشكر قيد للنّعمة العاجلة وإليه تعودون يوم
القيامة.
١٨ ـ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا ...) أي محمدا (ص). وقيل بأنه خطاب لأمة إبراهيم (ع) (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلخ. أي كذبوا رسلهم ولم يضرّهم تكذيبهم وإنما ضرّوا
أنفسهم. فكذا شركهم وتكذيبهم إيّاك يلحق ضرره بهم. ومعنى الشرط والجزاء في صدر
الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنّة الجارية في الأمم المشركة وقد كذّب
من قبلكم وأنتم منهم في آخرهم وليس عليّ بما أنا رسول إلا البلاغ الواضح.
١٩ و ٢٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا ...) إلخ. أي كفار مكة ألم يتفكروا كيف أنشأ الله الخلق من
العدم ثم يعيدهم ثانية بعد أن يميتهم ويعدمهم (قُلْ) يا محمد لهم (سِيرُوا ...) إلخ. انظروا وابحثوا هل تجدون غير الله خالقا ابتدأ هذا
الخلق فإذا لم تجدوا غيره لزمتكم الحجة في أنه سبحانه هو المعيد لأنه لا يعجزه
شيء. (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الإبداء والإعادة (يَسِيرٌ) سهل على الله إذا أراده كان.
٢١ ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ... وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ ...) أي تردّون فيحاسبكم ويعذّب المستحقّ للعذاب ويرحم من يستحق
الرحمة. وقيل : بأن قلب الشيء تحويله عن وجه لله أو حاله كجعل أسفله أعلاه ، وجعل
باطنه ظاهره ، وهذا المعنى يناسب قوله تعالى في سورة الطارق : يوم تبلى السرائر.
٢٢ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ...) أي لا يعجز الله عن إدراككم لو هربتم عن حكمه (فِي الْأَرْضِ) الواسعة أو (فِي السَّماءِ) التي هي أوسع من الأرض بمراتب كثيرة. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
وَلِيٍ) مانع يمنعكم منه (وَلا نَصِيرٍ) ناصر يحرسكم ويدفع عنكم عذابه.
٢٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي بدلائله الدالة على المعرفة والتوحيد أو كتبه (وَلِقائِهِ) أي البعث (أُولئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجزاء. والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب
ويلازم الجنة ، وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة على الجنة كما في الجاثية /
٣٠ ، والإنسان / ٣١. (وَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.
٢٤ ـ (فَما كانَ جَوابَ ... إِلَّا أَنْ
قالُوا اقْتُلُوهُ ...) هذا قول بعضهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه. وقال
آخرون : (أَوْ حَرِّقُوهُ) ونسبة كلّ واحد من الفعلين إلى جميعهم باعتبار رضاء
الباقين حين قال البعض. (فَأَنْجاهُ اللهُ
مِنَ النَّارِ) بعد ما رموه فيها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنجائه (لَآياتٍ) إلخ. منها منعه من حرّها ، وسرعة إخمادها مع عظمها إلخ. كل
ذلك حجج وبينات للمصدقين بوحدانية الله وقدرته.
٢٥ ـ (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ...
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ...) إلخ. أي قال إبراهيم لقومه : إنما اتخذتم الأوثان آلهة
لتكونوا أهل ملّة واحدة فتتوادّون بينكم وتتواصلون فتكونون متّحدين في قبال أصحاب
الحق في هذه الدنيا ومودّة بينكم صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام
التعليل والمودة على هذا سبب لاتخاذ الأوثان ، وأن يكون مفعولا لأجله والمودة غاية
مقصودة من اتخاذ الأوثان (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي يتبرّأ بعضكم من بعض في الآخرة. (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التلاعن والتّعادي بينكم ، أو بينكم وبين
المعبودين من الأوثان (وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) ما لكم أعوان يخلصونكم من عذاب الله.
٢٦ ـ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ...) أي صدّق لوط إبراهيم في رسالته والإيمان يتعدى باللام كما
يتعدى بالباء والمعنى واحد. (وَقالَ إِنِّي
مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي قال إبراهيم للوط ولزوجته سارة التي كانت بنت عمّه وقد
آمنت به : إنّي خارج من قومي الظالمين إلى حيث أمرني ربّي أي من العراق إلى الشام.
(إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ) أي هو تعالى يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.
٢٧ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ...) أي رزقناه إسحاق ولدا من سارة بنت عمه وكان له من العمر
حينئذ خمس وسبعون سنة. (وَيَعْقُوبَ) أي نافلة. والمراد بها هنا ابن الابن. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ذرّية إسحاق أو يعقوب فإن كل نبيّ بعد إبراهيم كان
منهما. كما أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها أنزلت على ذريته. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو الذكر الطيب والولد الصالح (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ) أي أولي الدّرجات العليا مع المكمّلين في الصّلاح.
٢٨ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) أي اذكر يا محمد لوطا حين قال لقومه (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة الشّنعاء (ما سَبَقَكُمْ بِها
مِنْ أَحَدٍ) إلخ. أي ما فعلها أحد قبلكم من الخلائق.
٢٩ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) أي تفعلون معهم الفعل الشنيع. والاستفهام إنكاريّ لأمر من
الحري أن لا يصدقه سامع ولا يقبله ذو عقل ولذا أكد بالنون واللام. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) تتركون السبيل المعتاد للتناسل باختياركم الرجال على
النساء. وقيل المراد أنهم كانوا لصوصا يقطعون الطرق على المسافرين ليسلبوهم. (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أي المجلس ما دام أهله فيه (الْمُنْكَرَ) كالضّراط أو اللواط وكشف العورة ونحوها من المنكرات. (فَما كانَ جَوابَ ...) إلخ. أي كان ردّهم عليه بإصرارهم على إتيان ما نهاهم عنه
وطلبهم ما توعدهم به من العذاب إن كان صادقا فيما ادعاه من النبوة.
٣٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي ...) أي أعنّي (عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ) بقبائح أعمالهم وسنّها في الناس.
٣١ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ
بِالْبُشْرى ...) أي حين جاءته الملائكة تبشره بإسحاق ويعقوب (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) قرية (سدوم) التي كانت بين القدس والكرك ، والتي كان
يسكنها لوط. وفي قوله : هذه ، إشارة إلى قرب القرية من المكان الذي كان ينزل فيه
إبراهيم (ع) وهو الأرض المقدسة.
٣٢ ـ (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ...) أي كيف تنزلون العذاب بها وفيها لوط (ع)؟ (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) إلخ. نعرف من فيها وسيكون ناجيا إلّا امرأته فإنّها (مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب مع من غبر من الكفرة.
٣٣ ـ (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا ...) أي فلمّا جاءت الرسل لوطا (سِيءَ) أي اغتمّ بسببهم إذ جاؤوا في صورة غلمان حسني المنظر
أضيافا فخاف عليهم قومه (وَضاقَ بِهِمْ
ذَرْعاً) أي صدرا (وَقالُوا لا تَخَفْ) علينا من قومك (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا منهم إنّا رسل ربّك و (إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ) إلخ. واضح المعنى وقد مر.
٣٤ ـ (إِنَّا مُنْزِلُونَ ... رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ ...) إلخ. أي عذابا منها بسبب خروجهم عن طاعة الله إلى معصيته.
٣٥ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً
بَيِّنَةً ...) أي من تلك القرية عبرة واضحة ودلالة على قدرتنا ، وإمّا
آثار ديارهم الخربة ، أو الحجار السّجيليّة التي توجد بعض الأوقات فيها ، أو
المياه السّوداء الباقية إلى الآن المنزلة مع الأحجار وكانت كالقطران (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) للمتدبّرين المعتبرين. وقيل : هي اليوم مجهولة المحل ، لا
أثر منها ، وربما يقال : إن الماء غمرها بعد وهي بحر لوط ، لكن الآية ظاهرة في
أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى في سورة
الصافات : وإنكم لتمرّون عليها مصبحين وبالليل أفلا تعقلون.
٣٦ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) إلخ. أي أرسلنا إلى مدين شعيبا وكان أخاهم في النسب فأمرهم
بعبادة الله وان يكون لهم أمل بثواب الآخرة وخوف من عذابه (وَلا تَعْثَوْا) إلخ. أي لا تسعوا بالفساد.
٣٧ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ ...) أي الزلزلة أو صيحة جبرائيل (فَأَصْبَحُوا فِي
دارِهِمْ جاثِمِينَ) صرعى على وجوههم أو على ركبهم ميّتين.
٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ ...) عطف على شعيبا أو على ما قبله ، أو بتقدير اذكر ، أو
أهلكناهم جزاء على كفرهم وقد غيّر السياق تفننا فبدأ بذكر عاد وثمود وكذا في الآية
التالية بدأ بذكر قارون وفرعون وهامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ
بذكر أنبيائهم كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب. (وَقَدْ تَبَيَّنَ
لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي من جهتها عند مروركم بها يا أهل مكّة ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي متمكّنين من النظر ولكن لم ينظروا ولم يتدبّروا لأن
الشيطان اشرب في قلوبهم حبّ أعمالهم الباطلة. وقيل : المراد بكونهم مستبصرين أنهم
كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة ، لكن الظاهر أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل
بعثة نوح (ع) وعاد وثمود كانوا بعد نوح.
٣٩ ـ (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) إلخ. أي أهلكناهم بسبب كفرهم بالحجج التي حملها إليهم موسى
(ع) وقدّم قارون لشرف نسبه (وَما كانُوا
سابِقِينَ) أي فائتين أمرنا. فالسبق : استعارة كنائية من الغلبة.
٤٠ ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ...) أي عذّبنا كلّ واحد بجرمه أو أن كل واحدة من الأمم السابقة
أخذناها بذنبها ، ثم شرع في التفصيل : (فَمِنْهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفا فيها حصباء كقوم لوط على قول وقيل الحاصب :
الحجارة. وقيل : المقصود قوم عاد. (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه وما كان الله تعالى (لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بل كانوا (أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) بإشراكهم وبالتّعريض للعذاب. لأن الدار دار الفتنة والامتحان
، وهي السنّة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضلّ فعليها.
٤١ و ٤٢ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما يلجأون إليها (كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) إلخ. أي في وهن ما اعتمدوه في دينهم شبّه الله تعالى حال
الكفّار الذين اتخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت في ما تنسجه في الوهن والضعف ، فإنه
لا بيت أوهن وأقلّ وقاية للحوادث والحرّ والبرد منه ، فكذا آلهة الكفرة من الأصنام
والأوثان فإنها لا تقدر على دفع شيء من الحوادث عن نفسها ، فكيف عن غيرها؟ فدينهم
أوهن الأديان وأدناها والعنكبوت يطلق على الواحد والجمع ويذكّر ويؤنث. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّها مثلهم لندموا ورجعوا إلى الدّين الحق وإله الخلق
والآية تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور وليا من دون الله يركن إليه
ويراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه وإن لم يعدّ من الأصنام إلا أن يرجع ولايته
إلى ولاية الله كولاية الرسول والأئمة والمؤمنين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في صنعه.
٤٣ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ ...) أي هذا المثل ونظائره نجيء من لتقريب ما هو بعيد عن الافهام
ولمعرفة قبح ما هم عليه من عبادة الأوثان وحسن معرفة الله وتوحيده (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يفهمها إلا المتدبّرون في حقائق الأشياء على ما
ينبغي.
٤٤ ـ (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ ...) أي بغرض صحيح لا بالباطل لهوا ولعبا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) أي دلالة للمصدقين بقدرة الله لأنّهم المنتفعون بها.
٤٥ ـ (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ
الْكِتابِ ...) أي اقرأ يا محمد القرآن على المكلفين ليعلموا بما تضمنه من
الأحكام ولكونه خير رادع عن الشرك وارتكاب الفحشاء والمنكر بما فيه من الآيات
البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق تؤدي بالتالي لها وسامعها إلى الارتداع
المذكور. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي أدّها على الوجه المطلوب من حيث الأجزاء والشرائط
والمواقيت. وقيل : في قوله : إنّ الصّلاة تنهى إلخ ... دلالة على أن فعل الصلاة
لطف للمكلّف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والنقل ، (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.
٤٦ ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ...) أي لا تتناقشوا مع اليهود والنصارى من بني نجران ويلحق بهم
الصابئون والمجوس (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) إلّا بالخصلة التي هي أحسن الخصال كمقابلة الخشونة باللّين
والغضب بالحلم (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بنبذ الذمة أو قولهم بالولد أو الابتداء بالقتال وقد يراد
بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق واللين بل يعتبر حسن الجدال
نوع مذلة وهوان للمجادل ويعتبره تمويها واحتيالا لصرفه عن معتقده ، فهؤلاء
الظالمون لا ينفعهم ولا تنجح معهم المجادلة بالأحسن. (وَقُولُوا آمَنَّا) إلخ. هذه الشريفة إلى آخرها لعلّها مفسّرة لمجادلة الأحسن
وبيان لها من جهة الكيفيّة.
٤٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الْكِتابَ ...) أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء السّابقين أنزلنا إليك
القرآن وقيل : أي على تلك الصفة وهي الإسلام لله وتصديق كتبه ورسله أنزلنا إليك
القرآن. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ) أي علم الكتاب كابن سلام وأمثاله. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن أو بالنبيّ (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من العرب أو أهل مكّة أو اليهود والنصارى (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالنبيّ أو بالقرآن (وَما يَجْحَدُ) ينكر (بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجّة عليها (إِلَّا الْكافِرُونَ). وهم الساترون للحق بالباطل.
٤٨ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتابٍ ...) أي وما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا لأنك كنت أميّا (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي ما كنت تعرف الخط حتى تكتبه بيدك (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي ولو كنت تقرأ وتكتب لوجد المبطلون طريقا إلى الشك في
أمرك وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوتك.
٤٩ ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) القرآن دلائل واضحة على التوحيد والرسالة ، (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) عن الصّادق (ع): هم الأئمّة (ع) (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) يكفر بحججنا (إِلَّا الظَّالِمُونَ) بالعناد والمكابرة ، وقيل هم كفار اليهود.
٥٠ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ونحوها وهذا تعريض
منهم أن القرآن ليس بآية وزعم بأن النبي يجب أن يكون ذا قوة غيبة إلهية يقدر بها
على كل ما أراد وما يراد منه (قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي بيده واختياره ينزلها إذا شاء كيفما شاء لا يشاركه في
القدرة عليها غيره فليس للنبي من الأمر شيء إلا أن يشاء الله. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أن وظيفتي هي
الإنذار بما أعطيت من الآيات ، والتخويف بها من معصية الله وإظهار الحق من الباطل.
٥١ ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي القرآن آية مغنية عمّا اقترحوه ، (يُتْلى عَلَيْهِمْ) يقرأ عليهم على الدوام (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الكتاب المعجز المستمر (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) إلخ. أي نعمة وعظة للمصدقين بالله وبرسالتك.
٥٢ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
...) إلخ. أي من حيث الشهادة بصدقي ، وقد صدّقني بالمعجزات أو
بالقرآن (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
٥٣ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) أي استهزاء ، ويقولون أمطر علينا حجارة من السّماء وفيه
إشارة إلى أن قولهم كقول من تقدمهم من أمم : ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
وقد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله : ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة
ليقولنّ ما يحبسه. (وَلَوْ لا أَجَلٌ
مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي أن لكل عذاب وقتا معيّنا ، ولو لاه لجاءهم ما يستعجلونه
(بَغْتَةً) وفجأة بحيث لا يشعرون بإتيانه. وهذا العذاب الذي يحول بينه
وبينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال سبحانه : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ
لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على
الرسول من غير إمهال وإنظار.
٥٤ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ...) يعني وإن لم يأتهم العذاب في الدنيا لمصالح كثيرة ، لكن
عذاب جهنّم سيحيط بهم إحاطة لما عندهم من الكفر والإلحاد. وتكرار (يَسْتَعْجِلُونَكَ) للدلالة على كمال جهلهم وفساد فهمهم وأن استعجالهم هو
استعجال لأمر مؤجل لا معجّل أولا ، واستعجال لعذاب واقع لا محالة ولا صارف له
عنهم.
٥٥ ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ...) إلخ. أي النار تحيط بهم من جميع جوانبهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم وأفعالكم القبيحة.
٥٦ ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
أَرْضِي واسِعَةٌ ...) متباعدة الأقطار ومتراحبة فاهجروا أرضا يمنعكم كفارها من
الإيمان بي والإخلاص في عبادتي. (فَإِيَّايَ
فَاعْبُدُونِ) أي فاعبدوني فيما يمكنكم من البلاد بعد الهجرة إليها.
٥٧ و ٥٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي في كلّ مكان وفي كلّ زمان ، سواء كان الشخص في وطنه أو
في غيره ، وفي يوم شبابه أو هرمه فإنه سيموت (ثُمَّ إِلَيْنا
تُرْجَعُونَ) أي لا محالة أن رجوعكم وعودكم إلينا توفية للجزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. أي لننزلنّهم أمكنة عالية رفيعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تحت الغرف (خالِدِينَ فِيها) أي يكونون في الغرف إلى الأبد ، و (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي نعمت الجنة أجرا للعاملين.
٥٩ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ...) أي صبروا على المشاقّ والمحن والأذى وينحصر توكّلهم عليه
سبحانه ..
٦٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...) إلخ. أي وكم من دابة لا يكون رزقها معدا (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ
السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم.
٦١ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ ...) أي إذا سألت يا محمد أهل مكة عن ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلق السماوات (وَالْأَرْضَ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلها فيقرّون بأنه هو سبحانه الفاعل لذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي إلى أين يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة حجر لا ينفع
ولا يضر؟
٦٢ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) إلخ. يوسّعه على من يشاء (وَيَقْدِرُ) يضيّق على من يشاء لحكمة.
٦٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... الْحَمْدُ
لِلَّهِ ...) أي احمد الله على تمام نعمته وكمال قدرته أو على حفظك
ومتابعيك من الضلالة وحيرة الجهالة ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) لا يتفكّرون بسبب تناقضاتهم حيث يقرّون بأنه تعالى خالق كل
شيء ثم يشركون به الأصنام ويعبدونها.
٦٤ ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...) الفرق بين اللهو واللّعب أن المقبل على الباطل لاعب به ،
والمعرض عن الحق لاه. والوجه في كون الدنيا كذلك أنها تزول بسرعة كما يزول اللهو
واللعب فيستمتع الإنسان فيها مدّة قليلة ثم تنصرم وتنقطع ويبقى وبالها (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ) أي هي دار الحياة الحقيقية لأنّها الدائمة التي لا زوال
لها (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) يعرفون أن الدنيا دار فناء وزوال ، وأن الآخرة دار بقاء لا
فناء فيها لما آثروا الحياة الفانية على البقاء الدّائم.
٦٥ ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللهَ مُخْلِصِينَ ...) إلخ. أي دعوه في حالة من أخلص دينه له تعالى مع ما هم عليه
من الشّرك وذلك لعلمهم بأنه وحده القادر على إنجائهم من الغرق. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي حينما خلّصهم الله تعالى من الهلاك ونجّاهم إلى البرّ
عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه تعالى في العبادة.
٦٦ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) أي لكي يكفروا بنعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لكي ينتفعوا ويتلذّذوا بعكوفهم على أصنامهم. هذا بناء على
أن اللّام بمعنى (كي) التعليليّة ويمكن أن تكون لام أمر فيكون للتّهديد ولخذلانهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك العكوف على عبادة الأصنام والتّلذذ بها.
٦٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا ...) أي أهل مكة ألم يعلموا أنّا جعلنا مسكنهم وبلدهم (حَرَماً آمِناً) مصونا من النّهب والقتل والسّبي (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي يختلسون ويؤخذون من أطراف مكّة. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون بعبادة الأصنام وهي باطلة مضمحلة. (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) وهي نعمة الأمن والاطمئنان يجحدونها بكفرهم بالله المنعم
سبحانه.
٦٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ ...) أي لا أظلم منه (كَذِباً) حين ادّعى الشريك له (أَوْ كَذَّبَ
بِالْحَقِ) أي الرّسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) حين جاءه (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ ...) إلخ. أي أمّا لهؤلاء الكفار المكذبين في جهنم مكانا لهم في
جهنم جزاء لهم على كفرهم.
٦٩ ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) أي جاهدوا في حقّنا ما يجب جهاده من النّفس والشيطان وحزبه
(لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا) طرق السّير إلينا أو طرق الخير بزيادة اللّطف. (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي بالنّصر والإعانة في الدنيا والثواب والنعيم في الآخرة.
سورة الرّوم
مكية ، عدد آياتها ٦٠ آية
١ إلى ٥ ـ (الم ...) وقد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السّور وبيانها في
الجملة ، وقد قيل إن هذه الحروف لا يعلم تفسيرها إلّا من خوطب بها وليتهيّأ السامع
لما بعدها حيث إن ما بعدها في الأغلب يكون إخبارا عن أمور ستأتي وهو إخبار بالغيب (غُلِبَتِ الرُّومُ) أي هزمت من قبل الفرس (فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ) أي أقرب أرض العرب من أرض الروم ، أو المراد أقرب أرض
الرّوم إلى فارس (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ) انكسارهم (سَيَغْلِبُونَ) يعودون فينتصرون (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وبضع تدل على ما بين الثلاث إلى التسع سنين أو إلى العشر
وقد تحقق ذلك بعد نزول هذه الآية فيكون اخبارا بالغيب وهو دليل على أن القرآن من
عند الله لأنه لا يعلم الغيب غيره. ثم يكون (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي قبل غلبتهم وبعدها. (وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي يوم غلبة الروم على الفرس يسرّ أهل الإيمان بإظهار صدق
نبيّهم فيما أخبر به أو يسرّون لغلبة الرومييّن على الفرس لأنهم كانوا نصارى وأهل
كتاب ، والفرس كانوا مجوسا وما كانوا من أهل كتاب ولا أرسل إليهم نبيّ. ومن باب
الصدفة وأفق ذلك يوم نصر المؤمنين ببدر فنزل به جبرائيل (ع) وأخبر النبيّ (ص)
بغلبة الرّوم على الفرس ففرحوا بالنّصرين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر بمقتضى الحكمة من يريد من عباده. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر بخذلانه لمن يشاء (الرَّحِيمُ) بمن أناب إليه من خلقه.
٦ و ٧ ـ (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ
وَعْدَهُ) أي : وعد الله بنصر الروم على الفرس ولا يخلف الله وعده
حيث إن خلف الوعد عليه ممتنع لأنه سبحانه لا تضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد
بحال. على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه سبحانه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) صحة وعده وامتناع الخلف عليه لجهلهم به تعالى وبشأنه فلا
يثقون بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف. فالناس لا (يَعْلَمُونَ) إلّا (ظاهِراً مِنَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي التمتّع بزخارفها والتنعّم بملاذها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغرض الأصلي منها (هُمْ غافِلُونَ) أي جاهلون بأمر الآخرة فلم يعملوا لها فعمروا دنياهم وخربوا
آخرتهم.
٨ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ ...) إلخ. أي في أمرها فإنها أقرب شيء إليهم وفيها ما في العالم
الأكبر من عجائب الصّنع فلو كانوا يتفكّرون فيها لعلموا ولتحقق لهم أن قدرة مبدعها
على إعادتها ، هي قدرته على إبداعها بل أسهل فلم يخلق السماوات والأرض وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) أي لإقامة الحق ومعناه للدلالة على الصّانع والتعريض
للثواب (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده وهو يوم القيامة.
٩ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا ...) الاستفهام للتقرير ، يعني لا بدّ من السير فيها لينظروا
إلى مصارع عاد وثمود وغيرهما فيروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلخ. هذا بيان لنتيجة سيرهم ليعتبروا بذلك حيث إنّهم كانوا
أشدّ منهم قوة ومن جميع الجهات ، (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) قلّبوا وجهها وحرثوها بعمارتها (وَعَمَرُوها) ببناء الدّور
وتشييد القصور وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوها) أي أكثر مما عمرها كفار قريش (وَجاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتتهم أنبياؤهم بالحجج والدلالات من عند الله (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بلا إرسال رسل وبلا إتمام حجة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) حيث علموا ما أدّى إلى تدميرهم بكفرهم برسلهم وجحدهم للحج
ربهم.
١٠ ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا
السُّواى ...) أي كانت نتيجة الذين أساؤوا إلى نفوسهم بالكفر بالله
وتكذيب رسله نار جهنم. وهي معنى السوأى (أَنْ كَذَّبُوا
بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي بسبب تكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.
١١ ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ...) أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد إماتتهم أحياء كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء على الأعمال يوم القيامة.
١٢ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ ...) أي يتحيّرون في أمرهم وييأسون من رحمة ربّهم. والإبلاس :
هو اليأس من الله وفيه كل الشقاء.
١٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ
شُفَعاءُ ...) أي ممّن أشركوهم بالله لم يكن لهم من يعينهم ويجيرهم من
العذاب يوم القيامة (وَكانُوا
بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين متبرّئين منهم. فهم على يأسهم من رحمة الله آيسون
من آلهتهم.
١٤ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ ...) أي يتميّزون ويقسّمون فريق في الجنة وفريق في السّعير.
١٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... فَهُمْ
فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي في جنة ذات أرض خضراء تتدفق فيها المياه ، يسرّون وتطفح
وجوههم بالبشر حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. وقيل : يكرمون.
١٦ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي كفروا بنا وبوحدانيّتنا ، ولم يصدّقوا دلائلنا ، (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي وكذبوا بيوم الحشر (فَأُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) محشورون في جهنّم لا يفارقون العذاب.
١٧ و ١٨ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) يعني : الأمر هو أن تنزّهوه عمّا لا يليق به حين تدخلون في
المساء ، وحين تدخلوا في الصباح. (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء (فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ممّن فيهما (وَعَشِيًّا) حين يدخلون في العشية (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظهيرة.
١٩ ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) يخرج المؤمن من الكافر ، والإنسان من النّطفة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) الكافر من المؤمن ، والنطفة من الإنسان ، (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالنّبات بعد موتها باليبس (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أيّ مثل هذا الإخراج تخرجون من قبوركم؟
٢٠ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ ...) أي من آدم وأصله تراب. أو المراد أنكم مخلوقون من النّطفة
وهي من الأغذية وهي من الأرض (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ
بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ثم إنه بعد الخلقة من التربة كنتم بشرا متفرّقين في الأرض.
٢١ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ...) إلخ. أي أبدع وأوجد لكم زوجات مماثلة ومشاكلة لكم ومن جنسكم
، مخلوقات من أنفس الرجال حدوثا وبقاء (لِتَسْكُنُوا
إِلَيْها) أي لتستأنسوا بها وتميلوا إليها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً) أي أوجد بواسطة الزّواج بينكم وبين أزواجكم ، توادّا
وتحابّا. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالات لأهل التدبّر والتفكّر حيث يعتبرون به.
٢٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ) دلائله الدالة على توحيده وقدرته ذكر سبحانه وتعالى
البراهين والشواهد الآفاقيّة ، وأظهرها (خَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) وما فيهما من عجائب الصّنع وبدائع الخلقة نحو ما في
السّماوات من الشمس والقمر وسائر الأنجم وجريانها في مجاريها المعيّنة ونحو ما في
الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان على اختلافها جنسا ونوعا وصنفا وإتقانها
مع اختلاف ألوانها وطعمها ورائحتها وخواصّها وآثارها (وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ) أي من حيث اللغات فإن لكلّ صنف لغة إمّا بتعليم الله تعالى
وإمّا بإلهامه لهم ، (وَأَلْوانِكُمْ) من الأبيض والأسود والأحمر والأصفر فلا يشبه أحد أحدا مع
التشاكل في الخلقة وما ذلك إلا للتراكيب البديعة الدالة على كمال قدرته وحكمته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي في الاختلاف الألسني والألواني لدلالات واضحات على كمال
قدرته وحكمته تعالى لجميع العوالم من ذوي العقول.
٢٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ ...) إلخ. والمعنى أنّ من الآيات الدّالة على قدرته الكاملة
نومكم في بعض الليل وبعض النهار لاستراحة قواكم وطلب معاشكم في البعض الآخر منهما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) أي لهم آذان واعية تسمع سماع تدبّر واستبصار.
٢٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ...) أي ومن دلائل قدرته وحكمته. والبرق مصدر : نور يلمع في
السماء على أثر انفجار كهربائي في السحاب ، (خَوْفاً) أي حال كونه مخوّفا لأنه سبب الصواعق (وَطَمَعاً) أي مطمعا بحصول المطر الذي هو خير (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : ومن آياته تنزيله الغيث من سماء الأرض أي الفضاء
المرتفع فوقها. ونتيجة هذه الأمطار إحياء الأرض بإنباتها بعد موتها بجدبها ويبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هذه الآيات السّماوية الآفاقية (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) شواهد ودلالات للعقلاء المكلفين.
٢٥ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ...) أي بلا دعامة تدعمهما ولا علاقة تتعلّق بهما بل بأمره
سبحانه لهما بالثبات والدوام كقوله تعالى : إنّما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول
له : كن فيكون. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) المراد بالدّعوة دعوة إسرافيل بالنفخة الأخيرة للحضور في
المحشر لثواب الأعمال أو عقابها. فإذا نفخ في الصور تخرجون من قبوركم بلا إبطاء.
٢٦ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لكلّ من فيهما ولنفس السّماوات والأرض (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون له طوعا وكرها.
٢٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) إلخ. أي يخلقهم ابتداء ثم يرجعهم إلى الحياة بعد إعدامهم
وإفنائهم (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) أي الإعادة أسهل عليه من الإبداء قياسا ، على أصولكم ،
وإلّا فهما سواء عليه تعالى. (وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) أي الصفات العليا التي لا يمكن أن يتصف بها غيره.
كالوحدانية والألوهية وغيرهما. (فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي كل ما فيهما يصفونه تعالى بذلك الوصف الأعلى نطقا
ودلالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه.
٢٨ ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ
...) أي منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء منكم حتى يثبت أنّه
لا يكون لله تعالى شريك. ثم بيّن المثل فقال (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما
رَزَقْناكُمْ) أي في الأموال والأرزاق والأسباب (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم وهؤلاء المماليك تتصرّفون فيها على السّويّة
وبالمشاركة (تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي هل تخافون من عبيدكم أن يشاركوكم في أموالكم كما يخاف
الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه دونه وإذا لم ترضوا في عبيدكم
أن يكونوا شركاءكم في أموالكم فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في العبادة مع أن
الكل عبيده ومملوكون له؟ (كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ) أي كما فصّلناه وبيّنا لكم مسألة عدم جواز التشريك ، نفصّل
الآيات والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي نبيّنها لأهل التدبّر والتعقّل.
٢٩ ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي أشركوا بالله (أَهْواءَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين ومن دون حجة أتتهم من ربهم (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي من يقدر على هدايته بعد ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي يدفعون عنهم عذاب الله إذا نزل بساحتهم.
٣٠ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ...) أي أقبل بقصدك أو بالعمل الخالص على الإسلام بالاهتمام به (حَنِيفاً) أي مائلا إليه مستقيما عليه (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هذا يحتمل أن يكون بيانا للدّين الحنيف ، أي الزموا دين
الله ، ودين الله هو دين الإسلام الذي يولد كلّ مولود عليه ويعبّر عنه بدين
الفطرة. وقيل : الفطرة هي التوحيد. (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) أي ليس لأحد أن يبدّل أو يغيّر دين الله الذي أمر الخلق أن
يتعبدوه به. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) المستقيم المستوي الذي يجب اتباعه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) فهم جهلة بهذا الدين واستقامته ولذلك فهم يعدلون عنه.
٣١ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) منيبين حال من ضمير (أقم) باعتبار أن الأمة تدخل في مخاطبة
النبيّ (ص) والمعنى : فأقيموا وجوهكم راجعين إليه مرة بعد أخرى. ويمكن أن يكون من (ناب)
إذا انقطع ، أي منقطعين إليه عن كلّ ما سواه ، (وَاتَّقُوهُ) إلخ. تجنّبوا عصيانه والزموا طاعته ولا تكونوا من المشركين
به في الألوهية والعبادة.
٣٢ ـ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) بيان لما قبله من قوله من المشركين. وتفريق دينهم هو
اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فأهل كلّ ملّة بما عندهم من الدّين مسرورون راضون.
٣٣ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ...) أي حادثة شديدة وسوء حال (دَعَوْا رَبَّهُمْ) بتضرّع وخشوع (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه منقطعين عن غيره (ثُمَّ إِذا
أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي أعطاهم من عنده رافعا لذلك الضرّ (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ) أي يعودون إلى عبادة غير الله.
٣٤ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) اللّام هنا للعاقبة أي أشركوا فكان عاقبة شركهم كفرهم (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الأمن والعافية والصّحة (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم فسوف تعرفون نتيجة كفركم.
٣٥ ـ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً
...) أي : هل أرسلنا إلى الكفرة حجة يتسلّطون بها على ما ذهبوا
إليه (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ
بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحّة شركهم ويحتج لهم به. والمعنى
أنهم لا يمكنهم إعادة ذلك.
٣٦ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ...) أي نعمة من سعة أو أمن أو عافية (فَرِحُوا بِها) استبشروا بها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) شدّة ومصيبة (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي بشآمة معاصيهم (إِذا هُمْ
يَقْنَطُونَ) أي ييأسون من رحمة الله.
٣٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) أي يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ) أي يقتر عليه ويضيّق حسب ما تقتضيه المصلحة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إذاقتهم الرحمة وإصابتهم بالسيئة أو في بسط الرزق
وتقتيره أو في المجموع (لَآياتٍ) إلخ. دلائل عبرة للمؤمنين فإنّهم أهل الاعتبار.
٣٨ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) أي أعط يا محمد أقرباءك فرضهم من الخمس. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعطاهما حقهما من الخمس إن كانا من بني هاشم ، وإلّا
فمن الزكاة الواجبة وابن السبيل هو المسافر المحتاج (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيتاء الحقوق للجماعة المذكورة خير من الإمساك (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يطلبون رضاءه أو وجه التقرب إليه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنّعم الباقية.
٣٩ ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ...) أي زيادة محرّمة في المعاملة ، أو عطيّة يتوقع بها مزيد
مكافأة ، (لِيَرْبُوَا فِي
أَمْوالِ النَّاسِ) أي : لتنموا أموالهم ، ويزيد في أموالهم أكلة الرّبا (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) لا يزكو عنده بل يمحقه (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي مرضاته وقربه (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين يؤدّون الزكاة المفروضة أو الصّدقة
المندوبة لوجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ذوو المكافأة والمضاعفة من الثواب في الآجل ، والمال في
العاجل.
٤٠ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي أوجدكم ابتداء معدومين محضا (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم الحشر (هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ ...) الآية هل ما عبدتموه من الأصنام وغيرها من يقدر على ذلك
حتى يجوز توجه العبادة إليه (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه وتقدس عن الشريك.
٤١ ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ ...) أمّا ظهور الفساد في البرّ فبمنع السماء أمطارها فيقع القحط
والغلاء وكثرة الأمراض والأوبئة وأمّا في البحر فبكثرة الفيضانات وثوران البحار مع
ما يترتب على ذلك من المضار. (بِما كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ) أي بسوء أفعالهم من الكفر والفسوق والمعاصي (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي ليصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم من الكفر والمعاصي. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليرجعوا عنها في المستقبل بعد أن يعتبروا.
٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
...) إن الله تعالى كرّر الأمر بسير الآفاقيّة تأكيدا وتذكيرا
للاعتبار ، فإن في ذلك أخبار الأمم السالفة والإنسان يستبصر إذا شاهد كيف أهلكهم
الله فصارت قصورهم قبورا ومحافلهم مقابرهم ثم بيّن سبحانه أنّه فعل بهم ما فعل
لسوء صنيعهم فقال : (كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُشْرِكِينَ) فالغالب في عذاب الاستئصال أن يكون بسبب الشرك.
٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ
...) أي فانصب قلبك وتوجّه به إلى دينك الذي هو في غاية
الاستقامة والعدل (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي قبل مجيء يوم من عند الله الذي لا يقدر أحد أن يردّه
وهو يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ) يعني يتفرّقون إلى الجنّة والنار.
٤٤ و ٤٥ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ...) أي عقوبة كفره فلا يتحملها أحد عنه وهي النار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ) أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليعطيهم على قدر استحقاقهم ويزيدهم من فضله. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يريد كرامتهم وإنما عقابهم جزاء على كفرهم. هذا
الذيل علّة لما يترتب على الكفر من الوبال والنار المؤبّد ، وعلى العمل الصالح من
تمهيد المنازل في الجنّة العالية والمخلّد فيها. وفي الكشاف أن هذا تقرير بعد
التقرير على الطّرد والعكس.
٤٦ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ
مُبَشِّراتٍ ...) أي ومن أفعاله الدالة على معرفته وكمال قدرته هو إرسال
رياح الرحمة تبشر بنزول المطر (وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) أي ولتسير المراكب في المياه بأمر الله وإرادته (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في التجارات البحريّة تبتغون الخير من فضله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم فتوحّدون ربّكم.
٤٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
رُسُلاً ...) لم يكن لهم شغل غير ما تعمله أنت (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا قومهم بدلائل على نبوّتهم (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا) أي كفروا بآياتنا وجحدوها (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي وكان واجبا علينا نصرهم بدفع السوء عنهم وبإعلاء حجتهم.
٤٨ و ٤٩ ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً ...) أي من شواهد القدرة أنه يهيّئ ويرسل الرياح من معادنها
فتهيّج السحاب في الفضاء (فَيَبْسُطُهُ فِي
السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرّقة (فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي المطر يخرج من بينه (فَإِذا أَصابَ) الآية ، أي إذا نزل الودق على طائفة من عباد الله يفرحون
بذلك ويبشّر بعضهم بعضا بنزوله (وَإِنْ كانُوا) إلخ. يعني أنّهم قبل نزول المطر كانوا قانطين آيسين من
نزوله عليهم.
٥٠ ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ...) إلخ. أي أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، كيف
يحيي الأرض بما ذكر (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد أن كانت مواتا يابسة (إِنَّ ذلِكَ) أي ان الله تعالى الذي يحيي الأرض بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) إلخ. هو قادر على إحياء البشر بعد إفنائهم بالموت وهو الذي
لا يعجزه شيء.
٥١ ـ (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ...) أي الدّبور الذي هو للعذاب وهي ريح باردة مؤذنة بالهلاك (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي يرون النبات والزرع اللّذين كانا من آثار رحمة الله أنه
عرض لهما الاصفرار بعد الخضرة وهو علامة يبسهما وفسادهما. (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي لصاروا من بعد أن رأوه مصفرّا كافرين جاحدين لأنعم الله.
٥٢ ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) أي لا تستطيع يا محمد إسماع موتى القلوب يعني الكفرة الذين
سدت مشاعرهم عن استماع المواعظ والنصائح فإنهم في حكم الموتى (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي ولا تقدر على إسماع من بهم صمم فإنّ حالهم كحالهم في
عدم الانتفاع بالسماع (إِذا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ) أي إذا أعرضوا عن حججنا ذاهبين إلى الضلال.
٥٣ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ
ضَلالَتِهِمْ ...) يعني يا محمد إنّك لا تهدي ولا تستطيع إرشاد عميان القلوب
إذا لم يطلبوا الاستبصار حيث إنهم أشدّ استحالة للهداية من عمي العيون ، (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا) أي الذي يستمع القول ويتلقاه ويتدبّر معناه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مسلّمون بما تأمرهم به وتنهاهم عنه حيث إنّهم يتّبعون سبيل
الهداية والرّشاد.
٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
...) أي كنتم في بدء الإيجاد ضعفاء في حالة الطّفولية وقيل : أي
من نطف. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) حينما يصير الإنسان شابا ذا قوة وقدرة أو حين ولوج الروح
بالبدن (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فبعد ما يخلص تطوّر خلقه ويتمّ قوس الصّعود يجيء قوس
النزول وهو الضعف والشّيب بعد القوة والشباب (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الضّعف والقوة والشّيب (وَهُوَ الْعَلِيمُ) أي العالم بأحوال عباده ومصالحهم (الْقَدِيرُ) القادر على فعله بحسب ما يراه من المصلحة.
٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ...) أي القيامة ، (يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي الكافرون يحلفون أنهم ما بقوا في القبور أو في الدّنيا
أو فيما بين فنائها والبعث (غَيْرَ ساعَةٍ) فيستقلون مدّة لبثهم بالنسبة إلى مدة عذاب الآخرة ، (كَذلِكَ) أي مثل صرفهم وحلفهم وقولهم كذبا في الآخرة (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصّدق ويعدلون عن قول الحق في الدنيا.
٥٦ و ٥٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمانَ ...) إنّ الله تعالى أخبر عن قول أهل العلم والإيمان ممن هداهم
الله بالحجج والبراهين. قيل بأنهم الملائكة ، وقيل هم الأنبياء ، وقيل هم المؤمنون
بعد استماعهم الحلف الكاذب من المشركين (لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتابِ اللهِ) إلخ. أي ان مكثكم ثابت في اللوح المحفوظ أو في القرآن ،
إلى يوم القيامة والحشر. (فَهذا يَوْمُ
الْبَعْثِ) إلخ. أي اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا فلا ينفعكم
علمكم به الآن. (فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشرك بعد إتمام الحجّة عليهم (مَعْذِرَتُهُمْ) اعتذارهم (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم الإعتاب ولا الرجوع إلى الحق.
٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ...) أي بيّنا لهم بحيث أغنيناهم في البيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ) المنزل على نبيّنا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدعوهم وينبّههم على التوحيد والإيمان (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُبْطِلُونَ) أي أصحاب الأباطيل والتّزوير.
٥٩ ـ (كَذلِكَ ...) أي كما طبع على قلوب هؤلاء الكفرة (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ
لا يَعْلَمُونَ) أي الذين لا يعلمون شيئا من الحق ويعتقدون أن ما هم عليه
من الضلالة والأباطيل هو الحق.
٦٠ ـ (فَاصْبِرْ ...) أي اصبر على أذاهم يا محمد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) حين وعدك بالنصر وبإعلاء دينك فإن ذلك ثابت منجّز لا محالة
(وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي لا يحملنّك على الخفّة والضجر ولا تغضب من هؤلاء الذين
هم أهل شكّ وضلالة.
سورة لقمان
مكية ، عدد آياتها ٣٤ آية
١ و ٢ ـ (الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ
الْحَكِيمِ ...) أي هذه الآيات هي آيات القرآن المحكم أو ذات الحكمة. وقد
وصف الكتاب بالحكيم إشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شيء بل هو كتاب لا انثلام
فيه ليداخله لهو الحديث وباطل القول.
٣ ـ (هُدىً) أي حال كونها بيانا ودلالة. (وَرَحْمَةً) أي حال كونها نعمة لا نقمة صارخة عنها. (لِلْمُحْسِنِينَ) المطيعين أو للموحّدين.
٤ إلى ٥ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...) إلخ هذه الشريفة وما بعدها بيان للمحسنين ، وتكرير الضّمير
تأكيد.
٦ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ ...) أي باطل الحديث وهو الغناء وكل ما يلهي عن سبيل الله ويدخل
فيه السخرية بالقرآن واللغو فيه (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) فيضلّ الناس عن دينه تعالى. ومن أضلّ غيره فقد ضلّ وقيل :
مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية
والعملية وخاصة قصص الأنبياء وأممهم الخالية فإن لهو الحديث والأساطير المختلقة
تعارض أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة وتوهنها في أنظار الناس. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير بصيرة حيث يشتري الباطل بالحق والضلالة بالهدى ، (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي يتّخذ السّبيل المستقيم سخرية ويستهزئ بها ، ومن يفعل
ذلك فله (عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة.
٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ... وَلَّى
مُسْتَكْبِراً ...) أي أعرض عن سماع آياتنا إعراض من لا يسمعها (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي كأنّ في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع.
٨ و ٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... لَهُمْ
جَنَّاتُ النَّعِيمِ ...) البساتين والحدائق ذات النعمة يتنعمون بها يوم القيامة. (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا ثابتا لا خلف فيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) الذي يفعل طبق ما تقتضيه حكمته.
١٠ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها ...) أي أنشأها بغير أعمدة إذ لو كان لها عمد لرأيتموها حيث
إنّها لو كانت فرضا لكانت من أجسام عظام بحيث تتحمّل ثقل السّماوات ، ويحتمل أن
يكون المعنى : انشأها بعمد ولكنها غير مرئية لكم. (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي وضع عليها جبالا شوامخ ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تضطرب بكم فتبقى ثابتة مستقرة. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي نشر وفرّق في الأرض كل ما يتحرّك ويدبّ من أنواع
الحيوان. (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً) أي مطرا. (فَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي أنبتنا في الأرض من ذلك الماء من كلّ صنف كثير المنفعة.
١١ ـ (هذا خَلْقُ اللهِ ...) أي هذا مخلوقه وموجوده الذي تشاهدونه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) أي أين مخلوق شركاء الله ومصنوعهم. وماذا خلقت آلهتكم التي
تعبدونها؟ وإذ لم يقدروا على إراءة شيء ثبت بذلك وحدانيته سبحانه في ألوهيته
وربوبيته. (بَلِ الظَّالِمُونَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن المشركين بالله هم في ذهاب بعيد واضح عن الحق.
١٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ
...) أي أعطيناه العقل والفهم (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي لأن ، أو قلنا له اشكر لله (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ) أي يعود نفعه إليها. والله (غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (حَمِيدٌ) أي حقيق بالحمد حمد أو لم يحمد.
١٣ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ...) أي اذكر يا محمّد إذ قال لقمان لابنه ، (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يؤدّبه ويذكّره (يا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللهِ) وقيل كان كافرا فما زال به حتّى أسلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّه تسوية بين أشرف الموجودات وأخسّ المخلوقات وهي
الأوثان.
١٤ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
...) أي أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما. وإنما
قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشئ وهما السبب في الإنشاء والتربية. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، فإن الحمل كلما يثقل ويترقّى يزيد في
مضايقة الأم وضعفها (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) أي فطامه في انقضاء عامين ، وهما مدة رضاعه. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هذا تفسير للوصيّة ، أي وصّيناه بشكرنا وشكر والديه وشكر
الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبرّ والصّلة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي المرجع فأجازيكم على حسب أعمالكم.
١٥ ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي
...) أي بذلا وسعهما وجدا لأن تشرك بي معبودا آخر (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي الذي لا علم لك باستحقاقه وأهليّته للشرك إلّا تقليدا
لهما (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي مصاحبة معروفة محمودة شرعا وعرفا بالإحسان إليهما
والرفق بهما (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي نهج من رجع إليّ بالطاعة والتوحيد والإخلاص وهم النبي (ص)
والمؤمنون (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ) إلى حكمي منقلبكم (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أخبركم بأعمالكم وأقوالكم وأجازيكم عليها.
١٦ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ
حَبَّةٍ ...) إلخ يا بنيّ ، تصغير شفقة وعطف على ابنه. والمثقال كناية عن
أقل ما يوزن به الشيء من الأحجار والفلزّات والخردل نبات له حبّ صغير جدّا أسود. والمعنى
أن فعلة الإنسان من الخير أو الشر إن كانت في الصّغر مقدار خردلة (فَتَكُنْ فِي) أخفى المواضع كجوف (صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ) أو في الأعلى (أَوْ فِي الْأَرْضِ) أو في الأسفل (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ليحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) باستخراجها (خَبِيرٌ) بموقعها.
١٧ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ ...) إلخ أي أدّ الصلاة في مواقيتها تامة الأجزاء والشرائط
وائتمر بطاعة الله وانه عن معصيته وعن كل قبيح. (وَاصْبِرْ عَلى ما
أَصابَكَ) من المصائب والشدائد والأذى في الأمر والنهي أو مطلقا. (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر على ما أصابك من عزائم الأمور التي عزمها الله
ومقطوعاتها.
١٨ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ...) أي لا تمل بوجهك عن الناس نخوة وتكبّرا ، (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) لا تسر بكبرياء وعجرفة (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي أنه تعالى يكره المتخايل في مشيه المتكبّر على الناس
الفخور بنفسه.
١٩ ـ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ...) أي توسّط فيه بين السّرعة والبطء (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي أقصر واخفض صوتك (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي أقبحها وأرفها. هذه نبذ من مواعظ لقمان حكاها الله
تعالى ، فإنها وإن كان الخطاب فيها لولده لكنّها تفيد العالم ، ولذلك أوحى الله
بها إلى نبيّه (ص) لاستفادة أمته بها.
٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ
لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ...) بأن جعلها أسبابا لمنافعكم كالشمس والقمر والنجوم وغيرها (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكّنكم من الانتفاع به كالحيوان والنبات والجماد (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) إلخ أي أوسع وأتمّ نعمه بأقسامها من الظاهريّة المحسوسة
والباطنيّة مما لا يدرك بالحسّ والعيان بل بالعقول ، وبعض القوى الأخر ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ) أي في ذات الله أو في توحيده وصفاته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل أو عن تقليد (وَلا هُدىً) ولا هاد من نبيّ أو وصيّ نبيّ (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ولا كتاب منزل من عند الله كان واضح الدّلالة على ما
يقولون.
٢١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ ...) أي على محمد من الدين والشرائع (قالُوا ...) إلخ أي نقلّد أسلافنا في عبادتهم للأصنام وغيرها (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ ...) إلخ الاستفهام للإنكار والمعنى أن الشيطان يدعوهم إلى
تقليد آبائهم وترك اتّباع ما جاءت به الرّسل ، وذلك موجب لهم دخول النار.
٢٢ ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ
...) أي من فوّض وخلّى أمره إليه تعالى وتوجّه به إليه بكامل
وجوده (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي كان عمله على الوجه الحسن ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) أي المحكمة ، ولعلّ المراد بالعروة الوثقى هو القرآن ، أو
كلمة التوحيد (وَإِلَى اللهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي آخر كلّ شيء ، أو جزاء أعمال الناس خيرا وشرّا لأنّ
الكلّ صائر إليه.
٢٣ ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
...) أي الباقي على الكفر أو الذي ارتدّ ورجع إلى الكفر ، فلا
تحزن عليه لأن كفره لا يضرّك ولا ينفعه (إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) نخبرهم بأعمالهم المنسيّة وغيرها ونجازيهم بها. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يضمره الإنسان فيجازيه عليه.
٢٤ ـ (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ ...) أي نعطيهم من متاع الدنيا ونعيمها ما يتمتّعون به مدة قليلة
، وبعد ذلك نجعلهم مكرهين في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد يثقل ويصعب عليهم.
٢٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) أي مقرّون بأنّه خالقها لوضوح البرهان بحيث اضطرّوا إلى
الإذعان. (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) احمده على نعمة إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان
معتقدهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) بأن ذلك الإقرار يلزمهم الحجّة ويبهتهم.
٢٦ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) أي هو المالك لهما ملكا وخلقا (الْغَنِيُ) على الإطلاق (الْحَمِيدُ) بالاستحقاق.
٢٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ أي ولو ثبت أن الأرض بجميع أشجارها صارت أقلاما (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أي البحر المحيط صار مدادا يضاف إليه ويمدّه سبعة أبحر
مثله ، (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ
اللهِ) أي ما انتهت كلماته الدالة على علمه وحكمته بكتابتها بذلك
المداد لعدم تناهيها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) مر معناه.
٢٨ ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ...) إلخ أي إلّا كخلقها وبعثها في قدرته فيكفي فيها إرادته
بقوله : كن فيكون.
٢٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ
اللَّيْلَ ...) أي يدخله (فِي النَّهارِ) بأن ينقص منه في أوقات الصيف ويزيد في النهار ، ويفعل عكس
ذلك في الشتاء ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كلّ واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه على نسق واحد لا
يختلفان إلى مدة معينة أو إلى منتهى معلوم عنده. وهو (خَبِيرٌ) عالم بكنه ذلك
وبما تعملون.
٣٠ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم وكمال القدرة وعجائب الصّنع
واختصاصه تعالى بها ، فالله هو المستحق للعبادة وما يدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) الزائل الفاني و (هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) المرتفع على كل شيء والغالب عليه والقادر القاهر.
٣١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ ...) أي أن من آياته الدالة على قدرته الكاملة جري السّفن في
البحار (بِنِعْمَتِ اللهِ) بفضله ورحمته عليكم (لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آياتِهِ) لتروا بعض أدلّته الدالة على تفرّده بالإلهية والقدرة
والحكمة. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي في جري السّفن بالأرياح لعلائم (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لمن صبر على البلايا والمحن وعلى مشاق التكاليف وشكر نعم
الله عليه.
٣٢ ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ
...) أي علا راكبي البحر هيجان البحر كالظلل في ارتفاعه وتغطيته
ما تحته كالجبل والسّحاب وغيرهما من المظلّات وذوات الظّل (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي حين خافوا الغرق فأخلصوا في الدعاء لله في تلك الحال. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي متوسّط في الكفر والإيمان. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ) أي وما يكفر بدلائلنا إلا كل غدّار خدّاع. (كَفُورٍ) يعني شديد الكفر.
٣٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ ...) أي تجنّبوا ما يسخطه واعملوا بأوامره ونواهيه (وَاخْشَوْا) خافوا (يَوْماً) هو يوم القيامة (لا يَجْزِي والِدٌ
عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يؤدّي الوالد عن الولد شيئا ، ولا يتحمّل عنه تبعة
ذنب (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) والمولود لا يستفيد منه والده الرءوف في ذلك اليوم شيئا. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده بالبعث والجزاء ثابت لا يتخلّف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا) أي لا يغرنّكم الامهال الذي كانت الحياة كناية عنه ، ولا
يلهينّكم الآمال والأموال عن الإسلام والإيمان (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللهِ الْغَرُورُ) أي لا يخدعنكم الشيطان فتنصرفوا عن الله سبحانه. وقيل :
الغرور هو كل شيء غرّك حتى تعصي الله.
٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
...) أي هو يعلم وقت قيامها ولا يدري غيره (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في زمانه المقدّر له والمحل المعيّن له (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، قبيح أو جميل ، سخيّ أو بخيل وغير ذلك (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ
غَداً) أي قضى عليها بأن لا تعرف ما تعمل في المستقبل (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ) يعني في أيّ مكان يكون موتها. وروى القميّ عن الصّادق (ع)
أن هذه الأشياء الخمسة لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وهي من مختصات
الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) بهذه الأمور دون غيره خبير بها.
سورة السجدة
مكية ، عدد آياتها ٣٠ آية
١ ـ (الم ...) قد مرّ ما في الحروف المقطّعة.
٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ ...) أي هذه السّورة أو هذه الآيات كتاب منزّل. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أي كائن من عند رب العالمين أو وحي من عنده.
٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي هل يقول أهل مكّة أن محمدا (ص) جاء بهذا القرآن من عند
نفسه ويكذّبونه في قوله أنه من الله؟ (بَلْ هُوَ الْحَقُ) إلخ يعني لم يكن الأمر كما يقولون بأن القرآن افتراء بل هو
الحق منزّل من عند الله عليك يا محمد (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي في عصر الفترة وهو ما بين عصر عيسى وخاتم الأنبياء (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الترجّي منه تعالى بمعنى الثبوت ، أي حتّى يهتدوا أو
ليهتدوا بتلك الأدلة الواضحة.
٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) أي أوجدهما وأنشأهما (وَما بَيْنَهُما) من الحيوانات والنّباتات والجمادات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار من الزمان يصير إذا حدّد وعيّن ستّة أيام من أيام
الدنيا. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) أي استقرّ واستولى عليه وهو أعظم المخلوقات ، أو المراد
عالم الأمر والتّدبير (ما لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي من قريب يدفع عنكم عذاب الله أو شفيع يشفع لكم يوم
القيامة. (أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله ونصائحه؟
٥ إلى ٨ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ...) أي يسبّب أمر الدنيا مدّة أيامها فينزله (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ) أي يرجع الأمر كلّه (إِلَيْهِ) من بعد وجودها إلى ما بعد فنائها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدّنيا (ذلِكَ) أي الذي يدبّر الأمر على النهج المذكور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما يشاهد ويحضر ، (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الرَّحِيمُ) بعباده في تدبير أمرهم معاشا ومعادا (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن وأحكم خلق كل شيء بحيث أعطاه ووفّر له ما يليق به
طبق الحكمة والمصلحة. (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فالقمّيّ قال : هو آدم وقد مرّ تفسيره وأظنّه في سورة
البقرة (ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ) أي ذرّيته (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
ماءٍ مَهِينٍ) أي ماء ضعيف وهي النطفة التي انسلّت وانفصلت من الصلب.
٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ ...) أي قوّاه وأتمّ تصويره بأن جعله بشرا تامّ الخلقة غير أنه
ما كان فيه روح (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ) والروح هو العنصر البسيط واللطيف القدسيّ الصادر عن عالم
الربّوبيّة والإضافة إليه تعالى تشريفيّة كإضافة البيت إليه. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ) أي خلق لكم أيها البشر هاتين الجارحتين لتسمعوا المسموعات
وتبصروا المبصرات (وَالْأَفْئِدَةَ) أي وجعل لكم القلوب لتعقلوا وتتدبّروا بها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (ما) زائدة ، أي :
تشكرون شكرا قليلا.
١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ
...) أي غبنا فيها بالدّفن ، أو بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يجدّد خلقنا ونبعث. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يكون
ذلك أبدا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ
رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي هم بما وعد به ربهم من الثواب والعقاب جاحدون ولذا صدر
عنهم هذا القول. (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) أي يقبض أرواحكم ويستوفي نفوسكم (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي فوّض إليه قبض أرواحكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ) تحشرون للحساب والجزاء.
١٢ ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ ...) أي مطأطئي رؤوسهم من الذّلّ خجلا وندامة والمراد بالمجرمين
بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد ، أي
هؤلاء الذين يجحدون المعاد ويقولون : أإذا ضللنا في الأرض ... إلخ. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في موقف القيامة عند عرض الأعمال ، (رَبَّنا أَبْصَرْنا) أي قائلين ربّنا أبصرنا ما وعدتنا (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً
إِنَّا مُوقِنُونَ) إذ لم يبق لنا بعد هذا اليوم شكّ وشبهة بما شاهدناه.
١٣ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ
هُداها ...) أي ما يهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح بالقسر والإلجاء
أو بالتوفيق ، ولكنّه خلاف الاختيار في التكليف فلا نفعله (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت قضائي وسبق وعيدي (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسوء اختيارهم نسيان العاقبة وترك التفكّر فيها. والقول
الذي حق وثبت منه هو قوله لإبليس عند ما امتنع من السجود لآدم : فالحق والحق أقول
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
١٤ ـ (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا ...) يعني نتيجة ترك التذكّر والتدبّر ونسيان لقاء هذا اليوم هو
أن تذوقوا العذاب الأليم ، (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم بنسيانكم أو تركناكم من رحمتنا (عَذابَ الْخُلْدِ) أي الدائم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.
١٥ ـ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ...
خَرُّوا سُجَّداً ...) أي كبّوا ووقعوا على وجوههم خضوعا وخشية لله تعالى (وَسَبَّحُوا) أي نزّهوا ربّهم عمّا لا يليق به (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي متلبّسين به (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته.
١٦ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
...) أي تتنحّى وتتباعد جنوبهم عن فرش نومهم واستراحتهم للتهجّد
(خَوْفاً) من عذابه (وَطَمَعاً) في رحمته (يُنْفِقُونَ) في طريق الخير.
١٧ ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ ...) أي لا يعلم أحد لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ما أعدّ الله
لهم ، وللمتهجّدين والمنفقين في سبيل الخير (مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ) أي ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من صلاة ليلهم وإنفاق أموالهم.
١٨ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ...) هذا استفهام يراد به التقرير ، أي لا يكون من هو مصدّق
بالله على الحقيقة عارفا به وأنبيائه وعاملا بما أوجبه الله عليه وندبه إليه ، مثل
من هو فاسق خارج عن طاعة الله ، مرتكب لمعاصي الله في منزلة واحدة.
١٩ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً ...) أي جنات يأوون إليها هي عطاء خاص من الله لهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاء لأعمالهم الصّالحة.
٢٠ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ...) أي خرجوا عن طاعة الله بالكفر والمعاصي (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي المكان الذي يأوون إليه يوم القيامة هو النار (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها أُعِيدُوا فِيها) والإعادة عبارة عن خلودهم فيها ، (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ) إهانة لهم وزيادة في غيظهم. (الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي تجحدونه ولا تصدقون به. فإذا بلغوا أسفلها زفرت بهم
جهنم فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد فهذه حالهم.
٢١ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى ...) أي في الدنيا من مصائب القتل والأسر والقحط ، إذ لما كانت
غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجو إلى الله بالتوبة والإنابة كان عذاب الدنيا هو
أدنى العذاب النازل بهم للتخويف والإنذار دون عذاب الاستئصال ، ولذا عد عذاب
الدنيا العذاب الأدنى ولم يقل الأصغر حتى يقابل الأكبر لأن هذا لا يناسب من العذاب
ما كان للإنذار والتخويف. (دُونَ الْعَذابِ
الْأَكْبَرِ) أي قبل عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي لعل من بقي منهم يتوبون.
٢٢ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ ... إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ...) أي من كلّ آثم ومجرم. فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟ إذ
لا أحد أظلم لنفسه ممن نبّه على بينات الله وحججه التي توصله إلى الإيمان ثم لم
ينظر فيها.
٢٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا
تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ...) أي أعطينا موسى التوراة فلا تكن يا محمد في شك من لقائك
موسى ليلة الإسراء. وقيل : يوم القيامة. وقيل : بأن الضمير في (لِقائِهِ) راجع إلى موسى بلحاظ كتابه التوراة والتقدير : فلا تكن في
مرية من لقاء موسى الكتاب. وقيل أيضا : التقدير : من لقائك الكتاب أو من لقاء
الكتاب إياك. وقيل : الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه ، والمعنى : فلا تكن في
مرية من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه ، ولا يخفى عدم مناسبة شيء من هذه
الوجوه لسياق الآية. (وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي التوراة أو المراد نفس موسى.
٢٤ ـ (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ...) أي أنه قد اهتدى من قوم موسى جماعة وفّقناهم لأن يكونوا
قادة للدّعوة وحملة لها ، وقد كانوا (يَهْدُونَ) غيرهم من الناس إلى الإيمان (بِأَمْرِنا) توفيقنا وإرادتنا (لَمَّا صَبَرُوا) على ما كانوا يلقونه من الأذى (وَ) هؤلاء الأئمة (كانُوا بِآياتِنا
يُوقِنُونَ) لأنهم أمعنوا النظر بها فصدّقوها وآمنوا بها إيمانا راسخا.
٢٥ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) أي يميّز بين المحقّ والمبطل منهم يوم القيامة (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين.
٢٦ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ...) أي ألم يظهر لقريش ولم يتبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْقُرُونِ) كثرة من أهلكناهم (يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يمرّون في متاجرهم على ديارهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا
يَسْمَعُونَ) أي في ذلك الإهلاك عبرة لمن سمع سماع تدبّر واتّعاظ.
٢٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا ... إِلَى
الْأَرْضِ الْجُرُزِ ...) إلخ أي الأرض الخالية من النبات. (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) كالتّبن والأوراق والحشائش (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحبوب والأثمار (أَفَلا يُبْصِرُونَ) تلك الأمور المحسوسة الواضحة فيستدلّون بها على كمال قدرة
خالقها.
٢٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى ... إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ ...) أي في الوعد به وبإتيانه. فمتى يكون الفتح الذي تعدون
الناس به؟
٢٩ ـ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ ...) إلخ أي يوم القيامة لا ينفعهم إيمانهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يمهلون حتى يؤمنوا.
٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...) أي تكرّما (وَانْتَظِرْ) الغلبة عليهم (إِنَّهُمْ
مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك.
سورة الأحزاب
مدنية ، عدد آياتها ٧٣ آية
١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ...) لعلّ أمره صلوات الله عليه بالتقوى أمرا بالمداومة ، وإلّا
فهو صلوات الله عليه كان متّقيا. وعليه فالمعنى : اثبت على تقوى الله ودوام عليها.
(وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي
، فإنّهم بعد واقعة أحد طلبوا من النبيّ (ص) الأمام وجاؤوا إلى المدينة ليتفاهموا
مع النبي (ص) ونزلوا على عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن أبي سلّول زعيمي المنافقين
فقام هؤلاء الثلاثة مع رؤساء كفرة قريش. والمراد بالشريفة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) هؤلاء الثلاثة الذين قام معهم عبد الله بن أبيّ وعبد الله
بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فهم الذين عبّر عنهم في الآية بالمنافقين ، فدخلوا
على رسول الله فقالوا يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة وقل إن لها
شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربّك. فشقّ ذلك على رسول الله (ص) فأمر بإخراجهم من
المدينة فنزلت الكريمة :
٢ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) أي القرآن ـ و (خَبِيراً) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها.
٣ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً ...) أي قائما بتدبير أمورك حافظا لك ودافعا عنك.
٤ ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...) أي ما خلق أحدا وفي جوفه قلبان فكيف يقوم أمر الكون وله
إلهان؟ وهذا ردّ لما زعمت العرب من أنّ اللبيب الأريب الحفيظ له قلبان. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) والظّهار قول الرجل لامرأته : (أنت عليّ كظهر أمّي) وكانت
العرب في الجاهليّة تطلّق نساءها هكذا ، فجاء الإسلام ونهى عنه وأوجب الكفّارة على
المظاهر (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) جمع دعيّ وهو الذي يتبنّاه الإنسان فبيّن سبحانه أنه ليس
ابنا على الحقيقة والغرض رفع قالة الناس عنه (ص) حين تزوّج زينب بنت جحش بعد أن
طلّقها زيد بن حارثة الذي كان (ص) قد تبنّاه حين قالوا : إنه تزوج امرأة ابنه (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذه النسبة في قولكم (إنّ الدّعيّ ابن) قول أفواهيّ ليس
له حقيقة ، (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَ) أي كل ما يقوله تعالى فهو الحق ولا بدّ من أن يتّبع (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى طريق الحق.
٥ ـ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ...) أي انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) فهو أعدل وأصدق عنده ، وإن لم تعرفوا آباءهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الإسلام (وَمَوالِيكُمْ) أولياؤكم فيه فقولوا للواحد منهم : يا أخي ... يا مولاي
ولا إثم عليكم (فِيما أَخْطَأْتُمْ
بِهِ) من نسبة البنوّة إلى المتبنين قبل النهي أو لسبق اللسان (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي يكون الجناح والإثم فيما قصدتموه من دعائهم ونسبتهم إلى
غير آبائهم (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) للمخطئ (رَحِيماً) بالعفو عن العادم إن تاب.
٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...) أي أولى بهم منهم بأنفسهم .. قيل في معناه أنه أحق
بتدبيرهم وحكمه عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم. أو إذا دعتهم أنفسهم إلى شيء
ودعاهم النبي إلى آخر فدعوته أولى بالرعاية والطاعة من دعوتهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي كأمّهاتهم في التّحريم مطلقا وفي استحقاق التعظيم ما
دمن على طاعة الله ورسوله. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي ذوو القربات بعضهم أحق في الإرث وأولى ببعض. (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح أو القرآن (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ) أي الأنصار والمهاجرين فإن المؤمنين هم الأنصار بقرينة
التقابل (إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) إلى محبّيكم من الأنصار والمهاجرين وصيّة بأموالكم أن
تعطوهم في دبر وفاتكم. أو المراد بالمعروف هو إعطاؤهم في حال حياتكم. (كانَ ذلِكَ) أي كل ما ذكر في الآيتين (فِي الْكِتابِ
مَسْطُوراً) في القرآن أو في اللّوح المحفوظ ثابتا.
٧ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ ...) أي اذكر يا محمد حين أخذنا من الأنبياء والرّسل (مِيثاقَهُمْ) وعهدهم بتبليغ الرسالة وإضافة الميثاق إلى ضمير النبيين
دليل على أن المراد بالميثاق ميثاق خاص بهم وهو غير الميثاق المأخوذ من عامة البشر
الذي يشير إليه في قوله سبحانه في سورة الأعراف / ١٧٢ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ ...) إلخ. وقد ذكر النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثم سمّى خمسة
منهم بأسمائهم بالعطف عليهم فقال : (وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إنّما قدّم نبيّنا لفضله وشرفه ، وإنما خصّوا بالذّكر بعد
التعميم لأنّهم أولو العزم من الرّسل (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا شديدا بالوفاء بما حملوا من اعباء الرسالة.
٨ ـ (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ ...) إلخ أي لأنه تعالى يسأل الصّادقين عن صدقهم في تبليغ
الرسالة وقيل : ليسأل الصادقين في أقوالهم عن مدي صدقهم في أفعالهم. وقيل غير ذلك.
٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِذْ
جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) أي الأحزاب وكانوا جميعا عشرة آلاف نفر وذلك في غزوة
الخندق (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي الدّبور ويظن أنها ريح العذاب. (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي الملائكة ، (وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من حفر الخندق وغيره من الاستعداد لهم.
١٠ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ...) أي من أعلى الوادي (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفلها (وَإِذْ زاغَتِ
الْأَبْصارُ) مالت عن مقرّها خوفا ودهشا (وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزعا إذ عند الشّدّة تنتفخ الرّئة فترتفع عن مقرّها
الطّبيعي إلى الحنجرة وهي منتهى الحلقوم فلو لا أن ضاق الحلقوم عنها أن تخرج
لخرجت. (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) يعني أيّها المسلمون ظننتم بربّكم ظنونا مختلفة ،
فالثابتون على الإيمان كانت عقيدتهم النّصر وإنجاز الوعد بالغلبة ، والمنافقون
ظنّوا باستئصالهم وغلبة الكفّار.
١١ ـ (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ...) أي اختبروا أو امتحنوا ليميز الله المؤمن من المنافق (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) تزعزعوا من شدّة الدهشة والاضطراب.
١٢ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ضعف إيمان وشك (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدّين (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا.
١٣ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا
أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ ...) أي يا أهل المدينة ليس هنا موضع قيامكم (فَارْجِعُوا) إلى مدينتكم ومنازلكم ، (وَ) صاروا (يَقُولُونَ : إِنَّ
بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي غير حصينة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة وليست مكشوفة لأحد (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي لا يريدون إلا هربا من القتال من شدة خوفهم.
١٤ ـ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ...) أي لو دخل هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب على
الذين يقولون إن بيوتنا عورة وهم المنافقون (مِنْ أَقْطارِها) أي من جميع نواحي المدينة أو البيوت (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) بعد الدخول ودعوا من الأحزاب والمنافقين إلى الشّرك ، (لَآتَوْها) لأجابوهم (وَما تَلَبَّثُوا
بِها إِلَّا يَسِيراً) وما احتبسوا ولا تعلّلوا عن إجابة الأحزاب إلى الشرك إلا
قليلا.
١٥ ـ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ ...) إلخ أي بنو حارثة ومن معهم لمّا قصدوا الفرار يوم أحد قبل
معركة الخندق هذه فندموا على فعلهم وعاهدوا الله أن لا يفرّوا بعد ذلك أبدا (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به.
١٦ ـ (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ...) أي لن تمتنعوا بالفرار (مِنَ الْمَوْتِ) حتف الأنف (أَوِ الْقَتْلِ) في وقت معيّن (وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) تمتيعا في زمان قليل بعد هذا الفرار ثم تموتون قتلا أو
موتا طبيعيّا.
١٧ ـ (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ
مِنَ اللهِ ...) أي من الذي يدفع عنه قضاء الله (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) عذابا وعقوبة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ
رَحْمَةً) أي عزا ونصرا (أَوْ) هم (لا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) يدفع عنهم الضّر والسوء.
١٨ ـ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ
مِنْكُمْ ...) أي القاعدين والمتخلّفين عن مقاتلة الأحزاب مع النبيّ (ص)
أو هم الذين يمنعون عن نصرة النبيّ. (وَالْقائِلِينَ
لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي اليهود قالوا لإخوانهم المنافقين تعالوا وأقبلوا إلينا
واتركوا محمدا (ص) (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي المنافقون لا يحضرون القتال في سبيل الله إلّا قليلا
منهم ، أو لا يقاتلون إلا كارهين.
١٩ ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ...) أي بخلاء عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله أو
بكليهما (فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ) حلّ بهم الفزع حين تدور الحرب (رَأَيْتَهُمْ) يا محمد وهم ينظرون إليك وإلى المعركة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) تتحرّك أحداقهم يمنة ويسرة (كَالَّذِي يُغْشى
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) كالمغشيّ عليه في سكراته ، وذلك لغلبة الخوف والفزع (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي يؤذونكم ويزعجونكم ببذيء الكلام (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) يعني بخلاء عند تقسيم الغنيمة يجادلون ويناقشون طلبا لمزيد
حصتهم (أُولئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا) على وجه الإخلاص باطنا ، (فَأَحْبَطَ اللهُ
أَعْمالَهُمْ) أي أظهر بطلانها وعدم ترتّب الثواب عليها بسبب نفاقهم (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي كان الإحباط لأعمالهم عليه سبحانه هيّنا.
٢٠ ـ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ
يَذْهَبُوا ...) أي المنافقون كانوا يظنّون لجبنهم أنّ الأحزاب لم ينهزموا
وينصرفوا والواقع أنهم انصرفوا (وَإِنْ يَأْتِ
الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ
أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يتمنّى هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع
الأعراب (يَسْئَلُونَ) كلّ قادم من طرف المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عن أخباركم (وَلَوْ كانُوا
فِيكُمْ) في هذه الكرّة (ما قاتَلُوا إِلَّا
قَلِيلاً) أي لم يقاتلوا معكم الأحزاب إلّا قدرا يسيرا ، رياء وخوفا
من العار.
٢١ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) أي لقد كان لكم معاشر المكلفين به (ص) قدوة حميدة ، (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) يطلب رضاه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يخاف سوء منقلبه فيه (وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيراً) فلم ينسه في حال من الأحوال فكان ذلك موجبا لإطاعته في
تكاليفه.
٢٢ ـ (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ
الْأَحْزابَ ...) أي حين نظروا إليهم يوم الخندق (قالُوا) في أنفسهم : (هذا ما وَعَدَنَا
اللهُ وَرَسُولُهُ) من حرب الكفّار والنّصر عليهم (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في كلّ ما يصدر عنهما (وَما زادَهُمْ) هذا المشهد الذي ينذر بالقتل والقتال (إِلَّا إِيماناً) بما هم عليه من الحق (وَتَسْلِيماً) انقيادا لأمر الله سبحانه وأمر رسوله (ص).
٢٣ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) أي تجد بين المؤمنين بالله وبرسوله رجالا امتازوا عن غيرهم
بصدق العهد الذي أعطوه لله تعالى على أنفسهم من نصر دينه وإعلاء كلمته والجهاد مع
رسوله (ص) والثبات معه ، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ) أي استشهد على ما عاهد الله عليه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة في سبيل الله (وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً) العهد مع الله ورسله ولا غيّروه.
٢٤ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ ...) ليثيبهم على إيمانهم وتصديقهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) لنقضهم العهد (إِنْ شاءَ) أي إذا أراد وإذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) إذا تابوا وندموا على ما كان منهم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب وعمل عملا صالحا.
٢٥ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) وهم الأحزاب ، (بِغَيْظِهِمْ) بحنقهم الذي جاؤوا به فلم يشف غليلهم (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) لم يصيبوا ظفرا ولا ذاقوا غلبة (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي مباشرة القتال بما أنزل على المشركين من الريح العاتية
وألقى في قلوبهم الرعب (وَكانَ اللهُ
قَوِيًّا) على ما أراد (عَزِيزاً) غالبا على كلّ شيء.
٢٦ ـ (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ...) إلخ ومعناها أن الله تعالى أخرج الذين عاونوا الأحزاب ،
وهم اليهود من بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع الرّسول لينصروا الأحزاب ، من
حصونهم (وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى سبحانه الخوف من رسوله ومن المؤمنين في قلوبهم. (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال من بني قريظة (وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقاً) وهم النساء.
٢٧ ـ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
...) يعني أعطاكم بعد قتلهم والانتصار عليهم مزارعهم وحصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) المنقولة (وَأَرْضاً لَمْ
تَطَؤُها) لم تذهبوا إليها ولم تأخذوها بعد ولعلها أرض خيبر (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً) واضح المعنى.
٢٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ...) شأن نزول المباركة أنّ النبيّ الأكرم لمّا رجع من فتح خيبر
بعد ما أصاب كنز آل أبي الحقيق وأموالا كثيرة بحيث توقع أزواجه شيئا من تلك
الأموال وقلن أعطنا ممّا أصبت. فقال (ص) : قسّمتها بين المسلمين على ما أمر الله
فغضبن من ذلك وقلن لعلّك ترى أنك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا؟
فأمره سبحانه أن يعتزلهنّ فاعتزلهنّ في مشربة أمّ إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتى
حضن وطهرن. ثم أنزل الله عزوجل هذه الآية التي تسمّى آية التخيير (قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي السّعة والتنعّم فيها وزخارفها (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أعطيكنّ متعة الطّلاق وقيل هي توفير المهر بتمامه أو المهر
مع الزيادة (وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً) أطلقكنّ طلاقا لا ضرار فيه.
٢٩ ـ (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ...) إلخ فتبن عن قولكنّ واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بدل
الدنيا. وللمحسنات منكنّ أجر عظيم ... وقد تاب الله سبحانه عليهنّ فأمر النبيّ
بالرجوع إليهنّ.
٣٠ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ
مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ...) أي بمعصية شنيعة ظاهرة (يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي مثلي عذاب غيرهنّ لأن الذنب منهنّ أقبح وكان عذابها على
الله (يَسِيراً) هينا.
٣١ ـ (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ...) أي تدوم على الطاعة وقيل : القنوت : الخضوع ، وقيل : هو
لزوم الطاعة مع الخضوع. (وَتَعْمَلْ صالِحاً) عملا خالصا لله (نُؤْتِها أَجْرَها
مَرَّتَيْنِ) أي مثلي أجر غيرها (وَأَعْتَدْنا لَها) هيّأنا لها (رِزْقاً كَرِيماً) زائدا على أجرها المستحقّ لعملها. والرزق الكريم مصداقه
الجنة.
٣٢ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ
كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ...)
أي : ليس قدركنّ
كقدر غيركنّ من الصّالحات. أنتنّ أكرم عليّ وأنا بكنّ أرحم ، وثوابكن أعظم
لمكانكنّ من رسول الله (ص) وتدل الآية على تأكد تكاليفهن ومضاعفة جزائهن خيرا أو
شرا ولا يخفى أن مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف. (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) فإن الله سبحانه شرط عليهنّ التقوى ليبيّن أن فضلهنّ
بالتقوى لا باتّصالهنّ بالنبيّ فلا يغتررن بذلك (فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ) أي فلا تتكلّمن بالقول الليّن مع الأجانب مثل تكلّم
المربيات ، فالخضوع بالقول هو ترقيق الكلام وتليينه مع الرجال (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي مرض الرّيبة والفجور ... (وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً) بعيدا عن الطّمع والرّيبة وبكيفيّة طبيعيّة متعارفة.
٣٣ ـ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ...) أي اثبتن في منازلكن والزمنها (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) لا تظهرن زينتكنّ للأجانب من الرجال مثل تبرج نساء
الجاهلية قبل الإسلام (وَأَطِعْنَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي كما أنّكن مأمورات من عند الله ورسوله بإقامة الصلاة
وإيتاء الزّكاة كذلك لا بدّ لكنّ أن تطعن إياهما في سائر ما أمراكنّ به ونهياكنّ
عنه (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) المراد بالرجس هو الذنب والعصيان. وإنما أراد سبحانه بحصر
الإذهاب فيهم لإفهام البشر أجمعين أن أهل بيت نبيه (ص) وهم الخمسة أصحاب الكساء
والتسعة المعصومين من ذرية الحسين (ع) هم أشرف مخلوقاته من الأولين والآخرين وليس
لأحد أن يزاحمهم في مناصبهم ويشاركهم في مناقبهم التي اختصهم الله بها والمراد
بالإرادة إرادته التكوينية سبحانه لا التشريعية لأنهم (ع) لا اختصاص للتشريع بهم
وإنما هو عام للمكلفين (وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً) من جميع المآثم.
٣٤ ـ (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ
...) إلخ قيل معناه : اشكرن الله تعالى إذ صيّركن بتوفيقه لكنّ
في بيوت يتلى فيها الوحي والسنّة ، أي الآيات التي يوحى بها إلى النبيّ والحكمة
أقوال النبيّ الأكرم. وقيل معنى الشريفة : احفظن ما يتلى عليكن من القرآن لتعملن
به. (إِنَّ اللهَ كانَ
لَطِيفاً) في تدبير خلقه (خَبِيراً) بمصالحهم.
٣٥ ـ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ...
وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ...) أي الدّائمين على الطّاعة والمقابلة بين الإسلام والإيمان
تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة ، وذلك واضح لأن الإسلام هو تسليم الدين بحسب
العمل وظاهر الجوارح في حين أن الإيمان أمر قلبي واعتقاد وإذعان باطني يترتب عليه
عمل الجوارح. (وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقاتِ) في أقوالهم وأفعالهم (وَالصَّابِرِينَ
وَالصَّابِراتِ) على البلايا والقيام بالطّاعات (وَالْخاشِعِينَ) المتواضعين (وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما فرض عليهم أو الأعمّ (وَالْحافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (لَهُمْ مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم.
٣٦ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
...) نزلت في زينب بنت جحش الأسدية خطبها رسول الله على مولاه
زيد بن حارثة ورأت أنّه يخطبها لنفسه فلما عرفت أنه يخطبها على زيد أبت وأنكرت
وقالت أنا ابنة عمّتك فلم أكن لأفعل ، وكذا أبى أخوها عبد الله. فنزلت الآية
المباركة لتأديب الناس وبيان عظم شأن رسوله (ص) والمعنى ما صحّ لرجل مؤمن كعبد
الله ابن جحش ولا لامرأة مؤمنة كزينب بنت جحش (إِذا قَضَى اللهُ
وَرَسُولُهُ) أي أوجب الله ورسوله (أَمْراً) أي ألزماه وحكما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي الاختيار بتقديم أمرهم على أمر الله ورسوله. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) أي ومن يخالفهما فيما يحكمان فقد ذهب ذهابا بعيدا عن الحق.
وبعد نزول هذه الآية قالت زينب يا رسول الله جعلت أمري واختياري بيدك فزوّجها
إيّاه.
٣٧ ـ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِ ...) أي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإيمان (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق وهو زيد بن حارثة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) أي زينب بنت جحش (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها ومفارقتها ومضارّتها فلا تطلّقها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ
مُبْدِيهِ) يعني اذكر يا محمّد الّذي كنت تعرفه وتخفيه في نفسك والله
تعالى مظهره وهو نكاحك لها بعد طلاقها ، (وَتَخْشَى النَّاسَ) أن يعيّروك بالتزوّج من مطلّقة رجل كنت تتبنّاه (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي أنه أولى بالخوف من الناس. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها) أي حاجته من نكاحها وطلقها وانقضت عدتها. أذنّا لك في
الزواج منها. (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي في نكاح أزواج من يدعونهم أبناء (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) إذا طلّقوهن باختيارهم بعد قضاء حاجتهم منهنّ ، (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي قضاؤه كائنا لا محالة.
٣٨ ـ (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
...) أي ضيق (فِيما فَرَضَ اللهُ
لَهُ) أي أوجبه وقسم له من التزويج بامرأة الابن المتبنّى ، (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ) أي نفي الحرج أو تعدد الأزواج ليست من خصائصه بل كانت سنّة
جارية سنّها الله في السّابقين من الأنبياء والرّسل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
قَدَراً مَقْدُوراً) أي حتما مقضيّا.
٣٩ ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ
...) أي الأنبياء الذين يؤدون رسالات الله التي حملوها إلى
الأمم التي بعثوا إليها ولا يكتمون منها شيئا (وَيَخْشَوْنَهُ) يخافونه وحده (وَلا يَخْشَوْنَ
أَحَداً إِلَّا اللهَ) فيما يتعلق بالأداء والتبليغ. (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي كافيا ومحافظا ومحاسبا لأعمال العباد ومجازيا عليها.
٤٠ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ ...) أي ليس محمد أبا حقيقيّا للرّجال الذين لم يلدهم حتى تتحقّق
حرمة المصاهرة فتحرم نساؤكم عليه ولذا فهو ليس بأب لزيد حتى تحرم زوجته عليه (ص) (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) أي ولكن رسول الله لا يترك ما فرضه الله له بسبب مقالة
الجاهلين. (وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ) أي ختمت النبوّة به فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه
كذلك ، وشرعه ناسخ لجميع الشرائع. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) واضح المعنى.
٤١ و ٤٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ...) أي على كلّ حال وبكلّ ما هو أهله. واختلفوا في الذكر أيّ
شيء هو؟ فقيل هو التسبيحات الأربع وقيل هو قول : لا إله إلّا الله ، وقيل غير ذلك (وَسَبِّحُوهُ) قدّسوه ونزّهوه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره.
٤٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ ...) والصلاة من الله تعالى هي الرحمة ، ومن الملائكة
الاستغفار. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجهالة إلى المعرفة. وهذا
علّة لصلاته سبحانه وصلوات ملائكته على المؤمنين الذين يرحمهم ويرأف بهم.
٤٤ ـ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ ...) والمعنى : تحيّة الله للمؤمنين عند الموت ، أو عند البعث
أو يوم القيامة وحين الدخول في الجنة هو السلام المبشّر بالسلامة من كل المخاوف
والأهوال. (وَأَعَدَّ لَهُمْ
أَجْراً كَرِيماً) هيّأ لهم ثوابا عظيما.
٤٥ و ٤٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي شاهدا على أمّتك بطاعتهم ومعصيتهم ، ومبشّرا للمطيع
بالجنّة ونذيرا للعاصي بالنّار وشهادته (ص) على الأعمال أن يتحملها في هذه الدنيا
ويؤديها يوم القيامة ، فهو (ص) شهيد الشهداء. (وَداعِياً إِلَى
اللهِ) إلى توحيده وطاعته (بِإِذْنِهِ) أي بأمره (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مصباحا تنجلي به ظلمات الضّلال. بحيث يهتدي الناس به
إلى سعادتهم وينجون من ظلمات الشقاء والضلالة وفيه نحو كناية استعارية.
٤٧ ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ...) أي زيادة على ما يستحقّونه من الثواب على أعمالهم ، أو
فضلا على سائر الأمم.
٤٨ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ...) أي كن ثابتا على عدم الاعتناء بشأنهم. (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي أعرض عن إيذائهم إياك ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) فهو كافيك في دفع ضررهم عنك (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) في تفويض أمرك إليه في جميع الأحوال.
٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...) أي من قبل أن تجامعوهنّ (فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها ، (فَمَتِّعُوهُنَ) المراد بالمتعة هاهنا ما وصلت به وأعطيت بعد الطّلاق ، وهي
متعة الطّلاق. وهذا إذا لم يفرض لها مهرا (وَسَرِّحُوهُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً) أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا منع حقّهن.
٥٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ...) يا محمد (إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي دفعت مهورهنّ التي جعلتها لهن. (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ
اللهُ عَلَيْكَ) أي أحللنا لك نكاح المسبيّات من الإماء كصفيّة التي هي من
غنائم خير وأمثالها. (وَبَناتِ عَمِّكَ) إلى أن يقول (اللَّاتِي هاجَرْنَ
مَعَكَ) وهذا قيد للأفضلية لا للحلّية فإنّهن حلائل مطلقا. نعم قيل
: يحتمل أن يكون قيدا لإحلال المذكورات في حقّه (ص) خاصّة. (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي أحللنا لك امرأة مؤمنة إذا اتفق أنها وهبت نفسها فقبلها
النبي (ص) بلا عقد مهر. (خالِصَةً لَكَ) إلخ هذا إيذان بأن الحكم ممّا خصّ به (ص) لنبوّته فلا يحل
لغيره من المؤمنين. فهذه أصناف سبعة من النساء أحلّها الله لنبيه (ص). وقد ورد في
الدر المنثور عن علي بن الحسين (ع) في قوله : وامرأة مؤمنة ... هي أم شريك الأزدية
التي وهبت نفسها للنبي (ص). (قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي أنّنا قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم من
حيث العدد والحصر والمهر وكذلك في ملك اليمين لهم ولكن وضعناه عنك تخفيفا عنك
وتشريفا لك وفيه تقرير لحكم الاختصاص. (لِكَيْلا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي ضيق وإثم في باب النّكاح. وهو تعليل لقوله في صدر الآية
: إنا أحللنا لك ، أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص. (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) مر معناه.
٥١ ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ...) أي تؤخّرها وتترك مضاجعتها. وقد يكون الإرجاء هنا كناية عن
الرد. أو المراد تطلّقها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشاءُ) أي تضمّ إليك وتمسك من تشاء ونكحها. والإيواء : الإسكان
وهو كناية عن القبول. والآية بملاحظة سياقها تدل على أنه (ص) مخيّر بين قبول من
وهبت نفسها له وردّه. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أي طلبت ، وتريد أن تؤوي إليك (مِمَّنْ عَزَلْتَ) من النساء اللواتي هجرتهنّ أو من النساء اللاتي رددتهن فلم
تقبلهن عند هبتهن أنفسهن لك. (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في ذلك كلّه (ذلِكَ) أي التفويض إلى مشيئتك (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ
أَعْيُنُهُنَ) أي أقرب إلى سرورهن لرؤية ما كنّ متشوّقات إليه ، وذلك
لسرور المتقدمة بما قسمت لها ورجاء المتأخرة أن تتقدم بعد. (وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) فتطمئن نفوسهن لأن الحكم فيهنّ كلّهنّ سواء. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي من الرضا والسّخط والميل إلى بعض النساء دون بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في الصّدور (حَلِيماً) رؤفا لا يعجل بالعقوبة.
٥٢ ـ (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ
...) أي بعد النساء اللواتي أحللناهنّ لك (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْواجٍ) أي ولا يحلّ لك أن تبدّل من هؤلاء التسع بغيرهنّ بأن تطلق
واحدة منهنّ وتأخذ بدلها من غيرهنّ. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) أي حسن المحرّمات عليك (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) أي : لكن ما ملكت يمينك فيحل لك من الكتابيّات وغيرهنّ. وهو
استثناء من قوله في صدر الآية : لا يحل لك النساء. (وَكانَ اللهُ ...
