

القسم الثاني
من إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج
المتم العشرين
هذا باب ما جاء في التنزيل من حذف المفعول والمفعولين ، وتقديم
المفعول الثاني على المفعول [الأول] وأحوال الأفعال المتعدية
إلى مفعوليها ، وغير ذلك مما يتعلق به
ونحن نذكر من ذلك
ما يدقّ النظر فيه ، لأن ذلك لو حاول إنسان أن يأتى بجميعه توالت عليه الفتوق ،
ولم يمكنه القيام به لكثرته فى التنزيل ، وكان بمنزلة من يستقى من بئر زمزم فيغلبه
الماء.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما يشعرون أنّ وبال ذلك راجع إليهم.
وكذلك : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يشعرون أنهم هم المفسدون ، (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
فأما قوله تعالى :
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فقيل : إن التقدير : كمثل الذي استوقد صاحبه نارا ، فحذف
المفعول الأول.
وقيل : إن «استوقد»
و «أوقد» كاستجاب ، وأجاب.
__________________
ومنه قوله تعالى :
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) . وجميع ما جاء من «لو شاء» كان مفعوله مدلول جواب «لو» ،
والتقدير : ولو شاء الله إذهاب السمع والبصر لذهب بسمعهم وأبصارهم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي : أضاء لهم البرق الطريق مشوا فيه.
ومنه قوله تعالى :
(لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أن : تتقون محارمه ، وقيل : بل قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً) مفعول «يتّقون» / و «الأرض» مفعول أول ل «جعل» ، و «فراشا»
مفعول ثان ، ومعنى «جعل» : صيّر.
وقد يجىء «جعل»
بمعنى : صنع ، وخلق ؛ فيكون متعديا إلى مفعول واحد ، قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) بمعنى : صنع ، وخلق. وقال الله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) .
وإذا كانت بمعنى «صيرت»
تعدّت إلى مفعولين ، لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، وهى فى هذا الوجه تنقسم على
ثلاثة أقسام : كما تنقسم «صيرت».
أحدها : بمعنى «سميّت»
، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي : صيروهم إناثا بالقول والتّسمية ، كما تقول : «جعل زيد
عمرا فاسقا». أي : صيره بالقول كذلك.
__________________
والوجه الثاني :
أن تكون على معنى : الظن والتخيل ، كقولك : اجعل الأمير غائبا وكلّمه ، أي : صيّره
فى نفسك كذلك.
والوجه الثالث :
أن تكون فى معنى النّقل ، فتقول : جعلت الطين خزفا أي : صيرته خزفا ونقلته عن حال
إلى حال.
قال الله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي : صيّره آمنا ، وانقله عن هذه الحال.
قال سيبويه : «وتقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض».
وله ثلاثة أوجه فى
النصب :
إن شئت جعلت «فوق»
فى موضع الحال ، كما فعلت ذلك فى «رأيت» ، [فى رؤية العين] وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه «رأيت زيدا وجهه أحسن من
وجه فلان» ، [تريد رؤية القلب] .
وإن شئت نصبت على
أنك إذا قلت : «جعلت متاعك» تدخله معنى «ألقيت» ، فيصير كأنك قلت : «ألقيت متاعك بعضه فوق
بعض».
وهذه الوجوه
الثلاثة يرجع وجهان منها إلى وجه واحد مما ذكرنا ، وهو أن يجعل «جعلت» متعديا إلى
مفعول واحد.
غير أن معنى
الوجهين اللذين ذكرهما مختلف ، وإن كانا مجتمعين فى التعدّى إلى مفعول واحد.
__________________
فأحد الوجهين هو
الأول الذي قال فيه : إن شئت جعلت «فوق» فى موضع الحال ، فيكون معناه : عملت الباب
مرتفعا ، أي : أصلحته ، وهو فى هذه «الحال».
والوجه الثاني من
هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه فى قوله : وإن شئت نصبته ، على أنك إذا
قلت : جعلت متاعك ، يدخله معنى : / ألقيت ، فيصير كأنك قلت : ألقيت متاعك بعضه فوق
بعض ؛ لأن «ألقيت» كقولك : أسقطت متاعك بعضه فوق بعض ، فيكون هذا متعديا إلى مفعول
، وهو منقول من : سقط متاعك بعضه فوق بعض.
فهو يوافق الوجه
الأول فى التعدي إلى مفعول واحد ، ويخالف فى غير ذلك ، لأنك لم تعمل «المتاع»
هاهنا لإصلاح شىء منه وتأثير فيه ، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه. و «فوق» فى
هذا كالمفعول إلا فى موضع الحال ، لأنه فى جملة الفعل الذي هو «ألقيت» ، لأنه
منقول من : سقط متاعك بعضه فوق بعض ، والسقوط وقع على «فوق» وعمل فيه ، على طريق
الظرف.
وفى المسألة
الأولى يعمل فيه «جعلت» ، وإنما عمل فيه الاستقرار ، وصار فى موضع الحال. وهذان
الوجهان كوجه واحد.
وقوله : وإن شئت
نصبته على ما نصبت عليه : رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان ؛ فتعدّيه إلى مفعولين
من جهة النّقل والعمل ، كما تقول : صيّرت الطين خزفا.
وإنما حملنا هذا
الوجه على هذا ، لأنه فى ذكر «جعلت» الذي فى معنى : عملت ، وأثّرت.
قال : والوجه الثالث
: أن تجعله مثل : ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض.
فهذا أحد وجوه «صيرت»
التي ذكرناها ، وهو الذي فى معنى التخيل ، والذي هو من طريق التّسمية يشبه هذا
الوجه ، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا .
فأما قوله تعالى :
(وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) ف «الخبيث» هو المفعول. و «بعضه» بدل منه. وقوله «على بعض»
ظرف ل «يجعل» ، كما تقول : يلقى الخبيث بعضه على بعض ، ومن هذا الباب قوله تعالى :
(أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وقوله : (أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ) .
قال : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) أي : أخبرهم عن ضيفه.
وقال : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما
قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي : يخبر به.
__________________
فلما كان «النبأ»
مثل «الخبر» كان «أنبأته عن كذا» ، بمنزلة «أخبرته عنه» ، «ونبّأته عنه» مثل «خبّرته
عنه» ، و «نبأته به» مثل «خبرته به».
وهذا يصحح ما ذهب
إليه سيبويه ، من أن معنى «نبّأت زيدا» : نبّأت عن زيد ، فحذف حرف الجر ، لأن «نبأت»
قد ثبت أن أصله «خبرت» / بالآى التي تلوناها ، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى
المفعول الثاني ، ف «نبّأت» يتعدى إلى مفعولين : أحدهما ، يصل إليه بحرف جر ، كما
أن «خبّرته عن زيد» كذلك.
فأما ما يتعدى إلى
ثلاثة مفعولين نحو : نبأت زيدا عمرا أبا فلان. فهو فى هذا الأصل إلا أنه حمل على
المعنى ، فعدّى إلى ثلاثة مفعولين.
وذلك أن الإنباء ،
الذي هو إخبار ، إعلام ، فلما كان إياه فى المعنى ، عدّى إلى ثلاثة مفعولين كما
عدّى الإعلام إليها.
ودخول هذا المعنى
فيه ، وحصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار ، وعن أن
يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما : يتعدى إليه بالباء أو ب «عن» نحو : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) ونحو قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ) .
كما أن دخول «أخبرنى»
فى : «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين ، كما كان يتعدى إليهما إذا لم
يدخله معنى «أخبرنى به» ، إلا أنه امتنع من أجل
__________________
ذلك أن يرفع
المفعول بعده على الحمل على المعنى ، من أجل دخوله فى حيّر الاستفهام ، فلم يجز : «أرأيت
زيدا أبو من هو» كما جاز : «علمت زيدا أبو من هو» حيث كان المعنى : علمت أبو من
زيد ، وذلك دخول معنى الإعلام فى الإنباء ، والتنبؤ لم يخرجهما عن أصليهما
وتعدّيهما إلى مفعولين ، أحدهما يصل إليه الفعل بحرف الجر ، ثم يتّسع فيه فيحذف
حرف الجر ، ويصل الفعل إلى الثاني.
فأما من قال : إن
الأصل فى «نبأت» على خلاف ما ذكرنا ، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة.
وأما قوله تعالى :
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . فيحمل على وجهين :
أحدهما : أن يكون (نَبِّئْ) بمنزلة «أعلم» ، ويكون (أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قد سدّ مسدّهما.
فيكون فى هذه ، فى
قول الخليل على هذا ، فى موضع جر ، وعلى قول غيره ، فى موضع نصب.
فأما قوله تعالى :
(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، فإن جعلت «اللام» متعلّقة «بأنبئكم» ، جاز الجر ، فى «جنات»
على البدل من «خير» ؛ وإن جعلته صفة «خير» لأنه نكرة ، جاز الجر فى «جنات» أيضا.
__________________
وإن جعلتها متعلقة
بمحذوف لم يجز الجر فى «جنّات» / وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف ، ولم يجز غير
ذلك ، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شىء يكون خبرا عنها.
فأما قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ
أَخْبارِكُمْ) فلا يجوز أن يكون «من» فيه زيادة ، على ما يتأوله أبو
الحسن من زيادة «من» فى الواجب ، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث.
ألا ترى أنه لا
خلاف فى أنه إذا تعدّى إلى الثاني ، وجب تعدّيه إلى المفعول الثالث. وإن قدرت
تعدّيه إلى مفعول محذوف ، كما تأول قوله تعالى : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) أي : شيئا ما ، لزم تعديته إلى آخر ، فإن جعلت «من» زيادة
أمكن أن تضمر مفعولا ثانيا ، كأنه : نبأنا الله أخباركم مشروحة.
ويجوز أن تجعل «من»
ظرفا غير مستقر ، وتضمر المفعول الثاني والثالث ، كأنه : نبأنا الله من أخباركم ما
كنتم تسرونه تبيينا ، كما أضمرت فى قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : تزعمونهم إياهم.
وأما قوله تعالى :
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ) فيكون «يستنبئونك» : يستخبرونك فيقولون أحق هو؟.
ويكون «يستنبئونك»
: يستعلمونك ، والاستفهام قد سد مسد المفعولين.
__________________
ومما يتجه على
معنى الإخبار دون الإعلام قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ) فالمعنى : يخبركم فيقول لكم : إذا مزقتم ، وليس على
الإعلام. ألا ترى أنهم قالوا : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) .
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي : تكتمونه. (إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي : أبى السّجود واستكبر عنه.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ) أي : اتخذتموه إلها.
وكذلك : (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي : باتخاذكم إياه إلها.
فخذف المفعول
الثاني ، لا بد من إضماره ، لأنهم عوتبوا بذلك ، ولا يعاتب أحد باتخاذ صورة العجل.
فإن قال قائل :
فقد جاء فى الحديث : «يعذّب المصورون يوم القيامة» .
وفى بعض الحديث :
يقال لهم : «أحيوا ما خلقتم» ، قيل : «يعذب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير
الأجسام.
وأما الزيادة من
أخبار الآحاد ، التي لا توجب العلم ، فلا يقدح فى الإجماع ما ذكر الله.
وأما «اتّخذت»
فإنه فى التعدّى ، على ضربين :
أحدهما : / أن
يتعدى إلى مفعول واحد.
والثاني : أن
يتعدى إلى مفعولين.
__________________
فأما تعدّيه إلى
مفعول واحد ، فنحو قوله : (يا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)، و (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ) ، و (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً) و (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً
لَاتَّخَذْناهُ) .
وأما إذا تعدى إلى
مفعولين ، فإن الثاني منهما الأول فى المعنى ، قال : (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، وقال : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، [وقال] : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا) .
وأما قوله تعالى :
(وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فإن من أجاز زيادة «من» فى الإيجاب جاز على قوله أن يكون
قد تعدّى إلى مفعولين ، ومن لم يجز ذلك كان عنده متعديا إلى مفعول واحد.
ومن حذف المفعول قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي : أنعمتها عليكم ، فحذف ؛ [و] قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي : ثوابا وكرامة ؛ لأن «زدت» فعل يتعدى إلى مفعولين ،
قال الله تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) ، وقال : (زِدْناهُمْ عَذاباً
فَوْقَ الْعَذابِ) ، وقال : (وَزادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
فأما قوله تعالى :
(فَزادَهُمْ إِيماناً) فالمعنى : زادهم قول الناس إيمانا ، أضمر المصدر فى الفعل
، وأسند الفعل إليه.
__________________
وكذلك قوله تعالى
: (فَلَمَّا جاءَهُمْ
نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي : مازادهم مجىء النذير.
وقال : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما
زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) أي : ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلا إيمانا.
وأما قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً) أي : ما زادوكم قوة ونصرة إلا خبالا ، فحذف المفعول
الثاني.
وليس انتصاب «خبالا»
كانتصاب «إيمانا» لقوله : (وَما زادَهُمْ إِلَّا
إِيماناً) لكن على الاستثناء ، أي : يوقعون خبالا وفسادا.
هذا هو الصحيح فى
هذه الاية ، وأظننى نقلت عن بعضهم غير هذا فى هذه الأجزاء.
وقوله تعالى : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي : لأوضعوا بينكم ركائبهم عن أبى الهيثم. وقال أبو إسحاق
: لأوضعوا فيما يحل بكم.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى /
مُوسى لِقَوْمِهِ) أي : استسقى ربه ، وكذلك : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ، التقدير : يخرج لنا شيئا مما تنبت الأرض ، فالمفعول مضمر
، وقوله : (مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ) فى موضع الوصف له ، أي : شيئا مما تنبت الأرض.
__________________
وهذه مسألة عرضت ،
فنقول فيها : إن «من» لا تزاد فى الواجب عندنا. وقال الأخفش : تجوز زيادتها فى
الواجب ، كما جازت زيادتها فى النفي ، وكما جاز : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) ، و (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) ، و (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ) ، بالاتفاق ، فكذا فى الواجب ، والتقدير عنده : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ) ، وكذا : (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) .
وسيبويه يحمل هذا
ونظائره فى التنزيل على حذف الموصوف ، الذي هو المفعول ، وإقامة الصفة مقامه.
فأما قوله تعالى :
(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ
نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ، فإن التقدير : ولقد جاءك شىء من نبإ المرسلين.
وجاز إضمار «شىء»
وإن كان فاعلا ، لأن الفعل لا بد له من الفاعل ، وقد تقدم هذا.
فأما قوله : (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ، فمن خفّف ، كان «ما» بمنزلة «الذي» ، وفيه ذكر مرفوع
يعود إلى «ما».
__________________
ولا يجوز فيمن
خفّف ، أن يجعل «ما» بمنزلة المصدر مع الفعل ، لأن الفعل يبقى بلا فاعل.
ولهذا المعنى ،
حملنا قراءة أبى جعفر : (حافظات للغيب بما حفظ الله) بالنصب ، على أن «ما» بمعنى «الذي» ، أي : بالشيء الذي حفظ
أمر الله.
فلا تكون «ما»
مصدرية ، كما ذهب إليه عثمان فى «المحتسب» ، لأنه يبقى «حفظ» بلا فاعل.
ولا يجوز فيمن
جوّز زيادة «من» فى الإيجاب ، أن يكون «الحق» مع الجار فى موضع الحال ، وقد جعلت «ما»
بمنزلة «الذي» لأنه لا يعود إلى الموصول شىء.
ومن شدّد ، كان
الضمير الذي فى «نزّل» لاسم الله تعالى ، والعائد محذوف من الصلة.
فأما دخول الجارّ
، فلأن «ما» لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول «من» معه ، كما دخلت فى قوله :
فما يك من خير أتوه
فأما قوله تعالى :
(وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) ، / فإن أبا الحسن ذكر أن التقدير : وينزّل من السماء
جبالا فيها بردا .
__________________
قال : وقال بعضهم
: ينزّل من السماء من جبال فيها من برد. أي : فى السماء جبال من برد. يريد به أن
يجعل الجبال من برد فى السماء ، ويجعل الإنزال منها.
قال أبو على : قلت
أنا فى هذه الآية ، قبل أن أعرف هذا القول لأبى الحسن : إن قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ) .
المعنى : وينزل من
السماء جبالا فيها من برد. فموضع «من» الأولى نصب ، على أنه ظرف ، والثانية : نصب
على أنه فى موضع المفعول. و «فيها» صفة ل «جبال» ، و «من» الثالثة للتبيين ، كأنه
بيّن من أي شىء هذا المكثّر ، كما تقول : عندى جبال من المال ، فيكثّر ما عنده منه
، ثم تبيّن المكثّر بقولك : من المال.
ويحتمل أن يكون
موضع «من» من قوله «من جبال» نصبا على الظرف على أنه منزّل منه. ويكون «من برد»
نصبا ، أي : وينزل من السماء من جبال فيها بردا . ويكون «الجبال» على هذا التأويل ، تعظيما لما ينزّل من
البرد من السحاب.
ويحتمل أن يكون
موضع «من» فى قوله : «من برد» رفعا ، وموضع «من» من قوله «من جبال» نصبا على أنه
مفعول به ، كأنه فى التقدير :
__________________
وينزّل من السماء
جبالا فيها برد. فيكون «الجبال» على هذا تعظيما وتكثيرا. لما ينزل من السماء من
البرد والمطر ، ويكون «من برد» مرفوع للموصوف ، لصيرورة موضع قوله «من برد» رفعا.
قال : وقد جعلنا «من»
فى بعض هذه التأويلات زائدة في الإيجاب ، وذلك مذهب أبى الحسن والكسائي.
وحكى أبو الحسن
أنهم يقولون : «قد كان من مطر» و «كان من حديث». يريدون : كان مطر ، وكان حديث.
ولم يجز سيبويه
هذا فقال : ولا يفعلون هذا «بمن» فى الواجب. يريد أن «من» لا تزاد كما زيدت «الباء»
فى «كفى بالله» و «ليس بزيد».
وحمل أبو الحسن
قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) على هذا. وقال : المعنى : فكلوا ما أمسكن عليكم.
وإذا ثبت رأى ثقة
بما لا يدفعه قياس لزم قبوله واستعماله ، ولم يجب دفعه.
وجعل أبو الحسن «من»
زائدة في التأويل الأول / الذي ذكره. ٧٠ ش
__________________
قال : أما أنا
فجعلت «من» الثانية في التأويل الأول زائدة منصوبة الموضع ، على أنه مفعول به ،
والثالثة للتّبيين ؛ وجعلت الثانية في التأويل الثاني زائدة نصبا على الظرف ،
والثالثة أيضا زائدة في موضع نصب ؛ وجعلت الثانية فى التأويل الثالث زائدة نصبا
على المفعول ، والثالثة أيضا زائدة رفعا ، على أنه مرتفع بالظرف ؛ وجعلت «من»
الأولى في الآية ، فى التأويلات الثلاث ، نصبا على الظرف.
وأما أبو الحسن :
فجعل «من» الثانية والثالثة في الآية في التأويل الأول زائدة.
فأما موضعهما من
الإعراب ، فالأولى نصب على أنه مفعول به ، وهي الثانية من الآية. وموضع «من»
الثالثة في الآية رفع بالظرف ، وهذا هو التأويل الثالث ، الذي ذكرناه نحن.
فأما القول الثاني
: الذي ذكره في الآية «فمن» الثانية في الآية نصب بالظرف ، والثالثة للتبيين من «الجبال»
، فكأنه على هذا التأويل ذكر الموضع الذي ينزل منه ، لم يذكر المنزل للدلالة عليه.
ولا أدرى ما صحة
هذا الوجه الذي ذكره ـ أعنى أبا إسحاق ـ عن بعضهم في التأويل.
وأما قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فقد قالوا : إن التّقدير : كلوا طيبات المنّ والسّلوى بدل «طيبات
ما رزقناكم» ، وفوّتّموها أنفسكم بجنايتكم التي لأجلها جعلتم تتيهون في الفلوات
أربعين سنة.
يدل على جواز هذا
المعنى أنه قال : (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فجمع «الطّيب» ، ثم جعل الطّيبات بعض ما رزقوه ، وهذا يفهم
منه أنهم رزقوا أرزاقا ، منها الطيبات ، ومنها الخبيثات ، فأمروا بأكل الطيبات
منها دون الخبيثات.
وليس هناك كل هذا
، وإنما هناك المنّ والسّلوى فقط ، لم يكن لهم طعام غيرهما ، ولأنهم اشتاقوا من
المن والسلوى إلى البقل والقثّاء ، فأى استطابة لهما مع ذا؟
فثبت : أنه مغنى
من «طيبات» ، أي بدلها ، لا من هذه الطيبات.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللهِ) ، (فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) ، (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ / ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا) ، ٧١ ى (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) .
هذا كله على مذهب
سيبويه ، المفعول محذوف. وعلى مذهب الأخفش «من» زيادة.
__________________
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً
فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ، أي : ما سألتموه بينكم ، فحذف المفعولين. و «سألت» فعل
يتعدى إلى مفعولين ، مثل «أعطيت».
ويجوز أن يقتصر
فيه على مفعول واحد ، فإذا اقتصر فيه في التعدي إلى مفعول واحد ، كان على ضربين :
أحدهما : أن
يتعدّى بغير حرف ، والآخر : أن يتعدّى بحرف.
فأما تعدّيه بغير
حرف فقوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما
أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) ، وقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) .
وأما تعدّيه بحرف
، فالحرف الذي يتعدّى به حرفان :
أحدهما : «الباء»
كقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ) والآخر : «عن» كقولك : سل عن زيد.
فإذا تعدى إلى
مفعولين كان على ثلاثة أضرب :
أحدها : أن يكون
بمنزلة «أعطيت» ، وذلك كقوله :
سألت زيدا بعد بكر حقّنا
بمعنى : استعطيته
هذا ، أي : سألته أن يفعل ذلك.
والآخر : أن يكون
بمنزلة : اخترت الرجال زيدا ، (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً). فالمعنى هاهنا : ولا يسأل حميم عن حميمه ، لذهوله عنه ،
واشتغاله بنفسه ،
__________________
كما قال الله
تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فهذا على هذه القراءة ، كقوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) .
والثالث : أن
يتعدى إلى مفعولين ، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام ، وذلك كقوله تعالى :
(سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ؛
وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) .
فأما قول الأخطل :
و اسأل بمصقلة البكرىّ ما فعلا
«فما» استفهام ،
وموضعه نصب «بفعل» ، ولا يكون «ما» جرّا على البدل من «مصقلة» على تقدير : سل بفعل
مصقلة ، ولكن بجعله مثل الآيتين اللتين تلوناهما.
وإن شئت جعلته
بدلا ، فكان بمنزلة قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) .
ولو جعلت المفعول
مرادا محذوفا من قوله : «واسأل بمصقلة» ، فأردت : واسأل الناس بمصقلة ما فعل ، لم
يسهل أن يكون «ما» استفهاما ، ٧١ ش لأنه لا يتصل بالفعل.
__________________
ألا ترى أنه قد
استوفى مفعوليه ، فلا تقع الجملة التي هي استفهام موقع أحدهما.
كما تقع موقعه في
قوله تعالى : (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) .
فإن جعلت «ما»
موصولة وقدّرت فيها البدل من «مصقلة» لم يمتنع.
وإن قلت : أجعل
قوله «ما فعل» استفهاما؟ وأضمر «قل» لأنى إذا قلت : أسأل الناس بمصقلة ، فإنه يدل
على «قل» لأن السؤال قول ، فأحمله على هذا الفعل ، لا على أنه في موضع المفعول ،
لاستغناء الفعل بمفعوليه ، فهو قوله ، يدل على ذلك قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها) .
ألا ترى أنه قد
استوفى مفعوليه؟ أحدهما الكاف ، والآخر قد تعدى إليه الفعل ب «عن» ، فلا يتعلق به «أيان»
إلا على الحد الذي ذكرناه ، وهو أن نقدر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ) ، قائلين : أيان مرساها؟
وأما قوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ، فكأن المعنى : سأل سائل النبىّصلىاللهعليهوآله والمسلمين بعذاب واقع ، فلم يذكر المفعول الأول.
وسؤالهم عن العذاب
، إنما هو استعجالهم له ، لاستبعادهم لوقوعه ، ولردّهم ما يوعدون به منه.
__________________
وعلى هذا ، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ
يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، (يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) .
ويدلك على ذلك
قوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً)
وأما قوله تعالى :
(يَسْئَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ) ، فإنه يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يجعل «عنها»
متعلقا بالسؤال ، كأنه : يسألونك عنها كأنك حفىّ بها ، فحذف الجار والمجرور.
وحسن ذلك لطول
الكلام ب «عنها» التي من صلة السؤال.
ويجوز : أن يكون «عنها»
بمنزلة «بها» وتصل الحفاوة مرة بالباء ، ومرة «بعن» كما أن السؤال فصل مرة بالباء
ومرة «بعن» ، فيما ذكرنا.
ويدلك على تعدّيه
بالباء قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا) .
وقال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ / خَبِيراً) . ٧٢ ى
فقوله : «فاسأل به»
مثل : سل عنه خبيرا.
__________________
فأما «خبيرا» فلا
يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال أو مفعول به ، فإن كان حالا لم يخل أن يكون
حالا من الفاعل أو من المفعول ، ولو جعلته حالا من الفاعل السائل لم يسهل ، لأن
الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل.
ولا يسهل الحال
أيضا من المفعول ، لأن المسئول عنه خبير به ، فليس للحال كبير فائدة.
فإن قلت : يكون
حالا مؤكّدة ، فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى ، فيكون «خبيرا» إذن مفعولا به ،
كأنه : فاسأل عنه خبيرا ، أي : مسئولا خبيرا.
وكأن معنى «اسأل»
: تبيّن بسؤالك وبحثك من تستخبر ، ليتقرر عندك مما اقتصّ عليك ، من خلقه ما خلق ،
وقدرته على ذلك ، وتعلمه بالفحص عنه ، والتّبيّن له.
ويجوز في قوله : «فاسأل
به» أي : اسأل بالله خبيرا ، أي : اسأل الله خبيرا ، كما قال :
.... منه النّوفل الزّفر
وسنعيد ذا لك إن
شاء الله.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (فَافْعَلُوا ما
تُؤْمَرُونَ) أي :
تؤمرونه ، أي ،
تؤمرون به.
وقال : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) .
__________________
وقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) . فإذا كانت «ما» خبرية ، كان على هذا الوجه ؛ وإذا كانت
مصدرية ، لم يحتج إلى الضمير.
(وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) أي : ذبح البقرة ، (مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) أي تكتمونه.
وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللهِ) . قال أبو على فى «التذكرة» :
المعنى ـ والله
أعلم ـ : ما يهبط رائيه ، أو متأمله ، أو المعتبر به ، أي إذا رآها فتأمل ما فيها
، هبط المتأمل له ، والمعتبر به من أجل خشية الله ، لأن ذلك يكسبه خشوعا واتباعا ،
ويزيل عنه العناد ، وترك الانقياد للحق الذي علمه ، فلما حدث ذلك بتأمل الحجر نسب
إليه. و «هبط» متعدّ على هذا ، وحذف المفعول ، كقول لبيد :
إن يغبطوا
يهبطوا وإن أمروا
|
|
يوما فهم للفناء
والنّفد
|
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (بِما فَتَحَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) أي : فتحه الله.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي : يسرونه ويعلنونه ، إذا جعلت «ما» / خبرا ، وإذا جعلته
استفهاما لم تقدّر شيئا ، وكان مفعولا. ٧٢ ش (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) أي : يظنون ما هو نافع لهم ، فحذف المفعولين ، وحذفهما
جائز.
__________________
فأما قوله تعالى :
(وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) . فمن وقف على «ظنّوا» كان من هذا الباب ، أي : ظنوا ما
كانوا عليه في الدنيا منجيّا لهم ، ومن جعله مما يتلقى به القسم ، جعل قوله : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) جوابا للقسم ، فيتلقى بما يتلقى به القسم ، نحو : (أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ) إذ لم يذكر «للظن» مفعولاه ، فالأحسن أن يجعل بمنزلة
القسم.
قال أبو عمر :
يقبح الاقتصار على «علمت» و «ظننت» ، وألا يتعدى إلى مفعولين ، وإن لم يقبح ذلك في
باب «علمت» ، فإن هذا عندى كما قال ، وذلك لأنه لا يخلو مخاطبك ، من أن يعلم
أنك تعلم شيئا وتظن آخر ، فإذا كان كذلك ، صار كالابتداء بالنكرة ، نحو : «رجل
منطلق» و «قام رجل» وليس كذلك قولك : «أعطيت» ولا «أعلمت» ، لأن ذلك مما قد يجوز
أن لا تفعله ، فلذلك حسن هذا وامتنع ذاك.
وأما قوله تعالى :
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) فمن قرأ بالياء ، ف «الذين» هم الفاعلون ، و «أن» مع اسمه
وخبره بدل من «الذين كفروا». قالوا : وهذا يوجب نصب قوله (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) وليس كذلك ، لأن ذلك إنما يكون إذا جعلت «أن» باسمه هو
البدل دون خبره.
__________________
وكذلك القول في
قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) من قرأ بالتاء كان المفعول الأول : المضاف المحذوف ، أي :
لا تحسبن بخل الباخلين هو خيرا لهم. ومن قرأ بالياء كان التقدير : ولا يحسبن الذين
يبخلون البخل خيرا ؛ فيكون «هو خيرا لهم» كناية عن البخل.
وأما قوله تعالى :
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) ، فمن قرأ بالياء كان «الذين يفرحون» هم الفاعلون. ولم
يذكر له مفعولين ، لأن قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) يدل عليه ، ويكون الضمير في «يحسبنّ» يعود إلى «الّذين» أي
: لا يحسبن أنفسهم بمفازة ، فهذا فيمن قرأهما بالياء.
وأما من قرأ
بالتاء ، فإنه جعل [الّذين] / مفعولا أول ، والمفعول الثاني قوله : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ).
ويكون قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تكرارا للأوّل ، وتكون الفاء زيادة فى الوجوه كلها ، إذ لا
وجه للعطف ، ولا للجزاء.
__________________
وإذا أخذ الرجل في
الكلام طالبا منك باب التكرار ، فاقرأ عليه ما أثبته لك هنا.
وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ ... فَلَمَّا جاءَهُمْ) فهذا تكرير للأولى.
ألا ترى : أنا لا
نعلم «لمّا» جاء جوابها بالفاء في موضع ، فإذا كان كذا ، ثبت أنه تكرير.
ومما يكون كذلك
أيضا : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) . ثم قال : (رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ) .
وقال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) . بعد قوله : (كَمِشْكاةٍ فِيها
مِصْباحٌ) فكرّر «فى».
وقال عزّ من قائل
: (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) فكرّر «فى».
قال أبو بكر : فى
آيات في سورة «الجاثية» إنها تكرار ، وعند الجرمي أن قوله : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً
بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ) إلى قوله (أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ)
__________________
أنه تكرار ، وقال
: (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) إلى قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) فيكون هذا كله تكرارا.
وأما قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا) ، فمن قرأ بالتاء ، فلا إشكال فيه ، لأن «الذين كفروا» مفعول أول
، و «سبقوا» مفعول ثان.
ومن قرأ بالياء ،
فيجوز أن يكون التقدير : ولا يحسبن الكافرون أن سبقوا ، فحذف «أن» ويكون «أن سبقوا»
قد سد مسد المفعول الأول.
ويجوز أن يكون فى «ولا
يحسبن» ضمير الإنسان ، أي : لا يحسبن الإنسان الكافرين السابقين.
وأما قوله تعالى :
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فمن قرأ «بالتاء» فلا إشكال فيه. ، ويكون «الذين كفروا» مفعولا
أول ، ويكون «معجزين» مفعولا ثانيا.
ومن قرأ بالياء ،
كان فى «لا يحسبن» ضمير الإنسان ، أو يكون التقدير : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم
معجزين ، فحذف «أنفسهم».
وأما قوله : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ
يَرى) ، ف «يرى» هذه هي التي تعدّى إلى مفعولين ، لأن «علم الغيب»
لا يوجبه الحس ، حتى إذا علمه أحسّ شيئا.
__________________
وإنما المعنى : أعنده
علم الغيب فهو يعلم الغيب كما / يشهده ، لأن من حصل له علم الغيب ، يعلم الغيب كما
يعلم ما يشاهد ، والتقدير : فهو يرى علم الغيب مثل المشاهدة ، فحذفهما للدلالة
عليه ، قال :
ترى حبّها عارا علىّ وتحسب
وأما قوله تعالى :
(وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرى) يجوز أن يكون من «الرؤية» التي هي حس ، والضمير فى «يرى»
هو للسعى ، فيكون على هذا كقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) ألا ترى أن سعيه إنما هو حركات كما أن عمله كذلك.
وقد يجوز أن يكون «يرى»
يفعل ، من «رأيت» المتعدية إلى مفعولين ، وذلك أن «سعيه» إن كان حركات ونحوها مما
يرى ، فقد يكون اعتقادات لا ترى ، وإذا كان كذلك ، حملته على المتعدية إلى مفعولين
، لأن كل محسوس معلوم ، وإن لم يكن كل معلوم محسوسا ، فحمله على المتعدية إلى
مفعولين أولى.
والموضع الذي يعلم ذلك منه قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما
أَسْلَفَتْ) ، ، والذي أسلفته يكون اعتقادا غير مرئى ، وأعمالنا مرئية.
__________________
ويعلم من قوله : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) .
وقوله تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) فيكون التقدير على هذا : وأن سعيه سوف يرى محصى ، لقوله : «إلا
أحصاها» ؛ أو محصلا أو مجزيا ، ويكون المبتدأ والخبر ، قبل دخول «رأيت» : سعيك
يحصى ، أو يحصل ، أو مجزى عمله ، فحذف المفعول الثاني ، إذا بنيت الفعل للمفعول ،
لدلالة قوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ
الْجَزاءَ الْأَوْفى) .
والاقتضاء الأول
المقام مقام الفاعل ، كما حذف من قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وحذف المفعول.
وقال : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ) وهو يستدعى مفعولين ، والمعنى : ثم يجزى مثل سعيه ، إن
خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
وكذلك : (كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) .
وإن شئت جعلت
المضاف المحذوف «الجزاء» فقلت : المعنى : ثم يجزى الإنسان جزاء سعيه ، وترى كل نفس
جزاء ما كسبت ، على أن يخرج الجزاء من أن يكون مصدرا ، كما أخرج «الصيد» و «الخلق»
عن ذلك ، فيصير في موضع المفعول ، فإذا لم يخرج المفعول عن المصدر لم يجز ، لأنك
حينئذ قد عدّيت / الفعل ٧٤ ى إلى مصدرين ، ولا يتعدى إلى مصدرين ، كما لا يتعدى
إلى حالين.
__________________
قال أبو إسحاق :
جائز أن يقرأ : (سَوْفَ يُرى) والأجود أن يقرأ : «يرى» لأن قولك : إن زيدا سوف أكرمه ، فيه ضعف ؛ لأن «إن» عاملة
، و «أكرم» عاملة ، فلا يجوز أن ينتصب الاسم من جهتين ، ولكنه يجوز على إضمار
الهاء ، على معنى : سوف يراه ، فلا يجوز في الكلام أن يقول : إن زيدا سأكرمه.
قال أبو على : أما
جواز هذا على إضمار الهاء فى «سوف يراه» ، فلا يجوز فى الكلام ، وإنما يجوز في
الشعر ، كذلك يجيزه أصحابنا في الشعر قياسا على قوله :
... كلّه لم أصنع
وأجازوا على هذا
الشعر : زيدا اضرب ، يريد : اضربه.
ومنع غيرهم من هذا
فقال : لا أجيزه فى «زيد» ونحوه ، وإنما أجيزه فى «كل» ، لأن فيه معنى الجحد.
وأما إجازته في
التنزيل فلا ينبغى أن يجيزه أحد.
__________________
وأما إضمار الهاء
فى «إن» فمثل الأول ، فى أنه لا يجوز في الكلام ؛ وإنما يجوز في ضرورة الشعر ،
كالأبيات التي أنشدها فى «الكتاب» نحو قوله :
إنّ من لام ...
و
إنّ من يدخل الكنيسة ...
ومن ذلك قوله
تعالى : (رَبُّنا يَعْلَمُ
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فمفعول «يعلم» مضمر ، والتقدير : قالت الرسل للمرسل إليهم
: ربنا يعلم لم أرسلنا إليكم؟ لأن هذا جواب قولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) يعنون كيف تكونون رسلا وأنتم بشر مثلنا ، فقالوا : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ) ، استئناف الكلام ، وليس كسر «إنّ» لمكان اللام بل كسرها لأنه مبتدأ.
فأما قوله تعالى :
(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) ، فمن فتح التاء فقال : «ماذا ترى» كان مفعول «ترى» أحد
شيئين ، أحدهما : أن يكون «ماذا» بمنزلة «الّذى» فيكون مفعول «ترى» الهاء المحذوفة
من الصلة ، ويكون «ترى» على هذا التي معناها الرأى ، وليس إدراك الجارحة ، كما
تقول : فلان يرى رأى أبى حنيفة.
ومن هذا قوله
تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) .
__________________
(الكتاب
١ : ٤٣٩).
فلا يخلو «أراك»
من أن يكون نقلها بالهمزة من التي هى «رأيت» رؤية البصر ، ٧٤ ش / أو «رأيت» التي
تتعدى إلى مفعولين ، أو «رأيت» التي بمعنى الرأى ، الذي هو الاعتقاد والمذهب ، فلا
يجوز أن تكون من الرؤية التي معناها : أبصرت بعيني ، لأن الحكم في الحوادث بين
الناس ليس مما يدرك بالبصر ، فلا يجوز أن يكون هذا القسم ، ولا يجوز أن يكون من «رأيت»
التي تتعدى إلى مفعولين ، لأنه كان يلزم بالنقل بالهمزة أن يتعدى إلى ثلاثة
مفعولين ، وفي تعدّيه إلى مفعولين ـ أحدهما الكاف التي للخطاب ، والآخر المفعول
المقدّر حذفه من الصلة ، تقديره : بما أراكه الله ، ولا مفعول ثالث في الكلام ـ دلالة
على أنه من «رأيت» التي معناها الاعتقاد والرأى ، وهي تتعدى إلى مفعول واحد ، وإذا
نقل بالهمزة تعدّى إلى مفعولين ، كما جاء في قوله تعالى : (بِما أَراكَ اللهُ) .
فإذا جعلت قوله «ذا»
من قوله : (ما ذا تَرى) بمنزلة «الذي» ، صار تقديره. ما الذي تراه؟ فيصير «ما» فى
موضع ابتداء ، و «الذي» فى موضع خبره ، ويكون المعنى : ما الذي نذهب إليه فيما
ألقيت إليك ، هل تستسلم له وتتلقاه بالقبول ، أو تأتى غير ذلك؟
فهذا وجه قول من
قال : «ماذا ترى» بفتح التاء.
وقرئ : «ماذا ترى»
بضم التاء وكسر الراء ، فإنه يجوز أن يكون «ما» مع «ذا» بمنزلة اسم واحد ، فيكونا
في موضع نصب ، والمعنى : أجلدا ترى على ما تحمل عليه أم خورا؟
ويجوز أن تجعل «ما»
مبتدأة و «ذا» بمنزلة أحد ، ويعود إليه الذكر المحذوف ، من الصلة ، والفعل منقول
من : رأى زيد الشيء ، وأريته الشيء ؛
__________________
إلا أنه من باب
أعطيت ، فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين دون الآخر ، كما أن «أعطيت» كذلك ، ولو
ذكرت المفعول ، كان : أرأيت زيدا جلدا ، فيكون التقدير في الآية : ماذا ترينيه؟.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : تزعمونهم إياهم ، فالمفعولان محذوفان ، لأنك إذا
أظهرت العائد إلى «الذين» كان مفعولا أول ، فيقتضى مفعولا ثانيا.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) والتقدير : ننسكها ، أي : نأمرك بتركها ، أو بنسيانها ،
فالمفعول الأول محذوف ، ٧٥ ى (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها) أي : نأتك بخير منها.
وأما قوله تعالى :
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ينبغى أن تكون هذه من رؤية العين ، لأنه اقتصر فيه على
مفعول واحد ، كأنه : أأبصرت؟ أو شاهدت؟ وهذا لا يسوغ أن يقع بعده الاستفهام ، لأنه
إنما يقع بعد الأفعال التي تلغى ، فيعلق عنها.
وأما «أرأيت» الذي
بمنزلة العلم ، فإنها تكون على ضربين :
أحدهما : أن تتعدى
إلى مفعول ، ويقع الاستفهام في موضع خبره ، كأنه قبل دخول «أرأيت» مبتدأ ، وخبره
الاستفهام ، وعلى هذا الآي التي تلوها.
والثاني : أن يقع
الاستفهام في موضع المفعول ، فيعلق عنها ، نحو : أرأيت من زيد؟ فإذا قال : أرأيت
زيدا؟ احتمل ثلاثة أضرب :
__________________
أحدها : أن يكون «رأيت»
بمعنى : أبصرت ، كقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) .
والآخر : أن يكون «رأيت»
بمعنى : علمت ، فيكون بمعنى : أخبرنى.
فهذا : إذا كان
كذلك ، لم يجز أن يرتفع الاسم بعدها في قول من قال : علمت زيدا أبو من هو؟
ويجوز : ألّا يذكر
قبل الاستفهام الاسم ، نحو : أرأيت أبو من زيد؟ لأن دخول معنى آخر فيه لا يمنع من
أن يستعمل على أصله الذي له.
وقوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) ، وقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وقوله : (وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ) و (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، وغير ذلك من الآي.