رَقِيباً) أي حفيظا على كل شيء.
٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ ...) أي تدعون إلى أكل الطعام (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) أي حال كونكم لا تنتظرون وقت الطعام أو بلوغه (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ،
فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي بالخروج من بيت
النبيّ (ص) (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ) أي ولا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل متحدّثين يحدّث بعضكم
بعضا لتؤنسوه (إِنَّ ذلِكُمْ) الفعل منكم (كانَ يُؤْذِي
النَّبِيَ) لضيق المنزل عليه وعلى أهله (فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ) أي من إخراجكم (وَاللهُ لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي من كلام الحق فيأمركم بالخروج بعد الطعام (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) أي ممّا يحتاج إليه وينتفع به وهو كناية عن تكليمهن لحاجة.
(فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ) أي من وراء الستر (ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الرّيب والخواطر الشيطانية وفيه بيان لمصلحة هذا الحكم
الإلهي. وليس لكم (أَنْ تُؤْذُوا
رَسُولَ اللهِ) أي بنكاح أزواجه أو بطول الجلوس عنده في بيته أو بالتكلم
مع نسائه من غير وراء الستر ، أو الدخول عليه بلا استئذان منه (ص) (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ
بَعْدِهِ أَبَداً) لأنهن بمنزلة أمهات المؤمنين. إلى أن يقول : (عَظِيماً) أي ذنبا عظيما.
٥٤ ـ (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ
...) إلخ أي تظهرونه بألسنتكم أو تخفون في صدوركم فإنه سبحانه
يعلمه لأنه محيط بكل شيء. وفي الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم
أزواجه بعده ، وفي الدر المنثور عن السدي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا
محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده
، فنزلت الآية.
٥٥ ـ (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ ...) إلخ أي لا بأس لهؤلاء أن يسألوهنّ من دون حجاب ولا عليهنّ
أن يجبن من غير ستر ولا تستّر وقد استثنى الآباء والأبناء والإخوان وأبناء الإخوان
وأبناء الأخوات وهؤلاء محارم ، ولم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم من الممكن أن
يصفوهن لأبنائهم. (وَاتَّقِينَ اللهَ) فيما كلّفكنّ من الاحتجاب عما سواهم ، وكان الله (شَهِيداً) أي لا يغيب عنه شيء.
٥٦ ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ ...) في ثواب الأعمال عن الكاظم (ع) أنّه سئل : ما معنى صلاة
الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمنين؟ قال (ع) : صلاة الله رحمة من الله ، وصلاة
الملائكة تزكية منهم له ، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي قولوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنّة أن طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا
الله تعالى أن يصلّي عليه وآله.
٥٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ ... لَعَنَهُمُ اللهُ ...) إلخ أي يبعدهم الله في الدّنيا والآخرة من رحمته حيث هيأ
لهم نار جهنم. ومن المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى وكل ما فيه وصمة
النقص والهوان ، فذكره مع الرسول وتشريكه في إيذائه تشريف للرسول وإشارة إلى أن من
قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول إلا ربه فمن قصده
فقد قصد ربه.
٥٨ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ...) أي بلا ذنب يوجب إيذاءهم وأما إيذاؤهم بما اكتسبوا كما في
القصاص والحد والتعزير لا إثم فيه. (فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتاناً) فقد فعلوا ما هو أعظم الإثم مع البهتان وهو الكذب على
الغير يواجهه به (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ومعصية ظاهرة.
٥٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ...
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) أي يرخين على وجوههن وأبدانهن بعض ملاحفهنّ حين يخرجن من
بيوتهن لقضاء حوائجهنّ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ) إلخ أي تغطية الرأس والوجه أقرب إلى معرفتهن بأنّهن حرائر
من ذوات العفاف فلا يتعرّض لهنّ الفسّاق من الشباب بظن أنهن إماء.
٦٠ و ٦١ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ...) أي عن نفاقهم. (وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي فجور وفسوق من تعرّضهم للنّساء المؤمنات (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم أناس من المنافقين كانوا يشيعون أخبارا كاذبة سيئة عن
سرايا رسول الله (لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ) أي لنأمرنّك بقتالهم وإجلائهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا مجاورة قليلة لأنّهم يستأصلون في أيّام قلائل (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) أي أينما وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلاً) فقضي عليهم.
٦٢ ـ (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ ...) أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية وفي منافقيهم المرجفين
بالمؤمنين والسنّة هي الطريقة المعمولة التي تجري بطبعها غالبا أو دائما. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ
تَبْدِيلاً) يعني هذه السنّة جارية في أمّتك يا محمد نعلا بالنعل وحذوا
بالحذو ، ولا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها. فتجري فيكم كما جرت في الأمم قبلكم.
٦٣ ـ (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ...) أي كفار مكة سألوه استهزاء (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيامها (قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) واستأثر به ولم يطلع عليها ملكا ولا نبيّا (وَما يُدْرِيكَ) أي أنت لا تعرف متى تقوم فكيف بغيرك (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي قد توجد في وقت يكون قريبا. ومثل هذا التعبير فيه زيادة
إبهام وليعلموا أن النبي (ص) مثل غيره في عدم العلم بها.
٦٤ و ٦٥ ـ (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ
وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ...) أي هيأ لهم نارا شديدة الإيقاد واللعن من الله الإبعاد من
رحمته (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) أي مقدار لبثهم فيها أبديّ لا يخلّصهم منها أحد.
٦٦ ـ (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ ...) أي تتحوّل من هيئة إلى هيئة ومن حالة إلى حالة فتصفرّ
وتسودّ وتكون كالحة ، أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مسّ العذاب كما
يفعل باللحم المشوي. فيقولون (يا لَيْتَنا
أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فكانوا يتمنّون أمرا محالا.
٦٧ و ٦٨ ـ (وَقالُوا رَبَّنا ... رَبَّنا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ...) أي مثلي ما آتيتنا من العذاب لأنّهم ضلّوا وأضلّونا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أشدّ وأعظم من كلّ لعن أو عدده.
٦٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا ...) إلخ أي لا تكونوا مع نبيّكم مثل الذين آذوا نبيّهم موسى (ع)
برميهم إيّاه بالبرص فأظهر الله لهم براءته واتّهامهم له بقتل هارون فبرّأه الله
من مقالتهم الكاذبة.
٧٠ و ٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...
وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ...) أي قولا صادقا قاصدا إلى الحق ، صوابا موافقا ظاهره
لباطنه. (يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ) أي هو تعالى يوفقكم لصدور الأعمال الصّالحة عنكم ، أو يقبل
أعمالكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) وهذا نتيجة إصلاحه لأعمال عباده ، فإن الأعمال إذا صارت
مصلحة فالذّنوب تصير مغفورة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي من يطعهما فيما أمرا به ونهيا عنه فقد أفلح فلاحا
كبيرا. فرتّب الفلاح الكبير على طاعة الله ورسوله. وبذلك تختتم السورة في معناها
في الحقيقة ، لأن طاعة الله ورسوله هي الكلمة الجامعة بين جميع الأحكام السابقة من
واجبات ومحرمات والآيتان التاليتان كالمتمم لمعناها وهما :
٧٢ ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) إلخ المراد بعرضها عليهنّ قيل إنه النظر إلى استعدادهنّ له
وإبائهنّ الإباء الطبيعيّ الذي هو عدم اللّياقة والاستعداد ، ويحتمل أن يكون
المراد العرض على أهلها بتقدير حذف المضاف وعرضها عليهم تعريفها إيّاهم (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي مال إليها بقبولها أو اشتمل على صلاحيتها والتهيؤ
للتلبس بها على ضعفه وصغر حجمه. (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً) بارتكاب المعاصي (جَهُولاً) بشأن الأمانة وموضعها في استحقاق العقاب على الخيانة فيها.
وأمّا الأمانة فقيل هي الطاعة ، وقيل هي شريعة الله من أحكامه وفرائضه وقيل هي
الصّلاة وقيل هي أمانات الناس.
٧٣ ـ (لِيُعَذِّبَ اللهُ ...) هذا علّة لعرض الأمانة ، (الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي الخائنين للأمانة (وَيَتُوبَ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي المؤدّين للأمانة (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) مر معناه.
سورة سبأ
مكية ، عدد آياتها ٥٤ آية
١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي قولوا : الحمد لله ، وهو تعريف لوجوب الشكر لله على
نعمه وتعليم لكيفيته. (الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي يملك وحده التصرف بما فيهما من مخلوقات وكائنات ونعم (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن النّعم ـ دنيويّة وأخرويّة ـ مختصة به سبحانه ، ولكنّ
الآخرة خصّت تفضيلا لها على الدّنيا الزائلة. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدابيره (الْخَبِيرُ) بخلقه. وقد ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن
تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبني على الحكمة والخبرة ، فبحكمته
عقّب الدنيا بالآخرة وإلا لغت الخلقة وبطلت ولم يتميز المحسن من المسيء ، وبخبرته
يحشرهم فلا يغادر منهم أحدا ليجزي كل نفس بما كسبت.
٢ ـ (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ...) أي يعرف ما يدخل فيها مثل المطر والمحشرات والكنوز
والأموات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من المياه والفلزّات والنباتات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالأمطار والأرزاق والملائكة وغيرها. (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها مع الملائكة وأعمال العباد ودعواتهم
وغيرها. (وَهُوَ الرَّحِيمُ) في إعطاء النّعم الشّفوق على العباد بإتمامها عليهم (الْغَفُورُ) للمقصّرين والمذنبين.
٣ و ٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَأْتِينَا السَّاعَةُ ...)
إمّا إنكارا
لمجيئها ، أو استبطاء واستهزاء بالوعد بها (قُلْ بَلى وَرَبِّي) أي قل يا محمد : نعم وحق الله خالقي (لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عالِمِ الْغَيْبِ) لتجيئنّكم القيامة وربي يعلم كل ما غاب علمه عن المخلوقين (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يغيب عنه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي زنة وأصغر جزء ممكن (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه بالأجسام ، (إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) أي اللوح المحفوظ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا) إلخ أي إنما أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ليكافئهم بما
يستحقونه من الثواب على صالح أعمالهم. (أُولئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي في الجنّة. والرزق الكريم ما يأتي من غير طلب.
٥ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا ...) أي عملوا لإبطالها (مُعاجِزِينَ) مسابقين لنا ظانّين أن يفوتونا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ) أي من سيّئ العذاب المؤلم.
٦ ـ (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي أهل العلم من المسلمين أو من أهل الكتاب وهم الذين
يعلمون أنّ القرآن الذي أنزل إليك (هُوَ الْحَقَ) لأنّهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه ، فيعلمون بالنظر
والاستدلال أنه ليس من قبل البشر (وَيَهْدِي إِلى
صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويعلمون كذلك أنّه يرشد إلى دين القادر الذي لا يغالب ،
المحمود على جميع فعاله وهو الله تعالى.
٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي كفرة قريش قال بعضهم لبعض استهزاء (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) عنوا بذلك محمدا (ص) (يُنَبِّئُكُمْ إِذا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يزعم إنكم تبعثون بعد أن تتفرق أبدانكم وتتقطع أوصالكم
وتصبحون ترابا.
٨ ـ (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) والمعنى : هل كذب على الله كذبا واخترع من عند نفسه
متعمّدا حيث يزعم أنّا نبعث بعد الموت؟ (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون يخيّل له ذلك فيهذي به (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) أي ليس الأمر كما يقولون بل هؤلاء المنكرون للبعث والجزاء (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي هم في نار جهنم في الآخرة وفي ذهاب بعيد عن الحق في
الدنيا.
٩ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ ...) أي إلى ما أحاط بجوانبهم (مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) كيف أحاطت بهم ، أفلم ينظر هؤلاء الكفرة إليهما فيعرفون
أنّا قادرون على إهلاكهم كما أهلكنا القرون الأولى. (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسفنا بقارون وأمواله (أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعا منها فتغطّيهم فيهلكوا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ترون من السّماء والأرض وإحاطتهما بهم ومن قدرة
الخالق تعالى (لَآيَةً لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى ربّه ويتدبّر في قدرته.
١٠ و ١١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً
...) أي أعطيناه من عندنا مضافا إلى النبوّة كتابا وهو الزّبور
، أو المراد بالفضل الصّوت الحسن ، (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي سبّحي معه إذا سبّح. وقيل : سيري معه من التأويب وهو
السير في النهار ، فكانت الجبال على ما قيل والطير تسير معه أينما سار. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فصار في يده كالشمع يطاوعه كما يشاء من دون نار ولا طرق. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) والمعنى أننا أمرناه بأن يعمل دروعا واسعة الأذيال وقلنا
له (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) أي عدّل وسوّ بين الحلقات في نسجها بحيث تتناسب حلقاتها في
الصّغر والكبر وفي اللّين والغلظ. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) إلخ أي قلنا واعمل أنت وأهلك الصّالحات فأنا عالم بما
تفعلونه.
١٢ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ...) أي سخّرنا له الرّيح ، (غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ كذلك. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أجرينا ذلك له بعد ما أذبنا له معدن النّحاس. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ
يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي سخّرناهم له منهم من يشتغل له بحضرته وبأمره بحكم الله
وقضائه. (وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي يعدل ويخرج عمّا أمرناه به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي نعذّبه بالنار المشتعلة في الآخرة أو في الدنيا بسياط
من نار كما قال بعض المفسرين.
١٣ و ١٤ ـ (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ
مَحارِيبَ ...) أي أبنية رفيعة وقصور منيعة ، أو المراد بها المساجد
ومحاريبها (وَتَماثِيلَ) قيل هي صور الملائكة والأنبياء ليقتدي بهم. (وَجِفانٍ) جمع جفنة أي صحاف للطعام (كَالْجَوابِ) أي الأحواض الكبيرة (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات لا تنزل عن أماكنها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ
مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي من يجتهد في أداء الشكر بجنانه ولسانه وأركانه. (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ
ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ) أي حكمنا بموته وما دلّ الجنّ والشياطين على موته (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ) الأرضة ، فإنّها أكلت عصاه فسقط (ع) فعلموا أنّه ميّت.
ولكنّهم علموا بعد سنة (فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي سقط سليمان ميّتا وظهر للجن (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ
ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أنهم لا يعلمون الغيب كما كان يزعم الناس إذ لو علموه ما
بقوا إلى ما بعد سنة من موت سليمان في العمل الشاق. وقيل معناه : ظهر الجن وتبين
للناس إلخ.
١٥ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ ...) أي لولده ، فالمراد به ها هنا القبيلة الذين هم من أولاد
سبأ وهو أبو عرب اليمن. (فِي مَسْكَنِهِمْ
آيَةٌ) باليمن ، علامة دالّة على كمال قدرة الله وسبوغ نعمه. (جَنَّتانِ) إلخ أي حديقتان ذاتي أشجار كثيرة عن يمين البلد وشماله
متّصلة بعضها ببعض (كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي أنبياؤهم يقولون لهم : كلوا من هذه النّعم وافعلوا
شكرها يزدكم من نعمه (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) إلخ أي هذه بلدة منزهة مخصبة عذبة مياهها وإله كثير
المغفرة للذنوب.
١٦ ـ (فَأَعْرَضُوا ...) أي فلمّا أعرضوا عن الشكر وكفروا بأنعم الله (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ) العرم : جمع عرمة وهو ها هنا الجرذ الصّحراوي ، أي الفأرة
الكبيرة التي أمرها الله تعالى بنقب السدّ الذي صنعوه لمنع السّيول فلما نقبته
الجرذان جاءهم السيل الذي خرب البيوت وقلع الأشجار والأبنية وأهلك جميع ما مرّ
عليه ووقع فيه (وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ) أي عوض جنّتيهم اللتين فيهما أنواع الفواكه العذبة الحلوة (جَنَّتَيْنِ) أخراوين (ذَواتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ) أي صاحبتي ثمر في غاية المرارة ، والبشاعة قيل هو الأراك (وَأَثْلٍ) وهو شجر يقال له الطرفاء لا ثمر له ، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي قليل من ثمر النبق.
١٧ ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ...) أي ذلك التبديل بسبب أنهم كفروا برسلنا (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي أن أخذ النعم والجزاء بالحرمان منها منحصر بمن يكفر
منهم بنعمنا ، ومن يشكرها نزد له فيها.
١٨ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْقُرَى ...) أي بين الباقين من أهل سبأ وبين القرى في الشام وفلسطين
وغيرهما (الَّتِي بارَكْنا
فِيها) بكثرة المياه وأشجار الفواكه المختلفة والزّروع (قُرىً ظاهِرَةً) أي متقاربة متصلة كلّ واحدة مع الأخرى (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا السّير من قرية إلى أخرى مقدارا واحدا وهو نصف
يوم وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها
لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي ليلا شئتم المسير أو نهارا بلا خوف عليكم بل مأمونون من
جميع الجهات.
١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ
أَسْفارِنا ...) أي أشروا وبطروا النعمة وملّوا العافية فسأل الأغنياء الله
أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وأودية لنركب إليها الرواحل (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر (فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) لمن بعدهم يضربون بهم المثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي شتّتناهم كلّ تفريق وتشتيت فأصبحوا قبائل في مناطق
متباعدة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي هذا المذكور من قصّة سبأ (لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لمن يصبر على الشدائد أو عن المعاصي ويشكر
كثيرا على النّعم.
٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ ...) الضّمير في عليهم إمّا أنه يعود لبني آدم أو إلى أهل سبأ
بمناسبة المقام ، يعني أن إبليس كان قال ظانا لا على اليقين : لأغوينّهم ولأضلنّهم
فلما تابعه أهل الزيغ والشرك صدّق ظنّه وحقّقه (فَاتَّبَعُوهُ) أي فيما دعاهم إليه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) من : هنا للتّبيين يعني المؤمنين كلّهم ، وعن ابن عباس :
أي علموا قبح متابعته فلم يتّبعوه واتّبعوا أمر الله سبحانه. ويحتمل أن تكون من
تبعيضية.
٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطانٍ ...) أي أن تسلّط إبليس على من حقّق ظنّه في حقّهم ما كان عن
قوّة فيه تجبرهم على مطاوعته في وسوسته ، ولكنه كان باختيارهم ، ولم يقع منهم (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي إلّا ليتميّز المؤمن من الشاكّ فنجازي كلّا منهما جزاءه
، وربّك (حَفِيظٌ) أي رقيب على كلّ شيء.
٢٢ ـ (قُلِ ...) أي يا محمد قل لمشركي مكّة (ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ) أنّهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي اطلبوا منهم ما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ ، فإنهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي لا يملكون زنة ذرة فيهما من خير أو شرّ. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي ليس لهم شركة في خلقهما مع الله (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) وليس له تعالى من آلهة المشركين من معين ولا ناصر على شيء
من أمر السماوات والأرض حدوثا وبقاء.
٢٣ ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ ...) أي لا تنفعهم شفاعة الشافعين عند الله على زعمهم من
الأصنام والأوثان (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) أي لا تقبل الشفاعة عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له فيها.
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) المعنى أن الشافع والمشفع به يوم القيامة كلاهما ينتظران
الشفاعة ولا يزالان في خوف وفزع من رد الشفاعة إلى أن يسلب الفزع عن قلوب أهل
المحشر بالإذن لهم بالشفاعة لهم فيفرحوا (قالُوا) يقول بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) متسائلين عن قوله تعالى فيما يرجع إلى الشفاعة. (قالُوا الْحَقَ) أي قالوا : قال ربّنا الصدق والواقع ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذو العلوّ بقهره ، وذو الكبرياء بعظمته.
٢٤ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) هذا الكلام تقرير لقوله (لا يَمْلِكُونَ) وإلزام لهم لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ترزقنا آلهتنا التي
نعبدها. فعند ذلك يتوقّفون (قُلِ اللهُ) أي قل ذلك جوابا عن المشركين إذ لا جواب لهم سواه ، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني يا محمد قل للمشركين : نحن المؤمنون نقول بأن رازقنا
وخالقنا واحد وإيّاه نعبد أمّا الذين تعبدونهم فهم من الجماد الذي لا يضرّ ولا
ينفع فنحن على طريق الهداية والاستقامة وأنتم على جادة الغيّ والضلالة الواضحة.
٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا
...) أي قل لهم يا محمد أنتم أيها الكافرون غير مسئولين عما
اقترفنا من المعاصي (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) وكذلك نحن غير مسئولين عن أعمالكم بل كل إنسان يسأل عن عمل
نفسه ويجازى عليه.
٢٦ ـ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ...) أي يحشرنا وإيّاكم ربّنا يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) وبينكم ، أي يحكم ويفصل (بِالْحَقِ) بالعدل (وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ) أي الحاكم العالم بكيفية حكمه وفق الحكمة.
٢٧ ـ (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ
بِهِ شُرَكاءَ ...) أي عرّفوني الذين زعمتم أنهم شركاء الله في استحقاق
العبادة. (كَلَّا) كلمة ردع لهم أي ليس كما تزعمون (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب بقدرته الحكيم في تدبيره ، والأصنام ليس لها شيء
من ذلك.
٢٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ ...) إلخ أي ما بعثناك يا محمد إلّا لرسالة عامة على جميع البشر
من الأبيض والأسود والأحمر. مبشرا لهم بالجنة ومخوفا لهم من النار ولكن أكثر الناس
لا يعلمون رسالتك لأنهم يعرضون عن الحجج والأدلة التي تؤدي بهم إلى العلم بها.
٢٩ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي الموعود بقوله (قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) فأين هو (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم.
٣٠ ـ (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ...) أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم به وهو يوم القيامة (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا
تَسْتَقْدِمُونَ) أي لا تتأخّرون عن ذلك بأن يزاد في آجالكم ولا تتقدمون
عليه بأن ينقص منها.
٣١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ...) أي اليهود قالوا هكذا ، وقيل هم مشركو العرب. (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أالتوراة والإنجيل
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موضع الحساب (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتحاورون في مقام الجدل (يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) أي الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) أي القادة (لَوْ لا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فأنتم منعتمونا من الإيمان بالله وبالرّسول وصددتمونا عن
الهدى.
٣٢ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ... أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى ...) إلخ أي قال المتبوعون للأتباع على طريق الإنكار : أنحن
صددناكم؟ أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى (بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ) فأنتم باختياركم كفرتم حيث أعرضتم عن الهدى.
٣٣ ـ (وَقالَ ... بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ ...) أي قال الأتباع للمتبوعين مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا
صدّنا عن هدايتنا إلى الإيمان. (إِذْ تَأْمُرُونَنا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) أي أنتم كنتم قوّادنا وكنّا من رعاياكم المأمورين بأوامركم
المنتهين بنواهيكم ، وقد كنتم تأمروننا بأن نكفر بالله (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي شركاء (وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أخفاها الفريقان خوف الفضيحة والتّعبير ، وقيل أظهروا
الندامة لأن صيغة أسرّ مما يفيد الأضداد (وَجَعَلْنَا
الْأَغْلالَ ...) الآية ، إيراد المستقبل بلفظ الماضي لتحقّق وقوع الفعل
فإنّهم بحكم من وضع الغلّ في عنقه (هَلْ يُجْزَوْنَ) إلخ الاستفهام للإنكار أي : لا يجزون إلا بأعمالهم.
٣٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ ...) أي رسولا منذرا (إِلَّا قالَ
مُتْرَفُوها) أي رؤساؤها المتنعّمون (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كافِرُونَ) تخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم الأصل في العناد ، ولأنّ
معظم الداعي على التكذيب هو التكبّر والتفاخر بالزخارف الدنيوية والانهماك في
الشّهوات ، ولهذا أخذوا الترف علة للتميز.
٣٥ ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً ...) أي من كان أكثر أموالا (وَأَوْلاداً) أي قوّة فهو أولى بدعوى الرّسالة والإمارة على الناس ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأننا أكرم عند الله منكم في الدنيا فلا يهيننا بالعذاب
يوم القيامة.
٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
...) إلخ أي قل يا محمد لهؤلاء المترفين الجهلة : إن الله تعالى
يوسّع الرزق ويضيّقه بحسب المصالح والحكم التي يراها وهو عالم بها ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) لا يدرون ولا يدركون ذلك.
٣٧ ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ...) قربى أو : تقرّبا. فالأموال والأولاد لا تقرّب أحدا منكم
قربى لدينا (إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) بإنفاق ماله في سبيل الله ، وتعليم ولده الخير والصلاح (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ
بِما عَمِلُوا) أي يجازون الضّعف إلى العشر وزيادة إلى سبعمائة كما في
الحديث ، (وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي في القصور السّامية العالية في الجنة مأمونون من جميع
المكاره والآلام.
٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا ...) أي بالإبطال والطّعن (مُعاجِزِينَ) بزعمهم أنّهم أعجزونا بذلك وظنّهم بأننا لا نقدر على أخذهم
(أُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) فالذين يجهدون لطمس آياتنا وإبطالها فإنهم سوف يحضرون يوم
القيامة للعذاب في جهنم.
٣٩ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ ...) إلخ مر تفسيره وإنما كرره سبحانه لاختلاف الفائدة حيث إن
الأول توبيخ للكافرين وكانوا المخاطبين به وهنا وعظ للمؤمنين. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ) أي ما بذلتم من أموالكم التي رزقكم الله في وجوه البرّ
فإنه تعالى يعطيكم عوضه عاجلا وآجلا بزيادة النعمة في الدنيا وعظيم الثواب في
العقبى. (وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) لأنه يعطي لمحض نفع عباده ولا لدفع ضرر أو جر نفع لاستحالة
المنافع عليه لأنه الغني والمضار لأنه القادر المطلق.
٤٠ و ٤١ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ ...) إلخ أي يبعث الله يوم القيامة العابدين لغير الله
والمعبودين من دونه ومن جملتهم الملائكة ثم يسأل الله الملائكة سؤال تقرير هل
هؤلاء الكفار كانوا يتوجهون إليكم بالعبادة وليس السؤال سؤالا عن أصل عبادتهم لهم
ولو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا وقد أنكروها كما في الآية ،
بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم ، والغرض من السؤال تبكيت المشركين وإقناطهم
من نصرة الملائكة وشفاعتهم لهم وقد عبدوهم في الدنيا لذلك. (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا) إلخ أي قالت الملائكة : تنزيها لك من أن نعبد غيرك أنت
ناصرنا وأولى بنا من دون هؤلاء الكفّار (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعونهم فيما يأمرونهم ويدعونهم إليه من عبادة
الملائكة أو غيرها. وقيل إنّ مرادهم من الجنّ هو إبليس وأعوانه (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي المشركون جميعا كانوا مصدّقين بالشياطين مطيعين لهم.
٤٢ ـ (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ...) إلخ أي في الآخرة
لا يملك العابدون ولا المعبودون نفعا بالشفاعة ولا ضرّا بالتّعذيب.
٤٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات واضحات (قالُوا ما هذا) أي محمد (إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) إلخ يمنعكم عن تقليد آبائكم في العبادة (وَقالُوا ما هذا) القرآن (إِلَّا إِفْكٌ
مُفْتَرىً) أي كذب مختلق (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِ) إلخ أي للنبيّ أو القرآن (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر.
٤٤ ـ (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ ...) أي ما أعطينا مشركي قريش كتبا قط يتعلّمون درسها حتّى
يعلموا أن ما جئت به حق أو باطل ، وإنما يقولون ما يقولون بأهوائهم وبلا حجة (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ) أي ما بعثنا قبلك من رسول أمرهم بتكذيبك وأخبرهم ببطلان
قولك.
٤٥ ـ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي كذّبوا الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلهم من الأمم
كما يكذّبك هؤلاء من أمّتك (وَما بَلَغُوا
مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي ما بلغ قومك عشر ما آتينا أولئك من القوّة وطول العمر
والمال (فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي انظر إنكاري عليهم بالتّدمير والإهلاك.
٤٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أوصيكم بخصلة واحدة أو
بكلمة واحدة (أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي اثنين اثنين وواحدا واحدا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمري وما جئت به لتعلموا حقّيته وتعرفوا أن (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي ليس بمحمد (ص) جنون موجب لادّعائه الرّسالة (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يخوّفكم (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ
شَدِيدٍ) من عذاب صعب قريب وقوعه يوم القيامة.
٤٧ ـ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ ...) يعني أنّ كلّ ما تحملت في أداء الرسالة وتبليغها من
المشاقّ والتكاليف فأجره لكم ، وما أريد منكم أجر رسالتي (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ليس ثواب عملي إلا على ربي (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي مطّلع وشاهد على خلوص نيّتي وصدق دعوتي.
٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ
...) أي يرمي به الباطل فيدمغه ، وهو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي عالم بجميع الأمور الغيبيّة.
٤٩ ـ (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ
الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء جاء الإسلام أو التّوحيد وزهق الكفر
ولم يبق له أثر لا إبداء ولا إعادة ورجوعا.
٥٠ ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ
...) إلخ أي إن ضللت عن الحق وطريق الهدى فيكون وبال ضلالي على
نفسي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) إلى الحقّ (فَبِما يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي) إلخ أي بهدى ربّي تفضّلا ورحمة منه بي ، فهو يسمع كل قول
قريب منا فلا يخفى عليه المحق من المبطل.
٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ
...) أي ولو تنظر يا محمد الكفرة عند الموت أو البعث (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتوننا ولا ينجو منهم ظالم (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من قبورهم أو من أرض الموقف إلى النار فهم قريبون معه حيث
كانوا.
٥٢ ـ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ ...) أي يقولون يوم القيامة آمنا بمحمد ولكن من أين لهم
الانتفاع بهذا الإيمان الذي الجئوا إليه (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من عالم الآخرة فإن محل التكليف بالإيمان هو الدنيا وهم
في عالم الآخرة وقد ابتعدت دار التكليف.
٥٣ ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ...) أي كفروا بالقرآن أو بمحمد (ص) في أوان التكليف (وَ) هم الآن (يَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ) أي يرجمون بالظنّ من نفي البعث والجنّة والنّار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني من جهة بعيدة عن حال الرّسول وحال الآخرة.
٥٤ ـ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما
يَشْتَهُونَ ...) أي وفرّق بالموت بينهم وبين مشتهياتهم من قبول الإيمان أو
من نفع التصديق (كَما فُعِلَ
بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) من البعث والعذاب (مُرِيبٍ) أي مشكّك.
سورة فاطر
مكية ، عدد آياتها ٤٥ آية
١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق وقد حمد سبحانه نفسه
ليعلمنا ليبين أن الحمد كله له وليعلمنا كيف نحمد (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) أي وسائط بين الله وأنبيائه والصالحين من عباده بالوحي
والرسالات (أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنى ...) الآية الجملة صفة للملائكة. واختلاف الأجنحة لتفاوت
مراتبهم ، وإعطاؤها لتسهيل النّزول والعروج ، وللتسريع فيما يؤمرون به. وليس ذكر
هذه الأعداد للحصر بل لبيان المثل ، ويدل على عدم الخصوصية لهذه الأعداد وعدم بيان
الحصر قوله : (يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ ما يَشاءُ) إلخ وقول ابن عباس عن النبيّ (ص) أنه قال : رأيت في ليلة
المعراج جبرائيل كان له ستمائة جناح.
٢ ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ ...) يعني إن الله تعالى لو أراد لعباده الخير وأن يفتح لهم باب
رحمته (فَلا مُمْسِكَ لَها) أي لا يقدر أحد أن يمنع خيره ورحمته النازلة إليهم (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ
بَعْدِهِ) أي ما يحبسه ويمنعه من نعمه ورحماته فلا يتمكّن أحد أن
يرسلها ويجيء بها من تلقاء نفسه بعد إمساك الله سبحانه ومنعه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر معناه.
٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا ...) أي احفظوا (نِعْمَتَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) وآتوا حقّها بشكر مولاها قولا وعملا واعتقادا. والنعمة
أعمّ من الظاهرية والباطنيّة (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد في ابتداء الوجود ، (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرّزق إلى الانتهاء. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ) أي لا خالق ولا رازق غيره فأين تتوجّهون وتنصرفون عن
التّوحيد إلى إشراك غيره معه؟.
٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ...) أي إن نسبك يا محمد أهل مكة إلى الكذب (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) من قبل أممهم فتأسّ بهم في الصّبر على تكذيبهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازيك على الصبر ويجازيهم على التكذيب.
٥ و ٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ ...) أي وعده بما أرسل رسله به من البعث وما يتلوه ، فهو صدق
كائن حتما (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا تغشّنكم فيلهيكم التمتّع بها عن السعي في طلب الآخرة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي لا يخدعنّكم عن طاعة الله وكرمه ومغفرته الشيطان
الخدّاع (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة قديمة وهو يدعوكم إلى ما فيه الهلاك والخسران (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي فعادوه ولا تطيعوه واحذروه في جميع أحوالكم. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أنصاره ومتابعيه (لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحابِ السَّعِيرِ) من أهل النّار المسعّرة.
٧ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ ...) جزاء على كفرهم وهذا حال الفئة الأولى أي المتابعين للشيطان
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم وهذا وعد للفئة الثانية أي المخالفين لدعوته
لعنه الله.
٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَناً ...) إلخ أي الكفار حسّنت لهم نفوسهم الشريرة أعمالهم السيئة
فتصوروها حسنة أو زيّنها الشيطان لهم هل هؤلاء كمن ميّز بين الحسن ففعله والقبيح
فانتهى عنه (فَإِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يلطف بمن يشاء فيهتدي باختياره ويمنع لطفه عمن يشاء فيختار
الضلال. (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي لا تهلك نفسك يا محمد عليهم حسرة ولا يغمك حالهم إذ
كفروا واستحقوا العقاب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما يَصْنَعُونَ) عارف بما يفعلون فيجازيهم عليه.
٩ ـ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً ...) أي تهيّجه وتزعجه من حيث هو من الشمال والجنوب وغيرهما. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى أرض مجدبة فيمطر على ذلك البلد (فَأَحْيَيْنا بِهِ) يعني بمائه المستكن في السّحاب (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فأنبتت بعد يبسها. (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي مثل إحياء الأرض إحياء الأرواح.
١٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعاً ...) أي من أراد الشّرف والعزّ والتّعالي فليطلبها منه بطاعته ،
فإنها كلّها له ومن عنده دنيوية وأخرويّة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي التوحيد (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) في جملة (يَرْفَعُهُ) احتمالات ثلاثة : الأوّل : أن العمل الصالح يرفع الكلم
الطيب إلى الله. الثاني : عكس الأول أي أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح إليه
سبحانه. الثالث : أن العمل الصالح يرفعه الله إليه أي يقبله. (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملون السيئات وقيل : يشركون بالله. وقيل الذين تآمروا
على رسول الله (ص) في دار الندوة. (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) جزاء مكرهم الذي (هُوَ يَبُورُ) أي يبطل ولا ينفذ.
١١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) باعتبار كون البشر تولّدوا من آدم وهو مخلوق من التراب ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) من ماء كل من الرجل والمرأة. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْواجاً) أي أصنافا متنوّعة ذكرانا وإناثا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي إلا وهو معلوم له سبحانه. وهو من الغيب الذي اختصّه
بذاته المقدسة (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي ما يزاد في عمر أحد أو ينقص منه ثابت متحقّق في كتاب
علمه سبحانه (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) أي ما ذكر من الحفظ والنقص والزيادة والخلق فإنّه كله سهل
عليه جلّ وعلا.
١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ
...) إلخ العذب من الماء هو البارد الهنيء شربه والفرات هو
الماء الذي يكسر العطش. بخلاف الشديد الملوحة. فالبحران من هذه الجهة ليسا
بمتساويين. وإن كانا متساويين من جهة منافعهما كما قال سبحانه : (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً
طَرِيًّا) هو الأسماك أو الطير البحري. والطري : هو الغض الجديد. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) أي اللآلئ واليواقيت والمرجان والأصداف. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) يعني جواري تشقّ الماء شقّا (لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) أي من فضل الله بالانتقال فيها والتجارة بها وبركوبها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على تلك النّعم لأنكم إن تشكروها تزيد. «وفي
الآية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذاب والمالح ، يتبيّن به عدم تساوي المؤمن
والكافر في الكمال الفطري ، وإن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية وآثارها ،
فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة ، والكافر منحرف
فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين
المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية وهي
العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها ..».
١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ..) إلخ مرّ تفسيره (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ) إلخ مدبر هذه الأمور كلّها وخالق تلك النّعم الجليلة ، وله
ملك الدنيا والآخرة ، وأمّا المعبودات التي أشركتموها معه (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي لا يملكون القشرة الرقيقة الملتفّة على النّواة ولذا
فهو المستحق للعبادة دونها.
١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعاءَكُمْ ...) لأنّهم جماد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم حيث يبرءون من عبادتكم إيّاهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي يا محمد لا يخبرك بحقيقة الحال وواقع الأمر مثل ما
يخبرك العليم بالحقائق والبصير بالأمور وهو الله تعالى.
١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ...) أي أنتم المحتاجون إليه (وَاللهُ هُوَ
الْغَنِيُ) عن عبادتكم والمستغني على الإطلاق (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على إفضاله وجميع أفعاله.
١٦ و ١٧ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...) هذا بيان لعدم الحاجة إليهم ، وإظهار لكمال قدرته ، ووعيد
لهم بالإهلاك إذا لم يرجعوا عمّا كانوا عليه من الطغيان (وَما ذلِكَ) التهديد بإهلاكهم والإتيان بغيرهم (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ليس ممتنعا عليه ولا صعبا لديه فإنه يقول للشيء كن
فيكون.
١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي تطلب نفس مثقلة بالذنوب (إِلى حِمْلِها لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) إلى أن يتحمّل عنها الآخرون شيئا من ذلك الحمل فلا يستجاب
لطلبها (وَلَوْ كانَ ذا
قُرْبى) ولو كان المدعوّ إلى التحمّل صاحب قرابة بالنسبة إلى
الدّاعي. (إِنَّما تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي الخائفين من بطشنا وعذابنا في الآخرة فهم يصدقون به مع
أن عمله قد غاب عنهم في حين أن هؤلاء المكذبين لا ينتفعون بالإنذار ولا تتحقق معهم
حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم. (وَمَنْ تَزَكَّى) أي طهّر نفسه عن دنس المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ) أي نفعه عائد إلى نفسه (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ) أي مرجع الخلق كلهم للحساب والمجازاة صائرون إليه.
١٩ إلى ٢٣ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ...) أي لا يتساوى الكافر والمؤمن أو الأعمى عن طريق الحق والذي
يهتدي إليه ولا ظلمات الشرك والضّلال ونور الإيمان والهداية قيل : هو عطف على قوله
السابق : وما يستوي البحران. وقيل : الظاهر أنه عطف على قوله : وإلى الله المصير ،
تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين. (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي الحق والباطل أو الجنّة والنار. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا
الْأَمْواتُ) يعني المؤمنين والكافرين. وقيل العلماء والجهّال. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي ينفع بالإسماع من يشاء أن يلطف به ويوفقه إلى هدايته. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) أي أنك يا محمد لا تقدر أن تنفع الكفّار وتهديهم إلى
الإيمان بإسماعك إياهم الآيات والعظات إذ لم يقبلوا منك ، كما أنك لا تقدر أن تنفع
الأموات بالآيات والبراهين. (إِنْ أَنْتَ إِلَّا
نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا مخوّف لهم من الله.
٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) ... (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
...) أي لا تكون أمة في أيّ عصر من الأعصار إلّا وقد أتممنا
عليها الحجة بإرسال رسول إليها.
٢٥ و ٢٦ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ...) إلخ هذه الكريمة تسليمة للنبيّ (ص) فقد كذّب السابقون
بالحجج الواضحة والكتب السماوية (وَبِالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) الواضح (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي إنكاري بعقوبتهم وتدميرهم.
٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ ... وَمِنَ الْجِبالِ
جُدَدٌ ...) أي ذوات جدد ، خطط وطرائق (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُها) أي ثمرات مختلفة الألوان (وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي ومنها ما هي شديدة السّواد لا خطط فيها.
٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ...) أي كاختلاف الثّمار والجبال تختلف ألوان الناس والدوابّ
والأنعام. (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي لا يخاف الله حق خوفه ولا يحذر معاصيه حق الحذر إلا
الذين يعرفونه حق معرفته وهم العلماء ، وقبلهم الأنبياء والأوصياء (ع). (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فهو تعالى غالب في الانتقام ، وغفور للتّائب عن عصيانه.
وما ذكره سبحانه في هذه الآية «حجة أخرى على التوحيد وهو أن الله سبحانه ينزل
الماء من السماء بالأمطار وهو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات ولو كان خروجها
عن مقتضى طباع هذا العامل وهو واحد لكن جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل
على وقوع التدبير الإلهي».
٢٩ و ٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ
...) أي يقرءون القرآن أو يتّبعونه بالعمل بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يحتمل أن يكون المراد هو قراءة القرآن فيها فأثنى سبحانه
عليهم بذلك. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) إلخ أي أعطوا في سبيل الله مما ملكناهم التصرف فيه حال
سرهم وحال علانيتهم (يَرْجُونَ تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ) أي راجين بذلك عوضا لا يكسد ولا يفنى وهو الثواب. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي ينفقون أموالهم لوجهه تعالى لأجل أن يوفّيهم الله أجور
أعمالهم فيعطيهم إياها تامّة كاملة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أي ليزيد على ما يقابل أعمالهم من جوده وكرمه ، (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ) لطاعاتهم ومجازيهم عليها جزاء موفورا.
٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ
الْكِتابِ ...) قوله (مِنَ الْكِتابِ) بيان من الموصول يعني القرآن (هُوَ الْحَقُ) ضمير الفصل واللام في قوله هنا للتأكيد لا للقصر ، أي هو
حق لا يشوبه باطل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السّماويّة المتقدمة عليه (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) عالم ببواطنهم (بَصِيرٌ) بظواهرهم.
٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ...) إلخ الألف واللام للعهد الذكري يعني القرآن أو المراد هو
الجنس ومعنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم وهؤلاء هم الذين اخترناهم من
عبادنا. والاصطفاء وإن كان يقرب من معنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم
وهؤلاء هم الذين اخترناهم من عبادنا. والاصطفاء وإن كان يقرب من معنى الاختيار إلا
أن هنالك فرقا بينهما لأن الاختيار هو أخذ الشيء من بين الأشياء بما أنه خيرها ،
والاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصها. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) بتحمّلهم الإثم وذلّ المعصية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ
بِإِذْنِ اللهِ) أي المصطفين الأخيار الذين اختارهم الله بتوفيقه من الأزل (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي أن إيراث الكتاب والاصطفاء هو الفضل العظيم من الله
عليهم.
٣٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) هذا تفسير للفضل الكبير كأنّه قيل ما ذلك الفضل الكبير؟
فقال : هذا جنّات عدن. (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ) فيها بيانيّة للتّحلية وأساور جمع سوار وهو زينة اليد
وحليتها (مِنْ ذَهَبٍ) أي بعضها ذهب خالص (وَلُؤْلُؤاً) أي ويحلّون فيها لؤلؤا (وَلِباسُهُمْ فِيها
حَرِيرٌ) وهو من أحسن ألبسة الدّنيا.
٣٤ و ٣٥ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...) أي بعد ما استقرّوا في جنات عدن واطمأنّوا من العذاب حمدوا
الله وأثنوا على إذهابه عنهم الحزن النّاشئ من خشية العذاب وخوف النار ، وكذلك همّ
الدنيا (إِنَّ رَبَّنا
لَغَفُورٌ) لفرطاتنا وتقصيرنا (شَكُورٌ) لطاعاتنا مجازينا عليها بالثواب الجزيل فهو الذي (أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ
فَضْلِهِ) أي أوردنا دار الإقامة الدائمة بكرمه و (نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها
لُغُوبٌ) كلال وإعياء إذ لا تكليف فيها.
٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ
جَهَنَّمَ ...) فهي معدّة لهم في الآخرة جزاء على كفرهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليهم (فَيَمُوتُوا) بموت ثان فيستريحوا من شدائد العذاب. (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي لا يسهّل عليهم عذابها (كَذلِكَ) أي مثل ذلك العذاب (نَجْزِي كُلَّ
كَفُورٍ) كلّ جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء الله تعالى.
٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ...) أي يستغيثون بالصّراخ قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي يستغيثون ربنا أخرجنا من النار نؤمن بدل الكفر ونطيع
بدل المعصية (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أو لم نعطكم عمرا كنتم متمكّنين فيه من التفكّر والتذكر لو
كنتم من أهل التذكّر والتدبّر. (وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ) أي الرسول أو الكتاب ، أو الشيب ، أو العقل لأنه الرسول
الباطني. (فَذُوقُوا فَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر : يدفع عنهم العذاب.
٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ...) أي عارف بمضمراتها ، فغيرها أولى بأن يعلمه فلا يخفى عليه
شيء من أسرار السّماوات وخفيّات الأرضين. وهو يعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد
وآثار الأعمال ويحاسبكم عليه ، سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف.
٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي
الْأَرْضِ ...) أي : يا معاشر الكفرة إن الله تعالى أنعم عليكم بعد نعمة
الوجود بأن جعلكم خلفاء في أرضه مكان من كان قبلكم في التصرّف فيها والتسلّط عليها
، (فَمَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي جزاء كفره وعقابه (وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ) الآية ، والمقت هو أشدّ البغض ، والخسار هو الخسران في
الآخرة.
٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ ...) إلخ أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين أخبروني عن الأوثان
التي تعبدونها من دون الله (ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ) فيستحقون بذلك العبادة ، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ
فِي السَّماواتِ) أي شركة مع الله تعالى في خلقها فاستحقّوا بذلك شركة في
الألوهيّة (أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً) أي هل أرسلنا إلى الأوثان كتابا أو أرسلنا إلى عبدة
الأوثان رسالة من عندنا بأن الأصنام شركاؤنا في الألوهية فهم يستحقون العبادة؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي فهم حينئذ كانوا على حجّة من كتابنا إليهم. (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي ليس لهم في هذا الأمر حجّة عقلية ، لكن لا يعد بعض
الكافرين بعضا إلا وهما لا حقيقة له وعدة لا واقع حيالها.
٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ...) أي لئلّا تزولا. أو المعنى أنه تعالى يمنعهما من الزوال
فهو تعالى يمسك السماوات من غير علاقة فوقها ولا عماد تحتها وكذلك الأرض. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي ولئن قدّر زوالهما عن مراكزهما لا يقدر أحد على
إمساكهما من بعد الله أو من بعد زوالهما. (إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً) مر معناه وهو واضح.
٤٢ و ٤٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ ...) إلخ أي أن مشركي قريش قبل بعثته (ص) حلفوا بأيمان غليظة
غاية وسعهم وطاقتهم لئن جاءهم رسول (نَذِيرٌ) مخوف لهم من عذاب الله (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) إلخ إلى قبول قوله واتّباعه من الأمم الماضية كاليهود
والنصارى وكانوا قد سمعوا بأنهم وغيرهم كانوا قد كذبوا رسلهم. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي محمّد (ص) (ما زادَهُمْ إِلَّا
نُفُوراً) أي تباعدا عن الهدى وإعراضا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي تكبّرا وتجبّرا وعتوّا على الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) وقصد الإضرار بالمؤمنين وهو كل مكر أصله الخديعة والكذب
لأن من المكر ما هو حسن. (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا ينزل ولا يلزم جزاء المكر السيّئ (إِلَّا بِأَهْلِهِ) بفاعله وهو الماكر. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي هل ينتظرون؟ وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، يعني لا
ينتظرون إلّا ما جرت به عادة الله في الأمم الماضية من الإهلاك حينما كذّبوا
رسلهم. (فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تعويض العذاب بالثواب هو خلاف ما جرت به عادة الله
وكذلك العكس (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي لن تجد نقل العذاب عن مستحقّه إلى غيره.
٤٤ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الاستفهام للإنكار يعني لا بدّ لهم من السّير في الآفاق (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي فيطلعوا كيف أهلك الله المكذبين من قبلهم مثل قوم لوط
وعاد وغيرهم فيعتبروا بهم (وَكانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً) أي كان أولئك أشد من هؤلاء قوة ومع ذلك لم تغنهم قوتهم من
عذاب الله من شيء (وَما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) إلخ أي ما من شيء يسبقه أو يفوته لو أراد أن يهلكه لا في
السّماوات ولا في الأرض (إِنَّهُ كانَ
عَلِيماً قَدِيراً) ظاهر المعنى وقد مر.
٤٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ...) أي لو يؤاخذهم بذنوبهم والمراد بالمؤاخذة الدنيوية كما يدل
عليه قوله تعالى الآتي : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى ... إلخ. والمراد بالناس :
جميعهم ، فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذبون بآيات الله ،
والمراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب ، وقد
قال في نظيرة هذه الآية ، وهي الآية ٦١ من سورة النحل : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ..) «وقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ...) إلخ واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدّر ناش عن الآية السابقة
فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر والتكذيب من المشركين بالمؤاخذة واستشهد بما جرى في
الأمم السابقة وذكر أنه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض كأنه قيل : فإذا لم يعجزه
شيء في السماوات والأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ وماذا
يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب : إنه لو يؤاخذ ... إلخ». (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي الأرض لأن الناس يعيشون على ظهرها ، على أن الأرض تقدم
ذكرها في الآية السابقة. (مِنْ دَابَّةٍ) المراد بالدابة كل ما؟؟؟ على الأرض وفيها من إنسان ذكر أو
أنثى أو كبير أو صغير. واحتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان ،
وإهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى
في ٢٩ من سورة البقرة : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً). (وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ) ويمهلهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يوم القيامة أو الموت. (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازي كل واحد بما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ لأنه
بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده ، وكيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه ، والربّ عمل
عبده؟!. وقوله : فإن الله كان بعباده ... إلخ من وضع السبب موضع المسبب الذي هو
الجزاء.
سورة يس
مكية ، عدد آياتها ٨٣ آية
١ ـ (يس ...) في المعاني عن الصّادق (ع): وأمّا يس فاسم من أسماء النبيّ
ومعناه : يا أيّها السّامع للوحي. وقيل معناه يا إنسان.
٢ ـ (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ...) الواو للقسم. أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من تطرّق البطلان
إليه أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة.
٣ و ٤ ـ (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) على الطريق الواضح.
٥ ـ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ...) أي منزّل ذلك من عند الغالب الذي لا يقهر الرحيم بخلقه.
٦ ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ ...) أي لتخوف به من معاصي الله قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنهم
كانوا في زمان الفترة. وقيل معناه : لتنذر قوما كما أنذر آباؤهم بناء على أن ما
مصدرية. (فَهُمْ غافِلُونَ) عمّا تضمّنه القرآن وعمّا أنذر الله به من نزول العذاب.
٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى
أَكْثَرِهِمْ ...) أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب على معانديهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي يموتون على جحودهم وكفرهم.
٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ...) يعني أيديهم مغلولة إلى أذقانهم بقيد مربوط بأعناقهم. وذلك
لأنّ الغلّ إنما يجمع اليد إلى الذّقن فيما إذا كان يراد أن تشدا إلى العنق. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي مرفوعة رؤوسهم بواسطة القيود ولذا فهم لا يستطيعون
خفضها ولا تحريكها.
٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا ... فَأَغْشَيْناهُمْ ...) أي غطّيناهم. وروى القمّي أن الباقر (ع) يقول : فأعميناهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى.
١٠ و ١١ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) فهؤلاء المذكورون في الآيات السابقة لا تفيد معهم الذكرى
ولا ينفعهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بقولك لفرط عنادهم وكفرهم. وأنت (إِنَّما تُنْذِرُ) تخوّف (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) تابع هذا القرآن واستمع لمقالته واتّعظ بمواعظه ، (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي صدّق بما غاب عنه من الأمور الأخروية. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ
كَرِيمٍ) أي جزاء عظيم وعفو عن ذنوبه.
١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ...) يوم القيامة للجزاء (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا) أي نحصي طاعاتهم ومعاصيهم في الدنيا (وَآثارَهُمْ) أي ما يقتدى بهم فيه من بعدهم من حسنة وسيّئة. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ
مُبِينٍ) أي عدّدناه في اللّوح المحفوظ.
١٣ و ١٤ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ
...) أي مثّل لهم يا محمد مثالا ، والمراد من القرية قرية
أنطاكية فأهلها كانوا عبدة أوثان مثل أهل مكة (إِذْ جاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ) أي حينما جاءهم رسل عيسى (ع) (إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي رسولين من رسلنا (فَكَذَّبُوهُما) أي كذب أهل تلك القرية هذين الرسولين وقيل إنهم ضربوهما
وسجنوهما (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوّيناهما بالرجل الثالث من الحواريّين (فَقالُوا) أي الرسل قالوا للكفرة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ) أي يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم لنرشدكم إلى الحق.
١٥ ـ (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا ...) أي لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بالرّسالة إلينا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) من وحي ورسالة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون في دعواكم.
١٦ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ...) إنما قال الرّسل ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة
كإبراء الأكمه والأبرص وشفاء الأعمى وإحياء الموتى ولم يقبلوها ، ووجه الاحتجاج
بهذا القول أنّهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله.
١٧ ـ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ ...) أي ليس ما يلزمنا إلّا أداء الرّسالة والتّبليغ الظاهر.
١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ...) أي هؤلاء الكفرة قالوا في جواب الرّسل حين عجزوا عن إيراد
جواب يقنعهم ، وعدلوا عن النظر في المعجزة : نحن تشأمنا بكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم من دعوى الرّسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنهلكنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وليلحقنكم منا عذاب موجع.
١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ...) أي قال لهم الرسل : كفركم هو منشأ شؤمكم وسوء عقيدتكم
الفاسدة وتشؤمكم لا دعوتنا إياكم إلى الله تعالى وتوحيده فإنها غاية خير ويمن
وبركة (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي لو وعظتم فجزاء الواعظ الناصح لكم هو التهديد (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي ليس فينا ما يوجب التشاؤم بنا ولكنّكم متجاوزون عن حدّ
الشرع والشريعة والعقل.
٢٠ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعى ...) وهو حبيب النجار المعروف بمؤمن آل يس جاء من أبعد مكان في
المدينة راكضا. (قالَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أي نادى أهل بلده وطلب منهم الإقرار برسالة رسل الله هؤلاء
إليهم وتصديقهم.
٢١ ـ (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً ...) أي على النصح والهدى وتبليغ الرّسالة. (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق سالكون سبيله.
٢٢ ـ (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي ...) إلخ أي لم لا أعتقد بوحدانيّة الخالق ولا أعبد الذي خلقني
وجاء بي من العدم إلى الوجود وإليه تردون عند البعث فيجازيكم على كفركم.
٢٣ ـ (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أي هل ينبغي لي أن أترك من هو خالقي ورازقي وأتّخذ الأوثان
آلهة لي (إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي لو أراد من الذي بيده الرحمة العامة أن يضرّني بكيفيّة
خاصّة لا تنفعني شفاعة أبدا (وَلا يُنْقِذُونِ) أي أن الأصنام لا يقدرون على خلاصي من ذلك الضرر أو الهلاك.
٢٤ و ٢٥ ـ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ...) أي لو عبدت الأصنام وهي جمادات وعدلت عن عبادة الله القادر
القاهر أكون في بعد واضح عن الحق. (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) قيل إنه توجّه إلى قومه بهذه الخطابة نصحا وعظة لهم ،
لكنهم عدوا عليه فقتلوه.
٢٦ و ٢٧ ـ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...) أي قال له الملائكة بأمر من الله تعالى لما قتلوه : ادخل
الجنّة ، (قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله من المغفرة وجزيل
الثواب ليؤمنوا فينالوا ذلك. (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ) أي من المدخلين الجنة وهو غاية الإكرام والتعظيم.
٢٨ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ ...) أي على قوم حبيب النجار بعد قتله أو رفعه إلى السماء على
ما قيل. (مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّماءِ) أي من الملائكة لإهلاك قومه (وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ) أي ما صحّ في حكمتنا أن ننزّل الملائكة لإهلاك الكفرة.
٢٩ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً
...) أي ما كانت العقوبة المفنية إلّا صيحة واحدة صاح بهم
جبرائيل (فَإِذا هُمْ
خامِدُونَ) مهلكون ميّتون.
٣٠ ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ...) إلخ أي يا أسفاه عليهم في الآخرة حيث ظلموا أنفسهم
بتكذيبهم كل رسول جاءهم من عند الله وكانوا منه يسخرون.
٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ
...) إلخ أي ألم يعلم هؤلاء الكفار كم أمة من الأمم السابقة
عليهم أهلكناهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لا يَرْجِعُونَ) أي إنّ الهالكين لا يرجعون إلى أهل مكة ولا إلى الدنيا
يعودون ، فلما ذا لا يعتبرون من الماضين؟
٣٢ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ ...) المعنى أنّ الأمم يوم القيامة ، من الماضين والباقين ،
مبعوثون للحساب وجزاء الأعمال.
٣٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
...) أي هذه حجة قاطعة لهم على قدرتنا على بعثهم ، وهي الأرض
المجدبة اليابسة (أَحْيَيْناها) بإنبات نباتها (وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا) كالحنطة والشعير وغيرهما مما يؤكل (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي من الحب.
٣٤ ـ (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ ...) أي بساتين من أنواعهما ، وخصّا بالذّكر لكثرة منافعهما (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي فجّرنا في تلك الأرض الميتة أو البساتين عيونا من الماء
للشرب والري.
٣٥ ـ (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ...) بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك للأكل من ثمر النخيل. (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) منه كالدّبس والعصير والخلّ ونحوها (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) الاستفهام إنكار لترك الشكر أي : فليشكروا نعم المنعم
تعالى.
٣٦ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ ...) أي الأصناف والأنواع والأشكال (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من أزواج النبات والأشجار (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من الذكور والإناث. (وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ) أي وأزواجا ممّا لم يروها ولم يسمعوا بها لأنها في بطون
الأرض أو أعماق البحار وغير ذلك.
٣٧ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ ...) أي دلالة أخري لهم على كمال قدرتنا مضافا إلى خلق اللّيل
والنهار ، هي أنّا نستلّ من اللّيل النّهار بأن نخرج ضوء الشمس فيبقى الهواء مظلما
لأنه سبحانه يضيء الهواء بضوء الشمس (فَإِذا هُمْ
مُظْلِمُونَ) أي أن الناس داخلون في ظلام الليل.
٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
...) أي آية أخرى لهم هي الشمس التي تجري لحدّ لها موقت بقدر
تنتهي إليه من فلكها آخر السنة. أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي جري الشمس لمستقرّها مقرّر وثابت من عند الله الغالب
بقدرته المحيط بعلمه.
٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ...) هي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كل يوم وليلة منزلا منها لا
يختلف حاله إلى أن يقطع الفلك (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي حتى يعود في آخر الشهر دقيقا كالعذق اليابس العتيق
ويكون معوجّا.
٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ...) أي لا يصحّ ولا يتأتّى (أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ) في سرعة سيره لإخلال ذلك بالنظام الأحسن ، فإن القمر أسرع
سيرا من الشمس إضافة إلى أن فلكيهما متباينان. (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) أي ولا يسبق الليل النهار ولا يجتمعان فيكون ليلتان ليس
بينهما يوم بل يتعاقبان. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) السباحة هي السير والحركة الانبساطيّة الطبيعية أي أن
الشمس والقمر والنجوم في مدارها وفي أفلاكها تسير بانبساط وسهولة ، وكلّ من انبسط
في شيء فقد سبح فيه.
٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ ...) أي حجّة وعلامة لهم على كمال اقتدارنا أنّا حملنا آباءهم
وأجدادهم بواسطة سفينة نوح ونجّيناهم من الغرق (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) أي المملوءة من الناس وما يحتاجون إليه أثناء بقائهم فيها.
٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ ...) أي خلقنا للناس من أهل مكّة وغيرهم سفنا مثل سفينة نوح
يركبون فيها. وقيل مثل السفينة من الإبل والدواب.
٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا
صَرِيخَ لَهُمْ ...) أي لا مغيث لهم (وَلا هُمْ
يُنْقَذُونَ) أي لا ينجون من الموت لو أردنا أن نهلكهم (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى
حِينٍ) أي لا ينقذون من الغرق إلا أن تشملهم العناية الرّحمانية
منّا ونمتعهم إلى حين حلول آجالهم المضروبة لهم.
٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ ...) أي وقائع الأمم الماضية (وَما خَلْفَكُمْ) أي أمر الساعة أو ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخّر (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي برجاء أن تشملكم رحمة الله.
٤٦ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ...) أي من حجة وبرهان على صدق ما يدّعيه الرّسول (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ، إِلَّا كانُوا
عَنْها مُعْرِضِينَ) عن التفكّر في تلك الحجج والمعجزات.
٤٧ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ ...) أي من ماله على خلقه المحاويج (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هذا القول إيهام بأنّ الله لما كان قادرا على أن يطعمهم
فلم يطعمهم ، فنحن أحقّ بأن لا نطعمهم أيضا وإنما قالوه للتهرب من دفع الحقوق
المالية التي جعلها الله للفقراء في أموال الأغنياء.
٤٨ إلى ٥٠ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) إلخ. متى يتحقق الوعد بالبعث إذا كنتم صادقين في قولكم؟ (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) ما ينتظرون ، وما يمهلون إلّا أن تأخذهم الصيحة الواحدة (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يتنازعون في أمورهم ومعاملاتهم في غفلة عنها ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) بشيء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) أي لا يعودون من أماكن تواجدهم.
٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي مرّة ثانية للبعث (فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي من قبورهم يسرعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه ولا
حكم لغيره هناك.
٥٢ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا ...) الكفرة منهم قالوا يا هلاكنا من حشرنا من منامنا الذي كنا
فيه نياما (هذا ما وَعَدَ
الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا وعد الله على لسان رسله الذين صدقونا فيما أخبرونا
عن هذا البعث.
٥٣ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً
...) أي ما كان بعثهم إلّا بصيحة واحدة ، وهي النفخة الأخيرة (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) أي فإذا الأولون والآخرون مجموعون في موقف الحساب يوم
القيامة بلا فاصل بين النفخ في الصور والحضور.
٥٤ ـ (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
...) أي لا ينقص من ثواب المثاب شيء ، ولا يزاد على عقاب
المعاقب من مقدار استحقاقه شيء ، (وَلا تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاؤكم على طبق أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
٥٥ ـ (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) إلخ. أي الذين كانوا من أهل الجنة ودخولها فهم في ذلك
اليوم مشغولون بنعيمها الذي غمرهم بسروره عما فيه أهل النار من العذاب.
٥٦ ـ (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ...) أي هم وحلائلهم لا يصيبهم حرّ الشمس لأنهم يكونون في ظلال
أشجار الجنة. وقيل في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم. (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي على السّرر المزيّنة في الحجال ، وقيل هي الوسائد.
٥٧ ـ (لَهُمْ فِيها ...) أي في الجنة (فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما
يَدَّعُونَ) أي ما يتمنّونه ويشتهونه.
٥٨ ـ (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ...) أي لهم سلام من ربهم هو أن يقول قولا منه سبحانه وهو
الرحيم بهم يسمعونه فيبشرهم بدوام نعيمهم وأمنهم. وقيل : سلامه تعالى عليهم يكون
بواسطة الملائكة.
٥٩ ـ (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ ...) أي انفصلوا أيّها الكفرة العصاة عن المؤمنين وذلك عند
اختلاطهم بهم في المحشر.
٦٠ و ٦١ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي
آدَمَ ...) إلخ. أي ألم أنهكم على ألسنة الرسل أن لا تطيعوا الشيطان
فيما يأمركم به وينهاكم عنه؟ (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة لكم (وَأَنِ اعْبُدُونِي) قوموا بعبادتي. (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) فوصف عبادته بأنه طريق مستقيم لأنه طريق إلى الجنة.
٦٢ ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا
كَثِيراً ...) أي جرّ إلى الكفر والضلال منكم أيها الناس خلقا كثيرا بأن
زيّنها لهم وأغواهم. (أَفَلَمْ تَكُونُوا
تَعْقِلُونَ؟) استفهام للإنكار أي ألم تتعقّلوا أنّه يغويكم ويصدّكم عن
الحق ويضلكم فتحجموا عن طاعته.
٦٣ و ٦٤ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ ...) أي توعدون بها على ألسنة الرّسل في دار التكليف فها هي
أمامكم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) احترقوا بها ، أو التزموا عذابها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وتكذيبكم رسلنا.
٦٥ ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
...) يحتمل قويّا أن لا يكون المراد من الختم هو المعنى المعروف
المشهور بين الناس ، بل المراد به هو نتيجة الختم بأن يقيم هو تعالى الحجج عليهم.
بحيث لا يقدرون على ردّها ويعجزون عن الجواب (وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ) إلخ. معترفة بما استعملوها فيه من ظلم ومعاصي ، والنتيجة
أننا نستنطق الأعضاء التي كانت لا تنطق في الدنيا لتشهد عليهم ونختم على أفواههم
التي عهد النطق منها.
٦٦ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ ...) أي لو أردنا لأعميناهم عن الهدى. أو لتركناهم عميانا بعد أن
سلبناهم حاسة الإبصار. (فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ) أي فاستطرقوا الطريق التي كانت معتادة لهم. أو طلبوا طريق
الحق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) فكيف يبصرون بعد ذلك طريق الهدى أو الطريق التي اعتادوا
سلوكها؟
٦٧ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى
مَكانَتِهِمْ ...) أي ولو أردنا لمسخناهم قردة وخنازير أو حجارة بتغيير صورهم
وإبطال قواهم في مكانهم الذي هم جالسون فيه (فَمَا اسْتَطاعُوا
مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء ولا حركة.
٦٨ ـ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ...) أي من نجعله ذا عمر طويل (نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ) نردّه إلى ما خرج منه من انتقاص بنيته وضعف قوّته الظاهرية
والباطنيّة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أفلا يتدبرون
فيدركوا أن من قدر على ذلك فهو قادر على الطّمس والمسخ.
٦٩ و ٧٠ ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) يعني ما أعطينا محمدا العلم بالشعر ونظمه الشعر بتعليم
القرآن ، وليس ما أنزلناه عليه من صناعة الشعر في شيء ممّا يتوخّاه الشعراء من
التخيّلات المرغّبة والمنفّرة ونحوهما ممّا لا حقيقة له ولا أصل بل هو تمويه محض (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا ينبغي للنبيّ (ص) الصّناعة الشعريّة أو للقرآن أن
يكون شعرا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ) أي الذي أنزلناه على محمد ما هو إلّا نصح وعظة متضمنا
أحكام الله من حلاله وحرامه. (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي مبيّن للأحكام والبراهين الدالّة على وجود الصّانع
وتوحيده (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ
حَيًّا) أي لينذر القرآن أو النبيّ من كان مؤمنا حيّ القلب (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب ويلزم الوعيد بالعذاب عليهم.
٧١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ ...) إلخ. أي ألم يعلموا انا أنشأنا لمنافعهم مما ولينا خلقه
بأيدينا من غير معين البقر والإبل والغنم (فَهُمْ لَها
مالِكُونَ) يتصرّفون فيها وهم قاهرون لها ولولا خلقنا لها لما حصلوا
عليها ولا على شيء من منافعها.
٧٢ ـ (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ...) أي صيّرناها منقادة ومسخّرة لهم غير نافرة ، مع ضعف
الإنسان وكمال قوتها. (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) إلخ. أي منها ما هو للركوب وحمل الأثقال. ومنها ما يذبح
فيؤكل لحمه.
٧٣ ـ (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ...) فمن منافعها لبس أوبارها وأصوافها وأشعارها والاكتساب بها
وبجلودها ومنها شرب ألبانها وأكل لحومها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ألا يشكرون المنعم على هذه النّعم.
٧٤ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً
...) يعبدونها فوضعوا الشّرك مكان الشّكر ، (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لكي ينصروهم من عذاب الله.
٧٥ ـ (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ...) أي هذه الآلهة التي عبدوها لا تقدر على الدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي إن الآلهة مع العبدة في النار محضرون فلا الجند يدفعون
عنها الإحراق ولا هي تدفع عنهم العذاب.
٧٦ ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) في تكذيبهم لك بشتى الأساليب. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ) أي علمنا محيط بما في ضمائرهم وما يظهرون بألسنتهم
فنجازيهم على كل ذلك.
٧٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا
خَلَقْناهُ ...) أي ألم يعلم أنّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ) أي من ماء حقير مستقذر (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ) أي ناطق عالم بليغ يجادل في البعث والنشر وينكره فهو مخاصم
ذو بيان.
٧٨ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ ...) أي بيّن لنا في إنكار البعث مثلا بالعظم البالي وفتّته
بيده وتعجّب ممّن يقول إنّ الله يحييه بعد فنائه وترك النظر في بدء خلق نفسه هو
وانه كان من نطفة. (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية ، فقد نسي أنّنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وهذا
بنظرهم أصعب من إعادتهم.
٧٩ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها
أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) أي قل لهم يا محمد : بأن الذي أنشأها وأوجدها من العدم إلى
عالم الوجود فإنّ قدرته باقية على إعادته بعد تفرّق أجزائه. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي عالم وقادر على خلق الأشياء بتفاصيلها وكيفيّة إيجادها
أوّلا وآخرا.
٨٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ ناراً ...) إلخ. أي الذي يقدر على إعادة الأجسام على صورها وهيآتها
بعد تمزقها هو القادر على أمر أعجب منها إذ يخرج من الشجر الأخضر المطفئ للنار
نارا محرقة مع مضادة النار للرطوبة.
٨١ ـ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
...) إلخ. هذا الاستفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على إيجاد
السموات والأرض وإبداعهما مع عظمهما وكبر جرمهما وكثرة أجزائهما ، يقدر على إعادة
خلق البشر (بَلى) أي نعم يقدر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) أي كثير الخلق وكثير العلم.
٨٢ ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
...) أي إنما شأنه حينما يقصد إحداث شيء وإبداعه (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بمجرّد هذه الإرادة ، فإذا بهذا الشيء متكوّن وموجود بلا
حاجة إلى قول كن أي أن هناك ملازمة بين إرادته تعالى ووجود المراد وحدوثه دون حاجة
إلى أيّ شيء.
٨٣ ـ (فَسُبْحانَ الَّذِي ...) أي منزّه عن نفي قدرته على إعادة المخلوقات (بِيَدِهِ) أي بقدرته (مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) أي حقيقة كل شيء أو ملك كل شيء ملكه وسلطانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون يوم القيامة وفيه وعد للموحّدين ووعيد للمنكرين.
سورة الصّافّات
مكية ، عدد آياتها ١٨٢ آية
١ إلى ٥ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ...) الصّافات صفّا ، أي الملائكة تصطفّ في العبادة في السماوات
كصفوف المؤمنين للصّلاة في الأرض ، أو المراد مطلق نفوس الصّافين في الصلاة أو
الدّعاء إلى الله أو في الجهاد. (فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) أي الملائكة تزجر الخلق عن المعاصي أو الملائكة الموكّلة
بالسّحاب تزجره وتسوقه وغير ذلك أو الملائكة يزجرون المردة من الشياطين عن التعرّض
لبني آدم بالشرّ (فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً) أي الملائكة تقرأ كتب الله ، والذكر الذي ينزل على الموحى
إليه ، أو جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصّلاة. فقد أقسم الله بكل
هذه الأمور (إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ) لا شريك له. في الوجود أو الذات أو الصفات. وهذه الجملة
جواب للقسم ، (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومدبرهما والمتصرف فيهما. (وَما بَيْنَهُما) من سائر المخلوقات الحيوانية والنباتية والجمادية. (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشمس فإن لها في كل يوم مشرقا ، أو لكلّ
النيّرات. ولم يذكر المغارب لأن الشروق قبل الغروب.
٦ ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
...) أي حسّنا الكرة التي هي أقرب الكرات منكم. وإنما خصّت
بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) قيل المراد من الزينة الناشئة من الكواكب هي ضوؤها وحسنها.
٧ إلى ١٠ ـ (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ
...) أي وحفظناها من دنو كل شيطان خبيث متمرد (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى) أي لكيلا يسترقوا السمع إلى الكتبة من الملائكة في السماء
أو كلام الملائكة مطلقا. (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشّهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء (دُحُوراً) أي طردا شديدا (وَلَهُمْ عَذابٌ
واصِبٌ) أي للشّياطين عذاب دائم في الآخرة. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من الاستماع. والتقدير لا يستمعون إلى الملائكة ،
إلا من اختلس كلام الملائكة واستلب بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
ثاقِبٌ) أي فتعقبه وأصابته نار مضيئة محرقة.
١١ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً
...) أي اسألهم تقريرا لهم هل هم أقوى خلقا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي قبلهم من الأمم الماضية والقرون السّالفة الذين
أهلكناهم بالعذاب. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إن أجابوا بأننا أقوى فأخبرهم بأنا قد خلقناهم من طين
يلتصق باليد لو مسته فأين وجه الأقوائية؟
١٢ ـ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ...) أي تتعجّب يا محمد من إنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك
منهم.
١٣ ـ (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ...) أي وإذا وعظوا بالقرآن أو خوّفوا بالله لا يتذكرون ولا
يتّعظون.
١٤ إلى ١٩ ـ (وَإِذا رَأَوْا آيَةً ...) أي إذا شاهدوا معجزة تدلّ على صدق القائل بالبعث والحشر (يَسْتَسْخِرُونَ) يهزأون ويبالغون في السخرية والاستهزاء بها (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) أي وصفوا تلك الآية بأنها سحر ظاهر (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً) إلخ. أي كيف نبعث احياء بعد ما صرنا ترابا وعظامنا بالية (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) هل إنّ آباءنا لمبعوثون بعد طول مدّة موتهم وفنائهم؟ (قُلْ) يا محمد (نَعَمْ) ستبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي ذليلون أشدّ الذّلة (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي البعثة ليست إلّا بعد صيحة واحدة وهي النفخة الثانية ، (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي يصرف الصّيحة إذا هم قيام من مراقدهم حاضرون في المحشر
ينتظرون ما يفعل بهم ، أو يبصرون البعث الذي جحدوه في الدنيا.
٢٠ ـ (وَقالُوا يا وَيْلَنا) من العذاب ، وهذه كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة
(هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الحساب ويوم المجازاة الذي كنّا نكذّب به ،
فيعترفون بعصيانهم واستحقاقهم بما كان الرسل يوعدون به.
٢١ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ ...) أي يوم الحكم والقضاء بين المحسن والمسيء والحق والباطل
الذي كنتم أيها الكافرون تجحدون به وتنكرونه.
٢٢ و ٢٣ ـ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي يقول الله للملائكة : اجمعوا الذين ظلموا أنفسهم
بالشّرك والمعاصي (وَأَزْواجَهُمْ) أي
أشياعهم ، أو
المراد أشباههم فالزناة مع الزناة وهكذا. (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي احشروا العابد والمعبود من الأوثان ونحوها (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) دلّوهم على طريق جهنّم.
٢٤ ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ...) أي احبسوهم في الموقف يعني قبل دخولها فإنهم لا بدّ وأن
يسألوا عن عقائدهم وأعمالهم.
٢٥ ـ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ...) أي لم لا ينصر بعضكم بعضا بالتّخليص من العذاب.
٢٦ ـ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ...) أي منقادون بلا مقاومة لعجزهم وذلّهم.
٢٧ و ٢٨ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ ...) أي يسأل بعضهم بعضا فيقبل المضلّل على المضلّل له فيقول :
لم اغويتني؟ ويقبل المضلّل على المضلّل فيقول له : لم قبلت مني؟ فيجيب المضلّلون
الذين اضلّوهم : (قالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من جهة النصيحة واليمن ولذلك أقررنا لكم. والعرب تتيمن
بما جاء من اليمين.
٢٩ ـ (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
...) الظاهر أن الجملة من المتبوعين والرؤساء فإنهم أجابوا
التابعين بقولهم : ليس الأمر كما تزعمون بل لم تكونوا مؤمنين من أوّل الأمر حتى
نكون نحن ممّن يضلكم فإن الأنبياء كلما كانوا يدعونكم إلى الهدى كنتم تكذبونهم.
٣٠ و ٣١ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ ...) أي لم تكن لنا قوّة وقدرة حتى نجبركم ونكرهكم على ما كنتم
عليه من الضّلال (بَلْ كُنْتُمْ
قَوْماً طاغِينَ) متجاوزين عن الحدود المقرّرة من الله ورسوله فلا لوم ولا
عتاب علينا فقط بل عليكم وعلينا الإثم بما فعلنا (فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا) أي وجب علينا عذابه وثبت (إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب أي ندركه كما يدرك المطعوم بالذوق.
٣٢ ـ (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ
...) أي لمّا كنّا في الضلالة أحببنا أن تكونوا مثلنا فأغويناكم
أي دعوناكم إلى الغيّ فأجبتمونا بلا إكراه.
٣٣ ـ (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ ...) يعني أن الأتباع والمتبوعين مجتمعون في العذاب.
٣٤ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ ...) أي بمثل ما ذكرناه نعذب المشركين الذين فعلوا المعاصي.
٣٥ و ٣٦ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) أي إذا أمرهم النبيّ بكلمة التوحيد (يَسْتَكْبِرُونَ) فلا يجيبونه تكبرا وعنادا (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا) أي كيف نترك عبادة آلهتنا وأصنامنا (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون به النبيّ (ص).
٣٧ ـ (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ ...) يعني ليس محمد بشاعر ولا مجنون كما تزعمونه بل جاء بما
تقبله العقول من الدين والكتاب وحقق ما جاء به الرسل من بشاراتهم بدين الإسلام
ونبيه (ص). أو أنه أتى بمثل ما أتوا به من الدعوة إلى التوحيد.
٣٨ ـ (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ
الْأَلِيمِ ...) التفات إلى الخطاب لاهتمامه بمقالته سبحانه لهم ، يعني
أنتم أيها المشركون لذائقو العذاب الشديد للشّرك وتكذيب الرسول ونسبته إلى الجنون
والشعر.
٣٩ ـ (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ...) أي جزاؤكم على قدر أعمالكم كمّا وكيفا.
٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) استثناء منقطع ، أي لكن عباد الله الذين أخلصوا عباداتهم
له تعالى وأطاعوه فإنهم لا يذوقون العذاب.
٤١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ...) أي للمخلصين في الجنّة أعدّ رزق معلوم من حيث الوقت أو
الخصائص الأخرى.
٤٢ ـ (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ...) أي أرزاق أهل الجنة منحصرة في الفواكه بأقسامها وأنواعها
يتفكّهون بها ويتنعّمون بالتصرّف فيها كيف يشاءون في حال كونهم معظمين مبجلين.
٤٣ و ٤٤ ـ (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ...) أي منازلهم ومستقرّهم في بساتين فيها أنواع النعم يتنعمون
بها. (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين يستمتع بعضهم بالنظر إلى الآخر فلا يرى قفاه
أبدا.
٤٥ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ ...) فالحور العين ، وغلمان الجنّة يدورون عليهم بكؤوس فيها خمر
يجري أنهارا ظاهرة العيون.
٤٦ و ٤٧ ـ (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ...) أي تلك الخمرة في نهاية الصفاء والرقة واللطافة وهي لذيذة
لهم ، (لا فِيها غَوْلٌ) هي خالية من المفاسد كإذهاب العقل والصداع وألم البطن إلخ.
كما هو الحال في خمر الدنيا. (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) أي يسكرون.
٤٨ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) أي تلك الزّوجات يحبسن نظرهنّ على أزواجهنّ ولا ينظرن إلى
غيرهم لحبهن لهم. (عِينٌ) أي واسعات العيون لحسنها ، أو المراد هو الأعين التي
بياضها شديد
كسوادها.
٤٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ...) مكنون يعني مصون عن الغبار والكدورة وعن كلّ آفة. وتشبّه
الجارية بالبيض : بياضا وملامسة وصفاء لون ، لأنّه أحسن الألوان للبدن.
٥٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ ...) أي أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم منذ بعثهم إلى
وقت دخولهم الجنة. أو منذ حياتهم الدنيا مرورا بعالم البرزخ وصولا إلى القيامة
والجنة.
٥١ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ ...) أي يقصّ واحد منهم على الجلساء حكاية فيقول : كان لي في
الدنيا صاحب منكر للبعث وكان (يَقُولُ) لي توبيخا :
٥٢ ـ (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ ...) أي أأنت تصدّق الحشر وتقبل الحساب والثواب والعقاب.
٥٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً ...) أي بعد ما نصير بالموت ترابا وتصير عظامنا رفاتا (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي نحيا ونحشر ونحاسب ونجازى على أعمالنا؟
٥٤ ـ (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ ...) أي أنّ الذي يقصّ على جلسائه يسألهم قائلا : هل أنتم
مطلعون على موضع من الجنة لأريكم هذا الصاحب في النار؟ وهل في الجنّة موضع يرى منه
أهل النار لأريكم ذلك القرين؟ يفتح لهم كوّة من الجنّة نحو النار ليرى هذا المؤمن
قرينة فيقال له : انظر إلى قرينك وجليسك المنكر للبعث والجزاء.
٥٥ ـ (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ ...) أي أشرف من في الجنة على أهل الجحيم فرأى جليسه في وسط
النار.
٥٦ ـ (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
...) يعني قال القائل بعد ما اطّلع على حال قرينة مخاطبا له
تالله قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء وتجعل حالي كحالك.
٥٧ ـ (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ
مِنَ الْمُحْضَرِينَ ...) أي لو لم يشملني لطفه تعالى بالهداية والعصمة لي لكنت أنا
معك في النار.
٥٨ و ٥٩ ـ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) في أكثر التفاسير أنّ هذا الكلام من مقالات أهل الجنة فيما
بينهم فقولهم (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ) يعني أنحن مخلّدون هنا ولن نموت بعد (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي في الدنيا (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) على الكفر السّابق قبل الإيمان؟ وفي بعض الأقوال أن هذا من
تتمة كلام ذلك الجليس في الجنة تقريعا لصاحبه الدنيوية الذي هو من أهل النار.
٦٠ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
...) أي النعمة والخلود في الجنة هو النجاح الكبير.
٦١ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ
...) أي لمثل هذه النعم التي ذكرناها ينبغي أن يعمل العاملون في
دار الدّنيا.
٦٢ ـ (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ ...) أي هل ما ذكر من الرّزق المعلوم وسائر النّعم التي أعدّت
لنزلاء منازل الجنة أفضل أم نزل أهل النّار وهو الزّقّوم الذي هو ثمر شجرة كريه
شديد الكراهة شاق مع أنّه لا خير فيه؟
٦٣ ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ ...) أي اختبارا لهم في الدّنيا حيث إنهم كذّبوا نبيّنا لمّا
سمعوا بأن في الجحيم شجرة الزّقوم حيث أنكروا وجود مثل هذه الشجرة فيما عندهم.
٦٤ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ ...) أي منبتها في قعر جهنّم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
٦٥ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ
...) أي ثمر الشجرة شبيه برؤوس الشياطين في الكبر أو في التشويه
وتناهي القبح والكراهة في الصورة.
٦٦ ـ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ...)
أي أن طعام أهل
النار من ثمرة تلك الشجرة يملئون منها بطونهم من شدّة الجوع.
٦٧ ـ (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها ...) أي أنّ لأهل النار بعد أكل ثمرة الزقّوم وعطشهم الشديد (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي من ماء حارّ في غاية الحرارة مخلوط بغسّاق أو صديد
يقطّع أمعاءهم.
٦٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى
الْجَحِيمِ ...) أي بعد الأكل والشرب يردّونهم إلى الجحيم.
٦٩ ـ (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ
...) أي وجدوهم على الضّلالة والكفر.
٧٠ ـ (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ...) أي يقلّدونهم في الضلال ويتبعونهم فيه بسرعة.
٧١ ـ (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ
الْأَوَّلِينَ ...) أي قبل هؤلاء الذين هم في عصرك من المشركين الذين كذّبوك ،
ضلّ أكثر الأمم السّالفة.
٧٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ
مُنْذِرِينَ ...) أي الأنبياء والرّسل خوّفوهم ووعظوهم فما خافوا وما اتّعظوا.
٧٣ ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ ...) أي انظر كيف أهلكناهم ، وماذا حلّ بهم من العذاب.
٧٤ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) أي
الذين تنبّهوا
بإنذارهم واتّعظوا بمواعظهم فأخلصوا دينهم لله فشملهم الله برحمته وخلّصهم من
العذاب بلطفه.
٧٥ ـ (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ...) أي حين آيس نوح من إيمان قومه دعانا لننصره (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة.
٧٦ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أي وخلّصناه ومن معه في السفينة من الغم الشديد الذي كان
يسببه له قومه.
٧٧ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْباقِينَ ...) أي بعد الغرق. فالناس كلّهم من بنيه الثلاثة وهم : سام بن
نوح ، وحام بن نوح ، ويافث بن نوح.
٧٨ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) أي أبقينا لنوح ذكرا جميلا وثناء عاليا في الأمم المتأخّرة
عنه إلى يوم القيامة.
٧٩ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ...) أي تركنا على نوح التسليم والصّلوات إلى يوم القيامة في
الأمم اللاحقة.
٨٠ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
...) أي مثل ما جزينا نوحا نفعل ونجزي كلّ من أحسن وفعل ما فعله
نوح من الطّاعات وتجنّب المعاصي.
٨١ ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
...) أي أنّ نوحا منهم.
٨٢ ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ...) أي كفرة قومه.
٨٣ ـ (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ
...) أي من أتباع نوح إبراهيم أي أنه على منهاجه وسنته في اتباع
الحق.
٨٤ ـ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...) أي حين صدّق وآمن به بقلب خالص من الشّرك بريء من المعاصي
على ذلك عاش وعليه مات.
٨٥ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ...) حين رآهم يعبدون الأصنام قال لهم على نحو الاستهجان
والتقريع (ما ذا تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدونه من دون خالقكم.
٨٦ ـ (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ
تُرِيدُونَ ...) الإفك هو أشنع الكذب ، أي هل تريدون عبادة آلهة غير الله
للكذب والبهتان؟
٨٧ ـ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟
...) أي ما زعمكم وعقيدتكم بمن هو حقيق بالعبادة تأكلون رزقه
وتعبدون غيره؟
٨٨ إلى ٩٠ ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ...) أي بعد أن نظر في النجوم (فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ) مريض. وكان قومه يخافون العدوى ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه وحده هاربين خوفا من كون مرضه الطاعون وهو مرض
سار.
٩١ و ٩٢ ـ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ...) أي مال على الأصنام التي كان قومه يدّعون انها آلهة خفية
ومال عليهم سرّا وكان عندهم طعام صنعوه لها تقريبا إليها وتبركا بها (فَقالَ) إبراهيم (ع) للآلهة استهزاء : (أَلا تَأْكُلُونَ) من هذا الطعام اللذيذ؟ (ما لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ؟) أي لم لا تجيبونني؟
٩٣ ـ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ...) أي فمال عليهم مستخفيا. (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي أخذ يضربهم ضربا ويكسرها باليمين لأنها أقوى. وقيل :
معنى باليمين ، بالقسم الذي كان اقسمه بقوله تالله لأكيدنّ أصنامكم.
٩٤ ـ (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ...) أي توجه إليه قومه بعد أن اطلعوا على ما فعل بأصنامهم وبعد
أن اتهموه بتكسيرها قال لهم :
٩٥ ـ (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ...) استفهام للإنكار ، أي كيف يصح عند عاقل أن يعبد لما يعمله
بيده.
٩٦ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ...) أي الذي ينبغي أن يعبد ويخضع له هو الذي أوجدكم من العدم
وأوجد الحجارة التي تعملون منها أصنامكم فكيف تتركون عبادته وتعبدون مصنوعاتكم؟ ٩٧
ـ (قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً ...) قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السّماء
ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيه. وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار العظيمة.
٩٨ ـ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً ...) أي أرادوا حيلة في هلاكه بأن رموه في النار بواسطة
المنجنيق (فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ) أي أبطلنا تدبيرهم بأن صاروا مقهورين وجعلنا النار بردا
وسلاما على إبراهيم.
٩٩ ـ (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ...) إلى ما أمرني ربّي من الأمكنة المقدّسة. قيل هي بيت
المقدس. (سَيَهْدِينِ) أي يهديني ربي إلى المكان الذي رضي لي المقام فيه. أو إلى
طريق الجنة بطاعتي له وإيماني به.
١٠٠ ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي أعطني بعض الصّالحين ، يريد الولد. لأن زوجته سارة كانت
عقيما فوهبت له خادمتها هاجر فملكها.
١٠١ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ...) أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بابن وقور غير مستعجل في الأمور
قبل أوانها مع القدرة عليها.
١٠٢ ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...) أي بلغ الولد السنّ الذي يقدر على السعي في أمور والده معه
، يعني حدّ الشباب (قالَ يا بُنَيَّ
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي فكّر في الأمر حتى ترى وتعرف رأيك
ووظيفتك. (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال إسماعيل لأبيه نفّذ ما تؤمر به من قبل ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ) أي على أمره تعالى وبلائه الممتثلين لما يريد.
١٠٣ ـ (فَلَمَّا أَسْلَما ...) أي حين استسلما لأمر الله ، (وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) أي صرعة على شقّه وهو أحد جانبي الجبهة ، فوقع جبينه على
الأرض ، أو أكبّه على وجهه حسب طلبه كيلا يراه فيرقّ له ولما همّ بنحره جاءه
النداء :
١٠٤ و ١٠٥ ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ...
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ...) أي بالعزم على الإتيان بما كان تحت قدرتك من مقدّمات
العمل. أو فعلت ما أمرت به في المنام (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا إبراهيم وابنه إسماعيل بالعفو عن الذبح نجزي
كل من سلك طريقهما في انقياده لأمر الله.
١٠٦ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ
...) أي ابتلاء إبراهيم هو امتحان ظاهر يميّز به المخلص من غيره.
١٠٧ ـ (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ...) أي دفعنا ذبح إسماعيل بذبح كبش أملح سمين كان يرتع ـ كما
قيل ـ في رياض الجنّة.
١٠٨ و ١١١ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) إلخ. قد سبق بيان هذه الآية وما بعدها في قصّة نوح.
١١٢ ـ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ ...) أي بولادة إسحاق ولدا نبيّا من جملة الأنبياء المرسلين
الصّالحين.
١١٣ ـ (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ...) أي وجعلنا فيما أعطيناهما من الخير ثابتا ناميا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ومن أولادهما (مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة. (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ) بالكفر والعصيان بيّن الظلم.
١١٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ
...) أي أنعمنا عليهما بأعظم النعم وهو النبوة وبكثير من النعم
الأخرى الأخروية والدنيوية ومنها النجاة من آل فرعون وغيرها.
١١٥ ـ (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما ...) أي خلصنا موسى وهارون وباقي بني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من استبعاد فرعون وقومه وقيل : من الغرق.
١١٦ ـ (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ
الْغالِبِينَ ...) أي القاهرين لفرعون وقومه بعد أن كانوا مقهورين لهم.
١١٧ ـ (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ
...) أي التوراة التي هي في غاية الظهور ونهاية الاتضاح.
١١٨ إلى ١٢٢ ـ (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ ...) أي أرشدناهما إلى الطّريق الموصل إلى الحقّ والحقيقة (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما الثناء الجميل بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ذلك أننا (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) ف (إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وقد سبق تفسير مثل تلك الآيات فلا نكرّر تفسيرها.
١٢٣ ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) لهداية الناس وهو إلياس بن ياسين بن ميشا بن فنخاص بن
الغيران بن هارون أخي موسى ، بعث بعده. وقيل هو إدريس.
١٢٤ إلى ١٢٦ ـ (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟
...) أي ألا تخافون الله أن تعبدوا غيره؟ (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي صنما اسمه بعل كان من ذهب وكانوا يعبدونه. وبعل بلغة
أهل اليمن هو الرب. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ) أي وتتركون عبادة أحسن الصانعين والموجدين (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) أي الله الذي هو خالقكم وخالق من مضى من آبائكم ورازقكم
ورازقهم فهو أولى بالعبادة وأحق.
١٢٧ إلى ١٣٢ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
...) أي سنحضرهم في محضر الحساب لنذيقهم العذاب الذي لا نجير
منه (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) الذين صدّقوا دعوته من قومه (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) فأبقينا له الذّكر الحسن والثناء الجميل (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) يعني أننا أبقينا لإلياس في من بعده من الباقين سلاما على
إلياسين. أي هذه الكلمة الطيبة. أمّا إلياسين فلغة في إلياس ، أو جمع له يراد هو
ومن تبعه. وقرئ آل ياسين ، أي آل محمد (ص) (إِنَّا كَذلِكَ) إلخ. مر معناه. (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) المصدقين الطائعين لنا.
١٣٣ إلى ١٣٥ ـ (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم (ع) كان ممن أرسل إلى سدوم. (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ
أَجْمَعِينَ) فاذكر يا محمد إذ خلّصناه ومن آمن معه من قومه من عذاب
الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ) أي في الباقين الذين اهلكوا ، وهي امرأته التي كانت كافرة.
١٣٦ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ...) قد مضى تفسيرها.
١٣٧ و ١٣٨ ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ...) يعني يا قريش أنتم في أسفاركم لا زلتم تمرّون عليهم وعلى
منازلهم الخربة ليلا ونهارا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتفكرون في عاقبتهم فتعتبرون بهم.
١٣٩ إلى ١٤١ ـ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) أي اذكر يا محمد يونس بن متّى الذي بعث إلى أهل نينوى من
بلاد الموصل في العراق (إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) حيث ترك من بعث إليهم من دون اذن من ربه إلى السّفينة
المملوءة بالناس وبأمتعتهم. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) : أي قارع مع ركاب السفينة على من يلقي بنفسه في الماء بعد
أن كادوا يغرقون. فكان أنّ القرعة خرجت باسمه وقد خسرت صفقته فوقع في القرعة فقال
: أنا الآبق ، ورمى بنفسه في البحر.
١٤٢ ـ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
...) أي ابتلعه ويونس مستحق للّوم لوم العتاب لا لوم العقاب.
١٤٣ و ١٤٤ ـ (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ ...) أي الذاكرين لله تعالى بالتسبيح أو غيره. (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم الحشر الأكبر.
١٤٥ ـ (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ ...) أي أمرنا الحوت بالخروج إلى ساحل البحر فرماه من بطنه إلى
أرض عارية من الأشجار والنباتات (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي مريض.
١٤٦ ـ (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ ...) أي أنشأنا شجرة الدّباء وغطّيناه بورقها العريض بعد إنباتها
حتى لا يتأذّى من حرارة الشمس والذباب.
١٤٧ و ١٤٨ ـ (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ ...) أي بعثناه إلى قوم كان عددهم لو نظر إليهم الناظر لقال هم
مائة ألف أو أكثر. قيل : انهم أهل نينوى من أرض الموصل. فدعاهم إلى الله وتوحيده
وعبادته (فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي قبلوا منه وأجابوه فمتعناهم باللذات والمنافع الدنيوية
إلى انقضاء آجالهم.
١٤٩ و ١٥٠ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ
وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ ...) أي اطلب يا محمد الحكم من مشركي العرب الذين كانوا يزعمون
أن الملائكة بنات الله وسلهم ما الوجه في إضافتكم البنات إلى الله واخترتم البنين
لأنفسكم؟ (أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) : أي حين خلق الله الملائكة هل رأوا خلقه لهم؟ والاستفهام
للتوبيخ : أي كيف حكموا بأنوثية الملائكة مع انهم لم يشهدوا خلقهم؟
١٥١ و ١٥٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ
لَيَقُولُونَ ...) أي من افترائهم (وَلَدَ اللهُ) عند ما زعموا أن الملائكة بناته (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ينسبونه إليه تعالى.
١٥٣ ـ (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟
...) استفهام إنكار ، أي ليس الأمر كما يزعمون ، فكيف يختار
الله تعالى من هو الأدنى على الأعلى مع كونه مالكا حكيما.
١٥٤ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ ...) أي بأي برهان تقضون بأن لكم البنين ولله البنات.
١٥٥ ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ ...) أي أفلا تتنبّهون فتتعظوا بأنه سبحانه منزّه عن ذلك؟
١٥٦ و ١٥٧ ـ (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ...) أي هل عندكم برهان واضح نزل عليكم من السّماء بأن الملائكة
بناته (فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل إليكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم.
١٥٨ ـ (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَباً ...) أي قال الكفرة إن بين الله وبين الجنّ نسبة المصاهرة (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) أي : إنّ المشركين (لَمُحْضَرُونَ) في يوم الحساب وأنّهم في النار. وقيل أريد بالجن الملائكة
وسمى الملائكة جنة لاستتارهم عن العيون.
١٥٩ و ١٦٠ ـ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ...) نزّه هو تعالى نفسه المقدّسة عمّا لا يليق به ممّا وصفه به
الكافرون ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى عباده الذين استخلصهم لنفسه من بين القائلين بما
لا يليق به.
١٦١ إلى ١٦٣ ـ (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) أي أيّها الكفرة والذي تعبدونه (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) ما أنتم عن الله وعن دينه بمضلّين أحدا (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار فهو لا
محالة يحترق في الجحيم بسوء اختياره.
١٦٤ إلى ١٦٦ ـ (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ ...) يعني ليس لأحد منّا إلا وله بعبادته مكان متعيّن لا
يتجاوزه ، وذلك على قدر مراتبنا ودرجاتنا علما ومعرفة وعملا ـ وهذا من الكلام الذي
يجري على ألسنة الملائكة وقيل هو كلام جبرئيل للنبي (ص) (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي المصطفّون للصلاة وهي أعظم مصاديق الطاعة والخضوع له
تعالى ومنازل الخدمة. (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزّهون الله تعالى عمّا لا يليق به.
١٦٧ و ١٦٨ و ١٦٩ ـ
(وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ ...) المقصودون هم كفّار مكة. والمعنى أنهم بالتأكيد كانوا
يقولون قبل البعثة المباركة : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي يا ليت كنا نملك كتابا من كتب الأولين التي أنزلها على
أنبيائه. (لَكُنَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا العبادة له تعالى ولم يشركوا به.
١٧٠ ـ (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
...) أي حين جاءهم محمد (ص) بالقرآن أعرضوا عمّا قالوا وأصرّوا
على جحدهم وعنادهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم.
١٧١ إلى ١٧٣ ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا ...) إلخ. أي لقد تقدم منا الوعد لعبادنا الذين أرسلناهم إلى
الخلق (إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ) على أعدائهم بالقهر والغلبة والحجج الظاهرة في الدنيا
والآخرة (وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أن رسلنا ومن صدّقهم هم المنصورون لأنهم جندنا ، وأن
جندنا هم الغالبون الذين يقهرون الكفار بالحجة تارة وبالفعل أخرى.
١٧٤ و ١٧٥ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ...) أي فأعرض عنهم إلى موعد الأمر بقتالهم وحصول وقت نصرك.
وقيل هو يوم بدر ، وقيل يوم الفتح. (وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي اجعلهم على بصيرة بضلالتهم وعمّا قريب يرون ما وعدناك
به من النصر في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.
١٧٦ و ١٧٧ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ...) أي هل يطلبون التعجيل في العذاب؟ (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا حلّ بفنائهم بغتة (فَساءَ صَباحُ
الْمُنْذَرِينَ) فلبئس الصّباح صباح الذين يحذّرون ولم يحذروا.
١٧٨ و ١٧٩ ـ (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ...) كرّر الآيتين تأكيدا لتسلية النبيّ (ص) ، ولتهديد قومه ،
أو أن الأولى لعذاب الدنيا والثانية لعذاب الآخرة.
١٨٠ إلى ١٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...) أي منزّه ربّك الذي هو ذو قوّة وغلبة ، (عَمَّا يَصِفُونَ) عمّا يقوله المشركون من اتّخاذ الأولاد والشريك (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) المبلّغين عن الله دينه (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم وعلى من اتّبعهم من النّعم.
سورة ص
مكية ، عدد آياتها ٨٨ آية
١ ـ (ص ...) قيل هو اسم السورة ، وقيل غير ذلك. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي وحقّ القرآن ذي الشرف ، وقيل ذي البيان الذي يؤدي إلى
الحق.
٢ ـ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقاقٍ ...) أي ليس في القرآن نقص ولا قصور ، بل الكافرون من أهل مكة
في تكبر عن قبول الحق وحمية جاهلية وعداوة ومخالفة لأنهم يأنفون عن متابعتك.
٣ ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ ...) فقد دمّرنا الكثيرين قبلهم ممّن كفروا (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي نادوا باستغاثة وتضرّعوا حين نزول العذاب عليهم ولكن
ليس الوقت وقت مفرّ وندامة وخلاص.
٤ ـ (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ ...) أي تعجب الكافرون لمجيء رسول من أنفسهم مخوّف لهم من عقاب
الله ومحذّر لهم من مخالفته ومعصيته (وَقالَ الْكافِرُونَ
هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) حينما زعم أنه مرسل من الله.
٥ ـ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ...) أي بالغ في العجب مبلغا لا يتحمّل حين دعا إلى ربّ واحد مع
أن الآلهة عندنا ثلاثمائة وستون صنما.
٦ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ...) أي خرج الأشراف من الكفار من مجلسهم عند أبي طالب (ع) يقول
بعضهم لبعض : اثبتوا على آلهتكم واصبروا على دينكم وتحمّلوا المشاق في سبيله (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي هذا الذي يقوله محمد وزيادة أنصاره فيه ما هو إلا أمر
يراد بنا.
٧ ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ ...) أي هذا التوحيد الذي أتى به محمد ما سمعناه في دين
النّصارى وهو آخر الملل. (إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) أي كذب اختلقه واخترعه من عند نفسه ولا برهان له على دعواه.
٨ ـ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا ...) إنكار لاختصاصه بالوحي وهو منهم أو أدنى منهم في الرئاسة
والسن وكثرة الثروة بحسب عقيدتهم الفاسدة. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْ ذِكْرِي) أي لا يدفعهم إلى ما يقولونه سوى الشك في كتابي الذي
أنزلته على رسولي. (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ) أي لن يتبدل شكهم هذا باليقين بصدق محمد (ص) وكون ما جاء
به من عندي حقّا إلّا حين يذوقون عذابي لهم في النار.
٩ و ١٠ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ ...) هذه تتمّة الجواب عن إنكارهم نبوة محمد (ص) فقال سبحانه : أبأيديهم
مفاتيح النبوّة والرّسالة التي هي من جملة محتويات خزائن رحمة الله فيضعونها حيث
شاؤوا؟ يعني ليست خزائن الرحمة بأيديهم ولكنّها بيد (الْعَزِيزِ) الغالب (الْوَهَّابِ) الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء (أَمْ لَهُمْ ...) إلخ. أي هل يملكون شؤون التصرف في السماوات والأرض وتدبير
أمورهما فيتهيأ لهم أن يمنعوا الله من مراده (فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ) إن كانوا صادقين فيما زعموا فليصعدوا في المعارج التي
يتوصّل بها إلى العرش فينزلوا الوحي على من يستصوبون.
١١ ـ (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ
الْأَحْزابِ ...) أي أنّهم من جملة الكفرة المتحزّبين على الرّسل في كلّ عصر
، وأنت يا محمد غالبهم ، فلا تبال بهم. وهذا الكلام إعجاز ، لأنه إخبار عما حصل
فيما بعد في بدر أو الخندق أو فتح مكة حيث قطع الله دابرهم. فهو من الغيب.
١٢ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَعادٌ ...) أي أن تكذيبك من قومك ليس بأمر جديد بديع ، بل كذّب قبل
قومك قوم نوح نوحا وقوم عاد عادا وقوم كلّ نبيّ نبيّهم ، (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) في العلل عن الصّادق (ع) أنه سئل عن قوله تعالى وفرعون ذو
الأوتاد ، لأيّ شيء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا عذّب رجلا بسطه على
الأرض على وجهه ومدّ يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض ثم تركه على حاله
حتى يموت.
١٣ ـ (وَثَمُودُ) يعني قوم صالح. (وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي المتحزّبون على الرّسل ، الذين جعل سبحانه صفتهم أنهم
الجند المهزوم ، أي وقومك منهم.
١٤ ـ (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل حزب منهم إلا كذب الرسل كأنهم لا عمل لهم إلا
هذا. (فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجب لذلك عقابي لهم.
١٥ ـ (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ ...) أي ما ينتظر قومك أو الأحزاب جميعا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى التي يموت الخلائق كلّهم بها. (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي ما لهم من موت
بعدها أو من رجعة
إلى الدّنيا ولو مقدار رجوع اللّبن إلى الضّرع وهو الفواق.
١٦ ـ (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
...) إلخ. أي قدّم لنا نصيبنا من العذاب في الدّنيا قبل يوم
القيامة قالوه استهزاء بتخويف النبي (ص) لهم من عذاب الله.
١٧ ـ (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي اصبر يا محمد على التكذيب والاستخفاف بما جئتهم به (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) أي يا محمد بيّن لقومك قصّة عبدنا داود (ذَا الْأَيْدِ) أي صاحب القوّة على العبادة والاقتدار والنّعم الكثيرة ، (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي توّاب إلى مرضاة الله أو دعّاء له تعالى.
١٨ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ...) أي صيّرناها مأمورة بأمره فتسايره حيث سار (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي حين تغيب الشمس وحين تطلع وتسبيح الجبال يمكن أن يكون
باعتبار أنه سبحانه قد خلق فيها التسبيح وما ذلك على الله بعزيز.
١٩ ـ (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ...) أي وسخّرنا له الطير مجموعة إليه تسبّح الله تعالى
بتسبيحه. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل الطير والجبال كانت رجّاعة إلى طاعته والتسبيح معه.
٢٠ ـ (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ...) أي قوّينا وأحكمنا سلطانه بالجنود والهيبة والأموال. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوّة والإصابة في الأمور (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي العلم بالقضاء والفهم.
٢١ ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ...) أي هل بلغك خبر المتخاصمين يا محمد فإن جبرائيل وميكائيل
أتيا داود على صورة خصمين ومع كلّ واحد كان جمع من الملائكة (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي صعدوا سور الغرفة التي كان يتعبد فيها لا من بابها
المتعارف.
٢٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ...) أي اذكر إذ نزلوا عليه من فوق الغرفة في يوم احتجابه (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي خاف منهم خوفا شديدا لأنه زعم أنهم أرادوا قتله ،
ولأنهم دخلوا بلا إذن (قالُوا لا تَخَفْ
خَصْمانِ) أي نحن فريقان متخاصمان جئنا لتقضي بيننا (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ
بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ولا تجاوز الحق. (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي وسطه ، والمراد طريق العدل.
٢٣ ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ...) النعجة هي الأنثى من الضّأن ، وقد يكنّى بها عن المرأة ،
والحاصل أنّ المدعي بيّن ادّعاءه هذا وأشار إلى خصمه وأطلق عليه لفظ (أَخِي) بلحاظ الدّين أو الصداقة ، وبين له أنه شاركه في الخلطة
وله تسع وتسعون نعجة (وَلِيَ نَعْجَةٌ
واحِدَةٌ) أي لا أملك إلا هذه النّعجة المفردة (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي اجعلها في كفالتي وتحت تصرّفي (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني وأعجزني في القول.
٢٤ ـ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ
نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ...) أي : إن كان الأمر على ما تدّعيه ، فقد ظلمك بضمّ نعجتك
إلى نعاجه وكأنه (ع) حكم قبل أن يسمع كلام المدعى عليه. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذين يخلطون أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يظلمون ويطلبون زائدا على حقّهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فإنهم لا يظلم بعضهم بعضا وهم الأقلية (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي علم أننا اختبرناه بهذه الحكومة والحكم بين المتخاصمين
قبل أن يسأل المدّعي البيّنة وقبل أن يسمع الكلام من خصمه وقيل انه من الظن
المتعارف. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وقع ساجدا طالبا من الله الستر عليه ورجع إلى الله
بالتوبة.
٢٥ ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ...) إشارة إلى ترك المندوب والأولى ، فعدّ ترك الأولى ذنبا (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ) أي إنّ لداود عندنا لمرتبة القرب والكرامة وحسن المرجع في
الجنّة.
٢٦ ـ (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ ...) أي لإقامة أمر الدّين وتدبير أمر الناس ، أو جعلناك خلف من
مضى من الأنبياء في الدّعاء إلى توحيد الله وبيان شريعته (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي ضع الأشياء في مواضعها كما أمرناك (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لا تحكم خلاف حكم الله طبقا لمزاجك. (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إذا اتبعت مزاجك عدل بك عن الحق الذي هو طريق الله. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ) إلخ. أي ينحرفون عن طريق الحق (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم إيّاه.
٢٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً ...) أي لا لغرض حكيم أصلا بل ابتدعناهما وما بينهما وما فيهما
من إنسان وحيوان ونبات وجماد لأغراض عقلائية حكيمة. (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا).
٢٨ ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. معناه بل أنجعل الّذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا
بالطاعات كالعاملين بالمعاصي والكفر (أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) والمعنى : أبل نجعل الذين اتقوا معاصي الله خوفا من عقابه
كالذين عملوا بها وتركوا الطاعات. أي أن هذا لا يكون.
٢٩ ـ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
...) أي هذا كتاب نفّاع ذو خير كثير (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) يتأمّلوها ويتفكّر الناس فيها فيتّعظوا (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الصافية والأفهام الثاقبة.
٣٠ ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ...) أي أعطيناه إيّاه. (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إليه سبحانه فيما يرضيه من التوبة والذكر.
٣١ و ٣٢ ـ (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ ...) إلخ. أي اذكر يا محمد قصة سليمان حين عرض عليه في آخر
النهار بعد زوال الشمس الخيل الواقفة على ثلاث قوائم الواضعة طرف السنبك الرابع
على الأرض الجياد : السريعة العدو الواسعة الخطى. (فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي آثرت حب الخيل. (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي على ذكر ربّي قيل بأنه صلاة العصر. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر الضمير بلا مرجع يذكر قبله لدلالة لفظ (بِالْعَشِيِ) عليه. والمراد بالمرجع هو الشّمس ، والمعنى استترت وراء
الأفق.
٣٣ ـ (رُدُّوها عَلَيَّ ...) أمر الملائكة الموكّلين بردّ الشمس ، فردّت فصلّى ، كما
ردت ليوشع وعليّ (ع) (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالْأَعْناقِ) أي جعل يمسح سوق الخيل وأعناقها بالسّيف وتصدّق بلحمها
كفارة لتأخير وظيفة اليوم. أو المراد فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها على ما هي
العبادة المشاهدة عند المعجبين بالخيل والمفتنين بها.
٣٤ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ...) أي اختبرناه وامتحنّاه (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً) يحتمل أن يكون إلقاء هذا الجسد بيانا لشدّة محنته وابتلائه
وما اختبره به ، فإنه (ع) كان يحب أن يكون له أولاد كثيرون يجاهدون في سبيل الله ،
وكان عنده من النّساء ما شاء ، وكان يطوف عليهن طلبا للأولاد ولكنهنّ لم يلدن له ،
إلّا امرأة واحدة جاءت بولد ميّت وألقته على كرسيّة ليشاهده (ع). فلما رآه انكسر
قلبه بمقتضى الطبع البشريّ. وفزع وتأذّى بذلك. (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى ربّه على وجه الانقطاع بعد يأسه من الولد أو
بعد شهوده الجسد. وذكر في سبب ابتلائه أمور أخر كذهاب ملكه أربعين يوما من يده
وغير ذلك.
٣٥ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ...) طلبه الغفران يحتمل أن يكون لحبّه الشديد للولد وتعلّقه
الشديد به وحبه الأولاد ليجاهدوا في سبيله تعالى ، فإن الأنبياء حبهم لا بد وأن
ينحصر به تعالى أو أنه من باب الخوف والخضوع والخشوع. (وَهَبْ لِي ...) إلخ. أي أعطني سلطانا ماديا ومعنويا لا يتأتى لمخلوق بعدي
أبدا. (إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ) أي المعطي بكرم وبلا عوض.
٣٦ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ...) أي ذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) أي لينة طيبة سريعة مطيعة له (حَيْثُ أَصابَ) أي في كلّ مكان وزمان أراد وقصد.
٣٧ ـ (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ ...) وسخّرنا له الشياطين الذين لهم صناعة البناء والغوص.
٣٨ ـ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ ...) أي مكبّلين ومشدودين في الأغلال ليكفّوا عن الشّر.
٣٩ ـ (هذا عَطاؤُنا ...) أي هذا الذي أعطيناك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي أعط منه من شئت وامنع عمّن شئت ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) غير محاسب عليه.
٤٠ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ...) أي قرب المقام والرّتبة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي له عندنا مرجع حسن ودرجات في جنّات النّعيم.
٤١ ـ (وَاذْكُرْ ...) يا محمد (عَبْدَنا أَيُّوبَ) شرفه سبحانه بأن أضافه إلى نفسه وكان أيوب ممّن خصّهم الله
سبحانه بأنواع البلاء والمحن فذكر قصّته تسلية للنبيّ (ص) (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي حين دعا ربّه رافعا صوته انني أصابني الشيطان بتعب
ومشقة ومكروه. وقيل : بوسوسة فيقول له الشيطان طال مرضك ولا يرحمك ربك.
٤٢ ـ (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ...) حكاية لما أجيب به ، أي اضرب برجل الأرض ، فضربها فانبعث
عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ
بارِدٌ) أي ما تغتسل به (وَشَرابٌ) أي ما تشرب منه وهو بارد. فاغتسل (ع) وشرب فبرئ ظاهره
وباطنه.
٤٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ ...) مر تفسيره في سورة الأنبياء. (رَحْمَةً مِنَّا
وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إيّاه وليتذكّر ويعتبر به أصحاب
العقول.
٤٤ ـ (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ...) أي قبضة حشيش يختلط فيها الرّطب باليابس. (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك ضربة واحدة وكان (ع) قد حلف أن يضربها مائة جلدة
لأمر أنكره عليها. (وَلا تَحْنَثْ) بترك ضربها ، (إِنَّا وَجَدْناهُ
صابِراً) على ما أصابه في النفس والأهل والمال من البلاء الذي
ابتليناه به (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيّوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع منقطع إلى الله بكلّ وجوده.
٤٥ ـ (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي اذكر يا محمد لأمّتك وقومك عبادنا الصالحين هؤلاء. (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي ذوي القوّة في الطاعة ، والبصيرة في الدّين. أو أولي
العلم والعمل.
٤٦ ـ (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ...) أي جعلناهم خالصين بخصلة لا شوب فيها وهي (ذِكْرَى الدَّارِ) أي تذكّرهم للآخرة دائما.
٤٧ ـ (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ...) أي المختارين حسب ما سبق علمنا المختارين بنعمة النبوّة
وتحمّل أعباء الخلافة والرسالة الفعّالين للأفعال الحسنة الكثيرة.
٤٨ ـ (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ ...) أي اذكر لأمّتك هؤلاء الكرام من المذكورين أيضا ليقتدوا
بهم ويسلكوا سبيلهم. واليسع هو ابن اخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل وكان من
الأنبياء وأما ذو الكفل فهو ابن عم اليسع وقيل هو ابن أيوب النبي ، وقيل غير ذلك. (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي من الذين اختارهم الله للرّسالة.
٤٩ ـ (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ ...) أي هذا ذكر لهؤلاء الأنبياء الشرفاء الذين يستحقّون المدح
والثناء الجميل يذكرون به في الدنيا دائما. ولهم حسن المرجع يرجعون إليه في الآخرة
، وهو ثواب الله.
٥٠ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ ...) أي جنّات إقامة وخلود ، حين يردونها يجدون أبوابها مفتوحة.
٥١ ـ (مُتَّكِئِينَ فِيها ...) أي مستندين فيها إلى المساند ، (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ) فكلّما أرادوا فاكهة يأمرون سدنتهم بها ، أو يتحكّمون في
شرابها وثمارها فإذا قالوا لشيء منها أقبل أو اشتهوه حصل عندهم.
٥٢ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ
أَتْرابٌ ...) وعندهم في الجنان أزواج قصرن طرفهن عليهم راضيات بهم مالهن
في غير أزواجهن رغبة. وتلك الزوجات أقران على سن واحد ليس فيهن عجوز ولا طفلة.
٥٣ ـ (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ
...) أي أن المذكور آنفا هو الذي كنتم توعدون به بواسطة
الأنبياء ليوم الجزاء.
٥٤ ـ (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ
نَفادٍ ...) أي يقول أصحاب الجنة : هذه النعم الجزيلة التي أنعم بها
علينا بلطفه هي رزقنا الذي لا يزال ثابتا غير منقطع. ويحتمل أن يكون هذا من كلامه
تعالى.
٥٥ ـ (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ...) أي ما ذكرناه من أمر الجنة جزاء أعمال المتّقين. أمّا جزاء
المتجاوزين حدود العبوديّة بالطغيان على الله تعالى وتكذيب الرّسل فإن لهم (لَشَرَّ مَآبٍ) وقد فسّر ذلك الشرّ بقوله سبحانه :
٥٦ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها ...) أي يدخلونها حال كونهم ملازمين النّار (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس المسكن المفروش الذي هيّئ لهم.
٥٧ ـ (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
...) يعني هذا العذاب لا بدّ أن يذوقوه ، وهو الماء الشّديد
الحرارة ، والقيح الذي يخرج من القروح والدماميل.
٥٨ ـ (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ...) أي : ولهم مع ذلك العذاب عذاب آخر وهو في الشّدة مثل
الأوّل ، وهو أصناف كثيرة.
٥٩ و ٦٠ ـ (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ...) أي يقال لهم : هذا فوج ، وهم قادة الضّلالة إذا دخلوا
النّار ، ثم يدخل الأتباع فيقول الخزنة للقادة : هذا فوج ، أي طائفة من الناس ،
وهم الأتباع داخلون معكم في النار وهم يدعّون دعّا. (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم أي : لا سعة عليهم ولا فرح
بهم (إِنَّهُمْ صالُوا
النَّارِ) أي داخلوها مثلنا. (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ
لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي الأتباع قالوا للقادة والرّؤساء : بل أنتم أحقّ بما
قلتم لضلالكم وإضلالكم إيّانا (أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي هذا العذاب صيّرتموه لنا بحملكم إيّانا على العمل الذي
هذا جزاؤه (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي أن جهنّم بئس المقرّ لنا ولكم.
٦١ ـ (قالُوا ...) أي أن الأتباع اشتكوا من المتبوعين أيضا ودعوا عليهم
بقولهم (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ
لَنا هذا) الموجب للعذاب (فَزِدْهُ عَذاباً
ضِعْفاً) إلخ. أي مكرّرا ومضاعفا وهو عذاب الضلال والإضلال.
٦٢ ـ (وَقالُوا ...) في هذه الشريفة يحكي سبحانه أحوال أهل النار ومقالاتهم
فيمن كانوا في الدنيا على خلافهم في العقيدة. (ما لَنا لا نَرى
رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) ، أي الأراذل الذين لا خير فيهم حسب مقاييسهم في الدّنيا ،
وهم شيعة عليّ (ع).
٦٣ ـ (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ
عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ...) أي يقولون عند ما لا يرونهم في النار معهم اتّخذناهم هزوا
في الدنيا فأخطأنا أم عدلت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم معنا في جهنم؟
٦٤ ـ (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ ...) أي ما حكيناه من جدال ونزاع أهل النار فيها من التابعين
والمتبوعين صدق ومحقّق وقوعه فيها بلا ريب.
٦٥ و ٦٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ...) أي يا محمد قل للمشركين إنّي مخوّف لكم من عذاب الله (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له (الْقَهَّارُ) لكلّ شيء المتعالي بسعة مقدوراته فلا يقدر أحد على الخلاص
من عقوباته إن أراد عقابه. (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي مالكهما
ومصلحهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الجن والإنس وكلّ مخلوق فيهما (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم.
٦٧ و ٦٨ ـ (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ...) أي ما أنبأتكم به من أحوال يوم القيامة أو من أمر التوحيد
والنبوّة والبعث ، أو القرآن كل ذلك خبر عظيم (أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ) أي أنتم عن تدبره والعمل به غافلون متولون.
٦٩ ـ (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ...) أي الملائكة وإبليس إذ يتجادلون وحاصل الشريفة أنّه (ص) في
مقام إثبات نبوّته يريد أن يقول لهم إنّ أقوى دليل على نبوّتي هو إخباري عن
الملائكة وإبليس في قصة آدم وتقاولهم كما سوف يأتي بعد قليل ، وعلى ما هو مذكور في
كتب السّلف من الأنبياء والمرسلين ، مع أنّي أمّيّ لم أطالع كتبهم ولا تعلّمت عن
أحدهم ولا رأيتهم فإخباري عن مقاولاتهم تكشف عن وحي وإلهام سماويّ فتدبّروا ذلك.
٧٠ ـ (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) أي لا يوحى إليّ إلّا لأنّي نبيّ منذر للنّاس إنذارا بيّنا
واضحا.
٧١ و ٧٢ ـ (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) أي أذكر يا محمد قول ربّك حين أراد أن يسجد الملائكة لآدم
: (إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ طِينٍ) والمقصود هو آدم أبو البشر (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أكملت وتمّمت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) أي أفضت عليه الحياة. (فَقَعُوا لَهُ
ساجِدِينَ) أي خرّوا ساجدين سجدة تكريم له.
٧٣ و ٧٤ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ ...) أي لم يبق من الملائكة أحد إلا امتثل الأمر بذلك السجود (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي ترفّع وتعاظم (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) أي في علمه تعالى لأنه كان ذا تكبّر وتفخّم طبعا ، وكان
مخاصما له تعالى في كبريائه وعظمته.
٧٥ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ ...) إلخ. الاستفهام للتوبيخ والإنكار وتعريف للملائكة أنه لا
عذر له في الامتناع عن السجود (لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَ) أي لما تولّيت خلقه بنفسي من غير واسطة (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعالِينَ؟) هذا سؤال توبيخ. يعني أنّك هل كنت من الذين يتكبّرون من
غير استحقاق ، أم من الذين يستحقون الترفع والتفوّق؟
٧٦ ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ...) إلخ. وبذلك كان إبليس أول من قاس وفضّل النار على الطين.
٧٧ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها ...) أي اخرج من الملإ الأعلى أو الجنّة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مبعد مطرود من رحمتي.
٧٨ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ
الدِّينِ ...) أثبت تعالى الخزي الدائم والإبعاد الممتدّ إلى الأبد
والعذاب الأليم الذي يخلّد فيه.
٧٩ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ ...) أي أخّرني إلى يوم القيامة حين يبعث العباد.
٨٠ و ٨١ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) فأجابه سبحانه إلى ما هو مطلوبه بأصل التأخير (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إلى يوم هو معلوم عندي.
٨٢ و ٨٣ ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ ...) أي أقسم بسلطانك وقهرك سأزين لبني آدم الغيّ والشّقاق
والضّلالة وأدعوهم إليها ولن ينجوا منّي (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك وأخلصوا دينهم لك فهؤلاء ليس لي
عليهم سلطان ولا سبيل.
٨٤ و ٨٥ ـ (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ...) أي فأنا الحقّ وأقوله. أو فالحقّ قسمي والحقّ أقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) من جنسك وهم الشّياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ) من النّاس (أَجْمَعِينَ) تأكيد للجنسين.
٨٦ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ...) أي على تبليغ الوحي والقرآن والدعوة إلى الله (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي من المتصنّعين الذين أظهروا شيئا ليس فيهم.
٨٧ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
...) أي ما القرآن إلا عظة للخلق أجمعين.
٨٨ ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
...) أي ستعرفون يا كفار مكة خبر صدقه بعد الموت.
سورة الزّمر
مكية ، عدد آياتها ٧٥ آية
١ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ ...) أي هذا القرآن تنزيل على نبيّنا محمد (ص) من الله (الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في تدبيره وجميع أفعاله.
٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
...) أكّد سبحانه إنزاله للقرآن على نبيّه (ص) (بِالْحَقِ) أي متلبّسا به (فَاعْبُدِ اللهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) حال كونك مخلصا له عبادتك من الشّرك والأغراض الدنيويّة.
٣ ـ (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ...) أي اعلموا أنّ الدّين الخالص من شوب الرياء ولوث الشرك وهو
منحصر بدين الإسلام من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد. ثم أخذ سبحانه
في تهديد أهل الشّرك والنّفاق فقال (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي الكفار الذين زعموا بأن لهم مالكا يملكهم كعيسى
والأرواح السماوية والأحجار والأشجار والأصنام والنجوم قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا
إِلَى اللهِ زُلْفى) أي قربى (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي من أمر الدّين فيثيب المحقّ ويعاقب المبطل. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي لا يوفّق للاهتداء إلى الحق من يكذب على الله بنسبة
الشّريك والولد إليه تعالى ، ويكفر بنعم الله ظاهرها وباطنها.
٤ ـ (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً ...) أي كما زعموا ونسبوا إليه شركاء من الملائكة والمسيح وعزير
فقد كذبوا فيما زعموه لأنه لو شاء (لَاصْطَفى مِمَّا
يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لاختار من خلقه هو سبحانه وفق رأيه ومشيئته لا أنه
يخلّي أمر الاصطفاء بيد غيره (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن ذلك (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد. (الْقَهَّارُ) الغالب على الأشياء بجميع مراتبها.
٥ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ ...) أي لم يبدعهما باطلا بل ابدعهما لغرض حكمي وهدف عظيم (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) إلخ. أي يدخل كل واحد منهما على صاحبه فما يزيد في أحدهما
ينقص من الآخر. وقيل يغشي هذا هذا. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) بأن أجراهما على وتيرة واحدة لا يتخلّفان عنها (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هو منتهى دوره أو يوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي الغالب على كل شيء ولم يعاجل بالعقوبة.
٦ ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) يعني آدم (ع) لأن جميع البشر من نسله. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي حواء من فضل طينته أو من ضلع من أضلاعه. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي أحدث وأنشأ لكم من الإبل والبقر والضّأن والمعز ، من
كلّ واحد من الأصناف الأربعة ذكرا وأنثى فتمّت الثمانية. (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي بدء تكوّنكم فيها (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ) أي نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ثم كسوتها لحما ثم
حيوانا سويّا (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، والرّحم ، والمشيمة. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الفاعل لهذه الأمور العجيبة هو مالككم. (لَهُ الْمُلْكُ) يعني أنه هو المالك للأشياء طرّا على الحقيقة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ) أي فكيف تعدلون وتنصرفون عن توحيده إلى الإشراك به.
٧ ـ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ ...) الخطاب إلى أهل مكة ، أي إن تجحدوا نعم الله عليكم فلا
يضره جحودكم وهو غني عن شكركم (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) رحمة بهم وشفقة عليهم ، لأنه عالم بضرره لهم. (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لكنّه إذا شكروه على نعمة الإيمان وسائر نعمه فهو يرضى
شكرهم لهم لا له ، لأنّه سبب لمزيد نعمهم الدنيويّة وثوابهم الأخروي ولأنه سبحانه
هو الغني عن شكرهم. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى. وحاصله : لا يؤاخذ بالذنب إلّا
من ارتكبه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمحاسبة والمجازاة (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) لا يخفى عليه سرّ ولا علانية.
٨ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا
رَبَّهُ ...) أي ما يعتريه من مرض وشدّة وقحط وغيرها استغاث بالله (مُنِيباً إِلَيْهِ) أي راجعا إليه وحده لا يرجو سواه ، (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً) أي أعطاه مطلوبه (نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي ينسى ضرّه الذي كان يدعو ربه ليكشفه قبل نيل هذه النعمة
(وَجَعَلَ لِلَّهِ
أَنْداداً) أي شركاء (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ) أي عن دين الله (قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) هذا أمر في معنى الخبر ، معناه أن مدة تمتّعك قليلة زائلة (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) تعذّب فيها دائما جزاء كفرك واضلالك للناس.
٩ ـ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ ...) أي هذا الّذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة. (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته (ساجِداً وَقائِماً) يسجد تارة ويقوم أخرى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي جعل عذاب الآخرة في جميع حالاته نصب عينيه خوفا فهو
متقلّب بين الخوف والرّجاء فهذا وذاك ليسا سواء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أن الصّانع للعالم موجود وأن محمدا رسوله (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بذلك (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يتعظ ذوو العقول بالمواعظ والتفكر في الآيات
التكوينيّة والأنفسيّة.
١٠ ـ (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء يا عبادي الذين صدّقوا بالله ورسوله
احذروا عقاب ربكم بترك معاصيه. (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين فعلوا ما هو حسن لهم ولغيرهم في هذه الدنيا ثناء
حسن وذكر طيب وصحة وسلامة (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) أي فمن تعسّر عليه العمل بطاعة الله في أرض فليتحول عنها
إلى غيرها يتمكن فيها من العمل بها. وفيه حث على الهجرة من مكة في بداية الدعوة
المباركة. (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الذين يفارقون أوطانهم وأرحامهم وعشيرتهم وأصدقاءهم
ويصبرون على مشاق الأمور في سبيل تحصيل مرضاة الله فثوابهم على ذلك من عند الله لا
يمكن عدّه واحصاؤه.
١١ و ١٢ ـ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ ...) إلخ قل يا محمد لهؤلاء الكفار إني أمرت من قبل الله أن
أعبده عبادة خالصة لا يشوبها شيء من المعاصي أو الشرك. (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ) أي أقدمهم في الدنيا والآخرة.
١٣ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ...) أي بترك الأوامر والإخلاص في العبادة وأخشى عذاب يوم
القيامة.
١٤ و ١٥ ـ (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي ...) أي أخضع لربّي ولا أعبد سواه منزها عبادتي وطاعتي عن الشرك
والياء. (فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي فاعبدوا أنتم معاشر الكفار ما أردتم من الأصنام وهذا
تهديد لهم. (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ) أي العائدين بالخسران في الحقيقة يوم الجزاء هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإدخالها النار والعذاب (وَ) الخاسرين (أَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) لعدم انتفاعهم بهم سواء كانوا معهم أو في الجنّة ... (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي الواضح الظاهر.
١٦ ـ (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ ...) أي لهؤلاء الكفار في جهنم سرادقات وأطباق من النار
ودخانها. (وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ) أي أطباق وقيل فرش ومهد. (ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي ذلك العذاب لتخويف الله سبحانه العباد ليجتنبوا ما
يوجبه (يا عِبادِ
فَاتَّقُونِ) أي لا تتعرّضوا لما يوجب سخطي فقد أنذرتكم.
١٧ و ١٨ ـ (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوها ...) أي اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي رجعوا إليه سبحانه وأقلعوا عما كانوا عليه (لَهُمُ الْبُشْرى) أي السّرور والبشارة بالثواب (فَبَشِّرْ عِبادِ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) إلخ أي بشر يا محمد من عبادي أولئك الذين يختارون ما
يستمعون إليه أولاه بالقبول والعمل به وأرشده إلى الحق. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) إلى طريق الصواب التي توجب وصولهم إلى حسن المآب (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول السّلمية من شوائب الأوهام.
١٩ ـ (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ ...) إلخ أي هل الذي وجب عليه وعيد الله بالعقاب في جهنم أفأنت
يا محمد تخلصه منه؟ وفي ذلك استبعاد لانقاذه.
٢٠ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...) أي عملوا بالواجبات وتجنّبوا المحرّمات (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي قصور أرفع من الأولى ، (مَبْنِيَّةٌ) أي بكيفيّة (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الغرف (وَعْدَ اللهِ) أي وعدوا من قبله (لا يُخْلِفُ اللهُ
الْمِيعادَ) بل يفي بوعده وبما وعده مما ذكر.
٢١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً ...) الخطاب للخلق من خلاله (ص). يعني ترون بلا شكّ أنه هو
تعالى الذي أنزل المطر من السّحاب (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ
فِي الْأَرْضِ) أي فأدخله فيها عيونا وقنوات ومسالك ومجاري كالعروق (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من خضرة وحمرة وصفرة وبياض ، أو من صنوف مختلفة. (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي ييبس فيصبح أصفر بعد خضرته ونضارته وإثماره ثم ينقلب
رفاتا منكسرا متفتتا. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى) إلخ أي أن فيما ذكر من أحوال الزرع ابتداء وانتهاء لعلامات
ودلائل يتعظ بها ذوو العقول السليمة.
٢٢ ـ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ ...) أي فسح صدره ووسّع قلبه لقبول الإسلام والثبات عليه. ونزلت
هذه الآية في علي (ع). (فَهُوَ عَلى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِ) أي على يقين وهداية والخبر محذوف أي كمن طبع على قلبه ، (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ
ذِكْرِ اللهِ) أي من ترك ذكره سبحانه أو من أجل ذكره تعالى ، وهي كلمة
التوحيد. أي كلّما ذكرت عندهم هذه الكلمة ضاقت قلوبهم وزادت القساوة فيها فلم
يتّعظوا بالترغيبات ولم ينزجروا بالترهيبات (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) على وجه لا يستر ولا يخفى ضلالهم وعدولهم عن الحق على أحد
وقد نزلت في أبي لهب وولده.
٢٣ ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ...) أي القرآن سمّاه حديثا لأنه كلام الله. (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز وغيره. (مَثانِيَ) هذه صفة أخرى للكتاب أي يثنّى فيه القول ويتكرّر قصة كان
أو موعظة أو خبرا أو حكما. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي ترتعد خوفا من وعيده ، (ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي بعد الارتعاش وارتعاد القلوب والخوف من الوعيد تلين
جلودهم وتطمئن قلوبهم عند سماعهم آيات الوعد بالثواب والرحمة. (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي الكتاب المنزل هاد إلى الله تعالى بما فيه من نصب
الأدلة على وجوده ووحدانيته وصفاته وأصول العقيدة الأخرى. يرشد به من عباده من
يشاء كما يرشدهم على أيدي أنبيائه ورسله. (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) أي الذي يخلّي بينه وبين نفسه ويخذله (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجه من ضلالته.
٢٤ ـ (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ ...) أي بأن تغلّ يداه إلى عنقه فلا يتّقي عن نفسه إلّا بوجهه (سُوءَ الْعَذابِ) شدّته (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم الحشر الأكبر ، ليس كمن أمن من العذاب (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من جزاء أعمالكم السّيئة وأقوالكم الموجبة للكفر.
٢٥ و ٢٦ ـ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي قبل كفرة مكة ومشركي قريش (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني من جهة لا تخطر ببالهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي الذّل كالمسخ والقتل والخسف والإجلاء عن أوطانهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم وأدوم (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل النظر والاعتبار.
٢٧ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ...) أي ما يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ، بل ذكر فيه ما
يحتاج إليه الناظر في أمر دنياه (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتذكّروا ويتدبّروا فيعتبروا.
٢٨ ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
...) أي غير ذي ميل عن الحق بل هو طريق مستقيم موصل إليه. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يتجنبوا معاصي الله ويعملوا بطاعاته.
٢٩ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ ...) هذا مثل جاء به سبحانه للمشركين الذين يعبدون الآلهة
المتعدّدة ، فحالهم كحال رجل قد اشترك فيه (شُرَكاءُ
مُتَشاكِسُونَ) أي شركاء في ملكيّته وبينهم تنازع واختلاف كثير يتجاذبونه
في مهامّهم المختلفة ، وإذا احتاج العبد لأمر من أموره فكلّ واحد يردّه إلى الآخر
فهو لا يعرف أيّهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيّهم أولى بأن يقوم بحوائجه ، فهو لهذا
السّبب في عذاب دائم ما دامت حياته ، وكذلك المشرك متحيّر في الآلهة فأيّهم أولى
بأن يعتكف بخدمته ويقوم بعبادته وطاعته ومن أيّهم يطلب إنجاح طلبته وقضاء حاجته
ولأيّ منهم يتوجه ، فلا يرى أثرا من نجح طلبه فلا زال متحيّرا في أمر رزقه ومعاده
ومعاشه ، بخلاف الموحّد (وَرَجُلاً سَلَماً
لِرَجُلٍ) أي خالصا له ويخدمه على سبيل الإخلاص ، ودائما يكون في
طاعته وهذا مثل للموحّد. أمّا هذا المثل فضربه الله في قبح الشّرك وحسن التوحيد.
ثم قال سبحانه : (هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً) أي لا يستويان. والاستفهام للإنكار. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي احمدوا الله المستحق للحمد والثناء ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة نعمة التوحيد.
٣٠ و ٣١ ـ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
...) أي كلكم في صراط الموت والفناء وترقّب الفاني لموت فإن
مثله ، وشماتته به لا معنى لها. (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي تحتجّ عليهم بأنك قد بلّغت رسالات ربّك وأنّهم كذّبوا ،
ويعتذرون بما لا يجدي وكذلك يختصم كل محق ومبطل ومظلوم وظالم.
٣٢ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ ...) الاستفهام إنكاريّ ، أي لا أحد أظلم ممّن كذّب (عَلَى اللهِ) بنسبة الولد
والشريك إليه (وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ) أي القرآن والتوحيد (إِذْ جاءَهُ) حين أتاه فأنكره. (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي مقاما ومستقرّا لهم في جهنّم.
٣٣ ـ (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ...) أي أتى بالقرآن وهو محمد (ص) (وَصَدَّقَ بِهِ) أي خاتم الأنبياء ومن تبعه. (أُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) أي المصدّقون هم المتقون العاملون بما أمروا به والتاركون
لما نهوا عنه.
٣٤ و ٣٥ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ ...) من النّعم في الجنّة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما ينالون من جهة لطفه (ذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ) ما ذكر جزاء المحسنين على إحسانهم الذي فعلوه في الدنيا (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا) أي أسقط الله عنهم عقاب الشّرك والمعاصي التي فعلوها قبل
ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله سبحانه (وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يعادل حسناتهم بأحسنها فيضاعف أجرها.
٣٦ و ٣٧ ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ...) أي : نعم فإنه سبحانه كاف عبده محمدا (ص) عداوة كل من
يعاديه ويؤذيه. فالاستفهام تقريري. (وَيُخَوِّفُونَكَ) أي عبدة الأصنام يهدّدونك (بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) بآلهتهم ، (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يخلّيه الله وضلاله فلا يقدر أحد أن يهديه إلى سبيل
الرّشاد. (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) يلطف به لكونه أهلا للّطف والرحمة فيشرح صدره للحق فلا
يقدر أحد أن يضلّه عمّا هو عليه. (أَلَيْسَ اللهُ
بِعَزِيزٍ) غالب قاهر (ذِي انْتِقامٍ) من أعدائه المنكرين له ولرسوله. والاستفهام تقريري.
٣٨ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي لو سألت يا محمد هؤلاء الكافرين عن مبدع السماوات
والأرض بعد أن كانت معدومة. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي لأجابوا : الله هو الخالق مع كونهم يعبدون الأصنام. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها من الآلهة (إِنْ أَرادَنِيَ
اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) إلخ يعني اسألهم هل تقدر آلهتهم دفع مرض أو شدة أو بلاء
إذا ابتلاني الله بها ، أو شملني بلطف منه ونعمة هل تقدر على إمساك تلك النعمة أو
هذه الرحمة عني؟ (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كاشفا للضّر ومصيبا بالرّحمة (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) أي به يثق الواثقون لعلهم بأن الكل منه.
٣٩ و ٤٠ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ ...) أي على قدر تمكّنكم وجهدكم وطاقتكم في إهلاكي وتضعيف أمري (إِنِّي عامِلٌ) مقدار وسعي واستطاعتي في تقدّم مرامي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) فعمّا قريب تدرون من المغلوب في الدارين. وقد أخزاهم الله
يوم بدر ، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ
عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم وهو عذاب النار وهذا غاية الوعيد.
٤١ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ...) أي القرآن لمصالحهم ومعاشهم ومعادهم ، متلبسا بالحق فليس
فيه شيء من الباطل (فَمَنِ اهْتَدى) بالقرآن بأن وفّق للعمل بأوامره ونواهيه بعد أن فقه ما فيه
من الحجج (فَلِنَفْسِهِ) أي يعود نفعه إليها (وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لأنّ ضرره لا يتعداها (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي ما أنت يا محمد برقيب عليهم حتى توصل الحق إلى قلوبهم.
٤٢ ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها ...) أي أن الذي يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها هو الله (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يقدر لها الموت في منامها. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ) أي لا يردّها إلى البدن ولا يرسلها إليه فقدّر موتها في
نومها. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) إلخ أي الأنفس الأخرى التي لم يقض بموتها ويريد بها نفس
النائم وذلك إلى الوقت المعلوم عنده سبحانه المحدد لإماتته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) أي الإحياء ، والإماتة ، والنوم ، واليقظة ، آيات على أن
البعث والنشور أمر هيّن لمن تفكر وتدبّر.
٤٣ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ ...) أي بل اتّخذوا من دون الله شفعاء تشفع لهم عند الله. فهل
تتوقّعون الشفاعة من الأصنام والأوثان والجمادات (قُلْ) يا محمد لهم : (أَوَلَوْ كانُوا لا
يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي كما ترونهم جمادات لا تقدر ولا تعقل فلا يعقل أن يشفع
بشيء من هذه صفته كما تشاهدونهم.
٤٤ ـ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...) أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، ولا يملك أحد الشفاعة إلّا
بتمليكه (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ مر معناه.
٤٥ ـ (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ...) إلخ أي نفرت وقيل انقبضت قال ابن عباس : كان المشركون إذا
سمعوا قول لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك ، له نفروا من هذا القول حيث إنهم
كانوا يقولون بالشريك (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ
مِنْ دُونِهِ) أي الأصنام. (إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ) لذكر آلهتهم أي لفرط افتتانهم وحبّهم لها.
٤٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ... قُلِ) أي يا محمد قل (اللهُمَ) إلخ أي يا الله يا خالق السّماوات والأرض ومنشئهما ويا (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) أي عالم بما غاب علمه عن الخلائق جميعا وبما شهدوه وعلموه
، احكم بين العباد في القيامة (فِي ما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) أي في أمر الّذين والدّنيا حيث يقضى بينهم بالحق.
٤٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ...) أي زيادة عليه ، يعني ما في الدّنيا وضعف ما فيها ، لو كان
لهم وملكوه (لَافْتَدَوْا بِهِ) ليخلّصوا أنفسهم (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) إلخ أي شدّته يوم الجزاء. (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا
ينتظرونه.
٤٨ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ...) أي يوم القيامة ظهر لهم أيضا جزاء سيّئات أعمالهم في
الدنيا (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من كل جانب (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا يسخرون منه عند ما كان النبي (ص)
يخوفهم منه.
٤٩ ـ (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ...) من مرض أو شدة أو قحط أو غيرها (دَعانا) أي استغاث بنا لكشف ما أصابه (ثُمَّ إِذا
خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي أعطيناه سعة في المال أو العافية في البدن تفضّلا منّا
لا على وجه الاستحقاق (قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي أخذته من الله باستحقاقي له ، أو بعلم منّي بكيفيّة
جلبه وكسبه. (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) يقول تعالى ردّا عليه : ليس الأمر كما يزعم ، بل هو اختبار
وامتحان ابتلاه الله بهما ليعلم أيشكر أم يكفر (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان النعمة امتحان للعباد بالشكر وعدمه كما أن البلاء كذلك.
٥٠ و ٥١ ـ (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
...) أي تلك المقالة (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ) وهو قارون (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي لم ينفعهم ما كانوا يجمعونه من متاع الدنيا (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي أصابهم جزاء أعمالهم السيئة. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفّار قومك بعتوّهم وجحودهم (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك. (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين تعذيبنا إيّاهم.
٥٢ ـ (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) إلخ أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيّق على من يشاء بحسب ما
يرى من المصلحة وتقتضي حكمته. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي في بسط الرزق وقبضه دلالات واضحات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون بالتوحيد وبأنه الباسط والقابض لأنّهم المنتفعون
بهذه الدلالات.
٥٣ ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) أي أفرطوا في الجناية عليهم بإقرارهم (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من المغفرة والعفو (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) واضح المعنى وهذه أرجى آية في كتاب الله سبحانه.
٥٤ و ٥٥ ـ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ ...) أي ارجعوا إلى الله توبة عمّا سلف وتسليما لما خلف حتّى
يغفر لكم جميع ما سلف. (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) حيث إن التوبة بعد وقوع العذاب لا تفيد ولا تمنع منه. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) والمراد بما أنزل هو القرآن و (أَحْسَنَ) حلاله وحرامه واجباته ومحرّماته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تلتفتون حين مجيئه حتى تتداركوه.
٥٦ ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى ...) أي خوف أن يقول الإنسان يا ندمي أين أنت منّي ، ويا حسرتي
احضريني (عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللهِ) أي قصّرت في حقّه تعالى أو في طاعته (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي إنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن والرّسول والمؤمنين.
٥٧ ـ (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي
...) أي أرشدني إلى دينه (لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين لمعاصيه العاملين بطاعاته.
٥٨ ـ (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ ...) أي حين معاينته للعذاب (لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي رجعة إلى الدّنيا فأومن وأعمل عملا صالحا.
٥٩ ـ (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ...) إلخ لتهتدي بها أي ليس كما تقول ، بل أرسلت إليكم الرّسول
مع الحجج الظاهرة فأنفت من اتّباعها وقبولها فكفرت.
٦٠ ـ (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ ...) أي زعموا أن له شريكا أو ولدا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) من الغم والخوف (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي مقاما ومأوى للآنفين المترفّعين عن الإيمان والطّاعة.
٦١ ـ (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
...) أي تجنّبوا الشّرك وغيره من المعاصي (بِمَفازَتِهِمْ) بالعمل الصّالح الذي هو سبب الفلاح والفوز (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) إلخ يعني فوزهم بأن لا يصل إليهم سوء ولا حزن من فقدان نعمة
أو لذّة.
٦٢ و ٦٣ ـ (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) أي موجده من العدم (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم على حفظ المخلوقات ومتصرف فيها. (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له مفاتيح خزائن السّماوات والأرض. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائل قدرته أو بما يدلّ على توحيده وتنزيهه عمّا يقول
الكافرون (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) لأنهم آثروا الحياة الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية
وباعوا نعمة الجنان بعقوبات النّيران.
٦٤ ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل ينبغي أن يصدر منكم أمر
لي بأن أعبد غير الله مما لا يسمع ولا يقدر ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع وتحسبون
أنكم من العقلاء؟ مع ان مثل ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بعواقب الأمور وبعجز من يدعو
إلى عبادته.
٦٥ ـ (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ...) يا محمد (وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ) من الرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ...) إلخ قال ابن عباس : هذه الشريفة (يعني من أوّلها إلى آخرها)
أدب من الله لنبيّه (ص) وتهديد لغيره ، لأنّ الله عصمه من الشّرك ، وهو كلام وارد
على طريق الفرض والشرط ، وإفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. والمراد بحبط العمل
صيرورته باطلا وفاسدا.
٦٦ ـ (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ ...) ردّ لما اقترحوه عليه (ص) من استلام ببعض آلهتهم فقال
سبحانه : بئس ما أمروك به ولكن كن على طريق الحقّ (وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) نعمه عليك من الهداية والنبوّة والتوحيد والإخلاص في
العبادة وغيرها. والخطاب وإن كان للنبي (ص) إلا أنه تأديب للأمة من خلاله (ص).
٦٧ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته إذ لو عرفوه لما عبدوا غيره أو
وصفوه بما هو منزّه عنه (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أخبر سبحانه عن كمال قدرته فذكر أن الأرض كلّها مع عظمها
في مقدوره كالشيء الصغير الذي يقبض عليه القابض بكفّه كناية عن سهولة التصرف فيها
عليه. (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشيء المقدور له
طيّه بيمينه كناية عن سعة قدرته سبحانه. (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزّه تعالى شأنه نفسه المنزّهة عن شركهم وعما يصفونه به
مما لا يليق بساحته المقدسة.
٦٨ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) يعني النفخة الأولى. والصّور قرن ينفخ فيه إسرافيل (ع) (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ) أي يموت كلّ ذي روح في السّماوات وفي الأرض من شدّة تلك
الصّيحة. (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) أي شاء أن لا يموت كحملة العرش أو غيرهم (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) أي مرة أخرى (فَإِذا هُمْ قِيامٌ
يَنْظُرُونَ) أي يقلّبون أبصارهم في الجوانب كالذي بهت أو ينتظرون ما
يفعل بهم.
٦٩ ـ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها
...) أي بعدله المزيّن لها والمظهر للحقوق فيها كما أن بالنّور
تزيّن الأمكنة المظلمة. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) للحساب. والمراد جنس الكتاب ، أي صحائف الأعمال في أيادي أهلها.
(وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ) لدعوى إبلاغ الأحكام وكلّ ما أمروا به الأمّة ، أو لإلزام
الحجة عليهم (وَالشُّهَداءِ) أي الملائكة الموكّلين بالمكلّفين ليشهدوا على صحّة دعوى
الأنبياء وتكذيب الأمّة لهم (ع) ، أو الشهداء في سبيل الحق لمزيد شرافتهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي يفصل بينهم بالعدل (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) لا بنقص ثواب ولا بزيادة عقاب.
٧٠ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
...) أي تستوفي كلّ نسمة جزاء عملها إن خيرا فخير وإن شرّا فشر (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) من الخير والشرّ.
٧١ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً ...) أي يدفعهم ملائكة العذاب إلى النار بعنف فوجا بعد فوج (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي تفتح أبواب جهنّم عند وصول هؤلاء الكفرة إليها. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي يقول لهم الموكلون بها ذلك تقريعا وتوبيخا. (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي حججه وما يدلّكم على معرفته وتوحيده ووجوب عبادته (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا) ويخوفونكم من عذاب هذا اليوم (قالُوا بَلى وَلكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي نعم قد جاءتنا الآيات والرّسل وخوّفونا ذلك اليوم وهذه
النار لكن وجب العقاب من الله على من جحد بما جاءت به رسله.
٧٢ ـ (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها ...) أي يقول لهم الموكلون بها ادخلوا أي باب شئتم من أبواب
النار لا آخر لعقابكم. (فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) أي جهنم بئس موضع لأرباب الأنفة والترفع عن الحق والحقيقة.
٧٣ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ...) أي حثّوهم على المسير إلى مقرّهم الأبدي الذي هيّئ لهم
زمرة بعد زمرة ، معظمين مكرّمين. (حَتَّى إِذا جاؤُها
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي وفتحت أبوابها قبل وصولهم إليها (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) أي الموكلون بها من الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) بشارة بالسّلامة من المكاره وطبتم نفسا أو طاب لكم المقام
بالعمل الصالح فادخلوا الجنة مؤبدين في نعيمها.
٧٤ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنا وَعْدَهُ ...) أي وعده لنا على ألسنة رسله بالبعث والنعيم والثواب ، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنّة ، (نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ننزل من الجنة كلّ مكان نريده ونسكن فيها فنعم ثواب
المحسنين هي.
٧٥ ـ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ ...) أي محدقين (مِنْ حَوْلِ
الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ذاكرين له بوصف جلاله وإكرامه تلذّذا به ... (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الخلق بالعدل (وَقِيلَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والقائل هو الملائكة أو المؤمنون على ما قضي بينهم بالحق.
سورة المؤمن
مكية ، عدد آياتها ٨٥ آية
١ ـ (حم ...) قد سبق تأويله بعنوان الحروف المبتدأة في أوائل السور.
٢ و ٣ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ....) أي هذا تنزيل الكتاب من الله العزيز في سلطانه ، والعليم
بكلّ شيء (غافِرِ الذَّنْبِ) أي للمؤمنين ، وهو للدّوام والاستيعاب. (وَقابِلِ التَّوْبِ) مصدر التّوبة (شَدِيدِ الْعِقابِ
ذِي الطَّوْلِ) أي الفضل والإنعام أو الغني. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع للجزاء.
٤ ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ما يطعن في القرآن إلّا الذين كفروا وأنكروا نعم ربّهم
وجحدوها. (فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي لا يخدعنّك أسفارهم في الأرض للتّجارات المربحة
واستفادات المنافع الكثيرة ، فإن إمهالي لهم ليس لإهمال عقوبتهم بل لازديادها ،
فإنّي لبالمرصاد لهم.
٥ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّبت قوم نوح نوحا (وَالْأَحْزابُ مِنْ
بَعْدِهِمْ) أي الطوائف الأخر بعد قوم نوح كذّبوا رسلهم كقوم عاد وثمود
وأصحاب الأيكة (وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) أي قصدوه (لِيَأْخُذُوهُ) أي يؤذوه ويقتلوه. (وَجادَلُوا
بِالْباطِلِ) يعني بما لا حقيقة له مثل قولهم (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ،
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ونحو ذلك من الأباطيل (لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَ) أي ليزيلوا الحق عن مقرّه (فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فانظر يا محمد (ص) حتى تعرف كيفيّة عقابي إيّاهم حيث
أهلكتهم.
٦ ـ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي كما وجبت العقوبة على الأمم السّابقة لتكذيبهم أنبياءهم
وجب حكم ربك بالعقاب (عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا) من قومك بذاك الملاك من كفرهم وتكذيبهم إيّاك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) يعني كذلك حكم ربّك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ
النَّارِ).
٧ ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ...) الحاملون لعرش العظمة هم ثمانية من الملائكة المقرّبين (وَمَنْ حَوْلَهُ) يعني الملائكة المطيفين بالعرش الكروبيّون (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام. (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون بربوبيّته ووحدانيّته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي يسألون الله المغفرة للمصدقين بالله ورسوله من أهل
الأرض (رَبَّنا وَسِعْتَ
كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي أحاطت رحمتك وعلمك بكل شيء. (فَاغْفِرْ) ... وهذا مقتضى سعة الرّحمة (لِلَّذِينَ تابُوا) من الشرك والمعاصي (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي مشوا على الجادة المستقيمة والدين الحق. (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وادفع عنهم عذاب النار.
٨ ـ (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
...) أي مع توبتهم وقبولها ووقايتهم النّار فحينئذ أدخلهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) إلى قوله : (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وقد سألوه سبحانه دخول هؤلاء مع دخول التائبين ليتمّ
سرورهم ولتعظيم التائبين وإعظام شأنهم ، ولتشويق الناس إلى التوبة والاستغفار (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر معناه.
٩ ـ (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ...) أي عقوباتها ، (وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصونه من عقوبات أعماله وجزاء سيّئاته يوم الجزاء
فقد أنعمت عليه. (وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر العظيم بالبغية.
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ
لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ ...) المقت أشد البغض أي أن الملائكة ينادونهم يوم القيامة وهم
في النار ، والمراد خزنة جهنّم : إنّ عداوة الله أكبر (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) والمعنى أنّ الكفرة لمّا رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم
وأدخلوا النّار مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء ، فنودوا لمقت الله إيّاكم في الدنيا
(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى
الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم وبغضكم لها.
١١ ـ (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
...) إلخ الأولى في الدّنيا بعد الحياة فيها ، والثانية في
القبر بعد الإحياء فيه للسّؤال (فَاعْتَرَفْنا
بِذُنُوبِنا) أي بإنكارنا البعث وما يتبعه. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي أيوجد طريق نسلكه حتى نخرج ونتخلّص من هذا العذاب
الشديد والجواب مقدّر أي : لا سبيل لكم.
١٢ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ
وَحْدَهُ ...) أي ذلكم العذاب الذي حلّ بكم بسبب أنّه كان إذا تفوّه
المسلمون بكلمة التوحيد (كَفَرْتُمْ) يعني بتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ
تُؤْمِنُوا) أي تسلّموا بالإشراك به (فَالْحُكْمُ) في تعذيبكم والفصل بين المحق والمبطل (لِلَّهِ الْعَلِيِ) شأنه (الْكَبِيرِ) العظيم في كبريائه.
١٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) أي مخلوقاته الدالة على التوحيد والقدرة والحكمة (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
رِزْقاً) من المطر الذي ينبت بسببه ما هو رزق للخلق (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي يرجع إلى الله ويقبل على طاعته ويتجافى عن معصيته.
١٤ ـ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ ...) أي وجّهوا عبادتكم إليه وحده ونزّهوها عن الشرك (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي ولو مقتوا إخلاصكم وشقّ عليهم.
١٥ ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ...) أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة أو أنه سبحانه
عالي الصّفات (ذُو الْعَرْشِ) يعني مالكه وربّه المستولي عليه. (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) إلخ أي القرآن من عالم الأمر وكل كتاب أنزله الله على
أنبيائه. وقيل الروح هو الوحي أي يلقي الوحي على قلب من يشاء من عباده الذين
يخصّهم بالرّسالة ويجدهم أهلا لها. (لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ) أي ليخوّف الناس بما يوحى إليه من يوم القيامة حيث يتلاقى
الخلق في ذلك اليوم.
١٦ ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ...) أي خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ، أو بارزة سرائرهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي من أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسأل عنه ولما يجاب به وقيل بأن السائل والمجيب
هو الله سبحانه.
١٧ ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ ...) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) فإن المحاسب فيه هو الله وهو أعدل العادلين. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره.
١٨ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ...) كناية عن يوم القيامة ، وسمّيت آزفة لاقترابها ودنوّها ، (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) أي أنّها من فزع ذلك اليوم ترتفع عن أماكنها فتلتصق
بحلوقهم ، (كاظِمِينَ) أي ممتلئين غمّا وكآبة. (ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب مشفق عليهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي شفيع تقبل شفاعته.
١٩ ـ (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ...) أي خيانتها بنظرها إلى ما لا يجوز النظر إليه (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي ما تضمره الصّدور يعلمه تعالى.
٢٠ ـ (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ...) أي لا يتعدّى على أحد ولا يحكم ظلما بنقص ثواب أو مزيد
عقاب ، (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي المشركون الذين يعبدون غير الله (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي لا يحكمون بأمر من الأمور لأنّها جمادات لا يتصوّر ولا
يعقل أن يصدر عنها الحكم. (إِنَّ اللهَ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مر معناه.
٢١ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) إلخ أي سيروا في الأرض وانظروا واعتبروا بحال أسلافكم من
المكذّبين من الأمم لرسلهم. (كانُوا هُمْ أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً) أي قدرة وتمكّنا في أنفسهم. (وَآثاراً فِي
الْأَرْضِ) مثل القلاع العالية والحصون المرتفعة والبلاد العظيمة (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بإنكارهم الصانع أو بشركهم وسائر معاصيهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي يمنع العذاب عنهم ولا دافع يدفعه.
٢٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ ...) إلخ أي ذلك الأخذ والعذاب لأنهم كانت تأتيهم رسل ربّهم
بالحجج البيّنة (فَكَفَرُوا) جحدوا بالله وكذّبوا الرّسل (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على كلّ شيء (شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب.
٢٣ و ٢٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بالمعجزات الواضحة (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) إلخ أي برهان بيّن إلى هؤلاء الطغاة. (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون موسى (ع) وأنه مموّه وكاذب فيما يدعيه من أمر
الرسالة.
٢٥ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ
عِنْدِنا ...) أي أتاهم بالدّين الحق الذي كان من عندنا ، وأمرهم
بالتوحيد (قالُوا اقْتُلُوا
أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أعيدوا على بني إسرائيل سنة قتل كل مولود ذكر لهم والتي
كانت سارية قبل ولادة موسى فيهم. (وَاسْتَحْيُوا
نِساءَهُمْ) أي خلّوهنّ حتى يخلد من القبطيّين. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ) أي في ضياع. ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى
فهو باطل ضائع.
٢٦ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى ...) أي اتركوني اقتله يستفاد من الآية أنه في خواصّ فرعون قوم
يشيرون عليه بعدم قتله. (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي ويستجر بربه ليخلّصه مني. (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي إن لم أقتله أخاف تغييره لدينكم الذي أنتم عليه (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسادَ) أي ما يفسد دينكم وعقيدتكم أو ما يفسد دنياكم كالإعلان
للحرب وتهييج الناس مثلا.
٢٧ ـ (وَقالَ مُوسى ...) أي قال لقومه لما سمع بعزم فرعون على قتله (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) تسلية لهم ، يعني لنا ملاذ وملجأ هو ربّنا وخالقنا وحافظنا
(مِنْ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي من شر كلّ متكبر على الله متجبر عن الانقياد إليه لا
يصدّق بيوم المجازاة.
٢٨ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ...) إلخ كان ابن خال فرعون أو ابن عمّه. وقال القمّي : بقي
يكتم إيمانه ستّمائة سنة. (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي لأنه يقول ذلك؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ
بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أي المعجزات الواضحات من عند خالقكم ورازقكم (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ) أي إن يك موسى كاذبا فوبال كذبه على نفسه ولا يتعدى ضرر
كذبه إلى غيره. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي لا أقل من أن يصيبكم بعضه وفيه هلاككم أو عذاب الدّنيا
فإنه بعض ما يعدكم. (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي لا يرشد إلى جنته وثوابه من هو متجاوز عن الحد في
المعصية كذاب على ربه.
٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
...) أنتم اليوم قد علوتم الناس وأنتم أهل سلطان في هذا العصر ،
فلا تفسدوا أمركم (ظاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ) أي أرض مصر غالبين على أهلها (فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي من يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا جميعا. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما
أَرى) أي ما أشير عليكم وما أدلّكم إلّا على الطريق التي أراها
صوابا لي ولكم ، (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي ما أدلّكم إلّا إلى ما فيه رشدكم وصلاحكم.
٣٠ و ٣١ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ...) أي قال حزقيل (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ) أي في تكذيبه والتعرّض له (مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزابِ) أي مثل عذاب الأمم الماضية المتعرّضة للرّسل بالأذى والقتل
(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ) أي جزاء عادتهم على إيذاء نوح وتكذيبه فأهلكهم الله
بالطّوفان (وَعادٍ وَثَمُودَ) أي مثل سنّة الله تعالى فيهم حين استأصلهم وأهلكهم جزاء
بما كانوا يفعلون من الكفر وقتل الرّسل وإيذائهم (وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) كقوم لوط وأهل المؤتفكة. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعني تدمير هؤلاء كان على وجه العدالة لأنه صدر منه تعالى
ووقع في محلّه.
٣٢ ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ التَّنادِ ...) أي يوم القيامة ، وسمّي بذلك لنداء بعضهم بعضا بالويل
والثبور ، أو لتنادي أهل الجنة وأهل النّار وبالعكس وقيل غير ذلك.
٣٣ ـ (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ...) أي منصرفين عن الموقف إلى النّار ، أو فارّين عنها (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي من عذابه ما
لكم من مانع ولا دافع. (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) أي يخلّيه وما اختاره من الضلالة (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عن الضّلالة يردّه إلى الهدى.
٣٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
...) أي جاء يوسف بن يعقوب قبل موسى رسولا إليكم من قبل الله. (بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات (فَما زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من دعوى الرّسالة والدّين وأحكامه (حَتَّى إِذا هَلَكَ) يوسف ومات (قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدّد لكم إقامة
الحجة برسول من بعده. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضّلال (يُضِلُّ اللهُ) عن طريق الحق والصّواب (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُرْتابٌ) أي من جاوز حدوده المقرّرة له في شرعه وشكّ في دينه الذي
تشهد به البراهين الواضحة.
٣٥ ـ (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ
...) أي الذين يتخاصمون خصومة شديدة مع الرّسل في دفع دلائل
الله ومحاولة إبطالها. (بِغَيْرِ سُلْطانٍ
أَتاهُمْ) بلا حجّة وبيّنة تأتيهم ، (كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ) أي عظم ذلك الجدال منهم عداوة عند الله (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ومقته المؤمنون وأبغضوه بسبب ذلك الجدال بالباطل. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الذي فعله على قلوب تلك الجماعة (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) وذلك كعقوبة له على أنفته وكحث له على الحق.
٣٦ و ٣٧ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي
صَرْحاً ...) أي بناية عالية مكشوفة ، وقيل مشيدة بالآجرّ والجصّ (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ثم فسّر تلك الأسباب فقال : (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي طرق الصّعود إليها من سماء إلى سماء. (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي فانظر إليه وإني لأظن موسى كاذبا في ادّعائه بأن له
إلها غيري. (وَكَذلِكَ) أي مثل ما زيّن لهؤلاء الكفار سوء أعمالهم (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) ظهر له ممكنا (وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ) أي منع عن طريق الهداية ، (وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما مكائد فرعون لإبطال دعوة موسى إلا في هلاك وخسار.
٣٨ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ ...) أي سيروا في أثري ولا تخالفوني (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الرشد من الغيّ والهداية من الضّلالة.
٣٩ ـ (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا مَتاعٌ ...) أي تمتّع أيام قلائل لسرعة زوالها (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي دار الخلود والحياة الأبديّة والباقي خير من الفاني.
٤٠ ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها ...) عدلا من الله (وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني جزاء السيّئة مقصور على المثل ، لكنّ جزاء الحسنة
بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة.
٤١ ـ (وَيا قَوْمِ ...) ثم إن المؤمن كشف عن تقيّته ستارها فنادى فيهم (ما لِي أَدْعُوكُمْ) إلخ أي ما لكم؟ ومعناه : أخبروني عنكم ، كيف حالكم هذه؟
أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النّجاة من العذاب ، وأنتم تدعونني إلى الشّرك
الذي عاقبته النار؟.
٤٢ ـ (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ
وَأُشْرِكَ بِهِ ...) إلخ أي أنتم تدعونني لربوبيّة من ليس على ربوبيته دليل ،
وليس لديه حجّة فهو باطل الربوبية ومدّعاكم بلا دليل ، (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ
الْغَفَّارِ) الغالب على كلّ شيء والغفّار لمن تاب عن الشّرك.
٤٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ ...) إلخ أي حقّا إن آلهتكم لا تدعو إلى أنفسها لأنها جمادات
فليس لآلهتكم دعوة (وَأَنَّ مَرَدَّنا
إِلَى اللهِ) أي مرجعنا إليه سبحانه فيجازي كلّا بعمله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) بالشّرك وسفك الدّماء (هُمْ أَصْحابُ
النَّارِ) ملازموها يوم القيامة.
٤٤ ـ (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ...) أي عمّا قريب تفهمون قولي من النصح لكم عند معاينة العذاب (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي أسلّم أمري إليه وأعتمد على لطفه (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعلم أفعالهم وأقوالهم من الطاعة والمعصية.
٤٥ ـ (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا
...) أي صرف الله عنه سوء مكرهم فنجا مع موسى حتى عبر البحر
معه. (وَحاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي أحاط بقوم فرعون ومن معه عذاب السوء ، أي الغرق أو
النار أو كلاهما في الدّنيا وفي الآخرة.
٤٦ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
...) القمّي قال : عنى ذلك في الدّنيا قبل يوم القيامة ، وذلك
لأنه في القيامة لا يكون غدوّ وعشيّ ، قيل يكون وهم في قبورهم فهم كذلك إلى يوم
القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) يقال لهم (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) هذا أمر للملائكة بإدخالهم في أشد العذاب وهو عذاب جهنّم.
٤٧ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ...) معناه واذكر يا محمد لأمّتك الوقت الذي يتخاصم فيه أهل
النار فيها ، (فَيَقُولُ
الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع تابع أي يقول الأتباع للمتبعين (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي هل تدفعون عنّا قسطا من النّار.
٤٨ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ...) أي أجابهم المتبوعون (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي نحن وأنتم في النار (إِنَّ اللهَ قَدْ
حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بذلك ، وبأن لا يتحمّل أحد عن أحد ، وإنّه يعاقب من أشرك
به.
٤٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ
جَهَنَّمَ ...) أي استغاث الأتباع (الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ...) أي استغاث الأتباع والمتبوعون وهم في النار بملائكة العذاب
(ادْعُوا رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) إذ لا طاقة لهم على شدة العذاب.
٥٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُمْ ...) قالوا هذا توبيخا وإلزاما (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والبراهين (قالُوا بَلى ، قالُوا
فَادْعُوا) أي نحن لا نقدر أن ندعو ربكم ونشفع لكم عنده بعد أن أتمّ
عليكم الحجة فأنتم ادعوه. فهذا جواب يأس لهم. (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ضياع وعدم التفات.
٥١ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا ...) إلخ أي ننصرهم بوجوه النصر الذي قد يكون بالحجة وقد يكون
أيضا بالغلبة في الحرب ، وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة الإلهيّة ، وقد يكون
بالألطاف والتأييد وتقوية القلب ، وقد يكون بإهلاك العدوّ. (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في يوم القيامة ، جمع شاهد وهم الملائكة والأنبياء
والمؤمنون.
٥٢ ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ ...) أي عذرهم لو اعتذروا يوم القيامة لأنه باطل ، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد عن الرّحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) جهنّم.
٥٣ و ٥٤ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ...) ما يهتدي به في الدّين من المعجزات والتوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ هُدىً) أي أورثنا من بعد موسى لبني إسرائيل الكتاب ، أي التّوراة
يعرفون بها معالم دينهم (وَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ) وتذكير لأصحاب العقول لأنهم الذين ينتفعون بها.
٥٥ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) خطاب للنبي (ص) وأمر له بالصبر على أذى قومه وبشّره بما
وعده من النصر في الدنيا وثواب في الآخرة. (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) وإن لم تكن مذنبا ، بل انقطاعا إلى الله سبحانه ، ولتستنّ
بك الأمّة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي نزّه ربك متلبّسا بالثناء الجميل عليه دائما ، أو كناية
عن الصلوات الخمس.
٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ
اللهِ ...) إلخ أي إن الكفار الذين يخاصمون في دفع حجج الله وإبطالها
بلا حجة وردت عليهم منه سبحانه (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ) أي ليس في قلوبهم إلا عظمة وتكبّر عن الحق والحقيقة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) فهم ليسوا بالغي مرادهم ومقصدهم (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرورهم ومكائدهم (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مر معناه.
٥٧ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...) أي أن خلقهما ابتداء كان من غير أصل ومادّة ، وإعادة
الإنسان تكون من أصل ومادّة فالذي يقدر خلق شيء بلا مادّة هو على خلق ما له مادّة
قادر بالأولى فلما ذا يذعنون لما هو أكبر وينكرون ما هو أهون وهو البعث؟ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) لعدولهم عن التفكر والتدبر فوقعوا في حيرة الجهالة وهوة
الضلالة.
٥٨ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
...) يعني الكافر الجاهل الغافل عن دلائل التوحيد لعدم التدبّر
فيها ، لا يتساوى مع المؤمن العاقل العارف بالتوحيد عن طريق الأدلة والحجج الدالة
عليه. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي لا يكون المحسن العامل بالأعمال الصّالحة مساويا
للمسيّء (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي : تتذكّرون تذكّرا قليلا.
٥٩ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها ...) أي أن القيامة واقعة لا شك من مجيئها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به
وحصره في تقليد آبائهم.
٦٠ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ ...) أي ادعوني في جميع مقاصدكم حتّى أستجيب لكم لو كان في
الإجابة مصلحة مقتضية لها. (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي لا يعبدونني استكبارا وأنفة (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) يعني مهانين أذلّاء.
٦١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) أي لاستراحتكم فيه بأن خلقه باردا مظلما (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مضيئا يبصّر فيه ، (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بهذه النعم تفضلا منه من غير استحقاق لهم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ) أي يجحدونها ويكفرون بها.
٦٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ ...) أي الذي أنعم عليكم بكل هذه النعم هو الله خالقكم وخالق كل
شيء من السموات والأرض وما بينهما. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا يستحق العبادة سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تنصرفون وتعرضون عنه وعن عبادته.
٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا ...) إلخ أي كما أنكم انصرفتم وأعرضتم عن دين الإسلام ، هكذا
ينصرف ويعرض كلّ من يجحد وينكر آيات الله.
٦٤ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
قَراراً ...) أي مسكنا ومستقرّا تسكنون فيها وتدفنون. (وَالسَّماءَ بِناءً) أي كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لأنّ صورة بني آدم أحسن صورة الحيوانات جميعا فهو قائم
معتدل يأكل بيده وغيره يأكل بفيه. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) يعني تعيّن وتميّز أرزاقكم عما جعل للحيوانات الأخر. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الخالق لهذه الأشياء والمنعوت بهذه النعوت هو خالقكم
وهو الله. (فَتَبارَكَ اللهُ
رَبُّ الْعالَمِينَ) إنّه تعالى يقدّس نفسه بربوبيّته لجميع العوالم.
٦٥ ـ (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي المتفرّد بحياته الذاتيّة لا أحد يساويه في ذاته وفي
ألوهيّته. (فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي مخلصين في دعائه وعبادته (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) فيه إضمار كأنه قال : ادعوه واحمدوه على هذه النعم وقولوا
الحمد لله رب العالمين.
٦٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ...) إلخ أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين : أنا منهيّ عن عبادة
أصنامكم التي تعبدونها. (لَمَّا جاءَنِي
الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي بعد مجيء البراهين الواضحة من الله على أن غيره لا
يستحق العبادة. (وَأُمِرْتُ أَنْ
أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أخلص له وأنقاد لأمره الذي يملك تدبير الخلائق
والعوالم.
٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي خلق أباكم آدم من تراب وأنتم سلالته (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم انشأ من ذلك الأصل الذي خلقه من تراب النطفة. وهي
الماء القليل من الرجل والمرأة يختلط في رحمها (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي قطعة من الدم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) أي أطفالا واحدا واحدا. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) أي كمال قوتكم. (ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخاً) بعد ذلك (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي قبل وصول الإنسان للمراتب الثلاث المذكورة (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي يبقيكم لبلوغكم آجالكم المعلومات عند بارئكم والتي
تموتون عند حلولها. (وَلَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) أي تتعقلون تلك العوالم الماضية وهذه الانتقالات من عالم
إلى آخر فتستبصروا وتؤمنوا.
٦٨ ـ (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...) أي الذي أحياكم وخلقكم من تراب بالكيفيّة المزبورة هو الذي
يميتكم ويرجعكم إلى أصلكم ، (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي فإذا أراده وحكم عليه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي يفعل ذلك بلا تجشم كلفة وبلا صوت وبلا احتياج إلى كلام
ونطق.
٦٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجادِلُونَ ...) إلخ ألا ترى يا محمد إلى هؤلاء المشركين المعاندين
المخاصمين لإبطال آياتنا بلا حجة ولا سلطان (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف يقلبون عن التّصديق بها مع كثرتها ووضوحها.
٧٠ إلى ٧٢ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ ...) أي بالقرآن وجحدوه (وَبِما أَرْسَلْنا
بِهِ رُسُلَنا) أي وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا قبلك من كتب وشرائع. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة عدم تصديقهم وسوء خاتمة أمرهم (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي في حال كون الأغلال في أعناقهم. (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي
الْحَمِيمِ) أي يجرّون في الماء الشديد الحرارة. (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي ثم يقذفون في النّار وقودا لها.
٧٣ و ٧٤ ـ (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ ...) إلخ أي يسأل خزنة جهنّم أهل الشّرك والعناد توبيخا : أين
الذين كنتم تعبدونهم من دونه تعالى؟ (قالُوا ضَلُّوا
عَنَّا) أي غابوا عنّا بحيث لم نجدهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي لم نكن ندعوا شيئا يستحق العبادة ولا ما ينفعنا
بعبادته. (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ الْكافِرِينَ) أي كما أنه سبحانه أبطل ما كان مطمع نظر كفرة مكة من
انتفاعهم بعبادتهم لأصنامهم كذلك يفعل بجميع أصناف الكفار فلا ينتفعون بشيء من
أعمالهم.
٧٥ ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ...) إلخ أي هذا العذاب الذي جازاكم الله به بسبب فرحكم في
الدنيا بأمر لم يكن حقا من عبادتكم للأصنام وتكذيبكم للرسل وبسبب أشركم وبطركم.
٧٦ ـ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) وهي سبعة أبواب ، فادخلوها لتستقرّوا (خالِدِينَ فِيها) فهي مقدّرة للتأبيد فيها (فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق ، وبئس مقامهم جهنّم.
٧٧ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) فاصبر يا محمد على أذى قومك وتكذيبهم لك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي أن ما وعد الله به المؤمنين من النصر في الدنيا وثواب
الجنة في الآخرة أمر ثابت واقع لا محالة. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) يعني : فإننا نريك بعض عذابهم الموعود في حياتك من القتل
والأسر. (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا
يُرْجَعُونَ) فنجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه.
٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ ...) إلخ هذه الشريفة نزلت لتسلية النبيّ (ص) وإجمالها أن
الرّسل الذين أرسلناهم قبلك منهم من تلونا عليك ذكره ومنهم من لم نتل عليك ذكره (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي أن الإتيان بالمعجزات ليس إلى الرسول بل إلى الله يأتي
بها على وجه المصلحة (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ) بالعذاب عاجلا أو آجلا (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي حكم بالعدل بين المحق والمبطل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي المعاندون باقتراح الآيات حيث يدخلون النار يوم القيامة
بدل الجنة.
٧٩ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَنْعامَ ...) من الإبل والبقر والغنم ، ويلحق بها الخيل والحمير والبغال
(لِتَرْكَبُوا مِنْها
وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي لتنتفعوا بركوب بعضها وبأكل لحوم بعضها الآخر.
٨٠ ـ (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ...) أي منافع أخرى غير الأكل والركوب كالألبان والجلود
والأوبار والشعور (وَلِتَبْلُغُوا
عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) كالتجارة في البلاد المتقاربة والمتباعدة والزيارة وحج بيت
الله وغير ذلك (وَعَلَيْها) أي على ذوات القوائم كالإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) أي السّفن البحريّة تركبون مع ما كان معكم من الأحمال
والأثقال.
٨١ ـ (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ
اللهِ تُنْكِرُونَ ...) أي هو سبحانه يعرّفكم دلائل قدرته وتوحيده ورحمته ، فأيّ
آيات الله تنكرون بعد وضوحها بحيث لا ينكرها ذو إدراك.
٨٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي بأن يمروا في أقطارها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية التي أهلكناها ، (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا وعدّة (وَأَشَدَّ قُوَّةً
وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) من قصور مشيّدة ومصانع عالية وحصون مرتفعة. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ) من جمع الأموال والجنود والأبنية فإنها جميعا صارت معرضا
للهلاك.
٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ ...) أي فلما أتى هؤلاء الكفار رسلهم الذين دعوهم إلى عبادة
الله وحده وأقاموا لهم الحجج على حقانية ما يدعونهم إليه. (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ) أي أعجبوا بما زعموه علما من شبههم الباطلة في نفي البعث
وإنكار الصّانع وتكذيب الرّسل والكتب السماويّة واحتقروا علوم الأنبياء ودعاويهم (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم وأحاط بهم العذاب جزاء لاستهزائهم وسخريتهم
بالرّسل وعلومهم.
٨٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا ...) أي لمّا شاهدوا شدّة عذابنا قالوا صدّقنا (بِاللهِ وَحْدَهُ) وآمنّا بأنه لا إله إلّا هو (وَكَفَرْنا بِما
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي مشركين بالله بعبادتنا للأصنام.
٨٥ ـ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ
...) إلخ لأن الإيمان الإلجائيّ لا يقبل لأنهم ما آمنوا إلا عند
ما رأوا عذاب الله وشدته (سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سنّ الله ذلك سنّة جارية ماضية في الأمم ، بأن الإيمان
عند البأس لا يقبل (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْكافِرُونَ) بدخول النار وفوت الثواب والجنة.
سورة فصّلت
مكية ، عدد آياتها ٥٤ آية
١ ـ (حم ...) قد قلنا ما هو المختار في معنى هذا وأمثاله فلا نعيده.
٢ ـ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
...) خبر مبتدإ محذوف أي : هذا تنزيل ، الآية.
٣ و ٤ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ...) أي ميّزت وبينت أحكاما وقصصا ومواعظ. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي حال كونه قرآنا متصفا بأنه عربي. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي من العرب أو المراد منهم هم العلماء (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشّرا للمطيعين بالثواب ومنذرا للعاصين بالعقاب (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن التدبّر فيه والتفكّر في كشف أسراره (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يستمعون إليه حينما قرأ القرآن عليهم. بل كانوا
يعرضون عنه وإذا سمعوه بغتة ما كانوا يتأمّلون ولا يفكرون فيه.
٥ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ...) أي في أغشية وأستار (مِمَّا تَدْعُونا
إِلَيْهِ) فلا نفقه ما تقول. (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم ، (وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ستار ومانع
يمنعنا عن التواصل (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا وإبطال دينك.
٦ و ٧ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
...) أي من ولد آدم ، وإنّما خصّني الله تعالى بنبوّته (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) فميزني بالوحي إلي بأن خالقكم واحد لا شريك له في العبادة.
(فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي لا تميلوا عن سبيله وتوجهوا إليه بالطاعة واطلبوا
المغفرة لذنوبكم منه (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ) تهديد لهم بالويل وبنار جهنّم. وقد خسر (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطون الأموال المفروضة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تكرار الضّمير لتأكيد كفر المشركين بالخصوص بعالم البعث
والحساب. وظاهر الشريفة يدل على أنّ الكفّار مكلّفون فروعا وأصولا.
٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا بالله وبرسوله وبالبعث والنشور وفعلوا
الأعمال المرضية لله. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع.