إن قال قائل : ما
مفعول «ودّ» فى هذه الآي ، وما موضع «لو» بعده ، وهل تقتضى «لو» هنا جوابا؟
فالقول في ذلك :
إن «ودّ» فعل متعدّ ، وإذا كان متعديا اقتضى المفعول به ، وليس من جنس الأفعال
التي تعلّق ، لأنه لا يلغى كما ألغيت المعلقة ، ولا هو مثل ما شبه به نحو «انظر»
فى قوله : انظر أزيد أبو من هو؟
__________________
ولا مثل : (بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا
الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) لأن هذه الأفعال تشبه الأوّل / من حيث كانت بمعنى العلم ،
فلذلك أجريت مجراها ، فأما ٧٥ ش «وددت» فليس من هذا الباب.
ألا ترى أنه لا
يشبه العلم ، ولا يضمر بعده القول أيضا ، كما أضمر بعد قوله : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) .
ولا مثل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
ومثل قوله :
إنّى سأبدى لك
فيما أبدى
|
|
شجن لى ببلاد
سند
|
وشجن لى ببلاد نجد
لأن هذه الأفعال ونحوها لما كانت بمعنى «القول» استقام إضمار «القول» بعدها
لسدّها مسدّه ، حتى قال بعض الناس : إنها بمنزلة «القول» ، وليس «وددت» كذلك.
وإذا لم تكن مثله
، وكان معناها التعدي ، قلنا : إن «لو» بعده زائدة ، والتقدير فى الفعل الواقع بعد
«أن» ، وحذفت «أن» ووقع الفعل موقع الاسم ، فالفعل في موضع المفعول.
وحسن هذا الحذف
لذكر «لو» فى الكلام أنه حرف ، فصار الحرف المذكور كالبدل من المحذوف ، كما صار
اللام فى : قولهم : ما كان ليفعل ، بدلا من «أن».
__________________
وكما استجازوا أن
يحذف حرف الجر مع «أن» فى نحو : جئت أنك تريد الخير.
وذهب الخليل إلى
أنه في موضع جر ، ولم يقل ذلك أحد ، إذ كان المصدر الصحيح لا تجوز إرادة الحذف
معه.
وإذا كانوا قد
حذفوا الحرف في الكلام لجرى ذكر حرف فيه ، نحو : متى يمرر أمرر ؛ ونحو : ما مررت
برجل إن صالح فطالح ، فحذف الحرف حيث ذكرنا أسوغ.
وحسّن ذلك ألا
يظهر معه الحرف لكون المذكور بدلا من المحذوف ، ألا ترى أن الخليل وسيبويه استجازا
حذف الجار والمجرور من الصلة في قوله :
إن لم يجد يوما على من يتّكل
لجرى ذكر «على»
قبل.
فإذا كان كذلك كان
حذف هذا أجدر ، لذكر الحرف ، وكونه بدلا من المحذوف.
ألا ترى أن هذه قد
حذفت في مواضع لم يقع منها بدل ، والمعنى على الحذف قولهم : عسينا نفعل ، وقول
الشاعر.
ألا أيّها ذا الزّاجرى أحضر الوغى
__________________
/ و : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ) ، فإذا حذفت ، حيث لم يقع من حذفها عوض ، كان حذفها هنا
أجدر ، لذكر «لو» ؛ فإذا كانت «لو» زائدة كان الفعل الواقع بعده في موضع المفعول ،
كما كان «ألهو» فيما أنشده أبو زيد من قوله :
و قالوا ما تشاء فقلت ألهو
واقعا موقع
المفعول ، وهو فعل مشابه له.
ويدل على زيادة «لو»
فى هذا الموضع أنها تحذف بعد «وددت» فيقع الاسم بعده في موضع نصب.
فإذا صار دخولها
وخروجها في المعنى واحدا كان كدخول «من» ونحوه ، فى نحو : ما جاءنى من أحد.
وذلك نحو قوله
تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) . فهذا في المعنى كقوله : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ
لَوْ يَفْتَدِي) ، فهذا يدل على زيادة «لو».
فإن قلت : ما ننكر
أن يكون الفعل معلّقا ، لأنه قد وقع بعده «أن» الثقيلة فى نحو : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ؛
__________________
كما وقعت بعد : «علمت
أنّ زيدا منطلق». فإذا جعل بمنزلة «علمت» فى هذا جعل بمنزلته في التعليق.
فالقول : إن ذلك
لا يوجب فيه التعليق ، ولو جاز التعليق فيه لما ذكرت لجاز أن يعلّق «سررت» لقول
الأعشى :
هل سرّ حنقط أنّ
القوم صالحهم
|
|
أبو حريث ولم
يوجد لهم خلف
|
ويروى : «ولم يؤخذ».
و «حنقط» امرأة ، ويقال : حنقط : امرأة أبى حريث ، وأبو حريث : رجل من بنى ثعلبة
بن يربوع ، قتل يومئذ ، يريد : هل سرها أنه سلم ولم يتزوج بعد.
وكما أن هذا النحو
من الأفعال لا يعلّق وإن وقعت بعده «أن» كذلك لا يعلق «وددت» ، لأن «وددت» لا ينكر
أن يقع بعدها «أن» الخفيفة كما وقعت الثقيلة ، كما كان ذلك فى «سررت» ، فى نحو
قوله :
هل سرّكم في جمادى أن نصالحكم
ومما يدل على
زيادة «لو» فى هذا النحو / وأن الفعل في تقدير الحذف لأن معه رفعهم الفعل المعطوف
عليه ، فى نحو قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، و (وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ) ، ثم قال :
__________________
(فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ) ، فهو نحو : عسى زيد يقوم فيذهب ، فهذا هو الوجه ، لأن
الكلام في تقدير إيجاب.
وإذا كان كذلك بعد
النصب كما بعد في قولك : أليس زيد عندك فتضربه؟ لأن المعنى موجب.
والذي ذكرنا أنه
في بعض المصاحف (وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) بالنصب ، على أحد أمرين :
إما أن يكون :
لمّا كان معنى (وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ) معنى : ودّوا أن تدهن ، بحمل المعطوف على المعنى ، كما أن
قوله : هو أحسن الفتيان وأجمله ، محمول على المعنى ، لأن «أحسن الفتيان» و «أحسن
فتى» واحد في المعنى.
وإما أن تكون «لو»
، وإن كانت زائدة في هذا الموضع ، لمّا كانت على لفظ «غير» الزائدة أجريت مجراها
للشبه اللفظي ، كما أجرى «أحمد» مجرى «أضرب» فى منع الجر والتنوين.
ألا ترى أن «لو»
هذه على لفظ «لو» التي معناها الآخر في قوله :
......................................
|
|
لو تعان فتنهدا
|
والمعنى : أعانها
الله.
__________________
(العيني
٤ : ٤١٣).
وكذلك قوله تعالى
: (فَلَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً فَنَكُونَ) ، المعنى : لتكن لنا كرة ، إلا أن الدعاء لا يقال فيه أمر
، فالتقدير : أحدث لنا كرة فنكون.
ومثله في التشبيه
اللفظي في الحروف قوله :
يرجّى العبد ما إن لا يراه
وقوله : لما أغفلت
شكرك.
فكذلك «لو» هذه
أجريت مجرى غير الزيادة.
قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) . التقدير : ربنا واجعلنا مسلمين لك وأمة مسلمة لك من
ذريتنا ، ففصل بين الواو والمفعول بالظرف.
وقوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يكون على أحد أمرين :
يكون على قياس قول
أبى الحسن «من» زائدة ، والتقدير : واجعلنى مقيم الصلاة ومن ذريتى / مقيم الصلاة ،
والمفعول محذوف ، لا بد من ذلك ، ألا ترى أنه لا يجوز : رب اجعلنى من ذريتى.
__________________
قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها) .
قال أبو على :
ولّيتك القبلة ، إذا صيرتك تستقبلها بوجهك ، وليس هذا المعنى فى «فعلت» منه.
ألا ترى أنك إذا
قلت : وليت الحائط ، ووليت الدار ، لم يكن في «فعلت» منه دلالة على أنك واجهته ،
كما أنك في قولهم : وليتك القبلة ، ووليتك المسجد الحرام ، دلالة على أن المراد
واجهته ، ف «فعّلت» فى هذه الكلمة ليس بمنقول من «فعلت» الذي هو «وليت» ، فيكون
على حد قولك : «فرح» و «فرّحته» ، ولكن هذا المعنى الذي هو المواجهة عارض فى «فعّلت»
ولم يكن فى «فعلت».
وإذا كان كذلك كان
فيه دلالة على أن النقل لم يكن من «فعلت» كما كان قولهم : ألقيت متاعك بعضه على
بعض ، لم يكن النقل فيه من : لقى متاعك بعضه بعضا ، ولكن «ألقيت» كقولك «أسقطت».
ولو كان منه زاد
مفعول آخر في الكلام ، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول الثاني إلى حرف الجر
وإلحاقه المفعول الثاني في قولك : ألقيت بعض متاعك على بعض ، كما لم يحتج إليه فى
: ضرب زيد عمرا ، وأضربته إياه ، ونحو ذلك.
وكذلك : ولّيتك
قبلة ، من قولك : وليت ، كألقيت من قولك : «لقيت».
__________________
وقال عزوجل : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهذا على المواجهة له ، ولا يجوز على غير المواجهة مع
العلم أو غلبة الظن ، الذي ينزّله منزلة العلم ، فى تحرّى القبلة.
وقد جاءت هذه
الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة ، وذلك فى نحو قوله:
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) ،
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ،
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)
أَنْ
جاءَهُ الْأَعْمى) أي : أعرض عنه.
وقال عزوجل : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ).
(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ
تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) .
فهذا مع دخول
الزيادة للفعل في غير الزيادة.
__________________
قوله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) .
فالحال مؤكدة ،
لأن فى «توليتم» دلالة على أنهم «مدبرين» ، فهذا على نحوين :
أمّا ما لحق التاء
أوله فإنه يجوز أن يكون من باب «تحوّب» و «تأثّم» ، إذا ترك الحوب ، والإثم ،
وكذلك إذا ترك الجهة ، التي هي المقابلة.
ويجوز أن تكون
الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه ، كالحروف المروية في الأضداد.
فأما قوله تعالى :
(وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ،
وقوله : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبارَ) ،
وقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) .
فهذا منقول من «فعل»
، تقول : دارى تلى داره ، ووليت دارى داره ، فإذا نقلته إلى «فعلّ» قلت : وليت
مآخيره ، وولّانى مآخيره ، ووليت ميامنه ، وولّانى ميامنه ، فهو مثل : فرح وفرّحته
، وليس مثل : لقى وألقيته ولقّيته.
وقوله : (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) ، وقوله : (وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) ، المفعول
__________________
الثاني في نقل «فعل»
إلى «فعل» محذوف ، ولو لم يحذف كان كقوله : (يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ) .
وأما قوله تعالى :
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا) فيمن قرأ «تلوا» فمعناه والله أعلم: الإقبال عليهم ،
والمقاربة لهم في العدل في قسمهم.
ألا ترى أنه قد
عودل بالإعراض في قوله تعالى : (أَوْ تُعْرِضُوا) ، فكان قوله : (وَإِنْ تَلْوُوا) ، كقوله : إن أقبلتم عليهم ولم تعرضوا عنهم.
فإن قلت : فهل
يجوز أن يكون فى «تلوا» دلالة على المواجهة فتجعل قوله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) منقولا من هذا ثم اقتضى المواجهة ، وتستدل على ذلك
بمعادلته : على خلاف ، الذي هو الإعراض.
فالقول إن ذلك في
هذه الكلمة ليس بالظاهر ، ولا في الكلمة دلالة على هذه المخصوصة التي جاءت في قوله
: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) .
وإذا لم يكن عليها
دلالة ، لم يصرفها عن الموضع الذي / جاء فيه فلم يتعدها إلى سواها.
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) فالضمير فى «عنه» إذا جعلته للرسول احتمل أمرين :
(لا تَوَلَّوْا عَنْهُ) : لا تنفضّوا عنه ، كما قال : (انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ
قائِماً).
__________________
وقال : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ
جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)
وقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) .
وعلى هذا المعنى
قوله تعالى : (بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي : بعد أن تتفرقوا عنها. ولا يكون «لا تولّوا عنه» : لا
تعرضوا عن أمره ، وتلّقوه بالطاعة والقبول. كما قال عزوجل : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) .
ومن إضمار المفعول
قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) المعنى : فمن شهد منكم المصر في الشهر.
فحذف المفعول لا
بد من تقديره ، لأن المسافر شاهد الشهر ، ولا يلزمه الصوم ، بل يجوز له الإفطار ،
فانتصاب الشهر على الظرف ، وإنما قال : «فليصمه» : ولم يقل ، فليصم فيه ، والظروف
إذا كنى عنها رد حرف الظرفية معها ، لأنه قد اتسع فيها ، ونصبه نصب المفعول بعد أن
استعمله ظرفا.
واعلم أن «شهد»
فعل استعمل على ضربين :
أحدهما : الحضور ؛
والاخر : العلم.
فالذى معناه
الحضور ، يتعدى إلى مفعول.
__________________
ويدلك على ذلك
قوله :
لو شهد عاد في زمان عاد
وقوله :
و يوما شهدناه سليما وعامرا
فتقدير هذا :
شهدنا فيه.
ومن ذلك قوله :
شهدنا فما نلقى [به]
من كتيبة
|
|
يد الدّهر إلّا
جبرئيل أمامها
|
فهذا محذوف
المفعول ، التقدير فيه : شهدنا المعركة ، أو : من تجمّع لقتالنا.
ومنه قوله :
لقد شهدت قيس
فما كان نصرها
|
|
قتيبة إلّا
عضّها بالأباهم
|
فهذا الضرب
المتعدى إلى مفعول واحد إذا نقل بالهمزة تعدّى إلى المفعولين ، تقول : شهد زيد
المعركة ، وأشهدته إياها.
فمن هذا قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) لما نقل بالهمزة صار الفاعل مفعولا ، والتقدير : ما
أشهدتهم / فعلى. وال «فعل» فى أنه مفعول ثان ، وإن كان غير عين ، مثل «زيد» ،
ونحوه من الأسماء المختصة.
وقالوا : امرأة
مشهد ، إذا كان زوجها شاهدا لم يخرج في بعث من غزو وغيره.
__________________
وامرأة مغيب ، إذا
لم يشهد زوجها ، فكأن المعنى : ذات غيبة ، أي : ذات غيبة وليّها ، وذات شهادة
وليّها. والشهادة خلاف الغيبة ، قال الله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) .
فهذا في المعنى
قريب من قوله : (وَيَعْلَمُ ما
تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ) .
وأما «شهدت» الذي
بمعنى «علمت» فيستعمل على ضربين :
أحدهما : أن يكون
قسما.
والآخر : أن يكون
غير قسم.
فاستعمالهم إياه
قسما ، كاستعمالهم : علم الله ، ويعلم الله ، قسما. تقول : علم الله لأفعلن ،
فتلقّاه بما يتلقّى به الإقسام ، وأنشد سيبويه :
و لقد علمت
لتأتينّ منيّتى
|
|
إنّ المنايا لا
تطيش سهامها
|
وتقول : أشهد
بالله إنك لذاهب ، وأشهد إنك لذاهب.
قال : وحدثنا أبو
الحسن أن محمدا قال : إن زفر يذهب إلى أنه إذا قال : أشهد بالله ، كان يمينا ؛ فإن
قال «أشهد» ولم يقل «بالله» لم يره يمينا.
__________________
قال : وقال محمد :
«أشهد» غير موصولة بقولك «بالله» فى أنه يمين ، كقولك : أشهد بالله.
وقال : واستشهد
محمد على ذلك بقوله : (قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) .
وقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) .
فجعله يمينا ولم
يوصل بقوله «بالله».
وأما «شهدت» الذي
يراد به «علمت» ، ولا يراد به اليمين ، فهو ضرب من العلم مخصوص. وكل شهادة علم ،
وليس كل علم شهادة.
ومما يدل على
اختصاصها بالعلم ، أنه [لو] قال عند الحاكم : أعلم أن لزيد على عمرو عشرة ، لم يحكم به
حتى يقول : أشهد.
فالشهادة مثل
التيقّن في أنه ضرب من العلم مخصوص ، وليس كل علم تيقّنا ، وإن كان كل تيقّن علما
، وكان التيقن هو العلم الذي عرض لعالمه إشكال فيه.
__________________
نتبين ذلك فى قصة
إبراهيم عليهالسلام (وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ) ويبيّن ذا قول رؤبة :
/ يا دار عفراء ودار البخدن
|
|
أما جزاء العالم
المستيقن
|
فلو لم يكن فى «المستيقن»
زيادة معنى ، لم يكن في الوصف الأول ، لم يحسن هذا الكلام ، وكان غير مفيد ، وهذا
كقول زهير :
فلأيا عرفت الدّار بعد توهّم
وقال بعد :
فلما عرفت الدار
أي : عرفتها بعد
إشكال أمرها والتباسها على.
وعلى هذا قول
الآخر :
حيّوا الدّيار
وحيّوا ساكن الدّار
|
|
ما كدت أعرف
إلّا بعد إنكار
|
وكان معنى : أشهد
أيها الحاكم على كذا ، أي : أعلمه علما يحضرنى قد تذلل لى فلا أتوقف عنه ولا أتلبث
فيه ، لوضوحه عندى وتبينه لى ؛ وليس كذلك سبيل المعلومات كلها.
ألا ترى أن منها
ما يحتاج إلى توقف فيه ؛ واستدلال عليه ، وتذليل له ؛ ويدل على هذا ، وأن الشهادة
يراد بها المعنى الزائد على العلم ، أنه لا يخلو من أن يكون العلم مجردا مما ذكرناه
، أو العلم مقترنا بما وصفناه من المعاني ، والذي يدل على أنه المقترن بالمعنى ،
الذي ذكرنا.
__________________
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) ، وقوله : (وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا) .
فلو كان معنى «شهد»
العلم خاليا من هذه المعاني ، لكان المعنى : وما علمنا إلا بما علمنا ، ومن علم
الحق لم يقل : بما علما إلا ما علمنا ، وهو يعلم.
فإذا لم يسهل حمله
على هذا ، علم أن معناه ما ذكرنا.
و «شهد» فى هذا
الوجه يتعدى بحرف جر ، فتارة يكون الباء والأخرى «على».
ومما يعدّى ب «على»
قوله تعالى : (وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ، وقوله تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) ، و (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) ، و (شَهِدْنا عَلى
أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) .
ومن التعدي بالباء
قوله تعالى : (وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا) ، و (إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ) ، وقوله تعالى : (فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) .
فإذا نقل بالهمزة
، زاد بالهمزة مفعول ، كسائر الأفعال المتعدية إذا نقلت بالهمزة.
وقال عزّ من قائل
: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) .
فأما قوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، فمن الشهادة التي هي الحضور ، كأنهم ونجوا على ما قالوا
مما لم يحضروه / مما حكمه أن يعلم بالمشاهدة.
__________________
ومن قرأ (أشهدوا
خلقهم) فالمعنى : أو أحضروا ذلك؟ وكان الفعل يتعدى إلى مفعولين
بعد النقل ، فلما بنى للمفعول به نقص مفعول ، فتعدّى الفعل إلى مفعول واحد.
ويقوّى هذه
القراءة قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، فتعدّى إلى مفعولين ، لمّا بنى الفعل للفاعل.
فأما قوله تعالى :
(إِنِّي أُشْهِدُ
اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ) ، فعلى إعمال الثاني ، كما أن قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ، كذلك ، والتقدير : إنى أشهد الله أنى برئ ، وأشهد أنى
برئ. فحذف المفعول الأول على حد : ضربت وضربنى زيد.
وهذا منقول من :
شهد بكذا ، إلا أن حرف الجر يحذف مع «أن».
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقى) أي : اتقى محارم الله.
وكذلك : (لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اتقى محارمه.
وقال : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) .
وقال : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) .
ف «هلك» لازم في
المعروف ، و «يهلك» متعد ، وقد جاء «هلك» متعديا ، وأنشدوا :
__________________
و مهمه هالك من تعرّجا
فكأنه قال : هالك
من تعرج فيه ، أي : هالك المتعرج ، «فمن تعرج» ، على هذا التقدير ، فاعل في المعنى
، وعلى تقدير من حمله على «مهلك» أنه حذف مفعوله في المعنى ، بمنزلة : ضارب زيد.
ومن حذف المفعول
قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) ، أي : يغفر الذنوب ، فى جميع التنزيل.
ومن ذلك قوله
تعالى : (لا تُؤاخِذْنا إِنْ
نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) .
قال أبو على :
يحتمل وجهين :
يجوز أن يكون من
النّسيان ، الذي هو خلاف الذّكر ، و «الخطأ» ، من الإخطاء ، الذي ليس التعمّد.
ويجوز أن يكون من «نسينا»
، على : أن تركنا شيئا من اللازم لنا.
ومثله قوله تعالى
: (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) أي : ترك عهدنا إليه.