٩ ـ (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ...) أي سلهم يا محمد كيف تجحدون نعمة من خلق الأرض في مقدار
يومين وتنكرون قدرته (وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً) أي شركاء وأشباها من تلك الأحجار والأخشاب التي تنحتونها. (ذلِكَ) أي الذي بهذه القدرة والقوّة (رَبُّ الْعالَمِينَ) هو خالق الكائنات ومالك التصرّف فيها فينبغي أن يعبد وحده.
١٠ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
...) أي خلق في الأرض جبالا ثابتات من فوق الأرض. (وَبارَكَ فِيها) أي أكثر خيرها بالمياه والمعادن والزرع والضّرع (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي النّاشئة منها للناس والبهائم على قدر حاجاتهم (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي غير الأوّلين أو معهما. (سَواءً
لِلسَّائِلِينَ) أي الأربعة متساوية ليس لواحد على الآخر زيادة ولا منه
نقيصة للمستفهمين عن مدة الخلق.
١١ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ...) أي ثم قصد سبحانه إلى خلق السماء وكانت مجرد أجزاء دخانية
أو بخارات متصاعدة من المياه يخيل من بعيد أنها دخان (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) إلخ أي بما خلقت فيكما من النيّرات والكائنات سواء كنتما
طائعتين أو مكرهتين ، أي لا بدّ من إتيانكما طائعتين (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) وهذا السّؤال والجواب ليسا على الحقيقة. فالمراد بإتيانهما
امتثالهما التكوينيّ الذاتيّ ، كما أن المراد بإطاعتهما هي التكوينيّة الذاتيّة.
١٢ ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) أي صنعهنّ بإحكام وإتقان حال كونهنّ سبع سماوات. (فِي يَوْمَيْنِ) قال القمّي : يعني وقتين بدءا وانقضاء. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي ما بها يتعلّق أو لا يتعلّق بأهلها من الطاعات
والعبادات. وهذا الوحي وحي تقدير وتدبير. (وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي النيّرات التي تضيء كالسّرج (وَحِفْظاً) أي حفظناهن حفظا عن استماع الشياطين (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي أن كلّ ما ذكر من بدائع الصّنايع هو خلقة صانع العالم
من العدم الغالب على كلّ شيء ، والواجد لكمال العلم.
١٣ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا ...) أي إذا أعرضوا عن الإيمان بعد إتمامنا الحجة عليهم (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي يا محمد قل للمشركين إن ربّي هكذا يقول : كما أهلكنا
عادا بريح صرصر عاتية وثمود بصيحة جبرائيل المهلكة كذلك هؤلاء الكفرة نهلكهم بأشدّ
عذابنا وأيسر ما يكون إهلاكهم علينا.
١٤ ـ (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ...) أي أتتهم الصاعقة حين أتتهم الرسل ينذرونهم أو يحذرونهم
بما مضى من هلاك الكفرة وما يأتي من عذاب الآخرة. (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ) أي أرسلناهم لينذروهم بألا يعبدوا إلا الله. (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) أي قال المشركون لو أراد الله أن يرسل إلينا رسولا فلا بدّ
أن يبعث إلينا من غير نوعنا بل من الملائكة (فَإِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم (كافِرُونَ) حيث نظنّكم كاذبين فيما ادّعيتم به.
١٥ ـ (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ ...) إلخ أي قوم عاد عتوا وتجبّروا (وَقالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فاغترّوا بقوتهم الظاهريّة لما هددهم عاد بالعذاب فقالوا
نحن نقدر على دفعه بقوتنا. (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ...) أي الذي كان أعطاهم تلك القوّة والقدرة هو يقدر أن يسلبها
منهم ويهلكهم (وَكانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ) أي ينكرونها.
١٦ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً ...) أي عاصفا شديد الصّوت من الصّرّة وهي الصّيحة وقيل ريحا
باردة من الصّر (فِي أَيَّامٍ
نَحِساتٍ) أي مشؤومة عليهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فعلنا ذلك بهم لنذيقهم في الحياة الدنيا عذاب الهوان
والذّل ، (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَخْزى) أي أفضح وأذل (وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ) أي ليس لهم ناصر ولا معين حتى يدفع عنهم العذاب.
١٧ ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ...) أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرّسل (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي آثروا على الهداية الضلالة (فَأَخَذَتْهُمْ) أي أهلكتهم (صاعِقَةُ الْعَذابِ
الْهُونِ) أي عذاب الذلّ والحقارة. (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي بسبب شركهم وتكذيبهم نبيّهم صالحا وعقرهم الناقة.
١٨ ـ (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ ...) أي نجّينا صالحا والمصدقين به ممن كانوا يتجنبون الشرك
والمعاصي من الصاعقة المهلكة.
١٩ و ٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ ...) أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي إذا اجتمعوا ووقفوا قبالتها. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إذا جاؤوا النار التي وعدوها سئلوا عن أعمالهم فأوّل ما
يشهد عليهم بإنطاق الله له هو السّمع ، وبعد ذلك الأبصار ، وبعدها الجلود بما صدر
عنهم من الأعمال القبيحة والأقوال السيّئة.
٢١ ـ (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا ...) أي يقول الكفرة لجوارحهم على سبيل التّوبيخ أو التعجّب أو
العتاب لم شهدتم علينا بما فعلناه في الدنيا من القبيح. (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي الله تعالى أعطانا قوّة النطق وعلّمنا البيان وألهمنا
الشهادة والاعتراف بما عملناه وفعلناه. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة.
٢٢ ـ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ...) إلخ أي عند ارتكابكم القبائح كنتم تستخفون بها لكنّكم لم
تتمكنوا من أن تستتروا بأعمالكم عن أعضائكم التي أنتم بها تفعلون ما كنتم تعملون ،
فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة. (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ
أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي عملتم عمل من ظن أن عمله يخفى على الله وذلك لجهلكم
بالله تعالى فهان عليكم.
٢٣ ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ ...) أي ذلك الظن بربّكم (أَرْداكُمْ) أي أهلككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ
الْخاسِرِينَ) باستبدالكم بالجنة النار.
٢٤ ـ (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ ...) أي فإن يصبروا على النار وآلامها وأمسكوا عن شكواهم أم لم
يصبروا فالنّار مستقرّهم (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي ولو سألوا الله أن يرضى عنهم ويقبل عذرهم فما هم ممن
يرضى عنه ويقبل عذره.
٢٥ ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ...) أي قدّرنا لهم أخذانا من الشياطين ، (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ) أي حسنوا من أمور الدّنيا ومتاع الحياة وحظوظها ولذائذها
فجدّوا في طلبها. (وَما خَلْفَهُمْ) أي بأن كان هؤلاء الشياطين يوسوسون إليهم أن لا بعث ولا
نار ولا جنّة ولا سؤال فينكرونها من أصلها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ) أي الوعيد بالعذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي في جملة الأمم الماضية. (مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ) لأنهم عملوا مثل أعمالهم (إِنَّهُمْ كانُوا
خاسِرِينَ) أي خسروا نعيم الجنة كما كان أولئك من الخاسرين قبلهم.
٢٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ...) أي قال رؤساء الضّلالة لأتباعهم لا تصغوا لهذا (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) بأن عجّزتموه عن مقاومتكم فلا يعارضكم بعد ذلك بقراءة
قرآنه.
٢٧ ـ (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَذاباً شَدِيداً ...) بالأسر والقتل في الدنيا ، قيل عني يوم بدر ، وقيل في الآخرة
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجزيهم بأقبح جزاء على قبح عصيانهم وهو الشّرك والكفر.
٢٨ ـ (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ
...) أي ما تقدم الوعيد به لأعداء الله الذين عادوه بالكفر
والعصيان وحاربوا أولياءه ، وهو الكون في نار جهنم. (لَهُمْ فِيها دارُ
الْخُلْدِ) أي جهنم هي مسكن إقامتهم الدائميّ (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ) أي عقابا لهم بسبب إنكارهم لكون القرآن من عند الله.
٢٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي أن رؤوس الكفر والضّلال يسألون الله حين يصيرون في
النار (رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي شيطاني الجنسين الداعيين لنا إلى الضّلالة والعناد (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أي ندوسهما انتقاما منهما (لِيَكُونا مِنَ
الْأَسْفَلِينَ) أي في الدرك الأسفل من النار فيكون عذابهما أشدّ من
عذابنا.
٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) أي وحّدوه وصدّقوا رسله ثم استمرّوا على هذا الأمر (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت أو عنده وفي القبر والقيامة ، (أَلَّا تَخافُوا) أي يبشّرونهم بأن لا تخافوا ممّا أمامكم من العقبات
والمواقف (وَلا تَحْزَنُوا) على ما أخلفتم من ولد وأهل وأموال (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا على ألسنة الأنبياء.
٣١ ـ (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ...) أي نحن معاشر الملائكة احباؤكم نتولّى أموركم من حفظكم
وإلهامكم الخير وغير ذلك في الحياة الدّنيا (وَفِي الْآخِرَةِ) بأن نشفع لكم ولا نفارقكم حتى ندخلكم الجنّة (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ) أي في الآخرة من أنواع النّعم واللذائذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي ما تتمنّون وتطلبون.
٣٢ ـ (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ...) أي جميع ذلك عطاء وفضل ذو بركة من ربّ كثير المغفرة
والرّحمة.
٣٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا
إِلَى اللهِ ...) استفهام يراد به النفي ، وتقديره : وليس أحد أحسن قولا
ممّن دعا إلى توحيد الله وطاعته وأضاف إلى ذلك (وَعَمِلَ صالِحاً) ليقتدى به فيه. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) أي وأضاف إلى الدّعوة القوليّة والعمليّة الخالصة إظهار
إسلامه.
٣٤ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ...) أي لا تستوي الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة وقيل معناها
لا تستوي الملّة الحسنة أي الإسلام ، والملة السيّئة وهي الكفر. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) خطاب منه سبحانه إلى نبيه (ص) ادفع بحقك باطلهم وبحلمك
جهلهم وبعفوك إساءتهم ، فإنك إن فعلت ذلك (فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) أي عداوة دينيّة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ) أي يصير العدوّ بسبب إحسانك إليه في مقابل إساءته كالصّديق
المحبّ القريب.
٣٥ ـ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا ...) أي لا يعطى هذه الخصلة الحميدة ، وهي مقابلة الإساءة
بالإحسان ، إلّا أهل الصّبر. (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي الذين لهم نصيب وافر من العقل وكمال الإيمان وقيل الحظ
العظيم الجنة.
٣٦ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ ...) أي وإن أغراك الشيطان ليصرفك بوسوسته عمّا أمرت به من
الدفع بالّتي هي أحسن. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فاطلب الاعتصام من شره بالله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.
٣٧ ـ (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ
...) أي من آثار توحيده وعلائم قدرته التي أظهرها على جميع خلقه
الليل والنهار بإظلام الأول وإضاءة الثاني وتدبيرهما على نظام مستمر وتقديرهما على
وجه مستقر. (وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) بما لهما ممّا اختصّا به من النور وغيره وما ظهر فيهما من
دقة التدبير وحكمة التصريف في فلك التدوير. (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) أي لا تعبدوهما على ما فيهما من المنافع لأنّهما مخلوقان
مأموران مثلكم (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَ) إلخ أي لو أردتم السجود لشيء فاسجدوا لله الذي خلق الأشياء
بقدرته وأخرجها من كتم العدم إلى صفحة الوجود فهو المستحق للعبادة دون غيره.
٣٨ ـ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ...) فإن استكبروا عن السجود لله وتوجيه العبادة إليه (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي لا يزالون مشغولين بالامتثال لأوامره (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون من العبادة بأيّ كيفيّة كانت.
٣٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ
خاشِعَةً ...) أي ومن أدلته على ربوبيته وقدرته أنك ترى الأرض غيراء
يابسة متذلّلة. (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي تحركت بما نبت عليها وانتفخت بالنّبات وكثرة الربع (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي الذي هو قادر على إحياء الأرض بالنبات بعد إماتتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي هو قادر على إحياء البشر بعد الموت (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) واضح المعنى.
٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ...) أي يميلون عن الدّين ويطعنون (فِي آياتِنا) حججنا ودلائلنا (لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنا) بأشخاصهم وأفعالهم وأقوالهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام تقرير وتوبيخ معناه أن الملحد الذي يلقى في النار
خير أم من يأتي يوم القيامة مأمونا من عذاب الله وهم المصدقون بالله ورسوله.
والمعنى لا يستويان. (اعْمَلُوا) مختارين من الطريقتين (ما شِئْتُمْ) أي ما أردتم فلكم الخيار. (إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم خفية أو علانية فيجازيكم بها.
٤١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ ...) أي بالقرآن وجحدوه. وخبر إن محذوف والتقدير : ننتقم منهم. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي غالب بقوّة حججه أو معناه ، عديم النظير.
٤٢ ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ ...) أي من ناحية التوراة ولا من قبل الإنجيل والزّبور (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله أو يتقدّم عليه بحيث
ينسخه. (تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي عالم بوجوه الحكمة مستحق للحمد على خلقه بالإنعام عليهم
بالقرآن وغيره.
٤٣ ـ (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ...) أي أن الذي يقوله هؤلاء الكفرة من قومك لك ، ليس أمرا ما
له من نظير ، بل هذا هو الذي قد قيل للرّسل والأنبياء قبلك من تكذيب أقوامهم
والجحود لنبوّتهم وإنكار فضائلهم وكتبهم من عندي (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) أي لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم. وقيل الوعد والوعيد هنا عامّان.
٤٤ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً
أَعْجَمِيًّا لَقالُوا ...)
أي لو أنزلنا هذا
القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا. (لَوْ لا فُصِّلَتْ
آياتُهُ) أي بيّنت بلغتنا حتى نفهمها ونعمل بها (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي لقالوا مستنكرين هل كلام أعجميّ والمخاطب عربيّ والنبيّ
عربيّ؟ (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً) من الضّلالة (وَشِفاءٌ) للقلوب المريضة بأمراض الشّك والرّيب (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي لمّا لم ينتفعوا به فكأنّهم في آذانهم ثقل وصمم إذ ليس
لهم قابليّة الهداية. (وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى) أي لتعاميهم وعدم استفادتهم من القرآن فكأنّهم عمي لا
يبصرون آياته المرشدة إلى طريق الحق. (أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي مثلهم مثل من كان في مسافة بعيدة بحيث كلّما يصاح به
فلا يسمع النّداء.
٤٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) لأنه آمن به قوم وصدّقوه ، وكذّبه آخرون كما اختلف في
القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي الوعد بالإمهال لأمّة محمد (ص) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم بين الجاحدين والمكذّبين باستئصالهم وإهلاكهم
كالأمم السّابقة. (وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي إن قومك شاكّون أعظم الشك بالقرآن أنّه كتاب من عندنا
نزل عليك.
٤٦ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) أي ثواب عمله راجع إليه لا إلى غيره (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من الفسوق والعصيان فضرره على نفسه لا على غيرها (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ليس يفعل بهم ما ليس له أن يفعل ، بأن ينقص من أجر
المطيع ، أو يزيد في عقاب العاصي ، أو يعاقب المطيع ويثيب العاصي.
٤٧ و ٤٨ ـ (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) أي وقت القيامة التي يقع فيها الجزاء فإنه ممّا خصّ سبحانه
ذاته المقدسة به فلا يعلمه غيره (وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) جمع كمّ أي أوعيتها قبل أن تنشقّ عن الثمرة (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي كلّ ذلك مقرون بعلمه سبحانه واقعا حسب تعلّقه به ، فكما
أن علم قيام السّاعة خاصّ بذاته المقدّسة فكذلك علم الثمار من حيث كيفيّة الأنواع
وكبرها وصغرها وطعومها وروائحها وألوانها ونضجها ، وعلم الأجنة وكونها ذكورا
وإناثا وتامة من حيث الخلقة أو ناقصة وحسنة أو قبيحة وغير ذلك. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي ينادي الله المشركين أين من كنتم تزعمون أنهم شركائي في
الربوبية. (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ
شَهِيدٍ) أي ليس منا شاهد يشهد بأن لك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ
مِنْ قَبْلُ) أي غاب عنهم معبودهم الذي كانوا يعبدونه في الدّنيا من
الأصنام (وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) أي أيقن المشركون أنه ليس لهم مهرب من عذاب ربّهم.
٤٩ ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ ...) قال القميّ أي لا يملّ ولا يعيا من أن يدعو لنفسه بالخير
في الدّنيا (وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ) بزعمه كالفقر والمرض وغيرهما من العوارض الدنيويّة (فَيَؤُسٌ) أي آيس كثيرا من رحمة ربّه أو من إجابة الدّعاء ، (قَنُوطٌ) أي يظنّ به تعالى ظنّ السوء.
٥٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا ...) أي لئن رزقناه خيرا وعافية وغنى (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذه الرحمة أنا أستحقّها بعملي. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي كائنة كما يقول المسلمون ومفاده إنكار البعث (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) أي على فرض صحة ما يزعمه المسلمون وأنا بعثت وحشرت ولقيت
ربّي (إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى) أي لي عند الله الحالة الحسنة من الكرامة والنّعمة كما
أكرمني وأنعم عليّ في الدّنيا. (فَلَنُنَبِّئَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) فلنخبرنهم يوم القيامة بما عملوا من قبائح الأعمال ومساوئ
الأقوال (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي عذاب شديد كمّا وكيفا.
٥١ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ ...) بالصحة والثروة وغيرهما (أَعْرَضَ) أدبر عن الشكر (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي انحرف بجنبه تكبرا عن الاعتراف بنعمة الله عليه. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الفقر والفاقة والمرض والعاهة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي فهو في تضرّع شديد ودعاء عظيم مستمر ليكشف الله عنه ذلك
البلاء فهو يجأر بالدعاء في الشدة ويعرض عنه في الرخاء.
٥٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أخبروني إن كان هذا القرآن
في نفس الأمر من عند الله كما أقول (ثُمَّ كَفَرْتُمْ
بِهِ) وجحدتموه عنادا (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف عن الحقّ والصواب ، وبعيد عن الصلاح؟ يعني أنتم
أضلّ الناس لأنكم تعاندون الحق وتكذّبون بالقرآن وتنكرون نبوّة النبيّ استكبارا
وجهالة.
٥٣ ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ ...) أي عمّا قريب نريهم دلائلنا في آفاق العالم وأقطار السماء
والأرض من النيّرات وغيرها وفي أنفسهم وما فيها من الحكمة والتدبير والإتقان. وقال
ابن عباس : (فِي الْآفاقِ) أي منازل الأمم الخالية وآثارهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يوم بدر. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي حتى يظهر لهم أن الله هو الحق. أو أن القرآن حق من عند
الله الحق. (أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الاستفهام تقريري أي أنّ الكفار وإن أنكروا نبوّتك لكنّه
سبحانه كاف لك في كونه شاهدا على صدقك وعلى أن القرآن من عنده سبحانه كما تقول فهو
حسبك ولن يضروك بتكذيبهم لك.
٥٤ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
لِقاءِ رَبِّهِمْ ...) كلمة (أَلا) للتّنبيه والتّأكيد بأن الكفار بعد في شكّ من وجود الصّانع
تعالى ومن يوم البعث ومجازاتهم (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي وسع كل شيء علما فلا تخفى عليه خافية.
سورة الشورى
مكية ، عدد آياتها ٥٣ آية
١ و ٢ ـ (حم عسق ...) أشرنا سابقا إلى الرأي في الحروف المقطعة في أوائل بعض
السور. ومن جملة ما قيل إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء للنبيّ محمد (ص)
وكلّ واحد منها بمناسبة ويرمز إلى سرّ من الأسرار لا يعلمه إلا الله والرّاسخون في
العلم.
٣ ـ (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ...) أي مثل الذي في هذه السّورة من المعاني يوحي الله تعالى
إليك (وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرّسل (اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه.
٤ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) أي هو مالكهما ومدبرهما والمتصرف فيهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) المستعلي على كل قادر العظيم الشأن.
٥ ـ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ
فَوْقِهِنَّ ...) أي قرب أن تتشقّق كل واحدة من السّماوات من فوق التي تليها
من عظم أن للرّحمان ولدا أو لنسبة الشريك له (وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزّهون الله عمّا لا يليق به حال كونهم يشتغلون بذكر
ثنائه الجميل بما يليق به تعالى. (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين. (أَلا إِنَّ اللهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) المعنى ظاهر وقد مر.
٦ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ ...) أي اتّخذوا آلهة عبدوها من الأصنام يعني كفار مكة الّذين
عبدوا الأصنام وغيرها (اللهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ) أي محص ومراقب لأحوالهم وجميع شؤونهم فلا يفوته شيء منها
وهو مجازيهم بها. (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بمفوّض إليك يا محمد أمرهم حتى تدخلهم في الإيمان قهرا.
٧ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...) إلخ أي مثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب
التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم ، أوحينا إليك قرآنا بلغة قومك العرب (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أهل مكّة. (وَمَنْ حَوْلَها) أي أطرافها. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ) أي تنذرهم يوم يجمع فيه الخلائق ، أي يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ في حصوله. (فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي في ذلك اليوم يكون الناس على قسمين ليس لهم ثالث : قسم
في الجنّة بطاعتهم ، وآخر في النار بمعصيتهم.
٨ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
واحِدَةً ...) أي لو أراد الله لحملهم وقسرهم على دين واحد وهو الإسلام ،
لكنّه لم يفعل لأنه مناف لأمر التكليف ويؤدّي إلى إبطاله ، (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي
رَحْمَتِهِ) أي بالهداية
لقبولهم الإيمان والطاعة. أو المراد بالرّحمة هي الجنّة. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ) أي أهل الكفر والضّلالة لا وليّ لهم يواليهم ولا ناصر يدفع
عنهم العذاب.
٩ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ ...) أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام
يوالونهم بقصد الانتفاع بهم (فَاللهُ هُوَ
الْوَلِيُ) المستحق للولاية حقيقة دون غيره لأنه المالك للنفع والضرر (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) أي يبعثهم للحساب والجزاء. (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه. وحاصل المعنى أنه لا ينبغي أن تترك عبادة ولا
ولاية هذا الذي بهذه الصفات من العلم والقدرة والحكمة ينشئ الخلق من العدم وبيده
أزمة الأمور ويوالي ويعبد ذاك الذي هو أعجز من كل عاجز لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا
كالأصنام وغيرها.
١٠ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
...) أي من أمور دينكم أو دنياكم (فَحُكْمُهُ إِلَى
اللهِ) أي مفوّض إليه يفصل بينكم بإثابة المحق ومعاقبة المبطل (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) فالذي يتّصف بصفة الحكومة الحقّة ولا يجور في حكمه أبدا هو
الله وهو ربّي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهمات أموري كلها (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع إليه في مهمات أموري كلها (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع إليه في جميعها.
١١ ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي خالقهما ابتداء (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) من جنسكم نساء ، أو المراد بالأزواج هو الذكور والإناث (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى ليكمل الانتفاع بها (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ينشركم ويكثّركم بسبب جعله لكم أزواجا وذلك بالتناسل. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي أنه متفرّد في صفاته وفي ذاته القدسيّة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مر معناه.
١٢ ـ (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) أي مفاتيح خزائنهما ، وقيل مفاتيح الأرزاق وأسبابها فتمطر
السّماء بأمره وتنبت الأرض بإذنه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسّعه (وَيَقْدِرُ) أي يقتّر ويضيّق ، (إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) ظاهر المعنى وقد مر.
١٣ ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً ...) إلخ أي سنّ لكم شريعة ونهج منهاجا وأوضحه لكم وأظهره ، وهو
ما وصّى به نوحا ، والخطاب إلى أمّة محمد (ص) وهو ما أوحينا إليك يا محمد وهو ما
وصينا به هؤلاء الأنبياء المذكورين (أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي شرع لكم أن أقيموا الدّين أي أصوله. أي تمسكوا به جميعا
وخذوا به ولا تختلفوا فيه (كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم عليهم وصعب ما تدعوهم إليه من التوحيد والنبوّة
والمعاد وترك الأصنام (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ) أي يختار إلى دينه (مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) من يقبل إليه ويقبله ويستقبله بقلبه ، ولا يوفّق إليه
المعاند والجاحد.
١٤ ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ ...) أي تفرّق أهل الكتاب أو أهل الأوثان والأديان بعد العلم
والعرفان بصدق الأنبياء وحقانيّة ما جاؤوا به (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا بين الرّسل وبينهم ، أو بين بعضهم مع البعض
الآخر طلبا للرئاسة ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولولا وعد الله وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم وتأخر
العذاب عنهم لفصل بينهم الحكم وأنزل بهم العذاب الذي استحقوه عاجلا. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ
مِنْ بَعْدِهِمْ) أي اليهود والنّصارى الذين أورثوا التوراة والإنجيل ، من
بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ) لفي شك شديد من القرآن أو من محمد (ص).
١٥ ـ (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ ...) أي لأجل الاختلاف الذي صار سببا للتفرّق وقيل : إلى ذلك
الدين وهو الإسلام. ادع الخلق يا محمد واثبت على أمر الله واعمل بموجبه. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا توافقهم فيما يميلون إليه ولا تسر على أثرهم أبدا (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ
مِنْ كِتابٍ) أي قل لهم : إني آمنت بجميع الكتب السماوية التي نزلت عليّ
وعلى سائر الأنبياء الذين كانوا قبلي وصدّقتها (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي بأن أعدل بينكم في الدعوة بأن أدعوكم إلى التوحيد
والوحدة يستوي في ذلك منكم الأشراف والوضعاء والأعالي والأداني. (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي وقل لهم أيضا الله مدبرنا ومدبركم والمنعم علينا وعليكم
وأن لكلّ عمل جزاؤه (لا حُجَّةَ) أي لا خصومة (بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ) لظهور الحقّ (اللهُ يَجْمَعُ
بَيْنَنا) وبينكم يوم فصل القضاء (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي المرجع.
١٦ ـ (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ...) أي يخاصمون في دين الله وهم اليهود والنّصارى قالوا كتابنا
قبل كتابكم ونبيّنا قبل نبيّكم ونحن خير منكم (مِنْ بَعْدِ ما
اسْتُجِيبَ لَهُ) أي لرسوله من بعد ما دخل الناس في الإسلام وأجابوه إلى ما
دعاهم إليه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي باطلة ، فإنّهم زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من ربّهم لأجل كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) دائم يوم القيامة.
١٧ ـ (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ ...) أي جنس الكتاب أو القرآن ، متلبسا بالغرض الصّحيح (وَالْمِيزانَ) كناية عن منهج الشرع المعتدل المستوي ، أو المراد به ما هو
المتعارف بين الناس الذي توزن به الأشياء ، (وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي قادمة ولكنها غير موقتة بوقت تعرفونه لأن علم الساعة
خاصّ بذاته المقدّسة.
١٨ ـ (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِها ...) لجهلهم بأهوالها وعدم تصديقهم بقيامها ولذا فهم يطلبون
قيامها فيقولون للنبي (ص) على وجه السخرية متى تقوم؟ (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون ووجلون منها لعلمهم بأنه يوم جزاء الأعمال (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي الواقع الثابت بلا ريب (أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي اعلموا أن المشركين الذين يجادلون في القيامة إنكارا
لها لفي الضلالة البعيدة عن الصواب.
١٩ ـ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ...) أي يعمّهم ببرّه بحيث إنهم لا يدركونه ، ولم يعاجل مسيئهم
بالعقوبة لعلّه يتوب ويستغفره فيغفر له ، (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) على مقتضى حكمته (وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ) واضح المعنى.
٢٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ...) أي الذي كان بعمله في الدنيا طلبا لثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي نضاعف له الواحد بعشرة ونزيد لمن نشاء. (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما تقسمنا له وقدّرناه في دنياه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيّات.
٢١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ الدِّينِ ...) إلخ الاستفهام للتقريع والتقرير أي : بل لهم شركاء من
الشياطين شرعوا لهم بالتسويل دينا لم يسمح ولم يرض به كالشّرك وإنكار الصّانع من
بعض هؤلاء وإنكار البعث ، (وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لولا الوعد بتأخير الجزاء والفصل بين المؤمنين والكفرة
يوم القيامة لفرقنا وفصلنا بينهم في الدنيا ، (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أعدّ لهم العذاب المؤلم الشديد يوم القيامة.
٢٢ ـ (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
كَسَبُوا ...) أي خائفين يوم القيامة حين معاينة العذاب من جزاء ما عملوا
من المعاصي والقبائح. (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي والحال أنّ ما يخافون منه حالّ بهم لا محالة فلن ينفعهم
خوفهم منه في رده عنهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين صدّقوا بالله ورسوله وعملوا بالطاعات (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي في حدائق الجنان متنعّمون بأكمل النّعم وأتمّها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي حال كونهم عند ربهم فإن لهم ما يشتهون من النعيم. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ما ذكر من كرم الله وتفضلاته على عباده الصالحين هو
إحسان جليل عظيم لا يعادله إحسان غيره.
٢٣ ـ (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ
...) الإشارة إلى الفضل الكبير (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان للعباد المبشّرين بالنّعم المذكورة آنفا أي بشرهم
الله به (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) أي قل لهم يا محمد : لا أطلب منكم على ما أنا عليه من
التّبليغ أجرة (إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبى) أي إلّا أن تودّوني في أهل بيتي. (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب مودّة آل الرّسول وقيل إن اقتراف الحسنة هو
اكتساب مطلق الطّاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها
حُسْناً) أي بتضعيف الثواب في الحسنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للسيّئات (شَكُورٌ) للحسنات.
٢٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ...) أي بل يقولون افترى وكذب محمد على الله كذبا بادعائه
الرسالة من الله (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي لو حدّثت نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبع الله على
قلبك ولأنساك القرآن وهذا على سبيل الافتراض. والتشبيه. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي يزيله ويرفعه بإقامة الدّلائل على بطلانه (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يثبته بالكلمات النّازلة في قرآنه من الحجج ، وقيل
بوحيه (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائر القلوب وما يخطر فيها من الخير والشر.
٢٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ ...) هذه الآية الكريمة أرجى آية في كتاب الله حيث إنها مطلقة
من ناحية قبول التوبة عن العصيان وإن عظمت المعصية بشرط كونها نصوحا (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) يتجاوز سبحانه عنها بالغا ما بلغت (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي من خير وشرّ فيجازيكم على ذلك.
٢٦ ـ (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ أي يجيبهم إلى ما يسألونه (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي على ما فعلوا واستحقّوا بالطّاعة أو بالاستجابة. وقيل
إن الاستجابة بمعنى قبول الطاعة والإنابة ، والزّيادة باعتبار الثواب (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) استحقّوه بكفرهم ومعاداتهم لمحمد (ص).
٢٧ ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ ...) أي وسّعه عليهم (لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ) أي لبطروا وأفسدوا في الأرض ظلما وعدوانا (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي بمقدار أنه يصلحهم في دينهم ودنياهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي يعلم ويرى ما يناسبهم في أوضاعهم وأحوالهم على حسب
مصالحهم.
٢٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ...) أي أنه سبحانه هو وحده الذي ينزل الغيث وهو المطر الّذي
يكون نافعا في وقته. (مِنْ بَعْدِ ما
قَنَطُوا) أي بعد يأسهم من نزوله. (وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ) أي يفرق نعمته ويبسطها بإخراج النبات والثمار (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الذي يتولّى أمر عباده بإحسانه ونشر رحمته ويستحقّ الحمد
على جميع أفعاله.
٢٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي من الدّلائل الدّالة على التوحيد والقدرة إنشاء
السماوات والأرض ابتداء لما فيهما من عجائب الصّنع وغرائب الخلقة ، (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي فرّق فيهما ونشر ، من كل ما يدب على الأرض. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ
قَدِيرٌ) أي أنه تعالى على حشرهم وبعثهم إلى الموقف بعد إماتتهم
قادر متمكّن.
٣٠ ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ...) وما حدث لكم من بلية في نفس أو مال (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من المعاصي (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) من تلك المعاصي فلا يعاقب عليها تفضلا منه.
٣١ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ ...) أي يا مشركي العرب لستم بقادرين أن تعجزوني ولا أن تسبقوني
هربا في الأرض (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنكم عقابه (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم عليه.
٣٢ و ٣٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ
...) أي من حججه الدالة على اختصاصه سبحانه بصفات لا يشركه فيها
أحد هي السّفن الجارية في البحر (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال. (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي لو أراد الله لأوقف الريح عن حركتها وهبوبها فتصير
السّفن ثوابت متوقّفة على سطح الماء. فمحرّك الرياح ومسكنها هو الله ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيما ذكر من آياته تسخير الرّياح وإجراء السّفن
وتسكينها دلالات واضحات لكل كثير الصبر على أمر الله كثير الشكر لنعمه.
٣٤ ـ (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ...) عطف على جملة (يُسْكِنِ الرِّيحَ) أي إن شاء سبحانه أن يجعل الريح عاصفة فيهلكهنّ بأهلهنّ
بالغرق في الماء. عقوبة بما كسبوا من المعاصي (وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ) من أهلها بإنجائهم تفضّلا منه سبحانه.
٣٥ ـ (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ...) عطف على العلّة المقدّرة. وتقدير الكلام أنه تعالى يوبق أهل
السفن ويغرقهم لينتقم منهم وليعلم الذين يخاصمون نبيّنا (ص) (فِي آياتِنا) في إبطال حججنا (ما لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ) أي من ملجإ يلجأون إليه من عذابنا.
٣٦ ـ (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا ...) أي ما أعطيتم من الأموال والأولاد وغيرهما فإنما هو عارية
تستمتعون به مدة قليلة ثم تموتون وتتركونه وراءكم. (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة ونعيم الجنّة (خَيْرٌ وَأَبْقى) من ذلك المتاع إذ لا ينقص ولا ينقطع ، (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) للذين صدّقوا بالله ورسوله وفوضوا أمورهم إلى خالقهم.
٣٧ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ ...) أي إن ما عند الله للّذين يجتنبون الكبائر : والكبائر فيها
أقوال ، والمشهور أنّها ما ذكر في القرآن وأوعد عليه النّار. (وَالْفَواحِشَ) جمع فاحشة ، وهي أقبح كالشّرك أو إنكار الصانع تعالى أو
الزنا. (وَإِذا ما غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ) أي والذين إذا تملكتهم القوة الغضبية مما يفعل بهم
يتجاوزون عن المسيئين إليهم.
٣٨ ـ (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ...) ومعناه : والّذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من الإيمان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ
شُورى بَيْنَهُمْ) أي لا يتفردون بأمر ولا يقدمون عليه حتى يفاوضوا غيرهم فيه
ليتضح الحق. (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يبذلونه في طاعة الله وسبل الخير.
٣٩ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ ...) أي إذا أصابهم من الكفار ظلم وتعدّ فيتكاتفون عليهم حتى
يأخذوا منهم بحقّهم وينتقمون منهم.
٤٠ ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
...) هذه الكريمة تبيّن واجب المنتصر بأنه لا يجوز التعدّي في
مقام الانتصار عما جعله الله له ، نظير قوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ)(فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي تجاوز عن حقّه ، وأصلح بينه وبين خصمه وبينه وبين ربه
فثوابه على الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) في هذه الجملة إشعار بأن الانتقام من المنتصر ليس بمأمون
من التجاوز والاعتداء فيقع المنتصر في مهلكة الظلم والعدوان والله لا يحب الظالم
في قصاص وغيره بتعديه عما هو له إلى ما ليس له.
٤١ ـ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ...) أي بعد ما ظلم وتعدّي عليه فانتصر لنفسه وانتصف من ظالمة
في أخذ حقه (فَأُولئِكَ) أي فالمنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ
سَبِيلٍ) أي من إثم وعقوبة وذمّ.
٤٢ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ ...) أي الإثم والعقاب على الذين يظلمون الناس ابتداء بغيا
وعدوانا (وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ) إلخ أي يتكبّرون ويفسدون فيها ويظلمون الآخرين. بلا مجوّز
دينيّ ولا عقلي ، (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع على ظلمهم وبغيهم.
٤٣ ـ (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ...) أي صبر على الأذى وتحمّل المشاقّ وغفر أي صفح ولم ينتصر مع
قدرته على ذلك (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر والصّفح من الأمور الثابتة التي يحبّها الله
وأمر بها.
٤٤ ـ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ...) أي يخلّيه وضلاله ، فليس له ناصر يتولّى أمره من بعد خذلان
الله له (وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين يرونه معاينة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى
مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي إلى رجعة إلى الدّنيا.
٤٥ ـ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ...) أي يا محمد ترى الظالمين يوم حشرهم يعرضون على النّار قبل
إدخالهم فيها ويدل هذا على أنهم من أهل النار (خاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِ) أي متواضعين تواضع ذلّة وحقارة (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي يسارقون النظر بأطراف عيونهم إلى النار عند عرضهم عليها
(وَقالَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي بالتعريض للعذاب المخلّد. فأمّا أنفسهم فبعبادة الأوثان
، وأمّا أهاليهم فلإضلالهم إيّاهم ومنعهم عن الإيمان (أَلا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي فليعلم أن المشركين في عذاب دائم لا ينقطع أبدا.
٤٦ ـ (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ ...) إلخ أي ليس للظّالمين من أنصار يدفعون عنهم العذاب لا فيما
عبدوه من دون الله ولا فيمن أطاعوه في معصيته. (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي كلّ من يخلّيه الله مع ضلالته لجحوده وعناده فليس له
طريق إلى الهداية والرشاد.
٤٧ ـ (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ...) أي أجيبوا داعي ربّكم يعني محمدا (ص) (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي قبل يوم القيامة إذ لا رجوع للدّنيا بعده ولا يردّه
الله بعد إتيانه (ما لَكُمْ مِنْ
مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي من معقل وملاذ (وَما لَكُمْ مِنْ
نَكِيرٍ) أي إنكار لتغيير العذاب لما اقترفتموه ، فهو مثبت في صحائف
أعمالكم.
٤٨ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا ...) أي فإن تولّى الكفار عما دعوتهم إليه (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي حافظا وحارسا لهم من كفرهم إجبارا وإكراها وسوقهم إلى
دائرة الإيمان ، (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) أي تبليغ الأحكام وإيصالها إلى أفهامهم (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ
مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أي بطر وسرّ برحمة ربّه. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي كثير الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البليّة ويستعظمها
ولا يتعقل بأنها بسبب ما قدمت يداه.
٤٩ و ٥٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) أي له أمر تدبيرهما والتصرف فيهما بلا مانع. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ
يَشاءُ إِناثاً) فلا يولد له ذكر وهذه الجملة بدل من يخلق ، بدل بعض من
الكلّ (وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشاءُ الذُّكُورَ) أي فلا يولد له أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً) أي أو يجمع لهم بين البنين والبنات. (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي من الرجال والنساء هو الذي لا يلد ولا يولد له وأمره
سبحانه في كل ذلك على وفق ما يراه من المصلحة وما تقتضيه حكمته. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي عارف بمصالح الأمور وبما في الأرحام ، وقادر على ما يهب.
٥١ ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً ...) أي ليس لأحد من البشر أن يكلّمه الله سبحانه على وجه أن
يراه إلا أن يوحي إليه وحيا والوحي هو الكلام الخفيّ الذي يدرك بسرعة. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كتكليم موسى (ع) الذي كان سماعا بدون رؤية والمقصود
بالحجاب حجب السّامع لا المتكلّم. (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ) والرسول هو جبرائيل (ع) لأنه رسول الله إلى أنبيائه وهم
رسل الله إلى سائر خلقه (بِإِذْنِهِ) أي بأمره تعالى (ما يَشاءُ) الله (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن الإدراك والأبصار (حَكِيمٌ) في جميع أفعاله.
٥٢ و ٥٣ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...) أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك هكذا نوحي إليك ونرسل (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يعني الوحي بأمرنا وهو القرآن ففيه حياة القلوب والأرواح.
وقيل المقصود بالروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان ملازما للنبي (ص). (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) أي ما كنت تعرف القرآن ولا الشرائع ومعالم الدّين قبل
الوحي (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً) أي القرآن أو الرّوح. (نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي بالقرآن نرشد العباد من حيرة الضّلالة والغواية إلى
سبيل الهداية وطريق النجاة. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إنك بعد وحينا إليك وتعلّمك الكتاب والإيمان لتدعو
الناس إلى صراط عدل لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام (صِراطِ اللهِ الَّذِي
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومعناها أن الصّراط المستقيم هو الطريق إلى الحق وإلى دين
الله مالك السموات والأرض خلقا وتدبيرا وتصرفا. (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي إلى الله ترجع أمور الخلق يوم القيامة فيجازيهم على
أعمالهم.
سورة الزخرف
مكية ، عدد آياتها ٨٩ آية
١ إلى ٣ ـ (حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ...) أي أقسم بالقرآن المظهر للحلال والحرام والمبيّن لما يحتاج
إليه الأنام من شرائع الإسلام (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه قرآنا بلسان العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تتدبّرون لكي تفهموا معانيه وتعملوا به وتعلموا صدق من
جاء به.
٤ ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) أي أن القرآن مثبت في اللّوح المحفوظ الذي هو عندنا (لَعَلِيٌ) أي لرفيع شأنه ، يعلو على سائر الكتب السّماوية المنزلة
على المرسلين ، ولما اختصّ به من كونه ناسخا لها ومعجزة لمحمد (ص) وغيره (حَكِيمٌ) أي محكم عن تطرّق النقص أو الزيادة ، أو معناه : ذو حكمة
بالغة.
٥ ـ (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ
صَفْحاً ...) إلخ أفنمسك عنكم نزول القرآن إمساكا لأنكم قوم مسرفون في
الكفر وارتكاب المعاصي؟ والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يصير كذلك.
٦ ـ (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ ...) أي كثيرا من الأنبياء بعثناهم في الأزمنة الماضية لأممهم
لنقيم الحجة عليهم.
٧ و ٨ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ...) أي يسخرون منه كما سخر قومك بك فلم نضرب عنهم صفحا لأجل استهزائهم
بالرّسل بل كرّرنا الحجج وأعدنا الرّسل (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ
مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أن من القوم المسرفين السابقين من كان أقوى من قومك
المسرفين فلم تمنعنا قوّتهم من تعذيبهم ، فكيف بالمسرفين من قومك ، فتعذيبهم أيسر
وأسهل (وَمَضى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ) أي سلفت في مواضع
عديدة في القرآن أخبارهم العجيبة من تكذيبهم لأنبيائهم وإهلاكنا لهم جزاء ذلك.
٩ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي يا محمد لو سألت قومك من المبدع للسماوات والأرض ابتداء
(لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي لأقروا بأنه الله الغالب على جميع الأشياء والعالم
بمصالح الخلق.
١٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً ...) أي موضعا ومستقرّا مبسوطا لكونكم مرتاحين فيه ، (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا وفجاجا (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أو إلى حكمة
الصّانع وقدرته.
١١ ـ (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ ...) أي بمقدار نافع لا يضرّ ، يعني بمقدار حوائج الموجودات بلا
زيادة ولا نقيصة. (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي فأحيينا بذلك الماء المنزل (بَلْدَةً مَيْتاً) أي يابسة جافة ، وإحياؤها باخضرارها (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي كما كنّا قادرين على إحياء الأرض الميتة كذلك نحن
قادرون على إخراجكم من مراقدكم يوم البعث أحياء.
١٢ ـ (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها
...) أي أصناف المخلوقات كلّها ، أو المراد أزواج الحيوان من
ذكر وأنثى. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي أنه سبحانه خلق لكم من السفن والإبل وقيل البقر أيضا ما
تركبونه في البحر والبر.
١٣ و ١٤ ـ (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ...) أي لتستقرّوا عليها في البحر والبرّ في الحضر والسفر ولتستقيموا
على ظهورها ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي إذا اعتدلتم واستقررتم فتشكروا خالقكم ورازقكم على تلك
النعمة التي هي خلقه لذلك المركب. (وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي جعله مطيعا ومنقادا لنا (وَما كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ) أي مقاومين له وقرناء معه في القوّة ، لولا أن الله سخّره
لنا (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي ولتقولوا أيضا إنا إلى الله راجعون.
١٥ ـ (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً
...) أي بقولهم : الملائكة بنات الله ، أو عيسى بن الله ، لأن
الولد جزء من أبيه. (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي جاحد لنعم الله مظهر لكفره.
١٦ و ١٧ ـ (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ
...) الاستفهام للإنكار. فيكون بمعنى (بل) أي أتخذ ربكم لنفسه
البنات وهن أنقص الأولاد في نظركم (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي وآثر البنين لكم وهم أشرف الأولاد. (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ
لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) كناية عن البنات ، يعني إذا بشّر بأنه وضع لك بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) بما يلحقه من الهمّ والحزن (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء من الغيظ والكرب.
١٨ ـ (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ ...) يوبخهم سبحانه هنا بنسبة البنات إليه أي أينسبون إليّ من
نشأ ونما في الزينة ويتربّى في النعمة ، (وَهُوَ فِي الْخِصامِ
غَيْرُ مُبِينٍ) أي وهو في الجدال والمخاصمة عاجز عن إقامة الحجة على الخصم
وما ذلك إلا لنقصان عقلها وضعف إدراكها.
١٩ ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...) فزعموا أنهم بنات الله (أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ) أي هل كانوا حاضرين حين خلقهم فعلموا أنهم إناث؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) الكاذبة بأنهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم يقوم الأشهاد.
٢٠ ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ ...) ولو أراد الرحمن أن لا نعبدهم لما عبدناهم فإنما عبدناهم
بمشيئته ومن الآية يستفاد أنهم كانوا قائلين بمذهب الجبر (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا يعلمون صحّة ما يقولونه لأنه دعوى بلا دليل (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلّا يكذبون.
٢١ و ٢٢ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ
...) هذا استفهام بمعنى التقرير لهم على خطئهم ، والتقدير أهذا
الذي ذكروه شيء تخرّصوه وافتعلوه ، أم آتيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما
قالوه (فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ) أي محتجّون به لإثبات دعواهم؟ (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا
عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة وملّة (وَإِنَّا عَلى
آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي نهتدي بهداهم ونتبع أثرهم في هذه الملة.
٢٣ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
...) إلخ أي كما أنّ هؤلاء من شرفاء قومك لا مستند لهم في الكفر
إلا التقليد فإننا ما أرسلنا في الأمم السابقة في القرى والبلدان نذيرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أرباب الأموال وأهل الشرف منهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فما كان للسابقين من الأمم جواب إلّا التقليد لآبائهم كما
هو ديدن اللاحقين.
٢٤ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى ...) إلخ أي قل لهم يا محمد : أتتّبعون آباءكم ولو جئتكم بدين
أهدى من دين آبائكم. (قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) كذّبوا رسلهم وأبوا قبول ما هو أهدى.
٢٥ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ...) أي بإهلاكهم والتعجيل في عقوبتهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) للأنبياء والرّسل وما جاؤوا به من عند ربّهم.
٢٦ و ٢٧ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ...) أي واذكر يا محمد الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه وقومه
حين رآهم يعبدون الأصنام. (إِنَّنِي بَراءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي بريء من أصنامكم (إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي لا إله إلّا الذي خلقني ، فإنه هو الذي يهديني إلى
الدّين الحق.
٢٨ ـ (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً ...) جعل الله ، أو إبراهيم ، الكلمة الّتي قالها وهي كلمة
التّوحيد وأرادها أن تبقى (فِي عَقِبِهِ) أي في ذريّته ليكون فيهم دائما من يوحّد الله تعالى ويدعو
إلى توحيده ، (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي يتوبون ويرجعون عمّا هم عليه من الشّرك إلى أبيهم
إبراهيم بالاقتداء به في توحيد الله.
٢٩ ـ (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ ...) أي أمهلتهم متنعّمين وآباءهم المشركين بالمدّ في أعمارهم
والإكثار في نعمهم ، (حَتَّى جاءَهُمُ
الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي القرآن المشتمل على الآيات الدالّة على الصّدق ورسول
يبيّن الحق ويظهره وهو محمد (ص).
٣٠ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ ...) أي القرآن المميّز بين الحق والباطل أو الرسول لتنبيههم من
غفلتهم وجهالتهم (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي القرآن الذي جاء به محمد سحر (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي منكرون.
٣١ ـ (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ ...) إلخ أي قال هؤلاء الكفار لو كان هذا القرآن من عند الله
لكان من المفترض أن ينزل على رجل عظيم من القريتين مكة والطائف ومرادهم بالرجل
العظيم الذي له مال كثير وجاه عريض وشهرة عند الناس. ويعنون بعظيم مكة الوليد بن
المغيرة وبعظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي وقيل غير ذلك.
٣٢ ـ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ...) أي هل القرشيون المعاندون بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها
حيث شاؤوا فالمراد بالرحمة النبوة. (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن نقسم الأرزاق في المعيشة على حسب ما علمناه من
مصالح عبادنا وليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك وكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق
فكذلك نصطفي للرسالة من نشاء لا ما شاؤوا هم. (وَرَفَعْنا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي في الرزق والغنى والفقر والقوة والضعف والحرية
والعبودية إلخ. (لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي مسخّرا من التّسخير فيستخدمه في حوائجه فينتفع كلّ
بالآخر فينتظم بذلك أمر عالم الملك. (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي أن النبوة لك يا محمد من ربك خير مما يجمعونه من حطام
الدنيا.
٣٣ إلى ٣٥ ـ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً ...) أي لو لا كراهة اجتماع الناس على الكفر لحبّهم الدنيا طبعا
فيكونون كلهم كفارا على دين واحد (لَجَعَلْنا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) أي كنّا نجعلهم قادرين ونوسّع عليهم بحيث يبنون سقف بيوتهم
من الفضّة (وَمَعارِجَ عَلَيْها
يَظْهَرُونَ) أي ولجعلنا درجا وسلالم عليها يصعدون لتلك السقف.
(وَ) كذلك نجعل (لِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً) إلخ أي جعلناهم أثرياء قادرين بحيث يجعلون أبواب البيوت
والتّخوت التي عليها يجلسون والسّرر التي يتّكئون عليها كلّها من فضّة (وَزُخْرُفاً) ذهبا أي وجعلنا بيوتهم مزخرفة مزيّنة موشاة بالذهب. (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ليس كلّ ما ذكر غير متاع يتمتّع في الدّنيا به وبعد
موته يفنى المتاع جميعا (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي الجنّة الباقية عنده تعالى خاصّة بهم.
٣٦ ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
...) أي من يعرض ويتعامى عن القرآن أو الآيات والحجج (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ) أي نسلّط عليه شيطانا فهو يصاحبه ويغويه فيصير هو قرينه
بدلا عن ذكر الله.
٣٧ ـ (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ ...) أي أن الشياطين ليصرفون هؤلاء الكفار عن طريق الحقّ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي أن الكفار يحسبون أنّهم على الحق فيتبعونهم.
٣٨ ـ (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ ...) أي إذا جاءنا العاشي عن ذكر الله وعاين العذاب يوم القيامة
قال لقرينه الذي أغواه على نحو التمني : (يا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، وهذا مبالغة كاملة في بعد
المسافة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي كنت لي رفيقا سيئا في الدّنيا. حيث أضللتني وفي هذا
اليوم أوردتني النار.
٣٩ ـ (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ ...) إلخ أي ما كنتم تتمنّونه اليوم لن يفيدكم ، ولن يجيركم من
النار ولا يريحكم من العذاب اشتراككم فيه ولا شماتة كلّ واحد منكم بصاحبه. إذ لكل
واحد من الكفار والشياطين قرنائهم الحظ الأوفر من العذاب.
٤٠ ـ (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ
تَهْدِي الْعُمْيَ ...) شبّه الكفار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه ويرونه بالصم
والعمي (وَمَنْ كانَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بيّن فإنك لا تقدر على جبرهم على الإيمان فلا تحزن على
كفرهم وضلالتهم.
٤١ و ٤٢ ـ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ...) أي نتوفينّك قبل تعذيبهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ) بعدك إمّا في الدنيا أو في الآخرة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي وعدناهم به من العذاب في الدّنيا ، (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي لا يعجزوننا بضلالتهم وعدم إيمانهم عن الانتقام منهم.
٤٣ ـ (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ
إِلَيْكَ ...) بالتمسّك بالقرآن وبأن يتلوه حقّ تلاوته ويتتبّع أوامره
وينتهي عمّا نهى فيه عنه (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي على دين حقّ وصواب وهو دين الإسلام.
٤٤ ـ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
...) أي إنّ القرآن لشرف لك ولقومك من قريش. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن أداء شكر هذه النّعمة التي جعلها الله لكم شرفا.
٤٥ ـ (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا ...) حين أسري بالنبي (ص) إلى بيت المقدس حشر الله له الأوّلين
والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثم تقدّم محمّد (ص) فصلّى بالقوم فأنزل عليه : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) الآية فقال لهم رسول الله (ص) على ما تشهدون ، وما كنتم
تعبدون؟ فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّك لرسول الله
أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا. والمسؤول عنه هذا (أَجَعَلْنا مِنْ
دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي هل حكمنا بعبادة غير الله في مللهم؟ وقيل بأن المسؤولين
هم أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين أرسل الله إليهم الرسل.
٤٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي الحجج الظاهرة على صحة دعواه النبوّة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي إليه وإلى أشراف قومه. (فَقالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي مبعوث منه سبحانه إليكم.
٤٧ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ
مِنْها يَضْحَكُونَ ...) أي لمّا أظهر المعجزات التي هي اليد والعصا وغيرهما (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء بها.
٤٨ ـ (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ...) أي فكل آية كانت أكبر ممّا قبلها في الآيتيّة. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بتلك الآيات المنذرة لهم بالعذاب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بأمل أن يعودوا عن عنادهم وكفرهم.
٤٩ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ...) فلما اشتدت عليهم أنواع العذاب المتعاقبة وخافوا منها على
أنفسهم نادوه بذلك ، ويعنون بهذا النداء (يا أيّها العالم) (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ
عِنْدَكَ) أي اطلب من ربّك بما لك عنده من الكرامة ليكشف العذاب عمّن
آمن و (إِنَّنا
لَمُهْتَدُونَ) أي راجعون إلى الحق لو كشف عنّا العذاب.
٥٠ ـ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ...) أي لمّا أذهبناه عنهم بدعاء موسى ، نقضوا عهدهم.
٥١ ـ (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ...) أي أذاع في ناديهم ، بعد كشف العذاب وخوفه من اتباع قومه
لموسى (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) إلخ خداعا لهم بافتخاره بأمرين السلطان والمال (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تعترفون بما قلت؟
٥٢ ـ (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ ...) أي أنا خير من موسى الضعيف الحقير الذي ليس عنده مال ولا
ملك. (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي يظهر كلامه وهذا لأثر بقي في لسانه من العقدة التي
أصابته في الطفولة.
٥٣ ـ (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ
...) أي هلّا طرح عليه أسورة الذهب إن كان صادقا في نبوّته ،
وكانوا إذا ملّكوا رجلا سوّروه بسوار (أَوْ جاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي متتابعين يعينونه على أمره ويصدّقونه بصحة دعواه في
نبوته.
٥٤ ـ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ...) أي فوجدهم خفيفي العقل والرأي ودعاهم إلى الكفر فانقادوا
له واتبعوه. ولو كانوا راجحي العقول لردوا عليه ما احتج به من ملك مصر وغيره بأنه
ليس بدليل ولا يصلح للاحتجاج.
٥٥ ـ (فَلَمَّا آسَفُونا ...) أي فلما أغضبونا وقيل لما أحزنوا رسلنا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي اقتصصنا منهم ثارا لأوليائنا ، (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في اليمّ.
٥٦ ـ (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً ...) أي متقدمين إلى النار (وَمَثَلاً
لِلْآخِرِينَ) أي عبرة وعظة لمن جاء بعدهم فلا يقتدون بهم لئلا ينالوا
العقاب.
٥٧ ـ (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً
...) اختلف في المراد به على وجوه ، ونختار ما روي في كتاب
الكافي. قال : بينا رسول الله (ص) جالس ذات يوم إذ أقبل علي (ع) فقال له رسول الله
(ص) : إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم ، ولولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت
النّصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التّراب
من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة. قال فغضب جماعة من قريش فقالوا ما رضي أن يضرب
لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم؟ فأنزل الله على نبيّه (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً
إِذا قَوْمُكَ) أي قريش وأمثال قريش (مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يضحكون استهزاء.
٥٨ ـ (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ
...) إلخ أي أم عيسى. فالضّمير راجع إلى عيسى (ع) وكان نظر
القوم في هذه المجادلة والمخاصمة بقصد تحقير عليّ (ع) لأن معنى قولهم (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ) أم عيسى هو أن عيسى الذي كان عليّ شبيها به ومماثلا له ،
فآلهتنا من الأصنام خير منه. وما قالوا هذا الكلام إلّا جدلا وعنادا لعليّ (ع)
وللرسول (ص) أيضا. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ) أي شديد والخصومة واللجاج.
٥٩ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا
عَلَيْهِ ...) أي ما عيسى إلّا عبد متّعناه بنعمة النبوّة وبالخلقة من
غير أب (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي آية ودلالة لهم على قدرة الله تعالى.
٦٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ...) أي لو اقتضت الحكمة والمصلحة لأهلكناكم لنجعل بدلا منكم في
الأرض ملائكة يقومون مقامكم في عمارتها وعبادة الله.
٦١ ـ (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ...) أي نزول عيسى (ع) من السّماء من أشراط السّاعة وقرب يوم
القيامة (فَلا تَمْتَرُنَّ
بِها) أي لا تشكّنّ فيها (وَاتَّبِعُونِ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي اتّبعوا ما آمركم به فإنّ هذا دين قيّم وطريق للاهتداء.
٦٢ ـ (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ...) أي لا يصرفنكم الشيطان بوساوسه عن دين الله (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي عدوّ متظاهر في عداوته لكم.
٦٣ و ٦٤ ـ (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ ...) أي بالآيات البيّنة الدالة على نبوته نحو شفاء الأبرص
والأكمه وإحياء الموتى وغيرها (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ) أي بالرّسالة أو بالعلم وبالتوحيد والعدل والشرائع ، أو
بالإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من أمر الدّين والدنيا ، (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي اجتنبوا معصيته في أوامره ونواهيه وأطيعوني فيما أدعوكم
إليه واعلموا أنه لا ربّ لكم ولا لي يستحق العبادة إلّا الله فاعبدوه ولا تشركوا
به (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) أي أن تقوى الله وإطاعتي هو الدّين القيّم والطريق الموصل
إلى الجنة.
٦٥ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ ...) أي أن اليهود والنصارى اختلفوا في أمر عيسى وتحزّبوا فرقا
مختلفة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) أي المتحزّبين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ) أي موجع يوم القيامة.
٦٦ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ...) أي ما ينتظر كفّار مكة بعد ورود الرسول ونزول القرآن غير
القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) يعني لا يلتفتون إليها لغفلتهم عنها.
٦٧ ـ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ...) أي المتحابّون في الدنيا أصبحوا أعداء في الآخرة. (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن خلّتهم لمّا كانت في الله فتبقى نافعة أبد الآباد
وتتوثق يوم القيامة.
٦٨ إلى ٧٠ ـ (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ ...) إلخ أي ينادى بهم يوم الخوف يا عبادي المتقين لا خوف عليكم
اليوم من العذاب ولا تحزنون من فوت الثواب. (الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي صدّقوا بحججنا واتبعوها منقادين خاضعين لأمرنا. ثم بيّن
ما يقال لهم يومئذ : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) أي نساؤكم المؤمنات (تُحْبَرُونَ) أي تسرّون سرورا يبدو في وجوهكم أثره.
٧١ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوابٍ ...) أي أن الحور العين والغلمان لا يزالون يدورون على
المتحابين في الله وبأيديهم صواع الذّهب والأكواب المملوءة من ماء الكوثر (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي لهم في الجنة ما تميل النفوس إليه من أنواع النّعم من
المأكول والمشروب والملبوس والمشموم وما تلتذّ الأعين بالنظر إليه. (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أنتم أيها المتقون في الجنة والملاذ مؤبدون.
٧٢ و ٧٣ ـ (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ...) أي أعطيتموها بأعمالكم الصالحة. (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها
تَأْكُلُونَ) جمع سبحانه لهم بين الطعام والشراب والفواكه وبين دوام ذلك
فهذه غاية الأمنية.
٧٤ و ٧٥ ـ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ
جَهَنَّمَ خالِدُونَ ...) أي دائمون. (لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفّف عنهم ، وهم في العذاب محزونون آيسون من كل خير.
٧٦ ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ ...) أي نحن عذّبناهم بما كسبت أيديهم فكانوا هم الظّالمين
لأنفسهم بما جنوا عليها من العذاب.
٧٧ ـ (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا
رَبُّكَ ...) أي يدعون خازن جهنّم ، فيقولون : يا مالك ليمتنا ربك (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي يجيبهم مالك بأنكم مخلدون في العذاب بلا موت ولا تخفيف.
٧٨ ـ (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ ...) المراد من الحقّ هو القرآن ، أو دين الحق وهو الإسلام.
يعني لقد جاءكم رسلنا بالحق من عندنا. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأن الحق خلاف مشتهياتكم والباطل موافق لما تميل إليه
طباعكم ولذا تميلون إليه وتعرضون عن الحق.
٧٩ و ٨٠ ـ (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ ...) أي بل أحكموا أمرا في كيد محمد (ص) فإنا محكمون أمرا في
مجازاتهم (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أي حديث أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) أي مسارّتهم. (بَلى) نحن نسمع ذلك وندركه (وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي الحفظة عندهم لا يزالون يكتبون ما يقولون ويفعلون.
٨١ ـ (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن كان لله ولد كما تزعمون
فأنا أول من يعبده أداء لحق بنوّته ومسانخته لوالده. ولكن البرهان قام على أنه ليس
له ولد ولذلك لا اعبده فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) إلخ أي تنزيها لخالق السموات والأرض ومالكهن وخالق العرش
ومدبّره عمّا يصفونه به من اتخاذ الولد لأن من قدر على كل ذلك استغنى عما ينسبونه
إليه.
٨٣ ـ (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ...) أي دعهم منغمسين في باطلهم ومتلهّين في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ) فيه بعذاب الأبد في جهنم وهو يوم القيامة.
٨٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ...) إلخ أي هو وحده المستحق للعبادة في السماء والمستحق وحده
للعبادة في الأرض. (وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ) مر معناه.
٨٥ ـ (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ ...) إلخ أي تعاظم وتكبّر من له السّلطة على السّماوات والأرض
وله التصرّف كيف يشاء فيهما وفيما بينهما (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) أي علم يوم القيامة فهو من مختصاته سبحانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي عاقبة أمركم هي الرجوع إليه فيجازي كلّا بعمله.
٨٦ ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ ...) أي الذين يعبدهم المشركون بدلا عن الله سبحانه لا ترجى الشفاعة
منهم وليس لهم أن يشفعوا لعبدتهم لأن أمر الشفاعة بيده تعالى ولا يأذن للشفاعة (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) وهم عيسى وعزير والملائكة استثناهم سبحانه ممّن عبد من دون
الله فإن لهم منزلة الشفاعة ولكنّهم لا يشفعون إلّا لأهل التوحيد. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ما شهدوا به.
٨٧ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
...) أي إذا سألت المشركين من خالقهم (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي يعترفون بأن الله. هو خالقهم لوضوحه بحيث لا يقدرون على
الإنكار ، (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي فكيف يصرفون ويعرضون عن عبادته إلى عبادة غيره؟
٨٨ ـ (وَقِيلِهِ ...) الضمير راجع إلى النبيّ ، أي : وقول النبيّ (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا
يُؤْمِنُونَ) فإنه (ص) لمّا ضجر من قومه وعرف إصرارهم على الكفر دعا
ربّه عليهم.
٨٩ ـ (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ...) أي فأعرض عنهم يا محمد بصفح وجهك وقل سلام وهذا سلام هجر
ومتاركة لا سلام تحية وكرامة فسوف يعلمون يوم القيامة علم معاينة ما يحل بهم من
العذاب.
سورة الدّخان
مكية ، عدد آياتها ٥٩ آية
١ ـ (حم ...) أشرنا سابقا إلى أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور
أسماء للنبي (ص) وقيل غير ذلك فلا نعيد.
٢ ـ (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ...) أي أقسم بالقرآن المظهر لأحكام الحلال والحرام والمبين
للحق من الباطل.
٣ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبارَكَةٍ ...) هذه الجملة جواب للقسم. والمراد بالليلة المباركة هي ليلة
القدر ، ومن بركاتها نزول القرآن فيها. (إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة والإنذار :
الاعلام بمواضع الخوف ليتّقى ، وبموضع الأمن ليجتبى.
٤ ـ (فِيها يُفْرَقُ ...) أي في ليلة القدر يفصل ويفرز ، (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي كلّ أمر من الحق والباطل. أو يقدّر الله في تلك الليلة
من أمور السّنة ما يحدث في تلك السّنة من الأرزاق والآجال والأحداث وله تعالى فيها
البداء والمشيئة.
٥ ـ (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ...) أي نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ. (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) محمدا إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء.
٦ ـ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ...) أي رأفة منّا بخلقنا ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من
الرّسل. (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.
٧ ـ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي مالكهما ومصلحهما ومدبّرهما (وَ) مدبّر (ما بَيْنَهُما). (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) أي عالمين أن الأمر كما وصفناه.
٨ ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) إلخ. أي لا يستحق العبادة سواه يحيي الخلق بعد موتهم
ويميتهم بعد إحيائهم وهو خالقكم وخالق آبائكم الذين سبقوكم ورازقكم ورازقهم.
٩ ـ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ...) أي هم في ريب بما أخبرناكم به وهم مع ذلك يستهزئون بك
وبالقرآن إذا تلي وينغمسون في دنياهم معرضين عن الآخرة.
١٠ و ١١ ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ
بِدُخانٍ مُبِينٍ ...) أي فانتظر يا محمد اليوم الذي تأتي السماء بدخان ظاهر بحيث
لا يشكّ أحد في أنّه دخان. وقد روي أنّه دخان يأتي من السّماء قبل يوم القيامة (يَغْشَى النَّاسَ) أي يغطّيهم ، أو يحيط بهم. فإذا شاهدوه بتلك الشدّة يقولون
(هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي كثير الألم ويخافون منه شديدا وقيل بأن المراد بالدخان
ما كان يراه الواحد من قريش من أثر الجوع بعد أن دعا عليهم (ص) فأجدبت الأرض وأصابت
قريشا المجاعة فكانوا يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان.
١٢ ـ (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ
إِنَّا مُؤْمِنُونَ ...) أي مؤمنون بالقرآن ومصدّقون بمحمد (ص).
١٣ ـ (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ...) أي من أين لهم الاتعاظ بذلك (وَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مُبِينٌ) أي والحال أنهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والحجة فما
اتعظوا.
١٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ...) أي أعرضوا عن رسولنا وما اكتفوا بذلك بل قالوا يعلّمه بشر
وهو مجنون بادعائه النبوة.
١٥ ـ (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً ...) أي الجوع والدخان زمانا يسيرا قبل القيامة أو قبل يوم بدر
كما روي.
١٦ ـ (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى
...) أي واذكر لهم يا محمد يوم نأخذهم أخذة كبيرة عظيمة شديدة
بعذاب النار. والمراد يوم القيامة وقيل يوم بدر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي ننتقم منهم بما يستحقون من العذاب.
١٧ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ ...) أي اختبرناهم وامتحنّاهم قبل قريش (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي موسى (ع) وكان كريم الأخلاق والأفعال بصفحه وتجاوزه
ورشده.
١٨ ـ (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ...) أي قال موسى لفرعون وملإه أطلقوا بني إسرائيل من العذاب
والتّسخير فإنهم أحرار فلا تعاملوهم معاملة العبيد. وقيل : إن المراد أدّوا ما
آمركم به يا عباد الله (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) أي غير متّهم بكذب في القول على ما أدّعيه من الرّسالة ولا
بخيانة في أموالكم التي أودعتموها عندي.
١٩ ـ (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ...) أي لا تتكبّروا عليه بترك طاعته وكفران نعمه وافتراء الكذب
عليه (إِنِّي آتِيكُمْ
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة. واضحة يظهر الحق معها ، أو بمعجزة ظاهرة تبين
بها صحّة نبوّتي فتوعدوه عند ذلك بالقتل فقال :
٢٠ ـ (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
...) أي التجأت إليه سبحانه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن تؤذوني بقذفي بالحجارة ، أو بغيره من الأذى.
٢١ ـ (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ ...) أي فاتركوني وتنحّوا عنّي فلكم دينكم ولي ديني.
٢٢ ـ (فَدَعا رَبَّهُ ...) أي لمّا يئس من إيمانهم دعا الله سبحانه عليهم (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مشركون مذنبون يرتكبون المعاصي.
٢٣ ـ (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ...) أي اخرج مع من آمن بك من بني إسرائيل عن هذه البلدة في
الليل ، (إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) أي سيتبعكم فرعون وقومه.
٢٤ ـ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ...) أي خلّ البحر على حاله منفرجا منفتحا. وكان قد صار كذلك
بعد أن ضربه بعصاه. (إِنَّهُمْ جُنْدٌ
مُغْرَقُونَ) أي فرعون وجنده سيغرقهم الله تعالى.
٢٥ إلى ٢٧ ـ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
...) إن الله تعالى يخبر حبيبه عن حالهم بعد إهلاكهم بأنّهم
خلفوا من البساتين والعيون الكثيرة الجارية وما سواها من النّعم التي كانت تغمرهم.
(وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ) أي المحافل المزيّنة والمنازل الحسنة (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي سعة في العيش كانوا بها ناعمين متمتعين.
٢٨ ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً
آخَرِينَ ...) أي هكذا نفعل بالمجرمين ، نهلكهم ونورث هذه المعدودات لمن
بعدهم ، أي لبني إسرائيل.
٢٩ ـ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ ...) هذه الجملة يمكن أن تكون تهكما في مقام بيان تصغير قدرهم
فإن العرب كانت عادتهم إذا أخبروا عن عظم المصاب بالهالك قالوا : بكاه السماء
والأرض وأظلم لفقده الشمس والقمر على سبيل المبالغة وقيل إن المراد : لم يبك عليهم
أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم (وَما كانُوا
مُنْظَرِينَ) أي ممهلين إلى وقت آخر.
٣٠ و ٣١ ـ (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
...) يعني خلّصناهم (مِنَ الْعَذابِ
الْمُهِينِ) ذي الإهانة والاحتقار كقتل الأبناء واستخدام النساء وغير
ذلك (مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متكبرا متجبّرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ في الطغيان.
٣٢ و ٣٣ ـ (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ...) أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل وفضّلناهم بالتوراة
وكثرة الأنبياء منهم (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منّا باستحقاقهم ذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ
الْآياتِ) المعجزات كانشقاق البحر بضرب العصا وغيرها. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر.
٣٤ إلى ٣٦ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ...) أي ان كفار قريش يقولون (إِنْ هِيَ إِلَّا
مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي المزيلة للحياة الدنيويّة (وَما نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ) أي بعد الموتة الأولى لا حياة أبدا ، (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرّسول والمؤمنين أي إن كان
الأمر كما تزعمون بأنا نبعث احياء بعد الموت فأحيوا لنا واحدا من آبائنا الذين
ماتوا قبلنا.
٣٧ ـ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ...) أي أمشركو قريش أظهر نعمة وأكثر أموالا وأعظم قدرة وقوة أم
قوم تبّع الحميري وسمّي تبّعا لكثرة أتباعه وقد ملك التبابعة جميع الأرض كما قيل
وكانوا سبعين سمّوا تبابعة لأن الأخير يتبع الأول. (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ
إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي أهلكناهم بسبب إجرامهم كما أن كفار مكة مجرمون.
٣٨ و ٣٩ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
...) إلخ. أي لم نخلق ذلك عبثا بل لغرض حكيم هو أن ننفع
المكلفين به ونعرضهم لنيل ثواب الله وتنتفع سائر الحيوانات بضروب المنافع. (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لغرض صحيح ومصلحة عامة (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) صحة ما نقول لتوليهم عن التدبّر فيه والوصول إلى حقانيته.
٤٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ
أَجْمَعِينَ ...) أي فصل الحق عن الباطل وهو يوم القيامة موعدهم جميعا.
٤١ و ٤٢ ـ (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى
...) يعني يوم الفصل يوم لا يدفع مولى بقرابة وغيرها عن مولى
شيئا من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) أي لا يمنعون منه ، ولا يعاونهم أحد من مواليهم وأصدقائهم
في دفعه. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللهُ) أي بالعفو عنه والإذن للشّفعاء بالشفاعة له. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مر معناه.
٤٣ إلى ٤٦ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ...) الزّقوم شجرة مرّة كريهة الطّعم والرائحة تنبت في أصل
الجحيم يكره أهل النار على تناولها. (طَعامُ الْأَثِيمِ) قوت من له الإثم الكثير قيل بأنه أبو جهل ومن استسنّ بسنته
من أعداء الله. (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من نحاس ونحوه (يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي إذا استقرت في أمعاء أهل النار تغلي كغلي الماء الحار
الشديد الحرارة.
٤٧ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ ...) أي يقال للزّبانية خذوا الأثيم وجرّوه بعنف وشدّة وغلظة
إلى وسط الجحيم.
٤٨ و ٤٩ ـ (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ
عَذابِ الْحَمِيمِ ...) أي عذاب هو الحميم يصبّ عليه من فوق رأسه ثم يقول له
الخزنة تهكّما (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي صاحب الكرامة بزعمك. وكان أبو جهل يزعم أنه أعز أهل
الوادي وأكرمهم.
٥٠ ـ (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
...) أي هذا العذاب هو ما كنتم به تشكّون في دار الدنيا.
٥١ و ٥٢ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ
...) أي الذين يجتنبون المعاصي ويفعلون الطاعات في موضع إقامة
دائميّة يأمن صاحبه من الحوادث والآفات والمكاره ومن الغير والفناء. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في بساتين وعيون المياه النابعة فيها.
٥٣ ـ (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ ...) أي من الدّيباج الرّقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الغليظ منه (مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين في مجالسهم.
٥٤ ـ (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ ...) أي هكذا كما وصفناه حال أهل الجنّة ، ونضيف عليها أنّنا
قرنّاهم (بِحُورٍ) جمع حوراء بمعنى البيضاء (عِينٍ) جمع عيناء أي بيض واسعات العيون.
٥٥ ـ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ...) أي يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوا (آمِنِينَ) من ضررها وسقمها ووجعها ولا خائفين موتها.
٥٦ ـ (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ...) أي يبقون أحياء في الجنة لأنّه لا موت فيها. (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) نعم ذاقوا مرارة الموت الأول ولكنّه كان في الدّنيا. (وَوَقاهُمْ) أي جنّبهم ربّهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) عذاب النار.
٥٧ ـ (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ...) أي فعل الله ذلك بهم تفضلا منه لأنه سبحانه خلقهم وأنعم
عليهم وركّب فيهم العقل وكلّفهم وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيته
وحسن طاعته فاستحقّوا به النّعم العظيمة. ثم جزاهم الحسنة عشر أمثالها فكان ذلك
تفضّلا منه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) لأنّه خلاص من المكاره وفوز بالمقاصد.
٥٨ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ...) أي سهّلنا القرآن على لسانك وهوّنا عليك قراءته وجعلناه
بلغة قومك ليفهموه (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) أي يتّعظون بما فيه ويعملون بما أمر.
٥٩ ـ (فَارْتَقِبْ ...) أي فانتظر ما يحلّ بهم من العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك من الدّوائر ولكن عليهم دائرة السّوء.
سورة الجاثية
مكية ، عدد آياتها ٣٧ آية
١ ـ (حم ...) قد مرّ قولنا فيه فلا نعيده.
٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ ...) أي أن إنزال القرآن كان من عند الله (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) مر معناه.
٣ و ٤ ـ (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ...) أي أن فيهما أو في إبداعهما دلالات واضحات للمصدقين بالله
ورسله لأنهم هم المتدبرون فيها المنتفعون منها. (وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصّنعة وعجائب
الخلقة وفي خلق ما يفرّق وينشر على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها
وأنواعها وما فيها من المنافع والخواص (آياتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ) أي في جميع ما ذكر دلالات واضحات لقوم يطلبون علم اليقين
بالتفكّر والتدبّر فيها.
٥ ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي في ذهاب اللّيل والنّهار وتعاقبهما ، ومجيئهما ونقصهما
وزيادتهما على وتيرة واحدة. أو في أنّ أحدهما نور والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ رِزْقٍ) لعل المراد بالرزق سببه وهو الغيث ، من باب ذكر المسبب
وإرادة السبب (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها. (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) أي على اختلاف كيفياتها من تصريفها من جهة دون جهة وكونها
في وقت حارة وفي زمان باردة ، ومرة رحمة وأخرى نقمة وهكذا. (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) دلالات واضحات لقوم يتدبرونها فيعلمون أن لها صانعا حكيما
قادرا.
٦ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ ...) أي هذه الآيات المذكورة دلائل لمعرفة الله وتوحيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي نبيّنها لك يا محمد حتى تقرأها على قومك مقرونة بالحق
دون الباطل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) يعني بأيّ كلام بعد كلام الله ، وهو القرآن وآياته الدالّة
عليه وعلى توحيده تصدقون. وهذا توبيخ لهم منه سبحانه.
٧ و ٨ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ...) الويل كلمة وعيد يهدد بها الكفّار ، أو واد سائل فيه من
صديد جهنّم ، أو بئر في قعر جهنّم والأفّاك يطلق على من يكثر أو يعظم كذبه والأثيم
صاحب الإثم والمعصية (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي الأثيم تقرأ آيات الله بمرأى ومسمع منه فيقيم ويثبت على
كفره (مُسْتَكْبِراً) أي ذا كبرياء بحيث يأنف عن الايمان باعتبار انه لا يليق
بمقامه. (كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها) ولم تقرأ عليه آيات ربّه (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) أي يا محمد بشّره بعذاب مؤلم ،
٩ ـ (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً
اتَّخَذَها هُزُواً ...) أي إذا بلغه شيء من آياتنا استهزأ بها ليوهم السذّج أنها
باطل. (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة.
١٠ ـ (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ...) أي قدّامهم ومن بين أيديهم جهنم. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا
شَيْئاً) أي لا يغني ما كسبوا من الأموال والأولاد ونحوها شيئا من
رفع العذاب أو تخفيفه (وَلا مَا اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي لا ينفعهم ما عبدوه من دون الله من أصنامهم شيئا من
عذاب الله دفعا ورفعا وتخفيفا (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) بحيث لا يتحمّلونه لشدّته.
١١ ـ (هذا هُدىً ...) أي القرآن الذي تلوناه عليك وأنزلناه إليك هاد من الضلال ،
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي الكفرة لهم عذاب من قسم الرّجز وهو عذاب شديد للغاية.
١٢ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ
...) بأن خلقه بكيفيّة خاصة من استواء السطح والميوعة في مائة (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) تسير السّفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره سبحانه لذلك وأنتم راكبوها ومحمّلوها أثقالكم (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا التّجارة والغوص والصّيد والرّزق (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون ربكم على هذه النّعم.
١٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ أي خلقها وذلّلها جميعها لانتفاعكم ممّا في السّماء
كالشّمس والقمر والنّجوم وغيرها من الأمور العلويّة ، وممّا في الأرض من الدّواب
والأشجار والنّباتات وغيرها من الأشياء السّفليّة. كل ذلك منه وبأمره لا من غيره. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) أي علامات للمتفكّرين الذين يتدبرونها فيعرفون قدرة ربهم
وحكمته.
١٤ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ...) يا محمّد قل لهم اصفحوا في الدنيا ليتولى الله مجازاتهم في
الآخرة. (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون عذاب الله لو آذوكم ولا يطمعون في ثوابه إذا
تركوا أذيتكم (لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزي الله الصابر بصبره ، والكافر بعناده وجحوده.
١٥ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) أي من أتى بفعل طاعة لخالقه أو إحسان لإخوانه المؤمنين
فثوابه يرجع إلى نفسه (وَمَنْ أَساءَ
فَعَلَيْها) ومن أتى بعمل قبيح أو ظلم لإخوانه المؤمنين فعقابه عليه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم كلّا بعمله.
١٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ ...) أعطيناهم التوراة (وَالْحُكْمَ) من المحتمل أن يكون المراد هو العلم بفصل الخصومات ، أو
المعرفة بأحكام الله (وَالنُّبُوَّةَ) أي جعلنا فيهم النبوة حتى قيل انه كان فيهم الف نبي. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ المباحة بأنواعها بعد أن أورثهم مصر. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال بعض المفسّرين أراد بالعالمين عالمي زمانهم ، لكن
الظاهر ان التفضيل كان عاما ولكن من جهات مخصوصة ككثرة الأنبياء فيهم والمن
والسلوى وغير ذلك.
١٧ ـ (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ
...) أي قرّرنا لهم دلائل وعلائم من أمر النبيّ الخاتم ونعوته
في التوراة والإنجيل (فَمَا اخْتَلَفُوا) في هذا الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بعد أن أنزل الله الكتب على أنبيائهم وأعلمهم بما فيها
من أمر خاتم الأنبياء (ص) وأنّه مخالف لهم في دينهم ، ودينه ناسخ للأديان طرّا
ورأوا أن الرئاسة قد تؤخذ منهم فاختلفوا (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا للنبيّ (ص) (إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلخ أي في خلافاتهم فيجازيهم ويؤاخذهم عليها بما يستحقون.
١٨ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ
الْأَمْرِ ...) أي جعلناك يا محمد من بعد موسى وقومه على منهج وعلى طريقة
مستقيمة إلى دين الإسلام أو التوحيد (فَاتَّبِعْها وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي اجعل قدوتك وطريقتك ما شرعناه لك من دين الإسلام واعمل
به ولا تذهب مذهب من اتّبع هواه وجعله آلهة ولا تتّبع آراء الجهلة وهم رؤساء قريش
أو اليهود حيث غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم وحبّا للرّئاسة واستتباعا لعوامّ
الناس.
١٩ ـ (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ ...) إلخ أي لو اتّبعتهم فرضا ونزل عليك عذاب من ربّك فلن
يقدروا أن يرفعوه عنك أو يدفعوه (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يعني أنّ الكفار بأجمعهم متّفقون على معاداتك وبعضهم أنصار
بعض عليك فاستقم على شريعتك واثبت عليها (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ) أي الله يحبّك فيتولّى أمورك وينصرك ويحفظ تابعيك.
٢٠ ـ (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ...) أي القرآن أو الإسلام أو الشريعة معالم وعبر تبصّرهم محجّة
النّجاة ووجه الفلاح. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي دلالة واضحة ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يصدّقون بوعد الله ووعيده وثوابه وعقابه.
٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ ...) الاستفهام إنكاريّ والاجتراح الاكتساب أي بل ظن الذين
اكتسبوا أعمالا سيّئة من الشّرك والمعاصي الأخر (أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي أن نجعل موتهم وحياتهم كحياة المؤمنين وموتهم ومنزلتهم
كمنزلتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما حكموا على الله حيث إنّه بمقتضى عدله لا يسوّي
بينهم أحياء وأمواتا وما بعد الموت.
٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ ...) أي أبدعهما ابتداء لا عبثا وباطلا بل لمصالح وحكم منها نفع
خلقه بأن يكلفهم ويعرضهم للثواب والجنة. (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من ثواب على طاعة أو عقاب على المعصية ففي خلقهما اختبار
وامتحان للخلق. (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي في الجزاء بنقص ثواب وتضعيف عقاب على ما يستحقّه.
٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ ...) أي أخبرني ، أو : أو ما ترى يا محمد من اتخذ دينه ما تهواه
نفسه فإن مالت إلى شيء ارتكبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ...) أي خذله بأن يتركه وشهواته ويخلّي بينه وبينها لعلمه
سبحانه باستحقاقه لذلك لخبث سريرته (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) أي طبع الله عليهما بحيث لا يؤثّر فيهما وعظ ولا نصح. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وضع على بصره غطاء حتى لا يرى آياته تعالى ودلائل
توحيده وقدرته فكأنّه أعمى (فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي بعد أن خلّاه وضلاله ، أو من بعد هداية الله له بآياته
الباهرة وعدم اهتدائه بها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتّعظون بهذه المواعظ.
٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا ...) أي التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نموت نحن ويحيا آخرون فعادة الطبيعة جرت على هذا فلا
بعث ولا حساب. (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزّمان فضمّوا إلى إنكار المعاد إنكار المبدإ. (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا علم لهم بمقالتهم حيث لا دليل لهم ولا برهان وكل ما
كان كذلك فهو باطل (إِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) فإنّ حجتهم لا يحصل منها على ما بينّا إلّا الظن ، والظنّ
لا يغني من الحق شيئا.
٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت آياتنا المتّصفة بالوضوح عليهم المخالفة
لمعتقداتهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي لم تكن لهم حجة تقابل حججنا (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهذا القول إقرار واعتراف منهم بعجزهم عن إثبات دعواهم
بحجة وبرهان. فقالوا : لو كنتم صادقين فيما تدّعونه فادعوا ربّكم أن يحيي آباءنا
حتى يصدّقوكم في دعواكم فنؤمن لكم.
٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ...) إلخ. أي قل لهم يا محمد الله يحييكم في دار الدنيا إذ لا
أحد يقدر على الإحياء غيره ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يحشركم احياء يوم
القيامة لا شك في كونه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة تفكّرهم وقصور نظرهم في ما يحسّونه.
٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ ...) إلخ. أي خلقا وتدبيرا وتصرفا ومن كان كذلك فهو قادر على
البعث. (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العادلون عن الحق سوف يكتشفون يوم القيامة انهم قد خسروا
إذ لن يحصلوا من وراء كفرهم إلا على الخزي والفشل في الدنيا وعذاب النار في
الآخرة.
٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ...) أي يا محمّد ترى يوم القيامة أمّة كلّ نبيّ يحشرون مجتمعين
، أو جالسين على ركبهم ينتظرون الحساب. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى
إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحيفة أعمالها فيقول الآتي بكتاب العمل : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي هذا اليوم يوم أجر الأعمال الماضية التي فعلتموها في
الدنيا.
٢٩ ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ ...) يعني هذا الكتاب كتبه الحفظة بأمرنا وهو يتكلّم ويشهد
عليكم بالصّدق والصّحة بما عملتم بلا زيادة ولا نقيصة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بأن أمرنا الملائكة بكتابة أعمالكم كلها.
٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وفعلوا الطاعات وتركوا
المعاصي فالإيمان تصديق وعمل. (فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ومنها حصول الفوز بالجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) أي الفلاح الظاهر لخلوصه عن الشوائب.
٣١ و ٣٢ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) أي يقال لهم : ألم يأتكم رسلي ليتلوا عليكم حججي ودلائل
توحيدي؟ (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن قبولها بعد التّلاوة والبيان (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي كافرين (وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي إذا خوطبوا بالوعيد والبعث (وَالسَّاعَةُ) أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شكّ فيها. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي
مَا السَّاعَةُ) في مقام الإنكار (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) يعنون بذلك فرارهم من الجواب أي ليس لنا يقين بيوم حساب
وجزاء إن هي إلّا حياتنا الدنيا ، وزائدا على ذلك موضع شكنا.
٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) أي يظهر لهم في الآخرة جزاء قبائح أعمالهم وأقوالهم (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي حلّ بهم العذاب جزاء تكذيبهم وسخريتهم.
٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ...) أي نخلّيكم في العذاب يوم الجزاء ترك ما ينسى (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي كما تركتم التأهّب للقاء ربكم يوم القيامة (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) أي مقركم ومسكنكم جهنم ولا من معين يعينكم ، وناصر ينصركم
في نجاتكم من النّار.
٣٥ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللهِ هُزُواً ...) أي ذلك الذي فعلنا بكم لأجل استهزائكم بأنبيائنا ورسلنا
وكتبنا المنزلة إليكم (وَغَرَّتْكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا) فأنستكم الحياة الآخرة فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا تطلب منهم العتبى ، أو معناه أنهم لا يعاتبون لأن
العتاب علامة الرضا وهم فعلوا كلّ موجبات غضبه سبحانه فلا يعتنى بهم.
٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ
وَرَبِّ الْأَرْضِ ...) أي الشكر والمدحة العظيمة لخالقهما ومالكهما ومدبّر
أمورهما (رَبِّ الْعالَمِينَ) مالك جميع العوالم.
٣٧ ـ (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) أي له العظمة والتجبّر في الملكوت الأعلى والأرضين السّفلى
إذ ظهرت فيهما آثار قدرته (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه.
سورة الأحقاف
مكية ، عدد آياتها ٣٥ آية
١ و ٢ ـ (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...)
مر تفسيره في مطلع
السورة السابقة.
٣ ـ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
...) إلخ أيضا مر معناه. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة تنتهي يوم القيامة المعلومة عنده سبحانه وأخفى علمه
عن العباد لمصالح عديدة. أو المراد (أَجَلٍ مُسَمًّى) لكلّ واحد وهو آخر مدّة بقائه المقدّرة له في الدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا
مُعْرِضُونَ) أي منصرفون عمّا خوّفوا به من يوم البعث والحساب.
٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ...) قل يا محمّد لكفرة قريش : أخبروني عن الأصنام التي
تعبدونها و (أَرُونِي) أي قولوا لي (ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ) أي ما الذي أبدعوه وأوجدوه من العدم فاستحقوا به العبادة (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شراكة ، فهل شاركوا في خلقها وتركيبها؟ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي أعطوني كتابا سماويّا قبل هذا القرآن يدل على صحّة ما
ادّعيتم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) أي بقايا من العلوم التي تستند إلى الأولين موجبة لليقين
بما تقولون ، (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم بأنها شركاء لله في إيجاد المكوّنات.
٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ...) إلخ الاستفهام في مقام الإنكار أي أنه لا يكون أحد أضلّ
وأبعد عن طريق العقل والرّشد من المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله والحال
انهم لو دعوهم من الآن إلى يوم القيامة لم يجيبوهم لأنهم جمادات لا تسمع ولا تبصر
ولا تضر ولا تنفع ولا تدفع. (وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي أن الأوثان عن دعوة دعاتهم غافلون جاهلون ، لعدم شعورهم
وإحساسهم بالدّعاة.
٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ
أَعْداءً ...) إلخ أي إذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا هم أعداء
للأصنام أو بالعكس حيث يجحدون انهم كانوا يعبدونهم في الدنيا كما أن الأصنام بعد
أن ينطقها الله تتبرأ ممن عبدها في الدنيا.
٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي حينما تقرأ حججنا حال كونها واضحات ظاهرات على المشركين
في مقام الإعجاز (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لكلام الحق وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ ، هذا
سِحْرٌ مُبِينٌ) أي حيلة لطيفة ظاهرة وخداع بيّن.
٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي بل يقول هؤلاء الكافرون لقد اختلق محمد القرآن وكذب به
على الله (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ) أي قل لهم يا محمد إن ادّعيته فرضا على زعمكم (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله وعقابه فكيف
أكذب عليه سبحانه من أجلكم وأنتم أعجز من أن تدفعوا عني عذابه (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو تعالى أعلم بما تقولون في القرآن من القدح في آياته (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ) أي يكفيني أنّه تعالى شاهد بيننا بصدق كلامي وتبليغ
الأحكام ، وشاهدا عليكم بالمعاندة والإنكار. (وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) مر معناه.
٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
...) أي قل يا محمد : لست أوّل رسول بعث فدعا إلى الله. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ) أي لا أعرف أأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون أترمون
بالحجارة من السّماء في هذه الدنيا أم تخسف بكم الأرض كما فعل ببعض من قبلكم من
الأمم السابقة أو لا هذا ولا ذاك. (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وما أعلم زائدا على هذا ولا أتجاوزه (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف ظاهر من عذاب الله وعقابه.
١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ...) أي أخبروني إن كان القرآن نازلا من السماء وكفرتم أنتم
أيها المشركون به استكبارا وتجبرا (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ) إلخ الواو حالية أي والحال أنه شهد شاهد من اليهود على انه
من عند الله وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام وكان أعلم اليهود وقد أسلم وقد شهد
بذلك لما وجده مكتوبا في التوراة من أوصافه وأحواله (ص). (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) أي ألستم ظالمين مع هذه الدّلائل البيّنة؟ والهمزة
للاستفهام التقريري ، أي : نعم أنتم من الظالمين ، والله لا يهديكم لفرط عنادكم
وجحودكم.
١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي قال رؤساء الضلال من الكفرة والمشركين لأهل الإيمان : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا
إِلَيْهِ) أي أن ما جاء به محمد (ص) ، لو كان خيرا لنا فما كان
ليتقدم علينا فيه أراذل قومنا كجهينة وغيرها من القبائل المستضعفة (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لمّا لم يهتدوا بالقرآن باعتبار انهم أغلقوا عقولهم عن
تدبره وتفهمه فسيقولون عنه إنه كذب متقادم أو أساطير الأولين.
١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً
وَرَحْمَةً ...) أي كتاب موسى وهو التوراة كان قبل مقدّسا لبني إسرائيل
يقتدى به ويعمل على طبقه ونعمة من الله للمؤمنين وهم مع ذلك لم يؤمنوا به ولم
يهتدوا بهديه (وَهذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ) أي هذا القرآن كتاب يصدّق التوراة في أنّه كتاب سماويّ ، (لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي أن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين حتى تعرفوا ما فيه
وتتمّ الحجة على المشركين من أهل مكّة ونواحيها ، وليخوّف الذين ظلموا أنفسهم
وغيرهم ويبشّر الّذين أحسنوا بالحسنى.
١٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
...) وهم الذين وحّدوا الله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي استقاموا على طاعة الله والصّبر على أذى أعدائه. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه أو
مخوف آخر (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) من فوت شيء محبوب لهم.
١٤ ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ ...) أي ملازمون لها (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من الطاعات.
١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
إِحْساناً ...) أي أمرناه أن يحسن لهما بما يمكنه من مصاديق الإحسان وهو
ضدّ الإساءة. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ومعناه وضعته وهي ذات كره أي مشقّة شديدة بحيث لا يتحمّلها
غير الأم في أمر ولدها. (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي مدّة حمله إلى وقت فطامه هذا المقدار. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي استحكمت قوّته واستتمّ عقله ، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) يحتمل كونه عطف تفسير لجملة (إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) وإذا بلغ الإنسان نهاية رشده وهو مقام كمال عقله فله
الأهلية والاستعداد لأن يتوجّه إلى ربّه ويطلب منه الحاجة كما يحكي عنه : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) من الإسلام والحياة والقوّة والقدرة والإدراك والرزق
والعقل. (وَأَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ) أي وألهمني إلى عمل الطاعات والحسنات التي تنيلني رضاك (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذرّيّتي صالحين. (إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ) أي رجعت إليك عن كل شيء لا ترضى بصدوره من عبادك ، (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لأمرك ونهيك بلا اعتراض لي عليك.
١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ ...) أي أهل هذا القول الذي بيّناه في الآيات السابقة يثابون
على طاعتهم ، ونتقبّل إيجاب الثواب ل (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهو ما يستحقّ العبد به الثواب من الواجبات والمندوبات ، (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي نعفو ونصفح عن السيّئات التي اقترفوها ، ونجعلهم (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي حال كونهم من الذين يتجاوز عن سيئاتهم وهم أصحاب الجنّة
(وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه وعدا صدقا غير
مكذوب.
١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ ...) بعد أن دعواه إلى الإيمان قال جوابا لهما : (أُفٍّ لَكُما) وهذه الكلمة تصدر عن المرء عند تضجّره. قيل معناه بعدا
لكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ) أي أتقولان لي إنّي بعد مماتي أخرج من القبر وأحيا؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي مضت أجيال كثيرة فلم يرجع أحد منهم ولا أعيد ، (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي والداه يطلبان من الله تعالى إعانته ونصره ويسألانه
التوفيق له للإيمان ويقولان له (وَيْلَكَ آمِنْ) بالله والرسول والقيامة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) أي بالبعث والنشور والثواب لأهل الطّاعة والعقاب للعاصين (فَيَقُولُ) في جوابهما (ما هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أباطيلهم سطّروها وليس لها حقيقة.
١٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ ...) أي الذين هم عاقّون لوالديهم وعاصون لقولهم ، ومخالفون
لرأيهم ، والذين وجبت عليهم كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، (قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد مضت قبلهم من الجن والإنس فحالهم مثل حالهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنفسهم إذ أهلكوها بالكفر والمعاصي أي الأمم.
١٩ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي لكل واحد من الجنسين المذكورين : المؤمنين البررة ،
والكافرين الفجرة ، مراتب متصاعدة في الجنّة ومنازل في النار. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) في الجزاء بالنقص والزيادة.
٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ليروا أهوالها ، فقلبت مبالغة (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي فاستوفيتموها باشتغالكم بها وصرف حياتكم فيها كأنكم
خلقتم لها وهي لكم (فَالْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي فيه الهوان والذّل (بِما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ) يعني باستكباركم عن الانقياد للحق (فِي الْأَرْضِ) أي في الدّنيا (بِغَيْرِ الْحَقِ) من دون حقّ لكم في الترفّع والإنكار (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي بخروجكم عن طاعة ربكم.
٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالْأَحْقافِ ...) المراد بأخي عاد هو هود (ع) أي واذكر يا محمد لقومك من أهل
مكة هودا (ع) إذ خوف قومه بالله تعالى ودعاهم إلى طاعته وكانوا يسكنون واديا يسمى
بالأحقاف بين عمان ومهرة كما قيل. (وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ ...) إلخ أي مضت الرسل قبل هود وبعده بالنسبة إلى هؤلاء القوم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإنه الحقيق بالعبادة لا غيره (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) إن عبدتم غيره. وهذا بيان إنذار هود للعاديّين.
٢٢ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ
آلِهَتِنا ...) يعني : هل بعثت إلينا لتصرفنا عن عبادة أربابنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشّرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في وعيدك من نزول العذاب علينا إذا لم نؤمن بإلهك.
٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ
...) أي يأتيكم به هو تعالى في الوقت المقدّر له وليس الأمر بيدي
ولا أنا أعلم وقته. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما
أُرْسِلْتُ بِهِ) أي ما عليّ إلا بلاغ ما أمرت بتبليغه إليكم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث إنكم لا تعلمون أنّ شغل الرّسل هو الإبلاغ والإنذار لا
التعذيب. ويحتمل أن تكون نسبة الجهل إليهم لاستعجالهم العذاب.
٢٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ ...) أي نظروا إلى السّماء فرأوا سحابا عرض في أفق السماء
متوجّها نحو أوديتهم فاستبشروا (قالُوا هذا عارِضٌ
مُمْطِرُنا) أي غيم يمطرنا ويرغد حياتنا. فقال هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب الموعود (رِيحٌ فِيها عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي شديد مؤلم.
٢٥ ـ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها ...) أي الرّيح تهلك كل شيء تمر به من الناس والدواب والأموال
لشدتها (فَأَصْبَحُوا لا يُرى
إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي لا يرى أحد في تلك البوادي التي كانوا يسكنونها إلّا
آثار منازلهم ، (كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزيناهم نجزي من هم أمثالهم من الكافرين.
٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ...) أي أعطيناهم من المكنة والقدرة ما لم نعطكم مثلها من القوة
في الأبدان والبسطة في الأجسام وكثرة الأموال ، والطّول في الأعمار. (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً
وَأَفْئِدَةً) أي خلقنا لهم الحواس الصحيحة التي بها كان يمكنهم أن
يدركوا الحجج التي توصلهم إلى الإيمان (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لم تنفعهم جميع تلك الحواس لأنهم أهملوها ولم يستعملوها
في النظر والتدبر (إِذْ كانُوا
يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي ينكرونها مع كونها في غاية الظهور في الدّلالة على
التوحيد (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم من العذاب والعقاب الأليم لاستهزائهم
بالأنبياء والرّسل وبما جاءوا به من الكتب والشرائع.
٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ ...) الخطاب لأهل مكّة. أي أهلكنا من هم حواليكم (مِنَ الْقُرى) يعني أهلها كعاد وثمود وقوم لوط (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كرّرناها تارة في الإعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وأخرى
في التّذكير وطورا في وصف الأبرار ومرّة في ذمّ الفجّار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون عن كفرهم.
٢٨ ـ (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلخ أي فهلّا منع العذاب عن هؤلاء المهلكين أولئك الذين
كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم بعبادتهم لهم يقربونهم إلى الله. والاستفهام
للإنكار ، أي لم ينصرهم (بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ) أي غابوا عنهم عند حلول العذاب. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي اتّخاذهم الأصنام آلهة كذبهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون على الله في أنها آلهة تعبد من دونه.
٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ ...) أي أرجعنا إليك يا محمد طائفة من الجن وحوّلناها نحوك.
والنفر جماعة دون العشرة. (يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ) أي لاستماع القرآن أو مستمعين للقرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا) أي حضروا النبيّ أو القرآن بعضهم قال لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لاستماعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبيّ (ص) من تلاوته (وَلَّوْا إِلى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رجعوا إلى قبيلتهم محذّرين لهم من عذاب الله إن لم
يؤمنوا.
٣٠ ـ (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا
كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) أي القرآن (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مصدّقا لما في التّوراة ، ولم يذكروا عيسى ولا الإنجيل
لأنهم كانوا باقين على اليهوديّة. (يَهْدِي إِلَى
الْحَقِ) أي إلى ما هو ثابت وصحيح من العقائد الحقّة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى شرائعه الموصلة إلى المطلوب.
٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ
وَآمِنُوا بِهِ ...) يعنون محمدا (ص) عليه وآله إذ دعاهم إلى توحيده وخلع
الأنداد دونه. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم لأن بعض الذنوب لا تغفر. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يخلصكم من عذاب موجع معدّ للكفّار.
٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي لا يعجز الله بالهرب منه إذ لا يفوته هارب (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ليس له من غير الله أحبّاء يمنعونه منه (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الذين ما أجابوا داعي الله كانوا في غواية واضحة لكلّ
أحد.
٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ ...) أي : أولم يعلموا أنّه تعالى (الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يتعب ولم يعجز من خلقهنّ ، فمن كان هذا شأنه أليس (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى
بَلى) إلخ أي نعم هو قادر على إحياء الموتى : فإن خلق السّماوات
والأرض أعجب وأعظم منه.
٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) على نحو التهكّم والتّوبيخ ، يعني أن الذي جزيتم به أليس
بصدق وعدل (قالُوا بَلى
وَرَبِّنا) أي نقسم بربّنا أنّ الذي جاء به الرسل كان حقّا ونحن
جحدناه عنادا. (قالَ) بعد إقرارهم المؤكد خازن النّار : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) أي جزاء لكفركم وعنادكم للرّسل.
٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) أي اصبر يا محمد على أذى قومك وعلى تركهم إجابتك في دعوتك
فإن الصّبر من شيم الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلك ، وبالأخصّ صبر أولي العزم
منهم ، وهم خمسة. نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) وإنما صاروا أولي العزم لأن
كلا منهم بعث بكتاب وشريعة. (وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ) أي لا تتعجل بطلب العذاب لقومك فإنه مصيبهم لا محالة. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما
يُوعَدُونَ) أي ما توعدهم به الرسل في الدنيا من العذاب ويرونه في
الآخرة (لَمْ يَلْبَثُوا
إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) مع أنهم ربّما عمروا في الدّنيا أزيد من مائة سنة وذلك من
شدة خوفهم وهلعهم من عذاب ذلك اليوم بعد معاينتهم له. (بَلاغٌ) أي ما ذكر أو ما قيل في تلك السورة أو في هذا القرآن من
المواعظ والنّصايح تبليغ من الله عزوجل إلى كافّة البشر (فَهَلْ يُهْلَكُ
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن حدوده تعالى.
سورة محمّد (ص)
مدنية ، عدد آياتها ٣٨ آية
١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ ...) أي أن الكافرين الذين يمنعون الآخرين عن اتّباع طريق
الإيمان والإسلام وهم مشركو العرب (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبط أعمالهم التي كانت في زعمهم قربة وأنها تنفعهم
كالعتق والصدّقة وقرى الضيف.
٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي آمنوا بالله وبمحمد وأضافوا إلى ذلك الطاعات والحسنات (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من القرآن والأحكام (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) جملة معترضة مؤكّدة لشأن القرآن وعظمته. أي أن القرآن هو
الحق الثابت من الله تعالى (كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) أي سترها عنهم بأن غفرها لهم لأن الإيمان يجب ما قبله (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم في أمور دينهم ودنياهم.
٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
اتَّبَعُوا الْباطِلَ ...) أي أن إضلال عمل الكفرة كان بسبب أن الكفرة أخذوا الباطل
واتّبعوا سبيل الغيّ بجهلهم (وَأَنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) أي سبيل الرّشد وسلكوا مسلك الحق فنجوا من الضّلالة (كَذلِكَ) أي على هذه الطريقة (يَضْرِبُ اللهُ
لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبيّن لهم أحوالهم ليعتبروا بهم أي ليعتبر أهل الحق
بأهل الباطل وأهل الباطل بأهل الحق.
٤ إلى ٦ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي في القتال (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا منهم الرقاب ضربا ، (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم قتلهم وبالغتم في إفنائهم. (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي أحكموا وثاقهم في الأسر (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يعني مخيّر أنت يا محمد بين المنّ عليهم وإطلاقهم ، وبين
أخذ الفداء منهم (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي هذا التخيير باق لك ما دامت الحرب قائمة ، وبعد انتهاء
حالة الحرب فهذا الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه. (ذلِكَ) أي الأمر هكذا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بإهلاكهم بلا قتال (وَلكِنْ) أمركم به (لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليختبر الكافرين بالمؤمنين أو يختبر المؤمنين أنفسهم. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، (فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمالَهُمْ) أي فلن يضيّع الله ما عملوا (سَيَهْدِيهِمْ) إلى الجنّة (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي حالهم في الدارين (وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي في حال هو تعالى عرّف لهم الجنّة في الدّنيا على ألسنة
أوليائه وأنبيائه ورسله وقيل : وعدهم بها.
٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي صدّقوا النبيّ فيما جاء به (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ونبيّه بجهاد أعدائهما (يَنْصُرْكُمْ) الله بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ
أَقْدامَكُمْ) أي يشجّع قلوبكم في مقام الخوف ومواقف الحرب.
٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ
...) أي مكروها وسوء لهم. وهو دعاء عليهم (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي ما أوردها في معرض القبول أصلا وأحبطها.
٩ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ
اللهُ ...) أي التعس والإضلال لكراهتهم ما أنزل الله على رسوله من
القرآن والأحكام ، (فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها لأنها لم تقع على الوجه المأمور به.
١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) إلخ المراد بالاستفهام هو الأمر التحريضيّ لهؤلاء الكافرين
على السفر أي فهلا ساروا ورأوا عواقب أولئك الجاحدين المكذبين لرسلهم من الأمم
السابقة عليهم كيف أهلكهم الله هلاك استئصال مع أموالهم وأهليهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي وللمكذبين بك يا محمد مثل ذلك من العذاب إن أصروا على
عنادهم وكفرهم.
١١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي ناصر المؤمنين وقاهر الكافرين (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يدفع العذاب عنهم.
١٢ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
...) أي يأذن لهم في الدّخول ، ويوفّقهم للأعمال الصالحة
ليكونوا في (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الأشجار تجري الأنهار (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون بالأمتعة الدنيويّة (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ
الْأَنْعامُ) أي ينهمكون في شهواتهم غافلين عن عواقب أمرهم كالبهائم في
معالفها غافلة عما تؤول إليه عاقبة أمرها من النّحر والذّبح. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي منزل ومقام لهم.
١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ
قُوَّةً ...) أي وكم من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) أي جسما وسطوة وبسطة وعدّة (مِنْ قَرْيَتِكَ
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) أي من قريتك يا محمد وهي مكة التي أخرجك أهلها منها ومع
هذه الأشدّية في قوة أولئك أهلكناهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي لا معين يدفع عنهم العذاب والهلاك.
١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ ...) أي على حجّة واضحة وبرهان ساطع. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) يعني حسّن له الشيطان المعاصي وأغواه. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي انساقوا وراء شهواتهم وما يمثل إليهم طباعهم.
١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ ...) أي صفة أهل الجنّة الموصوفة بأنّها موعودة للمتّقين هذه
المذكورة وهي (فِيها أَنْهارٌ مِنْ
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر الطعم والرّيح واللّون لعارض كمياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بالحموضة أو غيرها لطول الزمان أو حرارة الهواء كما
يحصل للبن الدّنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ
خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي أنّ خمور الجنّة مطربة وملذّذة ومفرّحة للشاربين
ومنزّهة عن كراهة الريح وغائلة السّكر كما هو حال خمر الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي من جميع الكدورات كالشمع ومدفوعات النحل وما يتصوّر
فيه. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من جميع ما يتصوّر وما لا يتصوّر كمّا وكيفا من أصناف
الفواكه وأقسامها خالية من جميع العيوب والآفات لفواكه الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي مضافا إلى ما ذكر أنه تعالى يكرم أهل الجنّة بستر
الذّنوب وتغطيتها والتجاوز عنها. (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ
فِي النَّارِ؟) أي من كان في هذه النعم وهذا النعيم كمن هو دائم البقاء
مؤبد في نار جهنم (وَسُقُوا ماءً
حَمِيماً) أي ماء في غاية الحرارة وشدّتها (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي تتلاشى وتسيل بمجرّد الشرب من فرط الحرارة.
١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...) إلخ نزلت في المنافقين أي ومن هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من
يستمع إلى قراءتك وكلامك يا محمد فإذا اخرجوا قالوا لمن صدّق بالله وبرسوله وفهم
ما تلفظ به (ص) : أي شيء قال النبي الساعة. وكانوا يقولون ذلك إما استهزاء أو
لإظهار عدم اهتمامهم بما قال (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي خلّاهم واختيارهم فتمكّن الكفر في قلوبهم فكانوا يعملون
طبق ما تشتهيه أنفسهم كالبهائم.
١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
...) أي أن الذين اهتدوا بما سمعوا من النبي (ص) زادهم الله أو
قراء القرآن أو النبي (ص) ايمانا بلطف الله بهم (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعطاهم جزاء التقوى ، أو وفّقهم للتقوى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون إلّا القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) أي فجأة (فَقَدْ جاءَ
أَشْراطُها) أي ظهرت علاماتها (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا
جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي لا ينفعهم تذكّرهم وتنبّههم وندمهم حينما تجيء السّاعة
فقد انسدّت أبواب التوبة والندامة.
١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ ...) تفريع على ما مضى ، أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة
الكفرة فاعلم أنّه لا يبقى في العالم ذو حياة إلّا الله الذي هو موصوف بالحياة
الدّائمة وبالواحديّة والوحدانيّة. وهذه كناية عن قرب موته (ص) (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) إخبار به. وقيل إن أمره بالاستغفار لتكميل النفس بإصلاح
أحواله وأفعاله والتوجّه إليه تعالى دائما وفي الآية أقوال أخر (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أمر سبحانه نبيّه بالاستغفار لهم لأنه أبو الأمّة الشفيق
فأمر الله تعالى رسوله بالاستغفار لنفسه وللأمّة إمّا من باب التذكير أو من باب
التعليم أو بيان كرامة المؤمنين عليه سبحانه. (وَاللهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي منتشركم بالنّهار ومستقركم بالليل أو منصرفكم وأمكنة
ذهابكم وإيابكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة من الجنّة والنّار.
٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا
نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...) أي لماذا لم تنزل سورة في الجهاد مع هؤلاء المعاندين
والمشركين (فَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي غير متشابهة مبيّنة ظاهرة في أمر الجهاد ، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) أي النفاق أو ضعف الإيمان (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كمن عرضت له الغشية تراه مبهوتا متحيّرا خوفا من الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) أولى في هذه الموارد كلمة وعيد ومعناها قد قاربهم الشرّ
فليحذروا ، أو فويل لهم بمعنى اللعن والعذاب والزجر.
٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ...) أي إطاعة أوامر الله والقول بأنّا نجاهد في الله بأموالنا
وأنفسنا خير وأحسن قيلا لهم من إظهار الكراهية والاشمئزاز عند نزول آية الجهاد (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جاء وقت العمل وتوطين النفس على الفعل (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي لو عملوا بما كانوا يطلبونه معجّلا من نزول الأمر
بالجهاد (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) أن يصدقوا الله من نفاقهم.
٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
...) أي أترجون يا معشر المنافقين بأنّكم لو ملّكتم أمر النّاس
وتسلّطتم على رقابهم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) بأخذ الرّشى وأخذ أموال الناس بغير الحق وقتل النّفس
المحترمة وغير ذلك (وَتُقَطِّعُوا
أَرْحامَكُمْ) بأن لا تزوروهم ولا تسألوا عن أحوالهم ولا تساعدوهم فيما
يحتاجون إليه ونحو ذلك والاستفهام للتقرير.
٢٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ...) أي أبعدهم من رحمته فلا يشملهم فضله وإحسانه وجوده. (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي خلّاهم وتركهم على ما هم عليه من الأخلاق الرذيلة
والعقائد السّخيفة.
٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) أي فلا يتفكّرون بالقرآن حتى يقرّوا بما عليهم من الحق
ويعتبروا. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها) أي أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى ولا يصل إليها ذكر.
٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِهِمْ ...) أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالحجج الواضحة ، وظهر لهم طريق الحق بالحجج الواضحة (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى
لَهُمْ) أي زيّن لهم اتّباع أهوائهم في آمالهم ، أو مدّ أملهم بطول
أعمارهم.
٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا ...) إلخ أي التّسويل والإمهال كان منه سبحانه ، لأنّ المشركين
والمنافقين منهم قالوا للذين كانوا باقين على كفرهم وكانوا كارهين لما أنزل الله
من القرآن وما فيه من الأحكام (سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ) كالتّظاهر على عداوة محمد (ص) والقعود عن الجهاد. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي يظهرها للنّاس ليفضحها ويكشف سوء سرائرهم.
٢٧ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ
...) أي كيف يعملون وكيف تكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وكانوا
(يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) التي كانوا يتّقون أن تصيبها آفة في القتال فيفرّون
ويتجنّبون أذاها.
٢٨ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما
أَسْخَطَ اللهَ ...) أي اتّبعوا ما أغضبه من المعاصي الكبار (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي ما يرضيه من الإيمان (فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الخيرات لذلك.
٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ...) أي هل ظن مرضى النّفاق والعناد (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي لن يبرز الله لرسوله والمؤمنين أحقادهم؟
٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ...) أي لعرّفناكهم بدلائل يا محمد (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم وهيئتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي تصيير القول وتبديله عن الصّواب وفحوى الكلام (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) من حيث كونها بإخلاص أو نفاق فيجازيكم على حسب نيّاتكم.
٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ...) أي لنختبرنّكم بالجهاد وسائر الأعمال الشاقّة (حَتَّى نَعْلَمَ) نميّز (الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ) المطيعين من جملتكم (وَالصَّابِرِينَ) على التّكاليف الشاقّة (وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) عن إيمانكم وموالاتكم المؤمنين في صدقها وكذبها.
٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا ...) إلخ أي لم يؤمنوا ومنعوا غيرهم عن اتباع دين الله بالترغيب
والترهيب (وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي عاندوه وعادوه
من بعد ما ظهر لهم الحق وعرفوا أنه رسول الله صدقا. (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ
شَيْئاً) بمنعهم ومخالفتهم للنبيّ ونقض عهدهم (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) فلن يروا لها في الآخرة ثوابا.
٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ ...) أي في أوامره ونواهيه (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) فيما جاء به من عند ربّه (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) بما ينافي الإخلاص من كفر وعجب ورياء ومنّ وأذى وغيرها.
٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا ...) إلخ أي الذين منعوا وصرفوا الناس عن طريق الحق (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي آمنوا إلى أن ماتوا على الكفر (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي لن يفتح باب الرحمة الواسعة لهم أبدا ويكونون في العذاب
الأبديّ.
٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ ...) أي لا تضعفوا عن القتال وتدعوهم إلى الصّلح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) والحال أنكم الغالبون ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ناصركم ومعينكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجرها.
٣٦ و ٣٧ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ ...) أي سريعة الفناء والانقضاء ومن اختار الفاني على الباقي
كان جاهلا (وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) من ثواب إيمانكم وأجر تقواكم. (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي جميع الأموال بل يقتصر على يسير منها كالعشر ونصف العشر
، (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي سبحانه إن يطلب منكم جميع أموالكم (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يجهدكم بمسألة جميع أموالكم لا تجيبوه وتبخلون في
مسئوله (وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ) يظهر العداوة التي في صدوركم.
٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ...) أي أنتم يا هؤلاء (تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لو دعيتم لإنفاق مقدار من أموالكم في نفقة الجهاد ومصارف
الفقراء (فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ) أي من جملتكم من يبخل بماله ولا يرضى الإنفاق. (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ) أي من أمسك عمّا فرضه الله عليه فبخله بخل على نفسه لأن
ضرره عائد عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا يحتاج إلى إنفاقكم وأموالكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى ما عند الله من الخير والرحمة في الدّنيا والآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي وان تعرضوا عن طاعته وطاعة رسوله يستبدلكم بمن هو أطوع
لله منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثالَكُمْ) أي في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لمحمد وآل محمد (ص).
سورة الفتح
مدنية ، عدد آياتها ٢٩ آية
١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
...) أي قضينا لك يا محمد قضاء ظاهرا. قيل المراد به فتح مكة ،
وقيل صلح الحديبية.
٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ ...) أي المتقدّم من تركك المندوب يعني ما قبل النبوّة ،
والمتأخّر من تركه بعدها وقيل المراد ذنوب أمته بشفاعته (ص) وحسنت إضافة ذنوب أمته
إليه (ص) للاتصال والسبب بينه وبين أمته. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ) أي بإعلاء أمرك وإظهار دينك (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) أي إلى دين الإسلام ، أو يثبتك على طريق يؤدي بسالكه إلى
الجنة.
٣ ـ (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ...) أي ينصرك نصرا فيه منعة ولا ذلّ معه رغما لأنوف أعدائك.
٤ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ...) هي القوّة الملكوتيّة أو الأدلّة والبراهين السّاطعة التي
تستلزم بصيرتهم في الغزوات والفتوحات فتكون موجبة لتسكين قلوبهم وقيل هي الإيمان
الكامل (فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ) الذين لم يخالفوا النبيّ الأكرم ولم ينكروا عليه الصّلح (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي إيمانا بالشرائع كلّها التي تنزل على الرسول ، مع
إيمانهم بالله تعالى. (وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما يتجنّد منه من الملائكة والثقلين وغيرهم من ذوات
الأرواح مطلقا حتى الحشرات والهوام وغير ذوات الأرواح من الجمادات كالأرياح
والأمطار ومطلق المياه كالبحار والصّواعق والزّلازل ونظائرها من الممكنات ، فإنها جميعا
لها القابليّة لأن تكون جنوده تعالى ويهلك بها أعداءه سبحانه كما أهلكهم بها
مرارا. (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.
٥ ـ (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) إلخ. تقديره : إنا فتحنا لك ليغفر لك الله إنا فتحنا لك
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار دائمين فيها
مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ
اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي الإدخال والتفكير كان ظفرا عظيما يعظم الله به قدره.
٦ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ ...) الذين كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. أي أهل المدينة
، (وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ) وهم أهل مكّة (الظَّانِّينَ بِاللهِ
ظَنَّ السَّوْءِ) أي يظنّون بالله أنّه يخالف ما وعده لرسوله من النصر
والفتح (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ) أي يقع عليهم العذاب والهلاك والدائرة هي الراجعة بخير أو
شر (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته ومواهبه (وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي مرجعا.
٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) كرّرت هذه الجملة في الآية الرابعة وها هنا لأنها في
الأولى كانت قرينة لذكر المؤمنين وكانت بشارة لهم بالنّصر والظّفر ، وهي هنا تتّصل
بذكر المنافقين والمشركين لتوعيدهم وتخويفهم. (وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا عند القهر عارفا بتنظيم أمور مخلوقاته.
٨ و ٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي إنا بعثناك يا محمد برسالتنا شاهدا على أمتك بما فعلوه
من طاعة أو معصية ومبشرا بالجنة لمن أطاع ومخوّفا بالنار لمن عصى (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) التخاطب مع الحاضرين من أمّته (ص) (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) أي تقوّوه وتنصروه بنصر دينه ورسوله ، وتبجّلوه وتعظّموه
بتبجيل رسوله أو تعظيم دينه (وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي تصلّوا لله صباحا ومساء.
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ...) أي يعاهدونك يا محمد على العمل بما أمرتهم به ونهيتهم عنه.
والمراد بالبيعة هنا بيعة الحديبيّة وتسمّى بيعة الرّضوان (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي أن المبايعة معك تكون مبايعة مع الله لأن طاعتك طاعته
سبحانه (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) أي عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله
ببيعة نبيه (ص) فكأنهم بايعوه بلا واسطة. وقيل معناه : قوة الله في نصرة نبيه (ص)
فوق نصرتهم إياه. وقيل غير ذلك (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ
عَلى نَفْسِهِ) يعني أن ضرر نقض عهده يرجع عليه فلا يعود ضرره على الله
ولا على رسوله (وَمَنْ أَوْفى بِما
عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثبت على العهد والبيعة فإن له الجنة فإنّها أعظم الأجور
ولا يساويها أجر.
١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ ...) أي الّذين خلّفهم عن الخروج معه (ص) عام الحديبية ضعف
اليقين بالله ورسوله أو عدمه وأيضا خلّفهم الخوف من قريش حيث إنّهم كانوا يظنّون
أنّه (ص) يهلك على يد قريش مع أصحابه ولا يعودون إلى المدينة (مِنَ الْأَعْرابِ) أي أسلم وجهينة وغفار وغيرهم على ما قيل ، فقالوا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك لأنّه لم يكن أحد يقوم مقامنا في شؤونهم
وقضاء حوائجهم وهم يعنون أنّ تخلّفنا كان لعذر. (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله عن التخلّف عنك (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه يكذّبهم فيما يقولون في مقام الاعتذار
ويخبر رسوله عما في ضميرهم (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي يعلم وجه تخلّفكم وعلّة اعتذاركم واستغفاركم ولا يخفى
عليه شيء من ذلك.
١٢ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ ...)
إلخ أي ما كان
تخلّفكم لما قلتم ، بل كان سببه زعمكم بأن النبيّ (ص) لا يعود إلى المدينة أبدا
لأنه يهلك مع صحبه على أيدي أهل مكة (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي
قُلُوبِكُمْ) أي حسّن الشيطان ذلك الظن في قلوبكم بوسوسته (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ
وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي كان ظنكم بهلاك النبي (ص) والمؤمنين ظنا سيئا وكنتم
قوما هلكى لا تصلحون لخير.
١٣ ـ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ ...) أي من لم يصدّقهما قلبا ولم يتّبعهما عملا صالحا (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
سَعِيراً) أي نارا ملتهبة مشتعلة ،
١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي ملك تدبير وخلق وتصرف. (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فهو القادر المختار يستر ذنوب من أراد ويعاقب من يستحق
العقاب من عباده. (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) مر معناه.
١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ ...) إلخ يعني سيقول هؤلاء المعتذرون من المنافقين إذا خرجتم
أيها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ) أي لو ذهبتم إلى غنائم خيبر بعد الغزو والفتح (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي اتركونا نجيء معكم وذلك لأنهم طمعوا في الغنائم
الموعودة. (يُرِيدُونَ) بكلامهم هذا (أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلامَ اللهِ) ذاك أنه سبحانه هو وعده بغنائم خيبر لأهل الحديبيّة خاصّة
عوضا عن مغانم مكة ، (قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا) أي لا تتّبعونا أبدا فإن ربّي لا يجيزني حتى أرضى بذلك (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يعني قبل رجوعنا من الحديبيّة ، هكذا أوصاني ربّي (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي المخلّفون عن الحديبيّة يقولون أي ما حكم الله بذلك ،
بل أنتم تحكمون به علينا حسدا من أن نشارككم في الغنيمة. رجما بالغيب (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا
قَلِيلاً) أي كانوا لا يفهمون الحق وما تدعونهم إليه إلا شيئا قليلا
وقيل : إلا القليل منهم.
١٦ ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ
...) أي قل يا محمد للذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ) والمراد أن النبيّ (ص) عمّا قريب يدعوهم إلى قتال أقوام
ذوي نجدة وشدة مثل أهل حنين والطائف ومؤتة وتبوك وهوازن وغيرهم من المشركين (أَوْ يُسْلِمُونَ) معناه أن أحد الأمرين لا بد أن يقع إما دخولهم في الإسلام
أو قتالكم لهم. (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي تجيبوا إلى قتالهم. (يُؤْتِكُمُ اللهُ
أَجْراً حَسَناً) أي جزاء صالحا. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي كما انصرفتم عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً) أي في الآخرة.
١٧ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) إلخ لمّا أوعد الله المتخلفين ظنّ العجزة إن الوعيد شملهم
فنزلت الآية الشريفة لتسكين خواطرهم وأنهم معذورون فلا بأس عليهم إذا تخلّفوا ولا
إثم عليهم في ترك الجهاد. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من يطع الله في الأمر بالقتال وفي غيره له ذلك النعيم. (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً
أَلِيماً) أي ومن يتخلف ويعرض عن أمر الله ورسوله فيقعد عن القتال
يعذبه عذابا موجعا في الدنيا والآخرة.
١٨ و ١٩ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ ...) قد سبق تفصيله وقلنا إن وجه تسمية هذه المعاهدة ببيعة
الرّضوان لهذه الآية ، (إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص (فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي اللطف المقوي لقلوبهم والطمأنينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي فتح خيبر وقيل فتح مكة. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَها) هي أموال أهل خيبر يجمّعونها ويملكونها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) مر معناه.
٢٠ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً ...) إلخ أي لا تنحصر في مغانم خيبر بل مع النبي وبعده إلى يوم
القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ) أي غنائم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ) من أهل خيبر وحلفائهم ، وذلك أن النبيّ (ص) لمّا قصد خيبر
وحاصر أهلها همّت قبائل من أسد وغطفان وهوازن أن يهجموا على أموال المسلمين
وعيالاتهم بالمدينة فكفّ الله أيديهم عنهم بالرّعب في قلوبهم من النبيّ وعسكره (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ولتكون إمارة دالّة على صدق النبيّ (ص) في وعده للمؤمنين
بأخذهم الغنائم (وَيَهْدِيَكُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتكم على طريق الحق بفضله.
٢١ ـ (وَأُخْرى ...) أي وعدكم مغانم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا
عَلَيْها) ولعلّ المراد بها غنائم فارس أو الروم أو هوازن. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) علما بأنها ستصير إليكم (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادرا على فتح البلاد وإيصال الغنائم وغير ذلك من
الأمور.
٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ...) أي يا رسول الله اعلم أنه لو قاتلك الكفرة فهم المغلوبون
المنهزمون سواء كانوا من قريش أو غيرهم. (ثُمَّ لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي محبّا يتودّد إليهم ويحرسهم ولا ناصرا ينصرهم.
٢٣ ـ (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ ...) أي عادة الله السالفة وديدنه القديم على تغليب أوليائه على
أعدائهم (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تغييرا.
٢٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ ...) أي بالرعب والمقصود بهم المشركون (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) أي بالنهي عن قتالهم (بِبَطْنِ مَكَّةَ) المراد ببطن مكة هو الحديبيّة فإنه يحسب من داخل مكة. (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ) أي جعلكم تغلبونهم. (وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من جدالكم معهم أوّلا واطلاقكم إيّاهم بعد أخذكم لهم.
٢٥ ـ (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
...) إلخ الضمير راجع إلى كفّار مكّة الذين منعوا الرّسول
والصّحابة من دخولهم الحرم ليطوفوا فيه ويحلوا من عمرتهم. (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) أي وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها (ص) معه وكانت سبعين
من أن يبلغ محل نحره وهو مكة. وبعد أن تم الصلح نحرها (ص) في الحديبية. (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ) يعني بمكة ممن كانوا من المستضعفين من أهل الإيمان (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي أنتم لا تعرفونهم وغيركم أيضا (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي أن تهلكوهم حين المقاتلة لو أذن لكم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي بعد علمكم بقتلهم تلزمكم من جهتهم تبعة من دية أو إثم. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) موضعه التقديم وتقديره : لولا أن تطؤهم بغير علم (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي فكفّ عن القتال وصولحوا ليدخل الله برحمته من يشاء أي
ممن أسلم من الكفار بعد صلح الحديبية. (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميّز المؤمنون من الكافرين بأشخاصهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باهلاك الكفرة وسبي عيالاتهم وذراريهم ونهب أموالهم أو
إحراق بيوتهم عليهم والمقصود الكفرة من أهل مكة.
٢٦ ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ...) أي لعذبنا الذين كفروا وأذنّا لك في قتالهم حين جعلوا في
قلوبهم الأنفة التي تحمي الإنسان وتغضبه (حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ) يعني نخوة الجاهليّة وأنفتها التي أشربت في قلوبهم بحيث لا
ينقادون لأحد (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ولما كانت الحميّة التي في قلوبهم مانعة لإذعانهم وتصديقهم
بالألوهيّة والتوحيد والرّسالة فأنزل الله الطمأنينة على قلبه (ص) وقلوب أتباعه
ليتحملوا حمية القوم وأذاهم (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) أي قول لا إله إلّا الله والمعنى ثبتهم عليها. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لكونها أحقّاء بها وأهلا لها وغيرهم ليسوا كذلك (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) مر معناه.
٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ ...) إلخ فقد رأى رسول الله (ص) هذه الرّؤيا قبل خروجه إلى
الحديبيّة وصدقه الله رؤياه إذ رأى أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين من أعدائهم
محلّقين رؤوسهم وبعضهم يقصر بأخذ شيء من شعره أو ظفره وذلك بأن وفّقهم في السنة
التالية لسنة الرّؤيا لفتح مكة والإتيان بفريضتهم بتمامها وفق ما كان قد رأى رسول
الله (ص). (فَعَلِمَ ما لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم سبحانه من الصلاح والحكمة في صلح الحديبية ما لم
تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بين الكفار بعد الصلح فجعل من قبل دخولكم مكة
على هذه الصفة فتح خيبر.
٢٨ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى ...) يعني أرسل سبحانه محمدا بالدليل الواضح وقيل : بالقرآن ...
(وَدِينِ الْحَقِ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي ليعلو دين الإسلام (عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ) أي على الأديان كلّها بالحجة والبراهين الواضحة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما وعده المؤمنين من القهر والغلبة على المشركين.
٢٩ ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...) جملة مؤكّدة لما في الآية السّابقة من قوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ الَّذِينَ مَعَهُ) والمراد بهم أصحابه الخلّص. ومعنى الأشدّاء : الغلاظ
الشّداد لا يعصون الرّسول ما أمرهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي متعاطفون فيما بينهم (تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً) كناية عن كثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي لا يبتغون من غيره شيئا فلذا يسألون منه تعالى زيادة
ثوابه ورضاه منهم (سِيماهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة إيمانهم ظاهرة في وجوههم حيث تكون مواضع جباههم
يوم القيامة أشد بياضا. وقيل : هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون عليه. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي هذه الأوصاف العجيبة الحسنة هي صفتهم في كتاب موسى
وصفتهم في كتاب عيسى ، (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ) أي ورقه الذي هو في غاية الدقّة والضّعف (فَآزَرَهُ) أي فقوّاه تدريجا (فَاسْتَغْلَظَ) أي تدرّج ونما حتى صار من الدّقة إلى الغلظة ، ومن الضّعف
إلى القوّة (فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ) أي وصل إلى مرتبة من القوّة والاستعداد حتى استقرّ واعتدل
على أصوله. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي لغلظه واستوائه في تلك المدّة القليلة. ووجه التشبيه أن
النبي (ص) خرج وحده ثم كثر المؤمنون حتى تغلبوا على الكافرين في مدة وجيزة (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنّما كثر الله المؤمنين وقوّاهم ليكونوا غيظا للكافرين
بتكاتفهم وحرصهم على الطاعة (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً) أي الجنّة بمراتبها على درجات إيمان المؤمنين وأعمالهم في
الكثرة والقلّة ، فإنها الفوز العظيم والأجر الجزيل الذي لا يتصوّر فوقه شيء.
سورة الحجرات
مدنية ، عدد آياتها ١٨ آية
١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي لا تعملوا عملا إلّا بإذنهما ، ولا تفعلوا فعلا قبل أن
يحكما به. وقيل إن المراد بالتقدّم هو التقدّم في المشي (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) أي اجتنبوا معاصيه وأطيعوا أوامره ونواهيه.
٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) لأن فيه أحد أمرين إما الاستخفاف به وهو الكفر وإما سوء
أدب فهو خلاف الأمر بتعظيمه. (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي غضّوا أصواتكم فيما خاطبتموه فإنه ليس كأحدكم حيث إنّ
له شأنا شامخا ليس لأحد من البشر من آدم ومن دونه. (أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) علّة للنّهيين لمخافة حبوط أعمالكم بلا شعور منكم بالحبط
وعلّته.
٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) أي يخفضون أصواتهم في مجلسه (ص) تعظيما له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها فأخلصها للتقوى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي مغفرة لذنوبهم وأجر لطاعتهم.
٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ
وَراءِ الْحُجُراتِ ...) من خارجها أو خلفها : يا محمد أخرج إلينا فإنّ لنا حاجة
إليك. والمقصود حجرات نسائه (ص) وهم الأجلاف الجفاة من بني تميم. (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم سبحانه بالجهل وقلة العقل إذ لم يعرفوا مقدار النبي (ص)
وعظمته ولأن مقتضى العقل مراعاة الحشمة مع الرئيس مطلقا فضلا عن أن يكون نبيا
مرسلا.
٥ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ...) أي حتى يخرج إليهم بطبعه واختياره ، لكان الصبر أدبا
وتعظيما لشأنه (ص) خيرا لهم من مناداته من وراء الحجرات. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب منهم.
٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ
فاسِقٌ بِنَبَإٍ ...) أي لو أخبركم من لا يتجنّب الكذب وغيره من المناهي
والمنكرات بخبر ما (فَتَبَيَّنُوا) تحقّقوا منه (أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ) مخافة أن توقعوا جماعة من المؤمنين في مصيبة جاهلين بحالهم
(فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي فتصيروا على عملكم مغتمّين ومتمنّين قائلين يا ليت أنّه
لم يقع إذ لا تفيدكم النّدامة.
٧ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللهِ ...) الآية الشريفة تنبيه للمؤمنين أي فاتقوا الله أن تكذبوه أو
أن تقولوا باطلا عنده لأنّ الله سبحانه يخبره بذلك فلا تفعلوا عملا يفتضح ، (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لا يترقّب أحد منكم أن يطيعه النبيّ (ص) في أكثر أموره
، بل حتى في بعضها ، لأنه لو كان كذلك لوقعتم في الهلاك أو المشقة الشديدة التي لا
تطاق (وَلكِنَّ اللهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي جلاه وحسّنه في قلوبكم بما أقامه من الأدلة على صحته
وبما وعد عليه من الثواب العظيم. (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ) بما توعّد به من العقاب عليه وأقام الأدلة على قبحه
وبألطافه سبحانه الصارفة لكم عنه (وَالْفُسُوقَ) أي كره إليكم الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه وقيل :
الفسوق الكذب. (وَالْعِصْيانَ) جميع المعاصي. (أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ) أي الذين اتّصفوا بالصّفات المذكورة هم المهتدون إلى كلّ
خير وسعادة.
٨ ـ (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً ...) أي حببت إليهم الإيمان وكرهت إليهم الكفر والمعاصي تفضلا
مني عليهم ورحمة مني لهم.
٩ ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا ...) أي فريقان من المؤمنين قاتل واحد منهما صاحبه. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بما فيه رضا الله ورسوله (فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) أي تعدّت عن الحق بالنسبة إلى الأخرى وتجاوزت عن حدود
الشرع (فَقاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى حكم الله (فَإِنْ فاءَتْ) أي تحوّلت عمّا كانت عليه من البغي (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فلا مفاضلة بينهما في مقام الإصلاح وإلّا لم ينتج
الإصلاح ، (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا في الأمور جميعا لأن قوامها به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين قولا وفعلا.
١٠ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...) أي في الدين تجب نصرة بعضهم بعضا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) أي إذا تشاجرا وتنازعا ، والتثنية باعتبار الأغلب. (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أي خافوا الله واحذروا عقابه وشدائد عذابه ولعلّها تشملكم
رحمته باتّقائكم إيّاه جلّ وعلا.
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ...) أي لا يهزأ رجال من رجال. (عَسى أَنْ يَكُونُوا
خَيْراً مِنْهُمْ) إلخ أي لعل المسخور منه أو منها أكرم وأحسن عند الله من
السّاخر. (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) ولا يعيب بعضكم بعضا. (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ) أي لا تلقّبوا بعضكم بعضا بالألقاب الدّنيئة المشعرة
بالذّم والتعيير. وقيل معناه لا يلعن بعضكم بعضا (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي لا تسمّوا المؤمنين بالأسماء التي تدل على فسقهم قبل
إيمانهم كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أو يا خمّار فبئس الاسم أن يقال له ذلك
وقد آمن. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يرجع إلى طاعة الله بإقلاعه عن اللمز والتنابز
والمعاصي فأولئك هم الظالمون نفوسهم بتعريضها لعقاب الله.
١٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ...) أي اتّقوا ودعوا كثيرا من الظّن ، وقيّد بالكثرة لأن منه
ما يحسن كحسن الظنّ بالله وبأهل الخير والصّلاح لكنّه في مقابل الظّنون السيئة
قليل من كثير. (إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ) أي يستحقّ العقوبة عليه وهو مما كان يمكن دفعه بالعلم فلم
يفعل بل رتب الأثر عليه. (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تتّبعوا عورات المؤمنين ولا تتفحّصوا عنهم وعن مجاري
أمورهم لكي تطّلعوا على سرائرهم وعلى سوآتهم (وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. وسئل
النبي (ص) عن الغيبة فقال (ص): أن تذكر أخاك بما يكرهه ، فإن كان فيه فقد اغتبته
وإلّا فقد يهتّه. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) وتأويله : إن ذكرك بالسوء من لم يحضرك بمنزلة ان تأكل لحمه
وهو ميت لا يحس بذلك أو كما كرهتم أن يأكل أحدكم لحم أخيه وهو ميت فاجتنبوا ذكره
بالسوء حال غيبته عنكم (وَاتَّقُوا اللهَ) أي بترك الغيبة بل وسائر المعاصي (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أما كونه توّابا فلكثرة العاصين التائبين إليه تعالى أو
لكثرة ذنوب المذنبين.
١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْناكُمْ ...) إلخ أي من آدم وحواء والمعنى أنكم متساوون في النسب فلا
تفاخر بالأنساب (وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً) جمع شعب وهو أعمّ طبقات النّسب (وَقَبائِلَ) هي دون الشعوب. (لِتَعارَفُوا) أي لأن يعرف كلّ واحد منكم الآخر عند اشتراك الاسم أو نحوه
مما هو سبب للشّبهة. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي إن أكثركم ثوابا وأرفعكم منزلة عند الله أترككم لمعاصيه
وأفعلكم لطاعاته. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) أي عليم بأحوالكم خبير بسرائركم.
١٤ ـ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا ...) نزلت الكريمة على ما يروى عن ابن عباس في نفر من بني أسد
قدموا المدينة في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر وذلك طمعا في الصدقة
يأخذونها فأمر سبحانه نبيّه بأن يخبرهم بما في نفوسهم وأنهم لم يصدقوا بالله
ورسوله على الحقيقة وإنما هم مسلمون ظاهرا. (وَلكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي أو طمعا في
الزكاة. وبذلك يكون إسلامكم على ألسنتكم ولم تصدّق قلوبكم وهذا يدل على أن الإيمان
محله القلب. (وَإِنْ تُطِيعُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي إن تطيعوا الله ورسوله لا ينقص من أجر عملكم شيئا. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.
١٥ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي المؤمنون الّذين صدّقوا بالله ورسوله (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي لم يشكّوا ولا كذبوا في ادّعائهم الإيمان بأن قالوا
بألسنتهم ما تنطوي عليه قلوبهم فعلا.
١٦ ـ (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ
...) إلخ أي هل تخبرونه بما أنتم عليه من دين ومعتقد فهو سبحانه
عالم بذلك لا يحتاج إلى أخباركم إذ هو العالم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية في
السموات ولا في الأرض.
١٧ ـ (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...) أي يحسبون أنّك تستفيد بإسلامهم ولذا يعدّونه منّة عليك (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) لا تحمّلوني جميلا به ولا منّة (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) وله سبحانه الفضل والمنّة على هدايتكم لهذا الدين الشريف (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في ادّعاء الإيمان مضافا إلى الإسلام بأن طابق قولكم
تصديق قلوبكم.
١٨ ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي يعرف كلّ شيء ممّا هو مستور ومخفيّ فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي أنه شديد الرؤية ، لما تفعلونه في العلانية وفي الخفاء.
سورة ق
مكية ، عدد آياتها ٤٥ آية
١ ـ (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ... ق) في المقام قسم. قيل في معناه أنه اسم من أسمائه سبحانه
وقيل أنه اسم جبل محيط بالدنيا وهو (وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) أي الكريم على الله العظيم في نفسه وهو قسم أيضا.
٢ ـ (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ ...) المراد بالمنذر محمّد (ص) والذين تعجّبوا هم قريش وهو منهم
حيث حسبوا أنه لا يوحى إلا لملك (فَقالَ الْكافِرُونَ) من قريش وغيرهم (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي كيف يكون ذلك ، ويكون محمد البشر رسولا فأنكروا رسالته.
٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) أي هل إذا جاءنا الموت وفنيت أجسادنا نبعث أحياء من جديد (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي هذا الأمر محال فلا يعقل رجوعنا.
٤ ـ (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ ...) أي ما تأكل الأرض من أجسادهم بالموت فينقص عدد الأحياء (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها ، وهو اللوح المحفوظ عن أي
تغيير. (بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ...) أي كذبوا بالقرآن أو بمحمد (ص) فهم في وضع مختلط عليهم
فمرة يقولون ساحر ومرة مجنون ومرة كذاب ومرة شاعر فهم متحيرون لأنهم يجهلونه.
٦ ـ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ...)
أي كيف لا ينظر من
كفر بالبعث والنشور إلى السماء رفعناها فوقهم بلا عمد وهذا ليس إلّا من كمال
قدرتنا (وَزَيَّنَّاها) بالشمس والقمر والنّجوم (وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ) أي ليس فيها شقوق بل هي متلاصقة الطّباق.
٧ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ...) أي بسطناها حسب استعدادها (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) أي جبالا مستقرّة ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي أخرجنا من الأرض من كل صنف حسن المنظر.
٨ ـ (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ ...) أي ما ذكر لمزيد البصيرة لكلّ عبد راجع إلى ربه يتفكر في
بدائع صنعه.
٩ ـ (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً ...) أي كثير الخير والبركة بحيث لا تحصى ولا تعد منافعه (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي بساتين ذات أشجار وثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) كالزرع الذي هو قائم على ساقه كالحنطة والشعير فيحصد في
أوان حصاده.
١٠ ـ (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ ...) أي وأنبتنا به النخل طوالا مرتفعات (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطّلع ما يخرج من النّخلة في أكمامها ملتصق بعضه ببعض.
١١ ـ (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي أنبتنا هذه الأشياء رزقا للخلق وكل رزق فهو من الله إما
بفعله بابتداء أو بفعل سببه (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء. (بَلْدَةً مَيْتاً) أي جدبا وقحطا لا تنبت فاخضرت وعاشت (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور أي كما أنزلنا الماء من السّماء وأخرجنا به
النّبات من الأرض وأحيينا به البلدة الميّتة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
١٢ إلى ١٤ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) من الأمم الماضية (قَوْمُ نُوحٍ) فأغرقهم الله (وَأَصْحابُ الرَّسِ) وهم أصحاب البئر التي رسّوا نبيهم فيها بعد أن قتلوه ،
وقيل كانوا باليمامة. (وَثَمُودُ) وهم قوم صالح (وَعادٌ) وهم قوم هود (وَفِرْعَوْنُ) أي كذب موسى (وَإِخْوانُ لُوطٍ) أي قوم لوط كذبوا لوطا. (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) أصحاب الشجر الملتفّ وهم قوم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) تبّع أحد التبابعة من ملوك جمير سمّي به لكثرة أتباعه وهم
سبعون تبّعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها من العرب والعجم. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِيدِ) أي كل من هؤلاء المذكورين جحدوا نبوة من بعث إليهم من
الأنبياء فثبت وعده تعالى للمكذّبين للرّسل بالانتقام.
١٥ ـ (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ...) الاستفهام للتقرير ، أي أفعجزنا حين خلقناهم أول مرة فكيف
نعجز عن بعثهم وإعادتهم وكانوا قد اعترفوا بأن الله خلقهم ابتداء (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ) أي أنهم لا ينكرون قدرتنا عن الخلق الأول بل ينكرون الثاني
لشبهة حصلت فيه مثلا كشبهة الآكل والمأكول الّتي لا يقدر الإنسان الجاهل على
دفعها.
١٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ...) إلخ أي ما تحدّثه به نفسه ، وهو ما يخطر بالبال والوسوسة
الصوت الخفيّ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي نعلم أموره الخفيّة الّتي ليس لها صوت بل تخطر على
البال فقط فإننا أقرب إليه من شرايين دمه. المراد بالحبل هنا العرق ، وإضافته إلى
الوريد بيانيّة. والوريد هو العرق المكتنف بصفحة العنق وفي مقدّمها متّصل بالوتين
، والوتين عرق يتعلّق بالقلب إذا قطع مات صاحبه.
١٧ و ١٨ ـ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ...) هما الملكان الحافظان يأخذان ما يتلفّظ به (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ
قَعِيدٌ) أي لا يتلقّى أحدهما عن الآخر بل كلاهما لا بدّ منهما ،
كاتب للحسنات على يمينه ، وكاتب للسيّئات على يساره ، (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي ما يرمي من كلام من فمه إلا لديه حافظ معه أي ملك عن
يمينه وملك عن شماله كل منهما مهيأ حاضر لكتابة حسناته وسيئاته.
١٩ ـ (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ...) أي شدّته التي تغيّر وضع الإنسان وعقله بحيث لا يفهم شيئا
كالسّكر من الشراب ، (بِالْحَقِ) إمّا للقسم والمراد من الحق هو الله تعالى ، وإمّا
للتّأكيد ، أي مجيء سكرة الموت حقّ ثابت لا شبهة فيه (ذلِكَ ما كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ) أي ذلك الموت تميل عنه يمنة ويسرة وتهرب منه.
٢٠ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ) أي وقوع ما خوّف الله به عباده من العقاب ليستعدوا للقائه
بالعمل الصالح.
٢١ ـ (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ
وَشَهِيدٌ ...) أي سائق من الملائكة يسوقها إلى محشرها وشاهد من الملائكة
يشهد عليها بعملها الّذي عملته في دار الدّنيا.
٢٢ ـ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ...) أي يقال له : لقد كنت في سهو ونسيان من هذا اليوم في دار
الدنيا. (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ) أزلنا ونزعنا الحاجب لأمور المعاد الذي كان يغشى سمعك
وبصرك وقلبك حتى ظهر لك أمر الآخرة بجلاء (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ) أي نظرك في دار البقاء في غاية الشدّة والحدّة.
٢٣ ـ (وَقالَ قَرِينُهُ ...) أي الملك الموكّل به ، (هذا ما لَدَيَّ
عَتِيدٌ) أي هذا حسابه الحاضر المهيّأ له عندي.
٢٤ إلى ٢٦ ـ (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ) : الخطاب في هذه الآية الشريفة للملكين السّائق والشاهد أي
ألقيا في جهنم كل كفار ذاهب عن الحق وسبيل الرشد عقابا له. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي كثير المنع والبخل عن البذل للمال كما أمر الله في وجوه
الخير والبر (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) شاكّ في الله وفي دينه ومتعدّ على حرماته جلّ وعلا. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي ارمياه في نار جهنم.
٢٧ ـ (قالَ قَرِينُهُ ...) أي شيطانه الذي أغواه (رَبَّنا ما
أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ما أنا الذي جعلته طاغيا باغيا متمرّدا على الدّين
ومصرّا على الكفر ، ولكنه هو اختار الذهاب البعيد عن الحق. (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ...) أي لا تتنازعوا أمامي في موقف الحساب (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ) أي أنذرتكم لقاء يومكم هذا وذلك في دار الدنيا على يد
رسلي. فليس لكم اليوم من حجة تحتجون بها.
٢٩ ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ...) أي إنّ ما أنذرتكم من عقاب الجاحد المعاند وإثابة المؤمن
المطيع لا يمكن اليوم أن يحصل خلافه (وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأعذّب من ليس لي تعذيبه.
٣٠ ـ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ...) أي اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يقول الله فيه لجهنم هل
امتلأت من كثرة ما ألقي فيك من العصاء فتجيب النار بطلب الزيادة كناية عن عدم
امتلائها. وقيل المعنى معنى الكفاية أي لم يبق مزيد لامتلائها.
٣١ إلى ٣٤ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
...) أي دنت وقربت الجنّة للذين اتقوا الشرك والمعاصي. وقيل
زيّنت لهم. (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي لا بعد فيه بينها وبين أهلها (هذا ما تُوعَدُونَ) أي هذا الذي ذكر من الثواب هو ما كنتم توعدون به على ألسنة
الرسل في الدنيا نتيجة طاعتكم (لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ) يعني لكلّ رجّاع إلى الطاعة. وقيل لكل مسبّح له سبحانه.
حافظ بقوة لما أمر الله متحرز بشدة من الخروج عنه إلى ما نهي عنه. (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ
وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي هو من خاف الله بإطاعته وترك معصيته حتى في الخلوات
التي لا يراه فيها أحد غيره سبحانه وأقام على ذلك حتى وافى الآخرة بقلب مقبل على
التوبة والطاعة. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) يقال لأهل الجنة ادخلوها بسلامة من العذاب والغم مسلّما
عليكم من الله
(ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ) أي يوم الإقامة الدائمة في الجنّة مؤبدين.
٣٥ ـ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا
مَزِيدٌ ...) أي لهم في الجنة ما يشتهون وما يريدون وعند الله له زيادة
عليه مما لم يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
٣٦ و ٣٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ
...) أي كم دمّرنا من قوم كذبوا رسلهم قبل هؤلاء (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي الذين أهلكناهم كانوا أشد قوة من قومك وأكثر عدة وعددا (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي ساروا في البلاد وطوّفوا فيها بقوتهم وشدة بطشهم
وتفحصوها وتحسسوا فيها لتحصيل أخبارها. وقيل فتحوا المسالك في البلاد بقوتهم. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) يعني هل من مفرّ لهم من الله أو من الموت؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ
لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتعقّل به ويتفكّر فيما يقال له من عنده تعالى (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع له وهو حاضر القلب
فيتفقه ما يستمع إليه.
٣٨ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي ما أصابنا تعب ولا عياء. وهذه الشريفة ردّ لقول اليهود
إنّ الله استراح يوم السّبت.
٣٩ و ٤٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي اصبر يا محمد على ما يقوله المشركون من تكذيبك فإنهم لا
يعجزون الله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) أي نزّهه عمّا يقول الكافرون عمّا لا يليق به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ) أي عند الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) أي فسبّحه بعض اللّيل (وَأَدْبارَ
السُّجُودِ) أي في عقيب الصّلاة.
٤١ و ٤٢ ـ (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ...) أي انتظر بهم إلى اليوم الذي ينادي فيه إسرافيل بصيحته
التي توقظ الأموات للبعث والنشور ، فيسمع الكلّ على حد سواء ، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) أي تلك النّفخة الثانية في الصور (بِالْحَقِ) أي بالوعد الحقّ الذي لا خلف فيه (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي يوم الرجعة والبعث للحساب والخروج من الأجداث.
٤٣ و ٤٤ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ...) أي نحيي الأحياء في الدنيا ، ثم نميتهم بقدرتنا ومشيئتنا ،
وإلينا مصيرهم ومآلهم في الآخرة (يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ) تنفتح عنهم قبورهم والأماكن التي ابتلعت رفاتهم من الأرض (سِراعاً) فيأتوننا مسرعين لأن (ذلِكَ) الأمر (حَشْرٌ) جمع (عَلَيْنا يَسِيرٌ) سهل علينا غير شاق ولا متعذّر.
٤٥ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ...) أي نحن أدرى بقولهم بتكذيبك وجحدهم لنبوتك وإنكار البعث (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي لست عليهم بمتسلّط لتقهرهم وتجبرهم بالإيمان (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ) أي حذّر ونبّه به من يخشى تهديدنا ويخاف وعيدنا فإنه لا
ينتفع بالقرآن غيره.
سورة الذاريات
مكية ، عدد آياتها ٦٠ آية
١ ـ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ...) روي أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين عليّا (ع) وهو يخطب
على المنبر فقال : ما الذّاريات ذروا؟ قال (ع) : الرّياح.
٢ ـ (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال السّحاب.
٣ ـ (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال السّفن تجري على وجه الماء بسهولة إلى حيث سيّرت قال
ابن الكواء.
٤ ـ (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال (ع) : الملائكة يقسّمون الأرزاق بين الخلق على ما
أمروا به على حسب حوائجهم. وقد أقسم سبحانه بكل هذه الأمور.
٥ ـ (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي من البعث وغيره ولا خلف فيه.
٦ ـ (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء (لَواقِعٌ) بلا شبهة وبلا ريب فيه. والآيتان إنما توعدون وإن الدين
جواب القسم.
٧ إلى ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ...) أي ذات الطّرق فيها وإليها وإن لم نرها لبعدها ، أو النجوم
المزيّنة لها ، وهذا قسم منه سبحانه (إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) جواب القسم أي إنكم يا أهل مكة أقوالكم مختلفة في محمّد (ص)
إذ قال بعضكم : هو شاعر ، وبعضكم : ساحر ، وبعضكم قال : مجنون وأقوالكم في كتابه
مختلفة ، بعضكم قال إنه شعر ، وطائفة أخرى قالت : هو سحر ، وثالثة هو ما سطّره
الأوّلون (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) أي يصرف عن الإيمان بالحقّ من صرف.
١٠ ـ (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ...) أي الكذّابون على الله ورسوله. (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي في شبهة وغفلة وقد غمرهم الجهل وهم لاهون عما يجب
عليهم. (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألون استهزاء متى يوم جزاء الأعمال.
١٣ ـ (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يكون هذا الجزاء يوم يحرقون وبأشدّ العذاب يبتلون ويقال
لهم.
١٤ ـ (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذاب حريقكم (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) لرؤيته وأنتم في الدّنيا استبعادا له ، فقد حصّلتم الآن
صحّته.
١٥ إلى ١٩ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ ...) تقدم معناه (آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ) أي ما أعطاهم سبحانه من الكرامة والثواب (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُحْسِنِينَ) أي أن المتّقين قد أحسنوا بأعمالهم في الدنيا يوم القيامة
والحساب ، (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون قليلا في لياليهم ، لأنهم كانوا يصلّون في
أكثرها. (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) أي مع ذلك كانوا كأنّهم بانوا في معصية يستغفرون منها في
أوقات السّحر (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌ) أي نصيب معلوم ألزموا به أنفسهم (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي من عفّته لا يسأل
الناس.
٢٠ إلى ٢٣ ـ (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ
...) أي فيها دلائل للمصدّقين المقتنعين بالحقّ وهم وحدهم
المنتفعون بها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أخرى على وحدانيته وقدرته (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا ترون
الأعاجيب في نفوسكم من تحولها من حال إلى حال فيدلكم ذلك على الخالق القادر
الحكيم. (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ينزل الله إليكم رزقكم بأن يرسل الغيث فيخرج به من الأرض
أصناف ما تقتاتون به وتلبسونه وفي السماء أيضا ما توعدون به من الثواب والعقاب. (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) قسم منه عزوجل يقول فيه (إِنَّهُ لَحَقٌ) ما يقوله من أمر الرزق والوعد (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) هو أمر يقينيّ كنطقكم!.
٢٤ و ٢٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ ...) أي هل جاءك يا محمد خبر الضّيوف الكرام عند الله الذين
نزلوا على إبراهيم (ع) وقيل كانوا أربعة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا
سَلاماً) أي حين دخلوا على إبراهيم فحيوه بقولهم سلاما (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي قال لهم جوابا عن ذلك سلام وقال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم.
٢٦ و ٢٧ ـ (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ...) أي ذهب إلى أهل بيته خفية (فَجاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ) مطبوخ. وقال الله في قصة هود (حَنِيذٍ) أي مشويّ (فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) بعد ما قربه إليهم ليأكلوا فلم يأكلوا ، فلما رآهم لا
يأكلون عرض عليهم فقال ألا تأكلون. أو إنما قال ذلك إنكارا لعدم أكلهم. وفي الكلام
حذف.
٢٨ إلى ٣٠ ـ (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ...) أي خاف منهم لإعراضهم عن طعامه وظن أنهم يريدون به سوءا (قالُوا لا تَخَفْ) أي قال له الملائكة لا تخف يا إبراهيم (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي يكون عالما إذا كبر وهو إسحاق (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) فلما سمعت امرأته سارة البشارة أقبلت في ضجة تولول وضربت
جبينها تعجبا بجماع أصابعها وقالت أنا عجوز عاقر فكيف ألد ، وقيل كان عمرها يومئذ
تسعا وتسعين سنة. (قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ) أي كما قلنا في البشارة (إِنَّهُ هُوَ
الْحَكِيمُ) في صنعه (الْعَلِيمُ) بخلقه.
٣١ إلى ٣٤ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ ...) أي ما هو شأنكم (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي إلى قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
طِينٍ) هو طين يحرق في نار الجحيم فيصير حجرا قاسيا وهو يسمّى
بالسّجّيل ، والله تعالى أعدّه للعذاب ، (مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي جرى وسمها وإعدادها للمتجاوزين حدود الله المنغمسين في
الفجور.
٣٥ إلى ٣٧ ـ (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ...) فيها : يعنى في قرى قوم لوط ، قبل الخسف بها وبأهلها (فَما وَجَدْنا فِيها) أي لم يكن في تلك القرى على كثرتها (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سوى بيت واحد فيه مسلمون وهو بيت لوط (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) أي جعلناها علامة على إهلاكنا لمن عصانا وتمرّد علينا
وبرهانا واضحا على قدرتنا (لِلَّذِينَ يَخافُونَ
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم المعتبرون بما حلّ بها نتيجة الكفر فيخافون عقابه.
٣٨ إلى ٤٠ ـ (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ ...) أي إن في قصّة موسى لآية لمن كان يتفكّر ويتدبّر ، وذلك
حيث بعثناه رسولا منّا (إِلى فِرْعَوْنَ
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ببرهان واضح قاطع وهو العصا. (فَتَوَلَّى) فرعون أي انصرف عن الحقّ (بِرُكْنِهِ) أي بجنوده الذين يستند إلى قوّتهم (وَقالَ) فرعون عن موسى إنه (ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) استدرجناهم نحو البحر (فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِ) ألقيناهم في غمر الماء وأغرقناهم مع فرعون (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي أتى بما يلام عليه من الكفر والعناد.
٤١ و ٤٢ ـ (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ ...) أي وفي عاد أيضا علامة وآية فيها عبرة حين أطلقنا عليهم
الريح لا خير فيها بل هي عذاب وهلاك. (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي لا تدع شيئا تمرّ عليه (إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ) أي جعلته كنبت الأرض اليابس المداس ، وقيل هو العظم البالي
المسحوق.
٤٣ إلى ٤٦ ـ (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ...) قد مرّت قصص إهلاك هؤلاء الأقوام. والمراد بالحين في
المقام هو المتمتّع في دارهم ثلاثة أيّام كما مرّ سابقا ، وبعد ذلك ينزل العذاب
عليهم (فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي عصوا ، وبعد ثلاثة أيّام حيث جاءتهم الصاعقة معاينة
بالنّهار (فَمَا اسْتَطاعُوا
مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ما قدروا على الثبات أمام الصاعقة وما كانوا ممتنعين (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن الاستقامة بالكفر بالعصيان.
٤٧ إلى ٥١ ـ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ...) أي بنيناها بقوة وإنا قادرون على خلق ما هو أعظم منها. (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي مهّدناها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي الذين يبسطون الفراش (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي صنفين كالذّكر والأنثى والجن والإنس والليل والنهار
وهكذا. لكي تعلموا أن خالق الأزواج واحد. (فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ) أي اهربوا إليه بطاعتكم له خوفا من عقابه ، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف لكم من العقاب موضح لما جئتكم به (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ) لا تشركوا معه معبودا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) مر معناه.
٥٢ إلى ٥٥ ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) أي كمثل قومك هؤلاء ، فإنه لم يجيء لمن قبلهم (مِنْ رَسُولٍ) ينذرهم يبشّرهم (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ
أَوْ مَجْنُونٌ) إلا وصفوه بهذا الوصف. (أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يعني لا ، لم يتواصوا به ولكنهم أهل بغي وطغيان (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي انصرف عنهم (فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ) يعني فلا تلام على إعراضك عنهم بعد بذلك الجهد في تذكيرهم
وتخويفهم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ثابر على الوعظ والإرشاد فإن ذلك ينفع المصدّقين بنا
وبك.
٥٦ ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ...) أي ما خلقتهم إلّا من أجل طاعتي وعبادتي ومن أجل أن أختبر
المصدّقين بي وأميّزهم عن المكذّبين فأثيب المطيع وأعاقب العاصي.
٥٧ و ٥٨ ـ (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ...) أي لم أخلقهم ليرزقوني ولا ليطعموني كما هو شأن السّادة
والأكابر بالنسبة إلى عبيدهم وأصاغرهم لأني الغني وهم الفقراء (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي الّذي يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي ذو القدرة القوي الذي لا يعتريه وهن ولا يمسّه لغوب.
٥٩ ـ (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي ظلموا رسول الله بالتّكذيب وأنفسهم بالكفر (ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي لا تطلبوا منّي العجلة في العذاب الذي ينتظرهم.
٦٠ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ...) أي ويل لهم من يوم القيامة.
سورة الطور
مكية ، عدد آياتها ٤٩ آية
١ إلى ٨ ـ (وَالطُّورِ ...) جبل كلّم الله عليه موسى وهو في صحراء سيناء وقد أقسم الله
به وبما بعده. (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي كتاب فيه ، كالقرآن أو التوراة أو ما كتب في اللوح
المحفوظ ، (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أي في الجلد الذي يكتب فيه ما يكتب. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قيل : هو السماء فإنها سقف الأرض. (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المملوء وقيل هو الموقد المحمّى بمنزلة التنور. قيل بأن
البحار تجعل نيرانا يوم القيامة ثم تصير بحرا واحدا ثم تفجر إلى النار (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ
مِنْ دافِعٍ) هذا جواب القسم ، حيث أقسم الله بكل ما ذكر على أن تعذيب
المشركين واقع لا محالة. ولا قوّة تمنع ذلك العذاب عنهم.
٩ إلى ١٢ ـ (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ...) أي تتحرّك وتدور بما فيها وتموج موجا. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي سيرا سريعا وتزول من أماكنها حتى تستوي الأرض. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا حدث ذلك فالويل للمكذبين بالبعث والنشور. (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي يخوضون في المعاصي ويلهون بحديث إنكار بالبعث والمعاصي.
١٣ إلى ١٦ ـ (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا ...) أي يدفعون يوم الحساب إلى جهنم دفعا عنيفا قاسيا. (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها
تُكَذِّبُونَ) فانظروا إليها ليتحقّق لكم ما وعدناكم به من تعذيب من
عصانا وكفر بما جاءت به رسلنا.
(أَفَسِحْرٌ هذا) الذي تعاينونه. (أَمْ أَنْتُمْ لا
تُبْصِرُونَ) أنتم لا ترون دلائله يوم أنذركم بها رسلنا. (اصْلَوْها) أي ادخلوها واحترقوا فيها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا) أي صبركم وعدمه. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) في عدم النّفع. (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم المعاصي في الدنيا يرجع إليكم هذا اليوم.
١٧ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَعِيمٍ ...) أي إنّ الذين يتجنبون معاصي الله خوفا من عقابه هم يوم
القيامة في بساتين تجري من تحتها الأنهار وفي سعادة وراحة. (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) متلذّذين بفاكهتها متنعمين بما أعطاهم ربهم من النعيم
الدائم. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ
عَذابَ الْجَحِيمِ) الجحيم المكان الشديد الحرارة أي جنّبهم عن هذا العذاب
الشّديد. (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا طيّبا لكم بما عملتم من الحسنات (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي مصطفّة موصول بعضها ببعض. (وَزَوَّجْناهُمْ
بِحُورٍ عِينٍ) مرّ تفسيره.
٢١ إلى ٢٣ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ...) أي المؤمنين وأولادهم. (أَلْحَقْنا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ) حشرنا أولادهم معهم. (وَما أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرهون ومأخوذ بعمله إن كان خيرا فخير وإن شرّا فشر ولا
ننقص من عملهم شيئا. (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي أعطينا بوفرة وزدناهم وقتا بعد وقت من مشتهياتهم من
أصناف الفاكهة وبلحم من الصنف الذي يشتهونه. (يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتعاطون بينهم في الجنّة كؤوس الخمر الحلال التي لا
كلام بعدها بالباطل والسفاهة بسبب شربها ولا إثم كخمور الدنيا.
٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ...)
أي يدور عليهم
خدمهم ومماليكهم الذين هم في الحسن والبهاء كالدّرر المستورة المخبّأة في الصّدف. (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) أخذ يسأل بعضهم
بعضا عن أحوالهم. (قالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ) أي أيام الدنيا. (فِي أَهْلِنا
مُشْفِقِينَ) خائفين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا) تفضل الله علينا بالجنة. (وَوَقانا عَذابَ
السَّمُومِ) أي جنّبنا النّار. (إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نعبده ونحن في دار الدنيا ونسأله فضله ورحمته (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي هو اللطيف بعباده الرحيم بهم.
٢٩ إلى ٣١ ـ (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ...) أي أنذرهم يا محمد وأدعهم إلى الهدى ولست بما أنعم الله عليك
من النبوة بكاهن يعمل الكهانة التي توجب إطاعة أوامر الجنّ ولا في عقلك مسّ أو خلل
كما يقول هؤلاء الكفار. (أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل يقولون ننتظر به حوادث الدهر والموت. (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي تمنّوا موتي وانتظروه ، فأنا أيضا أنتظر موتكم ووقوع
الحوادث المهلكة بكم.
٣٢ إلى ٣٤ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا
...) أي هل تأمرهم عقولهم بهذا الذي هم عليه والذي يقولونه (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل هم متجاوزون لحدودهم ومعاندون للحق؟ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلق القرآن من عنده ونسبه إلى ربّه. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هو من عند الله قطعا ولكنهم لا يصدّقون. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كانُوا صادِقِينَ) أي فليأتوا بمثل القرآن في نظمه وحسن بيانه إن كان ما
يقولونه من أنه من صنع محمد صدقا وحقا.
٣٥ إلى ٤٣ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخالِقُونَ)؟ أي هل وجدوا من غير موجد وخالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي خلقت قبل خلقهم وإيجادهم؟ لا ، فإنه لا يعقل الأثر
قبل المؤثر (بَلْ لا يُوقِنُونَ) لا يصدّقون بأن لهم إلها وبأنك رسوله إليهم. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي هل يملكون خزائن علمه وفضله فحقّ لهم أن يختاروا
للنبوّة من شاؤوا (أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ) أي المتسلّطون على العالم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي مصعد إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ) الوحي (فِيهِ) أي من على ذلك السلّم. (فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يعني فليجئ ببرهان واضح على دعواه. (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) كما قال المشركون بأن الملائكة بنات الله (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فتلك إذا قسمة ضيزى فيها حيف. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ) أي أثقلهم ذلك الأجر الذي طلبته منهم فمنعهم ذلك عن
الإيمان. (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يعني هل عندهم علم الغيب حتى يعلموا بأن محمدا يموت قبلهم.
(أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْداً) أي يتمنون مكرا بك؟ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا
هُمُ الْمَكِيدُونَ) المغلوبون الذين يحيق بهم المكر. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم منه سبحانه. (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيها له تعالى عن شرك الآلهة.
٤٤ ـ إلى آخر
السورة المباركة : (وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ...) أي إذا رأوا قطعة من السماء ، وقسما منها. (ساقِطاً) واقعا على الأرض ينذر بهلاكهم (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي يظنون أنه غيوم متراكبة فوق بعضها. (فَذَرْهُمْ) دعهم (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي حتى يصلوا إلى اليوم الذي يموتون فيه ويموت الناس جميعا
عند النفخة الأولى. (يَوْمَ لا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينفعهم المكر والخداع ولا يجدون من ينصرهم في باطلهم
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي ينتظرهم عذاب يحل فيهم قبل عذاب يوم القيامة في الدنيا
بالقتل ، أو في القبر من عذاب البرزخ. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وقت نزوله بهم. (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ) أي انتظر واصبر يا محمد لإمهالهم من قبلنا ونحن نتولّى
أمرك. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا نكلأك ونرعاك. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من مجلسك ومن نومك. (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) أي بعض الليل. (وَإِدْبارَ
النُّجُومِ) أي حين تدبر فتذهب وتختفي عند انتشار ضوء الصباح.
سورة النجم
مكية ، عدد آياتها ٦٢ آية
١ و ٢ ـ (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ
صاحِبُكُمْ وَما غَوى ...) هذا قسم منه سبحانه بالثريا إذا غابت مع الفجر ، وقيل أقسم
بجميع النجوم وقيل غير ذلك بأن محمدا (ص) ما عدل عن الحق ولا فارق الهدى ولا سها
عن شيء مما يوحى إليه.
٣ و ٤ ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ...) أي لا يتكلم معكم ويقرأ القرآن عن هوى في نفسه وميل في
طبعه. (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن. (إِلَّا وَحْيٌ) نحن ننزله عليه ويبلّغكم إياه. (يُوحى) إليه من عندنا.
٥ إلى ٧ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ...) أي علّمه ذلك القول وذلك القرآن جبرائيل القويّ في نفسه
وخلقته. (ذُو مِرَّةٍ) أي جبرئيل ذو قوة وشدة في خلقته. (فَاسْتَوى) يعني أن جبرئيل ظهر لمحمد (ص) على صورته العظيمة التي خلقه
الله تعالى عليها (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى) هو : كناية عن جبرائيل (ع) حيث تجلّى لرسول الله (ص) في
أفق المشرق فرآه النبيّ (ص) على صورته الحقيقية فخرّ مغشيّا عليه لما أحسّ من عظمة
الله سبحانه.
٨ إلى ١٠ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ...) أي اقترب وازداد في القرب من محمد (ص) على صورة الآدميين
فضمّه إلى نفسه. (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ) منه ، أي على بعد ذراعين. (أَوْ أَدْنى) أو أقرب من ذلك. (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد (ص) ما أراد أن يوحيه
على لسان جبرائيل (ع).
١١ و ١٢ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ...) أي لم يكذب قلب محمد بما رآه بأمّ عينه ليلة الإسراء من
عالم الملكوت. (أَفَتُمارُونَهُ) يعني أتجادلونه بباطلكم. (عَلى ما يَرى) بعينه ويعيه بعقله.
١٣ إلى ١٥ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ...) أي رأى النبيّ جبرائيل (ع) في صورته التي خلقه الله عليها
مرّة ثانية. (عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى) وهي الشجرة التي عن يمين العرش فوق السماء السابعة ينتهي
إليها علم كل ملك ، وقيل غير ذلك. (عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى) أي عند سدرة المنتهى. جنّة الخلد والمقام الدائم.
١٦ إلى ١٨ ـ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ...) قيل إن السدرة المذكورة يغشاها الملائكة. (ما زاغَ الْبَصَرُ) بصر محمد (ص) ما انحرف يمينا ولا يسارا. (وَما طَغى) يعني ما جاوز القصد. (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) وهي آياته العظيمة التي شاهدها ليلة معراجه الشريف كصورة
جبرائيل (ع) وكسدرة المنتهى ، وكعجائب السماوات.
١٩ و ٢٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ...) إلخ أي أخبرونا عن هذه الآلهة المزوّرة التي تعبدونها
وتدّعون أنها شفعاء لكم وهي اللات والعزى ومناة ما هي قيمتها وما هو مبلغ
استطاعتها في الخلق والرّزق والعظمة؟.
٢١ و ٢٢ ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ...) أي يا كفار قريش كيف تجعلون لأنفسكم الذكور وتختارون لله
الإناث التي لا ترضونها لأنفسكم. وكانوا يقولون الملائكة بنات الله. (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي هذه قسمة جائرة.
٢٣ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ...) أي أن تسميتكم لهذه الأصناف وجعلها آلهة وأنّها بنات الله
، هي من بدعكم وبدع آبائكم من قبلكم. (ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ) يعني لم ينزّل سبحانه فيها حجة يصدّق قولكم فيها (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) فهم يسيرون على غير هدى دون علم. (وَ) يتّبعون. (ما تَهْوَى
الْأَنْفُسُ) أي ما تميل إليه النفوس الأمّارة بالسوء. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) أي البيان الذي حمله إليهم رسوله الكريم في القرآن العظيم.
٢٤ و ٢٥ ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ...) هذا استفهام تقريع واستهزاء ، يعني هل للإنسان الكافر. (ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام؟. لا. (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولى) ولا يملك فيهما أحد شيئا إلا من بعد إذنه سبحانه.
٢٦ ـ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ...) فقد قصد أن الكثرة الكاثرة من الملائكة الموجودين في
السماء لا تفيد شفاعتهم أحدا. (شَيْئاً) ينتفع به. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) يسمح لهم بالشفاعة. (لِمَنْ يَشاءُ
وَيَرْضى) من العباد الذين هم أهل لأن يشفع بهم من أهل الإيمان
والتوحيد.
٢٧ و ٢٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ ...) أي الذين لا يصدّقون بالبعث والحساب (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ
الْأُنْثى) فيزعمون أنهم بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ) فلا يقين عندهم بكون الملائكة بنات. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الذي يخطئ ويصيب (وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فلا يقوم الظنّ مقام العلم اليقيني وهو المراد بالحق.
٢٩ و ٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنا ...) أي انصرف يا محمد عن كلّ من انصرف عن توحيدنا والإيمان
بنا. (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا
الْحَياةَ الدُّنْيا) أي لم يرغب إلّا في الدنيا ومفاتنها. (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي التمتع بلذائذ الدنيا والانصراف عن أمر الآخرة هو منتهى
علمهم وأقصى همهم. (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (هُوَ أَعْلَمُ) منك ومن جميع الخلق (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ) أي عدل عن سبيل الحق. (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اهْتَدى) وأعرف بمن هدي إلى طريق الحق.
٣١ و ٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) يخبر سبحانه عن عظمة ملكه وسعة سلطانه ، فله السّماوات
والأرض وما فيهنّ. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا) قيل إن اللّام جارّة وهي تتعلّق بمعنى الآية السابقة ، أي
أنه تعالى لما كان أعلم جازى كلّا بعمله وبما يستحقه. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي وحّدوا ربّهم وعبدوه : (بِالْحُسْنَى) أي بالجنّة التي وعدهم بها. (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الذنوب العظيمة. (وَالْفَواحِشَ) وهي أقبح الذنوب. (إِلَّا اللَّمَمَ) أي صغار الذنوب. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ
الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حتى قبل خلقكم. (إِذْ) حيث. (أَنْشَأَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) يعني أباكم آدم من تراب الأرض. وقيل : المراد جميع الخلق
لأنهم يتغذّون بما يعطيهم الله تعالى من الأرض. (وَإِذْ أَنْتُمْ
أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) وحيث كنتم أجنّة في الأرحام وقبل أن تولدوا أي يعلم كل نفس
ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة. (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) لا تمدحوها ولا تعتبروها زكيّة خيّرة فإنه سبحانه (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أعرف بمن تجنّب الشّرك والكبائر واتّبع رضوان الله.
٣٣ إي ٤١ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى
قَلِيلاً وَأَكْدى ...) أي أنظرت يا محمد إلى الذي أدبر عن الحق وأعطى قليلا من
الصدقات وأمسك عن العطاء أو منعه منعا شديدا. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي هل يعرف ما غاب عنه من العذاب ويرى أن صاحبه يتحمّل عنه
عذابه الذي استحقّه؟ ... (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى) يعني : ألم يخبر بما في التوراة. (وَإِبْراهِيمَ) يعني وبما في صحف إبراهيم. (الَّذِي وَفَّى) أي أتمّ ما كلّف بتبليغه وأدّى ما أمر به كاملا وما في
صحفهما هو. (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد جرم أحد والمعنى لا تؤخذ نفس بجرم غيرها. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) يعني أنه لا يجزى إنسان إلّا بعمله. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يعني أن عمله سوف يرى عند الحساب. (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيعطى عن الطاعات أكثر ما يستحق من الثواب تفضّلا من الله.
٤٢ إلى ٤٥ ـ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ...) هذا عطف على ما سبقه ، ومعناه ، أنّ النهاية تقود إلى ثواب
ربّك وعقابه ، وإليه المصير. (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي هو سبحانه خلق سبب الضحك والبكاء من السرور والحزن. (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أمات الأحياء في الدّنيا ، وأحياهم في الآخرة للحساب
والجزاء.
٤٦ إلى ٤٩ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ...) أي جعل الصّنفين من جميع الحيوانات ، وذلك. (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي من نطفة ـ نواة صغيرة جدا ـ تنصبّ مع المنيّ في رحم
المرأة ويخلق منها الولد. (وَأَنَّ عَلَيْهِ
النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الخلق يوم البعث. (وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى بالمال ، ومكّن الناس من اقتناء الأشياء والحصول
عليها. (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ
الشِّعْرى) أي خالقها وموجدها ومالكها دون غيره. والشّعرى هي نجوم
متباعدة المسافات ، كثيرة العدد.
٥٠ إلى ٥٦ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ...) وهم القوم المتناسلون من عاد بن إرم ، أهلكهم سبحانه
بالريح الصّرصر العاتية وقد سمّاهم. (عاداً الْأُولى) لأنهم كان منهم عاد الأخرى هي من عقبهم والتي أفنت بعضها
بالبغي على بعضها. (وَثَمُودَ) أهلكها أيضا وهم قوم صالح. (فَما أَبْقى) فلم يترك منها أحدا. (وَقَوْمَ نُوحٍ) أهلكهم. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء. (إِنَّهُمْ كانُوا
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي كانوا أشدّ ظلما وطغيانا من غيرهم لطول المدة الّتي
دعاهم فيها نوح ولم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني قرى لوط التي خسف الله تعالى بها. (أَهْوى) أي أسقط ، إذ قلبها جبرائيل (ع) رأسا على عقب. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي ألبسها الله ثوب العذاب الأليم ما ألبس من الخزي والرمي
بالحجارة المسوّمة. (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى) أي بأي نعم الله وأفضاله تشكّ وترتاب أيها المخلوق الضعيف.
(هذا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا محمد (ص) مخوف من جملة الأنبياء الذين سبقوه في
تخويف أممهم من عقاب الله. (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة ودنت. (لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي أنها إذا حلّت بالخلق وغمرتهم شدائدها وأهوالها ، لم
يكشفها عنهم سوى الله. (أَفَمِنْ هذَا
الْحَدِيثِ) أي ما قدّمنا لكم من الأخبار. وقيل من القرآن ونزوله من
عند الله وإعجازه. (تَعْجَبُونَ) أيها المشركون. (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء به. (وَلا تَبْكُونَ) خوفا ممّا فيه من الوعيد. (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي غافلون في غيّكم ، لاهون عن الحقّ. (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أمرهم سبحانه بعبادته دون غيره بتمام الإخلاص.
سورة القمر
مكية ، عدد آياتها ٥٥ آية
١ و ٢ ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ ...) أي قربت ساعة الموت لجميع الناس التي تعقبها القيامة ،
وأما انشقاق القمر ، فعن ابن عباس أنه اجتمع المشركون إلى رسول الله (ص) فقالوا :
إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول الله (ص) إن فعلت تؤمنون؟ قالوا
: نعم. وكانت ليلة البدر. فسأل رسول الله (ص) ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ
القمر فرقتين. (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا) أي إذا رأوا معجزة لمحمد (ص) ينصرفون عنها من دون تأمل ولا
تفكير فيها عنادا وكفرا. (وَيَقُولُوا سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ) أي أن الآيات التي يأتي بها محمد (ص) هي سحر قويّ.