ومنه قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) .
أي : لم يلطف لهم
كما يلطف للمؤمنين في تخليصهم أنفسهم من عقاب الله. والتقدير : ولا تكونوا كالذين
نسوا أمر الله أو طاعته ، فأنساهم تخليص نفسهم من عذاب الله.
__________________
وجاز أن ينسب
الإنساء إلى الله ، وإن كانوا هم / الفاعلون له ، والمذمومون عليه ، كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) .
فأضاف الرّمى إلى
الله ، لمّا كان يقوّيه إقداره ، فكذلك نسب الإنساء إليه لمّا لم يلطف لهذا
المنسيّ كما لطف للمؤمن الذي قد هدى.
وكذلك قوله تعالى
: (وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : الاستعداد للقاء يومكم هذا ، والعمل من التخلص من
عقابه.
وأما قوله تعالى :
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) فعلى معنى التّرك ، لأنه إذا كان المقابل للذّكر لم يكن
مؤاخذا.
وقوله تعالى : (وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي : نسى السامرىّ ؛ أي : ترك التوحيد باتخاذه العجل ،
وقيل : نسى موسى ربّه عندنا ، وذهب يطلبه في مكان آخر.
وأما قوله تعالى :
(اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) . فإن إنساء الشّيطان هو أن يسوّل له ، ويزيّن الأسباب التي
ينسى معها. وكذلك : (فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) .
ويجوز أن يكون
الضمير فى «أنساه» ليوسف ، أي : أنسى يوسف ذكر ربه.
كما قال : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) .
__________________
ويجوز أن يكون
الضمير فى «أنساه» للذى ظن أنه ناج منهما ، ويكون ربّه ملكه.
وفي الوجه الأول ،
يكون «ربه» الله سبحانه وتعالى ، كأنه أنساه الشيطان أن يلجأ إلى الله في شدته.
وأما قوله تعالى :
(فَيَكْشِفُ ما
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) .
والتقدير : تنسون
دعاء ما تشركون ، فحذف المضاف ، أي : تتركون دعاءه والفزع إليه ، وإنما يفزعون إلى
الله ـ سبحانه وتعالى. ويكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر ، كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي : تذهلون عنه فلا تذكرونه.
وقال : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى
أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) .
فهذا يجوز أن يكون
منقولا من الذي بمعنى التّرك ، ويمكن أن يكون من الذي هو خلاف الذّكر ، واللفظ على
: أنهم فعلوا بكم النسيان.
والمعنى : أنكم
أنتم أيها المتخذون عبادى سخريّا / نسيتم ذكرى ، باشتغالكم باتخاذكم إياهم سخريّا
، وبالضحك منهم ، أي : تركتموه من أجل ذلك ، وإن كانوا ذاكرين غير ناسين. فنسب
الإنساء إلى عباده الصالحين وإن لم يفعلوا ، لما كانوا كالسبب لإنسائهم.
فهذا كقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ) .
__________________
وعلى هذا قوله
تعالى : (فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ) فأسند النّسيان إليه ، والمعنى على أنهم نسوا ذلك.
وأما قوله تعالى :
(سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) ؛ فالأشبه أن يكون من الذي هو خلاف الذّكر. وهذا أشبه من
أن يحمل على ما يراد به التّرك.
وذلك أن النبي ،
صلى الله عليه وعلى آله ، كان إذا نزل عليه القرآن أسرع القراءة وأكثرها مخافة
النّسيان ، فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي تنساه ، لرفعه ذلك بالنّسيان كرفعه إياه بالنسخ بآية أو
سنة.
ويؤكّد ذلك قوله
تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) .
وقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فحمل قوله : «فلا تنسى» ، إذا كان يسلك هذا المسلك ، ليس
بالوجه.
ومما حذف المفعول
قوله : (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي : بشّرهم بالجنة.
ومن حذف المفعول
قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي كحب الله المؤمنين. فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمفعول
محذوف.
__________________
وإن شئت كان :
كحبّ المؤمنين الله ، فحذف الفاعل ، والمضاف إليه مفعول في المعنى.
ويقوّى الأول قوله
: (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) .
ومثله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ؛ إن شئت ، كان التقدير : أقم الصلاة لأذكرك ، فيكون مضافا
إلى الفاعل. وإن شئت كان التقدير : لذكرك إيّاى فيها.
كقوله تعالى : (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي : عن ذكرهم إياى.
ومثله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ؛ إن شئت كان التقدير : ولذكركم الله أكبر من كل شىء ،
فحذف الفاعل ، وأضافه إلى المفعول ، كما قال : (مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ) ، أي : من دعائه الخير.
وقال : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) أي : بسؤاله نعجتك.
وقال : (رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي : هذا ذكر الله رحمة / عبده ، فحذف الفاعل ، وأضاف إلى
المفعول ، وهو الرحمة ، والرحمة مضاف إلى الفاعل.
ونصب «بعضا» به ،
كقوله : (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ) .
__________________
وكقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : أن دفع الله الناس ، فأضاف إلى الفاعل ونصب المفعول
به.
ومنه قوله تعالى :
(الم غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي : من بعد أن غلبهم الفرس يغلبون الفرس ، فالمصدر مضاف إلى المفعول وقد حذف الفاعل ، كأن المشركين
سرّتهم غلبة الفرس الروم ، فرجع أبو بكر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
ـ وأخبره بأنه ذكر للمشركين ذلك ، وأن بينه وبينهم خطرا ، والصدّيق ضرب المدة في
ثلاث سنين.
فالنبى ـ صلىاللهعليهوآله ـ أمره أن يرجع إليهم ، ويزيد في الأجل وفى الخطر ، ففعل
ذلك.
وقرأها الحسن : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ) مرتّبا للمفعول به. وقرئ : (غُلِبَتِ الرُّومُ) بفتحتين. مرتّبا للفاعل. وفسّر ابن عمر : غلبت الروم على
أدنى ريف الشام. يعنى بالريف : السواد ، فيكون المصدر ـ أعنى «من بعد غلبهم» ـ مضافا
إلى الفاعل ، أي : من بعد أن غلبوا على الريف.
وهذه القراءة أيضا
مروية عن على وابن عمر وابن عباس ومعاوية عن قرّة.
ومثله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّي) .
__________________
أي : عن ذكرى ربى
، فحذف الفاعل وأضاف إلى المفعول ، يعنى به صلاة العصر.
وقال قوم : بل
التقدير : عن ذكر ربّى إياى حيث أمرنى بالصلاة ، فيكون قد حذف المفعول والمصدر.
ويجوز إضافته إلى
الفاعل ، وينصب به المفعول.
ويجوز حذف المفعول
، إذا أضيف إلى الفاعل به.
ويجوز إضافته إلى
المفعول ورفع الفاعل.
ويجوز في هذا
الوجه حذف الفاعل.
ويجوز أن ينوّن ،
يرفع الفاعل به ، وينصب المفعول.
ويجوز حذف الفاعل
مع التنوين ، وحذف المفعول مع التنوين.
فمما جاء من ذلك
في التنزيل قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) «شيئا» ينتصب / ب «رزقا»
، أي : ما لا يملك لهم أن يرزقوا شيئا. فحذف الفاعل ، ونصب المفعول بالمصدر
المنون.
وأما قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
(١٠) رَسُولاً) . فيجوز أن ينتصب رسولا ب (ذكرا) أي : أنزل الله إليكم بأن
ذكر رسولا. ويجوز أن ينتصب بفعل مضمر ، أي : أرسل رسولا.
__________________
ويجوز أن يكون
التقدير : أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولا ، فحذف المضاف ، ويكون «رسولا» بدلا منه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً) أي : أن تطعم يتيما ، فنصب «يتيما» ب «إطعام».
وأما قوله تعالى :
(إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) .
فمن نوّن احتمل
أمرين :
أحدهما : أن يكون «ذكرى»
بدلا من «الخالصة» ، تقديره : إنا أخلصناهم بذكر الدار.
ويجوز أن يقدّر في
قوله : «ذكرى» التنوين ، فيكون «الدار» فى موضع نصب ، تقديره : بأن يذكروا الدار ،
أي : يذكرون بالتأهب للآخرة ويزهدون فى الدنيا.
ويجوز ألا يقدّر
البدل ، ولكن تكون «الخالصة» مصدرا.
فتكون مثل : (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) فيكون المعنى : بخالصة تذكير الدار.
ويقوّى هذا الوجه
: ما روى من قراءة الأعمش : (بخالصتهم ذكر الدّار) فهذا يقوّى النصب ، ويقوّى أن
من نوّن «خالصة» أعملها فى «ذكرى الدار» ، كأنه : بأن أخلصوا تذكير الدار.
فإذا نوّنت «خالصة»
احتمل أمرين :
أحدهما ، أن يكون
المعنى : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، فيكون «ذكرى» فى موضع رفع بأنه فاعل.
__________________
والآخر : أن تقدّر
المصدر الذي هو «خالصة» من الإخلاص ، فحذفت الزيادة كما حذفت من نحو : دلو الدّالى
، ونحوه :
فيكون المعنى :
بإخلاص ذكرى ، فيكون في موضع نصب ، كانتصاب لاسم فى : عمرك الله الدار ، ويجوز أن
يعنى بها الآخرة.
والذي يدل على أنه
يجوز أن يراد بها الدنيا : قوله تعالى في الحكاية عن إبراهيم : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ) .
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ
عَلِيًّا) ، فاللسان هو القول الحسن والثناء عليه ، وليس اللسان هنا
الجارحة.
وأما جواز كون «الدار
الآخرة» فى قوله تعالى : (إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) فيكون : ذلك بإخلاصهم ذكرى الدار ، ويكون / ذكرهم لها وجل
قلوبهم منها ومن حسابها.
كما قال : (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ، (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها).
__________________
ف «الدار» مفعول
بها ، وليست كالوجه الآخر المتقدم.
وأما من أضاف فقال
: (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ) فإن «الخالصة» تكون على ضروب : تكون للذّكر وغير الذكر.
فاذا أضيفت إلى «ذكرى»
اختصت «الخالصة» بهذه الإضافة ، فتكون الإضافة إلى المفعول به ، بإخلاصهم ذكرى
الدار ، أي : أخلصوا ذكرها والخوف منها لله.
ويكون على إضافة
المصدر ، الذي هو «الخالصة» إلى الفاعل ، تقديره : بأن خلصت لهم ذكرى الدار.
و «الدار» على هذا
يحتمل الوجهين اللذين تقدما من كونها للآخرة والدنيا.
وأما المصدر
المعرّف باللام فإنهم كرهوا إعماله ، ومع ذلك فقد جاء فى التنزيل في موضعين :
أحدهما قوله تعالى
: (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) .
ف «من» فى موضع
الرفع من «الجهر» ، أي : لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم.
والموضع الآخر
قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) أي : أن يشفع أحد إلا الشاهد بالحق.
__________________
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) . إن أضمرت المفعول به ، كما أضمر في قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) ، والمعنى : كلما أضاء لهم البرق الطريق مشوا فيه ، جاز
ذلك.
وحذف المفعول
وإرادته قد كثر عنهم ، فلا يكون (أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) على هذا التأويل مرادا ، ولكن يكون مفعولا له ، ويكون
المفعول المحذوف كأنه : أنا أريد كفّك عن قتلى وامتناعك منه. ونحو ذا مما يدل عليه
قوله تعالى : (ما أَنَا بِباسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) .
ألا ترى أن معنى
هذا أنه يريد الكف والامتناع عن مقاتلته ، والتقدير : إنى أريد كفّك عن قتلى كراهة
أن تبوء بإثمى وإثمك ، ولأن تبوء بإثمي وإثمك.
وقال : (قَتْلَ أَخِيهِ) أي : قتله أخاه ، فحذف الفاعل ، وقال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ) / المصدر فيه مضاف إلى الفاعل.
والمعنى : أنكم
أشركتم الآلهة مع الله ـ سبحانه ـ وكفرتم ، كقوله : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) فى نحو آي تشبهها.
وقوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي : يحبون الأنداد كحب الله ، فحذف على ما تقدم.
__________________
ومثل ذلك جميع ما
جاء في التنزيل من قوله تعالى :
(وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) (وَذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ) .
فالمصدر مضاف إلى
المفعول ، و «جزى» فعل يتعدى إلى مفعولين ، قال الله تعالى: (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيراً) أي : سكنى جنة.
قال أبو على في
قوله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي : جزيتهم بجزاء ما صبروا.
ألا ترى أنهم لا
يجزون صبرهم ، إنما يجزون جزاء صبرهم ، عما حظر عليهم ونهوا عنه.
وكذلك : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم ، إذ أنهم لا يجزون تلك الأعمال التي عملوها
، ولكن جزاءها والثواب عليها.
وأما قوله تعالى :
(وَجَزاهُمْ بِما
صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) فيكون على : وجزاهم بصبرهم سكنى جنة ولباس حرير ، فيكون
على الإلباس والإسكان الجزاء.
وكذلك ما ذكر من
قوله تعالى : (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي : جزاهم جنة ، أي : سكنى جنة دانية عليهم ظلالها ،
فيكون في المعنى كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) .
__________________
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) . تقديره : الذين اتخذوهم قربانا آلهة. «قربان» لفظه مفرد
في معنى الجمع ، كما أريد به التثنية في قوله : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) .
والمعنى : قرّب كل
واحد منهما قربانا ، فحذف المضاف. يقوّى ذلك أن «قربانا» جمع أنه قد جمع في قول
ابن مقبل :
كانت لساسته تهدى قرابينا
فلو كان هذا على
الظاهر ، لثنّى ، كما جمع «القرابين» فى قول ابن مقبل و «قربان» فى الأصل مصدر ك «غفران»
، فمن أفرد ، حمل على الأصل ، ومن جمع ، اعتبر اللفظ ، لأنه صار اسما ، وخرج عن
المصدرية ، كقوله :
لله درّ اليوم من لامها
ألا ترى أنه قال :
هو بمنزلة : لله بلادك.
وأما قوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ف «من» مبتدأ الاستفهام ، و «يأتيه» الخبر و «يخزيه» صفة
العذاب ، و «العلم» معلّق ، مثلها فى : علمت من في الدار ، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ، «من» استفهام أيضا ، و «هو كاذب» مبتدأ وخبر ، فى موضع
خبر «من».
__________________
وليس «من» موصولة
، لأنه معطوف على «من يأتيه» ، وهو مبتدأ وخبر ، لأنها علّقت «العلم» ، والموصولة
لا تعلّق.
وأما قوله تعالى :
(قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) ، «أرونى» هنا منقولة من : رؤية القلب. و «شركاء» المفعول
له الثالث.
ويقوّيه : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) . فأقام الجملة الاستفهامية مقام المفعولين.
و «ألحقتم» من
قوله : ألحق الحاكم الولد بأبيه ، أي : حكم بذلك ، والمعنى على ذلك ، لأن التقدير
: دلونى على هذا الذي تدعونه ، وهو من باب علم القلب.
وإن جعلت «أرونى»
من «رؤية البصر» كان «شركاء» حالا ، أي : أوجدونيهم مشركين ، أي : فى هذه الحال ،
ويكون من «رؤية العين» ، لأن الضلال قد يكون اعتقادا فلا يحسّ.
وإن جعلته من «رؤية
البصر» جاز ، لأنه أراد : عبادة الأصنام ، وذلك مما يحس ، فيكون (شُرَكاءُ) على هذا حالا
ويقوى ذلك قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلم يذكر المفعول الثالث.
__________________
ويمكن أن يقال :
إنه محذوف «أي «منا» فيكون «كذلك» حالا.
ويجوز أن يكون «كذلك»
هو المفعول الثالث.
وأما قوله تعالى :
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ) . «ما» فيه استفهام.
فمما يدل على ذلك
قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ ناصِراً). ألا ترى أن «ما» لا تخلو فيه من أن تكون استفهاما أو
موصولة.
فلو كان صلة لم
يخل من ذكر عائد إلى الموصول ، فلما جاء (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ ناصِراً) . فلم يذكر «هو» دل على أنه استفهام وليس بوصل.
فأما قوله تعالى :
(فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ) تكون الموصولة ، والعائد قد حذف من اسم الفاعل ، كما يحذف
من الفعل ، وحذفه من اسم الفاعل لا يكثر كثرة حذفه من الفعل.
ولو جعلت «ما»
استفهاما معناه الرفع ، والوضع : مما يقتضيه ، يريد : أن ما / يقتضيه ليس في شيء ،
لأنك إنما تقتضى في العاجلة. ولو جعلت موضع «ما» نصبا ب «قاض» لكان قولا.
__________________
وأما قوله تعالى :
(أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)
فنقول : من قال «يرون»
يحتمل رؤية العين ، ورؤية القلب ، فمن قال : هو من رؤية القلب ، ففى المعنى يتعدى
إلى مفعولين ، فإذا جعلتها المتعدية إلى مفعولين سد مسدهما. وأن تكون من رؤية
العين أولى ؛ لأنهم يستنظرون في مشاهدة ذلك ، والإعراض عنه ، وترك الاعتبار به ،
وهذا أبلغ في هذا الباب من المتعدية إلى مفعولين ؛ ألا ترى أن تارك الاستدلال أعذر
من المنصرف عما يشاهد.
ومن قرأ (أَوَلا يَرَوْنَ) فبنى الفعل للمفعول به ، كان «أنّ» فى موضع نصب «أنه»
مفعول الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد ، وذلك أنك تقول : رأى عمرو كذا ؛ وتقول : أرأيت
عمرا كذا ، فيتعدى إلى مفعولين بالنقل ، فإذا بنيت الفعل للمفعول به تعدّى إلى
مفعول واحد ، كالدرهم ، فى قولك : أعطى زيد درهما.
ولا يكون «يرون»
هنا كالتى في قولك : أرى زيدا منطلقا ، لأن المعنى : ليس على: يظنّون أنهم يفتنون
فى كل عام ؛ إنما المعنى : على أنهم يشاهدون ذلك ويعلمونه علم مشاهدة.
وليس المعنى :
أنهم يظنون الفتنة في كل عام ؛ لأن الظن في الفتنة ليس بموضع اعتبار ، وإنما
فزّعوا على ترك الاعتبار بالمشاهدة ، وأنهم مع ذلك لا يتوبون ولا يذكرون فيعتبروا
ويتنبهوا على ما يلزمهم الانتهاء والإقلاع عنه.
__________________
فهذا وجه قراءة من
ضم «الياء» أن قرئ به.
قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ) دخلت اللام فى «إبراهيم» على حدّ دخولها فى : (رَدِفَ لَكُمْ).
ألا ترى أن «بوّأ»
يتعدى إلى مفعولين ، قال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) .
وقال : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ) .
فيجوز أن يكون «المبوأ»
المفعول الثاني ، كما أن (مَكانَ الْبَيْتِ) كذلك ، كل واحد منهما يجوز أن يكون ظرفا ، و «أن» من قوله
: (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) . يجوز أن يكون / بمعنى «أي» ، لأن ما قبلها كلام تام ،
ويجوز أن تكون الناصبة للفعل ، وصلت بالنهى كما توصل بالأمر.
ويجوز أن يكون
تقديره لإبراهيم ، أي : لمكان إبراهيم ، أي : مكان دعوته ، وهو قوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ) .
وأما قوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) ، فكالتى في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) ، والمفعول الأول كعلامة الضمير في قوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) .
__________________
ألا ترى أن
المطاوع من الأفعال على ضربين :
أحدهما : لا يتعدى
، نحو : انشوى ، وانتأى ، فى مطاوع : شويته ، ونأيته.
والاخر : أن يتعدى
كما تعدى ما هو مطاوع له ، وذلك نحو : تعلّقته ، وتقطّعته ، ف «تعلقته» يتعدى كما
تعدى «علّقته» ، وليس فيه أن ينقص مفعول المطاوع عما كان يتعدى إليه ما هو مطاوع
له.
فإذا كان كذلك ،
كان «اللام» على الحد الذي ذكرنا.
ويقوّى ذلك قوله
تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) . فدخلت «اللام» على غير المطاوع فى قوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما).
فأما قوله : (مَكانَ الْبَيْتِ) ، فيحتمل ضربين :
أحدهما : أن يكون
ظرفا.
والآخر : أن يكون
مفعولا ثانيا.
فأما الظرف : فيدل
عليه قول ابن هرمة :
و بوّئت في صميم
معشرها
|
|
و تمّ في قومها
مبوّؤها
|
فكما أن قوله «فى
صميم معشرها» ظرف ، كذلك يكون (مَكانَ الْبَيْتِ).
والمفعول الثاني
الذي ذكر في قوله تعالى : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) لم يذكره في هذه ، لأن الفعل من باب «أعطيت» ، فيجوز ألّا
يذكر ، ويقتصر على الأول.
__________________
ويجوز أن يكون «مكان
البيت» مفعولا ثانيا.
وكذلك قوله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ) فيجوز أن يكون : مكانا مثل مكان البيت ، والمفعول الثاني
فيه محذوف ، وهو : القرية ، التي ذكرت في قوله : (وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) .