٣ إلى ٥ ـ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ
...) أي كفروا بالمعجزة التي شاهدوها فاتبعوا ما تهواه أنفسهم
وما زيّن لهم الشيطان في التكذيب. (وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ) أي أن الخير يستقر بأهله ، والشر يستقر بأهله. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي جاء الكفار من الأخبار العجيبة في القرآن بكفر من تقدّم
من الأمم وإهلاكهم. (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه موعظة وردع عن الكفر. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي هذا القرآن هو أعظم حكمة بلغت الغاية في الوعظ والبيان.
(فَما تُغْنِ
النُّذُرُ) أي ما تفيد النّذر مع تكذيب هؤلاء المعاندين وقيل المعنى :
فلا تغني النّذر مع هؤلاء المكذبين.
٦ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ...) أي أعرض عنهم يا محمد. (يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي يوم يدعو إسرافيل في النفخة الثانية إلى شيء منكر غير
معروف ولا تعوّده الناس هو يوم الحشر وأهواله.
٧ و ٨ ـ (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم خاضعة لهول الموقف ورؤية العذاب. (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
مُنْتَشِرٌ) وصف لكثرتهم وفيه تصوير لفزعهم واختلاط بعضهم ببعض كالجراد
الذي يطير على غير هدى. (مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ) أي مقبلين نحو الذي دعاهم ومسرعين لإجابته حيث. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي هذا يوم صعب شديد.
٩ و ١٠ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّب قبل كفّار مكة قوم نوح الذين (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا ، (وَقالُوا) أي قوم نوح : هو (مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ) أي زجروه وشتموه (فَدَعا رَبَّهُ) استغاث به قائلا (أَنِّي مَغْلُوبٌ) مع قومي مهان مظلوم (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم وانصرني عليهم.
١١ إلى ١٥ ـ (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ ...) هذا بيان منه سبحانه إجابة دعاء نوح (ع) والمعنى : أجرينا
الماء من السماء كجريانه إذا فتح باب كان يمنعه من التدفق الشديد ، فانصب عندئذ
انصبابا قويا لا ينقطع. (وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً) أي شققناها فخرجت منها الينابيع حتى جرى ماؤها على وجه
الأرض (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ) أي اجتمعا من أجل إنجاز أمر قضى به الله سبحانه وهو إهلاك
قوم نوح بالغرق ، (وَحَمَلْناهُ) أي حملنا نوحا (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ) على سفينة مصنوعة من اللوح المركّب بعضه إلى بعض والمشدود
بالمسامير (تَجْرِي) تسير السفينة على الماء (بِأَعْيُنِنا) أي بحراستنا وحفظنا (جَزاءً لِمَنْ كانَ
كُفِرَ) أي فعلنا به وبهم ذلك من إنجائه وإغراقهم ثوابا وإكراما
لمن كان قد كذّب وهو نوح وعقابا للمكذبين من قومه. (وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً) أي أبقينا هذه الحادثة برهانا واضحا (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فهل في الناس من متذكّر ومتّعظ فيخاف بطش ربّه إذا عصاه؟
١٦ و ١٧ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ...) أي فكيف رأيتم انتقامي بعد إنذاري لكم بالعذاب أيها
المعاندون لرسلي؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي أننا سهّلنا
هذا القرآن للتلاوة والحفظ فلا يصعب فهمه فهل من متعظ ينظر فيه فيتعظ.
١٨ إلى ٢٢ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي
وَنُذُرِ ...) أي كذّب قوم عاد رسولهم وهو هود ، فأهلكناهم فكيف ترى أيها
المطلع عذابي لهم وإنذاري إياهم (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
رِيحاً صَرْصَراً) أي بعثنا عليهم ريحا شديدة الهبوب والبرودة ، (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) يوم شؤم (مُسْتَمِرٍّ) دائم لأن الريح بقيت سبع ليال وثمانية أيام حتى أهلكتهم (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي تقتلعهم وترمي بهم الأرض فتدقّ أعناقهم فيصبحون (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي كأنهم أسافل النخل المنقطعة لأن رؤوسهم فارقت أبدانهم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) مرّ تفسيره (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مر تفسيره أيضا.
٢٣ إلى ٣٢ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ...) أي أنّ قوم صالح (ع) وهم ثمود ، كذّبوا بإنذاره الذي جاءهم
به فيكونون بذلك قد كذبوا كل رسل الله (فَقالُوا أَبَشَراً
مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) أي كيف نصدّق قول واحد منّا من البشر (إِنَّا إِذاً) في هذه الحالة (لَفِي ضَلالٍ) خطإ وانحراف عن الحق (وَسُعُرٍ) في عذاب شديد (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟) الاستفهام إنكاري أي كيف نزل عليه الوحي واختصّه الله
بالنبوّة دون غيره منّا؟ (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ
أَشِرٌ) أي كاذب بطر أخذته الكبرياء علينا فادّعى النبوّة (سَيَعْلَمُونَ غَداً) سيعرفون يوم القيامة ، (مَنِ الْكَذَّابُ
الْأَشِرُ) من هو الكذاب رسولنا أم هم؟ (إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي نحن باعثوها لهم تماما كما طلبوها من رسولنا صالح (ع)
قطعا لأعذارهم وجوابا على سؤالهم التعجيزي لنجعلها امتحانا لهم (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظر أمر الله بهم وانظر ما يفعلون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم.
(وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم (أَنَّ الْماءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي أنه يكون يوما للناقة ويوما لهم (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي كل نصيب من الماء هو لأهله يحضرونه فلا يحقّ لهم ورود
الماء في يومها ، ولا هي تقرب الماء في يومهم (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) أي دعوا واحدا منهم عيّنوه من أشرارهم وهو قدار بن سالف (فَتَعاطى فَعَقَرَ) تناول الناقة بالعقر وباشره ثم نحرها. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) مر تفسيره (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبرائيل (ع) بهم وقيل هو العذاب (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي أنهم صاروا مثل حطام الشجر المتكسّر المرضوض الذي يلمّه
صاحب الغنم ليسوّي به حظيرة لغنمه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مر تفسيره.
٣٣ إلى ٤٠ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ...) أي كذّبوا بما أنذرناهم به أو برسلنا إليهم (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي بعثنا عليهم ريحا تحمل صغار الحجارة ، حصبتهم بها
فهلكوا (إِلَّا آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ) استثنى لوطا (ع) وأهله ، أي خلّصوهم بخروجهم في السّحر من
قريتهم من العذاب الذي حلّ بقومه قبل نزوله (نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنا) تفضلا عليهم منّا ، (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ
شَكَرَ) أي بهذه الطريقة وأمثالها ننعم على الذي يوحّدنا ويحمدنا
على نعمنا (وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ) لوط (بَطْشَتَنا) أخذنا لهم بالعذاب (فَتَمارَوْا
بِالنُّذُرِ) أي جادلوا إنذاره بالباطل (وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه أن يسلّمهم ضيوفه الذين نزلوا في بيته (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فأعميناهم ، (فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ) أي استطعموا نتيجة تكذيب إنذاري لكم بمعاناة عذابي (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي وقع فيهم عند الصباح الباكر (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) مر معنا (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مرّ تفسيره مكرّرا.
٤١ و ٤٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ ...) أقرباؤه ومتابعوه في العقيدة والدّين (النُّذُرُ) أي الإنذار منا على يد موسى (ع) (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي الآيات التسع التي جاء بها موسى وقيل بجميع الآيات (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب بالغرق (أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ) أي كما يأخذ القادر الذي لا يمتنع شيء من قدرته العظيمة.
٤٣ و ٤٤ ـ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ
...) أي هل كفّاركم يا مشركي مكة أفضل ممّن ذكرنا من الأقوام
السابقة عليكم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ
فِي الزُّبُرِ؟) وهل عندكم صكّ بالبراءة من العذاب في الكتب السابقة
المنزلة. (أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) يعني أم يقول هؤلاء الكفرة نحن منتصرون على أعدائنا لكثرة
جمعنا وقيل لاتحاد كلمتنا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي سيغلب جمع هؤلاء الكفار (وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) أي ينهزمون ويولون لكم ظهورهم حين الهزيمة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) فهي موعد العذاب لجميع العصاة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي أعظم في الضرر والإزعاج لهم وأشدّ في المرارة حين
يذوقون العذاب (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي في ضياع عن طريق الجنّة وهم صائرون إلى نار ذات سعير (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) يجرّون فيها (عَلى وُجُوهِهِمْ) مكبكبين فيها تجرّهم ملائكة العذاب الذين يقولون لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يعني تذوّقوا طعم إصابة جهنم لكم بلهبها المحرق.
٤٩ ـ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ ...) أي أننا جعلنا كلّ شيء خلقناه مقدّرا بحسب الحكمة التي
اقتضتها مشيئتنا.
(وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي أن الأمر الصادر عنّا بمجيء الساعة ينفذ كطرف البصر (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي دمّرنا أشباهكم في الكفر ممن سبقكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل من متّعظ بما نقول؟.
٥٢ و ٥٣ ـ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي كلّ شيء عملوه مسجل في الكتب التي كتبها الحفظة عليهم (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي أن جميع ما قدّموه من عمل فهو مسجّل عليهم.
٥٤ و ٥٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَهَرٍ ...) أي أن مقرّهم في جنان الخلد حيث إنها الخمر والعسل
واللّبن. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي مكان حقّ ومجلس لا لغو فيه (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي عنده عزوجل فهو المالك القوي القادر الذي لا يعجزه شيء.
سورة الرحمن
مدنية ، عدد آياتها ٧٨ آية
١ إلى ٤ ـ (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ،
خَلَقَ الْإِنْسانَ ...) لفظة (الرَّحْمنُ) مختصة بالله عزّ وعلا فإنه هو الذي وسعت رحمته كلّ شيء ،
وقد افتتح هذه السورة بهذا الاسم الذي استأثر به لنفسه وذلك ليعرف الناس أن كلّ
النّعم التي سيذكرها إنما صدرت عن مشيئته وبفيض رحمته. وقد أنكر الكفار هذا الاسم
المبارك له إذ قالوا : وما (الرَّحْمنُ) فقال لهم جوابا على ذلك : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) أي هو الذي علّمه لنبيّه محمد (ص) وهو (ص) علّمه لأمّته. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) وأخرجه بقدرته من العدم إلى الوجود ، حين برأ آدم (ع) (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي أسماء كلّ شيء من جهة ، والإفصاح عمّا في نفسه من جهة
ثانية.
٥ و ٦ ـ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ...) أي يجريان بمنازل لا يعدوانها وهما يدلان على عدد الشهور
والسنين والأوقات (وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النجم هنا هو إنبات الذي ليس له ساق ولا جذع كالأعشاب
الصغيرة. فهذا النبات ، وسائر الشجر يسجد لله عزّ اسمه بما فيه من آيات دالّة على
عظمة موجده وبما يحتوي من براهين توجب السجود لقدرة ذلك المقدّر. وقيل إن السجود
المقصود ، هو سجود الظّلال بكرة وعشيّا وطيلة النهار.
٧ إلى ٩ ـ (وَالسَّماءَ رَفَعَها ...) أي أنه سبحانه رفعها فوق الأرض بلا عمد لتدلّ على كمال عظمته
(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الذي هو آلة الوزن التي تحقّق الإنصاف والانتصاف (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لا تتعدوا فيه الحقّ إلى الباطل والبخس (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي أقيموا لسان الميزان المعروف بدقّة حين الوزن (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) لا تنقصوه ولا تبخسوا وتجوروا بل اتّبعوا العدل في ذلك
كلّه.
١٠ إلى ١٣ ـ (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ...) أي أوجدها ووطّأها للأنام الذين قيل إنهم الجنّ ، وقيل
إنهم النّاس ، وقيل : بل هم جميع المخلوقات من كلّ ذي روح. (فِيها فاكِهَةٌ) وهو ما يتفّكه به الإنسان من الثمار (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي الشجر ذو الأوعية والغلافات المختلفة التي تدلّ على
قدرة الصانع منذ بروز الزهرة إلى تمام نضج الثمرة. وقيل إن الأكمام هو ليف النخل (وَالْحَبُ) أي جمع الحبوب المعروفة (ذُو الْعَصْفِ) أي صاحب الورق الذي يكون ملتفّا به فإذا يبس صار تبنا ،
وقيل العصف هو التّبن الذي تعصفه الريح أي تصيّره عند هبوبها (وَالرَّيْحانُ) هو جميع ما يشمّ ، وقيل هو الرزق ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي نعمة من نعم الله تكذّبان ، مخاطبا بذلك الإنس
والجنّ. وهذه الآية تتكرّر في السورة المباركة مرارا للتقرير بالنّعم التي يذكرها
سبحانه ، وللتأكيد والتذكير والتدبّر.
١٤ إلى ١٦ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ ...) يعني آدم (ع) وكذلك ذريته لأنه أصلهم. (مِنْ صَلْصالٍ) الصلصال هو الطين اليابس ، وقيل هو الحمأ المنتن (كَالْفَخَّارِ) أي كالآجرّ والخزف (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي من نار مختلط أحمرها وأبيضها وأسودها. وقيل إن المارج
هو الصافي من لهب النار الذي ليس فيه دخان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) مر معناه.
١٧ و ١٨ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ ...) أي مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب كلّ منهما. وقيل هما
مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما ، (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
١٩ إلى ٢١ ـ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ...) البحران هما العذب والمالح يلتقيان فلا يختلط ماؤهما (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي المالح على العذب فيفسده ولا العكس فيختلط به.
ومعنى (مَرَجَ) : أرسل وأطلق طرفيهما.
٢٢ و ٢٣ ـ (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ ...) قيل : اللؤلؤ هو درّ البحر الكبير ، والمرجان صغاره ، وهما
معروفان.
٢٤ و ٢٥ ـ (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ...) وهي السّفن المرفوعات التي رفع خشبها بعضه فوق بعض حتى
طالت وارتفعت الجاريات في البحر كالجبال بأمر الله.
٢٦ إلى ٢٨ ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ...) أي جميع من هو على وجه الأرض من الحيوان هالك يخرج من
الوجود إلى حالة العدم (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ) أي يبقى ربّك الظاهر بأدلّته كظهور الإنسان بوجهه (ذُو الْجَلالِ) أي صاحب العظمة والكبرياء المستحق للحمد والمدح (وَالْإِكْرامِ) الذي يكرم رسله وأولياءه ويلطف بهم.
٢٩ و ٣٠ ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
...) أي لا يستغنون عن معونته فيتوجّهون إليه بحوائجهم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) اختلف المفسّرون في معنى هذا القول الشريف. فقالوا : من
شأنه الإحياء والإماتة ، والمعافاة والمرض ، والإعطاء والحرمان ، والإنجاء
والإهلاك ، وقالوا غير ذلك.
٣١ و ٣٢ ـ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ
...) أي سنتوجّه لحسابكم أيها الجن والإنس في موعده.
٣٣ إلى ٣٦ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ...) أي الناس والجنّ ، إن قدرتم أن تخرجوا من سلطاني وتهربوا
من الموت (مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي من نواحيهما وجوانبهما (فَانْفُذُوا) أي اخرجوا (لا تَنْفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي أنّى توجهتم فإنكم تحت سلطاني آخذكم بالموت ، فلا مخرج
لكم إلّا بالقوة التي أمنحكم إياها (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) يعني أنكم إن حاولتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض
يرسل عليكم ذلك اللهب الأخضر المنقطع من ألسنة النار والنحاس السائل المحرق. (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي فلا تقدران على دفع ذلك عنكما وعن غيركما.
٣٧ و ٣٨ ـ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ
وَرْدَةً ...) يعني إذا انصدعت يوم القيامة وتفكّك بعضها عن بعض ، فصارت
بيضاء تميل إلى الصفرة والحمرة كلون الفرس الورد (كَالدِّهانِ) جمع الدّهن ، وذلك عند انقضاء مدة الحياة وانتهاء الأمر.
٣٩ إلى ٤٥ ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ...) أي يوم القيامة لا يسأل مجرم لماذا أجرمت لا من الإنس ولا
من الجنّ ، بل يصاب بالذهول من هول الموقف.
(يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي يعرفون بعلاماتهم لأنهم يحشرون سود الوجوه ، زرق العيون
(فَيُؤْخَذُ
بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يأخذهم زبانية جهنّم فيجمعون بين رؤوسهم وأرجلهم ،
فيربطونها بالأغلال والسلاسل ويجرونهم إلى النار (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يقال لهم هذه جهنم التي كذب بها الكافرون حين كانوا في
الدنيا (يَطُوفُونَ بَيْنَها
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي يتردّدون مرة إلى جحيم النار في جهنّم ، ومرّة إلى
الشراب الذي يصبّ من فوق رؤوسهم فيصهر ما في بطونهم والجلود.
٤٦ إلى ٤٩ ـ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
...) أي لمن خاف المقام بين يدي ربّه وذلّ الحساب ، وصدّق بذلك
وعمل صالحا ، فله جنتان قيل هما جنة عدن وجنّة النعيم (ذَواتا أَفْنانٍ) يعني ذواتا أنواع من النعيم وذواتا ألوان من الفاكهة ،
وقيل : ذواتا أغصان.
٥٠ إلى ٥٣ ـ (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ...) أي أن في الجنّتين عينين من ماء تجريان بين أشجارهما ،
والجنّتان (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ؟) أي فيهما من كلّ الثمرات نوعان متشاكلان كتشاكل الذكر
والأنثى.
٥٤ و ٥٥ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها
مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ...) أي أن أهل الجنّة يجلسون كالملوك على فرش بطائنها من
الديباج الغليظ (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي ثمر فواكه الجنّتين قريب في متناول صاحبها لأنها تدنو
منه حسب رغبته.
٥٦ إلى ٥٩ ـ (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) أي في الفرش حور عين ونساء قصرن نظراتهنّ على أزواجهن فلا
يرون غيرهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يفتضّهنّ ولم ينكحهنّ أحد قبل هؤلاء المؤمنين من أهل
الجنة بل هنّ أبكار كما خلقن (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) يعني أنهنّ في الصفاء والرونق كالياقوت والمرجان الشديد
الصفاء.
٦٠ و ٦١ ـ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ ...) هو استفهام بمعنى التقرير ، أي ليس جزاء العمل الصالح في
الدنيا إلّا أن يحسن الله إليه في الآخرة.
٦٢ إلى ٦٩ ـ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ...) أي أن لمن خاف مقام ربّه جنّتين أخريين غير الجنّتين
المذكورتين أولا ، ويكونان أقرب إلى قصره وأقرب لمجالس أنسه وسروره يتنقّل بينهما
من وقت إلى وقت (مُدْهامَّتانِ) أي شديدتا الخضرة حتى أنهما في خضرتهما السواد (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ؟) أي فوّارتان بالماء الذي ينبع فيهما ويجري فيهما.
(فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) أي فيهما أنواع الفاكهة وقد ذكر النخل والرمّان مع أنهما
من الفاكهة لفضلهما.
٧٠ إلى آخر السورة
المباركة ـ (فِيهِنَّ ...) أي في تلك الجنّات الأربع يوجد (خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني نساء طيّبات ذوات وجوه وأجسام جميلة وأخلاق فاضلة (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي بيض حسن بياضهنّ محبوسات في الحجال مستورات في القباب.
والعين الحوراء هي التي يكون بياضها شديد البياض (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) مرّ تفسيرها (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ) أي على فرش خضر ، وقيل هي رياض الجنّة ومفردها : رفرفة ،
وقيل هي الوسائد التي توضع بجانب الفرش فيتّكأ عليها (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) أي يتّكئون أيضا على زرابيّ جميلة وهي الطنافس (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) أي تعاظم وتعالى اسم هذا الربّ الذي لا ينبغي لغيره أن
يوصف بما يوصف به من القدرة والقدم والألوهية والحكمة والعلم وهو ذو العظمة
والكبرياء والإكرام : أي الذي يكرم المؤمنين به والمصدّقين لرسله.
سورة الواقعة
مكية ، عدد آياتها ٩٦ آية
١ إلى ٣ ـ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ...) قامت القيامة بعد النفخة الأولى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي لا يكون لحصولها تكذيب لأنها تحدث بمرأى ومسمع من كلّ
حي والسمع والعقل لأنها (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض ناسا بما عملوا من المعاصي فيدخلون النار وترفع
أناسا فتوصلهم إلى الجنّة بما عملوا من الطاعة.
٤ إلى ١٦ ـ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ...) أي إذا حرّكت الأرض وزلزلت زلزالا شديدا (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي تفجّرت وتفتّتت واجتثّت من أصلها. (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي غبارا دقيقا جدا موزعا. (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) بعد الحساب ، أي أصنافا ثلاثة (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ويكونون من أهل الخير (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟) أي أيّ شيء هم؟ (وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ) أي أهل الشؤم الذين يعطون كتبهم بشمالهم ويكونون من أصحاب
النار (ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ؟) مندّدا بشأنهم في العذاب العظيم. (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي السابقون إلى اتّباع أوامرنا التي أوحينا بها إلى رسلنا
وفعل الطاعات (أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ) فهم الذين يقرّبهم الله تعالى إلى رحمته فيجعل مقامهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فهي نزلهم في دار مكرمة الله. (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة كثيرة من الأمم الماضية (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من أمة محمّد (ص) (عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ) مصنوعة كصناعة الدرع الذي تدخل حلقاته بعضها ببعض (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي مستندين كما يفعل الملوك. (مُتَقابِلِينَ) كل واحد يقابل الآخر ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض.
١٧ إلى ١٩ ـ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ ...) أي يدور عليهم خدمهم وغلمانهم الذين لا يموتون ولا يهرمون
ولا تتغيّر حالهم (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي بقداح لا خراطيم لها ، وبأباريق ذات خراطيم ، وبكؤوس
الخمر (لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها) أي لا يصيبهم من شربها صداع ، وقيل لا يتفرّقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا تذهب عقولهم بالسّكر.
٢٠ إلى ٢٤ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ...) أي : ويطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يشتهونه ويختارونه (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ممّا يتمنّون من أطايب اللحوم وألذّها (وَحُورٌ عِينٌ) مرّ تفسيرها (كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي كالدّر المحفوظ المخزون في أصدافه (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثوابا لطاعاتهم في دار الدنيا.
٢٥ و ٢٦ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً ...) أي لا يسمعون كلاما تافها ليس فيه فائدة ، ولا قولا يأثم
به قائله أو سامعه. (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) أي قول بعضهم لبعض سلاما بقصد التحيّة.
٢٧ إلى ٣٣ ـ (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ
الْيَمِينِ ...) تعجّب من شأنهم مثل : وأصحاب الميمنة وقد مر (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي نبق منزوع الشوك (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) يعني موز منظّم مرتّب (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي فيء دائم لا شمس تذهب به (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يعني أنه مصبوب يجري دائما ولا يحتاج أحد إلى تعب في
استقائه (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي ثمار وافرة (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا
مَمْنُوعَةٍ) ليس لها وقت وموسم معلوم كفاكهة الدنيا ولا يمنع من قطفها
شوك أو غيره.
٣٤ إلى ٤٠ ـ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ...) أي وبسط رفع بعضها فوق بعض فأصبحت عالية. وقيل هنّ رفيعات
الخلق رائعات الحسن ، إذ يقال لامرأة الرجل فراشه (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي خلقناهنّ خلقا جديدا (فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً) أي عذاري عند كل وطء (عُرُباً أَتْراباً) أي عاطفات على أزواجهن مؤنسات لهم. ومتشابهات مستويات في
السن. (لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي هذا المذكور كله هو ثواب أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن ذلك لجماعة من الأمم السالفة وجماعة من أمة محمد (ص).
٤١ إلى ٤٤ ـ (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ
الشِّمالِ ...) وهذا كقوله وأصحاب المشئمة إلخ وقد مر. (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) أي في الريح الشديدة الحرارة التي تدخل حرارتها في مسامّ
البدن ، والماء الحارّ المغليّ (وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ) أي دخان أسود كثيف شديد السواد. (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي لا فيه برودة يستراح إليها ، ولا منفعة يحمدها من يأوي
إليه.
٤٥ إلى ٤٨ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُتْرَفِينَ ...) أي أنهم كانوا في دار الدنيا مرفّهين متنعّمين يتركون
الطاعات طلبا لراحة أبدانهم (وَكانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي يقيمون على الذنب الكبير. وقيل على الشرك. (وَكانُوا يَقُولُونَ) عنادا وكفرا : (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً) وبليت أجسادنا (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ) لعائدون إلى الحياة كما كنّا؟ (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) أي وإن آباءنا يبعثون أيضا؟.
٤٩ إلى ٥٦ ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
...) أي قل لهم يا محمد
: سيبعث من تقدمكم ومن تأخر عنكم وكذلك أنتم (لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي ليوم القيامة الذي يحشر فيه الأموات للحساب.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين انحرفتم عن طريق الحق (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيدنا وبرسالة نبينا (لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مرّ تفسيرها في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ) الماء المغلي وبلغت حرارته أشدها. (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) يعني شرب الإبل التي أصابها العطش بحيث لا ترتوي. (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي أن جهنم هي مأوى الكافرين ، وهذا طعامهم وشرابهم يوم
الجزاء فيها.
٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا
تُصَدِّقُونَ ...) حين أنكر الكافرون البعث والنشور قال سبحانه محتجّا عليهم :
نحن أخرجناكم من العدم إلى الوجود وأنتم تقرون بذلك فلم لا تؤمنون بقدرتنا على
إعادتكم بعد إفنائنا لكم.
٥٨ إلى ٦٢ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ...) أي هل نظرتم إلى ما تقذفونه من النّطف في أرحام نسائكم
فتصير ولدا؟ (أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) يعني هل أنتم خلقتم ما تمنونه بشرا أم نحن خلقناه؟ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قضينا به وجعلناه على كيفية مرتّبة فهذا يموت طفلا وذاك
يكون سقطا ، والآخر يموت شابا وهكذا حسب ما اقتضته حكمتنا. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لم يسبقنا أحد إلى هذا التقدير ولا نحن بمغلوبين على
أمر قدّرناه. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ) فنخلق مثلكم بدلا عنكم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ) أي نخلقكم على صور لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة وخنازير
فإنه لا يعجزنا ذلك. (فَلَوْ لا
تَذَكَّرُونَ) أي فليتكم تعتبرون لتعرفوا قدرتنا على الخلق ابتداء وإعادة.
٦٣ إلى ٦٧ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ) إلخ. أي هل نظرتم في ما تعملونه من فلاحة الأرض وإلقاء
البذر فيها؟ هل أنبتّم البذر زرعا أم نحن. (لَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لو أردنا لصيّرناه هشيما لا تنتفعون به في مطعم أو غيره.
(فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ) أي فبقيتم تتعجّبون ممّا حلّ بكم ونزل في زرعكم (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي نحن نتحمّل عاقبة كفرنا بالله فقد ذهب ما لنا وذهبت
كذلك نفقتنا وضاع وقتنا وتعبنا (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) أي لا حظّ لنا فنحن ممنوعون من الرّزق ومن كلّ خير.
٦٨ إلى ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ...) إلخ أي السحاب أم نحن. (لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ) أي لو أردنا لجعلنا الماء (أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة (فَلَوْ لا
تَشْكُرُونَ) أي فيا ليتكم كنتم تشكرون الله على هذه النعمة.
٧١ إلى ٧٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي
تُورُونَ ...) أي هلا نظرتم إلى النار التي تشعلونها وتقدحونها بزدناكم (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) إلخ هل أنتم أنبتّم الشجر الذي تنقدح منها النار أم نحن؟ (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) جعلنا النار عبرة لنار جهنّم لتتذكّروا فتستعيذوا بالله من
عذابها (وَمَتاعاً
لِلْمُقْوِينَ) جعلنا هذه النار أيضا منفعة للمسافرين والمقيمين ممّن
يستمتعون بها من ضياء واصطلاء وطبخ إلخ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فنزّهه سبحانه وبرّئه ممّا يصفه به الظالمون.
٧٥ إلى ٨٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ...) لا زائدة ، أي : أقسم بمواقع النجوم ، وهي مطالعها
ومساقطها (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي أنه يمين عظيمة ذات أهميّة من أكبر الأيمان.
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) أي أن هذا الذي ننزله عليك يا محمد قرآن كثير النفع جمّ
الخير (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مستور محفوظ عن الخلق في اللوح المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي الملائكة الموصوفون بالطهارة من الذنوب ، والعباد
المطهّرون من الشّرك ومن الأحداث والنجاسات (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) فهو منزل من عنده تعالى على نبيّه (ص) (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الذي رويناه لكم في القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي ممالئون ومراءون (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون نصيبكم من الخير بالتكذيب وقيل معناه : وتجعلون
نصيبكم من القرآن الذي رزقكم الله إياه التكذيب؟.
٨٣ إلى ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
...) أي فهلّا إذا بلغت روحكم الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) أي وأنتم يا أهل الميّت في ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) ذلك وترون حاله ولكنكم لا تستطيعون دفع ذلك عنه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي أننا ألصق به قدرة وعلما بحاله (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا ترون ذلك ولا تعلمونه (فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهلّا ترجعون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت حلقومه عند الموت
وتردونها إلى موضعها إن كنتم كما تقولون غير محاسبين وغير مبعثين. وقيل كنتم غير
مملوكين لله بل أنتم تملكون أموركم.
٨٨ إلى ٩١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ...) أي فإن كان الميّت الذي حكينا عن احتضاره من المؤمنين
السابقين إلى مرضاة الله (فَرَوْحٌ) أي فله راحة تامة (وَرَيْحانٌ) أي رزق في الجنة. وقيل هو الريحان المشموم يؤتى له به من
الجنة (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي وله تلك الجنّة الموصوفة يدخلها (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي إذا كان المتوفّى من هؤلاء المؤمنين مرّ وصفهم (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي فيقال له : سلمت وترى في أصحاب اليمين ما تحبّ من
السلامة يوم الجزاء.
٩٢ إلى آخر السورة
المباركة ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ...) أي وإذا كان المحتضر من المكذّبين بالتوحيد والبعث والرّسل
وبأوامر الله ونواهيه ، ومن الضالّين عن الهدى (فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ) فله مقام في جهنّم وقد أعدّ له طعام وشراب من حميمها الذي
يقطّع الأمعاء (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال في نار عظيمة اللهب والحرارة (إِنَّ هذا) الذي نقوله لكم أيها العباد (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي الحقّ المؤكّد (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) مر معناه.
سورة الحديد
مدنية ، عدد آياتها ٢٩ آية
١ إلى ٣ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي نزّه الله تبارك وتعالى جميع ما فيهما وبرّأه ممّا يقول
الظالمون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء. (الْحَكِيمُ) الذي أجرى الأمور جميعها وفق تدبير وحكمة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالك ذلك كلّه والمتصرّف فيه وحده لا يمنعه من ذلك
مانع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) فيحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنه قادر على الموجودات والمعدومات (هُوَ الْأَوَّلُ) لأنه القديم الأزليّ وما عداه محدث (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء كلّ شيء (وَالظَّاهِرُ) الغالب لكلّ شيء ، وكلّ شيء دونه (وَالْباطِنُ) العالم فلا أعلم منه. (وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه عالم لذاته.
٤ إلى ٦ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) أي أنه أبدعهما سبحانه بما فيهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد كان يستطيع أن يخلقهما في لحظة واحدة لأنه قادر لذاته
، وقد فعل ذلك ليري ملائكته وعباده ما في ذلك من مصلحة ظهور شيء بعد شيء ، وما في
ذلك من حسن النظام والتدبير ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) أي استولى على الملك والسلطان (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يعرف سبحانه فيها ما يستتر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من سائر أنواع الحيوان والنبات والجماد (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر ومن خيرات ومن أوامر ونواهي (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما يصعد إليها من الملائكة ومن أعمال الخلق وغيرها (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بواسطة علمه الذي يحيط بأعمالكم وأحوالكم وبكل شيء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شرّ (بَصِيرٌ) أي عليم (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرّف فيهما بحسب مشيئته (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي تصير إليه يوم القيامة (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما نقص من هذا في هذا وبالعكس بحسب ما دبّر وقرّر (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف بأسرار خلقه وما يخفونه من الضمائر والهواجس
والأفكار.
٧ إلى ١٠ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي صدّقوا بالله إلها واحدا وبنبوة رسوله (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي ابذلوا في سبيل الله وفي الوجوه التي أمركم من المال
الذي ورثتموه ممن قبلكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي للمؤمنين بالله وبرسوله المنفقين في سبيله ، جزاء أجر
عظيم. (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يعني ما الذي يمنعكم من التصديق به مع الدلائل الواضحة على
وحدانيته (وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ونبيّه (ص) يطلب إليكم أن تؤمنوا يخالقكم (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) بما جعل سبحانه في عقولكم من معرفة الصانع والميثاق هو
الأمر الذي يجب العمل بمقتضاه (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين فعلا ، فلا عذر لكم في ترك الإيمان
بعد لزوم الحجة (هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد (ص) (آياتٍ بَيِّناتٍ) براهين واضحة (لِيُخْرِجَكُمْ) الله بتلك البراهين وبالقرآن (مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ذلك بأن أرسل إليكم رسولا ونصب أدلّة ولم يترك مجالا
لبقائكم على الضلال. (وَما لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما تنتظرون من وراء ترككم للإنفاق في ما يقربكم إلى
الله (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل ما فيهما يبقى له سبحانه بعد فناء ممن فيهما من الجنّ
والإنس والملائكة ، فاستوفوا حظوظكم من الأموال قبل أن تصير ميراثا لغيركم. (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ
قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) من بذل من ماله في سبيل الله قبل فتح مكة وجاهد الكفار
بنفسه (أُولئِكَ) الفاعلين لذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي بعد فتح مكّة وجاهدوا الكفار فأولئك السابقون في البذل
والجهاد أعظم ثوابا عند الله (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) أي وعد هؤلاء بالجنّة وإن تفاضلوا في درجاتها (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه.
١١ إلى ١٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً ...) من منكم أيها الناس ينفق من ماله في سبيل الله ثم يعتبره
قرضا لله ودينا عليه سبحانه بطيبة نفس (فَيُضاعِفَهُ) أي يجعل له جزاء إقراضه هذا من سبعة إلى سبعين ضعفا ، بل
إلى سبعمائة؟ (وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ) أي لهم ثواب وجزاء خالص كثير.
(يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يا محمد في ذلك اليوم (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي أن ضياءهم لإيمانهم يضيء لهم طريق الصراط ويكون دليلهم
إلى الجنّة. (وَبِأَيْمانِهِمْ) يعني كتب أعمالهم يأخذونها بأيمانهم ثم يبشّرون فتقول لهم
الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) باقين مؤبّدا (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) أي الظفر المطلوب على أكمل وجه. (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بعد ان يروا ما هم عليه من النور والنعيم : (انْظُرُونا) أي اصبروا (نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) أي نستضيء بنوركم ونتخلّص من هذه الظّلمات (قِيلَ) للكافرين : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي عودوا إلى المحشر حيث أعطينا هذا النور. وقيل ارجعوا
إلى الدنيا. (فَالْتَمِسُوا) هناك (نُوراً) تستضيئون به ، فيرجعون فلا يجدون شيئا. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أي أقيم بين المؤمنين والكافرين جدار يقام بين الجنّة والنار
(لَهُ بابٌ باطِنُهُ
فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي من جهة ذلك الظاهر العذاب أي جهنم كما أن الرحمة من جهة
الجنّة (يُنادُونَهُمْ) أي أن المنافقين ينادون المؤمنين قائلين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ألم نكن سوية في الحياة الدنيا نفعل ما تفعلون من صيام
وقيام وغيرهما؟ (قالُوا بَلى) هذا جواب المؤمنين ، أي : نعم كنتم كذلك (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي غششتم أنفسكم وأخذتم بفتنة النّفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي انتظرتم بمحمد (ص) الموت أو تربّصتم به (ص) وبالمؤمنين
كلّ سوء (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أصل الدين (وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُ) أي غشّتكم الآمال بأن تدور الدائرة بالمؤمنين فيهلكون (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني غرّكم الشيطان فأطعتموه (فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي لا يفيدكم أن تدفعوا بدلا تفدون به أنفسكم لتنجوا من
العذاب (وَلا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي الذين تظاهروا بالكفر الذي أبطنتموه (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقرّكم الدائم الذي تأوون إليه (هِيَ مَوْلاكُمْ) يعني هي أولى بكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وهي مصير بئيس تعيس.
١٦ و ١٧ ـ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ...) أي : ألم يحن الوقت الذي تلين فيه قلوب المؤمنين (لِذِكْرِ اللهِ) فترقّ لما يسمعون من تذكيره سبحانه ووعظه لهم (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي وتلين أيضا للقرآن (وَلا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم (فَطالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ) أي الزمان قد بعد بينهم وبين رسلهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) غلظت وزال خشوعها بحيث مرنت على المعاصي. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) مارقون وخارجون عن إطاعة أوامر الله (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها) يعني يحييها بالمطر بعد الجدوبة وهو كذلك يحيي الكافر
الميّت القلب بالإيمان (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم البراهين والحجج (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بأمل أن ترجعوا إلى طاعتنا بعد التفكّر.
١٨ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ ...) أي المتصدقين والمحسنين إلى الفقراء والمساكين ، من الرجال
والنساء والذين (أَقْرَضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي بذلوا في سبل الخير ، فأولئك (يُضاعَفُ لَهُمْ) ما بذلوه من قرض لله (وَلَهُمْ أَجْرٌ
كَرِيمٌ) مرّ تفسيره.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني صدقوا بهم فوحّدوا الله واعترفوا بنبوّة أنبيائه (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي شديد والتصديق المبالغون فيه (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وأولئك هم كذلك (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ) أي ثوابهم محفوظ لهم ، وكذلك نورهم الذي يهتدون به إلى
طريق الجنّة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي في النار يبقون فيها دائما وأبدا فكأنهم ملكوها وصاروا
أصحابها (اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أنها بمنزلة اللعب واللهو اللذين لا بقاء لهما مهما طال
وقتهما. (وَزِينَةٌ) يزيّن أهلها بها فتحلوا في أعينهم (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) يفاخر بعضكم بعضا بزخرفها (وَتَكاثُرٌ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بحيث تجمعون منها ما يحلّ وما لا يحل وتفنون أعماركم في
كنز المال (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مثل مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) أي أعجب الزارعين ما ينبت فيها من ذلك المطر (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لأنه قارب اليباس (ثُمَّ يَكُونُ
حُطاماً) مهشّما مكسّرا قشّه (وَفِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ شَدِيدٌ) مخصوص بأعدائه سبحانه (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللهِ وَرِضْوانٌ) لأهل طاعته (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي أنها سبب غرور لمن اغترّ بها واشتغل بطلبها سرعان ما
يفنى ويهلك.
٢١ إلى ٢٤ ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ ...) يعني بادروا إلى صالح الأعمال والتوبة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) فسابقوا إلى جنّة هذا وصفها. وقد ذكر سبحانه عرضها ولم
يذكر طولها لأن هذا العرض الهائل لا بدّ له من طول أعظم (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلخ أي هيّئت للذين صدّقوا به سبحانه وبما جاؤوا من عنده (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ) أي أنها تفضّل منه تعالى على المؤمنين وإن كانوا لا
يستحقونها كما هي فقد أعطاهم منها ما يستحقونه مع زيادة تفضليّة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه صاحب الإحسان الجسيم (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كالقحط وقلة المطر ونقص الإنتاج وغيره (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من مرض أو غيره (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي أنه مثبت في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يعني من قبل أن نخلقها ونوجدها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هيّن بالرغم من كثرته. (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي حتى لا تحزنوا على ما لا تصيبونه من نعيم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي لا تسرّوا كثيرا بما منحكم الله من عطاءاتها (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) أي يكره كل متكبّر يتعاظم على الناس (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء ما كلّفوا به من الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) يحثونهم عليه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عمّا ندبه الله إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُ) عنه وعن طاعاته وصدقاته وهو (الْحَمِيدُ) أي أهل للحمد على نعمه.
٢٥ إلى ٢٧ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ ...) أي بالمعجزات والدلائل (وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب السماويّة المتضمّنة للأحكام ولكل ما يحتاج إليه
الخلق (وَالْمِيزانَ) إمّا ذا الكفّتين الذي يوزن به ، وإمّا صفته (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي أنشأناه وأحدثناه كذلك لفائدتكم (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوّة لأنه يستعمل في الحرب وفي كثير من الصناعات (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وفي الحديد أيضا فوائد ينتفعون بها في معاشهم كالسكين
والفأس والإبرة (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) هذا عطف على قوله (لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) أي ليعرف الله نصرة من ينصره وجهاد من يجاهد مع رسوله
الكريم (ص) (بِالْغَيْبِ) يعني في الواقع من غير مشاهدة بالعين (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) مر معناه. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فخصّهما بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء ولفضلهما (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فالأنبياء المتأخرون عنهم كلّهم من نسلهما. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أتبعناهم برسل آخرين إلى أمم أخرى واحدا بعد واحد (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) من بعدهم أيضا (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه ، وهم الحواريّون ومن اتّبع عيسى (ع) (رَأْفَةً) هي أشد الرقّة (وَرَحْمَةً) عطفا وشفقة (وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وهي طريقة العبادة التي توحي بالرهبنة في الكنيسة أو غيرها
وهذا شيء لم نكلّفهم به ولكنهم ابتدعوا ما فيها من رفض النساء واتّخاذ الصوامع (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي أتبعوها رغبة في رضاه (فَما رَعَوْها حَقَّ
رِعايَتِها) أي ما حفظوها بحسب الأصول التي وضعوها لها. وقيل : فما
رعاها الذين بعدهم حقّ رعايتها وذلك لتكذيبهم بمحمد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ) أي أعطينا من آمن لمحمد (ص) ثواب طاعتهم وتصديقهم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كافرون.
٢٨ و ٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...) قال ابن عباس : يا أيها الذين (آمَنُوا) ظاهرا (آمَنُوا) باطنا (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين من عفوه ولطفه ، لإيمانكم بمن قبل نبيّكم
ولإيمانكم به (ص) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني يجعل لكم هدى تهتدون به أو هو نور القرآن (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ويستر ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مرّ تفسيره (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم الذين لم يؤمنوا بمحمد (ص) وحسدوا من آمن منهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ
فَضْلِ اللهِ) أي لا تقدرون والمعنى أن الأجرين جعلناهما لمن آمن من أهل
الكتاب. بمحمد (ص) لنعلم الذين لم يؤمنوا به لا أجر ولا نصيب لهم في فضل الله. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل الاستحقاق (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يمنّ على من يشاء من عباده الصالحين.
سورة المجادلة
مدنية ، عدد آياتها ٢٢ آية
١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...) إلخ أي تراجعك في أمر زوجها وهذه الآية وما بعدها نزلت في امرأة
من الأنصار قال لها زوجها في حالة غضب أنت عليّ كظهر أمي أي وكان هذا القول يعتبر
محرّما للمرأة على زوجها بحسب عرفهم فشكته إلى النبي (ص) وقالت هل من شيء يجمعني
به؟ فإنه لم يذكر طلاقا وهو أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فنزلت الآية.
٢ إلى ٤ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسائِهِمْ ...) أي هذا حكم الرجال الذين يقولون لنسائهم : أنتنّ كظهور
أمّهاتنا : (ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) يعني لا يصرن أمّهاتهم بهذا القول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ) وليس أمهاتهم إلّا الوالدات لهن من بطونهنّ (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ) أي أن المظاهرين يقولون قولا لا يعرف في الشرع. (وَزُوراً) أي كذبا (وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عمّن يقول ذلك ولكنه يأمرهم بالتكفير عن هذا المنكر
وهذا بيان حكمهم : (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني يفعلون ما ذكرناه من الظهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي يرجعون في القول ويرغبون في نكاحهنّ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) أي فعليهم عتق رقبة قبل أن يجامعوا نساءهم اللاتي ظاهروا
منهنّ (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ) أي هذه الصعوبة في الحكم هي وعظ لكم لتتركوا الظهار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالكم (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم صيام شهرين متصلين قبل الجماع بأن يصوم واحدا
وثلاثين يوما متوالية ثم يكمل الباقي ولو متفرقا (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة ولا قوي على الصوم (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي أن يطعم ستين فقيرا (ذلِكَ) أي ذلك الفرض عليكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) لتصدقوا بما أمر الله وبلّغه رسوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي ما ذكره من الكفّارات في الظهار هي أحكام الله (وَلِلْكافِرِينَ) أي الجاحدين بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب موجع في الآخرة.
٥ و ٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يعادونهما ويخالفونهما (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أي ذلّوا وأخزوا كما أخزي الذين سبقوهم من المشركين (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلائل وحججا واضحات (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ) يعني وللجاحدين لما أنزلناه على رسولنا عذاب فيه إهانة لهم
وخزي. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً) أي يحشرهم إليه بعد أن يحييهم للحساب (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأفعالهم ومعاصيهم (أَحْصاهُ اللهُ
وَنَسُوهُ) أثبته الله في كتب أعمالهم وذهب عن بالهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه سبحانه يعلم كل شيء من جميع وجوهه ولا تخفى عليه
خافية.
٧ و ٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) والمقصود به سائر المكلّفين. وفيه
استفهام يفيد التقرير أي اعلموا أن الله محيط بجميع المعلومات في السماوات والأرض (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ) يعني نجواهم معلومة عنده كعلم الرابع بها لو حضرها. (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي حين يتناجى خمسة يعرف نجواهم كأنه سادس المتناجين (وَلا أَدْنى) أقل (مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) إلخ يعني أنه مطّلع على تصرفات الكلّ فرادى ومجتمعين كأنما
هو معهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه شاهد ومشاهد لكل ما يخصّه. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى) أي ألم تعرف حال هؤلاء الذين يتحدّثون سرّا بما يؤذي
المسلمين وهم المنافقون اليهود (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما نُهُوا عَنْهُ) أي يرجعون إلى ما كانوا عليه من المناجاة (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي يتسارّون فيما بينهم بما يخالفون به (وَإِذا جاؤُكَ) يعني إذا أتوا إلى عندك وترددوا عليك (حَيَّوْكَ) سلّموا عليك (بِما لَمْ يُحَيِّكَ
بِهِ اللهُ) بغير التحية التي حيّاك بها ربّك ، لأن اليهود كانوا
يقولون له (ص) : السام عليك ، والسام هو الموت بلغتهم ، وهم يوهمون أنهم يقولون :
السلام عليك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم وبين بعضهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا
اللهُ بِما نَقُولُ) يعني إذا كان هذا نبيّا حقّا فهلّا يعذّبنا الله بقولنا له
كذلك؟ (حَسْبُهُمْ) أي تكفيهم (جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها) النار يحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فبئس المآل مآلهم في جهنم.
٩ و ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَناجَيْتُمْ ...) أي تساررتم فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعني لا تفعلوا مثل فعل اليهود والمشركين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بفعل الخير وتجنّب ما يغضب الله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه يوم القيامة ليثيبكم على إيمانكم وطاعاتكم (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) يعني نجوى الكافرين والمنافقين بما يسوء المؤمنين هي نجوى
تنبعث عن وسوسة الشيطان (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) ليجلب لهم الحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ
شَيْئاً) فهو لا يجلب عليهم ضررا ولا سوءا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه بحيث يكون سببا لإيلامهم وحزنهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) أي يفوضون إليه جميع أمورهم دون غيره.
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ...) أي اتسعوا فيه وهو مجلس النبي (ص) وقيل : مجالس الذكر. (فَافْسَحُوا) توسّعوا فيه (يَفْسَحِ اللهُ
لَكُمْ) أي يوسّع الله تعالى لكم المجالس في الجنّة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي قوموا واتركوا المكان لإخوانكم (فَانْشُزُوا) قوموا وانهضوا. (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع المؤمنين على غيرهم بطاعتهم للنبيّ (ص) ثم يرفع
الذين أوتوا العلم منهم على الذين لم يؤتوا العلم درجات بفضل علمهم وسابقتهم في
الجنّة. (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم.
١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...) أي إذا ساررتموه (فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي تصدقوا على فقير قبل أن تدخلوا عليه (ص) لمناجاته. (ذلِكَ) أي ذلك التصدّق قبل مناجاته (ص) (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه أداء واجب وفيه ثواب. (وَأَطْهَرُ) يعني وأزكى لأعمالكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدّقون به (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي عفوّ عنكم عطوف عليكم (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) يعني خفتم الفقر وبخلتم بالصدقة يا أهل الغنى واليسار؟ (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي وحيث لم تقدّموا الصدقات (وَتابَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) عفا عن تقصيركم في أمره (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به من الطاعات (وَ) أطيعوا (رَسُولَهُ) أيضا (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) عالم بأفعالكم جميعها.
١٤ إلى ١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) أي : ألم تنظر يا محمد إلى هؤلاء المنافقين الذين يوالون
اليهود الذين باءوا بغضب الله وسخطه (ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) أي أنهم ليسوا من المؤمنين بك ولا هم معهم في الإيمان ، ولا
هم من اليهود في الظاهر وإن كانوا معهم بالولاء (وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِبِ) أي يقسمون الأيمان أنهم لم ينافقوا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون أنهم منافقون (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) هيّأه لهم في الآخرة (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما فعلوا وما يفعلون من النّفاق وموالاة أعداء الله
ورسوله. إنهم قد (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا ما يقسمونه من الأيمان الكاذبة وقاية لهم دون القصاص
(فَصَدُّوا) أي منعوا نفوسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق المؤدية إلى الحق (فَلَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) مرّ تفسيره. (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي سوف لا تفيدهم الأموال التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) التي خلّفوها وتعبوا عليها (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تمنع عنهم عذابه (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ النَّارِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيرها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ) يحييهم (جَمِيعاً) كلّهم (فَيَحْلِفُونَ) يقسمون (اللهُ) في الآخرة (كَما يَحْلِفُونَ
لَكُمْ) في الدنيا ، بأنهم كانوا مؤمنين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويظنون في الدنيا أنهم كانوا على الحق (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في أقوالهم وعقيدتهم وأيمانهم التي يقسمونها (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم وأحاط بهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللهِ) فصاروا لا يذكرونه ولا يخافون منه (أُولئِكَ) هم (حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنوده (أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الآخرة لأنهم يستبدلون الجنة بالنار.
٢٠ إلى ٢٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يخالفونهما في الحدود التي وضعها الله تعالى
لمعالم دينه ، وهم المنافقون (أُولئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ) أي أنهم أذلاء محتقرون في الدنيا ومخزيون في الآخرة (كَتَبَ اللهُ) في اللّوح المحفوظ وقدّر وهو كائن لا محالة (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) لننتصرنّ على الكفّار والمنافقين بالبيان والسنان (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر قاهر (عَزِيزٌ) منيع غالب.
(لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقون بوحدانيّة الله والبعث (يُوادُّونَ) يوالون (مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) من خالفهما ولم يعمل بأوامرهما (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ
أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني مهما قربت قرابتهم منهم ، فإنهم يتبرّءون منهم لأنهم
أعداء الله ورسوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي ثبّته فيها بلطفه فصار كأنه مكتوبا فيها والمراد بهم من
لا يوادّون أعداء الله (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) أي سدّدهم بالإيمان الذي كان لهم بمثابة الروح في البدن
لأنه بأمره سبحانه ، وقيل بالقرآن وقيل غير ذلك. (وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مر معناه (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) لطاعتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثواب الجنة (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ) أي جنوده (أَلا إِنَّ حِزْبَ
اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المنتصرون الظافرون بالمطلوب.
سورة الحشر
مدنية ، عدد آياتها ٢٤ آية
١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ مر تفسيرها. وهذه السورة المباركة نزلت في إجلاء بني
النّضير من اليهود حين أنذرهم النبيّ (ص) لكيدهم وخيانتهم فخرجوا إلى خيبر وبلاد
الشام (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي هؤلاء اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) بتسليطه المؤمنين عليهم بأمر النبيّ (ص) بإخراجهم من
حصونهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي أخرجهم منها على أن لا يعودوا إلى أرضهم حتى قبيل يوم
القيامة (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا) أي ما حسبتم أيها المؤمنون أنه يمكن إخراجهم من ديارهم
لقوّتهم ومنعتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي حسبوا أنهم تحميهم القلاع والحصون التي اعتصموا بها من
عذاب الله. (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاء أمر الله وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا) من جهة لم يحسبوا حسابها لأنهم اغترّوا بقوّتهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى الخوف في نفوسهم (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمونها من الداخل ليهربوا ، ويهدمها المؤمنون من
الخارج للوصول إليهم (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) أي فانظروا وتدبّروا واتّعظوا يا أصحاب العقول فيما حلّ
بهم من البلاء (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ
اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي قدّره عليهم وحكم به. (لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع جلائهم عن وطنهم (عَذابُ النَّارِ) جزاء كفرهم وعنادهم.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي هذا الذي فعل بهم هو بسبب أنهم خالفوا الله سبحانه
وعاندوا رسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ
اللهَ) يخالفه (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) أي قويّه.
٥ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها ...) أي أنكم يوم حربكم لليهود لم تقطعوا لهم نخلة من كرام
النخيل أو تتركوا من نخلهم نخلة (قائِمَةً عَلى
أُصُولِها) لم تقطعوها أو تقلعوها (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره وتقديره (لِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) ليهين اليهود ويذلّهم.
٦ إلى ٨ ـ (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ ...) أي ما جعله له فيئا خالصا من أموالهم حين جلوا عن بلادهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلا رِكابٍ) أي فلم تقربوه محاربين لا على الخيول ولا غيرها ولا راجلين
(وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بل الله تعالى يمكّن رسله من أعدائهم وينصرهم عليهم حين
يشاء من غير قتال (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال الكفار في القرى المعادية له (فَلِلَّهِ) يضعه سبحانه فيما أحب (وَلِلرَّسُولِ) بتمليك من الله له (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني أهل بيت رسول الله وقرابته من بني هاشم دون غيرهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ) أي يتامى أهل بيته (ص) ومساكينهم ، وابن السبيل منهم (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حتى لا يبقى ذلك متداولا بين الرؤساء منكم فقط هذا مرّة
وهذا مرة (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي اعملوا بحسب أمره في تقسيم الأموال (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنّبوا غضبه بترك المعاصي وبفعل الواجبات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) مر تفسيره. (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا بدينهم من مكة إلى المدينة ومن دار الحرب إلى
دار السلام (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانوا يملكونها (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَرِضْواناً) راغبين بفضله ورضاه ورحمته (وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي هاجروا نصرة لدينه (أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) فعلا لأنهم قصدوا لفعلهم نصر الدّين لا غير.
٩ و ١٠ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي الأنصار الذين سكنوا المدينة وهي دار الهجرة قبل
المهاجرين إليها وآثروا الإيمان ولا يعقل أن يكون (من قبلهم) يرجع إلى الإيمان أيضا
بعد المهاجرين إلّا إذا أريد أهل بيعة العقبة من أهل المدينة. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً
مِمَّا أُوتُوا) أي لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ بسبب ما أخذ المهاجرون من
الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النّضير (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ) أي يقدّمون المهاجرين ويفضّلونهم على أنفسهم في العطاء (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي ولو كانت بهم حاجة وفقر (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ) إلخ أي ومن يدفع عنه بخل نفسه فأولئك هم الفائزون بثواب
الله وقيل شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة.
(وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء وهم سائر التابعين لهم إلى يوم
القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالتجاوز عن
الذنوب (وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشّا للمصدقين بك
وبرسولك (رَبَّنا إِنَّكَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي متعطف على العباد منعم عليهم.
١١ إلى ١٤ ـ (أَلَمْ تَرَ ...) ألم تنظر يا محمد (إِلَى الَّذِينَ
نافَقُوا) فأظهروا لك الإيمان وأبطنوا الكفر (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر والقائلون هم بنو قريظة (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) أي يهود بني النّضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ) مساوين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع محمدا (ص) وأصحابه في قتالكم مطلقا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من قبل المسلمين (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعيننّكم في الحرب. (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم فإنهم لا يخرجون معهم ولا ينصرونهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي إذا فرض وجودهم نصرهم الذي هو محال (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) لسوف يهربون (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينتفع جماعتهم بهذا الوعد ولا بنصرتهم. (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم والمعنى أن خوفهم منكم أشدّ من خوفهم من الله
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي بسبب أنهم لا يعلمون الحق ولا يعرفون عظمة الله وهؤلاء
المنافقون (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (جَمِيعاً) أي مجتمعين (إِلَّا فِي قُرىً
مُحَصَّنَةٍ) أي من حصون منيعة وأبراج يدفعون بها عن أنفسهم لجبنهم (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي من وراء أسوار وحيطان والمعنى أنهم لا يقاتلونكم وجها
لوجه (بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي أن عداوتهم فيما بينهم شديدة وقلوبهم غير متفقة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) تظنّهم متّحدين في ظاهرهم (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرّقة مختلفة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا يميّزون الرّشد من الغي.
١٥ إلى ١٧ ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن حال الكافرين الذين تكلّمنا عنهم من اليهود وغيرهم
من الاغترار بعددهم وقوّتهم ، كحال من سبقهم من المشركين الذين حاربوكم يوم بدر
قبل غزوة بني النضير لستة أشهر (ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا عقوبة كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) إلخ أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير وخذلانهم لهم
كمثل الشيطان إذ زيّن بوسوسته للإنسان الكفر فلما كفر تبرأ الشيطان منه ومن كفره
زاعما أنه يخشى عقاب الله يوم القيامة.
(فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني عاقبة الفريقين : الشيطان ومن أغواه (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ
فِيها) معذّبين مؤبدين (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) لأنفسهم ولغيرهم.
١٨ إلى ٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ...) أي تجنبوا معاصيه واعملوا بطاعاته (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) أي ما قدّمت ليوم القيامة من عمل صالح ينجي أو سيّئ يوبق (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) عالم (بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شر. (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي تركوا أداء حقّه (فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ) أي حرمهم حظّهم من الخير والثواب (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله إلى معصيته (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) بالاستحقاق لأن هؤلاء يستحقّون الجنّة ، وأولئك يستحقّون
النار (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بثواب الله ورضاه.
٢١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ ...) هذا تعظيم لشأن القرآن ، أي لو كان الجبل مما ينزل عليه
القرآن ويشعر به مع جفاء طبعه وكبر حجمه (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لرأيت الجبل الجامد متذلّلا تعظيما لشأنه. والإنسان
العاقل أجدر من الجبل وأحق بأن يخشى الله ويخشع له لو عقل كلام القرآن (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ليعتبر الناس بهذه الأمثال التي هي من واقع حياتهم.
٢٢ إلى آخر السورة
المباركة ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) يعني هو الربّ الذي لا ربّ غيره ، المستحقّ للعبادة دون
سواه ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي العالم بما غاب عن عباده وبما يشاهدونه ويرونه (هُوَ الرَّحْمنُ) الرازق لجميع خلقه (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين منهم خاصة (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك وحده لجميع الأشياء إيجادا وتصرفا (الْقُدُّوسُ) الطاهر من كل آفة المنزّه عن كل قبيح (السَّلامُ) الذي يسلم العباد من ظلمه (الْمُؤْمِنُ) الذي تنجو المخلوقات من ظلمه ، وقيل الذي أمن أولياؤه من
عقابه (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المتسلّط على الأشياء (الْعَزِيزُ) المنيع القادر الذي لا يقهر (الْجَبَّارُ) القاهر العظيم الشأن (الْمُتَكَبِّرُ) المجلّل بالكبرياء الحقيق بصفات التعظيم (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن شرك المشركين به من الأصنام وغيرها (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المبتدع للخلق الفاعل للأجسام والأعراض (الْبارِئُ) المنشئ للخلق (الْمُصَوِّرُ) الذي صوّر الأشياء على ما هي عليه (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) مثل : الله ، الرحمان ، الرحيم ، إلخ ... (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي ينزهه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره.
سورة الممتحنة
مدنية ، عدد آياتها ١٣ آية
١ إلى ٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...) نهي منه سبحانه للمؤمنين عن أن يتخذوا الكافرين أولياء
يوالونهم وينصرونهم أو يستنصرون بهم. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ) تحبّونهم وتتقربون منهم وتنصحونهم. وقيل معناه هنا : تلقون
إليهم بأخبار النبيّ (ص) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما
جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن والإسلام (يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة ومن دياركم (أَنْ تُؤْمِنُوا
بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأنكم تؤمنون وتصدّقون ، وكراهة أن تؤمنوا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إذا كان هدفكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي
فأعطوا خروجكم حقّه من معاداتهم (تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعرّفونهم مودّتكم لهم سرّا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ
وَما أَعْلَنْتُمْ) لأني لا يخفى عليّ شيء وأنا أطلع رسولي عليه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي من والى عدوّي وأسرّ إليهم بأخبار رسولي أيها المؤمنون (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي انحرف وعدل عن طريق الحقّ (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي أن هؤلاء الكفار إن يصادفوكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) ظاهري العداوة (وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) يضربوكم ويقتلوكم بأيديهم ويشتموكم بألسنتهم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي أحبّوا أن ترجعوا عن دينكم (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لا تفيدكم القربى (وَلا أَوْلادُكُمْ) يفيدونكم ، وهم الموجودون بمكة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) الله (بَيْنَكُمْ) فيجعل أهل الطاعة في الجنّة وأهل المعاصي في النار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مرّ معناه.
٤ و ٥ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ ...) أي أنه قد كان لكم خير قدوة بإبراهيم (ع) (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين والمتابعين له (إِذْ قالُوا
لِقَوْمِهِمْ) من الكفار : (إِنَّا بُرَآؤُا
مِنْكُمْ) تبرّأنا منكم ولا نواليكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) أي ونتبرّأ من أصنامكم (كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا عقيدتكم (وَبَدا) ظهر (بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) فلن يكون بيننا موالاة في الدين (حَتَّى تُؤْمِنُوا) تصدقوا (بِاللهِ وَحْدَهُ) فتوحّدونه وتعبدونه (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي اقتدوا بنبيّنا إبراهيم (ع) في جميع أموره ، إلّا في
قوله لأبيه فلا تقتدوا به (وَما أَمْلِكُ لَكَ
مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فلا أردّ عنك عقابه (رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا) أي كان إبراهيم (ع) والمؤمنون به يقولون ذلك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا إلى طاعتك (وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ) أي المرجع (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تبتلنا بهم ولا تسلّطهم علينا فنقع في الفتنة بديننا
(وَاغْفِرْ لَنا) امح ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يغلب ، والذي لا يفعل إلا الحكمة.
٦ و ٧ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ ...) أي في إبراهيم والمتابعين له خير قدوة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) ذاك أن الأسوة الحسنة لا تكون إلا لمن يطمع بثواب الآخرة
ويخاف من عقابه سبحانه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ينصرف عن الاقتداء بهم (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) مر معناه (عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي فلعلّ الله يجعل بينكم وبينهم موالاة بأن يجمعكم على
الإسلام (وَاللهُ قَدِيرٌ) على تغيير ما في القلوب (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يتجاوز عن معاصي عباده ويلطف إذا أسلموا وتابوا.
٨ و ٩ ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ...) أي لا يمنعكم الله عن مخالطة الذين عاهدوكم على أن لا يقاتلوكم
(وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ
مِنْ دِيارِكُمْ) ولا تعدّوا عليكم فأجبروكم على ترك منازلكم وأوطانكم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي لا ينهاكم عن الوفاء لهم بالعهود (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أن تعدلوا في معاملتهم. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) أي يحب أهل العدل (إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي الذين بقوا على الكفر وحاربوكم لأنكم أسلمتم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي من بيوتكم (وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ) أي ساعدوا المعتدين عليكم (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) يعني ينهاكم عن موادّتهم ومحبّتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) أي ومن ينصرهم منكم فهو ظالم لهم ولنفسه مستحقّ للعذاب.
١٠ و ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ...) نزلت هذه الشريفة بعد صلح الحديبية حيث صالح رسول الله (ص)
مشركي مكة على أن من جاءه من مكة ردّه عليهم ، ومن جاء مكة من أصحاب رسول الله (ص)
فهو لهم ولا يردّونه عليه. وقد جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الصلح بلا
فصل والنبيّ (ص) لا يزال في الحديبية ، فأقبل زوجها في طلبها فنزلت الآية الكريمة
بعد قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين. فحكم النساء أنهنّ إذا جئناكم (مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي تحقّقوا من إيمانهنّ واستوصفوهن الإيمان (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) في القلب إذ لا تعلمون إلّا ظاهرينّ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) في ظاهر حالهنّ (فَلا تَرْجِعُوهُنَ) ولا تعيدوهنّ (إِلَى الْكُفَّارِ لا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فقد وقعت الفرقة بينهم وإن أبى أزواجهنّ الطلاق (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي ردّوا لأزواجهنّ الباقين على الكفر ما بذلوه لهنّ من
المهر (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوجوا بهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) إذا دفعتم لهنّ مهورهنّ (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تتمسكوا بنكاح الكافرات (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي إذا لحقت زوجتكم الكفارة بدار الكفر فاطلبوا منهم ما
أنفقتم عليها من مهر (وَلْيَسْئَلُوا ما
أَنْفَقُوا) فأنتم وهم سواء في ذلك (ذلِكُمْ) أي هذا الحكم المذكور هو (حُكْمُ اللهِ) قضاؤه العادل (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يقضي الحق (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مر معناه (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أي لحقت زوجة أحدكم بالكفار مرتدة (فَعاقَبْتُمْ) أي قاصصتم بالغزو أو غيره منهم شيئا (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ) من عندكم فأعطوهم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهنّ من المهور من رأس الغنيمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ) أي التزموا بأوامره واحذروا معصيته باعتبار أنكم مصدّقون
به وبأوامره ونواهيه.
١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) هذه حكاية بيعة النساء للنبيّ (ص) فبعد أن أنهى بيعة
الرجال بعد فتح مكة جاءته النساء وهو على الصّفا فنزلت هذه الشروط (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) كالرجال فالشروط هي أن يبايعن (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ
شَيْئاً) من الأصنام بل يوحدونه (وَلا يَسْرِقْنَ) من أزواجهنّ أو من الآخرين (وَلا يَزْنِينَ وَلا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) لا بالإسقاط ولا بالوأد ولا غيرهما (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ
يَفْتَرِينَهُ) أي لا يكذبن في مولود يوجد (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَ) ولا يلحقنه بأزواجهنّ وهو ليس منهم (وَلا يَعْصِينَكَ) يا محمد (فِي مَعْرُوفٍ) تأمر به لأنك لا تأمر إلّا بالبرّ والتقوى (فَبايِعْهُنَ) يا محمد (وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللهَ) أي اطلب العفو وغفران ذنوبهنّ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عنهنّ رحيم بهن. (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، فإن بعض فقراء المسلمين كانوا ينقلون أخبار
المسلمين لهم ويستفيدون منهم فنهوا عن ذلك. فإن اليهود (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي ليس لهم أمل بثوابها (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي كما فقد الأمل الكافر الذي مات وصار في القبر من أيّ
ثواب في الآخرة ويمكن أن يكون المعنى : كما يئس الكفار الأحياء من خير من دفنوهم
من أمواتهم أو من عودتهم إلى الدنيا.
سورة الصف
مدنية ، عدد آياتها ١٤ آية
١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ مر معناه (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل إنه خطاب للمنافقين الذين تظاهروا بالإسلام ولم يبطنوه
، وقيل هو تنبيه للمؤمنين كي لا يقولوا ما لا يفعلونه (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ
تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم المقت عند الله تعالى أن يقول الإنسان ما لا يفعله
وأن يعد ولا يفي بوعده (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي الذين يصطفّون عند القتال في وجه الأعداء ليرهبوهم ،
وهم يظهرون أمامهم كالبناء المتصل المستقيم المحكم.
٥ و ٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ
لِمَ تُؤْذُونَنِي ...) أي اذكر يا محمد حين أنكر موسى (ع) على قومه إيذاءهم له
بشتى أنواع الأذى (وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) وأنتم تعرفون حقّا أني رسول الله بعثني لهدايتكم والرسول
يعظّم ولا يؤذى (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي وحين مالوا عن الحق خلّاهم سبحانه وسوء اختيارهم وحجب
عنهم ألطافه فمالت قلوبهم إلى الضلال (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يرشدهم إلى ما فيه الأجر والثواب الموصل إلى الجنّة.
(وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) كما قال لهم موسى (ع) (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مضافا إلى أني لم أنسخ أحكامها (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني وناقلا لكم البشارة بنبيّ يظهر من بعد زمني سمّاه
الله تعالى أحمد يعني خاتم النبيين (ص) (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد (ص) (بِالْبَيِّناتِ) بالدلائل الظاهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ) سحر ظاهر.
٧ إلى ٩ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ ...) أي ليس أشد ظلما من الذي يختلق الكذب عليه سبحانه ويسمّي
معجزاته سحرا (وَهُوَ يُدْعى إِلَى
الْإِسْلامِ) أي ينتدب لما فيه خلاصه (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مر معناه (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد هؤلاء الظالمون إذهاب نور الإيمان بافتراءاتهم
وأكاذيبهم وهذا كمن يحاول إطفاء نور الشمس بفمه (وَاللهُ مُتِمُّ
نُورِهِ) أي مكمل لدينه ومظهر لأمر نبيّه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) رغم كرههم لذلك (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا (ص) (بِالْهُدى وَدِينِ
الْحَقِ) أي بالتوحيد وجعل العبادة خالصة له ، وبدين الحق الذي هو
الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليقوّيه لينصره على كلّ دين بالحجة والبرهان (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) رغم كره المشركين لذلك.
١٠ إلى ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) إلخ خاطب سبحانه جميع المؤمنين وعرض عليهم مرغّبا بتجارة
تخلّصهم من العذاب وهي : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فتوحّدونه وتعبدونه (وَرَسُولِهِ) فتقرّون بنبوّته (وَتُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) تحاربون أعداء الدّين (بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) فتبذلون بطريق الحقّ كلّ غال ونفيس (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تقدّرون ما عرضته لكم حقّ قدره (يَغْفِرْ لَكُمْ) ربّكم (ذُنُوبَكُمْ) بأن يمحوها ويتجاوز عنها (وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه صفتها الدائمة التي لا تزول (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) مستطابة هنيئة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) حيث تتنعّمون مؤبدين (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) الظّفر الذي لا يعلوه شيء (وَأُخْرى
تُحِبُّونَها) أي وأدلّكم على تجارة ثانية أو عمل ثان ترغبون فيه في
العاجلة وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) في الدنيا وظفر على أعدائكم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لبلادهم حيث تدخلونها منتصرين عليهم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بلّغهم يا محمد هذه البشارة بالثواب الآجل وبالثواب
العاجل.
١٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنْصارَ اللهِ ...) أي أنصار دينه وأعوان نبيه (كَما قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) أي كقوله لأنصاره وخاصّته وإنما سمّوا بالحواريين لأنهم أخلصوا
من كل عيب (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) أي من هم المعينون لي في أمري (قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) أي أجابوه بهذا الجواب ،! وقيل إنما سمّوا نصارى لقولهم
هذا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي جماعة منهم صدّقت بعيسى (ع) (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) كذّبت به (فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي سدّدناهم ونصرناهم عليهم (فَأَصْبَحُوا
ظاهِرِينَ) أي فصاروا منتصرين عليهم وغالبين لهم.
سورة الجمعة
مدنية ، عدد آياتها ١١ آية
١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) يعني ينزّه الله سبحانه كل شيء خلقه ويقرّ له بالوحدانية
والعبودية لأنه (الْمَلِكِ) أي المتسلّط على التصرف في جميع الأشياء (الْقُدُّوسِ) الجدير التعظيم الطاهر عن كل نقص (الْعَزِيزِ) الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) الذي قدّر كل شيء وفق حكمته. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) يعني العرب الذين هم أمّة لا تعرف القراءة ولا الكتابة ولم
يبعث فيهم نبيّ قبل. وقيل معناها : بعث في أهل مكة لأنها تسمّى أمّ القرى (مِنْهُمْ) يعني أن محمدا (ص) جنسه من جنسهم ونسبه من نسبهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام وسائر
الأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهّرهم من الذنوب والكفر (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وهي الشرائع كافة (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ) أي من قبل بعثه فيهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في انحراف ظاهر عن الحق (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي ليعلّم آخرين من المؤمنين (لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ) وهم المسلمون من بعد عهد صحابته (ص) إلى يوم القيامة. وقيل
هم غير العرب (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي النبوّة التي اختصّ بها رسوله الكريم (ص) (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني يعطيه لمن يريد (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه ذو المنّ الكثير على خلقه ببعثه محمدا (ص)
إليهم.
٥ إلى ٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ
...) أي كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها وهم اليهود (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يقوموا بحملها كما يجب ولا قاموا بأداء حقها بالعمل
بما فيها كما ينبغي (كَمَثَلِ الْحِمارِ
يَحْمِلُ أَسْفاراً) الأسفار مفردها : سفر وهو الكتاب ، فما فائدة الحمار إذا
حمل كتب الحكمة على ظهره؟ إنه لا ينتفع بها لأنه لا يقرأها ولا يعمل بما فيها ،
وهذه هي حال اليهود مع توراتهم. (بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي تعس من الناس قوم ينكرون دلائل الله وبراهينه التي جاء
به رسله (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مر معناه (قُلْ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا) أي قل يا محمد لليهود (إِنْ زَعَمْتُمْ) أي إذا ظننتم بحسب قولكم (أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ
لِلَّهِ) أي أنصاره وأنه معكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ) دون بقيّة الناس (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي اطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى رضوانه ونعيمه في الجنّة
إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحبّاؤه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَداً) أي أنهم لا يطلبون الموت مطلقا (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الذنوب والكبائر الموجبة للنار (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أنه عارف بهم وبأفعالهم (قُلْ) يا محمد لهم : (إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) أي تهربون منه (فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ) أي مدرككم (ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي أنّكم ترجعون إلى الله العالم بسرّكم وجهركم (فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بما عملتموه في الدنيا من سيّئ الأعمال وغيره.
٩ إلى آخر السورة
المباركة ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...) أي إذا أذّن لها في ذلك اليوم وقعد إمام الجماعة على
المنبر للخطبة (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) يعني فامشوا مسرعين إلى الصلاة دون تأمّل (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا البيع والشراء على السواء (ذلِكُمْ) أي ما أمرناكم به من المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) أكثر فائدة (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ما تنفعكم وما لا ينفعكم (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني أنه بعد انتهاء الصلاة والفراغ من الخطبة فتفرقوا
لمصالحكم في جميع نواحي الأرض (وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللهِ) أي اطلبوا نعمه ورزقه (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) احمدوه واشكروه على نعمه بما وفقكم إلى طاعته وأداء فرضه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني لتفوزوا برضاه (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً) إذا نظروا بيعا وشراء أو ما يلهيهم قيل هو الطبل (انْفَضُّوا) يعني تفرّقوا عنك يا محمد وانصرفوا إلى التجارة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب (قُلْ) يا محمد لهم : (ما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب على سماع الخطبة والصلاة (خَيْرٌ) لكم وأكثر نفعا (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ
التِّجارَةِ) التي تبتغون ربحها (وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) لأنه موفّر رزقه للطائع والعاصي ، وهو يرزقكم حتى إذا
بقيتم مع رسول الله (ص) واستمعتم الخطبة.
سورة المنافقون
مدنية ، عدد آياتها ١١ آية
١ إلى ٣ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ... إِذا
جاءَكَ) يا محمد (الْمُنافِقُونَ) المذكورة صفاتهم (قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي اعترفوا أمامك بأنهم يعتقدون كونك رسولا لله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقّا وحقيقة وعلمه لا يلزمه دعم شهادتهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ) فهو سبحانه كما شهدوا لك بالرسالة تمويها يشهد بأنهم
كاذبون في قولهم فإنهم لا يعتقدون ذلك في قلوبهم (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي سترة يستترون بها خوفا من أن يقتلوا بكفرهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي فأعرضوا بذلك عن الإسلام. وقيل : منعوا غيرهم من أن
يتبعوا طريق الحق بأباطيلهم ونفاقهم. (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما عملوه من إظهار الإيمان وإبطان الكفر والصدّ عن
سبيل الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا) أي بسبب إيمانهم بألسنتهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا (فَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ) ختم عليها وطمس فلا يدخلها الإيمان (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون الحق لأنهم لا يتدبرونه.
٤ إلى ٦ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ ...) أي إذا نظرت إليهم يا محمد يعجبك حسنهم وجمالهم وتمام
خلقتهم (وَإِنْ يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وأنت تصغي لأقوالهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ) أي كأنهم تماثيل حسنة الصنع ولكنهم خالون من العقول
والأفهام (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي يظنّون كل صرخة موجهة إليهم لأنهم جبناء (هُمُ الْعَدُوُّ) أي لك يا محمد وللمؤمنين حقيقة (فَاحْذَرْهُمْ) احترس من أن تأمنهم على سرك (قاتَلَهُمُ اللهُ) يعني أخزاهم ولعنهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ينحرفون عن الحق.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي هلمّوا إلى رسول الله تائبين ممّا أنتم عليه (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حرّكوها هزءا وسخرية مستخفّين بهذا القول (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي رأيتهم يا محمد يمنعون الناس عن الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) متعجرفين مستهزئين باستغفار النبي (ص). (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي يتساوى معهم استغفارك وعدمه فإن الله تعالى لا يغفر لهم
مطلقا لكفرهم (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفّق الخارجين عن الإيمان إلى الهداية لطريق الحق.
٧ و ٨ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) أي لا تقدّموا معونة للمحتاجين من المؤمنين الموجودين عند
رسول الله (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي حتى يتفرّقوا عنه (وَلِلَّهِ خَزائِنُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو سبحانه يملك الأموال والأرزاق ولو شاء لأغنى جميع
المؤمنين ولكنه لا يفعل إلّا ما فيه من المصلحة والحكمة (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لا يعرفون وجه الحكمة هذا (يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) أي إذا عدنا من غزوة المصطلق إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَ) يعني أنهم هم الأعزّة وسيخرجون منها النبيّ وأتباعه والذي
قال ذلك هو رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ) فهو تعالى العزيز المنيع ، وكذلك رسوله فهو القوي العزيز
المنتصر عليهم (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بأن يجعلهم سبحانه منصورين على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فهم جاهلون يظنون أنهم أعزّة ، وهم بالحقيقة أذلّة صاغرون.
٩ إلى ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ...) إلخ أي لا تنشغلوا بأموالكم وأولادكم عن الطاعات والذّكر
وهو الصلوات الخمس وسائر الطاعات (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) أي من يتلهّى عن ذكر الله بماله وولده (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لثواب الله ورحمته (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ) أي اصرفوا في سبيل البرّ والخير ويدخل فيه الزكاة وجميع
الحقوق الواجبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يفاجئه (فَيَقُولَ رَبِ) مستغيثا نادما عند ما يشاهد علامات الموت (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) أي يا ليت لو فسحت بأجلي ولو لمدة قليلة وتبقيني في الدنيا
(فَأَصَّدَّقَ) أي فأزكّي مالي وأتصدق وأنفق في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين عملوا ما يرضيك (وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فالأجل محتوم وهو واقع لا محالة في حينه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم بأعمالكم ويجازيكم بحسبها.
سورة التغابن
مدنية ، عدد آياتها ١٨ آية
١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) قد مرّ تفسير مثلها وبيان أن تسبيح المكلّف يكون بالقول ،
وتسبيح الكائنات الأخرى يكون بالدلالة والاستكانة (لَهُ الْمُلْكُ) لا يشاركه فيه أحد (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الشكر على جميع نعمه (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم من العدم (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) لم يعترف بخالقه كالدهرية (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقرّ بذلك (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم بأعمالكم مطّلع على أحوالكم (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِ) أي أنشأهما بإحكام الصنعة وأقامهما على الحق وصحة التقدير.
(وَصَوَّرَكُمْ) يعني خلق البشر على ما هم عليه من الهيئة (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) من حيث تمام الخلقة (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع يوم القيامة (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يفوت علمه شيء (وَيَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ) ما تفعلون في سرّكم (وَما تُعْلِنُونَ) وما تظهرونه (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف بأسرار القلوب وبواطنها.
٥ و ٦ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
...) أي ألم يجئكم أخبار الكافرين (مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الكافرين (فَذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) أي لقوا عاقبة كفرهم من الإهلاك والقتل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع في الآخرة (ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ذلك الإهلاك والقتل والعذاب ، كان بسبب أنه جاءتهم
الأنبياء بالمعجزات والحجج الواضحة (فَقالُوا) للرّسل : (أَبَشَرٌ) مثلنا (يَهْدُونَنا) يرشدوننا إلى مصالحنا وإلى الحق (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي جحدوا وأعرضوا عن رسله (وَاسْتَغْنَى اللهُ) بسلطانه عنهم وعن أيمانهم (وَاللهُ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ) مستغن عن طاعتكم وعبادتكم ، مستحق للحمد على ما أفاض من
نعمه على خلقه.
٧ إلى ١٠ ـ (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ
يُبْعَثُوا ...) أي ظنّوا ظنّا كاذبا بأنهم لا يعادون أحياء للحساب يوم
القيامة (قُلْ) يا محمد لهم : (بَلى وَرَبِّي) أي : أجل وحقّ ربي (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرنّ (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ
بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرنّ بأعمالكم وتحاسبون عليها (وَذلِكَ) الأمر من البعث والحساب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل عليه وهيّن (فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) صدّقوا بهما (وَ) آمنوا ب (النُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا) وهو القرآن (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بذلك كله (يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي حين يحشركم ليوم القيامة (ذلِكَ يَوْمُ
التَّغابُنِ) أي اليوم الذي يستعيض فيه المؤمن ما ترك من حظه في الدنيا
وينال حظّه من الآخرة فيكون قد ترك ما هو شرّ وأخذ ما هو خير فكان غابنا ، وبعكسه
الكافر الذي ترك حظّه من الآخرة وأخذ حظّه من الدنيا ، فأخذ بذلك الشرّ وترك الخير
وكان مغبونا. (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يتجاوز عن معاصيه ويمحوها (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) باقيا فيها إلى الأبد (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) أي ذلك الجزاء هو النجاح الأوفر الأكبر.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) أي بحججنا (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مؤبدين فيها وهي بئس المرجع.
١١ إلى ١٣ ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ...) أي أنها لا تقع مصيبة (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) إلّا بعلمه (وَمَنْ يُؤْمِنْ) يصدّق (بِاللهِ) ويرض بقضائه (يَهْدِ قَلْبَهُ) للتسليم فيعرف أن ما يصيبه هو بعلم الله فلا يجزع لينال
الثواب (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) خبير به (وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) فيما جاءكم به من أمر ونهي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم عن القبول منه (فَإِنَّما عَلى
رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أنه هو مكلف بتبليغ الرّسالة وبيان الأحكام والطاعات ،
وليس عليه أن يجبر أحدا على الإيمان ولا على العمل (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فلا تحق العبادة لغيره (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي أنهم يفوّضون أمرهم إليه ويرضون بقضائه.
١٤ إلى آخر السورة
ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ...) إلخ هذا خطاب للمؤمنين ينبّههم فيه سبحانه إلى أن من هؤلاء
المذكورين من هو عدوكم في الدين فاحذروهم أن تطيعوهم فيما لا يرضي الله (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا) أي وإن تتركوا عقابهم وتتجاوزوا عنهم وتتناسوا ما فعلوه
لتستروا عليهم (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) عفوّ يتجاوز عن الذنوب ويرحم العباد (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ) أي أنهم محنة لكم تمتحنون بها (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عنده ثواب كبير فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي تجنّبوا معاصيه وما يسخطه قدر طاقتكم (وَاسْمَعُوا) أوامر الله ورسوله (وَأَطِيعُوا) الله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم الزكوات والصدقات (خَيْراً
لِأَنْفُسِكُمْ) أي قدّموا خيرا لأنفسكم من أموالكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي يخلص من بخل نفسه (فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) فهم الفائزون بثواب الله (إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قد مرّ تفسيره (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يعطيه بدل قرضه أضعاف ذلك الذي أعطاه إلى سبعمائة ضعف
على ما قيل بل إلى ما لا يتناهى (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) أي مجاز على الشكر بثوابه الجزيل ، وهو رؤف لا يعاجل
العباد بالعقوبة (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما حضر وما غاب (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مر معناه.
سورة الطلاق
مدنية ، عدد آياتها ١٢ آية
١ إلى ٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ...) أي يا أيها النبي قل لأمتك (إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ) أي إذا أردتم طلاقهنّ لسبب مشروع (فَطَلِّقُوهُنَ) أي لوقت عدّتهن وذلك بأن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه
فتعتد بذلك الطهر من عدتها وتصير في العدة بعيد الطلاق فلا تطلّقوهنّ لحيضهنّ الذي
لا يعتددن به من القرء (وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) أي عدّوا الأقراء التي تعتدّ بها المطلّقة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) فلا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من منزله الذي
كان يضعها فيه قبل طلاقها (وَلا يَخْرُجْنَ) هنّ أيضا من ذلك المنزل إلّا لضرورة هامّة (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) أي إلّا إذا حصل منها فاحشة ظاهرة قيل هي الزنا فتخرج
لإقامة الحد عليها وقيل هي البذاء على أهل زوجها وقيل هي النشوز (وَتِلْكَ) أي ما ذكر هو (حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه في الطلاق (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ) أي ومن يخالف أوامره هذه (فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ) أي أذنب وارتكب إثما وعصى الله سبحانه (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لعلّه سبحانه يغيّر رأي الزوج في زوجته المطلّقة ويوقع
حبّها في قلبه فيرجع إليها (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) قاربنه ، وهو خروجهنّ من عدّتهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يعني راجعوهن وقوموا لهنّ بالنفقة والمسكن وحسن الصحبة
والمعاشرة (أَوْ فارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) أو اتركوهن وتخلّوا عنهن بسهولة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا اثنين عدلين عند الطلاق وعند الرجعة على قول (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) يعني : يا أيها الشهود اجعلوا شهادتكم قائمة خالصة لله
سبحانه (ذلِكُمْ) الأمر الذي قلناه لكم (يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي المؤمنون بالله وبأوامره ونواهيه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يعمل بما أمر وينتهي عمّا نهى (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كروب الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي يعطيه الرزق من حيث لا يخطر له على بال ولا يضعه في
حسابه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من يجعل أمره بيد الله ويفوّضه إليه مع الثقة بحسن
تقديره فإنه يكفيه أمر الدنيا ، ويعطيه ثوابا في الآخرة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي أنها لا تكون إلا مشيئته فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل
(قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي جعل لكل شيء مقدارا وأجلا لا يزيد ولا ينقص.
٤ و ٥ ـ (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ
مِنْ نِسائِكُمْ ...) أي اللواتي لا يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إذا شككتم بهنّ فلا تعرفون هل ارتفع حيضهن لكبر أو
لعارض (فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وهؤلاء هن اللواتي تحيض من كانت مثلهنّ (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي إن ارتبتم بحيضهنّ فعدتهنّ ثلاثة أشهر أيضا ، وهن
اللواتي لم يبلغن المحيض في حين أن مثلهنّ تحيض عادة (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ) أي الحوامل (أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي تنتهي عدتهنّ بالولادة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره به (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْراً) فيسهّل له أمر دينه ودنياه (ذلِكَ) يعني المذكور في أمور العدّة والطلاق (أَمْرُ اللهِ) لكم (أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ) لتعملوا به (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعة أوامره واجتناب نواهيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ) يمحوها عنه (وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً) أي يزيد له في ثوابه في الآخرة.
٦ و ٧ ـ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ ...) أي أسكنوا النساء المطّلقات في بيوتكم وحيثما سكنتم من
مساكنكم التي في ملككم وما تقدرون عليه (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي لا تسبّبوا
لهنّ ضررا بأن تقصّروا في سكناهنّ ونفقتهنّ (لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَ) يعني لتضطرّوهن إلى الخروج من بيوت السكن أو لترك النفقة (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي حوامل (فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) حتى يلدن لأن عدّتهنّ تنتهي حين الوضع (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهنّ حال طلاقهن (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) فأعطوهنّ بدل الرضاع (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي اتّفقوا بالحسنى والجميل (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي إذا اختلفتم في الإرضاع أو الأجر فسترضع للرجل امرأة
أجنبية (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي على ذوي السعة أن يوسّعوا في النفقة وأجر الرضاع
لأولادهم (وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي من كان رزقه قليلا ومحدودا (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) يعني أنه يعطي بمقدار إمكانه وطاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما
آتاها) أي لا يحمّلها فوق طاقتها التي منحها (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي بعد ضيق سعة وبعد الصعوبة سهولة.
٨ إلى ١١ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّها ...) أي وكم من أهل قرية تجاوزوا الحدّ في العصيان والتمرّد على
الله (فَحاسَبْناها حِساباً
شَدِيداً) أي دقّقنا معها الحساب ولم نرأف بها لعتوّها (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي كان عذابنا لها شديدا منكرا بحيث لم ير مثله وهو عذاب
الدنيا (فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها) أي ذاقت عاقبة أمر كفرها (وَكانَ عاقِبَةُ
أَمْرِها خُسْراً) أي كانت نتيجة حالها خسارا في الدنيا والآخرة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) هو عذاب النار حاضرا لها لحين ميعاده (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي احذروه يا أصحاب العقول ولا تعملوا مثل ما عمل هؤلاء (الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا وصفهم. وقد خصّهم بالذكر لأنهم وحدهم ينتفعون بذلك
دون غيرهم (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي قد أنزل عليكم هذا القرآن وقيل الذّكر هنا الرسول (ص) (رَسُولاً) أي نبيّنا مبعوثا من عندنا (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ
آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي يقرأها عليكم واضحات (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن الجهل إلى
المعرفة (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسيرها (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ
لَهُ رِزْقاً) أي أنه يعطيه أحسن ممّا يعطي أيّ أحد من نعيم الجنّة.
١٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...) أي خلق السماوات السبع وخلق مثلهنّ في العدد : سبع أرضين
لا في الكيفية. (يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يتنزل الأمر لنبيّنا (ص) من فوق السماوات والأرضين ،
وكذلك ينزل الملائكة بأمر ربّهم فيما بينهن بالحياة والموت والرزق وتصريف الأمور
بحسب الحكمة وغير ذلك (لِتَعْلَمُوا) لتعرفوا (أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه (وَأَنَّ اللهَ قَدْ
أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أنه لا يفوته شيء ممّا يجري في مخلوقاته.
سورة التحريم
مدنية ، عدد آياتها ١٢ آية
١ و ٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الخطاب له (ص) أي : تجعل الحلال لك حراما على نفسك؟ ولذلك
قصة جرت بين رسول الله (ص) وبعض زوجاته كانت سببا في نزول هذه السورة فلتراجع في
المطولات. (تَبْتَغِي مَرْضاتَ
أَزْواجِكَ) أي طلبا لرضاهنّ مع أنهنّ هنّ أحقّ بطلب رضاك (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد قدّر لكم ما تتحلّلون به من أيمانكم إذا حصلت منكم ،
ثم شرع لكم أن تحنثوا بها لتنحلّ (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي وليكم أيّها المؤمنون يحفظكم وينصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مر معناه.
٣ إلى ٥ ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ
أَزْواجِهِ ...) وهي حفصة (حَدِيثاً) أي كلاما أمرها بكتمانه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ) أي أخبرت غيرها بما أسرّ به إليها (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أطلع نبيّه (ص) على ما وقع من حفصة من إفشاء سرّه (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي أخبر النبيّ (ص) حفصة بعض ما ذكرت ولم يخبرها ببعضه
الآخر. وهذا يدل بأنه (ص) قد علم بكل ما قالته لأن إعراضه عن بعض يدل على تمام
معرفته ، وهذا من كرم خلقه (ص) فلم يستقص معها كلّ ما عرفه من قولها (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي حين أخبرها بما علم من أمرها (قالَتْ) حفصة له : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) يعني من أخبرك به (قالَ) (ص) (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي أخبرني به العليم بجميع الأمور ، الخبير بذوات الصدور.
ثم خاطب عائشة وحفصة معا : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ) من المعاونة على إيذاء النبيّ (ص) والاتفاق عليه فقد وجبت
عليكما التوبة مما كان منكما (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) أي مالت إلى الإثم (وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ) أي تتعاونا على إيذائه وتتّفقا (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي حافظه وناصره (وَجِبْرِيلُ) كذلك مولاه (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) يعني الأخيار منهم هم أولياؤه أيضا (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي والملائكة أعوانه بعد الله تعالى وجبرائيل وصالح
المؤمنين. (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَ) أي واجب منه سبحانه إن طلّقكنّ يا نساء النبيّ (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً
مِنْكُنَ) أي أن يعطيه بدلكنّ من هنّ أصلح له منكن (مُسْلِماتٍ) أي راضيات بأمر الله (مُؤْمِناتٍ) مصدّقات بالله وبرسوله (قانِتاتٍ) أي خاضعات خاشعات لله ومطيعات لأزواجهن (تائِباتٍ) مستغفرات من الذنوب (عابِداتٍ) لله تعالى بالفروض والسّنن (سائِحاتٍ) ماضيات في الطاعة ، وقيل صائمات (ثَيِّباتٍ) وهنّ اللواتي افتضّ أزواجهنّ بكاراتهنّ (وَأَبْكاراً) أي عذاري.
٦ إلى ٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) أي احرسوا وامنعوا أنفسكم وأهليكم النار بالصبر على
الطاعات وعن المعاصي (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) أي أن حطبها من الناس وحجارتها من الكبريت الذي يلتهب (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي أنه موكّل بها زبانية غلاظ القلوب أقوياء لا يرحمون أهل
النار (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون ما حكم به الله على العصاة ولا تأخذهم بأحد
رحمة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) أي أنهم حين يعذّبون بذنوبهم يشرعون في الاعتذار عمّا فرط
منهم فيقال لهم : دعوا أعذاركم التي لا تسمع لأنكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تلقون جزاء أعمالكم التي فعلتموها.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ) أقلعوا عن معاصيه وارجعوا إلى طاعته ولتكن توبتكم (تَوْبَةً نَصُوحاً) أي خالصة لوجه الله (عَسى رَبُّكُمْ) أي بأمل أن ربّكم أوجب على نفسه أن (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يمحوها عنكم (وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مر معناه (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يذلّهم بدخول النار بل يعزّهم بإدخالهم الجنة يوم
القيامة (نُورُهُمْ يَسْعى
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) مرّ تفسيره في سورة الحديد (يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي اجعله تامّا لنا بتوفيقنا إلى سببه وهو الطاعة (وَاغْفِرْ لَنا) أي أعف عن معاصينا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) واضح المعنى (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي قاتلهم (وَ) جاهد (الْمُنافِقِينَ) بالقول لردعهم عن كل ما يفعلونه من قبائح (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي تشدّد بإقامة الحد عليهم (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وهي مآلهم ومستقرّهم.
١٠ إلى آخر السورة
ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ذكر سبحانه مثلا على الكفار بقوله : إن (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي كانتا زوجتين لنبيّين من رسلنا (فَخانَتاهُما) فلم تحفظا رسالتهما ولا عملتا بدينهما وليس المقصود
بالخيانة إتيان الفاحشة (فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لم يغن نوح ولا لوط عن زوجتيهما شيئا من العذاب مع
أنهما نبيّين ، (وَقِيلَ) أي يقال لهما يوم القيامة : (ادْخُلَا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ) فأنتما من أهل النار معهم (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) أي وذكر مثلا (لِلَّذِينَ آمَنُوا
امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم فإنها لمّا رأت معجزة العصا من موسى
آمنت وعلم فرعون إيمانها فنهاها عن ذلك فامتنعت ، فعاقبها بأن شدّ يديها ورجليها
بالحبال إلى أربعة أوتاد في مكان معرّض للشمس ، ثم ألقى عليها صخرة عظيمة. (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فرفعها الله سبحانه إليه شهيدة تأكل وتشرب (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي خلّصني منه ومن كفره (وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من أعوان فرعون الظالمين لأنفسهم ولغيرهم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي منعته من دنس المعصية وقيل : امتنعت عن الأزواج (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) أي نفخ جبرائيل جيبها فكان عيسى (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) آمنت بما جاء عن ربّها (وَ) صدّقت ب (كُتُبِهِ) المنزلة على رسله (وَكانَتْ مِنَ
الْقانِتِينَ) أي من الرهط المطيعين لله تعالى.
سورة الملك
مكية ، عدد آياتها ٣٠ آية
١ إلى ٤ ـ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ...) أي تعالى عن كلّ ما لا يجوز عليه ، وعظم شأنه باستحقاقه
الربوبيّة وبيده وحده السلطان والتدبير والتصرف (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر معناه (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي جعل الموت حقّا على العباد وتعبّدهم بالصبر عليه
والحياة للتعبد بالشكر عليها (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أي أيّكم أكثر امتثالا لأوامر الله واجتنابا لنواهيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) مر معناه (الَّذِي خَلَقَ) أي أنشأ من العدم (سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً) جعلهنّ واحدة فوق الأخرى متشابهات في الإتقان (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) أي ليس فيه اختلاف من ناحية الحكمة وإن كانت متفاوتة في
الصورة (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي أدره أيها الإنسان في الخلق واستقص في النظر مرة بعد
أخرى (هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) هل تنظر فيها من شقوق أو خلل (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي كرّر النظر (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) يرجع إليك نظرك فاشلا كالّا لم ينل ما كان يتمنّاه من خلل.
٥ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ ...) أقسم سبحانه بأنه حسّن السماء التي هي أدنى إلى الأرض
بالنجوم والكواكب ، المضيئة (وَجَعَلْناها) أي الكواكب (رُجُوماً
لِلشَّياطِينِ) نرجم الشياطين منها بشهب حين يسترقون السمع (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) أي هيّأنا للشياطين (عَذابَ السَّعِيرِ) عذاب النار المسعرة.
٦ ـ (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي إن لهم عذاب جهنم ، وبئس ذلك المآل الذي يصيرون إليه.
٧ إلى ٩ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها
شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ...) أي إذا طرح الكفار في نار جهنّم سمعوا لها صوتا مخيفا يشبه
صوت غليان القدر عند غليانها (تَكادُ تَمَيَّزُ
مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد تتفرّق وتتقطع من شدّة الغضب (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي كلّما طرحت في جهنم جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) قال لهم زبانيتها (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ) أي : ألم يجئكم محذّر يخوّفكم من هذا المصير التعيس؟ (قالُوا بَلى) ردّوا بالإيجاب (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ
فَكَذَّبْنا) فلم نصدّقه (وَقُلْنا ما نَزَّلَ
اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وأنكرنا أن تكون دعوته صادرة عن الله تعالى ، فيجيبهم
الملائكة (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا فِي ضَلالٍ
كَبِيرٍ) أي في ضياع عن الحق عظيم.
١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ ...) فأجاب الكفرة قائلين : لو كنّا نسمع من الرّسل في دار
الدنيا ، أو نميّز الحقّ من الباطل (ما كُنَّا فِي
أَصْحابِ السَّعِيرِ) ما كنّا من أهل النار الملتهبة. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي أقرّوا بما ارتكبوه من الكفر والعناد (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) هذا دعاء عليهم ، أي أسحق الله أهل النار وأبعدهم من
النجاة.
١٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) أي أن للذين يخافون عذاب ربهم حال كونهم غائبين عن رؤية
ذلك العذاب تجاوزا عن ذنوبهم وقيل : يخافون ربهم في السر كما يخافونه في العلن (وَ) لهم (أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم لا فناء له.
١٣ و ١٤ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ ...) أي فأبطنوا ما شئتم أو بوحوا به (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعرف ما في القلوب ويطّلع على ما يدور في النفوس (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : أفلا يعلم ما في القلوب من خلق القلوب ، ألا يعرف
السرّ من خلق السرّ والعلن؟ بلى (وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ) أي العارف بأدقّ الأمور ، العالم بعباده وبأعمالهم.
١٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولاً ...) أي جعلها مسخرّة سهلة مذعنة تصنعون فيها ما تريدون (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي سيروا في طرقها وفجاجها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي مما أعطاكم من غلال جبالها وسهولها (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي إليه سبحانه يكون البعث.
١٦ و ١٧ ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ...) يعني هل أمنتم عذاب الله تعالى الذي في السماء سلطانه ،
وأمره أن يأمر ملائكة العذاب فيشق الأرض ويغيبكم فيها إن عصيتموه (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تضطرب وتتحرّك (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهل أنتم في أمان من أن يرسل سبحانه عليكم ريحا تحمل
الحجارة وتحصبكم بها (فَسَتَعْلَمُونَ) حينئذ (كَيْفَ نَذِيرِ) أي كيف إنذاري لكم من عاقبة العصيان عند رؤية العذاب.
١٨ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) رسلي وجحدوا بربوبيّتي (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وعقوبتي لهم بإهلاكهم.
١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ ...) أي ألم ينظروا إلى الطيور محلّقة في الجو تصفّ أجنحتها في
الهواء فوقهم؟ (وَ) هنّ (يَقْبِضْنَ) أجنحتهن بعد بسطها (ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا الرَّحْمنُ) فهو جلّت قدرته يمسك الطير بما وطّأ له من الهواء ، ومن
سخّر الهواء على هذا الشكل يكون على كل شيء قدير (إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ) مر معناه.
٢٠ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ
لَكُمْ ...) إلخ هذا الاستفهام إنكاري ، ومعناه : ليس لكم جند ينصركم
مني مع قدرتي الظاهرة على كل شيء (إِنِ الْكافِرُونَ
إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ليسوا إلا مغشوشين من الشيطان الذي يغويهم.
٢١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ
أَمْسَكَ رِزْقَهُ ...) أي ماذا يفعل من تدّعون أنه رازقكم إن أمسك الله تعالى
عنكم أسباب رزقه فمنع المطر مثلا (بَلْ لَجُّوا فِي
عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي لقد تمادوا في تجاوزهم للحد وبعدهم عن الإيمان.
٢٢ ـ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى
وَجْهِهِ أَهْدى ...) أي : هل أنّ الذي يمشي منكسا رأسه إلى الأرض لا ينظر إلى
الطريق أمامه ولا يرى من على يمينه أو على شماله يكون أهدى للطريق (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مستويا منتصبا ينظر أمامه وإلى جميع جهاته (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق واضح لا عوج فيه فيصل إلى أهدافه.
٢٣ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة : إنّ الله هو الذي
أوجدكم من كتم العدم ، ثم خلق ما تسمعون به الأصوات وما تبصرون به الأشياء (وَالْأَفْئِدَةَ) أي القلوب التي تتدبّرون بها وتعقلون (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ولكنكم تشكرونه شكرا قليلا على نعمه. (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ ...) أي قل لهم يا محمد : إن الله تعالى هو الذي خلقكم في الأرض
(وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه بعد أن تبعثوا يوم القيامة.
٢٥ ـ و ٢٦ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أن الكفّار يرون البعث مستحيلا فيقولون : متى يجيء
العذاب الموعود في الدنيا أو متى يكون عذاب الآخرة إن كنتم أيها الرّسل صادقين في
قولكم؟ (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّمَا الْعِلْمُ
عِنْدَ اللهِ) فلا يعلم ساعة العذاب ولا ساعة القيامة غير الله (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وما أنا سوى مخوّف لكم ، موضح لكم معالم الطريق.
٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي فلما يشاهد الكفار العذاب قريبا منهم يوم القيامة تسودّ
وجوههم بالسوء ويغمرها الغمّ (وَقِيلَ) لهم توبيخا (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي هذا الذي كنتم تستعجلون حصوله قد حصل.
٢٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ
اللهُ وَمَنْ مَعِيَ ...) يعني قل يا محمد للكفّار : ماذا بيدي لو شاء الله فأهلكني
بالموت وأمات من معي من الأتباع (أَوْ رَحِمَنا) لنعمل بطاعته وقد كان الكفار يتمنون موت محمد (ص) وأصحابه (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) إذا نزل بهم بعد أن استحقّوه بالكفر والعناد.
٢٩ ـ (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ...) يعني قل يا محمد للكافرين موبّخا : إن الذي أدعوكم إلى
طاعته ورجاء عفوه هو الرّحمان الذي عمّ لطفه الخلائق ، وقد صدّقنا به واعتمدنا
عليه في أمورنا وفوّضناها إليه (فَسَتَعْلَمُونَ) أيها الكافرون يوم البعث والحساب (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في ذلك اليوم نحن أم أنتم.
٣٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
ماؤُكُمْ غَوْراً ...) يعني اسألهم يا محمد : كيف بكم إذا أصبح ماؤكم ناضبا في
الآبار والعيون بحيث جفّت وحبس عنكم المطر (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ
بِماءٍ مَعِينٍ) أي من غيره سبحانه يأتيكم بماء ظاهر للعيون.
سورة القلم
مكية ، عدد آياتها ٥٢ آية
١ إلى ٤ ـ (ن ...) قد اختلف المفسّرون في معنى (ن) فقال بعضهم : هو اسم من أسماء السورة مثل ص ، ق ، إلخ ،
وقيل هو الموت ، وقيل غير ذلك. ومهما كان معناه فقد أقسم الله به (وَ) أقسم ب (الْقَلَمِ) الذي يكتب به لمنافع الإنسان (وَ) ب (ما يَسْطُرُونَ) أي لما يكتبه الملائكة المكلّفون بما يوحى إليهم ،
والملائكة الحفظة من أعمال بني آدم (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم يعني لست يا محمد بجاهل لنعمة ربّك (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ) أي أن لك ثوابا غير مقطوع (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ) أي أنك متخلق بأحسن الأخلاق وأجمل الآداب ٥ و ٦ ـ (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ) أي فسترى يا محمد ، ويرى الذين قالوا إنك لمجنون ، من منكم
المجنون.
٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي أن ربّك يا محمد أدرى بالمنحرف عن سبيل الحق (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعرف بمن اهتدى إلى طريق الحق من العالمين وسوف
يجازي كلّا بحسبه.
٨ و ٩ ـ (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي لا تكن مطيعا للمكذبين بتوحيد الله والجاحدين لنبوّتك ،
ولا توافقهم فيما يريدون منك ، لأنهم يحبّون أن تلين لهم في دينك فيلينون لك في
دينهم.
١٠ و ١٦ ـ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ،
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ...) ولا تركن يا محمد لكثير الحلف بالباطل من جهة قلة مبالاته
بالكذب فهو ذليل عند الله وعند الناس وقيل إنها نزلت بالوليد بن المغيرة وقيل نزلت
ولا تطع أيضا كل وقّاع في الناس كثير الغيبة لهم ، ساع بينهم بالنميمة (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل مقتّر بالمال ، ولا تطع كل (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي المعتدي على الحق الفاجر الذي يرتكب الآثام (عُتُلٍ) فاحش سيّئ الخلق (بَعْدَ ذلِكَ) من الصفات القبيحة (زَنِيمٍ) أي دعيّ قد ألحق بقوم ليس هو منهم في النّسب (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطعه يا محمد لمجرّد كونه صاحب مال وذا بنين (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ، قالَ
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا قرئت عليه آيات القرآن قال إن ذلك ممّا سطّره
الأوّلون في أحاديثهم.
١٦ ـ (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنشوّهه يوم القيامة بسمة على أنفه يعرف بها أنه من أهل
النار.
١٧ و ١٨ ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا
أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) يعني إننا اختبرنا أهل مكة بالقحط والمجاعة كما اختبرنا
أصحاب ذلك البستان (إِذْ أَقْسَمُوا) أي حيث حلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها
مُصْبِحِينَ) أي ليقطفنّ ثمرها عند الصباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) في أيمانهم ، أي لم يقولوا : إن شاء الله.
١٩ و ٢٠ ـ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ...) أي طرقها طارق من أمر الله أتاحه ربّك (وَهُمْ نائِمُونَ) حال نومهم قيل : بعث الله عليها النار في اللّيل فأحرقتها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالليل المظلم كناية عن احتراقها.
٢١ إلى ٢٥ ـ (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا
عَلى حَرْثِكُمْ ...) أي نادى بعضهم بعضا عند الصباح : هيّا إلى زرعكم لتقطفوا
ثماره (إِنْ كُنْتُمْ
صارِمِينَ) أي إذا قرّرتم قطع ثمار النخل (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي مضوا إلى عملهم وهم يتسارّون فيها بينهم (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ
عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) يجب أن لا يدخل بستاننا اليوم مسكين ولا فقير يقاسمنا
ثمرها (وَغَدَوْا عَلى
حَرْدٍ) على قصد منع الفقراء (قادِرِينَ) مقدّرين في أنفسهم منع الفقراء ، ولإحراز جميع الثمر
لأنفسهم.
٢٦ و ٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا
لَضَالُّونَ ...) أي فلمّا شاهدوا جنتهم على تلك الصفة من الحرق وتلف الثمار
قالوا : ضللنا الطريق ، وليس هذا بستاننا. (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) أي استدركوا بعد أن تيقنوا الحال يعني أن هذه هي حديقتنا
فعلا ولكننا حرمنا خيرها لأننا قرّرنا منع حقوق الفقراء فيها.
٢٨ و ٢٩ ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ...) أي قال أفضلهم قولا ، وقيل هو أوسطهم سنّا : ألم احذّركم
سوء قولكم وفعلكم ، فكأنّه كان قد نبّههم إلى أن ينبغي لهم أن يتوكّلوا على الله
وأن يعتقدوا أنه لا قدرة لأحد على شيء إلّا بمشيئته عزوجل ، وقيل : هلّا تذكرون نعم الله عليكم فتؤدوا شكرها بأن
تخرجوا حق الفقراء من أموالكم ولا تمنعوها. (قالُوا سُبْحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) تنزيها له وتعظيما عن الظلم فلم يظلمنا بإحراق ثمرنا بل
ظلمنا أنفسنا حين عزمنا على حرمان المساكين حقوقهم ٣٠ إلى ٣٣ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ ...) أي أخذ يلوم بعضهم بعضا على ما كان من تفريط و (قالُوا) فيما بينهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا طاغِينَ) أي قد أسرفنا في الظلم وتجاوزنا الحدود فيه (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً
مِنْها) أي لعل الله تعالى يخلف علينا ما هو خير من هذه الجنة التي
تلفت بعد أن تبنا إليه (إِنَّا إِلى رَبِّنا
راغِبُونَ) أي نرغب إليه ونسأله ذلك ونتوب إليه مما فعلناه (كَذلِكَ) أي مثل هذا الذي جرى يكون (الْعَذابُ) للعاصين في الدنيا (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) منه وأعظم (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لو عقلوا ذلك وآمنوا به.
٣٤ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أن للمؤمنين الذين يجنّبون سخط الله ويطلبون الجنّة
يتلذّذون بنعيمها ويتقلّبون في خيراتها ومسرّاتها.
٣٥ إلى ٣٨ ـ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ ...) هذا استفهام إنكار ، أي لا نجعل المسلمين لنا كالمشركين
بنا في الجزاء والثواب فهم ليسوا سواء (ما لَكُمْ) ماذا دهاكم (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف تقضون بذلك من عندكم؟ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي هل لكم كتاب لا تتعدّون أحكامه وشرائعه تعملون بما فيه
وبما أنكم ليس لديكم ذلك فإن القرآن الكريم حجة عليكم (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ) أي في كتابكم الذي هو غير موجود فعلا (لَما تَخَيَّرُونَ) ما تختارونه منه.
٣٩ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...) أي هل لكم مواثيق مؤكّدة عاهدناكم بها تدوم إلى يوم
القيامة ولا يمكن نقضها معكم؟ (إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ) يعني ما تقضون به لأنفسكم من الكرامة عند الله.
٤٠ و ٤١ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ،
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ...) أي اسألهم يا محمد : من يكفل لهم في الآخرة أن يكون لهم ما
للمسلمين من المغفرة والرضوان؟ أو أنهم ذو وشفعاء يشفعون لهم يوم الدين؟ (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) فليجيئوا بأولئك الشركاء الذين يعبدونهم مع الله ، ليدفعوا
عنهم عذابه (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم.
٤٢ ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ ...) أي فليجيئوا بشركائهم في ذلك اليوم الذي تبدو فيه الأهوال
قائمة على قدم وساق بحيث لا يردّها شيء حين تشتد ، ويطلب منهم على وجه التوبيخ أن
يسجدوا لربّهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فلا يقدرون على أداء السجود الذي يلجأ إليه الخائف من
الأمر العظيم ليكشفه الله سبحانه عنه كما يفعل المؤمنون في دار الدنيا ، فتراهم :
٤٣ ـ (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة منكّسة إلى الأرض من الفزع والندم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تغشاهم مهانة (وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ) لربّهم (وَهُمْ سالِمُونَ) ناجون من هذه الآفات.
٤٤ و ٤٥ ـ (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا
الْحَدِيثِ ...) أي يا محمد ، خلّ بيني وبين المكذبين بهذا القرآن (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم للعذاب استدراجا (مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ) فيصلون إليه دون أن يشعروا (وَ) أنا (أُمْلِي لَهُمْ) أطيل أعمارهم ولا أستعجل عذابهم لأنهم لن يهربوا من ملكي (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن تدبيري قويّ محكم وعذابي شديد.
٤٦ و ٤٧ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ...) أم تسأل يا محمد هؤلاء الكفّار أجرا على أداء الرسالة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي فإنهم يستثقلون لزوم ذلك (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ) أي هل عندهم معرفة صادقة بصحة ما يزعمونه ولا يعرف ذلك
غيرهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يسجّلون ذلك الذي يزعمونه ويتوارثونه وينبغي أن يبرزوه.
٤٨ و ٥٠ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ
كَصاحِبِ الْحُوتِ ...) إلخ أي اصبر يا محمد على ما تلقاه في سبيل إبلاغ دعوتك إلى
أن يحكم الله تعالى بنصرك عليهم ولا تكن كيونس الذي استعجل عقاب قومه وخرج عنهم
قبل أن يأذن الله له فنادى ربه لا إله إلا أنت إلخ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ
نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لو لا أن أدركته رحمة ربّه وشمله عفوه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي طرح في الفضاء (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم على ما فعله (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اختاره نبيّا (فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) المرضيّين عنده المطيعين له.
٥١ و ٥٢ ـ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ...) أي يوشك ويقارب الذين كفروا أن يزهقوك بأبصارهم فيقتلوك
بالإصابة بالعين. وقيل : ينظرون إليك نظر عداوة وبغض بحيث يكادون يصرعونك بحدّة
نظرهم. (لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ) حين سماع تلاوته للقرآن (وَيَقُولُونَ) حينئذ : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) قد غلب على عقله (وَما هُوَ) أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) شرف (لِلْعالَمِينَ) للناس وسائر المخلوقات.
سورة الحاقة
مكية ، عدد آياتها ٥٢ آية
١ إلى ٣ ـ (الْحَاقَّةُ ...) الحاقة : من حقّ ، أي وجب. وهي هنا تعني القيامة لأنها يوم
المحاقّة والمخاصمة وإعطاء كل امرئ ما يستحق (مَا الْحَاقَّةُ) استفهام معناه التعظيم لشأن يوم القيامة. ثمّ زاد في
التخويف منه بقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ) وأنت لا تعلمها إذا لم ترها بعينك ولم تشاهد أهوالها.
٤ إلى ٨ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ
...) أي كذّب هؤلاء القومان بيوم القيامة الذي كنّ سبحانه عنه
بالقارعة لأنها صفة له هائلة جعلها بعد الكناية بالحاقّة (فَأَمَّا ثَمُودُ) قوم صالح (فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ) يعني أبيدوا بالصيحة الطاغية التي تجاوزت المقدار الذي
يحتمله الإنسان وقيل : بطغيانهم وكفرهم (وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) أي دمّروا بالريح الشديدة البرد التي عتت في هبوبها وبردها
(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي سلّطها الله عليهم (سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وهي الأيام التي تدعوها العرب : أيام العجوز سميت بذلك قيل
لأنها تأتي في عجز الشتاء وقيل غير ذلك (حُسُوماً) أي متابعة ليس بينها فترة (فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيها صَرْعى) أي مصروعين في تلك الأيام والليالي (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي كأنهم أصول نخل بالية قد نخرها القدم (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية.
٩ و ١٠ ـ (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ...) أي وجاء بعدهم فرعون ومن سبقه بطغيانهم وكفرهم (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) يعني وتبعهم أهل القرى والمؤتفكات التي انقلبت بأهلها قرى
قوم لوط (بِالْخاطِئَةِ) أي بخطيئتهم التي هي الشّرك وسائر الكبائر (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) لم يطيعوا أمره (فَأَخَذَهُمْ) الله بالعذاب (أَخْذَةً رابِيَةً) أي أخذا زائدا في الشدّة تفوق عذاب الأمم من قبلهم
١١ و ١٢ ـ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ...) أي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض ومن بقي عليها ولم
يلجأ إلى سفينة نوح (ع) (حَمَلْناكُمْ فِي
الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم السابقين في السفينة (لِنَجْعَلَها) أي لنجعل تلك الفعلة (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة تعتبرون بها وتتفكّرون بكمال قدرة الله ونعمته وتمام
حكمته (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) أي وتسمعها وتحفظها الأذن السامعة الحافظة التي تنفعها
الذكرى.
١٣ و ١٥ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ
واحِدَةٌ ...) أي إذا نفخت النفخة الأولى التي يصعق منها الخلائق ، وقيل
هي النفخة الأخيرة التي يبعثون بها (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها (فَدُكَّتا دَكَّةً
واحِدَةً) أي كسرتا كسرة واحدة حتى يستوي أديمها (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي في ذلك اليوم تقوم القيامة.
١٦ إلى ١٨ ـ (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ...) أي انفرج بعضها عن بعض فصارت ضعيفة مفكّكة البنية بعد
قوّتها (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) أي رؤي الملائكة على أطرافها ونواحيها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل العرش فوق الخلائق في يوم القيامة ثمانية من
الملائكة (يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ) أي يوم القيامة تعرضون بين يدي الله أيها المكلّفون (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) فلا يغيب شيء من أعمالكم ولا أحد منكم.
١٩ إلى ٢٤ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ ...) من هنا بدأ سبحانه بوصف تقسيم حالة المكلّفين فقال أما
أصحاب اليمين (فَيَقُولُ) كلّ واحد منهم لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) أي تعالوا اقرأوا ما في كتابي ، يقول ذلك فرحا بما لاقاه
من ثواب ، وهو لا يستحي من عرض كتابه على غيره إذا يعلم أن فيه الطاعات (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت وأيقنت وأنا في الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أني محاسب بالتأكيد فعملت بالطاعات لأصل إلى هذا الثواب (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في ذلك اليوم ، أي في حياة هنيئة (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة الدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها قريبة المنال (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في الجنّة التي دخلتموها (هَنِيئاً) خالصا من الكدر (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي بما قدّمتم (فِي الْأَيَّامِ
الْخالِيَةِ) يعني في الأيام الماضية في الدنيا.
٢٥ إلى ٢٩ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِشِمالِهِ ...) بعد ذكر أهل الجنّة ذكر سبحانه أهل النار فقال : وأما من
أعطي صحيفة أعماله بشماله (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي
لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) يتمنّى أنه لا يعطى كتابه لما فيه من السيئات والمعاصي
التي تسوّد الوجه (وَلَمْ أَدْرِ ما
حِسابِيَهْ) أي ويا ليتني لم أعرف أي شيء هو حسابي (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي يا ليت حالي كانت موتة واحدة لا أعود مرة ثانية (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) فإن مالي لم ينفعني ولم يدفع عني عذاب الله (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي قد ذهب عني حجتي وقيل زال أمري ونهيي في الدنيا ولا أمر
اليوم لي ولا نهي.
٣٠ إلى ٣٧ ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ ...) الخطاب موجّه لملائكة العذاب حيث يقال لهم : خذوا هذا
العاصي وشدّوا إحدى يديه وإحدى رجليه إلى عنقه بجامعة (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي أدخلوه النار (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي اجعلوه ملفوفا في سلسلة طولها سبعون ذراعا (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ
الْعَظِيمِ) أي أنه كان لا يصدق بوحدانية الله تعالى في دار التكليف (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي أنه كان يمنع الزكاة الواجبة.
(فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي ليس له صديق ينفعه يوم القيامة (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أي وليس له أكل إلّا من صديد أهل النار (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي لا يأكل الغسلين المذكور إلّا المذنبون الجائرون عن
طريق الحق.
٣٨ إلى ٤٣ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَما
لا تُبْصِرُونَ ...) حرف (فَلا) هنا زائدة فمعناه : أقسم بما ترون من الأشياء وبما لا ترون
(إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ) هو محمد (ص) (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي وليس بقول شاعر تؤمنون به إيمانا قليلا (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي ليس بقول ساحر حتى تعتبروه اعتبارا قليلا (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل من عند الله وحيا نقله جبرائيل (ع) بلفظه.
٤٤ إلى ٤٧ ـ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ ...) أي ولو اخترع محمد (ص) كلاما وادّعى من عندنا (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لكنّا أخذنا بيده اليمنى إذلالا له. وقيل لقطعنا يده
اليمنى (ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ولكنّا نقطع وتينه وهو وريد الدم في عنقه ونهلكه (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) أي وما من أحد منكم يحجزنا ويمنعنا عنه لو تقوّل علينا
كذبا.
٤٨ إلى آخر السورة
المباركة ـ (وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ...) أي أن القرآن عظة وعبرة لمن يتجنّب سخط الله وغضبه ويعمل
بطاعته (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ) نعرف بالتأكيد (أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ) أي أن منكم من لا يصدّق بالقرآن ويكذّب قول رسولنا (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) فهذا القرآن يكون حسرة عليهم يوم القيامة إذ لم يعملوا بما
فيه في دار الدنيا (وَإِنَّهُ لَحَقُّ
الْيَقِينِ) أي أن القرآن يقين لا شك فيه (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) هذا الخطاب للنبيّ (ص) ويراد به سائر المكلّفين لينزهوه
سبحانه عمّا لا يليق به من صفات غيره.
سورة المعارج
مكية ، عدد آياتها ٤٤ آية
١ إلى ٤ ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ...) أي دعا داع على نفسه بوقوع العذاب عليه آجلا وقيل بأن هذا
السائل هو الحارث بن كلدة ، وقيل هو النعمان بن الحرث الفهري قاله يوم نصب رسول
الله (ص) عليا يوم الغدير (لِلْكافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دافِعٌ) أي لا يدفعه عنهم شيء (مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ) أي أن ذلك العذاب واقع من الله مالك الملائكة التي تعرج
إلى السماء فمعارج السماء هي طرق صعود الملائكة (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي تصعد بواسطة تلك المعارج ، والروح هو جبرائيل (ع) (إِلَيْهِ) أي إلى الموضوع المعيّن للعروج والذي لا يتجاوزونه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ) أي أن مكان عروجهم الذي يصلون إليه يحتاج غيرهم إلى خمسين
ألف سنة حتى يصل إليه سيرا من الأرض.
٥ إلى ٧ ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ...) أي اصبر يا محمد على تكذيبهم لقولك صبرا لا شكاية فيه ولا
جزع. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً) أي يرى الكفار مجيء يوم القيامة أمرا بعيدا مستبعدا لأنهم
لا يؤمنون بصحته (وَنَراهُ قَرِيباً) ونحن نرى حلوله قريبا إذ كلّ آت قريب ...
٨ إلى ١٠ ـ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ
...) أي يوم تصير السماء كرديّ الزيت ـ العكر ـ وقيل كعكر
القطران أو كالفضّة أو النحاس المذابين (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ) أي تصير كالصوف المصبوغ المنفوش (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي لا يطلب صاحب من صاحب أن يتحمل عنه من أوزاره لانشغال
كل واحد بنفسه.
١١ إلى ١٤ ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ ...) أي يشاهد الكفّار بعضهم بعضا ليعرفوا سوء مآلهم ثم لا
يتعارفون بعدها (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يتمنّى العاصي (لَوْ يَفْتَدِي) لو يقدّم فداء عن نفسه (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ) يوم القيامة (بِبَنِيهِ) وهم أعزّ المخلوقات عليه (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَأَخِيهِ) الذي كان جناحه ومعينه (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تحميه في المصائب والشدائد (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) أي يتمنى أن لو يفتدي بجميع المخلوقات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يخلّصه هذا الفداء من العذاب.
١٥ و ١٨ ـ (كَلَّا ...) هذا إنكار لزعم الكافر بأن أحدا ينجيه من العذاب. لا ، إنه
لا ينجيه (إِنَّها لَظى) أي نار جهنّم المحرقة (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي تنزع الأطراف ولا تترك جلدا ولا لحما إلا وأحرقته (تَدْعُوا) إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) انصرف عن الإيمان. (وَتَوَلَّى) انحرف عن طاعة الله (وَ) من (جَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أي خبّأه في الأوعية وأمسكه ولم يدفع منه صدقة ولا زكاة.
١٩ إلى ٢٣ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ...) أكّد سبحانه أن الإنسان خلق جزوعا ، والهلع شدة الحرص (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ،
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) يعني أنه لا يصبر إذا أصابه فقر ولا يحتسبه ، وإذا أصابه
الغنى منعه من البر والإحسان (إِلَّا الْمُصَلِّينَ
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي الذين يستمرّون على صلواتهم ولا ينقطعون عن أدائها.
٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ ...) يعني في أموالهم الزكاة المفروضة (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل هو الذي يكون محتاجا ويسأل ، والمحروم الفقير الذي
يتعفّف ولا يسأل (وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يوقنون بيوم القيامة والحساب (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ) يعني خائفون (إِنَّ عَذابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي أنه لا يؤمن نزوله في الكفّار والعصاة. وقيل إنه غير
مأمون لأن المكلّف لا يعرف هل أدّى جميع واجبة فنجا أم أنه قصّر في بعض الواجبات ،
فاستحق عذابا؟.
٢٩ إلى ٣١ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ ...) أي الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كلّ وجه (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) الشرعيات (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) من الإماء (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ) لا يلامون على نكاحهنّ (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب (وَراءَ ذلِكَ) أي وراء ما أباحه الله له من المناكح (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي وراء ما أباحه الله له من المناكح (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتعدّدون لحدود الله.
٣٢ إلى ٣٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي الحافظون للعهود المؤدون للأمانات : كالودائع والوصايا
وغيرها ، قيل الأمانة هي الإيمان بربوبيته والعمل بما أوجبه عليهم وترك ما حرمه (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ
قائِمُونَ) أي أنهم يؤدون الشهادات على وجهها الصحيح (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) مرّ تفسيره (أُولئِكَ فِي
جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي يكونون في الجنان محترمين معظّمين.
٣٦ إلى ٣٨ ـ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ ...) ما بال هؤلاء الكافرين بوحدانية الله وبرسالتك ممّن
يلتفّون حولك ويسرعون إليك ويحطونك بأبصارهم ناظرين إليك بالعداوة وهم (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) أي عن يمينك وشمالك (عِزِينَ) أي متفرقين جماعة جماعة وفرقة فرقة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ) من هؤلاء المنافقين المحيطين بك (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كما يدخل الموصوفون بالإيمان والتصديق والعمل الصالح؟.
٣٩ ـ (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ :) أي : لا ، لا يكون الأمر كما زعموا ، ولا يدخلون الجنّة ،
فإننا خلقناهم من النّطفة القذرة التي هي في غاية الهوان عندنا ، إذ لا يستحق
الجنّة أي مخلوق بهذا الأصل الدنيّء ، بل بالعمل الصالح.
٤٠ إلى آخر السورة
ـ (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ...) قد مرّ تفسيره مثل هذا القسم في سورة الحاقة ، والمشارق هي
مشارق الشمس ، والمغارب هي مغاربها (إِنَّا لَقادِرُونَ
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي أننا قادرون على إهلاكهم وخلق من هم خير منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ولن يسبقنا على عذاب الكفار والمكذّبين أحد ، ولا يفوتنا
إدراكهم (فَذَرْهُمْ) دعهم يا محمد (يَخُوضُوا) في غيّهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) يلهوا بما هم فيه (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة الذي وعدناهم به فلم يصدّقوا به (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور (سِراعاً) مسرعين (كَأَنَّهُمْ إِلى
نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي مثل من يسرعون إلى علم نصب لهم يريدون أن يبلغوه
ويلتفّوا من حوله ، وقيل كأنهم يسرعون إلى أوثانهم التي كانوا يعكفون على عبادتها (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ذليلة منكّسة إلى الأرض (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يغشاهم خزي وحقارة (ذلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) يعني فهذا هو اليوم الذي وعدناهم به في دار الدنيا وأيام
التكليف فكذّبوا به وجحدوه.
سورة نوح
مكية ، عدد آياتها ٢٨ آية
١ ـ ٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
...) إنّا بعثنا نوحا إلى قومه رسولا منا (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي حذّرهم من العذاب إذا لم يؤمنوا بنا وبرسالتك إليهم. (قالَ يا قَوْمِ) وأضافهم إلى نفسه تحريكا لعواطفهم مثل من يقول : أنتم
عشيرتي يسرّني ما يسرّكم ، ويسوؤني ما يسوؤكم (إِنِّي لَكُمْ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي رسول مخوّف موضح وجوه الأدلة في الوعيد وأمور الدين
والتوحيد (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
وَاتَّقُوهُ) أي لا تشركوا به واجتنبوا غضبه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) أي إن آمنتم يتجاوز عن معاصيكم (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فقد اشترط عليهم الأجل في الوعد المسمّى بعبادة الله ،
فإذا لم تقع منهم الطاعة ولا العبادة أخذوا بعذاب الاستئصال قبل أجلهم الأقصى (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا
يُؤَخَّرُ) يعني أن أجله الأقصى الذي عيّنه لإهلاككم لا يؤخّر عن وقته
(لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) لو كنتم تعرفون ذلك وتؤمنون به.
٥ ـ ٧ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلاً وَنَهاراً ...) أي قال نوح : يا ربّ إنّي دعوت قومي إلى عبادتك وترك
الشّرك ، وإلى الاعتراف بنبوّتي ، ليلا ونهارا (فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي فكانوا ينفرون من دعوتي ولا يقبلون قولي (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإخلاص والعبودية لك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) لتعفو عن سيئاتهم (جَعَلُوا
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) حتى لا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا
ثِيابَهُمْ) غطّوا بها وجوههم حتى لا يروني (وَأَصَرُّوا) أقاموا على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْباراً) أي : أنفوا وتكبّروا وترفّعوا عن قبول الحق.
٨ ـ ١٢ ـ (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ...) أي أنني دعوتهم سرّا وعلانية (فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا منه المغفرة عن معاصيكم وكفركم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) يتجاوز عمّن استغفره إذا تاب وأناب.
(يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يجعل السماء كثيرة الإدرار بالمطر عليكم. (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثّر لكم أموالكم وأولادكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين مزدهرة في الدنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
أَنْهاراً) ترونها بها.
١٢ ـ ١٤ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً
...) قال نوح لقومه على سبيل التوبيخ : ما لكم أيها الكفّار لا
يخافون لله عظمة فتوحدوه وتطيعوه (وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْواراً) أي أوجدكم متطوّرين نطفة إلى علقة فمضغة فعظام كساها لحما
إلى أن كمل خلقكم.
١٥ و ١٦ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ...) هذا خطاب منه سبحانه لسائر المكلّفين يعني أنكم أفلا
تنظرون إلى السماوات السّبع التي خلقها الله تعالى واحدة فوق الأخرى كالقباب (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي جعله نورا في السموات والأرض. وقيل إن معنى (فِيهِنَ) هو معهنّ ، أي جعل القمر منيرا معهنّ (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا ينير الأرض ويضيء لأهلها.
١٧ ـ ١٨ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً ...) يعني مبتدأ خلق آدم الذي خلق من الأرض ، والناس من ولده ،
وهو سبحانه ينشئ جميع الناس بالتغذي على ما تنبته الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) يرجعكم إلى الأرض فتدفنون فيها أمواتا (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث (إِخْراجاً) يتمّ بأمره سبحانه.
١٩ ـ ٢٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
بِساطاً ...) أي جعلها سبحانه مبسوطة ليسهل عليكم السير والعمل فيها (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي لتقطعوا طرقا واسعة.
٢١ ـ ٢٥ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
...) إلهي إنّ قومي لم يطيعوني فيما أمرتهم به ولا فيما نهيتهم
عنه (وَاتَّبَعُوا مَنْ
لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي تابعوا أغنياءهم وغرّهم ما أعطوا من مال وولد ، وسخروا
مني وقالوا لو كان هذا رسولا لأعطاه الله مالا وولدا والخسار هو الهلاك (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي احتالوا في الدين احتيالا كبيرا وقالوا فيه قولا عظيما
واجترأوا على الله بالشّرك مرّة وبالتكذيب به مرة (وَقالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تدعوا عبادة الأصنام التي اتّخذتموها أربابا (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً
وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهي بعض معبوداتهم من الأحجار ، وقد عبد بعضها العرب من
بعدهم (وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً) أي حاد عن الحق بسبيلهم كثير من الناس (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلالاً) أي فلا تزدهم يا ربّ إلّا إهلاكا (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من أجل ما اقترفوه من الذنوب وارتكبوه من السيئات (أُغْرِقُوا) بالطوفان في الدنيا (فَأُدْخِلُوا ناراً) في الآخرة (فَلَمْ يَجِدُوا
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي فلم يجدوا أحدا يمنع عنهم سخط الله تعالى ويدفع عنه
عقوبته.
٢٦ إلى آخر السورة
ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ...) إلخ ربّ لا تترك على وجه الأرض من الكافرين صاحب دار ، ولا
تدع أحدا إلّا أهلكته (إِنَّكَ إِنْ
تَذَرْهُمْ) إذا تركتهم دون عقاب (يُضِلُّوا عِبادَكَ) يفتنوهم عن دينهم (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) أي ويكون أولادهم مثلهم (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) وأبوه اسمه لمك ، وأمه اسمها سمحاء وهما مؤمنان ، وقيل
أراد بدعائه أبويه آدم وحوّاء (وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي دخل داري ، وقيل مسجدي ، وقيل سفينتي مصدّقا بك يا ربّ
وبدعوتي (وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) جميعا ، وقيل من أمة محمد (ص) (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
تَباراً) أي دمارا وهلاكا.
سورة الجن
مكية ، عدد آياتها ٢٨ آية
١ ـ ٢ ـ (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) أي قل يا محمد للناس أوحى إليّ ربّي أن جماعة من الجنّ
أصغت إليّ وأنا أقرأ القرآن. قيل بأنهم كانوا سبعة من جن نصيبين (فَقالُوا) أي قال بعضهم لبعض : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً) أي داعيا للتعجّب لإعجازه ، ولخروج تأليفه عن المعتاد
فصاحة ونظما ونظاما وتشريعا وأحكاما واحتواء لأخبار الأولين والآخرين. (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي يدل على الهدى ... (فَآمَنَّا بِهِ) صدّقنا بأنه من عند الله (وَلَنْ نُشْرِكَ
بِرَبِّنا أَحَداً) فسنوحّده ونخلص في عبادتنا له.
٣ ـ ٤ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا
اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ...) هذا الكلام تتمة لكلام الجن أي : تعالت عظمة ربّنا وصفاته
وذاته المقدّسة عن الصاحبة ، والشريك والولد. (وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي كان يقول الجاهل منّا ـ يقصدون إبليس ـ قولا سفيها فيه
خروج عن حدود الحق الذي ينبغي ألّا يقال فيه سبحانه.
٥ ـ ٧ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...)
إلخ هذا اعتراف
منهم بأنهم كانوا يحسبون ما يقال عن الله صدقا ، وأنه ذو صاحبة وولد ، وأنهم ما
كانوا يتصورون أن يفتري أحد من الإنس والجن الكذب على الله فينسبون إليه ما لا
يليق به وهذا يدل على أنهم كانوا مقلدين حتى سمعوا القرآن فثبتت الحجة عليهم. (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي يلجأون إليهم ويعتصمون بهم مستجيرين من كل مكروه. (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) يعني فزاد الجنّ الإنس ، إثما وكفرا (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أي زعم كفار الإنس كما زعمتم (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ
اللهُ أَحَداً) أي لن يرسل رسولا بعد موسى وعيسى.
٨ ـ ١٠ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ ...) أي ابتغينا الوصول إلى السماء لنسترق السمع منها فوجدنا
أنها ملئت أبوابها (حَرَساً شَدِيداً) حفظة من الملائكة أقوياء على صدّنا (وَشُهُباً) جمع شهاب وهو النور الذي ينزل من السماء في وميض حشوه
النار المحرقة (وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي كان يتهيأ لنا في السابق أن نتّخذ مقاعد لنا قرب
أبوابها فنستمع إلى ما يجري فيها بين الملائكة (فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ) فمن يحاول منّا الاستماع بعد ظهور محمد (ص) (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يرمى به ويرصد له. (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي لا نعلم حقيقة ما أريد بعد الرمي بهذه الشّهب ، هل يدل
على انقطاع التكليف ونهاية الحياة ـ (أَمْ أَرادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَداً) أم أن الله تعالى أراد بالجنّ والإنس صلاحا وهداية إلى
نبيّ الزمان.
١١ ـ ١٥ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا
دُونَ ذلِكَ ...) هذا من تمام ما قاله الجنّ ، أي أن منّا من يؤمن ويعمل
الصالحات ومنّا من يكون دونهم رتبة. (كُنَّا طَرائِقَ
قِدَداً) أي كنا فرقا مختلفة متباينة في رسوخ عقيدتها وصلاح عملها. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ
اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي علمنا يقينا أننا لن نفوت قدرة الله إذا شاء بنا أمرا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) فإنه يدركنا أينما كنا. (وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي حين استمعنا إلى القرآن صدّقنا به (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) يصدّق به ويوحّده (فَلا يَخافُ بَخْساً) لا يخشى نقصانا في الثواب (وَلا رَهَقاً) أي لا يخاف ظلما أو مكروها.
(وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ) الذين أذعنوا لما أمرهم الله تعالى به (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الحائدون عن طريق الحق (فَمَنْ أَسْلَمَ) استسلم لأمر الله (فَأُولئِكَ
تَحَرَّوْا رَشَداً) أي فأولئك التمسوا الهدى وطلبوا الثواب (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) العادلون عن الحق (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ
حَطَباً) سيكونون من أهل النار التي تحرقهم كما تحرق النار الحطب.
١٦ ـ ١٧ ـ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ...) إلخ هذا الكلام ابتداء حكم منه سبحانه مؤداه أن المستقيم
على الهدى من الإنس والجنّ ينزل عليه بركات من السماء ، وقيل قصد سبحانه مشركي مكة
الذين رفع عنهم المطر سبع سنوات. وقد عنى بالماء النازل من السماء الخير كلّه لأن
الرزق إنما يكون بالمطر. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم هل يشكرون أم يزدادون كفرا. أو لنختبرهم كيف
يكون شكرهم. (وَمَنْ يُعْرِضْ) ينصرف (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن التفكير فيما يوصله إلى معرفة الله تعالى وشكره وطاعته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي يدخله في عذاب شديد يتصعّد في المشقّة والعظم.
١٨ ـ (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا
تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ...) تقدير الكلام : ولأن المساجد لله ، فلا تدعوا فيها مع الله
أحدا ، واجعلوها بيوتا خالصة لذكر الله. وقيل : المساجد هنا هي مواضع السجود ، وهي
الجبهة والكفّان ، وأصابع الرجلين وعينا الرّكبتين ، فهي لله تعالى وقد خلقها فلا
يجوز أن يسجد عليها لغيره.
١٩ ـ ٢٠ ـ (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ ...) أي لمّا أخذ محمّد (ص) (يَدْعُوهُ) يدعو ربّه ويقول : لا إله إلا الله ، ويدعو إلى توحيد ربّه
تاليا القرآن (كادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَداً) أي تجمّع الجنّ من حوله وركب بعضهم بعضا من شدّة الزّحام
رغبة باستماع تلاوته ودعوته. وقيل هذا القول قالته الجنّ حين رجعوا إلى قومهم
ووصفوا لهم ازدحام أصحاب النبيّ (ص) من حوله حرصا على أن لا يفوتهم شيء. (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا
أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل لمشركي قومك يا محمد ذلك. وذلك أنهم أنكروا دعوته
ورفضوها.
٢١ ـ ٢٤ ـ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
وَلا رَشَداً ...) أي قل يا محمد للناس : إني لا أدفع عنكم ضررا ولا أوصل لكم
خيرا من عند نفسي ، ولكنّ الله تعالى هو القادر على ذلك (قُلْ) يا محمد للمكلّفين : (إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي لا يمنعني أحد مما قدّره الله لي (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ولا أجد غير الله ملتجأ التجأ إليه طلبا للسلامة (إِلَّا بَلاغاً) أي تبليغا (مِنَ اللهِ) من وحيه (وَرِسالاتِهِ) ما جئت به عنه جلّ وعز. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) يخالفهما ويبقى على الكفر واقتراف الذنوب (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً) جزاء على ذلك (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ) أي عاينوا ما وعدناهم به من عقاب الدنيا وهو عذاب
الاستئصال (فَسَيَعْلَمُونَ) يومئذ (مَنْ أَضْعَفُ
ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) من كلّ من المؤمنين والمشركين.
٢٥ ـ إلى آخر
السورة ـ (قُلْ إِنْ أَدْرِي ...) أي لست أعرف (أَقَرِيبٌ ما
تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ
رَبِّي أَمَداً) أي وقتا وحدّا ينتهي إليه. (عالِمُ الْغَيْبِ) يعرف متى يوم القيامة الغائب علمه عن الناس (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي لا يطلع عليه واحدا من عباده. (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي الأنبياء (ص) فإن نبوّتهم تثبت بأن يخبروا الناس ببعض
المغيّبات عند المعجزة الدالة على صدقهم. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي يجعل له طريقا إلى معرفة ما كان قبله وما يكون بعده (لِيَعْلَمَ) أي ليعرف الرسول (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي الملائكة. وقيل : ليعلم محمّد (ص) أن الرّسل الذين
سبقوه قد أبلغوا ـ جميعهم ـ (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما أبلغ هو رسالته (وَأَحاطَ بِما
لَدَيْهِمْ) يعني : وعلم الله تعالى بما جرى بين رسله وخلقه (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي عرف جميع ما خلقه ولم يفت علمه شيء حتى مثقال الذرّة.
سورة المزّمل
مكية ، عدد آياتها ٢٠ آية
١ ـ ٤ ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ...) المزّمّل هو المتزمّل بثيابه أي الملتفّ بها ، الخطاب
للنبيّ (ص) ، يعني يا أيها المتزمل بسربال النبوّة الحامل لأثقال الرسالة ، قم
الليل للصلاة ولا تنم منه إلّا قليلا. (نِصْفَهُ) أي نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً) من النصف الذي تقومه للصلاة (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي زد على النصف (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً) أي اقرأه مرتلا بفصاحة وتجويد متمهلا بحيث تنطق نطقا صحيحا
بجميع الحروف وتفعل ذلك مترسّلا ، (إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي سننزل عليك من الوحي ما يثقل عليك لما فيه من تبليغ
الرسالة وما يثقل على الأمة لما فيه من الأمر والنهي والحدود.
٦ ـ ١٠ ـ (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئاً ...) أي إن ساعات الليل المتوالية لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ،
هي أكثر ثقلا ومشقّة على قائم الليل للصلاة لأن الليل وقت الراحة والسكون. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أكثر استقامة للقول لانقطاع القلب إلى العبادة وانصراف
الفكر إلى التدبّر. (إِنَّ لَكَ فِي
النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي أن لك يا محمد في النهار منصرفا إلى حوائجك ومشاغلك
الكثيرة (وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي اذكر أسماء ربّك التي تعبّد عباده بالدعاء بها والسؤال
والابتهال. وأخلص له إخلاصا في دعائك وعبادتك (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ) أي رب العالم جميعه لأنه يقع بين المشرق والمغرب (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تحق العبادة لسواه (فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلاً) اجعله حافظا لأمرك. وفوّض أمرك إليه (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي تحمّل أذى ما يقوله الكفّار من تكذيبك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي اتركهم ولكن لا تتخلّ عن دعوتهم إلى الحق.
١١ ـ ١٤ ـ (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي
النَّعْمَةِ ...) دعني يا محمد مع هؤلاء المكذّبين لك في الدعوة إلى الله
والإخلاص في العبادة له من المتنعّمين بثراء الدنيا (وَمَهِّلْهُمْ
قَلِيلاً) أي أعطهم مهلة قليلة لينزل بهم غضبنا. ولم يكن إلّا وقت
يسير حتى كانت وقعة بدر التي أزهقت صناديدهم (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً) أي عندنا قيودا (وَجَحِيماً) ونارا عظيمة الاستعار ، (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي ذا شوك يعترض في الحلق فلا يدخل ولا يخرج (وَعَذاباً أَلِيماً) وعقابا موجعا (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ) أي تضطرب بشدّة (وَالْجِبالُ) أيضا تضطرب (وَكانَتِ الْجِبالُ
كَثِيباً مَهِيلاً) أي وتصير رملا سائلا متناثرا.
١٥ ـ ١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً
عَلَيْكُمْ ...) يعني إننّا بعثنا إليكم محمدا (ص) رسولا من عندنا يشهد
عليكم في الآخرة بما كان منكم في الدنيا (كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً) هو موسى (ع) (فَعَصى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ) لم يقبل دعوته (فَأَخَذْناهُ) بالعذاب (أَخْذاً وَبِيلاً) شديدا مدمّرا له ولجنوده مع كثرتهم (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً؟) أي كيف تتجنّبون إذا كفرتم برسولنا محمد (ص) يوما تشيب فيه
الأطفال من شدّة الأهوال؟ (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) أي تتشقّق في ذلك اليوم (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) أي حاصلا لا خلف فيه (إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ) أي أن هذه الصفة التي ذكرناها من الهول هي عظة لمن أهمّته
نفسه (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) سلك طريقا إلى نيل الثواب من ربّه.
٢٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...) إن ربك يا محمد على علم بقيامك للصلاة إلى ما يقرب أو يقل
عن ثلثي الليل (وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ) وأقلّ من نصفه وثلثه. (وَطائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ) أي وتقوم جماعة من الذين هم معك على الإيمان للصلاة في
الليل. (وَاللهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي هو يعلم الوقت الذي تقومونه فيهما (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي عرف أنكم لا تتمكّنون من حصر الوقت المستحب للقيام بدقة
(فَتابَ عَلَيْكُمْ) بأن جعل ذلك تطوّعا ولم يجعله فرضا (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ) في صلاة الليل وقيل : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) يقتضي التخفيف عنهم (وَآخَرُونَ) منكم (يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ) يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ
فَضْلِ اللهِ) تجارة وسعيا للكسب. (وَآخَرُونَ) منكم أيضا (يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) يجاهدون الكفار (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي فاقرأوا ما قدرتم عليه من القرآن. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بشروطها وحدودها الواجبة (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَقْرِضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أنفقوا في سبيل مرضاته على الفقراء والمساكين (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ) أي طاعة (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ
خَيْراً) من الشّح (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي أكثر ثوابا (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ) اطلبوا مغفرته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) مر معناه.
سورة المدّثّر
مكية ، عدد آياتها ٥٦ آية
١ ـ ٧ ـ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ
فَأَنْذِرْ ...) المدّثّر أي المتدثّر هو المتغطي بالثياب عند النوم خاطب
سبحانه نبيّه محمدا (ص) أن يا أيها الملتفّ بثوبه عند النوم قم فأنذر الناس وأدعهم
إلى التوحيد ، وخوّفهم عاقبة الكفر (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي فعظّم ربّك ونزّهه عما لا يليق وقيل : كبّره في الصلاة
بأن تقول : الله أكبر (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي فطهّرها من النجاسات للصلاة. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأصنام والأوثان واهجرها واجتنبها (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يعني : لا تعط أحدا عطيّة ليعطيك أكثر منها. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي لوجه ربك فاصبر على تحمّل أذى المشركين.
٨ ـ ١٠ ـ (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ،
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ...) أي إذا نفخ في الصور وهو كهيئة البوق ، والمراد النفخة
الأولى وهي التي يموت فيها الخلق ، وقيل : الثانية التي يبعثون عندها. فذلك اليوم
يكون صعبا شديدا (عَلَى الْكافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير هيّن لما يرون من سوء العاقبة.
١١ ـ ١٧ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ...) نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي الذي كان
معاندا للرسالة يكيد للنبيّ (ص) ويقف في سبيل الدعوة ، الذي أشاع عن النبي (ص) أنه
ساحر والمعنى : دعني وإياه فإني كاف له في عقابه. وقيل معناه : دعني ومن خلقته
متوحدا لا شريك لي في خلقه. أو ومن خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي مالا كثيرا (وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين قد كانوا عشرة فيما ذكر وكانوا دائمي الحضور بين
يديه (وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً) أي وسّعت عليه في العيش حتى صار مكفي المؤونة (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي يطلب الزيادة دون أن يشكرني على نعمي عليه. (كَلَّا) وهذا زجر له ، أي : لا لن يكون ذلك (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي كان معاندا لحججنا ينكرها مع معرفته بصدقها (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأحمّله مشقة عذاب لا راحة فيه.
١٨ ـ ٣١ ـ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ ...) أي أنه تأمّل وتفكّر فيما يقوله في نعت محمد (ص) وفيما
يحتال به للباطل فلعن وعذّب على تقديره ذلك في آياتنا (ثُمَّ نَظَرَ) قلّب البصر في طلب ما يردّ به القرآن (ثُمَّ عَبَسَ) قطّب (وَبَسَرَ) كلح وجهه ونظر بكراهة (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان. (وَاسْتَكْبَرَ) تعجرف حين دعي إليه. (فَقالَ إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ) أي أنه سحر يروى عن السّحرة. وقيل : يؤثر من الإيثار ، أي
يستحسن لحلاوته (إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ) قول الإنس وليس من عند الله تعالى (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأحرقه في نار جهنم وألزمه بها (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي ما معرفتك أيها السامع بسقر في هولها وشدّة عذابها
وضيقها (لا تُبْقِي) لسكّانها لحما إلّا أكلته (وَلا تَذَرُ) لا تدعهم إذا أعيدوا خلقا جديدا بل تشوّههم وتحرقهم حتى
تذيقهم ألوان العذاب (لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ) أي مغيّرة لجلودهم تجعلها محروقة سوداء (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ملكا من ملائكة العذاب (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي ما جعلنا الموكّلين بالنار إلا ملائكة وجعلنا شهوتهم في
التعذيب لأهل النار (وَما جَعَلْنا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لم نجعلهم بهذا العدد إلا محنة للكافرين الذين أنكروا
الوحدانية ، وليفكّروا في ذلك مليّا فإنه سبحانه لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة فكيف
جعل هؤلاء تسعة عشر في حين أنه خلق ملكا واحدا يقبض أرواح العالمين جميعا (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) ليصدّق اليهود والنصارى أن رسولنا محمد صادق في كلّ ما
أخبر من كتبهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيماناً) أي ليزدادوا يقينا بهذا العدد وبصدق جميع ما جاء به رسولنا
الكريم إذا أخبرهم أهل الكتاب أنه مطابق لما في كتابهم (وَلا يَرْتابَ) ولا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) بهذا العدد من خزنة جهنّم (وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي زيغ ونفاق (وَ) ليقول معهم (الْكافِرُونَ : ما ذا
أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً؟) أي ماذا أراد الله بهذا الوصف للعدد وليفكّروا فيصلوا إلى
التدبّر والإذعان والإيمان. واللام في (ليقول) هي للعاقبة ، أي ليكون عاقبة أمرهم
أن يقولوا ذلك (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما جعلنا خزنة جهنّم ملائكة عددهم محنة واختبارا ،
فكذلك نكلّف الخلق ليظهر الضلال من بعضهم ، والهدى من بعضهم الآخر. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ) أي لا يعرف كثرة عددهم غيره. (وَما هِيَ إِلَّا
ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي موعظة وتذكرة للعالم حتى يتفكروا فيجتنبوا ما يستوجبون
به ذلك.
٣٢ ـ ٣٧ ـ (كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ ...) أي : لا ، ليس الأمر كما يتوهّم الكفار من التغلّب على
خزنة النار ، ثم أقسم سبحانه بالقمر وبالليل إذا ولّى وذهب (وَ) أقسم أيضا ب (الصُّبْحِ) نور الفجر (إِذا أَسْفَرَ) أضاء وأنار (إِنَّها لَإِحْدَى
الْكُبَرِ) أي أن سقر التي تحدّثت عنها الآيات السابقة هي إحدى
العظائم. وهذا جواب القسم (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي مخوّفا ومنذرا ومحذّرا مما ينبغي الحذر منه. (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي أن يتقدّم في طاعة الله أو يتأخر عنها بارتكاب المعاصي.
٣٨ ـ ٤٧ ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
...) أي أن كلّ نفس مرهونة بعملها حبيسة مطالبة بما جنته من طاعة
أو معصية. (إِلَّا أَصْحابَ
الْيَمِينِ) أي ما عدا الذين يعطون كتبهم بأيمانهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم بعضا (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي المذنبين الذين استحقّوا النار قائلين : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي ما أوقعكم في النار (قالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نؤدّ الصلوات المفروضة (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ) أي لم نخرج الزكاة وباقي الحقوق المالية لأربابها (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي كنا ندخل في كلّ باطل (وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ) أي كنّا ننكر يوم الجزاء وما يستتبعه. (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى أتانا الموت ونحن على هذه الحالة.
٤٨ ـ (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) أي لا تفيدهم شفاعة الأنبياء ، ولا الملائكة كما تنفع
غيرهم من المؤمنين.
٤٩ ـ إلى آخر
السورة ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ ...) أي فما بالهم قد انصرفوا عن القرآن الذي هو تذكرة وموعظة (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) أي كأنهم حمر وحشيّة نافرة (فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ) يعني هربت خوفا من الأسد. (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي يودّ كلّ واحد منهم أن تنزل عليه كتب من السماء باسمه
تأمره بالإيمان بمحمد (ص). (كَلَّا) أي ليس الأمر كما قالوا (بَلْ) هم (لا يَخافُونَ
الْآخِرَةَ) لا يخافون الآخرة لتكذيبهم بحدوثها (كَلَّا) هذه ليست ردعا بل معناها : حقّا (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي القرآن فإن فيه تذكيرا (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن أراد اتّعظ به (وَما يَذْكُرُونَ) أي وما يتذكّرون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) يريد. والمعنى أنّ هؤلاء المعاندين من الكفّار لا يذكرون
إلا إذا أجبرهم الله تعالى على ذلك ولن يفعل. (هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المتجاوز عن ذنوب المخطئين.
سورة القيامة
مكية ، عدد آياتها ٤٠ آية
١ ـ ٤ ـ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ،
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ...) معناه : أقسم بيوم القيامة وعظمة ما يجري فيه من مظاهر
قدرة الله تعالى ، وأقسم بالنفس الكثيرة اللوم لصاحبها في ذلك اليوم (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي هل الكافر بالبعث يظن بأننا لن نقدر على أن نعيده إلى
ما كان عليه أولا خلقا جديدا بعد أن بليت عظامه وتوزعت اجزاؤه؟ (بَلى) أي : نعم (قادِرِينَ) نحن (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ) نؤلّف بينها حتى تستوي ، وتعود كما كانت مع كونها من صغار
العظام والقادر على جمع صغارها قادر بطريق أولى على جمع كبارها.
٥ ـ ١٥ ـ (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ
أَمامَهُ ...) هذا إخبار من الله تبارك وتعالى عمّا في علمه من شأن
الإنسان وهو أعلم بما خلق إذ يقول : إن الإنسان الكافر يريد أن يمضي قدما في
المعاصي ، بحيث لا يقف عند حدّ ولا يتوب. (يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي متى تكون القيامة والحساب وسؤال في مقام الهزء والتكذيب؟
(فَإِذا بَرِقَ
الْبَصَرُ) أي شخص عند معاينة ملك الموت فهو لا يطرف من شدة الفزع (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب نوره (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) جمع بينهما بذهاب الضوء وتمام الخسوف والكسوف حيث تلفّ
الأرض ظلمة هائلة ، ف (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكر ليوم البعث (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إلى أين المهرب (كَلَّا لا وَزَرَ) أي لا مهرب تهربون إليه ، (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي المنتهى إلى حكم ربك. (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ) يخبّر (بِما قَدَّمَ
وَأَخَّرَ) بأول عمله وآخره فيجازى بحسبه. (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ) ذلك أن جوارحه تشهد عليه بذلك فهو شاهد على نفسه من هذه
الجهة. (وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ) يعني ولو اعتذر ودافع عن نفسه فإنه لا ينفعه ذلك.
١٦ ـ ١٩ ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) أي لا تحرّك لسانك بتلاوة القرآن حين
الوحي به إليك ، ولا تتعجّل تلاوته قبل أن يقضى الوحي. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في قلبك حتى تحفظه (وَقُرْآنَهُ) وتأليفه بحسب نزوله عليك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبرائيل عليك بأمر منّا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته إذا فرغ منها. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ) أي إنا نبيّن لك معناه إذا حفظته لتبين ذلك بدورك للناس.
٢٠ ـ ٢٥ ـ (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ...) أي أنكم أيّها الكفار تختارون حبّ الدنيا وتعملون لها
وتفضّلونها على الآخرة التي تتركونها ولا تعملون لها. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضِرَةٌ) حسنة البهجة مضيئة بالسرور (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) أي ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه على ما عملته في الدنيا
وقيل معناه : منتظرة لرحمة ربّها وغفرانه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
باسِرَةٌ) أي عابسة مقطّبة كالحة من خوف المصير (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي تعتقد أنها ستحلّ بها داهية تكسر فقرات ظهورها بما كسبت
من المعاصي.
٢٦ ـ ٣٠ ـ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ...) أي حقا ما قلناه فإذا بلغت روح المحتضر العظام المحيطة
بالحق وكنّى بذلك عن الإشراف على الموت (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي وقال أهل المحتضر هل من طبيب يشفي هذا المحتضر (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي علم ذاك الذي بلغت روحه تراقيه أنه مفارق لأهله ودنياه (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي امتدّت ساقاه عند الموت لأنه ييبس بعد الموت ويلتفّ
بعضه ببعض. (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي أن محل السّوق بعد هذه الحالة يكون إلى الله لجميع
الخلائق بعد وفاتهم.
٣١ ـ إلى آخر
السورة ـ (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى ...) أي لم يتصدّق بشيء من أمواله. وقيل لم يؤمن بالله. ولا
صلّى لربّه الصلاة المفروضة (وَلكِنْ كَذَّبَ) بالله (وَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان والطاعة (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي أنه بعد سماع الدعوة إلى الإيمان عاد إلى أهل يتبختر في
مشيته وقيل نزلت في أبي جهل (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك المكروه والشرّ يا أبا جهل (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) كرر التهديد للتأكيد من جهة ولبيان حرمانه من خير الدنيا
والآخرة من جهة ثانية. (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ) يعني أيظن أبو جهل وكل إنسان (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أن يهمل؟ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي كان نطفة منيّ ثم تنقّل من حال إلى حال تدل كل حال منها
على أن له خالقا مدبّرا حكيما لم يهمله في طور من أطوار حياته. (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) بعد أن كان نطفة من منيّ (فَخَلَقَ) منها سبحانه في الرحم خلقا (فَسَوَّى) هيئته وأعضاءه جميعا (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من ذلك الإنسان (الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ليتزاوجا (أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس فاعل ذلك كلّه مستطيعا لأن يعيد الموتى بعد فنائهم
بعد أن كان خلقهم بهذه الكيفية العجيبة وأوجدهم من كتم العدم؟
سورة الإنسان
مدنية ، عدد آياتها ٣١ آية
١ ـ ٤ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ ...) الاستفهام تقريري أي ألم يأت على الإنسان وقت من الدهر وقد
كان شيئا ، ولكنه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً) لأنه كان لا يزال ترابا قبل أن تنفخ فيه الروح. (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ) أي خلقنا بني آدم (ع) جميعا من قطرة ماء من الرجل والمرأة
تنعقد فيخلق منها الولد (أَمْشاجٍ) أي أخلاط من الماءين تمتزج في الرحم فأيهما علا صاحبه كان
الشّبه له. (نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي نختبره بالتكليف ومن أجل أن يكون قادرا على حسن
الاختيار لنفسه ، فقد أعطيناه الآلات التي تمكّنه من التمييز ومنها السمع والبصر. (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي نصبنا له الأدلة وأزحنا العلة إذ جعلناه مميزا للحسن من
القبيح وأرشدناه إلى طريق الحق (إِمَّا شاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً) أي مختارا للإيمان والشكر ، أو مكتفيا بالإنكار والكفر ،
وأيّ الأمرين اختار جازاه الله تعالى عليه بعدله. (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيّأنا وأعددنا (لِلْكافِرِينَ) بنا وبرسلنا (سَلاسِلَ) من نار في جهنم (وَأَغْلالاً) وقيودا (وَسَعِيراً) ونارا مشتعلة معدّة لعذابهم.
٥ ـ ٦ ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ ...) الأبرار جمع برّ ، وهو المحسن المطيع لله تعالى الذي يقوم
بالحقوق الواجبة ويؤدّي النافلة. وقد أجمع المسلمون على المراد بالأبرار هنا علي
وفاطمة والحسن والحسين (ع) ، وأن هذه الآية وما بعدها نزلت فيهم دون غيرهم ،
فهؤلاء الأبرار يشربون في الآخرة من إناء فيه شراب (كانَ مِزاجُها) أي يخالط الكأس (كافُوراً) وهو اسم عين في الجنة. أي يمازجها ريح الكافور الذي هو غير
كافور الدنيا.
(عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) أي يشرب منها أولياء الله وخصّهم بكونهم عباده تشريفا لهم (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يجرّون ماء هذه لعين حيث شاؤوا من قصورهم ومنازلهم. وقد
قيل إنّ أنهار الجنة تجري بغير أخاديد ، وأن المؤمن إذا شاء أن يجري نهرا خطّ له
خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بدون تعب.
٧ ـ ١٠ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ...) أي إذا نذروا طاعة لله وفوا بها وأدّوا الطاعة على أكملها.
(وَيَخافُونَ يَوْماً
كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي يخشون شرّ يوم القيامة الذي بلغ الشرّ فيه الغاية
القصوى وانتشر في كل الجهات كأنه يتطاير في الآفاق. (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي يطعمونه للآخرين مع أنهم شديد والحبّ له والرغبة فيه ،
وهذا معناه أنهم يؤثرون المستحقين على أنفسهم. (مِسْكِيناً) أي فقيرا لا طعام عنده (وَيَتِيماً) لا والد له ولا قوة لديه من الأطفال (وَأَسِيراً) وهو المأخوذ أسرا من دار الحرب (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي طعاما خالصا مخلصا لله دون رياء (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا
شُكُوراً) على إطعامنا لكم ، فلا نطلب المكافأة العاجلة ولا نطلب
شكركم لنا من أجله (إِنَّا نَخافُ مِنْ
رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي نخاف عذاب يوم تقطّب فيه وجوه الكافرين خوفا وهلعا
فيبدو اليوم نفسه مكفهّرا غاضبا (قَمْطَرِيراً) صعبا شديدا لأنه يقلّص الوجوه ويقبض الجباه وما بين الأعين.
١١ ـ ١٨ ـ (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ
...) أي كفى سبحانه الأبرار شرّ يوم القيامة ومنع عنهم أهواله (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي أوصلهم إلى النّعم والسرور واستقبلهم بها (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) كافأهم لصبرهم على الطاعة ولاجتنابهم المعاصي (جَنَّةً وَحَرِيراً) يسكنون الجنّة ويلبسون الحرير ويفترشونه ويجلسون عليه (مُتَّكِئِينَ فِيها) يستندون كجلوس الملوك في الجنّة (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرّة والكراسي الوثيرة (لا يَرَوْنَ فِيها) في الجنّة (شَمْساً) يتأذّون بحرّها (وَلا زَمْهَرِيراً) هواء باردا ينزعجون من برودته (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي تلفّهم أفياء تلك الجنة لأنها قريبة منهم لا تزيلها شمس
كما تزيل شمسنا ظلال الأشياء في الدنيا (وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي سهل أخذها وتناولها لأنها مسخّرة لطالبها (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي يدار على أولئك الأبرار بأوعية من فضّة (وَأَكْوابٍ) جمع كوب أي بأقداح (كانَتْ قَوارِيرَا) أي هي من زجاج (قَوارِيرَا مِنْ
فِضَّةٍ) أي أنه اجتمع لها لمعان الفضة وصفاء الزجاج فصار يرى ما في
داخلها من خارجها. (قَدَّرُوها
تَقْدِيراً) أي قدّرها الذين يسقون الأبرار بها تقديرا يساوي ريّ
الأبرار بحيث لا يزيد ولا ينقص (وَيُسْقَوْنَ فِيها) في الجنّة (كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ممزوجة بالزنجبيل الذي هو ليس كزنجبيل الدنيا بل يفوقه
طعما ورائحة (عَيْناً فِيها
تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي أن المزيج هذا من عين تسمى السلسبيل ، وهي ـ كما قال
الزجاج ـ صفة لما كان في غاية السلاسة.
١٩ ـ ٢٢ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ ...) مر معناه. (إِذا رَأَيْتَهُمْ) إن نظرت إليهم في صفائهم (حَسِبْتَهُمْ
لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لحسن منظرهم وبهاء رونقهم (وَإِذا رَأَيْتَ) نظرت (ثَمَ) يعني في الجنّة (رَأَيْتَ نَعِيماً) عظيما (وَمُلْكاً كَبِيراً) جزيلا قال عنه الإمام الصادق (ع): لا يزول ولا يفنى. (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) قيل : عالي : ظرف ، أي : فوقهم ثياب سندس. وقيل هي حال أي
: يعلوهم الثياب الرقيقة (خُضْرٌ) لونها كذلك (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو السندس الغليظ (وَحُلُّوا أَساوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ) أي تحلّت أيديهم بأساور الفضة الشفّافة التي يرى ما وراءها
(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) طاهرا من القذارة والدنس وليس كشراب الدنيا. (إِنَّ هذا) الذي وصفه سبحانه من نعيم الآخرة وملذّاتها (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي مكافأة لكم أيّها الأبرار (وَكانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُوراً) أي كان عملكم في الدنيا مقبولا مرضيّا وجزاؤه كان بمثابة
الشكر لكم عليه.
٢٣ ـ ٢٦ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ...) هذا خطاب للنبيّ (ص) ، وقيل في معناه أنه سبحانه فصّله في
الإنزال آية بعد آية ولم ينزله جملة واحدة (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما حمّلتك من أعباء الرسالة ، واصبر (لِحُكْمِ رَبِّكَ) تقديره بأن تبلّغ الكتاب وتعمل بما فيه وتأمر الآخرين بذلك
، ثم اصبر على التكذيب والأذى أيضا (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من المشركين في مكة (آثِماً) مرتكبا للإثم عنى به عتبة بن ربيعة (أَوْ كَفُوراً) عنى به الوليد بن المغيرة (وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ) امض على طريقتك من العبادة والدعاء ودعوة الناس إلى الهدى (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في أول النهار وآخره.
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ) أي صلّ له بعض الليل (وَسَبِّحْهُ) نزّه الله (لَيْلاً طَوِيلاً) طول الليل تطوّعا في حال يقظتك.
٢٧ ـ إلى آخر
السورة ـ (إِنَّ هؤُلاءِ
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ...) أي أن هؤلاء الكفرة المعاندين لكلام الله ودعوة رسوله ،
يؤثرون ملذّات الدنيا الزائلة (وَيَذَرُونَ) يتركون (وَراءَهُمْ) يعني أمامهم (يَوْماً ثَقِيلاً) أي شديد العذاب عسير المآب وهو يوم القيامة. (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ) أي أوجدناهم وأحكمنا خلقهم. (وَإِذا شِئْنا
بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) يعني إذا أردنا أهلكناهم وأتينا بغيرهم (إِنَّ هذِهِ) السورة أو المقالة (تَذْكِرَةٌ) عظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي من أراد سلك الطريق لما يرضي ربّه فعمل بطاعته وانتهى
عن معصيته (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي وما تريدون اتّخاذ تلك الطريق اختيارا إلّا أن يجبركم
الله تعالى عليها ويلجئكم إليها ، ولكن ـ حينئذ ـ لا ينفعكم ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فسّرناه سابقا (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ) أي تشملهم رحمته في الحياة ويدخلهم الجنة في الآخرة (وَالظَّالِمِينَ) من الكافرين والمشركين (أَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) هيأه لهم مسبقا ، وهم ملاقوه.
سورة المرسلات
مكية ، عدد آياتها ٥٠ آية
١ ـ ٧ ـ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ
عَصْفاً ...) أقسم سبحانه بقدرته من خلال قسمه ببعض مظاهرها : بالرياح
المرسلة متتابعة كعرف الفرس ، وبالرّياح العاصفات الشديدة الهبوب. (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي وبحق القدرة المسيّرة للرياح التي تنشر السحاب نشرا
وتأتي بالمطر. (فَالْفارِقاتِ
فَرْقاً) أي الملائكة التي تأتي بما يفرق بين الحق والباطل ، وقيل
هي آيات القرآن التي تفرّق بين الهدى والضلال (فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً) وهي الملائكة التي تلقي الذّكر إلى الأنبياء وتلقيه
الأنبياء ، إلى الأمم لهدايتها (عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي أنها تلقي الذّكر للإعذار والإنذار من الله إلى خلقه. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هو جواب القسم الذي معناه أن ما وعدكم الله به من البعث والثواب
والعقاب كائن بلا شكّ وأنكم محاسبون ومثابون أو معاقبون بدون ريب.
٨ ـ ١٥ ـ (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا
السَّماءُ فُرِجَتْ ...) أي إذا محيت النجوم وزال ضوؤها ، وانشقّت السماء وتصدعت
وظهرت فيها فروج (وَإِذَا الْجِبالُ
نُسِفَتْ) اقتلعت من أصولها (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ) أي جمعت في وقت معيّن لتشهد على الأمم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخّرت وجعل لها أجل محدود (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي حين يفصل الله تعالى بين العباد (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي وأيّ شأن تعرف لذلك اليوم؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فهدّدهم وتوعّدهم لأنهم جحدوا بوقوعه وكان تكذيبهم به
نابعا من كفرهم بالله وبرسله.
١٦ ـ ١٩ ـ (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ...) السؤال للإنكار والتقرير : ألم نفس المكذّبين السابقين لكم
بالعذاب في الدنيا كما فعلنا بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي نلحق بهم من بعدهم كقوم لوط وإبراهيم ومن سواهم. (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي كفعلنا بمن تقدّم ويتأخّر ، نفعل بمجرمي مكة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي تعس لهم يوم الجزاء حيث نجازيهم بأشد العذاب.
٢٠ ـ ٢٤ ـ (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ
...) سؤال توبيخ ، يعني قد خلقناكم وأنتم في أحسن تقويم من ماء
حقير قذر ممّا يدل على الصانع الحكيم المدبّر. (فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ) يعني في الرحم (إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ) أي إلى وقت معيّن وهو مدة الحمل (فَقَدَرْنا) يعني قدّرنا خلقه ذكرا أو أنثى ، طويلا أو قصيرا إلخ. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فما أعظم قدرتنا على ذلك ونعم المقدّرون نحن لذلك. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) المنكرين أننا قادرون على الخلق والبعث.
٢٥ ـ ٢٨ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ...) أي ألسنا نحن جعلنا الأرض تكفت العباد على ظهرها (أَحْياءً وَ) في بطنها (أَمْواتاً) وتحوزهم في الحالين (وَجَعَلْنا فِيها
رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي جبالا ثابتة عالية (وَأَسْقَيْناكُمْ
ماءً فُراتاً) أي ماء عذبا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بكل مظاهر قدرتنا.
٢٩ ـ ٣٤ ـ (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ ...) هذا ما يخاطب به المكذّبون بالبعث من قبل خزنة جهنم قائلين
لهم : اذهبوا إلى النار التي كنتم تكذّبون بها في حياتكم. (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ
شُعَبٍ) أي نار ذات ثلاث شعب أو هو دخان تلك النار الذي سمّوه ظلّا
لسواده (لا ظَلِيلٍ وَلا
يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي أنه لا يعتبر ظلّا يستريح المرء فيه ويمنع عنه الأذى
والعذاب ، ولا يردّ عنه شيئا من اللهب المستعر الذي يعلو على النار. (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي أن شرارها الذي يتطاير منها في الجهات تكون الشرارة منه
بحجم القصر (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ
صُفْرٌ) أي كأن الشرارة الواحدة كالجمل الأصفر (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بنار هذا وصفها.
٣٥ ـ ٤٠ ـ (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ...) وصف سبحانه حال الكافرين بالبعث وأنهم يوم القيامة لا
ينطقون بشيء ينفعهم ولا بحجّة تدفع عنهم قبل أن يختم على أفواههم. (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) أي لا يسمح لهم (فَيَعْتَذِرُونَ) فيبدون أعذارهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الحديث. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين أهل الجنّة ، وأهل النار وهو يوم القضاء. (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) حشرناكم يا مكذّبي هذه الأمة من كفرة مكة وغيرها مع مكذّبي
الأمم السابقة في يوم واحد وصعيد واحد (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إذا كانت بيدكم حيلة فاستعملوها لتنجوا أنفسكم من
عذابي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الموقف.
٤١ ـ ٤٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ
وَعُيُونٍ ...) هنا يبيّن سبحانه حال المؤمنين الذين عملوا بطاعته
وتجنّبوا معاصيه ، وأنهم يكونون في ظلال أشجار الجنة وعيونها جارية من حولهم (وَفَواكِهَ) أي ثمار (مِمَّا يَشْتَهُونَ) من الثمار التي يحبّونها وتهواها نفوسهم ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : كلوا من الثمر خالصا من الكدر وتهنّأوا بأكلكم وشربكم
بسبب عملكم الصالح في الدنيا. والأمر للإباحة (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نكافئ من أحسن إلى نفسه وإلى غيره من عبادنا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بوعدنا هذا لعبادنا المؤمنين.
٤٦ ـ إلى آخر
السورة ـ (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً ...) عاد سبحانه إلى تقريع المكذّبين فقال : كلوا في دنياكم ،
واستمتعوا استمتاعا قليلا في حياتكم ، لأن متاع الدنيا قليل (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) مشركون مستحقون للعقاب في الآخرة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النهاية المخزية (وَ) كانوا (إِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا) أي صلّوا (لا يَرْكَعُونَ) لا يمارسون الركوع بل يعدّونه مذلّة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالصلاة وبعبادة الله تبارك وتعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي فبأيّ كتاب بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) يصدّقون به ، وهم لم يصدّقوا بهذا الكتاب المعجز.
سورة النبأ
مكية ، عدد آياتها ٤٠ آية
١ ـ ٥ ـ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ ...) النبأ هو الخبر العظيم الذي يكون له شأن وأهميّة ،
والتعبير هنا تعبير سؤال واستفهام ، ولكنّ المراد به تفخيم الأمر الذي (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عنه ، وقد أنزل الله تعالى ذلك لأنهم حين
بعث محمد (ص) وأخبرهم بوجوب توحيد الله وبالعبادة وبالبعث والحساب ، وتلا عليهم
القرآن ، تساءلوا متعجّبين ومنكرين ما جاء به النبيّ (ص) من أمر البعث بعد الموت
بصورة خاصة. وقيل إن النبأ العظيم هو القرآن (الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ) بين مصدّق ومكذّب. (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يقولون و (سَيَعْلَمُونَ) عاقبة التكذيب بما جاء به محمّد (ص) حين ينكشف لهم أمر
النبوّة (ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ) أي حقّا سيعرفون ذلك ويرون ما يصيبهم يوم القيامة من
العذاب.
٦ ـ ١٦ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ،
وَالْجِبالَ أَوْتاداً ...) أي أننا قادرون على البعث كما أننا خلقنا الأرض لكم
وجعلناها وطاء وبساطا مهيأ للتصرّف بسهولة (وَ) جعلنا (الْجِبالَ أَوْتاداً) تمسك الأرض حتى لا تميد بأهلها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرانا وإناثا وقيل : خلقناكم أشكالا متشابهة (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي جعلنا النوم لكم راحة لأجسادكم (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي سترة تستترون بظلامه كما يستر أحدكم جسمه بالثياب (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وقتا تطلبون فيه العيش لكم (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سماوات قويّة محكمة الصّنع (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) وهو الشمس التي تتوهج وتتلألأ بالنور فتستضيئون به. (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً) أي أنزلنا من الرياح ذوات الأعاصير مطرا. (ثَجَّاجاً) يعني يندفع حين انصبابه. (لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَباتاً) أي لنبت بذلك الماء الحبّ الذي تزرعونه والعشب فقد جمع
الله تعالى بين كلّ ما يخرج من الأرض من نبات الحبوب المختلفة.
١٧ ـ ٢٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً
...) أي أن اليوم الذي يفصل فيه الله تعالى بالحكم بين الخلائق
هو موعد محدّد لما وعد به سبحانه من البعث والحساب والجزاء. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) مرّ تفسيره (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فتجيئون جماعة جماعة حتى تكتملوا (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي انشقّت لتنزل منها الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي ذات أبواب وطرق (وَسُيِّرَتِ
الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي أزيلت عن أماكنها ودكّت وصارت كالسراب يظن أنه جبال
وليس كذلك.
٢١ ـ ٣٠ ـ (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً
لِلطَّاغِينَ مَآباً ...) أي هي محلّ رصد يرصد بها خزنتها الكفّار ليلقوهم فيها.
وقيل يعني هي معدّة للكفّار ، والطاغون هم الذين جاوزوا حدود الله وطغوا في معاصيه
، فجهنّم مرجعهم الذين يئوبون إليه في نهاية مطافهم (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) الحقب ثمانون سنة
من سنيّ الآخرة كما عن قتادة. أي أنهم يبقون فيها حقبا بعد حقب حتى يبلغ ذلك زمانا
كثيرا. ومن الأقوال ـ كما في المجمع ـ أن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة ، بل
قال : لابثين فيها أحقابا ، فو الله ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر كذلك إلى
أبد الآبدين. (لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً) أي لا يصادفهم برد يمنع عنهم حرّ جهنّم ، ولا شراب ينقع
غلّتهم ويدفع عطشهم فيها. وقيل : البرد هو النوم. (إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً) سوى الماء الحارّ ، وصديد أهل النار ، (جَزاءً وِفاقاً) أي عقابا موافقا لكفرهم وشركهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي فعلنا بهم ذلك لأنهم لم يكونوا يتوقعون بعثا ولا محاسبة
على كفرهم وشكرهم (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا كِذَّاباً) أي أنكروا ما جاءهم به رسلنا من البيّنات ، وقيل : يعني
كذّبوا بالقرآن تكذيبا (وَكُلَّ شَيْءٍ) من أعمالهم وأعمال
سائر المخلوقات (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي أحصيناه في اللوح المحفوظ. (فَذُوقُوا) أي فيقال لأولئك الكفرة : ذوقوا العذاب الذي أنتم فيه (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) معه وبعده (إِلَّا عَذاباً) يزاد عليه كيلا ترتاحوا من ألمه.