ويجوز أن يكون
مصدرا ، أي : تبوّأ صدق.
ويجوز أن يكون
مفعولا ثانيا من وجهين :
أحدهما : أن /
تجعله اسما غير ظرف.
والآخر : أن تجعله
اسما بعد أن استعملته ظرفا ، كما قال :
... وسطها قد تفلّقا
وفي التنزيل : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) .
ويجوز فيه وجه
ثالث : وهو أن يمتنع ، فيقرر نصبه ، بأن كان مصدرا انتصب انتصاب المفعول به.
وقوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) فتقديره : بوأكم في الأرض منازل ، أو بلادا ، وانتصاب قوله
: (بُيُوتاً) على أنه مفعول به ، وليست بظرف لاختصاصها بالبيوت.
__________________
(الديوان
: ٥٩٦).
كال «غرف» فى قوله
: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) .
فأما قوله : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشاءُ) ، فيجوز في قياس قول أبى الحسن أن يكون قوله «من الجنة»
كقولك : نتبوأ الجنة ؛ فأما قوله : (حَيْثُ نَشاءُ) فيحتمل أن يكون ظرفا.
فإذا جعلته ظرفا ،
كان المفعول الثاني محذوفا ، كأنه : نتبوأ الجنة منازلها حيث نشاء.
ويجوز أن يكون «حيث
نشاء» فى موضع نصب ، بأنه المفعول الثاني ؛ و «بوأته منزلا» من قولك : باء فلان
منزلا ، أي : لزمه ، وتعدّيه إلى مفعولين ، وإن كنا لا نرى ذلك ، ولكن يدل على ذلك
«المباءة» ؛ وقالوا فى «المباءة» هى المراح تبيت فيه ، ف «المباءة» اسم المكان.
فإذا كان اسم
المكان : مفعلا ، أو مفعلة ، فالفعل منه قد يكون : فعل ، يفعل ، أو يفعل ؛ فكأنه :
باء المنزل ، وبوّأته أنا المنزل.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْها رَضُوا) أي : فإن أعطوا شيئا منها رضوا. وعند الأخفش : إن أعطوها
رضوا
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ) . تقديره : أسكنت ناسا أو جماعة من ذريتى. وعن الأخفش ،
أسكنت ذريتى.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي : أخفى سره ، كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً)
وقيل : بل تقديره
: بل أخفى من السر ، فحذف الجار والمجرور ، كقوله : الله أكبر ، أي : أكبر من كل
شىء.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) .
وقيل : / التقدير
: أتقولون للحق لما جاءكم هذا سحر؟ فحذف الجملة ، ثم ابتدأ ، فقال : أسحر هذا؟
فحسن الوقف على «جاءكم».
وقيل : هو على
التكرير ، كقولك : أتقول : أعندك مال؟ فيكون تأكيدا ، لأنك لو قلت : أعندك مال؟
لكفى.
وقيل : يجوز أن
يكون حكاية قولهم على التعجب ، فيكون قوله «أسحر هذا» مفعول «أتقولون» حكاية بينهم
على التعجب.
وزعم الرّازى : (لَمَّا جاءَكُمْ) كأنه ذهب إلى قول قاسم : إن التقدير :
أتقولون للحق لما
جاءكم هذا سحر! فأضمر المفعول ، ثم استأنف فقال : (أَسِحْرٌ هذا) .
ومن حذف المفعول ،
قوله تعالى : (أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ)
__________________
التقدير : أو
وزنوا لهم ما يوزن يخسرونهم الموزون ، فحذف المفعول من «أو وزنوهم» والمفعولين من «يخسرون».
فأما قوله تعالى :
(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ؛ ف «من» زيادة عند الأخفش ، أي : لننزعن كل شيعة ، والفعل
معلّق عند يونس ، نحو : علمت لزيد في الدار ، لأن النزع هذا يراد به التمييز.
وقال الخليل : هو
رفع على الحكاية ، على تقدير : من يقال له : أيّهم.
وقال سيبويه : هو
نصب ، مفعول «لننزعن» لكنه بنى على الضم ، على تقدير : أيّهم هو أشد.
وقد ذكرنا وجه كل
قول في الخلاف.
وأما قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) فيكون على : تبوءوا دار الهجرة واعتقدوا الإيمان ، لأن
الإيمان ليس بمكان فيتبوّأ ، فيكون كقوله : (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) .
ويجوز على :
تبوّءوا الدّار مواضع الإيمان.
ويجوز أن يكون :
تبوءوا الإيمان ، على طريق المثل ، كما قال : تبوأ من بنى فلان الصميم.
وحذف المفعول كثير
جدا.
وأما قوله تعالى :
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ).
__________________
فيجوز أن يكون
التقدير : والذين تدعونهم ، فحذف العائد إلى «الذين» ، ويعنى به الأصنام ، والضمير
فى «تدعون» للمشركين ، أي : الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دون الله ، لا
تستجيب لهم الأصنام بشىء.
ويجوز أن يكون
التقدير : والمشركون الذين يدعون الأصنام ، فحذف المفعول ، والعائد إلى «الذين» «الواو»
فى تدعون.
[وأما قوله تعالى]
(إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) [أي] : إلا كاستجابة باسط كفيه إلى الماء ، فالمصدر المحذوف
المشبه به في تقدير الإضافة إلى المفعول به ، وفاعل المصدر مراد في المعنى ، وهو :
الماء.
المعنى : كاستجابة
باسط كفيه إلى الماء الماء ، كما أن معنى : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) ، و (مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ) ، لم يذكر معهما الفاعل فكذلك هاهنا. و «اللام» متعلق
بالبسط.
وأما قوله : (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) فيأتيك في اختلافهم في عود الضمير إلى ما قبله ، وهو باب
مفرد.
وأما قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ) فيجوز فيه التقديران المتقدمان.
يجوز : أولئك
الذين يدعونهم يبتغون ، فحذف العائد.
ويجوز أن يكون
التقدير : أولئك المشركون الذين يدعون غير الله يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
وحذف العائد من
الصلة إلى الموصول أكثر من أن أحصيه لك في التنزيل.
__________________
قال : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أي : بعثه الله ، ولم يأت في الصلة «الهاء» فى التنزيل إلا
في مواضع معدودة ، منها :
قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَتْلُونَهُ) وبعده : (يَعْرِفُونَهُ) فى موضعين من البقرة.
وقال الله تعالى :
(إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) .
وقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فى سورة الأنعام.
وقال : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ
فِي الْأَرْضِ) .
وقال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا) .
وقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) .
وقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من ربّك
وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) فى الأنعام أيضا.
وقال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) فهذه مواضع ، جاء فيها العوائد إلى الموصولات ، وهي
مفعولات ، وأمكن حصرها ، ولا يمكن حصر ما حذف لكثرته.
__________________
فأمّا إذا اتصل به
الجار ، فإنه قد جاء محذوفا في موضعين :
أحدهما قوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي : خاضوا فيه.
وقال : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) / التقدير : ذلك الذي يبشر الله به ، فحذف «الباء» ثم «الهاء».
ويحكى عن يونس أنه
أجرى «الذي» فى الآيتين مجرى «ما» ، فجعله فى حكم المصدر ، على تقدير : وخضتم
كخوضهم ، و : ذلك تبشير الله عباده.
كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي : بصبركم.
وقال : (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي : نسيانهم. وغير ذلك.
وأما قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ، و (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) .
فقد ذكرنا أن
التقدير : بما تؤمر به ؛ أي ، بما تؤمر بالصدع به.
وقد شرحناه في باب
حذف المضاف.
وقوله تعالى : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي : بما عهد به عندك ، فحذف «به» إن جعلت «ما» موصولة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) .
__________________
المعنى : لا تغنى
شفاعتهم أن لو يشفعوا ، ليس أنّ هناك شفاعة مثبتة.
فأطلق على المعنى
الاسم ، وإن لم يحذف ، كما قال :
لمّا تذكّرت
بالدّيرين أرّقنى
|
|
صوت الدّجاج
وقرع بالنّواقيس
|
والمعنى ، انتظار
أصواتها. فأوقع عليه الاسم ، ولمّا يكن ، فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت
إليها.
وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي : لمن يشاء شفاعته ، على إضافة المصدر إلى المفعول به ،
الذي هو مشفوع له ، ثم حذف المضاف ، فصار : لمن يشاؤه ، أي : يشاء شفاعته ، ثم حذف
الهاء ، كما أن «يرضى» تقديره : يرضاه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى) .
«أفرأيتم» بمنزلة «أخبرونى».
و «اللات» المفعول الأول. و «لكم» سد مسد الثاني.
والمعنى : أرأيتم
أن جعلتم اللات والعزى بناتا لله ألكم الذّكر؟
فإن قلت : فقد نص
على أن الموصول لا يحذف ، فكيف ساغ هذا؟
قيل : هذا جائز
لأن هذا المعنى قد تكرر ، وهو معلوم ، ودل على حذفه (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) .
__________________
ومن ذلك قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي : جعلها الله لكم قياما ، أي : ذا قوام معايشكم ومعايش
سفهائكم.
فعلى هذا «جعل»
بمعنى «صير» ، فحذف المفعول الأول ، وهو الهاء ، والمفعول الثاني المصدر الذي هو
بمعنى : القوام.
وقيل : يعنى
الأموال التي جعلتم قوّاما عليها وحفظة لها على السفهاء.
فعلى هذا «قياما»
جمع «قائم». وهو في معنى الحال ، والمفعول مضمر ، أي : جعلها لكم قياما على هذا ،
أي : لسفهائكم ، كما أن «أموالكم» فى أحد التأويلين : أموال سفهائكم ، فحذف ،
والذكر إلى الموصول كان مجرورا ب «على» ، فحذف كما حذف : كالذى كانوا عليه ، أي :
جعلكم الله قواما لسفهائكم قياما عليها.
قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ) ، «فى السماء» أي : فى كتاب ، لقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، و (وَما تُوعَدُونَ) أي : توعدونه من الثواب والعقاب ، لأن هذا اللفظ قد وقع
عليهما بالثواب قوله : (هذا ما تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسابِ) و (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) .
قوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) ، «فجّر» فعل يتعدى إلى مفعول واحد.
قال الله : (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) فالعيون يحتمل انتصابها على وجهين :
أحدهما : أن يكون
بدلا من «الأرض» ، على حد : ضرب زيد رأسه ، لأن «العيون» بعض «الأرض».
__________________
أو يريد : فجرناها بعيون ، فحذف الجار ، ولا يكون حالا ، لأنه
ينبغى أن يكون ذا الحال ، «والعيون» لا تكون كل الأرض.
ويجوز أن يقدر :
ذات عيون ، على حذف المضاف.
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) . أي : يسقون مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) .
أي : تذودان
مواشيهم. (قالَ ما خَطْبُكُما
قالَتا لا نَسْقِي) . أي : لا نسقى مواشينا (حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ) . أي : يصدروا مواشيهم ، فيمن ضم الياء.
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) . «فتنة» مفعول ثان ، و «الشّجرة» معطوفة على «الرؤيا».
ومفعولها الثاني مكتفى منه بالمفعول الثاني الذي هو «الفتنة» ، و «الرؤيا» ليلة
الإسراء ، و «الشجرة» : الزقوم. و «الفتنة» أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة ،
والنار تأكل الشجرة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ) . يحتمل أمرين :
أحدهما : يكون :
مكانا فوق الأعناق ، فحذف المفعول / وأقيمت الصفة مقام الموصوف ، وفيها ذكر منه.
ويجوز أن يجعل
المفعول محذوفا. أي : فاضربوا فوق الأعناق الرؤوس ، فحذفت.
__________________
والآخر : أن تجعل «فوق»
مفعولا على السّعة ، لأنه قد جاء اسما نحو : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَواشٍ) . وقالوا : فوقك رأسك ، فتجعل «فوق» على هذا مفعولا به ،
ويقوى ذلك عطف البيان عليه ، كأنه قال : أضربوا الرأس ، واضربوا كل بنان.
وقال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، كأن المعنى : ارتفعن على هذه العدة ، أي : زدن عليها ،
وكأن الآية علم منها الزائدات على اثنتين ، وعلم حكم الاثنتين ، وأنهما ترثان
الثلثين ، كما ترث الثّلثين الزائدات على الاثنتين ، من أمر آخر من توقيف وإجماع
عنه.
وأما قوله تعالى :
(وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) ، يكون «فوق» ظرفا ، ويكون حالا ، فإذا كان ظرفا كان كقوله
: (وَاللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) ، ويعلّق بالظاهر.
ويجوز أن يكون
ظرفا حالّا فيه ذكر مما في اسم الفاعل ، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر من الألف
واللام.
ويجوز فى (على
أمره) أن يكون حالا مما فى «غالب».
__________________
قال سيبويه :
وتقول : «أخذتنا بالجود».
قوله : امتنع «فوق»
من الحمل على «الباء» وإن كانت «من» تدخل عليها ، كما امتنعت «عند» من ذلك ، أي :
من مع ذلك ، ولهذا امتنعت ، لا لأن «الجود» ليس فوقه مطر ، ألا ترى أن «الوابل»
فوق الجود ، قال :
إن دوّموا جادوا وإن جادوا وبل
ومعنى هذا الكلام
: أخذتنا السماء بالجود من المطر ، وبمطر فوق الجود. لأن العرب لا تكاد تدخل «الباء»
على «فوق» لا يقولون : أخذتنا بفوق الجود. وإنما يقولون : أخذتنا بمطر فوق الجود ،
ولو جررت جاز ، وليس الاختيار.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ
إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) .
أي : كيف تتقون
عذاب يوم ، أو جزاء يوم ، ف «اليوم» على هذا اسم لا ظرف.
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (وَلا يَحُضُّ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ) . من أجرى الطعام مجرى الإطعام ، كما حكاه البغداديون :
عجبت من طعامك طعامنا ، كان المصدر مضافا إلى المفعول / والفاعل محذوف ، أي : من
إطعامه المسكين ، وأصله : على طعام المطعم المسكين.
__________________
ومن لم يعمل «الطعام»
عمل الفعل كان «الطعام» عنده عينا كقوله : (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) تقديره عنده : على إطعام طعام المسكين ، لا يكون إلا كذلك
، لأن الحض لا يقع على العين ، والطعام على هذا منصوب الموضع ، بالإطعام المراد ،
وإضافة الطعام على هذا إلى المسكين ، هو للملابسة بينهما.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ) .
التقدير : ووصّى
بها إبراهيم بنيه ويعقوب بنيه.
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي : غير باغ الميتة قصدا إليها ، أي : لا يطلبها تلذذا
بها ، واقتضاءا لشهوة ، ولا يعدو حدّ ما يسدّ به رمقه ، فحذف المفعولين من «باغ» و
«عاد».
والتقدير : فمن
اضطر فأكل الميتة غير باغيها ولا طالبها تلذذا بها ؛ فانتصاب قوله «غير باغ» على
الحال من الضمير الذي فى «أكل» المضمر ، لدلالة الكلام عليه. ألا ترى أن المنصوب
يقتضى الناصب. وفي الآية إضمار الجملة ، وإضمار المفعولين.
فإن قلت : فلم لا
تجعل «غير باغ» حالا من الضمير فى «اضطر» دون الضمير فى «أكل»؟ فإن الآية سيقت في
تحريم أكل الميتة.
ألا ترى أن قبل
الآية : (إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ثم عقّب التحريم بقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، فوجب أن يكون التقدير : فأكل غير باغ بها.
__________________
وإذا لم تحمله على
«أكل» ، وحملته على «اضطرّ» ، لم يكن لقوله «باغ» مفعول ، و «باغ» متعد.
ألا ترى قوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) والتقدير : تبغون لها عوجا.
فإن قيل : لا يكون
«باغ» هاهنا بمعنى : الطالب ، وإنما يكون من قوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) . فيكون التقدير في الآية : فمن اضطرّ غير باغ على الإمام ،
ولا عاد على الأمة بقطع الطريق.
قلنا : إنك في هذا
القول أضمرت الجار والمجرور ، ونحن أضمرنا المفعول ، وكلاهما وإن جاء في التنزيل ،
فإضمار المفعول أحسن ، لأنه أقرب وأقل إضمارا ، على أن الآية فى ذكر الميتة ، وليس
من ذكر الإمام والأمة في شىء.
وأبدا إنما يليق
الإضمار بما تقدم فى / الكلام حتى يعود إليه ، ولا يضمر شىء لم يجر ذكره ، والآية
متعلقة به ، فجميع ما جاء في التنزيل من قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) إنما جاء عقيب ذكر الميتة ، وتحريم أكلها ، ولم يأت فى
موضع بعد حديث الإمام والأمة ، فما بال العدول عن نسق الآية إلى إدخال شىء في
الكلام ، وإضماره ، ولم يجر له ذكر ، فانتصاب «غير» إنما هو على الحال من الضمير
فى «أكل» لا فى «اضطرّ».
__________________
فإن قلت : فهل
يجوز حذف الصلة ، وإبقاء الموصول ، والصلة بعض الموصول ، ولا يجوز حذف بعض الاسم ،
فإذا أضمرتم «أكل» فهو داخل فى صلة «من» ، فما وجه ذلك؟
قلنا : إن «من»
وصلت بفعلين : أحدهما «اضطرّ» والآخر «أكل» ، فإذا ذكر «اضطرّ» وذكر ما انتصب عن
فاعل «أكل» كان «أكل» كالمذكور الثابت في اللفظ ، إذ المنصوب لا بد له من الناصب.
وإذا ذكرت «اضطرّ»
وجعلت «غير باغ» حالا من الضمير فيه ، ثم أضمرت بعده «أكل» كنت أضمرت شيئا يستغنى
عنه في الصلة ؛ لأن الموصول قد تم بالفعل وما يقتضيه ، ولم تذكر معمولا يحتاج إلى
عامل ، وكنت كأنك أضمرت شيئا فاضلا.
فالأحسن أن تضمر الفعل
بجنب الفعل ، ويصرف الحال إلى الضمير فى الفعل المضمر دون الفعل الظاهر ، وإضمار «أكل»
على الحد الذي أضمرنا يقتضيه نصب «غير باغ» وتعليق الغفران به.
وعلى الحد الذي
يقوله السائل ، يضمره لتعلق الغفران به ، دون تعليق الحال به.
وهكذا القول [فى] : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) فأكل غير متجانف لإثم.
__________________
فانتصاب «غير»
إنما هو من فاعل «أكل» وفيه قولان :
أحدهما : أن يأكل
ما حرّم عليه مما قدّم ذكره من غير ضرورة.
والثاني : ألّا
يتجاوز في الضرورة ما أمسك الرمق ، ولا ينتهى إلى حدّ الشّبع.
ويجوز ، على القول
الأول ، أن ينتهى إلى حد الشبع.
فإن قيل : إذا كان
هذا الأكل مباحا فلما ذا عقبه قوله : (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولا معصية هناك؟
فجوابنا : أن
المراد به أنه غفور إن وقع في هذه / الرّخصة ضرب من التجاوز ، لأن ذلك مبنىّ على
الاجتهاد ؛ وأنه رحيم من حيث رخّص فى ذلك عند الشدّة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) أي : ما أكله السبع ، أي : أكل بعضه ، فحذف المضاف
المفعول.
ومن ذلك قوله
تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) . أي : والسموات غير السموات.
ومثله ما روى من
قوله عليهالسلام : «ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد فى عهده» أي : ولا
ذو عهد في عهده بكافر. ونحو ذلك مما يذكر على تكرير المفعول فيه ، وحذفه لتقدم
ذكره فيما تقدم من الكلام.
ومن حذف الفاعل
وإضافة المصدر إلى المفعول قوله تعالى : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللهِ) أي : كخشيتهم من الله. وقوله : (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) .
__________________
وأما قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، ف «الساعة» مفعول به حقيقة ، وليس على الاتساع ، وجعل
الظرف مفعولا على السعة.
ألا ترى أن الظرف
إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه : متّسعا فيه ، بمعنى الظرف.
وإذا كان كذلك كان
المعنى : يعلم الساعة ، وليس ذلك بالسهل ، لأنه سبحانه يعلم على كل حال ، وإنما
معنى «يعلم الساعة» أي : يعرفها وهى حق ، وليس أمرها على ما أنتم عليه من إنكارها
، من قوله : (لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ) .
وإذا كان كذلك فمن
نصب «وقيله» كان حملا له على المعنى ، وموضع «الساعة» منصوب في المعنى
، لأنه مفعول بها.
وقيل : إن «قيله»
منتصب بالعطف على قوله : (لا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) ، «وقيله».
قال أبو على :
ووجه الجر في قوله «وقيله» على قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) أي : يعلم الساعة ، ويصدّق بها ، ويعلم قيله .
ومعنى يعلم «قيله»
أي : يعلم أن الدعاء مندوب إليه ، نحو قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) . و (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) .
__________________
قلت : فى قول أبى
علىّ هذا فيه نظر ، لأن الضمير في قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) يعود إلى الله سبحانه ، هو العالم بوقت حلولها.
وإنما التقدير :
وعنده علم وقت الساعة ، ولا يتوجه على هذا عطف «وقيله» على موضع «الساعة» / على
معنى ما قال أبو علىّ «ويعلم قيله». أي : يعلم أن الدعاء مندوب إليه ، لأن هذا مما
الأشبه به أن يكون من صفة الرسول ، وبعد أن يعلم أن المصدر ، الذي هو «قيل» ، مضاف
إلى «الهاء» ، وهي مفعولة في المعنى لا فاعلة ، أي ، وعنده علم أن يقال : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا
يُؤْمِنُونَ) والمصدر هنا مضاف إلى المفعول لا إلى الفاعل.
وإنما هو من باب
قوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي : بسؤاله إياك نعجتك ، لا بد من هذا التقدير.
ألا ترى أنه لا
يجوز أن نقدره على أنه : وعنده علم أن يقول الله : (يا رَبِّ إِنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) لأن هذا إنما يقال لله تعالى دون أن يكون هو سبحانه يقول :
«يا ربّ إنّ هؤلاء» كذا ، فتم الكلام على «يؤمنون».
وأحسن من جميع ما
ذكره أبو علىّ : أن يكون نصب «قيل» ، بالعطف على مفعول «يعلمون».
والتقدير : وهم
يعلمون الحق ، «وقيله» أي قول الحق ، أو قول محمد عليهالسلام ، والمراد ب «قيله» : شكواه إلى ربه. ويجوز أن يكون ينتصب «قيله»
بفعل مضمر ، أي : قال قيله وشكواه.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) . أي : أخذ ربك القرى ، إذا أخذ القرى ، إن أخذه القرى أليم
شديد ، فحذف المفعولين في الموضعين.
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ) ، إذا جعلته من «الإحباب» الذي هو إرادة ، فإن الحب في
القياس كان ينبغى أن يكون الإحباب ، ولكن المصدر حذف منه ، كما حذف من : عمرك الله
،
و كما حذف في
قوله :
|
|
و إن يهلك فذلك
كان قدرى
|
أي
: بقدري.
|
وكما قال : أبغضت
قوما ، يريد : قياما.
وأضاف المصدر إلى
المفعول ، وإن كان محذوفا ، كما نصب الاسم فى «عمرك الله» وأضافه إلى المفعول ،
وإن كان محذوفا منه ، وكما قال :
وبعد عطائك المائة
الرتّاعا
أي : «إعطائك» ،
واستغنى بإضافة المصدر إلى المفعول عن إعمال الفعل الذي هو «أحببت فيه».
لأن المفعول قد
يحذف من الكلام ، إذا قامت عليه دلالة في مواضع ، ومن حمل «أحببت» على البروك ، من
قوله :
بعير السّوء إذ أحبّا
فإن «حبّ الخير»
ينبغى أن ينتصب على أنه مفعول له.
__________________
قوله تعالى / : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ
مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً).
فانتصاب «مكان»
على أحد أمرين : إما أن تنصبه «بموعد» على : موعد مكانا. أي : تعدنا مكانا ، مثل :
مغار ابن همّام على حىّ خثعما
والآخر : أن يكون
مفعولا ثانيا ل «جعلت» ، على أن يكون على الكلام قبل دخول «جعل» : موعدك مكانا سوى
، كما تقول : موعدك باب الأمير ، وكما قرئ : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ) ، فيجعل «الموعد» الباب ، و «اليوم» المكان على الّاتساع ،
وتدخل «جعلت» عليه كما دخلت في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) .
وأن تحمله على»
جعلت «أوجه ، لأن «الموعد» قد وصف ، وإذا وصف لم يسغ أن يعمل عمل الفعل.
ألا ترى أنه لم
يستحسن : هذا ضارب ظريف زيدا ، ولا يكون (مَكاناً سُوىً) محمولا على «نخلفه» لأنه ليس المعنى : لا نخلف الموعد فى مكان عدل
ووسط بيننا وبينكم ، إنما المعنى : تواعدوا مكانا وسطا بيننا لنحضره جميعا.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) ، العامل فى «اللام» المصدر الذي هو «العلم» ، ونحمله على
ضربين :
أحدهما : أن يكون
مفعولا له.
والآخر : أن يكون
مثل : (رَدِفَ لَكُمْ) .
والمعنى أنه يعلم
ما علمناه ، أي : لم ينسه ، ولكن تمسّك به فلم يضيعه.
وقال : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، لا يجوز أن يكون «ما» نفيا.
ألا ترى أن من
نابذهم أصحاب الكهف وخرجوا عنهم كانوا كفارا ؛ فإذا حملت «ما» على النفي كان عكس
المعنى ، فإذا لم يجز أن يكون «ما» نفيا مع القراءة بالياء ، احتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
بمعنى «الذي» ، كأنه : وإذ اعتزلتموهم والذين يعبدونه من دون الله ، وذلك آلهة
كانوا اتخذوها.
يدلك على ذلك قوله
: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) .
ويقوّى ذلك قوله
تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فى قصة إبراهيم ، وكانوا قد اتخذوا أيضا آلهة.
ويجوز أن تكون «ما»
مصدرية / على تقدير : وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ، فيكون الاستثناء
منقطعا والمضاف محذوفا ، و «ما» منصوب المحل بالعطف على المفعول.
__________________
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) . أي : فلما آتاهم ما تمنّوا.
ومثله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ
عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أي : لمن نريد تعجيله له ، و «الهاء» فى «تعجيله» يعود إلى
«ما نشاء» ، والتي فى «له» تعود إلى الموصول.
وليس هذا على حد :
الذي مررت زيد ، وأنت تريد : الذي مررت به ، فيمكن أن يكون على حد : من تنزل عليه
أنزل.
ألا ترى أن «اللام»
الجارة والتعجيل قد جرى ذكرهما ، وما حذف على هذا النحو كان في حكم المثبت ، فأما
اللام فى «لمن نريد» فيحتمل ضربين :
أحدهما : أن يكون
المعنى : هذا التعجيل «لمن نريد» ليس لكل أحد ، كقوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى). أي : هذه التوسعة لمن اتقى ما أمر أن يتقيه.
والآخر : أن يكون
بدلا من «اللام» الأولى التي في قوله : (عَجَّلْنا لَهُ) ، كأنه : عجلنا لمن نريد ما نشاء ، فيكون «ما نشاء» منتصبا
ب «عجّلنا».
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ). أي : ووهبنا لهم من ذرياتهم فرقا مهتدين ، لأن الاجتباء
يقع على من كان مهتديا.
__________________
وأما قوله تعالى :
(وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) الضمير الذي بعد الضمير المرفوع فى «كالوا» منصوب ، وليس
بمرفوع على أن يكون وصفا للمضمر ، لأن المعنى ليس عليه.
وذلك أن المراد :
أنهم إذا قبضوا من الناس استوفوا منهم المكيال ، وإذا دفعوا إليهم بخسوهم ، فمن
هنا استحقوا الوعيد في التّطفيف ، وإنما هو على : «كلتك» و «وزنتك».
فالمعنى : إذا
قبضوا من الناس استوفوا ، وإذا أقبضوا الناس لم يوفوهم ، فهذا موضع ذمهم ، والمكان
الذي استحقوا منه الوعيد. والتقدير : وإذا كالوا الناس أو وزنوهم ، أخسروهم مكيلهم
وموزونهم فيخسرون ، يراد تعديته إلى مفعولين / ، وحذف المفعولين ، يدلك على ذلك ،
أن «خسر» يتعدى إلى مفعول ، بدلالة قوله تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةَ) فإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعولين ، تقول : أخسرت زيدا
ماله ، فتعديه إلى مفعولين ، وهو من باب «أعطيت» ، فكذلك أريد المفعولان في قوله :
(يُخْسِرُونَ) ، فحذف المفعولان ، كما حذف فيما يتعدى إلى مفعولين ،
الثاني منه هو الأول في المعنى ، كقوله : (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وقوله : (فَهُوَ يَرى) .
__________________
ومن حذف المفعول
قوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) . أي : بما حفظهن الله. وقد قرئ بالنصب.
قال الفراء :
وتقدير هذا : بالذي حفظ أمر الله ، نحو قوله : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى). وقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ
مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) .
ولست أشتهى النصب
، لأنه مصدر ، وليس يقصد شيئا ، فأما إذا كان مصدرا ، خلا الفعل من الفاعل ، لأنه
حرف عندهم ذهبو فيه إلى قول سيبويه ، ولكن إذا نصب جعل «ما» بمنزلة «الذي».
قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) .
استدل مستدل على
أن الحركات «ترى» لأنه لم يتعد «رأيت» إلا إلى مفعول واحد. فلو لا أن معناها
الرؤية ، التي هي حسّ البصر ، لتعدّى إلى مفعول ثان.
فالقول عندنا : إن
الذي ذهب إليه في ذلك ليس له دلالة فيه ، على ما ذكر ، لغير شيء :
أحدها : أن (سيرى)
من قوله : (فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) لا يراد به الحس ، لأن من أعمالهم ما لا يحس بالأبصار ،
نحو الآراء والاعتقادات.
__________________
ولأن المعنى فى (فَسَيَرَى اللهُ) أنهم يجازون على أعمالهم جزاء هو ثواب أو عقاب ، كما يعرف
عريف الجيش من هو عليهم بحلاهم وصفاتهم.
وعلى هذا تقول لمن
توعد : قد علمت ما صنعت ، لا تريد أن تفيده أنك فهمته ، ولكن توعده وتهدده بالجزاء
عليه.
وكذلك قوله تعالى
: (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي : يرى الجزاء عليه ، / وليس يراد به الرؤية التي هي
إدراك البصر ؛ ألا ترى أن فى الجزاء وفي الثواب أو العقاب ما لا يعلم بإدراك
البصر.
ومثله قوله تعالى
: (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : يجازيهم عليه.
وكذلك قراءة من
قرأ : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) .
أي : جازى على بعض
، وهو إفشاء السر ، الذي كان أسرّه ـ عليهالسلام ـ إلى بعض أزواجه ، وأعرض عن بعض ما أغضى عنه ، ولم يخبر
به.
وليس المعنى على
أنه عرف ذلك عرفانا ، ألا ترى أنه ـ عليهالسلام ـ عرف جميع ما أسره ، ولا يجوز أن يكون عرّف بعضا ، ولم
يعرّف بعضا.
فكما أن هذه الآي
على الجزاء ، فكذلك (فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) .
__________________
وجزاء الرسول هو
دعاؤه لهم أو عليهم ، وتزكيته إياهم بذلك أو لعنه لهم ، وجزاء المسلمين هو الولاية
أو البراءة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَلَمَّا جاوَزا) أي : مكان الحوت ؛ فحذف المفعول.
قوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً) ، فالقول في ذلك أنّ «تبع» فعل يتعدى إلى مفعول واحد ،
فإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعولين.
يدلك على ذلك قوله
تعالى : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) ، وفي أخرى : (وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ لَعْنَةً). لما بنى الفعل للمفعول ، قام أحد المفعولين مقام الفاعل.
فأما «أتبع» ، ف «افتعل»
يتعدى إلى مفعول واحد ، كما تعدى «فعل» إليه ، مثل : شويته واشتويته ، وحفرته
وأحتفرته ، وجرحته واجترحته.
وفي التنزيل : (اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) .
وفيه : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) .
__________________
وكذلك : فديته
وافتديته ، وهذا كثير.
وأما قوله تعالى :
(فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ) فتقديره : فأتبعوهم جنودهم ، فحذف أحد المفعولين ، كما حذف
من قوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً
شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) ، ومن قوله : (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) .
المعنى : لا
يفقهون أحدا ، ولينذر الناس بأسا شديدا.
(وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي : عذابه أو حسابه.
فقوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) إنما هو افتعل / الذي للمطاوعة ؛ فيعدى إلى مفعول واحد ،
كقوله : (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) (وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ) .
وأما قوله تعالى :
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ
وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) . فتقديره : أتبعهم فرعون طلبته إياهم ، أو تتبّعه لهم.
كذلك (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) . المعنى : أتبعه شهاب مبين الإحراق ، أو المنع من استراق
السمع.
وقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) . مطاوع «تبع» يتعدى إلى مفعول
__________________
واحد ومثله. (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) .
ومن قرأ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي : أتبع سببا سببا ، أو : أتبع أمره سببا ، أو أتبع ما
هو عليه سببا.
وقوله : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) فقد يكون «الباء» زيادة ، أي : أتبعهم جنوده ، وقد يكون «الباء»
للحال ، أي : أتبعهم عقوبته ، ومعه جنوده.
قوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) ، «هدى» فعل يتعدى إلى مفعولين ، يتعدى إلى الثاني منهما
بأحد حرفى الجر : إلى ، واللام.
فمن تعدّيه ب «إلى»
قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) ، (وَاهْدِنا إِلى
سَواءِ الصِّراطِ) .
ومن تعدّيه ب «اللام»
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا) . وقوله : (قُلِ اللهُ يَهْدِي
لِلْحَقِّ) .
__________________
فهذا الفعل
بتعدّيه مرة باللام ، وأخرى بإلى ، مثل : (أَوْحى) فى قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) ، وقوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها) .
وقد يحذف الحرف في
قولك من قولهم : هديته لكذا ؛ وإلى كذا ، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني ، كما قال
: (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) أي دلّنا عليه ، واسلك بنا فيه ، فكأنه سؤال واستنجاز لما
وعدوا به.
وقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) أي : سبل دار السلام ، بدلالة قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .
ومن ذلك قوله : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي : ثم ائتوني صفّا ، إن جعلت «صفّا» حالا أضمرت المفعول
، ويجوز أن تجعل «الصف» مفعولا به.
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ) ، أي : إما أن تلقى العصا ، وإما أن نكون أول من ألقى ما
معه. قال : (بَلْ أَلْقُوا). أي : ألقوا ما معكم.
__________________
ومثل هذا كثير
يتسع على العادّ الخرق اتساعه على الراقع.
/ ومن ذلك قوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) .
قال كعب : ألف قصر
في الجنة ، كل قصر مخلوق من درّ واحد.
«فترضى» أفترضى
بالعطاء عن المعطى؟ قال : بلى (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى) أي : فآواك. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن الطريق (فَهَدى) أي : فهداك ، (وَوَجَدَكَ عائِلاً
فَأَغْنى) أ أي : فأغناك ، كما قال : (أَغْنى وَأَقْنى) ، و (أَضْحَكَ وَأَبْكى) ، و (أَماتَ وَأَحْيا) .
فحذف المفعول فيهن
كلهن.
(لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ) أي : تعبدونه ، (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي: ما أعبده ، وكذلك : (ما عَبَدْتُّمْ) أي : ما عبدتموه. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) أي : فسبّحه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) . التقدير : وألقيناه على كرسيه جسدا ، ذا جسد. أي : مريضا
، فقوله : «جسدا» ، فى موضع الحال ، والمفعول محذوف.
وقال قوم بخلاف
هذا ، وجعلوا «جسدا» مفعولا به ، وإنه ما أقعد مكانه جسد آخر ، فى قصة يذكرونها
طويلة.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي : أوتيت من كل شىء شيئا.
وعليه قوله : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) . أي : ما غشاها إياه ، فحذف المفعولين جميعا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، ف «جعل» هنا من أخوات «ظننت» ، وقد قالوا : زيدا ظننته
منطلقا ، فلما أضمرت الفعل ، فسّرته بقولك «ظننته» ، وحذفت المفعول الثاني من
الفعل الأول المقدّر ، اكتفاء بالمفعول الثاني الظاهر في الفعل الآخر ، وكذلك بقية
أخوات «ظننت».
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ) ، والتقدير : دع الخوف من أذاهم. فحذف المفعول والجار ،
كقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً
شَدِيداً) .
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) .
قيل : التقدير :
آتنا ما نريد في الدنيا ، فحذف المفعول الثاني. وقيل : «فى» زائدة ، أي : آتنا
الدنيا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ
اللهِ وَرِسالاتِهِ) .
يجوز أن يكون
المراد بالبلاغ ، ما بلّغ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ عن الله وآتاه.
__________________
والمعنى : لا
يجيرنى إلا أن أعمل بما آتاني. وهو قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ / هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) . ويجوز أن يكون المراد بالبلاغ ما يبلّغ به عن الله إلى
خلقه ، كما قال : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) ، أي : أن تبلّغ ما أمرت في أداء الرسالة.
فعلى الأول : يكون
«ورسالاته» جرّا عطفا على لفظة «الله».
وعلى الثاني :
يكون نصبا عطفا على المفعول المحذوف ، الذي يقتضيه «بلاغ» ، فكأنه قال : إلا أن
أبلّغ من الله ما يحب هو أن يعرف ، وتعتقد صفاته.
فأما قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) . أي : يفعلون ويعملون بالطاعة لأجل طهارة النفس عن المعاصي
، كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) .
ومن حذف المفعول
قوله : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ) ، أي : على أن يبدلكم بأمثالكم ، و (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) ، التقدير : على أن نبدلهم بخير منهم ، كقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ
لَدُنْهُ) .
وأما قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا
مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) . فالتقدير: تذكروا اسم الله ، فحذف.
__________________
وقال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي : نعم الله ويفكر ليدرك العلم بقدرته ، ويستدل على
توحيده.
وتخفيف حمزة ، على
: أنه يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين في الوقت الآخر. ويجوز أن يكون : على أن
يذكر تنزيه الله وتسبيحه.
وأما قوله تعالى :
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) . فروى عن الحسن : (كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ) قال : القرآن.
وأما قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فتقديره : إن ذلك ميسّر له. كما قال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ) .
أي : لأن يحفظ
ويدرس ، فيؤمن عليه التحريف والتبديل ، الذي جاز على غيره من الكتب. لتيسيره للحفظ
، وكثرة الدّرس له ، وخروجه بذلك عن الحد الذي يجوز معه كذلك له ، والتغيير ؛ أي :
من شاء الله ذكره ، أي ذكر القرآن.
وقال الله تعالى :
(فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً) أي : خاف ظهور الجنف.
وقال : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) . أي : وما أكل السبع بعضه ، فحذف.
ومن ذلك قوله تعالى
: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) . أي : / أرسلنا رسلا.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ
لا يُؤْمِنُونَ) ، مفعول «يشعركم» محذوف ، أي : ما يشعركم إيمانهم ، و «ما»
ليست بنافية ، لأنها تبقى «يشعركم» بلا فاعل ، ولا يكون ضمير الله تعالى ، لأنه
أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله : (ما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا).
ومن حذف المفعول
قوله تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .
وقال : الظرف
متعلق بمحذوف ، وهو مفعول ثان للظن ، أي : ما ظنّهم فى الدنيا حالهم يوم القيامة ،
و «ما» استفهام.
وقال في موضع آخر «يوم
القيامة» متعلق بالظن ، الذي هو خبر المبتدأ ، الذي هو «ما».
ألا ترى أنه لا
يجوز أن يتعلق «بالكذب» ، ولا «يفترون» ، لأن ذلك لا يكون في الآخرة ، كأنه : ما
ظنّهم : أشدة العذاب أم التجاوز عنهم؟
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) . قال الأخفش : التقدير: من كل شىء سألتموه ، فحذفه وأضمره
، كما قال : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) أي : من كل شىء في زمانها.
وقال الكلبي : من
كل ما سألتموه وما لم تسألوه. وقال قوم : هذا من العامّ الذي يراد به الخاص.
__________________
قال سيبويه :
جاءنى أهل ، الدنيا ؛ وعسى أن يكون قد جاء خمسة منهم ، وقيل : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) لو سألتموه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فيمن ضم الياء.
أي : من يخاطبونه
شيئا ، فحذف أحد المفعولين ، وقيل : لا يفقهون غير لسانهم إياهم ، ولو لم يفقهوا
غيرهم شيئا ، لّما صح أن يقولوا ويفهموا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُمْ
مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). انتصاب «لسان» بالفعل الثاني دون الأول عنده. وعلى قول
الأخفش : «من رحمتنا» «من» زائدة.
وأما قوله : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) . قيل : «السجل» اسم ملك ، وقيل : اسم رجل كاتب ، فيكون
المصدر مضافا إلى الفاعل ، «واللام» مثلها فى (رَدِفَ لَكُمْ).
وقيل : «السجل» :
الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة ؛ والمصدر مضاف إلى المفعول. أي : كما يطوى
السّجل على الكتاب.
وقد / رواه أبو
على : كطىّ الطاوى الصحيفة مدرجا فيها الكتب.
أي : كطى الصحيفة
لدرج الكتب فيها ، على تأويل قتادة : وكطى الصحيفة لدرج الكتب ، فحذف المضاف ،
والمصدر مضاف إلى الفاعل ، على قول السّدى ، والمعنى : كطى زيد الكتب.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) مفعول «ألقى» مضمر ، أي : ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس
منه.