٣١ ـ ٤٠ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ...) بعد أن ذكر سبحانه وعيده للكافرين ، أخذ بذكر وعده
للمؤمنين فقال : إن للذين اجتنبوا ما يسخط الله تعالى منجى ، وهو النجاة من النار (حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي حدائق الجنّة وثمارها التي كنّى عنها بالأعناب (وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي جواري قد تكعّبت أثداؤهنّ ، فالكواعب مفردها : كاعب ،
وهي التي برز ثديها في أول صباها ، وكنّى عنهنّ بالأتراب ليدلّ على أنهنّ يكنّ من
سنّ أزواجهن ومثلهم في الحسن (وَكَأْساً دِهاقاً) أي كؤوسا مملوءة بالشراب تكون على قدر ريّهم (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
كِذَّاباً) أي لا يسمعون في
الجنّة كلاما لا فائدة فيه ولا يكذّب بعضهم بعضا. (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي ثوابا لتصديقهم بالله تعالى وبرسوله (عَطاءً) لهم من ربّك. (حِساباً) أي محسوبا كافيا ، وقيل كثيرا. (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ مرّ تفسير مثلها (الرَّحْمنِ) اللطيف الذي يرحم المؤمن والكافر (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي لا يقدرون أن يسألوه إلّا فيما رخّص به وأذن للمقرّبين
منه (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي يقفون مصطفّين في ذلك اليوم قائمين بأمر الله منتظرين
ما يصدر عنه. أما (الرُّوحُ) فقيل هو خلق من خلقه سبحانه يشبه بني آدم وليسوا منهم ،
يقومون يوم القيامة صفّا في مقابل صفّ الملائكة (لا يَتَكَلَّمُونَ) بشيء (إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ) أي رخّص له ، وهم الملائكة والمؤمنون (وَقالَ صَواباً) أي قال في الدنيا بالتوحيد ، وقيل إن القول هنا الشفاعة
فهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى. (ذلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُ) أي يوم القيامة الذي لا ريب فيه (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى
رَبِّهِ مَآباً) أي جعل لنفسه مرجعا بعمله الصالح يكون مرضيا به عند الله. (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) خوّفناكم أيها الكافرون (عَذاباً قَرِيباً) أي عذاب ليوم القيامة لأن كل آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) كل إنسان في صحيفة أعماله (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ما قدّم من الطاعة التي عبّر عنها باليدين لأن أكثر
الأعمال تباشر بهما. (وَيَقُولُ الْكافِرُ) حينئذ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً) أي : آه لو بقيت ترابا ولم يرجع جسمي ولم تعد روحي لأتخلّص
من الحساب في هذا اليوم.
سورة النازعات
مكية ، عدد آياتها ٤٦ آية
١ ـ ٥ ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ،
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ...) قيل إن النازعات هي الملائكة التي تنتزع أرواح الكفار
بشدّة وقيل هي النجوم تنتقل من أفق إلى أفق وتطلع وتغيب ، وقيل غير ذلك وكذلك
الناشطات قيل بأنها الملائكة تنشط في نزع نفوس الكافرين مما بين الجلد والأظفار
لتخرجها منهم بكرب والنّشط هو الجذب (وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً) قيل هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين وتسبح بها في الفضاء
، كما قيل أنها الملائكة التي تنزل من السماء مسرعة ، وعن عطاء أنّها السفن (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) قيل إنها الملائكة لأنها سبقت بني آدم بالإيمان والطاعة ،
أو أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة وقيل هي أرواح المؤمنين تسبق إلى
الملائكة حين يقبضونها ، أو هي الخيل في الحرب (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً) أي الملائكة تدبّر أمر العباد من سنة إلى سنة ، أو هم
جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت الموكّلون بتدبير الدنيا.
٦ ـ ١٤ ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ،
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ...) أي يوم النفخة الأولى التي ترجف منها الأرض فتموت جميع
الخلائق ، ثم تتبعها النفخة الثانية فتبعث الخلائق من جديد. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي مضطربة من الخوف أشد اضطراب (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) وذليلة من أهوال ذلك اليوم (يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي يقول الكافرون المنكرون للبعث ، هل أننا معادون أحياء
بعد الموت ، ونردّ إلى حالنا السابقة. والحافرة معناها : أول الشيء وابتداء الأمر (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي وبعد أن نصير عظاما بالية مفتّتة؟ (قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي قال الكافرون : هذه الرجعة بعد الموت رجعة خسران حيث
نقلنا من نعيم الحياة الدنيا إلى عذاب النّار (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : ليست النفخة الأخيرة إلّا صيحة من إسرافيل يسمعونها
وهم في قبولهم فيعودون أحياء (فَإِذا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ) أي : وفجأة يكونون على وجه الأرض وقد سمّيت الساهرة لأنها
تعمل في تغذية النبات ليلا كما تعمل في النهار. وقيل إن الساهرة هي عرصة يوم
القيامة حيث يقف الناس في سهر دائم لا نوم معه.
١٥ ـ ٢٦ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ...) أي : يا محمد قد أتاك حديث موسى وعرفت قصّته.
(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) فقال له : يا موسى (بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي حينما كان في طوى ـ وهو اسم الوادي ـ المطهّر بما ظهر
فيه من آيات الله العظمى (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي رخ إليه فإنه تكبّر وعلا وتجاوز الحدّ في الكفر (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي اسأله قائلا : هل أن تتطهّر من الشّرك والكفر بشهادة لا
إله إلّا الله. (وَأَهْدِيَكَ إِلى
رَبِّكَ) أدلّك إلى معرفته جلّ وعلا فتسلك الطريق التي تؤدّي إلى
ثوابه (فَتَخْشى) فتخافه وتقلع عمّا أنت فيه من الكفر؟ (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي أن موسى أرى فرعون آية العصا (فَكَذَّبَ) أنكر كونها آية من الله (وَعَصى) خالف موسى وكذّب بنبوّته (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي ولّى الدبر ليفكّر بما يردّ به معجزة موسى. (يَسْعى) في الفساد كعادته. (فَحَشَرَ فَنادى) أي فجمع قومه وجنوده وصرخ فيهم : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي أنني لا ربّ لكم فوقي (فَأَخَذَهُ اللهُ
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي أخذه وأهلكه بالغرق في الدنيا ونكّل به نكالا وأعدّ له
نكالا في الآخرة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في فعل فرعون وتكذيبه ومعصيته وأخذنا له وتنكيلنا به (لَعِبْرَةً) أي عظة (لِمَنْ يَخْشى) لمن يخاف الله تعالى ويخاف عقابه.
٢٧ ـ ٣٣ ـ (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ ...) خاطب سبحانه من كان من المكابرين على عهد رسول الله (ص)
محذّرا لهم وقال : هل أنتم أيّها المشركون أقوى خلقا من السماء التي (بَناها) بهذه العظمة وهذه السعة التي لا تحدّ؟ (رَفَعَ سَمْكَها) أي سقفها وما ارتفع منها (فَسَوَّاها) جعلها مستوية بلا فطور (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) جعله مظلما (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر نهارها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السماء بسط الأرض ، والدحو هو البسط. (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها ما يأكله
الإنسان والحيوانات (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي ثبّتها في الأرض فجعلها راسية فكانت الأرض هكذا (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أوجد فيها ما تستمتعون به أنتم وأنعامكم مما تخرجه
الأرض من خيراتها العميمة.
٣٤ ـ ٤١ ـ (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ...) أي إذا جاءت القيامة الهائلة المخيفة التي تطمّ على كل
مصيبة وتفوقها. (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ ما سَعى) أي يكون ذلك التذكّر لما قدّمه الإنسان من عمل حين مجيء
تلك الطامة الكبرى إذا بدت الجنّة للمؤمنين (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي أظهرت النار (لِمَنْ يَرى) من الخلق بحيث يراها جميع الخلائق رأي العين (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي فأمّا الذي تجاوز حدود الله (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فضّلها على الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ) أي النار (هِيَ الْمَأْوى) أي مقرّه الذي يؤول أمره إليه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي خاف الوقوف بين يدي الحساب وخشي مساءلة ربّه عمّا فعله
وتركه (وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) أي زجر نفسه ومنعها عن ركوب المحارم التي تشتهيها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي : فالجنّة مقرّه الذي يؤوي إليه.
٤٢ ـ ٤٦ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها ...) أي يسألك المنكرون للبعث يا محمد : متى يكون قيام القيامة
المحدود الوقت والمكان؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) أي وما أنت على شيء من العلم بها وبذكر موعدها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) والمعنى أن ربّك يعرف منتهى أمرها ومنتهى علمها الذي لا
يعرفه غيره (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي فلست إلّا مخوّفا ومحذّرا لكلّ من يخاف قيامها. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) أي كأن الناس يوم يعاينون القيامة. (لَمْ يَلْبَثُوا) لم يبقوا في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً
أَوْ ضُحاها) سوى قدر بسيط من نهاية النهار أو من أوله.
سورة عبس
مكية ، عدد آياتها ٤٢ آية
١ ـ ١٠ ـ (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى ...) لنزول هذه الفقرة من هذه السورة المباركة سبب هامّ. هو
أنها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ (ص) فجاء ابن أم مكتوم فلمّا رآه
تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه. (عَبَسَ) يعني قبض وجهه وبسر (وَتَوَلَّى) أعرض بوجهه (أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى) يعني لأن جاءه ذلك الأعمى (وَما يُدْرِيكَ) ومن عرّفك (لَعَلَّهُ) لعلّ هذا الأعمى (يَزَّكَّى) يتطهّر بالطاعة والعمل الصالح بفضل ما يتعلّمه منك (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتذكّر ويعتبر بالقرآن وبمواعظك (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) فيستفيد من عبرته (أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى) كان متمولا وكبيرا في عشيرته (فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى) تتعرض له فتقبل عليه بوجهك (وَما عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى) أي : أيّ شيء يلزمك إن لم يسلم ولم يتطهّر من كفره؟ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أمّا الذي قصدك ساعيا في طلب الخير ، وهو ابن أم مكتوم (وَهُوَ يَخْشى) يخاف الله (فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى) فأنت تتشاغل عنه بغيره.
١١ ـ ٢٣ ـ (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ ... كَلَّا) أي امتنع عن ذلك وانزجر عنه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي أن آيات ربّك موعظة لك ولسائر الناس (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي من أراد لنفسه الخير ذكر الآيات والقرآن واتعظ (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي هذا القرآن أو التذكرة في كتب معظمة عند الله وهي اللوح
المحفوظ القرآن العظيم (مَرْفُوعَةٍ) عالية عن كل دنس مرفوعة في السماء (مُطَهَّرَةٍ) مصونة عن أن تدنّسها أيدي الكفرة وقيل مطهّرة من الشك فيها
أو التناقض (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي بأيدي سفراء الوحي بين الله تعالى ورسله. (كِرامٍ) كرام عند ربّهم وهم أعزّاء عنده (بَرَرَةٍ) مطيعين سامعين له. (قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ) أي عذّب الإنسان ولعن إذ ما أشد كفره ، قيل المعنيّ هو
أميّة بن خلف ، وقيل أراد به كل كافر. وقيل : إن (ما) للاستفهام والكلام يعني : أي شيء أدّى به إلى الكفر. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)؟ أي فلينظر إلى خلقه وابتداء وجوده. والاستفهام للتقرير (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي أوجد أصله من تلك النّطفة أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة
إلخ ثم قدّر عمره ورزقه وكل ما يتصل به. (ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ) يعني أنه سهّل له سبيل الخروج من بطن أمه ، وقيل يسر له
طريق الهداية (ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ) أي قضى بإنهاء حياته ، وانتهى به الأمر إلى أن يقبره الناس
في لحد. (ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ) أي إذا أرادا أحياه في قبر وبعثه يوم القيامة. (كَلَّا) أي حقا (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي أنه قصّر في عمله ولم يؤدّ حقّ الله تعالى بعبوديته له.
٢٤ ـ ٣٢ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ
...) أي : يجب أن ينظر الإنسان إلى ما يأكله من سائر أنواع
مشتهياته ويفكّر كيف مكّنه الله تعالى من الانتفاع بها ليرى (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من السماء إنزالا. (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي فتقناها بالنبات الذي يخرج منها بعد المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض (حَبًّا) أي جميع الحبوب المفيدة للتغذية والحفظ (وَعِنَباً وَقَضْباً) ذكر العنب لجزيل فائدته ، وذكر القضب : أي القتّ الرّطب
يقطع ، مرّة بعد أخرى ويعطى علفا للحيوانات (وَزَيْتُوناً) وهو ما يؤكل ويستخرج منه الزيت (وَنَخْلاً) جمع نخلة وهي التي تعطى الرّطب والتمر (وَحَدائِقَ غُلْباً) يعني وبساتين مسوّرة ذات أشجار وارفة (وَفاكِهَةً) جميع أنواع الفواكه (وَأَبًّا) وهو العشب الذي يكون في المراعي ترعاه الحيوانات ولا يزرعه
الإنسان (مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ) أي جعل ذلك منفعة لكم وللأنعام التي تستفيدون منها.
٣٣ ـ ٤٢ ـ (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ...) عاد سبحانه وتعالى إلى ذكر يوم القيامة لينبّه الناس إلى
ما ينتظرهم في الآخرة ، والصاخّة هي صيحة القيامة التي تصخّ الآذان : أي تطرقها
حتى تكاد تصمّها. (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ) إلخ يهرب من هؤلاء جميعا. والصاحبة هي الزوجة. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي أن لكل إنسان في ذلك اليوم حال تحول بينه وبين أقربائه
وتشغله عنهم كما تشغلهم عنه ، ومعنى (يُغْنِيهِ) هنا : يكفيه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ) أي تكون بعض الوجوه في ذلك اليوم مشرقة منيرة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) مسرورة فرحة تتباشر بالثواب الذي أعدّه لها الله (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ)
أي عليها سواد
وهمّ ظاهر (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يغشاها سواد وانكساف عند مشاهدة النار (أُولئِكَ) أي أصحاب تلك الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ) الذين كفروا بالدّين وكانت أفعالهم فاجرة.
سورة التكوير
مكية ، عدد آياتها ٢٩
آية
١ ـ ١٤ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ...) ما زال سبحانه يتحدث عن علامات وأحوال يوم القيامة الذي
ذكر بعض حالاته في سورة (عبس) السابقة. والمعنى أنه إذا كوّرت الشمس فذهب ضوؤها
وأظلمت وإذا تساقطت النجوم وانتثرت (وَإِذَا الْجِبالُ
سُيِّرَتْ) أي نسفت عن وجه الأرض وأصبحت هباء كالسراب (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار هي النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة شهور ، فإذا
هي قد تركت مهملة بلا راع (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) أي إذا جمعت يوم القيامة ليقتصّ بعضها من بعض (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي أرسل عذبها على مالحها وبالعكس وتفجّر بعضها على بعض
فصارت بحرا واحدا ـ وقيل أوقدت فصارت نارا تضطرم (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) أي إذا قرن كلّ شكل من الناس مع شكله من أهل الجنة أو من
أهل النار. (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أي وإذا سئلت البنت التي دفنها أهلها حية خوفا من عارها
إذا كبرت : بأي ذنب قتلت؟ وهو سؤال توبيخ لقاتلها. (وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ) يعني إذا فتحت كتب أعمال الناس التي كتبتها الملائكة
الحفظة عليهم ليقرأها أصحابها (وَإِذَا السَّماءُ
كُشِطَتْ) أي أزيلت عن موضعها كما يكشف الجلد حين يسلخ عن الحيوان
المذبوح. (وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ) أي إذا أوقدت وازداد ضرامها (وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ) يعني إذا قربت من أهلها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) أي علمت ما وجدته حاضرا من عملها الذي جنته.
١٥ ـ ٢٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ ...) فلا أقسم : يعني : أقسم ، لأن (فَلا) زائدة ، فهو تعالى يقسم بمخلوقاته الدالة على عظمته (بِالْخُنَّسِ) أي النجوم التي تظهر في الليل وتخنس أي تختفي وتستتر في
النهار (الْجَوارِ) هي صفة للنجوم لأنها تجري في أفلاكها الخاصة بها و (الْكُنَّسِ) صفة من صفاتها أيضا لأنها تطلع وتتوارى في بروجها كما
تتوارى الظّباء في كناسها. (وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ) يعني إذا أدبر بظلامه وقيل إذا أقبل بظلامه أيضا والعسعسة
من الأضداد (وَالصُّبْحِ إِذا
تَنَفَّسَ) إذا أسفر وأضاء وامتدّ ضياؤه (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي وحقّ ما ذكرناه إن القرآن قول رسول
كريم على الله تعالى ، وهو جبرائيل (ع) ، قد حمل كلام الله سبحانه الذي أنزله على
لسانه إلى نبيّه (ص). (ذِي قُوَّةٍ) على تبليغ ما حمّلناه من الرسالة ، وذي قدرة في نفسه (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي هو ذو مكانة عند صاحب العرش تبارك وتعالى (مُطاعٍ ثَمَ) أي أنه مطاع هناك في السماء ، تطيعه الملائكة فيها (أَمِينٍ) مؤتمن على الوحي والرسالات السماوية ... (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي ليس محمد (ص) الذي يدعوكم إلى الله قد غطّي على عقله
فلا يدرك الأمور (وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي أن محمدا (ص) رأى جبرائيل (ع) بحسب صورته التي خلقه
الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس ، وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : ليس ببخيل فيما يؤدّي عن الله تعالى. وقرئ بظنين ـ بالظاء
ـ أي : وليس هو بمتّهم على وحي الله تعالى (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ليس هذا القول بقول شيطان ملعون ، رجمه الله باللعنة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأي طريق تسلكونه ولم تميلون عن هذا القرآن الذي هو هدى
وشفاء (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ليس القرآن سوى موعظة للخلق (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) وإنه سيكون كذلك لمن أراد منكم الاستقامة على أمر الله
وطاعته (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما تريدون الاستقامة على الحق إلّا إذا أرادها الله
تعالى لكم لأنه خلقكم لها وكلفكم بها فمشيئته قبل مشيئتكم.
سورة الإنفطار
مكية ، عدد آياتها ١٩ آية
١ ـ ٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا
الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ...) أي إذا انشقّت السماء وتقطّعت قطعا ، وتساقطت النجوم سودا
لا ضوء لها. (وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ) أي فتح بعضها على بعض فاختلط عذبها بمالحها ، وقيل ذهب
ماؤها (وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ) أي قلب ترابها وبعث الموتى فأخرجوا منها يوم النشور (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ) أي عرفت ما قدّمت من خير أو شر وما أخرت من سنة حسنة استن
بها بعده له أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
٦ ـ ١٢ ـ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...) أي ما الذي خدعك أيّها الإنسان بخالقك ورازقك وغشّك بأن
سوّل لك بالباطل حتى أنكرته وعصيته مع أنه كريم خلقك ولم يبخل عليك بنعمة من نعمة
التي لا تحصى؟ (الَّذِي خَلَقَكَ) ابتدعك من نطفة ولم تكن شيئا (فَسَوَّاكَ) جعلك إنسانا سميعا بصيرا (فَعَدَلَكَ) صيّرك معتدلا في خلقتك وأعضائك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي في أي صورة تشبه الأب أو الأم أو العم أو الخال أو الجد
أو غيرهم جعلك. (كَلَّا) أي مهلا فليس الأمر كما تزعمون أيّها الكافرون بالبعث (بَلْ) أنتم (تُكَذِّبُونَ) يا معشر الكفّار (بِالدِّينِ) الذي جاء به رسولنا محمد (ص) وهو الإسلام (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) رسلا من الملائكة يحفظون ما تعملونه ويسجلونه في صحائف
أعمالكم (كِراماً) أي مكرّمين عند ربهم (كاتِبِينَ) ما تقولونه وما تفعلونه (يَعْلَمُونَ ما
تَفْعَلُونَ) يعرفون أعمالكم من خير أو شر فيسجلونها في صحائف أعمالكم.
١٣ ـ ١٩ ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ...) أي إن المؤمنين المطيعين من أوليائه وعباده الصالحين ،
يكونون منعّمين بنعيم الجنّة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ) أي وإن الكفّار المكذّبين للنبيّ (ص) العاصين لأوامر ربّهم
في النار العظيمة الاشتعال (يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ) يعني يكونون فيها يوم القيامة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) لا يغيبون عنها ولا يغيّبون لأنهم مؤبّدون في عذابها. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي وما حدّ معرفتك عن يوم الدّين ، وفي هذا التعبير تنبيه
على شدة أهواله (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الدِّينِ) كرّرها سبحانه تعظيما لشأنه وتنبيها لشدته وعظيم حاله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ
شَيْئاً) أي لا يملك حق الدفاع عن مستحقّي العذاب أحد ، ولا تقدّم
نفس لنفس نفعا (وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فالحكم بيده سبحانه وهو يثيب ويعاقب ، ويعفو وينتقم.
سورة المطففين
مكية ، عدد آياتها ٣٦ آية
١ ـ ٦ ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف هو نقص المكيال والميزان. والمعنى : ويل لأولئك الذين
يسرقون في الميزان والميكال الشيء الطفيف (الَّذِينَ إِذَا
اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي الذين إذا كالوا لأنفسهم ما على الناس (يَسْتَوْفُونَ) فيأخذون حقّهم وافيا (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم حقهم ، ينقصون من ذلك
الحق. (أَلا يَظُنُ) أي أفلا يعتقد (أُولئِكَ) المخسرون (أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ) بعد الموت (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأمره وبأمره للجزاء والحساب.
٧ ـ ١٧ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي
سِجِّينٍ ...) كلّا : كلمة ردع وزجر ، والمعنى : انزجروا عن المعاصي فإن
الأمر ليس على ما أنتم عليه فإن كتاب الفجّار الحاوي لما ارتكبتموه من الفجور
وعظائم الأمور لفي سجّين ، وهو على ما قيل : هي الأرض السابعة وقيل إن سجين جبّ في
جهنم مفتوح. وقيل هو اسم لكتاب أعمالهم. وقيل غير ذلك .. (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي وما علمك به يا محمد (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل رقم لهم فيه ما عملوه من السيئات وختم لهم فيه
بشرّ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد لمن يكذّب بالبعث والجزاء (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ) أي بيوم الجزاء لأنه يكذّب بحقّ لا ريب فيه (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي أنه يكذّب به التارك للحق المتّبع للباطل الكثير الإثم
الذي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا قرئ عليه القرآن قال هذا من أباطيل الأمم السابقة (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما
كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : لا ، فليس الأمر كما زعموا ، بل غلب على قلوبهم
الرّين وهو أن يتراكم الذنب فوق الذنب حتى يموت القلب ولا يعدّ الذنب ذنبا. (كَلَّا) أي : لا فإنهم لا يصدّقون (إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي أن هؤلاء الفجّار يحال بينهم وبين رحمة ربّهم وإحسانه
يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد ذلك (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي أنهم يلازمون حرّ جهنّم (ثُمَّ يُقالُ) لهم تقريعا وتوبيخا : (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو العقاب الذي أنكرتموه في دار الدنيا.
١٨ ـ ٢٨ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ ...) بعد أن بيّن سبحانه حال الكفّار والفجّار ، قال : كلّا ،
أي حقّا إن كتاب المطيعين لله في مكانة عالية معظمة. وقيل إنها في السماء السابعة
حيث أرواح المؤمنين (وَما أَدْراكَ ما
عِلِّيُّونَ) وهذا تعظيم لشأن تلك المنزلة السامية (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل فيه جميع أعمالهم الصالحة وفيه ما يسرّهم (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني يحضره ويشهد عليه الملائكة المقرّبون. (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي أنهم في أنواع من النعمة ، وفي ملاذّ من الجنّة وهم (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي يجلسون على الحجال والسّرر والكراسي الوثيرة ويتأمّلون
ما منحهم الله من النّعم (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يعني إذا شاهدتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لأن وجوههم تطفح
نورا وسرورا (يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) أي يشربون خمرا صافية ختمت برائحة المسك (خِتامُهُ مِسْكٌ) آخر طعمه ريح المسك. وقيل ختم الإناء بالمسك بدلا عن الطين
وغيره (وَفِي ذلِكَ
فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي ففي مثل هذه النعمة يتبارى المتبارون ، ويتنازع
المتنازعون السّبق إليه (وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ) أي أن ذلك الرحيق المختوم يمزج من عين في الجنة تسمّى
تسنيما فيها أشرف شراب في الجنّة (عَيْناً يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فهي خالصة لهم يشربونها صرفا ويمزج بها لسائر أهل الجنّة.
٢٩ ـ ٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ...) أي أن مشركي قريش كأبي جهل وغيره كانوا يسخرون من المؤمنين
برسالة محمد (ص) في دار التكليف ويعيبون عقيدتهم وعبادتهم ، وذلك بسبب إنكارهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وكانوا إذا مرّ بهم المؤمنون يشير بعضهم إلى بعض
بالأعين والحواجب سخرية واستهزاء كونهم من اتباع محمد (ص) (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ
انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي إذا عاد هؤلاء الكفّار إلى أهلهم وذويهم عادوا وهم
يتفكّهون ويضحكون ممّا عملوه مع المؤمنين (وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي إذا شاهدوهم كانوا يقولون : إنهم ضائعون عن طريق الصواب
، قد خدعهم محمد (ص) (وَما أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ولم يجعل الكفار حافظين على المؤمنين ، ولا أحد كلّفهم
بمراقبة أعمالهم وتقييمها (فَالْيَوْمَ) يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) منهم ويسخرون كما سخر الكفّار منهم في الدنيا.
٣٥ ـ (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) يعني ينظرون إلى عذاب أعدائهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا
يَفْعَلُونَ) يعني : هل جوزي الكفرة بأعمالهم السيئة؟ وقد استعمل لفظة
الثواب مكان العقاب هنا لأن الثواب في اللغة جزاء والعقوبة جزاء أيضا.
سورة الإنشقاق
مكية ، عدد آياتها ٢٥ آية
١ ـ ٦ ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) المعنى : إذا تصدّعت السماء وانفرجت ، واستمعت لأمر ربها
وانقادت لتدبيره وقد حق لها أن تأذن بالانقياد في ذلك. وذلك من علامات القيامة (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي انبسطت بعد دكّ الجبال ونسفها وصارت كالصحيفة الملساء. (وَأَلْقَتْ ما فِيها) لفظت ما فيها من الموتى (وَتَخَلَّتْ) أي تركت كلّ ما في بطنها. وقيل : ألقت ما في بطنها من
كنوزها ومعادنها ، وتخلّت ممّا على ظهرها من الجبال وغيرها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) وهذا ليس تكرار لأن الآية الأولى في صفة السماء ، وهذه
الآية في صفة الأرض (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي : إنك ساع إلى
ثواب ربّك سعيا متعبا ، وأنت تعمل عملا تتحمّل مشقته لتحمله معك ليوم الله العظيم.
(فَمُلاقِيهِ) فأنت ملاق لجزائه ، فكأن لقاء الثواب أو العقاب لقاء له.
٧ ـ ١٥ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ ...) أي من أعطي صحيفة أعماله التي أثبتت فيها جميع طاعاته بيده
اليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) أي أنه لا يناقش بشيء ولا يعاتب على السيئات التي تاب عنها
وقيل إن الحساب اليسير هو التجاوز عن السيئات والإثابة على الحسنات (وَيَنْقَلِبُ) يعود بعد الحساب (إِلى أَهْلِهِ
مَسْرُوراً) فرحا بما أوتي من رحمة وكرامة. وأهله هنا هم ما أعدّه الله
له من الحور العين وقيل : أزواجه وأولاده وعشيرته التي سبقته إلى الجنّة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ
ظَهْرِهِ) ذلك أن يده اليمنى مغلولة إلى عنقه ، فإنه يعطى صحيفة
أعماله بيده اليسرى المشدودة إلى وراء ظهره ، وهذه إمارة على أنه من أهل النار (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي بالويل والهلاك معولا باكيا (وَيَصْلى سَعِيراً) يدخل في النار ويعذّب فيها (إِنَّهُ كانَ) في دار الدنيا (فِي أَهْلِهِ
مَسْرُوراً) ناعما فرحا لا يهتمّ بشؤون الآخرة (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي اعتقد في الدنيا أنه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت (بَلى) أي ليرجعنّ وليحاسبنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ
بِهِ بَصِيراً) لم يغب عنه شيء من أمره منذ خلقه إلى أن توفّاه وبعثه.
١٦ ـ ٢٥ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ...) أي أقسم بالحمرة التي تظهر عند الغروب في الأفق وتخفي بعد
قليل (وَاللَّيْلِ وَما
وَسَقَ) أي وما ضمّ وجمع لأن ظلمة الليل تجعل كل حيّ يأوي إلى
مسكنه (وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ) أي إذا تكامل وصار بدرا متناسق الجهات (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) فهذا جواب القسم يعني لترتقنّ حالا بعد حال في الآخرة بحيث
تصيرون على غير الحال التي كنتم عليها في الدنيا ، و (عَنْ) هنا بمعنى (بعد) أي طبقا بعد طبق (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي ما بال كفّار قريش لا يصدّقون بنبوّة محمد (ص) وهو
استفهام إنكار لحالهم إذ لا عذر لهم في الانصراف عن الإيمان مع قيام الحجة القاطعة
عليه. (وَإِذا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) يعني أنهم ما بالهم لا يؤمنون ولا يسجدون كما أمروا في
القرآن بالصلاة التي منها السجود (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي أنهم يكذّبون بقولنا تقليدا لأسلافهم ولم يصرفهم عن
الإيمان قصور الفهم ولا عدم وجود البرهان (وَاللهُ أَعْلَمُ) هو سبحانه أعرف (بِما يُوعُونَ) بما يضمرون في نفوسهم (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا محمد أخبرهم بعذاب موجع واجعل ذلك لهم بدل البشارة
للمؤمنين بالرحمة والمغفرة. (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فهؤلاء المصدّقون بك نعطيهم أجرا غير منقوص ولا منقطع ولا
مكدّر بالمنّ.
سورة البروج
مكية ، عدد آياتها ٢٢ آية
١ ـ ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ...) أقسم سبحانه بالسماء ذات البروج : مفردها برج ، وهي هنا
منازل الشمس والقمر والكواكب والتي هي اثنا عشر منزلا أو برجا. كما أقسم بيوم
القيامة الذي يتم فيه الفصل والحساب (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قيل إن الشاهد هو يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة وقيل
أيضا الشاهد يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة ، والشاهد محمد (ص) ، والمشهود يوم
القيامة. وقيل إن الشاهد هو الملك الذي يشهد على ابن آدم بما عمله ، كما قيل إنها
أعضاء المرء تشهد عليه. (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) جواب للقسم ، أي وحقّ ما ذكرناه لعن أصحاب الأخدود ، الذي
هو الشقّ العظيم في الأرض. لعنوا بحرق الناس في الدنيا لمجرد أنهم مؤمنون. أمّا
قصة أصحاب الأخدود فمعروضة في الموسوعات. (النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ) وكلمة (النَّارِ) بدل من الأخدود ، وهو بدل اشتمال لأن الأخدود يشتمل على ما
فيه من النار. وعبارة (ذاتِ الْوَقُودِ) صفة له. وهذه العبارة إشارة إلى كثرة حطب هذه النار وتعظيم
لأمرها. (إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ) إلخ أي حيث كان الكفار قاعدين من حوالي النار يعذّبون
المؤمنين بها وهم على كراسيهم يشهدون ذلك العذاب للمؤمنين. (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي ما كرهوا منهم (إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ) إلّا تصديقهم بالله (الْعَزِيزِ) القويّ الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَمِيدِ) المحمود في سائر تدابيره وأفعاله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) مر معناه. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه شاهد عليهم أيضا لأنه شاهد على فعلهم بالمؤمنين
وسيعاقبهم عليه.
١٠ ـ ٢٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) أي الذين أحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار وعذّبوهم بها
لإيمانهم (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) لم يستغفروا الله من الشّرك الذي هم عليه. (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء كفرهم وشركهم (وَلَهُمْ عَذابُ
الْحَرِيقِ) جزاء حرقهم للمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) صدّقوا بالله ووحّدوه (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) قاموا بالطاعات المطلوبة (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مرّ تفسيرها و (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ) أي : وهذا هو النجاح العظيم والظفر بالثواب الجزيل. (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي أن أخذ ربّك ـ يا محمد ـ للكافرين بالعذاب أخذ أليم (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) يعني أنه سبحانه يبدئ الخلق في الدنيا (وَيُعِيدُ) أولئك الخلق أحياء بعد الموت التائبين من المؤمنين (الْوَدُودُ) المحب لعباده الصالحين (ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ) صاحب ذلك العرش ذي العظمة والرفعة. وأكثر القراءة في (الْمَجِيدُ) الرفع لأنه هو سبحانه الموصوف بالمجد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ) أي هل بلغك خبر أولئك الذين جنّدوا أنفسهم لمحاربة أنبيائه
ورسله (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من (الْجُنُودِ) وكيف دمّر الله عليهم بالإغراق وبالصيحة. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش وغيرهم (فِي تَكْذِيبٍ) لقولك وللقرآن (وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) فهم لا يفوتونه لأنهم في سلطانه وفي قبضته (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) وهذا القرآن الذي بين يديك : كريم لأنه كلام الله ، وعظيم
السخاء بما يعطي من الخير العميم والنفع الكثير (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي أنه عندنا محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة
والنقصان.
سورة الطارق
مكية ، عدد آياتها ١٧ آية
١ ـ ٤ ـ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ...) هذا قسم منه سبحانه بالسماء وبالطارق ، أي بربّ السماء
والطارق (وَما أَدْراكَ) أي وما علمك يا محمد (مَا الطَّارِقُ) فلم يكن النبيّ (ص) ليعرفه لولا بيانه فيما يلي. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني : الكوكب المضيء ضياء ساطعا ، أما جواب القسم فهو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها
حافِظٌ) يعني : ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ من الملائكة يحفظ
أعمالها ويحصي أقوالها.
٥ ـ ١٠ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ ...) أي فلينظر المكذّب بالبعث وليتدبّر (مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلقه الله وكيف أنشأه حتى يعرف أن الذي
ابتدأه من هذه النّطفة قادر على إعادته. (خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ) أي من ماء منصبّ في رحم المرأة ، وهو المنيّ (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ) أي من بين ظهر الرجل وموضع القلادة من صدر المرأة أي بين
الثديين. (إِنَّهُ عَلى
رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي : إن الله الذي خلق الإنسان من هذا الماء قادر على
إرجاعه حيّا بعد الموت. (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) أي يوم القيامة حين تظهر وتختبر أعمال بني آدم التي أكثرها
كان سرّا بين الله والعبد. (فَما لَهُ) أي ليس لهذا الإنسان المنكر للبعث (مِنْ قُوَّةٍ) تمنع عنه العذاب (وَلا ناصِرٍ) يعينه على دفع غضب الله.
١١ ـ ١٧ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ،
وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ...) هذا قسّم منه سبحانه بالسماء ذات المطر وبالأرض ذات
التشققات والتصدعات التي يخرج منها النبات والأشجار. وجواب القسم هو : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي أن القرآن قول يفصل بين الحق والباطل (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي هو جدّ وليس باللّعب (إِنَّهُمْ) يقصد مشركي قريش (يَكِيدُونَ كَيْداً) يحتالون ويمكرون بك يا محمد وبمن معك من المؤمنين (وَ) أنا (أَكِيدُ كَيْداً) يعني : أريد أمرا يخالف ما يريدون ، وأدبّر ما يقضي على
تدبيرهم ويحبط مكائدهم (فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ) أي انتظر بهم يا محمد ، وتربّص تدبير الله فيهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي أمهلهم قليلا.
سورة الأعلى
مكية ، عدد آياتها ١٩ آية
١ ـ ٥ ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ...) أي نزّه ربّك القادر بذاته وصفاته والذي ليس فوقه قادر يا
محمد عمّا لا يليق بذاته الكريمة (الَّذِي خَلَقَ) الخلق جميعه (فَسَوَّى) بين مخلوقاته بالإتقان والإحكام (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدّر خلقة كل كائن على ما هو عليه ثم هدى جميع الأحياء
لتحصيل معايشهم وأرزاقهم ، كما هدى الناس إلى دينه (وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى) أي أنبت العشب والكلأ لمنافع الحيوانات (فَجَعَلَهُ) أي المرعى (غُثاءً أَحْوى) يعني جعله بعد الخضرة هشيما جافا أسود كالذي يرى فوق
السّيل. وقيل : الأحوى الأخضر الشديد الخضرة يميل إلى السواد.
٦ ـ ١٣ ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ...) أي سنعلمك قراءة القرآن يا محمد فلا تنساها. وقيل سيقرأه
عليك جبرائيل (ع) بأمرنا فتحفظه ولا تنساه. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سوى ما أراد الله تعالى أن ينسيك ، إيّاه بالنّسخ أو برفع
حكمه. (إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي أن الله تعالى يعلم العلن والسرّ. فلا تخفى عليه خافية.
(وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى) أي نسهّل لك عمل الخير. (فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي ذكّر الناس وعظّهم فإنما أنت مذكّر ، وتذكيرك لهم نافع
في جعلهم مؤمنين ، وفي امتناعهم كلا أو بعضا عن الشّرك والمعاصي. (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) يعني أنه سيتّعظ وينتفع من يخاف عقاب الله (وَيَتَجَنَّبُهَا) ينصرف عن الذكرى (الْأَشْقَى) أي الأكثر شقاء من العاصين. (الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرى) أي يلزم أكبر نيران جهنّم ويكون من وقودها (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) يعني أنه لا يموت فيرتاح ، ولا يعيش حياة يهنأ بها. بل
يذوق أنواع العذاب.
١٤ ـ ١٥ ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ...) يعني فاز ونجح من طهر نفسه من الشّرك. وقيل : تزكّى : أعطى
زكاة ماله. وقيل أراد صدقة الفطرة وصلاة العيد كما عن أبي عبد الله (ع). وكثيرين
غيره. أمّا ذكر الله فقيل هو ذكره بقلبه عند الصلاة ، وقصد الصلوات الخمس المكتوبة
، بما فيها من خشوع وخشية ورجاء.
١٦ ـ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تختارونها على الآخرة وتفضّلونها عليها (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي والدار الآخرة ، يعني الجنة. أفضل من الدنيا وأدوم. (إِنَّ هذا) الذي ذكر في هذه الآيات (لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولى) أي مذكور في الصحف السابقة التي أنزلت على الرّسل قبل
القرآن (صُحُفِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى) والصّحف : جمع صحيفة ، وهو الأوراق المكتوبة التي تكون بين
دفّتين ، أي الكتاب ، وقد ذكر هنا إبراهيم وموسى (ع) كمثل على الأنبياء الذين
أوتوا صحفا ونزلت عليهم كتب.
سورة الغاشية
مكية ، عدد آياتها ٢٦ آية
١ ـ ١٦ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ...) هذا استفهام أراد به سبحانه التقرير ، أي قد جاءك يا محمد
خبر يوم القيامة التي تغشى الناس فتجلّلهم بأهوالها ومخاوفها. وقيل هي النار التي
تغشى وجوه الكفار بالعذاب (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ) أي في ذلك اليوم تكون وجوه ذليلة بالعذاب الذي ينزل بها (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) يعني أنها عاملة في الدنيا بالمعاصي ، متعبة في النار
بمعالجة لهبها وسلاسلها (تَصْلى ناراً
حامِيَةً) أي تتلظّى وتلزم الاحتراق في نار قد بلغت حرارتها الغاية (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي يكون شرابها من عين وقد بلغت النهاية في الشدّة
والحرارة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الضريع : نبت شائك تأكله الإبل وهو يضرّ ولا ينفع ، وإذا
يبس فهو أخبث طعام لا ترعاه دابّة من الدواب. (لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) فهو لا يردّ جوعا ولا يأتي بسمنة ... (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي وفي ذلك اليوم تكون وجوه المؤمنين منعّمة في أنواع
الملذّات قد ظهر عليها أثر النّعم الكثيرة فهي مسرورة مشرقة (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي أنها راضية عن عملها للطاعات في الدنيا الذي أدّى بها
إلى الجنّة. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي في جنّة مرتفعة القصور ، عالية الدرجات. (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لا تسمع في الجنّة كلمة لغو لا فائدة منها (فِيها) أي في الجنّة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) عبّر هنا سبحانه عن الجنس إذ لكل إنسان في قصره عين جارية
من كل نوع من أنواع الشراب الذي يرغب فيه. (فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ) أي في الجنة سرر عالية ما لم يجيء أهلها إليها ، فإذا
قصدوها تواضعت لهم (وَأَكْوابٌ
مَوْضُوعَةٌ) أي كؤوس موضوعة على حافات العيون وجوانبها إذا أراد المؤمن
الشرب منها وجدها مملوءة. (وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ) أي : وفيها ووسائد مرتبة بعضها إلى جانب بعض (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) يعني : وبسط فاخرة ، وطنافس مبسوطة وموزّعة هنا وهناك.
١٧ ـ ٢٦ ـ (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ ...) ضرب الله تعالى لهم مثلا بخلق الإبل ... أي الجمال ـ لأنها
كانت وسيلة عيش لهم. أي ألا يتفكرون ويعتبرون بخلق الإبل وما جعل فيها من منافع إذ
يخرج من ضروعها اللبن الصافي من بين الفرث والدم ، وقد ركّب الله فيها من عجيب
الخلق وعظم إيهامه ثم ذلّلها للصغير والكبير وسخّرها لمنافع الناس (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي : أفلا ينظرون كيف رفع الله تعالى السماء فوقهم بلا عمد
، وبث فيها الشمس والقمر والنجوم لمنافعهم (وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ) أي كيف جعلت
أوتادا تثبت بها الأرض من أن تميد بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطها سبحانه وجعلها واسعة يمشون فيها ولولا ذلك
لما استطاعوا الاستقرار على ظهرها. (فَذَكِّرْ) يا محمد الناس فإن التذكير هو طريق العلم وسبيل المعرفة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تذكّرهم بعظمة الله وبنعمه الوفيرة ، وتنبّههم إلى ما يجب
عليهم من التوحيد والشكر والعبادة لربّهم (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ) أي لست متسلطا عليهم تسلّطا يجعلك حقيقا بإجبارهم على
الإيمان (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى
وَكَفَرَ) أي سوى من انصرف عن تذكيرك ودعوتك فكأنك لست مذكّرا له
لأنه لا يقبل منك ، فدع أمره إلى الله (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ
الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي يتولى إدخاله في جهنم والخلود فيها (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي إن مرجعهم بعد الموت إلينا (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي محاسبتهم لإثابتهم أو مجازاتهم.
سورة الفجر
مكية ، عدد آياتها ٣٠ آية
١ ـ ١٤ ـ (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ ...) هذا قسم منه سبحانه بالفجر الذي هو انفجار الصبح في كلّ
نهار ، وقيل هو فجر ذي الحجة خاصة لأنه ذكر بعده الليالي العشر ، وقيل هو فجر
المحرّم لأنه تتجدد عنده السنة ، وقيل غير ذلك. والقسم بالفجر يدل على عظمة مفجّره
بقدرته حيث قدّر دوران الأرض ومنازل الشمس وإيلاج الليل في النهار والنهار في
الليل. أما ذكر الليالي العشر والقسم بها ، فذلك لأنها أيام الحج التي شرّفها الله
ورغّب الناس فيها بالعمل الصالح. وفي قول أنها العشر الأواخر من شهر رمضان ، ميقات
موسى (ع) ، والأول أقرب للمعقول. ثم عطف على قسمه سبحانه قوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي الزوج والفرد من العدد. وقيل إن ذلك لما في الحساب من
النفع للناس. وقيل هي كل ما خلقه الله تعالى لأن جميع الأشياء إما زوج وإما فرد. (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي إذا سار وأدبر ومضى بظلامه ، فإن سيره ذاك ، المرتّب من
لدن خالق عظيم مدبّر ، يدل على عظمة خالقه ومدبّره على تلك الحال. (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟) أي هل في ذكر هذه الأيمان التي أقسم بها سبحانه يمين تقنع
صاحب العقل؟ وتدله على وحدانية موجدها وعلى عظمة صنعه وبديع تدبيره وحكمته. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعادٍ) هذه الحكاية اعتراض بين القسم المذكور وجوابه الذي لم يأت
بعد. وهي خطاب للنبيّ (ص) وتنبيه للكفرة على ما جرى لمن سبقهم لمّا كفروا بالله
وبأنبيائه وكتبه كعاد قوم هود (إِرَمَ) قالوا هو اسم قبيلة من قوم عاد كان فيها الملك فقد كان (عادان)
وإرم هي عاد الأولى ، وقيل هو جدّ عاد المعروف بعاد بن عوص بن إرم إلخ ... وقيل هو
اسم بلد هي دمشق (ذاتِ الْعِمادِ) العماد جمعه عمد وهو ما تبنى به الأبنية والقصور ، ويستعمل
في الشّرف فيقال : فلان رفيع العماد ، وقيل معناه ذات الطول والشدة ، وقيل إنهم
كانوا طوال القامات فقال سبحانه في وصفهم (الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة وعمارة
الأجسام ، وهم الذين قالوا : من أشدّ منّا قوة ، والأصح أن ذات العماد : ذات
الأبنية العالية القائمة على الأعمدة القوية ، التي لم يخلق مثل أعمدتها وأبنيتها
في جميع البلاد (وَثَمُودَ الَّذِينَ
جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي ألم تر كيف فعل ربّك بثمود؟ وهذا عطف على سابقه. فثمود
هم الذين قطعوا الصخر في الوادي الذي كانوا يسكنونها وهي وادي القرى. أو كانوا
ينحتون من الجبال بيوتا. (وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتادِ) أي فرعون موسى ، صاحب الجنود الذين كانوا يشيدون ملكه
ويقوّون سلطانه وقد دعاهم سبحانه ، أوتادا. وقيل : إنه كان يعذّب أعداءه بأربعة
أوتاد يشدّهم فيها باليدين والرّجلين ثم يتركهم مشدودين حتى يموتوا. (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) أي تجبّروا وعصوا أنبياء الله (فَأَكْثَرُوا فِيهَا) أي في البلاد (الْفَسادَ) أي القتل والمعاصي على اختلافها (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ
عَذابٍ) أي فجعل السوط الذي ضربهم فيه وأهلكهم عذاب الإهلاك في
الدنيا قبل الآخرة. (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) أي أنه يترصد عباده ولا يفوته شيء ممّا هم فيه لأنه سامع
ناظر إلى سائر أحوالهم. وقيل : إن قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) هو جواب القسم. وقيل : هو محذوف تقديره : ليقبضنّ ربك على
كل ظالم.
١٥ ـ ٣٠ ـ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ ...) أي إذا امتحنه واختبره (فَأَكْرَمَهُ) بأن أعطاه النّعم الكثيرة (وَنَعَّمَهُ) جعل عيشه رغيدا بما أفاض عليه تلك النعم (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي أنه يسرّ بذلك ويقول إن ربّي وهبني ذلك كلّه لكرامتي
عنده (وَأَمَّا إِذا مَا
ابْتَلاهُ) بالحاجة أو الفقر التام (فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ) يعني فضيقه عليه (فَيَقُولُ رَبِّي
أَهانَنِ) أي أنه يظن بينه وبين نفسه أنه ليس في محل كرامة من الله
تعالى (كَلَّا) أي : ليس كما ظنّ هذا ولا كما ظنّ ذاك ، فإنني لا أعطي
الإنسان لكرامته عندي ، ولا أحرمه لهوانه عليّ ، ولكني أعطي من أشاء وأمنع عمّن
أشاء بحسب حكمتي (بَلْ لا تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ) أي الولد الذي لا أب له فإنكم لا تعطونه ممّا وهبكم الله (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ
الْمِسْكِينِ) أي لا تحثون على إطعامه ولا تتواصون بالصدقة عليه. (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي
الميراث الذي
يتركه الميّت ، وقيل هو هنا أموال اليتامى (أَكْلاً لَمًّا) أي أكلا تلمّون به جميعا بحيث تأخذون نصيبكم ونصيب غيركم (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي شديدا ولا تنفقون زكاته ولا تتصدّقون منه تطوعا. (كَلَّا) أي لا يكون الأمر كذلك ولو فعلتموه. و (كَلَّا) كلمة زجر معناه : لا ، لا تفعلوا هكذا ، (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا زلزلت وانخسفت وتهدّم كل ما عليها ، وقيل إذا دقّت
جبالها واسترى أديمها (وَجاءَ رَبُّكَ) أي جاء أمر ربّك وحكمه وقضاؤه في يوم القيامة (وَالْمَلَكُ) وكان الملائكة حينئذ (صَفًّا صَفًّا) حيث يكون أهل كل السماء صفّا وحده كما عن عطاء. (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يعني كشف عنها وأحضرت لمعاقبة من يستحقونها فيرى أهل
الموقف جميعا أهوالها. (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يوم يجاء بجهنم يتّعظ الإنسان الكافر ويعتبر (وَ) لكن (أَنَّى لَهُ
الذِّكْرى) أي ومن أين له أن ينفعه التذكّر والاعتبار وقد كان ينبغي
له أن يتذكّر ويعتبر في دار الدنيا. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنّى لو أنه عمل بالطاعات وفعل الصالحات لحياته
الحقيقية الأبديّة. (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا يُعَذِّبُ
عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب الله سبحانه أحد من المخلوقين (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي لا يكبّل الكفار بسلاسل النار كما يكبلهم ملائكة العذاب
(يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الآمنة المؤمنة المصدّقة بالثواب التي اطمأنّت إلى حسن
عاقبتها (ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ) عودي إلى رحمة ربّك وثوابه (راضِيَةً) بذلك الأجر العظيم (مَرْضِيَّةً) أعمالك عند ربّك (فَادْخُلِي فِي
عِبادِي) كوني في زمرتهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي وعدت بها عبادي الصالحين.
سورة البلد
مكية ، عدد آياتها ٢٠ آية
١ ـ ٥ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ...) تقدّم أن هذا معناه : أقسم بهذا البلد ، وأن (لا) زائدة. أما (الْبَلَدِ) فهي مكة يعني أحلف ببلدك يا محمد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي مقيم فيه ، فكأنّه قسم قد وقع من أجل حلوله (ص) به (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) وعنى بذلك آدم (ع) وذرّيته من الأنبياء والأوصياء
وأتباعهم. وقيل عنى بذلك إبراهيم (ع) وأولاده لأنه هو الذي بنى البيت الحرام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ) أي خلقناه في تعب ونصب وشدة جرّاء القيام بالأمر والنهي في
مجال العبادات الشاقة وسائر الطاعات والواجبات (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي هل يزعم الإنسان أنه لا يقدر على عقابه والاقتصاص منه
أحد إذا أمعن في المعاصي وارتكاب الآثام؟ وهذا الاستفهام إنكاريّ.
٦ ـ ١٦ ـ (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ...) أي كثيرا ، وفي هذه الآية يحكي سبحانه مقولة هذا الإنسان
الذي كان عدوّا للنبيّ (ص) وهو يقول : قيل هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف
الذي أذنب ذنبا وسأل النبيّ (ص) عن ذلك فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في
الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ) فيسأله كيف اكتسب هذا المال وفيم أنفقه ، وقيل كان كاذبا
في دعواه. (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ) ينظر بهما عظمة المخلوقات الدالّة على عظمة الخالق (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) ينطق بواسطة الكل ويشكر الكل ويشكر خالقه ورازقه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي دللناه على سبيل الخير وسبيل الشر (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلم يتجاوز هذا الإنسان الطريق الصعبة وهي مجاهدة النفس
ومخالفة الشيطان للوصول إلى عمل الخير والقيام بالطاعات ، وقيل إن العقبة هي الجسر
الذي ينصب فوق جهنم ، أي الصراط. فكأنه سبحانه قال : لم يحمل نفسه على المشقة بعتق
الرقبة والإطعام وغيرهما (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ؟) أي ما هو ذلك الاقتحام للعقبة الذي ذكرناه؟ إنه (فَكُّ رَقَبَةٍ) تحريرها من أسر الرّق. وقيل أن يفك رقبته من الذنوب بالتوبة
(أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي الإطعام في أيام الجوع. (يَتِيماً ذا
مَقْرَبَةٍ) أي أطعم يتيما من أقاربه ورحمه (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي فقيرا محتاجا قد لصق بالتراب من شدة الجوع والفقر.
١٧ ـ ٢٠ ـ (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فينبغي للإنسان مع هذه الأعمال المذكورة أن يكون مؤمنا
مصدّقا يعمل الخير ويقوم بالطاعات (وَتَواصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الفرائض وترك المعاصي
، وتواصوا كذلك بالتراحم وببذل الرحمة للفقراء منهم خاصة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أنهم هم الذين تأخذ بهم الملائكة يوم القيامة إلى ناحية
اليمين
ويعطونهم كتبهم
بأيمانهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِنا) أنكروا حججنا ودلائلنا (هُمْ أَصْحابُ
الْمَشْأَمَةِ) أي هم أهل الشؤم على أنفسهم ويؤخذ بهم إلى جانب الشمال
ويعطون كتبهم بشمائلهم (عَلَيْهِمْ نارٌ
مُؤْصَدَةٌ) أي نار مطبقة مقفلة أبوابها عليهم.
سورة الشمس
مكية ، عدد آياتها ١٥ آية
١ ـ ١٠ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ...) هذا قسم أيضا بالشمس وضحاها الذي هو امتداد ضوئها وانبساطه
(وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) أي إذا تبعها وسار خلفها يستمدّ من نورها (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي بدّد ظلمة الليل (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها) أي يغطّيها ـ يعني الشمس حين يواريها عن الأنظار (وَالسَّماءِ وَما بَناها) يعني ومن بناها ، فكأنه سبحانه أقسم هنا بذاته القدسية.
وقيل هو : والسماء وبنائها المحكم الدقيق (وَالْأَرْضِ وَما
طَحاها) أي وبسطها وتسطيحها (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها) أي وحقّ من سوّى أعضاءها وزانها بالعقل. (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها سبل الفجور وسبيل التقوى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) هذا جواب القسم ، يعني قد فاز ونجح من زكّى نفسه بتطهيرها
بالطاعات من الدنس والرّجس (وَقَدْ خابَ مَنْ
دَسَّاها) أي خسر من أضلّ نفسه وأخملها وجعلها دنيئة خسيسة.
١١ ـ ١٥ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ...) أي كذبت ثمود ، وهم قوم صالح (ع) بطغيانها وكثرة معاصيها (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان تكذيبها حين خرج أشقى القوم لعقر الناقة. والانبعاث
معناه انتداب ذلك الشقي لعقرها وهو قيدار بن سالف : هو أشقى الأوّلين. وقد قال
النبي (ص) لعليّ بن أبي طالب (ع): من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : صدقت
، فمن أشقى الآخرين؟ قال : لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ،
وأشار إلى يافوخه. (فَقالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللهِ) أي قال صالح لقومه : (ناقَةَ اللهِ) أي أحذّركم ناقة الله ، فلا تعقروها (وَسُقْياها) أي ودعوها وشربها فلا تتعرّضوا لها بسوء ولا تزاحموها (فَكَذَّبُوهُ) أي فكذّبه قومه ورفضوا قوله ولم يخافوا تحذيره بالعذاب (فَعَقَرُوها) أي قتلوها (فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فدمّر عليهم وأطبق العذاب عليهم وأهلكهم (بِذَنْبِهِمْ) بمعصيتهم (فَسَوَّاها) أي فاستوت المدمدمة ـ يعني الهلاك والتدمير عليهم وعمتهم
فشملت صغيرهم وكبيرهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لا يخاف سبحانه أيّ تبعة تنشأ عن إهلاكههم لاستحقاقهم
لذلك.
سورة الليل
مكية ، عدد آياتها ٢١ آية
١ ـ ١١ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ...) هذا قسم منه سبحانه بالليل إذا أظلم فغطى النهار وأخفاه (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) يعني إذا ظهر وبان مشرقا بنوره (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (ما) هنا بمعنى
الذي ، أي والذي خلقهما. وقيل عنى بذلك آدم وحوّاء (ع) ، وقيل قصد النوع : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هو جواب القسم ، فقد أقسم سبحانه بما تقدّم أن أعمالكم
مختلفة بعضها يؤدّي إلى الجنّة وبعضها يؤدّي إلى النار (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) لهذه الآية قصة نزلت بسببها ، وهي أن رجلا كانت له نخلة
مائلة تتدلّى فروعها في دار رجل فقير ذي عيال. وكان صاحب النخلة إذا صعد إليها
ليقطف من ثمرها ربما سقطت تمرة فتناولها أحد أولاد الفقير ، فكان ينزل صاحب النخلة
فيأخذ التمرة من الصبيّ حتى ولو وجدها في فمه أدخل إصبعه وأخرجها من فمه. فشكا
الفقير ذلك إلى النبيّ (ص) وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له (ص) ، اذهب. ثم
لقي رسول الله (ص) صاحب النخلة فقال له : تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار
فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل : إن لي نخلا كثيرا وما فيه نخلة أعجب
إليّ ثمرة منها. ثم ذهب ولم يستجب لطلب النبيّ (ص) وسمع رجل يدعى أبا الدحداح
الحديث فقال : يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها؟ قال نعم. فذهب
الرجل وساوم صاحب النخلة واشتراها منه بأربعين نخلة وأشهد على ذلك ، ثم جاء ،
ووهبها للنبيّ (ص) فذهب رسول الله (ص) إلى صاحب الدار فقال له : لك النخلة ولعيالك
، فنزلت هذه السورة المباركة. فالذي أعطى واتّقى هو أبو الدحداح (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بأن الله يعطي الواحد عشرا إلى أكثر من ذلك (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي نسهّل أموره للخير (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى) أي بخل
بماله وضنّ به كما
فعل مالك النخلة ثم التمس الغنى وطلبه بمنع العطاء وبالبخل (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي لم يصدّق بحسنى الثواب وبالجنّة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي سنخلّي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا
تَرَدَّى) أي لا يفيده ماله إذا هلك ومات.
١٢ ـ ٢١ ـ (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ...) أي إن علينا بيان الهدى بالدلالة عليه وأما الاهتداء
فإليكم. (وَإِنَّ لَنا
لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي أن لنا أمرهما لأننا نملكهما (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي فحذّرتكم وخوّفتكم نارا تستعر وتلتهب وتتوقّد. (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي لا يلزمها إلّا الكافر بالله والكافر أشقى الأشقياء (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي كذّب بآيات الله ودلائله وانصرف عنها بتكذيب رسله (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي يجنّب النار المتلظية (الْأَتْقَى) المبالغ في التقوى (الَّذِي يُؤْتِي
مالَهُ) ينفقه في مرضاة الله (يَتَزَكَّى) يطلب أن يكون زكيّ النفس عند ربّه (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى) أي أن الذي أعطى ماله لمستحقّيه وأنفقه في سبيل الله ولم
يبتغ من وراء ذلك جزاء ممّن يعطيهم ولا يريد عوضا أو منة (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلى) أي إنما فعل ذلك مبتغيا وجه الله ورغبة في رضاه وثوابه (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي وسوف نعطيه حتى نرضيه من الثواب في الآخرة.
سورة الضحى
مكية ، عدد آياتها ١١ آية
١ ـ ٥ ـ (وَالضُّحى ...) هذا قسم منه سبحانه بالضّحى الذي هو وقت ارتفاع الشمس في
الثلث الأول من النهار ، يعني أنه أقسم بقدرة من جعل الضّحى وأظهره في كل يوم (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن واستقرّ ظلامه وخيّم (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) يعني ما فارقك ربّك يا محمد ولا قطع عنك الوحي ولا أبغضك
وهذا جواب القسم وقصة ذلك أنه احتبس الوحي عن النبيّ (ص) خمسة عشر يوما فقال
المشركون : إنّ محمدا قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولولا ذلك لتتابع الوحي عليه فنزلت
هذه الآية الكريمة ... (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولى) أي أن ثواب الآخرة المعدّ لك خير ممّا في الدنيا الزائلة
والحياة فيها (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) أي سيمنحك من الشفاعة وأنواع الكرامة ما ترضى به.
٦ ـ ١١ ـ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) أي ألم تكن يتيم الأب والأم فآويتك إلى كنف عبد المطلّب
وسخّرته لتربيتك وتعهّدك ، ثم عند ما مات آويتك إلى ظل أبي طالب فحماك وقدّمك على
أولاده ودافع عنك؟ (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) أي غائب الفكر عمّا أنت فيه الآن من النبوّة والرسالة
فهداك. فالضلال هنا عدم العلم بالشيء وانصراف الذهن عنه. وقيل في معناه : وجدك
متحيّرا في معاشك فهداك إلى ذلك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا لا تملك مالا (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة وبالغنائم وبالقناعة والرضى بما أعطاك
فصرت غنيّ النفس. (فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ) أي لا تذهب بحقه لضعفه ولا تقهره بماله كما يفعل العرب
وسائر الناس باليتامى (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) أي لا تردّ السّائل إذا أتاك وطلب منك صدقة ، حتى ولو كنت
فقيرا فخاطبه خطابا ليّنا وردّه ردّا جميلا. وقيل إن المراد بالسائل هو طالب العلم
، ومعناه : علّم من يسألك الشرائع ولا تزجره (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي اذكر نعم ربّك وأفضاله بشكرها. وقيل إن نعمة الله هنا
هي القرآن الذي هو من أعظم نعم الله على رسول الله (ص) فأمره بقراءته ، وقيل بل هي
النبوّة والرسالة فبلّغ ما أرسلت به وأخبر الناس به.
سورة الشرح
مكية ، عدد آياتها ٨ آيات
١ ـ ٨ ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...) شرح الصدر هو التوسعة والتعبير عن سعة القلب والسرور
والانبساط. وهو يعني ألم نفتح صدرك ونوسّع قلبك يا محمد بالعلم وبالنبوّة حتى قدرت
على القيامة بأداء الرسالة؟. (وَوَضَعْنا عَنْكَ
وِزْرَكَ) أي حططنا عنك الثقل (الَّذِي أَنْقَضَ
ظَهْرَكَ) أي الذي أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت تعب (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي وقرنا ذكرك بذكرنا فلا أذكر أنا
في أذان ولا إقامة
ولا تشهد ولا خطبة إلا وتذكر أنت. (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً) أي إن مع الفقر سعة وغنى أو إن مع الشدة والضّيق فرجا (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كرّرها سبحانه
للتأكيد على ذلك. وقد قال الزّجاج : إنه ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنّى ذكره
فصار المعنى : إن مع العسر يسرين (فَإِذا فَرَغْتَ
فَانْصَبْ) أي إذا انتهيت من أمر الصلاة المكتوبة فانصب وأتعب نفسك
بالدّعاء والتضرّع إلى الله تعالى (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي أقبل عليه وأطمع فيما عنده من الرحمة.
سورة التين
مكية ، عدد آياتها ٨ آيات
١ ـ ٨ ـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ...) إنه كغيره ممّا سبق ، قسم بالتين الذي نأكله أخضر ويابسا ،
وبالزيتون الذي نأكله ونعصر منه الزيت (وَطُورِ سِينِينَ) أي الجبل ـ الطور ـ الذي كلّم الله عليه موسى (ع) ، وسينين
وسيناء واحد. (وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ) أي مكة المكرّمة والبلد الحرام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم السابق ، وربما أراد سبحانه جنس الإنسان
الذي هو آدم (ع) وذريته ، فقد جعلهم على اعتدال في الخلقة ، فهم منتصبوا القامة في
حين أن الحيوان مكبّ على وجهه ، كما أنهم في كمال في أجسامهم وجوارحهم وأنفسهم ،
وقد ميّزهم عن غيرهم بالعقل والنطق والتمييز والاختيار والتدبير. (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي أرجعناه إلى أرذل العمر والخوف ونقصان العقل. وقيل :
المعنى إننا رددناهم بسبب كفرهم في الدرك الأسفل من النار. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي الذين صدّقوا بوحدانيّة الله ورسله وقاموا بالطاعات
والواجبات (فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي أجر يستحقونه ولا منة عليهم به ، وقيل إنه أجر غير
مقطوع. (فَما يُكَذِّبُكَ
بَعْدُ بِالدِّينِ) أي أيّ شيء بعد هذه الحجج يجعلك أيها الإنسان تكذّب
بالحساب والثواب والجزاء. أفلا تعتبر بما بين ولادتك وشبابك وهرمك لتستدل على أن
الله الذي فعل ذلك بك قادر على بعثك وحسابك وجزائك (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) هذا سؤال يحمل معنى التقرير. يعني : إن الله تعالى أحكم
الحاكمين في صنعه وفعله وتدبيره وحكمته التي لا خلل فيها.
سورة العلق
مكية عدد آياتها ١٩ آية
١ ـ ٥ ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...) الخطاب لمحمد (ص) يأمره فيه ربّه بأن يقرأ باسمه وأن يدعوه
به لأن في تعظيم الاسم تعظيم المسمّى (الَّذِي خَلَقَ) يعني ابتدع وأوجد جميع المخلوقات على مقتضى حكمته ،
فأخرجها من العدم إلى الوجود بقدرته الكاملة (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ عَلَقٍ) الإنسان هو الجنس من بني آدم ، يعني خلقهم من قطعة دم
جامدة بعد النّطفة (اقْرَأْ) يا محمد ما نوحيه إليك (وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ) أي الأعظم كرما من كلّ كريم لأنه يهب ما لا يقدر عليه غيره
، وهو (الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ) أي علّم الكاتب أن يكتب بالقلم ليرسم ما يدور في فكره على
القرطاس ممّا ينتفع به هو أو غيره. (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ) فقّهه وفهمّه أنواع الهدايات ، وأبان له أمور الدين
والأحكام والشرائع مما لم يكن على دراية بها.
٦ ـ ١٩ ـ (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ...) أي : حقّا إن الإنسان ليتجاوز حدّه في ظلم نفسه وغيره حين
يستكبر على خالقه (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي لأنه رأى نفسه غنيّا بقومه أو بماله أو بقوّته ، فقد
تعدّى طوره وظنّ أنه بغنى عن ربّه (إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) أي إليه مرجع جميع المخلوقات بما في ذلك هذا الطاغية الذي
غرّته أمواله وأولاده وحياته الدنيا (أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) معناه : ألا ترى يا محمد هذا الكافر الذي ينهاك عن صلاتك
ويعاديك من أجل دعوتك الناس إلى توحيد ربّك وعبادته؟ ففي الأخبار أن أبا جهل قال
للناس : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فبالذي يحلف به لئن
رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذاك يصلّي. فانطلق ليطأ على
رقبته فما فجأهم إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه؟ ... فقالوا : مالك يا أبا
الحكم؟ ... قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ... وقال نبيّ الله :
والذي نفسي بيده
لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ... (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ
عَلَى الْهُدى) أي إذا كان محمد العبد المصلّي على هدى ونهي عن صلاته (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أمر الآخرين بتقوى الله ومخافته ولزوم طاعته. والتقدير
هنا : كيف تكون حال من يمنعه عن ذلك؟ (أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ) هذا الضالّ الكافر أبو جهل (وَتَوَلَّى) انصرف وأعرض عن تصديقك (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) فهل غفل عن أن الله تعالى يراه ويرى ما يصنعه معك (كَلَّا) يعني : لا يعلم ذلك ولا يصدّقه لأنه كافر (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) إذا لم يمتنع أبو جهل عن تكذيبك وإيذائك (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنسحبنّه بشعر مقدم رأسه ولنجرّنه بها إلى النار. (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وصفها سبحانه بالكذب والخطإ لأن صاحبها كاذب في ما يقوله
في محمد ، وخاطئ في فعله معه (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي ليصرخ بعشيرته وأهل مجلسه لينصروه منّا (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني سننتدب لعذابه ملائكة العذاب الموكّلين بالنار (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يشاء أبو جهل (لا تُطِعْهُ) إذا نهاك عن الصلاة (وَاسْجُدْ) لربّك (وَاقْتَرِبْ) إليه بالثواب الذي أعدّه لك بطاعتك ، أو اسجد له متقرّبا
إليه بالطاعة.
سورة القدر
مكية ، عدد آياتها ٥ آيات
١ ـ ٥ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ ...) القدر هو كون الشيء مساويا لغيره دون زيادة أو نقصان. وقدر
الله الأمر : جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. والهاء في (أَنْزَلْناهُ) تعني القرآن الكريم والمعنى أننا أنزلنا القرآن من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر (وَما أَدْراكَ ما
لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي وما علمك يا محمد بخطر هذه الليلة وحرمتها؟ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) أي أن قيامها والعبادة فيها خير من القيام والعبادة في ألف
شهر (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ) أي تتنزل فيها من السماء (وَالرُّوحُ) أي جبرائيل (ع) (فِيها) في ليلة القدر ، ينزلون إلى الأرض ليسمعوا قراءة القرآن ،
والثناء على الله سبحانه وتعالى ، وليروا الطاعات والعبادات. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره ينزلون. (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي بكل أمر يأتيهم من عندنا فيه خير لهم وبركة ورزق من هذا
العام إلى العام المقبل. (سَلامٌ هِيَ) أي سلامة من الشرور والبلايا ومن همزات الشياطين (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) تبقى كذلك ليلة مباركة إلى وقت طلوع الفجر من صبيحتها.
سورة البيّنة
مدنية ، عدد آياتها ٨ آيات
١ ـ ٥ ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...)
المعنى أن
الكافرين بنبوة محمد (ص) من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والكافرين من مشركي
العرب عبدة الأوثان أيضا ليسوا (مُنْفَكِّينَ) منتهين عن كفرهم ولا تاركين له (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) حتى يجيئهم البيان الواضح الذي هو محمد (ص) (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) والعبارة بيان للبينة وتفسير أي أن البيّنة كانت الرسول من
الله الذي (يَتْلُوا) يقرأ عليهم (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) أي مطهرة في السماء لا يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون.
وهذه الصّحف (فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ) ذات قيمة ، مستقيمة عادلة ليس فيها عوج ، لأنها تظهر الحق
من الباطل ، وهي تعني القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي ولم يختلف هؤلاء اليهود والنصارى في محمد (ص) إلّا بعد
مجيء البشارة به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فصارت الحجة قائمة عليهم. وقيل معناها
: أنّ أهل الكتاب ظلّوا مجتمعين على تصديق البشارة بمحمد (ص) حتى بعثه الله تعالى
، وعندئذ تفرّقوا واختلفوا في أمره (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي لم يأمرهم ربّهم ولا أمرهم رسلهم إلّا بتوحيد الله
وعبادته (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) لا يشاركون في عبادته أحدا غيره (حُنَفاءَ) مائلين عن جميع العقائد إلى عقيدة الإسلام (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكاةَ) فيداومون على إقامة الصلاة ويدفعون زكاة أموالهم
لمستحقّيها (وَذلِكَ) الدين الذي تقدّم ذكره (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الكتب القيّمة الرفيعة القدر التي مرّ ذكرها.
٦ ـ ٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...) أي : إن من جحد توحيد الله وأنكر نبوّة محمد (ص)
ومن أشرك مع الله
إلها آخر في العبادة ، أولئك جميعا (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فهي مقرّهم في الآخرة (خالِدِينَ فِيها) لا ينتهي عقابهم ولا يخفّف عنهم (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) فهم أسوأ الخليقة وشرّها. (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) صدّقوا رسولنا وعملوا بأمره (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) وقاموا بالطاعات (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ) أي أحسن الخليقة وخيرها. (جَزاؤُهُمْ) ثوابهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسير مثله (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) فارتضى عملهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من ثواب. (ذلِكَ) الرضا والثواب يكون (لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ) أي لمن خاف منه فعمل بأوامره وامتنع عن نواهيه.
سورة الزلزلة
مدنية ، عدد آياتها ٨ آيات
١ ـ ٨ ـ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها
...) الزّلزلة ارتجاف
الأرض واهتزازها ، أي : ما حالكم مع أهوال يوم القيامة إذا ارتجفت الأرض ارتجافا
عظيما لقيام الساعة (وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي لفظت الموتى من بطنها أحياء للحساب والعقاب والثواب. (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي أن المرء يقول متعجّبا من ذلك : ما للأرض تتزلزل ويحدث
فيها ما لم يحدث قبل هذا؟ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها) أي تخبر بما جرى على ظهرها. (بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها) يعني أنها تحدّث بالأخبار قائلة إن ربّك يا محمد ألهمها
التحدث بالأخبار. (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة وزلزال الأرض (يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً) يرجعون من موقف الحساب بعد العرض على ربّهم متفرّقين ،
فأهل الإيمان وحدهم ، وأهل الكفر وحدهم ، وكل أمة وحدها. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) يعني ليروا ثواب أعمالهم أو عقابها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ) أي أن من يعمل خيرا يجد خير جزاء (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) يعني يجد عقاب ما عمله من السّيئات والقبائح.
سورة العاديات
مكية ، عدد آياتها ١١ آية
١ ـ ١١ ـ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ...) العاديات هي الخيل التي تركض في الغزو للجهاد في سبيل الله
، أقسم بها سبحانه وهي تضبح ضبحا أي تصوّت من أجوافها أثناء الركض من غير أن تصهل
أو تحمحم (فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً) هي الخيل التي توري النار بحوافرها إذا سارت في الأرض
المحصبة. (فَالْمُغِيراتِ
صُبْحاً) أي الخيل التي تغير على العدو بفرسانها وقت الصّبح. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي هيّجن الغبار فانعقد وراءها كالغيوم (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي توسّطن جميع العدوّ بعدوهنّ (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم ، أي : وحقّ ما ذكرنا إن الإنسان لكافر
جاحد بربّه (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ) أي أن الله سبحانه يشهد ويرى كفر ذلك الإنسان. وقيل : إن
الضمير يعود إلى الإنسان أي تشهد جوارحه على كفره وجحوده يوم القيامة. (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٌ) يعني أنه شديد الحب للمال (أَفَلا يَعْلَمُ) أفلا يعرف هذا
الإنسان (إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ) أي إذا بعث الموتى وأخرجوا من القبور ونشروا للحساب.
(وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ) أي أظهر ما أخفته الصدور ليجازى من يكتم كفرا بكفره كما
يجازى الكافر المعلن لكفره (إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أنه تعالى خبير بحالهم في ذلك اليوم وإن كان خبيرا بهم
في كل حال.
سورة القارعة
مكية ، عدد آياتها ١١ آية
١ ـ ١١ ـ (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ، وَما
أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ...) القارعة : البليّة وهي هنا اسم من أسماء يوم القيامة لأنها
تقرع القلوب بالخوف وتقرع أعداء الله بالعذاب. وقوله : (مَا الْقارِعَةُ) تعظيم لشأن القارعة وتهويل له. وما أدراك : أي أنك يا محمد
لا تعلم حقيقة القارعة ، ولا تعرف وصفها بدقّة ، وهذا كلّه تخويف منها. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ
الْمَبْثُوثِ) أي ذلك يكون حين ترى الناس متحيرين متفرقين كأنهم الفراش
المتفرّق ها هنا وها هنا (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي تصير الجبال كأنها الصوف المندوف (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في ذلك اليوم ، أي رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي أنه يصير إلى معيشة ذات رضا يرضاها صاحبها. (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن قلّت حسناته وكثرت سيئاته فرجحت (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي فمأواه النار يسكن فيها ، وقد سمّاها (فَأُمُّهُ) لأنه يأوي إليها كما يأوي الإنسان إلى حضن أمّه. (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) هذا تهويل لأمر جهنّم يراد به أنك لا تعلم تفصيل حال جهنّم
وما فيها من ألوان العذاب (نارٌ حامِيَةٌ) أي نار حارّة شديدة الحرارة.
سورة التكاثر
مكية ، عدد آياتها ٨ آيات
١ ـ ٨ ـ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ...) أي شغلكم تفاخركم وتكاثركم بالأموال والأولاد عن العمل
للآخرة (حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) يعني إلى أن متّم قبل أن تتوبوا وأنتم مثابرون على ذلك.
وقيل بل حتى زرتم المقابر وعددتم الأموات تتكاثرون بهم قبيلة مع قبيلة وعشيرة مع
عشيرة. (كَلَّا) أي ليس الأمر كما أنتم عليه من التكاثر بالمال والولد (سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قالها مكرّرة لتكون وعيدا بعد وعيد ، أي أنكم سترون عاقبة
تفاخركم هذا بالتأكيد ، إذا نزل الموت بساحتكم (كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لا ، وليتكم تعلمون هذا الأمر علما يقينيّا ، وإذن
لشغلكم علمكم به عن التباهي بالمال والرجال (لَتَرَوُنَ) هذا كأنّه قسم ، وهو يعني أن (الْجَحِيمَ) تبدو يوم القيامة للكفرة قبل دخولها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) بعد الدخول إليها (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي بالمشاهدة المؤكّدة (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يعني ستسألون ـ يا كفّار مكة ـ عن شكر ما كنتم فيه من
النعيم الذي هو من الله ثم عبدتم غيره وأشركتم به. وقيل النعيم المسؤول عنه هو
ولاية أهل البيت (ع).
سورة العصر
مكية ، عدد آياتها ٣ آيات
١ ـ ٣ ـ (وَالْعَصْرِ ...) العصر هنا العشي أي الطرف الأخير من النهار. وقد أقسم
سبحانه به لأنه يدل على إدبار النهار وإقبال الليل ، وذلك دليل على وحدانيّة
موجدهما ومقدّرهما (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) فهذا جواب القسم الذي تقدّم. ومعناه أن كلّ إنسان في خسر ،
أي في نقصان من عمره يوما بعد يوم وهو رأس ماله فإذا لم يقضه في الطاعة يكون قد
خسر رأسماله ذاك (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنه سبحانه استثناهم من جملة الناس لأنهم مصدّقون به
وبرسله وكتبه وملائكته ، عاملون بطاعاته ومنتهون عن معاصيه ، فليسوا في خسر كغيرهم
(وَتَواصَوْا
بِالْحَقِ) يعني وصّى بعضهم بعضا باتّباع الحق (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي بتحمّل الصّعاب والمشاق في الطاعات ، وبالصّبر على ترك
المعاصي والمحرّمات.
سورة الهمزة
مكية ، عدد آياتها ٩ آيات
١ ـ ٩ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ...) الهمزة هو كثير الطّعن على غيره بدون حقّ ، واللّمزة :
العائب للآخرين أيضا ، فالويل للطاعن في الناس بغير حقّ ، العائب لهم ، المفرّق
بينهم بالنّميمة (الَّذِي جَمَعَ مالاً
وَعَدَّدَهُ) أي كدّس المال عنده وأحصاه مرارا ، ويقال : معناه أعدّه
لآفات الزمان وادّخره من غير الحلال ومنع الحق الذي فيه عن المستحقّين من الفقراء
والمساكين. وقيل إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان كثير الغيبة
والأذى لرسول الله (ص) وقيل غيره. (يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ) يظنّ أن ما جمعه من ماله يجعله من الخالدين في الدنيا
ويحول بينه وبين الموت (كَلَّا) أي لا يكون ذلك (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) يعني ليطرحنّ ويقذفنّ في جهنّم ، التي تحطم العظام وتأكل
اللحوم. (وَما أَدْراكَ مَا
الْحُطَمَةُ؟) أي وما علمك يا محمد ، ويا أيها الإنسان ما شأن تلك الحطمة؟
(نارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ) أي المشعلة المؤجّجة بالوقود الهائجة اللهب (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي تعرف ما في القلوب ، وتشرف عليها فيبلغها ألمها الشديد (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مقفلة أبوابها على الكافرين لييأسوا من الخروج
منها. (فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ) يعني أطبقت عليهم وشدّت أبوابها بأوتاد وبأعمدة من نار
ممتدّة على مداخلها لإحكام إقفالها بحيث لا يدخل إليها روح ولا راحة من حرّها
وألمها.
سورة الفيل
مكية ، عدد آياتها ٥ آيات
١ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحابِ الْفِيلِ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله محمد (ص) يلفت نظره فيه إلى
الآية السماويّة العجيبة التي أمر بحلولها بأصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن
بقيادة ملكها أبرهة بن الصباح الأشرم المكنّى بأبي يكسوم الذي بنى (كعبة) باليمن
وجعل فيها قبابا من ذهب وأمر أهل مملكته بالحج إليها وأراد بذلك مضاهاة بيت الله
الحرام ، وأراد أن يدعو سائر العرب للحج إليها وأن يهجروا الكعبة المشرفة. ثم حلف
أن يهدم بيت الله في مكة حتى لا يحج إليه حاجّ أبدا. ثم دعا قومه وركب فيلا وسار
بهم نحو بيت الله فسمي ذلك العام بعام الفيل وفيه ولد رسول الله (ص). (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي
تَضْلِيلٍ) يعني ألم يجعل ربّك يا محمد مكرهم وكيدهم في تخريب البيت
وقتل أهله (وَأَرْسَلَ) بعث الله (عَلَيْهِمْ) على أصحاب الفيل (طَيْراً أَبابِيلَ) أي رفوفا وأسرابا يتبع بعضها بعضا ، قيل إنها كانت لها
خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب (تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) يعني تقذفهم بها ـ وقد فسّرنا السجّيل في سورة هود (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي تركتهم كالزرع اليابس وتبنه الذي أكلته الدواب وراثته
ثم ديس وتفرّق.
سورة قريش
مكية ، عدد آياتها ٤ آيات
١ ـ ٤ ـ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ...) الإيلاف عكس الإيحاش ، كالإيناس وسكون النفس إلى من تألفه.
وكلمة (لِإِيلافِ) جارّ ومجرور متعلّقان بالآية : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، التي في سورة الفيل السابقة. فقد فعل الله تعالى ذلك
بأصحاب الفيل من أجل لمّ شمل قريش والتأليف بينهم ، وهذه نعمة منّا عليهم تضاف إلى
نعمتنا التي تشملهم في رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام. (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أمر منه سبحانه بأن تكون عبادتهم موجهة لربّ الكعبة
المقدّسة التي حماها الله لهم بآية من آياته العجيبة على مرأى منهم ومسمع (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أطعمهم بما فتح عليهم من الأرزاق في رحلاتهم ، وآمنهم بأن
لم يتعرّض لهم أحد في أسفارهم إذا قالوا له : نحن أهل حرم الله.
سورة الماعون
مكية ، عدد آياتها ٧ آيات
١ ـ ٧ ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ ...) يعني هل نظرت فعلمت يا محمد هذا الكافر المنكر للتوحيد
والنّبوّة والبعث والجزاء فعن السدّي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وعن الكلبي
أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، بل قيل إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب الذي
كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله أن يعطيه شيئا فضربه بعصاه وطرده ،
ولذلك قال سبحانه : (فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف وجفوة ، وإهانة. (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يطعمه ولا يأمر بذلك غيره ولا يحثه عليه (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي الويل لمن يؤخّرون الصلاة عن وقتها ، أو هم الذين
أبطنوا النّفاق وكانوا لا يرون ثوابا للصلاة ولا يخافون العقاب على تركها ، وهم
يتغافلون عنها حتى يذهب وقتها لعدم اهتمامهم بها ، فإذا كانوا مع المؤمنين صلّوها
في وقتها رياء ، وإذا كانوا وحدهم أهملوها ولم يعتنوا بها (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) يفعلونها رياء أمام الناس (وَيَمْنَعُونَ
الْماعُونَ) الماعون لغة هو كلّ ما فيه منفعة ، وقد روي عن أبي عبد
الله (ع) أنه القرض تقرضه ، والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزكاة.
سورة الكوثر
مكية ، عدد آياتها ٣ آيات
١ ـ ٣ ـ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ...) الكوثر من الكثرة وهو يعني الخير الكثير ، والشيء الكثير.
وهذا خطاب منه سبحانه لنبيّه محمد (ص) أورد في مجال تعداد النّعم التي أنعم سبحانه
بها عليه. وقد قيل في الكوثر أنه نهر في الجنّة أعطاه الله تعالى لرسوله (ص) وهو
أشدّ بياضا من اللبن حافتاه قباب الدرّ والياقوت. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) أي اشكر ربّك على نعمه الجزيلة وصلّ صلاة العيد لأنه
عقّبها بنحر الأضحية والهدى. وقيل : يعني صلّ صلاة الغداة المفروضة بجمع ، وانحر
البدن بمنى. (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) أي : إن مبغضك يا رسول الله هو المنقطع عن الخير ، أو
منقطع النسل. وقيل إن الآية الكريمة نزلت في العاص بن وائل السهمي الذي التقى
برسول الله (ص) يخرج من المسجد عند باب بني سهم فحدثه قليلا على مرأى من جبابرة
قريش الذين كانوا يجلسون في المسجد ، فلما دخل العاص عليهم سألوه عمّن كان يتحدّث
معه ، فقال : ذلك الأبتر ـ أي الذي لا عقب له ولا ولد ـ.
سورة الكافرون
مكية ، عدد آياتها ٦ آيات
١ ـ ٦ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ... قُلْ) يا محمد : (يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) المنكرون لله ولرسوله (لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ) أي ولا أعبد أصنامكم التي تعبدونها. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهو الله عزوجل الآن وفي هذه الحال أيضا. (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ) فيما بعد اليوم وإلى الأبد (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل وفيما بعد اليوم. وقد أعلمه الله سبحانه أنهم
لا يؤمنون به لشدة عنادهم. (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) أي لكم كفركم الذي قنعتم به وسيوردكم موارد الهلاك ، ولي
دين التوحيد والإخلاص الذي به النجاة والفوز.
سورة النّصر
مدنية ، عدد آياتها ٣ آيات
١ ـ ٣ ـ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ...) أي إذا جاءك يا محمد نصر الله على من قاومك وعادى رسالتك ،
وهم القرشيّون وأشباههم. (وَالْفَتْحُ) أي فتح مكة الذي نعدك به قبل وقوعه. (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي رأيتهم يسلمون ويسلّمون لك جماعة بعد جماعة وفرقة بعد
فرقة (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي نزّهه عمّا لا يليق به من الصفات القبيحة ، واطلب رحمته
ومغفرته حين يوليك هذه النّعمة العظيمة مع ما له من نعم جسمية عليك ، واحمده
واشكره على ذلك (إِنَّهُ كانَ
تَوَّاباً) أي : إنه كان منذ كان ، يقبل التوبة ولو أذنب الإنسان وتاب
، ثم عاد للذنب وعاد للتوبة ، فإنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين متجاوزين عن
المذنبين.
سورة المسد
مكية ، عدد آياتها ٥ آيات
١ ـ ٥ ـ (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما
أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ ...) تبّت : من التّباب أو التّب وهو الخسران المؤدي للهلاك.
فالمعنى : خسرت يدا أبي لهب ، أي : خسر هو نفسه. وقد عبّر باليدين لأنهما يكون
العمل بهما. وقد خسر خسرانا أكيدا ولا ينال خيرا لأن مصيره إلى النار بتكذيبه
للنبيّ (ص) وما نفعه ولا دفع عنه عذاب الله ماله وما كسبه من حطام الدنيا. (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيدخل نارا ذات اشتعال واتّقاد شديد ، وهي نار جهنّم. (وَامْرَأَتُهُ) التي هي أم جميل
بنت حرب ، أخت أبي سفيان رأس الشّقاق والنّفاق ، فلا غرو أن تكون مثله ، وقد ذمّها
سبحانه بأن وصف كونها (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بسبب أنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله (ص)
إذا خرج إلى الصلاة ليعقر رجليه الشريفتين إلى جانب أنها كانت تمشي بين الناس
بالنميمة وتوقع بينهم الفتن وتبثّ الضغائن وتحتطب بذلك السيئات. (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي يكون في عنقها حبل كحبل الليف ولكنه من سلاسل النار
إذلالا لها وخزيا لصنيعها في دار الدنيا. وقد سمّيت هذه السلسلة مسدا لأنها تكون
ممسودة في عنقها ، أي مفتولة فتلا جيدا.
سورة الإخلاص
مكية ، عدد آياتها ٤ آيات
١ ـ ٤ ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ...) أي : قل يا محمد لجميع المكلفين : هو الله الذي تحق له
العبادة و (أَحَدٌ) أصله :
وحد ، وقد قلبت
الواو همزة. أما معنى الأحد فهو يختلف عن الواحد الذي يدخل في الحساب ويضمّ إليه
ثان وثالث إلخ ... فإن الأحد متفرّد عن الشّبه والمثل لا يدخل في الحساب ولا يكون
مجموعا لثان مثله. فكونه سبحانه أحدا يجعله متصفا بصفة لا يشاركه فيها أحد يجيز
تعداد أحديّته وإضافتها إلى غيره ممن يمكن أن يكون مثله. (اللهُ الصَّمَدُ) أي أنه السيد المعظّم الذي يصمد إليه في الحوائج ، أي أنه
المقصود. (لَمْ يَلِدْ) أي لم يخرج منه ولد (وَلَمْ يُولَدْ) يعني لم يتولّد ـ هو نفسه تعالى ـ من شيء آخر (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس كمثله شيء يكون عديلا له ونظيرا فيشاكله ويكون ندا
له.
سورة الفلق
مكية ، عدد آياتها ٥ آيات
١ ـ ٥ ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ...) هذا خطاب من الله سبحانه لنبيّه (ص) يأمره فيه بأن يستعيذ
برب (الْفَلَقِ) الذي هو الفرق الواسع لغة ، فاستعذ يا محمد واعتصم ،
وليستعذ كل واحد من أمّته وليعتصم ، بربّ الصبح الذي ينبلج ضياؤه فيبدّد الظّلمة
بقدرة خالقه ومطلعه (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي استعذ من شر الإنس والجن وسائر الحيوانات التي قد تؤذي.
(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ) يعني واستعذ من شرّ الليل الهاجم بما تستر ظلمته من كائنات
ضارّة موعد خروج السباع والهوامّ. وقد عبّر سبحانه عنه بالغاسق لهجومه شيئا فشيئا
والوقب : الدخول. (وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي من شر الساحرات اللواتي يقرأن وينفثن في عقد الخيط الذي
يرقينه ليتمّ السّحر. (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ) والحاسد هو الذي يتمنّى زوال النّعمة عن صاحبها وإن لم
يردها لنفسه ، فالحسد يؤدي إلى إيقاع الشر بالمحسود ، فأمر سبحانه بالتعوذ من شرّ
الحاسد ، وقيل من شرّ نفس الحاسد ، ومن شرّ عينه فإنه ربّما أصاب بهما فأضر.
سورة الناس
مكية ، عدد آياتها ٦ آيات
١ ـ ٦ ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ...) أي استعذ يا محمد بخالق الناس ومنشئهم ومدبّرهم (مَلِكِ النَّاسِ) يعني سيّدهم والقادر عليهم (إِلهِ النَّاسِ) الذي تحق العبادة له دون غيره. (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) فمعناه من شرّ الوسوسة الواقعة من الجن ، أو هو : من شر ذي
الوسواس الذي هو الشيطان الذي وصفه سبحانه بقوله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ) أي ينفث في قلوبهم كلاما خفيّا يصل مفهومه إليها من غير أن
يكون قول ومن غير أن يكون سماع. ثم ذكر أن الشيطان الموسوس قد يكون (مِنَ الْجِنَّةِ) الذي هم الشياطين (وَ) قد يكون من (النَّاسِ) فاستعذ من شرّ الإنس والجن.
|