ومن ذلك قوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ، أي : أرسلنى مضموما إلىّ هارون ، فحذف المفعول ، والجار
في موضع الحال.
وأما قوله : (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) ، ليس التقدير : ما سقيته لنا ، وهو الماء ، فلا يكون
للماء أجر ، وليس الجزاء للماء ؛ إنما هو لاستقائه.
فإن قلت : اجعل
المعنى : ليجزيك أجر الماء ، لم يستقم أيضا ، لأن الأجر لاستقاء الماء لا للماء.
فإذا كان كذلك ،
كان المعنى : ليجزيك أجر السقي لنا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) .
قال أبو على : «أرأيتم»
هذه تتعدى إلى مفعولين ، الثاني منهما استفهام ، والأول منصوب ، وهو هاهنا مضمر ،
وهو للقرآن.
أي : أرأيتم
القرآن إن كان من عند الله ، والمفعول محذوف ، وتقديره : أتأمنون عقوبته ، أو : لا
تخشون انتقامه.
وقدّره الزجاج :
قل أرأيتم القرآن إن كان من عند الله ، إلى : قوله (فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أفتؤمنون به؟
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ) ، فهذا على : (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) .
فالمعنى : ووهبنا
من ذرياته فرقا مهتدين ، لأن الاجتباء إنما يقع على من كان مهتديا مرتضى ، فحذف
المفعول به.
__________________
الحادي والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل من الظروف التي يرتفع ما بعدهن بهن
على الخلاف ، وما يرتفع [ما] بعدهن بهن على الاتفاق ،
وهو باب يغفل عنه كثير من الناس
فأما الذي اختلفوا
فيه فكقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) ، (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) .
ف «عذاب» فى هذا
ونحوه ، يرتفع بالابتداء عند سيبويه ، والظرف قبله خبر عنه ، وهو «لهم».
وعند أبى الحسن
والكسائي : يرتفع «عذاب» بقوله : «لهم» ، لأن «لهم» ناب عن الفعل.
ألا ترى أن
التقدير : وثبت لهم ، فحذف «ثبت» وفام «لهم» مقامه ، والعمل للظرف لا للفعل.
ومثله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) وهو على هذا الخلاف ، وغلط أبو إسحاق فى هذا ، فقال :
ارتفع «أمّيّون» بفعل ، كأن المعنى : واستقرّ منهم إميون.
__________________
قال أبو على : ليس
يرتفع «أمّيّون» عند الأخفش بفعل ، إنما يرتفع بالظرف الذي هو «منهم». ومذهب
سيبويه أنه يرتفع بالابتداء ، ففى «منهم» عنده ضمير ، لقوله «أمّيّون» ، وموضع «منهم»
، على مذهبه ، رفع ، لوقوعه موقع خبر الابتداء.
وأما على مذهب
الأخفش ، فلا ضمير لقوله : «أمّيّون» فى «منهم ولا موضع له عنده ، كما أنه لا موضع
ل «ذهب» من قولك : ذهب فلان.
وإنما رفع الأخفش
الاسم بالظرف في نحو هذا ، لأنه نظر إلى هذه الظروف فوجدها تجرى مجرى الفعل في
مواضع ، وهي أنها تحتمل الضمير كما يحتمله الفعل ، وما قام مقامه من أسماء
الفاعلين ، وما شبّه به.
ويؤكد ما فيها كما
يؤكد ما في الفعل ، وما قام مقامه في نحو قولك : مررت بقوم لك أجمعون.
وتنتصب عنها الحال
كما تنتصب عن الفعل ، وتوصل بها الأسماء الموصولة ، كما توصل بالفعل والفاعل ،
فيصير فيها ضمير الموصول كما يصير ضميره في الفعل ، وتوصف به النكرة كما توصف
بالفعل والفاعل.
فلما رآها في هذه
المواضع تقوم مقام الفعل أجراها أيضا مبتدأ مجرى الفعل ، فرفع بها الاسم ، كما رفع
بالفعل ، إذا قامت هذه الظروف مقام الفعل في هذه المواضع ، فقال فى : عندك زيد ، و
: فى الدار عمرو ،
__________________
(وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ) ، (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) ، (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) ، وقوله تعالى : (لَهُمْ دارُ
السَّلامِ) ، ونحو ذلك : إنه مرتفع بالظرف قد أقيم مقام الفعل ، فى
غير هذه المواضع.
ومثل ذلك قال في
أسماء الفاعلين ، نحو «ضارب» وما أشبهها ؛ لمّا رآها تجرى مجرى الأفعال ، يرتفع
الاسم بها إذا جرت خبرا أو وصفا أو حالا على شىء ، أجراها مبتدأة أيضا ، غير
معتمدة على شىء ، نحو حروف الاستفهام ، يكون اسم الفاعل في الاعتماد عليه مثلها
إذا جرى حالا ، أو خبرا ، أو وصفا.
وأجاز في نحو قوله
: (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ
عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ، وقوله : (وَضائِقٌ بِهِ
صَدْرُكَ) ، وقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)
__________________
ارتفاع الاسم بما
قبله ، يجريه مجرى الفعل غير متقدم ، كما أجرى الظرف متقدما مجراه غير متقدم ،
فرفع الاسم / بالظرف واسم الفاعل ، وهما متقدمان غير جاريين على شىء ، كما رفعه
وهما جاريان على ما قبلهما.
وقد قال سيبويه
هذا القول في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) ، (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ) ، وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) ، وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) ، وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) ، وقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) ، وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ، وقوله : (أَفِي اللهِ شَكٌّ) .
إن هذه الأسماء
ترتفع بالظرف ، إذا جرى صلة الموصول ، أو حالا لذى حال ، أو صفة لموصوف ، أو
معتمدا على الهمزة ، أو تكون لاسم إن ، أو المصدر. قد قال سيبويه والأخفش قولا
واحدا في هذه الأشياء.
__________________
فإن قيل : ما تنكر
أن يكون ارتفاع الاسم في نحو قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) مرتفع في الحقيقة ب «استقر» لا ب «لكم»؟.
فالجواب : أن
المعروف المشهور من قول الأخفش في نحو قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) أنه مرتفع بالظرف.
والمعلوم من قول
سيبويه والأخفش وغيرهما ، أنهم إذا قالوا : زيد فى الدار ؛ فالضمير في الظرف لا في
الفعل المحذوف ، لأن ذلك مطّرح مختزل.
والدليل على أن
قولهم : زيد في الدار ، فى الظرف ضمير ، والظرف هو العامل في ذلك الضمير ، امتناع
تقديم الحال عليه ، فى قولك : زيد قائما فى الدار ، لأن العامل غير متصرف ، وهو
الظرف دون الفعل ولا عبرة بالفعل ، لأنه لا يجوز : قائما في الدار زيد ، كما يجوز
: قائما استقر زيد ، فعلم أنه لا عبرة بالفعل ؛ ولأنه قال : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) ، و (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً) ، و (لَهُمُ الْحُسْنى) ، فأدخل «إن» على الظرف ، وهي لا تلى الفعل ، فثبت أنه لا
عبرة بالفعل.
__________________
وهذه الآي دليل
سيبويه من أنه لا يرتفع الاسم بالظرف ، حيث يقول به الأخفش ، لأن الظرف دخل عليه «إن»
، فلو كان يرتفع كما يرتفع الفعل ، لم يدخل عليه «إن» كما لا يدخل على الفعل.
وقد قال : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللهِ) فنصب الاسم ب «أن».
فثبت أن الظرف لا
يرتفع في الابتداء ، وإنما يرتفع في المواضع التي / ذكرنا ، وهو : إذا جرى خبرا
لمبتدأ ، أو حالا لذى حال ، أو صفة لموصوف ، أو معتمدا على حرف النفي والاستفهام
والموصول ، لأن شبهها بالفعل فى هذه الأحوال قد قوى واستمر ، كما قوى الفاعل في
هذه الأحوال أن يعمل عمل الفعل دون «ما» إذا ابتدئ به.
فقوله تعالى : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) ، «ما» يرتفع بالابتداء عند سيبويه ، و «مصيبها» خبر ،
وفيه ضمير.
وعند الأخفش ،
يرتفع «ما» بقوله «مصيبها» لأنه بمنزلة «يصيبها» ، ولا ضمير فى «مصيبها» عنده ،
فهو كقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) . والخلاف في الفاعل والظرف واحد.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلَهُمْ فِيها
أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ، «أزوج» يرتفع بالابتداء عند سيبويه. و «لهم» خبره. و «فيها»
معمول «لهم». فيرتفع «أزواج» بالظرف عند أبى الحسن ، وهو «لهم». وإن رفعته
__________________
ب «فيها» جاز. ولو
جعلت «فيها» حالا من المجرور جاز. ولو جعلتها حالا من «أزواج» على أن يكون في
الأصل صفة لها ، فلمّا تقدم انتصب على الحال ، جاز.
ومن ذلك قوله
تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يرتفع بالظرف في القولين ، لأن الظرف جرى خبرا للمبتدأ ،
وهو «من آمن» ، ولا خلاف في هذا.
كما أن قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ
ظُلُماتٌ) ، تقديره : أو كأصحاب صيب من السماء ثابت فيه ظلمات ،
لجريه وصفا على «الصيّب» ، وكذا هاهنا يرتفع «أجر» بالظرف ، لأنه جرى خبرا على
المبتدأ.
فأما قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فهو حال من «الأجر» ، أي : لهم أجرهم ثابتا عند ربهم ، ولو
جعلته معمول الظرف.
ومثله قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) . «لعنة الله» يرتفع بالظرف ، لأنه جرى خبرا على «أولئك».
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) . ترتفع «آيات» بالظرف ، لأنه جرى حالا ل «الكتاب» ، ولا
يكون صفة ل «الكتاب» لأن «الكتاب» معرفة ، والظرف نكرة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) . يرتفع «زيغ» بالظرف ، لأنه جرى صلة على «الّذين».
ومن ذلك قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي). يرتفع / «جنّات» بالابتداء ، و «للّذين اتّقوا» خبر عند
سيبويه. ويرتفع «جنّات» بالظرف عند الأخفش.
ولا يكون «للّذين
اتّقوا» صفة للمجرور قبله ، وهو «خير» ، لأنه لا ذكر فيه يعود إلى الموصوف
ألا ترى أن الضمير
الذي فيه ، على قول سيبويه ، ضمير «جنّات» ، ولا ضمير فيه على قول الأخفش لارتفاع
الظاهر به
وينتصب قوله : (خالِدِينَ فِيها) على الحال من «الّذين» المجرور باللام. (وَأَزْواجٌ) عطف على «جنّات». وكذا قوله : (وَرِضْوانٌ) .
__________________
وأما قوله تعالى :
(وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) . فقوله : لكل واحد منهما ، يتعلق بما يتعلق به «لأبويه»
على وجه البدل.
كما أن قولك : «رأسه»
من قولك : ضربت زيدا رأسه ، يتعلق ب «ضربت» على حد البدل. ومن رفع بالظرف ارتفع
قوله : «السّدس» بقوله : «لكلّ واحد منهما».
فإن قلت : أفيكون
فيمن أعمل غير الأول أن يضمر «السّدس» فى قوله «لأبويه» كما أضمر في قوله :
فهيهات هيهات العقيق
فى الأول جعل «السّدس»
مرتفعا بالظرف الثاني ، فإن ذلك لا يجوز ، وليس المعنى عليه.
ألا ترى أن
الأبوين ليس لهما السدس ، إنما لكل واحد منهما السدس.
فإن قلت : أفيستقيم
أن يكون «لأبويه» متعلقا بقوله «لكلّ واحد منهما ، على حد : أكل يوم لك ثوب؟ فإن
ذلك لا يستقيم.
ألا ترى أنه لا
يستقيم أن يقدّر : لكلّ واحد منهما لأبويه ؛ لأنه ليس ما عليه المعنى.
__________________
فأما قوله : (مِمَّا تَرَكَ) فحال من «السّدس» ، والعامل فيها قوله : «لكل واحد منهما»
ولا يكون العامل فيه «لأبويه».
وأما قوله تعالى :
(وَمِنَ النَّخْلِ
مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) . فقوله : «من طلعها» بدل من قوله «ومن النّخل» على حد :
ضرب زيد رأسه. «ومن النّخل» بدل التبعيض.
فمن رفع بالظرف ،
وجب أن يكون في الأول ضمير يبينه ما ارتفع بالثاني ، وإن أعمل الأول صار في الثاني
ذكر منه.
وقوله : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) محمول على معنى الإخراج. يبين ذلك قوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) فقوله : «وأعناب» ، على أحد أمرين : / من نخل وشجر أعناب ،
أو يكون سمّى الشجر باسم ثمرها.
وأما قوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ
فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ) .
ف «حيران» يكون
حالا من «الهاء» التي فى «استهوته» فيكون فى الصلة.
__________________
ويمكن أن يكون
حالا من «الذكر» ، فيكون العامل فيه «نردّ».
وإن جعلته ظرفا
كان الظرف في موضع الحال ، فأما «له أصحاب» فيكون صفة ل «حيران» ، فيكون «أصحاب»
مرتفعا بالظرف دون الابتداء في جميع الأقاويل.
قال أبو على : فإن
جعلته حالا من الضمير فى «حيران» ولم تجعله صفة له ، ارتفع «اصحاب» بالابتداء في
قول سيبويه ، وفيه ذكر يعود إلى المبتدأ.
وعندى في هذا نظر
، لأن الحال في جريه على صاحبه ، إلا أن يعنى أن هناك «واوا» مضمرة على تقدير :
وله أصحاب ، وفيه بعد.
لأنهم زعموا أن
الضمير يغنى عن الواو ، والواو يغنى عن الضمير ، فلا وجه لما قال عندنا.
وقال الله تعالى :
(لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) . ف «الواو» للحال. و «رزقهم» يرتفع بالظرف عند الأخفش ،
وبالابتداء عند سيبويه.
[وقال تعالى] : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) . هو على الخلاف أيضا.
وقال : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ
عَذابٌ أَلِيمٌ) على الخلاف.
[وقال] : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) . هو أيضا على الخلاف ، و «فى القصاص» ظرف للخبر ، و «لكم»
ظرف ل «فى القصاص».
__________________
وقوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) . «تربّص» مرتفع بالابتداء. وقوله «للّذين يؤلون» خبره.
والجار في «من نسائهم» متعلق بالظرف ، كما تقول : لك منّى درهم. ولا يتعلق ب «يؤلون»
، أعنى «من» لأنه يقال : حلف على كذا ، وآلى عليه.
وما يقوله الفقهاء
: آلى من امرأته ، فإنهم نظروا إلى ظاهر هذه الآية.
(فَأَصابَها إِعْصارٌ
فِيهِ نارٌ) يرتفع «نار» بالظرف على المذهبين ، لأنه جرى وصفا على «الإعصار».
وأما قوله تعالى :
(وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) . فقوله «باسم الله» يجوز أن يكون حالا من الشيئين ، من
الضمير الذي فى قوله «اركبوا». ومن الضمير الذي [فى] [فيها] . فإن جعلت قوله «باسم الله مجريها» ، رافعا ل «مجريها» على
المذهبين ، لم يكن إلا جملة فى موضع الحال من الضمير الذي فى «فيها».
ولا يجوز أن يكون
من الضمير في قوله : «اركبوا» لأنه / لا ذكر فيه يرجع إلى الضمير ، لارتفاع الظاهر
به ، ولم يكن إلا حالا من الهاء المجرورة ، لمكان الهاء المتصل ب «مجريها».
ويجوز أن يكون من
الضمير فى «اركبوا» ، وكأن المعنى : اركبوا
__________________
متبرّكين باسم
الله ، ومستمسكين بذكر اسم الله ، فيكون فى «باسم الله» ذكر يعود إلى المأمورين.
فإن قلت : فكيف
اتصال المصدر الذي هو «مجريها» بالكلام على هذا؟ فإنه يكون متعلقا بما فى «باسم
الله» من معنى الفعل ، وجاز تعلقه به لأنه يكون ظرفا على نحو : مقدم الحاجّ ،
وخفوق النّجم.
كأنه : متبركين
بهذا الاسم ، متمسكين في وقت الجري والإجراء ، والرّسو والإرساء ؛ على حسب الخلاف
بين القراء فيه. ولا يكون الظرف متعلقا ب «اركبوا» لأن المعنى ليس عليه ، ألا ترى
أنه لا يراد «اركبوا فيها» فى وقت الجري والثبات.
إنما المعنى :
اركبوا متبركين باسم الله في الوقتين اللذين لا ينفك الراكبون فيها منهما : من
الإرساء والإجراء ؛ ليس يراد : اركبوا وقت الجري والرسو ، فموضع «مجريها» نصب على
هذا الوجه ، بأنه ظرف عمل فيه المعنى. وعلى الوجه الأول رفع بالظرف على المذهبين ،
ولا يكون مرتفعا بالابتداء ، لجرى الظرف حالا على صاحبها.
وسها أبو علىّ
هاهنا أيضا ، فقال فيه ما قال في قوله : (لَهُ أَصْحابٌ) . وزعم أن سيبويه يرفعه بالابتداء.
فسبحان الله! أنت
تنص في عامة كتبك على أن الحال والصفة والصلة والاستفهام بمنزلة واحدة ، فمن أين
هذا الارتباك ؟
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) . «من علم» فى موضع الرفع بالظرف لمكان ، «هل» ، أي : هل
عندكم علم.
وقال : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، أي : ما لكم إله غيره ، فيرتفع بالظرف.
وقال : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) ، أي : ما عندكم سلطان ، فيرتفع بالظرف.
وقال : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) ، فمن قال : «الولاية» مبتدأ ، كان «لله» حالا من الضمير
فى «هنالك» ، ومن قال : إن «الولاية» رفع بالظرف كان «لله» حالا من «الولاية» ،
وقوله : «لله» حال من الذكر فى «هنالك» ، أو من «الولاية» ، على قول سيبويه سهو
أيضا ، كما سها فى (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها) .
وقوله : (لَهُ أَصْحابٌ) . وقال : (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) .
و (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) . (وَلَقَدْ جاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) . فالأسماء مرتفعة بالظرف ، لجرى الظرف صلة موصول.
وقال : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) لا خلاف في رفع «زفير» هنا بالظرف ، وهو «لهم» لأنه مثل
الرحيل في قولهم : غدا الرّحيل.
__________________
وإنما رفع سيبويه «الرحيل»
بالظرف في قوله : غدا الرحيل ، لأنه مصدر ، وقد قامت الدلالة على المصدر بالظرف في
نحو : يوم الجمعة إنك ذاهب ، وحقّا إنك منطلق.
ولارتفاع «التهدد»
فيما أنشده عن يونس :
أحقّا بنى أبناء
سلمى بن جندل
|
|
تهدّدكم إيّاى
وسط المجالس
|
فإذا ثبت ذلك كان
ارتفاع «حقا» ، ل «إنك منطلق» من أنه ظرف ، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون مرتفعا
بالظرف أو بالابتداء ، ولا يجوز ارتفاعه بالابتداء. لأن ذلك لو جاز للزم دخول «أن»
عليه ، فيكون اجتماع حرفين بمعنى ، فلما كان يؤدى إلى هذا الذي قد رفضوه وطرحوه
ارتفع بالظرف ، لقيام الظرف مقام الفعل في غير هذا الموضع.
ويدلك على أنه
لهذا المعنى رفض أن يرتفع بالابتداء ، أنهم حيث أمنوا دخول الحرف عليه رفع به ،
وذلك نحو قولك : لو لا أن زيدا منطلق لكان كذا.
ألا ترى أنّ «أن»
ارتفع بالابتداء بعد «لو لا» ، وإن امتنع أن يبتدأ بها أولا ، كيلا يدخل الحرف
الذي بمعناه عليه.
فلما ثبت ارتفاع «أن»
بالظرف في قولك : أحقّا أنك منطلق ، ثبت ارتفاع المصدر بها أيضا في نحو : غدا
الرحيل. لأن «الرحيل» فى أنه مصدر بمنزلة «أن» وصلتها ، وأجروه مجرى مثله في
الإعراب ، كما يجرون المثل مجرى مثله فى غير الإعراب ، نحو : عطشان «وريّان»
وطيّان ، ونحو ذلك.
__________________
ألا ترى أنهم
أجروه : مجرى عثمان ، وسعدان ، فى مواضع الصرف ، وإن كان هذا صفة وذاك علما.
وكذلك أعربوا «أيّا»
فى الصلة والاستفهام والجزاء «لمّا» كان بمعنى «بعض» ، ولو لا ذلك لوجب بناؤه في
هذه المواضع الثلاثة ، كما أجروا المثل مجرى مثله.
كذلك حكم «إن» حكم
إعراب «الرحيل» بعد «غد» ، وقد يفعل هذا بالخلاف كما يفعل بالمثل.
ألا ترى أنهم
قالوا : ربّ رجل يقوم. فأجروه مجرى خلافه ، الذي هو : كم رجل عندك. ولم يجيزوا فيه
التأخير كما / أجازوا : مررت برجل.
ومن ذلك قوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً
وَنُورٌ) .
قال أبو علّى :
الظرف مع ما بعده في موضع حال ، فإذا كان كذلك كان متعلّقا بمحذوف ، كأنه :
مستقرّا فيه هدى ونور.
ويدلّك على أنه
حال ، وأن الجملة في موضع نصب ، لكونها في موضع الحال ، قوله بعد : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) .
ألا ترى أن «هدى»
كقولك : هاديا ، ومصدقا ، والاسم مرتفع بالظرف على المذهبين.
__________________
وأما قوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) . فقوله : «إله» رفع لأنه خبر مبتدأ مضمر ، ولا يخلو من أن
يكون ارتفاعه على هذا الذي ذكرته من أنه خبر مضمر «راجع» إلى الموصول.
أو يكون ارتفاعه
بالابتداء أو بالظرف ، على قول من رأى أنه يرتفع بالظرف. وإن كان ارتفاعه
بالابتداء وجب أن يكون في الظرف الذي هو قوله : «فى السّماء» ضمير وذلك الضمير
مرفوع ، فإن كان الظرف ، لم يحتمل ضميرا مرفوعا لارتفاع الظاهر به ؛ وإذا كان كذلك
، بقيت الصلة لا ذكر فيها للموصول.
فإذا كان حمله على
هذين الوجهين ، ويبقى الموصول على ما ذكرنا من خلو ذكره مما يوصل به ، وجب أن
يقدّر في الصلة مبتدأ محذوفا ، كأنه : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ).
وتقدير هذا الحذف
من الصلة هنا حسن لطولها ، وقد استحسن الخليل ذلك.
فإذا كان التقدير
على هذا ، ارتفع «هو» المحذوف بالابتداء «وإله» خبره ، والظرف الذي هو قوله «فى
السّماء إله» متعلّق بقوله «إله» وموضعه نصب مفعول ، وإن كان مقدما عليه ، ألا ترى
أنهم قد أجازوا : أكلّ يوم لك ثوب؟ فأعمل فيه المعنى مقدما.
__________________
ولا يصح أن يكون
خبر المبتدأ المحذوف قوله : «فى السّماء» لأنك إن جعلته خبرا للمبتدأ المحذوف صار
فيه ضميره ، وارتفع ، وبقي قوله «له» معّلقا مفردا.
ومع هذا ، فالمعنى
إنما هو الإخبار بإلهية عن الكون في السماء.
فإن قلت : لم لا
يكون قوله «فى السماء» صلة ل «الذي» ، ويكون في الظرف ضمير الموصول ، ويكون «إله»
بدلا من الموصول لصلته ، فيكون التقدير ، وهو إله.
فقلنا : إنّا
نستحب التأويل الأول. والتقدير الأول الذي قدّمناه / لدلالة المعنى عليه ، ودلالة
ما بعده من الكلام على ذلك أيضا.
ألا ترى أن بعده (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) فإنما الإخبار عن قصده ـ تبارك اسمه ـ بالعبادة في السماء
والأرض ، وقوله : «فى الأرض إله» معطوف على الصلة ، ولا يجوز أن يبدل «إله» من
الموصول ، وقد بقي من صلته شيء.
فإن قلت : أجعله
كلاما منقطعا غير معطوف على الصلة ، كان تعسفا ، وإزالة للكلام عن وجهه.
فإن قلت : فقدر (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) «هو» ، ثم يكون «إله»
موضوعا موضع «هو» ، فإنّ وضع الظاهر موضع المضمر لم يجزه سيبويه في قوله :
و لا منسئ معن ولا متيسّر
__________________
ومن أجاز ذلك.
لزمه أن يجيز : جاءنى الذي هو قائم.
فإن قلت : فاجعله
من باب : زيد نعم الرجل ، فإنّ «الرجل» جنس يتضمن «زيدا» وغيره ، بخلاف لفظ «إله».
فثبت أن التقدير :
وهو الذي هو إله في السماء إله ، أي : هو إله له في السماء ، فحذف لطول الكلام ،
كما قال العرب : ما أنا بالذي قائل لك سوءا ، أي. هو قائل.
فإن قلت : فلم جاز
حذف «هو» مع طول الكلام فى «الذي» ، ولم يحسن : (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) ، كما حسن هذه الآية.
ولم فارق «الذي» «إياه»
فى قوله (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ، و (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ولم يجر (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) مجرى «أيّهم أشدّ» نصّ فا ، وهو مشكل.
قال سيبويه في
قوله :
و كفى بنا فضلا على من غيرنا
بالرفع فى «غيرنا».
قال : هو أجود ،
وفيه ضعف ، وهو نحو : مررت بأيّهم أفضل ، وكما قرأ بعض الناس «تماما على الّذى
أحسن».
__________________
واعلم أنه قبيح أن
تقول : هذا من منطلق ؛ إن جعلت «المنطلق» وصفا أو حشوا ، فإن أطلت الكلام فقلت :
خير منك ، حسن في الوصف والحشو.
وزعم الخليل أنه
سمع من العرب رجلا يقول : ما أنا بالّذى قائل لك سوءا ، وما أنا بالذي قائل لك
قبيحا ، إذا أفردوه فالوصف بمنزلة الحشو ، لأنه يحسن ما بعده ، كما أن الحشو إنما
يتم بما بعده.
فقد رجّح في الفصل
رفع «غيرنا» ، على إضمار «هو» على الجر ، على أن يكون وصفا.
ولكن يجوز هذا ،
أعنى وضع «إله» موضع الضمير ، على قول أبى عثمان ، فى قولهم : زيد ضربت أخاك / ،
والأخ زيد.
ومثله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) .
هذا هو مذهب أبى
عثمان لا الذي حرف القصر عليه ، فقال هذا على مذهب أبى عثمان في قولهم : أنا الذي
قمت. فإنّ ذلك قول العرب ، فى نحو : وأنا الذي قتلت ، وأنا الذي شتمنى أمي.
قال أبو عثمان :
لو لا أنه مسموع لرددناه .
وتحريفات القصر
على أبى علّى كثيرة ، لا يقبله إلا الجاهل الخفيف الحاذ .
وفي تقسيم أبى
علّى نظر ، لأنه ليس في القسمة ارتفاع «إله» بالابتداء ، لأن الظرف جرى صلة لموصول
، فليس إلا أن يقول ، إن ارتفاع «إله» لا يخلو من أن يكون بإضمار هو أو بالظرف.
__________________
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) فيمن رفع.
والتقدير : وهناك
حور عين ، أو : لهم حور عين ، ف «حور» رفع بالظرف المضمر عند الأخفش ، وبالابتداء
عند سيبويه ، وجاز حذف الظرف ، لأن ما قبله يدل عليه.
ومن ذلك : قوله
تعالى : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) . فيمن أفرد «وآخر» يرتفع «أزواج» بالظرف على المذهبين ،
لأن قوله : (مِنْ شَكْلِهِ) جرى وصفا على «آخر» ، فهو كقولك : مررت برجل في داره عمرو.
وسها الفارسىّ
أيضا في هذه الآية فقال : و «من» رفع بالابتداء ، ولا يرفع هذا أحد بالابتداء ،
وهذا كما سها في قوله : (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها) .
وقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) ، هذه ثلاث آيات سها فيها ، وتردّد كلامه ، وسها أيضا في
قوله : (أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ) .
فخذها عن أوراق
جمة.
ومثله في ارتفاعه
بالظرف قبله قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، ف «الأمن» مرتفع ب «لهم» لجريه خبرا على قوله «أولئك» أي
: أولئك ثابت لهم الأمن.
__________________
وقد ذكرنا أن اسم
الفاعل يرتفع ما بعده ، كالظرف ، فقوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ) ، «ثياب» مرتفع ب «عاليهم» سواء نصبته على الحال من «الولدان»
أو الهاء والميم فى «عليهم» من قوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ) ، ونصبه على الظرف ، لأن الظرف جرى وصفا على «الولدان».
ومن قال «عاليهم»
فأسكن الياء فهو صفة أيضا. ل «ولدان» لأنه لا يتعرف بالإضافة ، فيرتفع «ثياب سندس»
به. ولا يجوز أن يرتفع «عاليهم» بالابتداء / و «ثياب سندس» خبره ، كما قاله فى «الحجة»
لكونه جاريا وصفا على «ولدان». وإن قال : هو كقوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ) فأفرد وأراد الجمع. لم يصح ذلك ، لما ذكرنا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) .
إن جعلت «الّذين»
وصفا ل «أولئك» كان قوله «لهم في الدّنيا خزى» خبر المبتدأ ويرتفع «خزى» بالظرف.
وكذلك إن جعلت «الذين»
خبرا كان «خزى» من قوله «لهم في الدّنيا خزى» خبرا بعد خبر.
ويرتفع «خزى» أيضا
بالظرف.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) . يكون «بالمعروف» متعلقا ب «لهن» دون «عليهن» ، وإن كنت
على هذا التقدير تعمل الأول اعتبارا بقوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ، وبقوله : (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ، فما على الموسع والمقتر من ذلك فهو لهن ، وإن لم يعتبر
هذا جاز أن يتعلق ب «عليهنّ».
ومن ذلك قوله تعالى
: (وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) يحتمل أمرين :
أحدهما ـ أن يكون
خبرا ل (آياتٌ) ، فمن رفع بالظرف ، كان الضمير الذي فيه على حد الضمير
الذي يكون في الفعل. ومن رفع بالابتداء ، ففيه ضمير على حد الضمير الذي يكون في
خبر المبتدا.
والوجه الآخر ـ من
قوله ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أن يكون متعلقا بمحذوف ، يدل عليه قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقديره : ألا تبصرون في أنفسكم أفلا تبصرون.
ويكون هذا بمنزل
قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) .
ألا ترى أن
الاستفهام لا يتقدم عليه ما في حيّزه ، كما أن الموصول كذلك.
__________________
فأما دخول (فِي) فى قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) فعلى وجهين :
أحدهما ـ أنه لما
كان في معنى. أفلا تنظرون ، دخلت (فِي) كما دخلت في قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .
والآخر ـ أنه يمكن
أن يقال : بصير بكذا ، وبصير في كذا ، قال زيد الخيل :
و يركب يوم
الطّعن فيها فوارس
|
|
بصيرون في طعن
الأباهر والكلى
|
أي : بصيرون
بالطعن.
ومما يرتفع بالظرف
: قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) ، إن جعلت (لهم) خبرا ثانيا ارتفع (شراب) به ، كقولك : زيد
في الدار أبوه.
ومما يرتفع بالظرف
: قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فيمن قرأ (قتل) وأسنده إلى ضمير النبي عليهالسلام.
والدليل على جواز
إسناده إلى هذا الضمير ، أن هذه الآية في معنى قوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ) .
وروى عن الحسن أنه
قال : ما قتل نبى في حرب قطّ ،
__________________
فيكون (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) يحتمل أمرين :
أحدهما ـ أن يكون
صفة ل (نبى). وإذا قدرته هذا التقدير كان قوله (رِبِّيُّونَ) مرتفعا بالظرف بلا خلاف.
والآخر ـ أن تجعله
حالا من الضمير الذي فى «قتل» ، وعلى الأول يعود للنبى،عليهالسلام.
ومما يرتفع بالظرف
: قوله تعالى (كَمَثَلِ صَفْوانٍ
عَلَيْهِ تُرابٌ) . ف (تُرابٌ) يرتفع بالظرف على المذهبين ، لأنه صفة ل (صَفْوانٍ).
ومما يمكن أن يكون
من هذا :
قوله تعالى : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) .
فقوله (ثُلَّةٌ) رفع بالظرف ، إذا وقفت على (الْمُقَرَّبُونَ) ، فى المذهبين جميعا ؛ لأنه جرى خبرا على المبتدأ.
ومثله : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ* ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ) إذا وقفت على قوله : (عُرُباً أَتْراباً) ، فأما إذا وصلت الكلام في الآيتين ارتفع قوله (ثُلَّةٌ) على أنه خبر ابتداء مضمر.
ومنه قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ* فِيها
فاكِهَةٌ) إن وقفت على (الأنام) رفعت (فاكِهَةٌ) بقوله «فيها» ، وإن وقفت على (وَضَعَها) رفعت (فاكِهَةٌ) بقوله (لِلْأَنامِ) على مذهب الأخفش ، وبالابتداء على مذهب صاحب «الكتاب».
__________________
وأما قوله تعالى :
(لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) كأنه : لكل باب جزء مقسوم من الداخلين.
ولا يصح تعلّقه به
في هذا الظاهر ؛ لأنه صفة ل «جزء» متعلّقه ؛ إذ المعنى كقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا
بُشْرى) .
وإن شئت علقّته
باللام ، ولا يكون «منهم» صفة للنكرة ؛ لأنه لا شى فيه يعود على الموصوف.
قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ) .
قال أبو علىّ فى «التذكرة»
: وإن شئت كان : الإنسان هو البصيرة على نفسه.
وإن شئت كان : على
نفس الإنسان بصيرة ، أي شهيد / ، أي : يداه ورجلاه ولسانه ؛ إذا جعل «الإنسان» هو
البصيرة كان ارتفاعه بأنه خبر المبتدأ الذي هو «الإنسان» ، و «على نفسه» متعلّق ب «بصيرة»
والتقدير : بل الإنسان بصيرة على نفسه ، أي : شاهد عليها.
وعلى الوجه الآخر
، بمنزلة : زيد في داره غلام ، ف «لبصيرة» يرتفع بالظرف بالابتداء ، والراجع إلى
المبتدأ الأول الهاء فى «نفسه».
__________________
واعتبر قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) .
وقال أبو زيد : «البصيرة»
هو الشاهد ، وليس في قوله دلالة على أحد الوجهين المتقدمين.
قلت : هو رفع
بالظرف ، لأن الظرف خبر المبتدأ ، وليس فيه خلاف.
قال سيبويه : «واعلم أنك إذا نصبته في هذا الباب فقلت : مررت
برجل معه صقر صائدا به غدا فالنصب على حاله ، لأن هذا ليس بابتداء».
يعنى «معه صقر» ،
لأن «معه» عنده هنا صفة ، وهو يرفع هنا بالظرف ، ويمتنع منه في غير هذا الموضع ؛
وإنما رفع هنا بالظرف ، لأنه لا سبيل إلى التقديم ، كما رفع في قولك : فى الدار
إنك منطلق ، بالظرف.
وقوله «ولا يشبه : فيها
عبد الله قائم غداى ـ ، يعنى أن «معه» لا يشبه «فيها» ، و «صقر» لا يشبه «عبد الله»
، و «صائدا به غدا» لا يشبه «قائم غدا» ـ «لأن الظروف تلغى حتى يكون المتكلم كأنه
لم يذكرها في هذا الموضع» ـ يعنى في قوله: «فيها عبد الله قائم غدا».
__________________
وقوله : : «فإذا صار الاسم مجرورا» ـ يعنى «برجل» ، يعنى بقوله : مررت
برجل ـ أو عاملا «فيه فعل» نحو قوله : مررت برجل معه صقر.
وقوله «أو مبتدأ» ، يعنى
مثل قولك : هذا رجل معه صقر.
فقال في الجميع :
إذا صار الاسم كذا لم تلفه ـ يعنى الظرف.
وقوله : «وفي الظروف ، إذا قلت : فيها أخواك قائمان ، رفعه
الابتداء».
هذا كلام فا . وقد ناقض في قوله : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) ، وقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِّ) ، وقوله : (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها) ، وقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، وقوله : (حَيْرانَ لَهُ
أَصْحابٌ) ، وزعم أنه على الخلاف.
ومن ذلك قوله تعالى
: (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، / فيمن قرأ «علىّ» بتشديد الياء يرتفع «أن» الظرف على
المذهبين ، كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) .
__________________
الثاني والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل من «هو»
و «أنت» فصلا ، ويسميه الكوفيون ب «العماد»
وذلك يجئ بين
المبتدأ والخبر ، وبين اسم كان وخبره ، وبين اسم ، «إنّ» وخبره ، وبين مفعولى «ظننت»
وبابه ، وهو كثير في التنزيل.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) ، ف «أولئك» مبتدأ و «المفلحون» خبر ، و «هم» فصل.
والكوفيون يقولون : عماد.
ويجوز أن يكون «هم»
ابتداء ثانيا ، و «المفلحون» خبر ، والجملة خبر «أولئك».
ومن ذلك : قوله
تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ، فالكاف نصب اسم «إن» و «أنت» مبتدأ. وما بعده خبر.
والجملة خبر «إن».
ويجوز أن يكون «أنت»
فصلا في الكلام ، والخبر «العليم».
ويجوز أن يكون «أنت»
نصبا صفة للكاف ، وإن كان ضميرا مرفوعا.
__________________
قال سيبويه :
لو قلت : مررت
بأنت ، أو بإياك؟ لم يجز ، لأن هذه علامات المنصوب والمرفوع.
إن قال قائل : إذا
جاز : مررت بك أنت. ورأيتك أنت ، ونحوه ؛ وفي التنزيل : (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، فجاز أن يتبع هذه العلامات التي تختص بالرفع المجرور ،
كما فعل ذلك في قولك : مررت بك أنت ، و : رأيتك أنت ، ونحو ذلك.
فلم لا يجوز :
مررت بأنت. ورأيت أنت؟ فالقول في ذلك : أنه يجوز فى التابع ما لا يجوز في المتبوع
، نحو : يا زيد والحارث. و : رب رجل وأخيه. و : مررت بهم أجمعين. و : يا زيد
الطويل ، والطّويل. وقوله :
فعلفتها تبنا وماء باردا
ومن ثم كان الصفة
عند أبى الحسن معمول التبعية ، وهذا كثير جدا.
ومثله قوله تعالى
: (إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) . و (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) . و (لا إِلهَ إِلَّا
أَنَا) . فى «أنا» الأوجه الثلاثة ، وكذلك : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ) ، ويجوز فيه الصفة ، والفصل دون الابتداء ، لانتصاب قوله :
«أقلّ».
__________________
وقال الله تعالى :
(إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) . «هو» على الفصل والوصف.
وقال : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) .
وقال : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) . ف «الذي أنزل» بصلته. المفعول الأول ، و «الحق» هو
المفعول الثاني ، و «هو» فصل لا غير ، كقوله : (هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ) .
وقال : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ف «هم» فصل.
وقال : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) ف «هو» فصل ، أو وصف للهاء فى «تجدوه».
وقال الله تعالى :
(إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، وقال : (إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ) فأدخل اللام على الفصل.
وكذلك قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) فيمن جعل اللام لام الابتداء في قوله: «لهم المنصورون»
وارتفع «هم» بالابتداء.
وقوله : «كأنّهم»
مع اسمه وخبره خبر «هم» ، وكأن الوقف على قوله : «ولا تستعجل». ومن جعل اللام جارة
من صلة «تستعجل» ، وقف [على] «من نهار».
__________________
والفصل يفارق حكمه
حكم ما كان صفة للأول ، ويفارق أيضا حكم ما كان مبتدأ وخبرا في موضع خبر الأول.
فأما مفارقته
للصفة ، فإن الصفة إذا كانت ضميرا ، لم يجز أن يوصف به غير المضمر.
تقول : قمت أنت ،
ورأيتك أنت ، ومررت بك أنت ؛ ولا يكون صفة للظاهر ، لا تقول : قام زيد هو ، ولا :
قام الزيدان هما.
وليس الفصل كذلك ،
لأنه يدخل بعد الظاهر ، ومفارقة البدل له أنك إذا أردت البدل قلت : ظننتك أنت خيرا
من زيد ؛ وظننته هو خيرا منه.
ومما يفصل بين
الفصل والصفة والبدل : أن الفصل يدخل عليه اللام ، ولا يدخل على الصفة والبدل ،
كما تقول في الفصل : إن كان كذلك لهو الظريف.
وفي التنزيل : (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) ، «وإن كنّا لنحن الصّالحين».
فنصب : «الظريف» ،
و «الغالبين» ، و «الصالحين».
وقال الله تعالى :
(وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) .
__________________
ولا يجوز أن تقول
: إن كنا لنحن الصالحين ، فى الصفة والبدل ، لأن اللام تفصل بين الصفة والموصوف ،
والبدل والمبدل منه.
وأما مفارقته لما
كان مبتدأ وخبرا ؛ فإن الفصل لا يغير الإعراب عما كان قبل دخوله والمبتدأ يغير ،
تقول إذا أردت الفصل : كان زيدا هو خيرا منك.
/ وإذا جعلت «هو»
مبتدأ قلت : كان زيدا هو خير منك. وليس للفصل موضع من الإعراب.
واعلم أنه لا يقع
الفصل إلا بين معرفتين ، أو بين معرفة وما قارب منها. ولا يقع بين نكرتين ، ولا
بين معرفة ونكرة.
فقوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) «خيرا» مقارب
للمعرفة ؛ لأن «خيرا» «أفعل» ، و «أفعل» يستعمل معها «من كذا» ظاهرا أو مضمرا ،
فيخصصه ويوضحه.
وأما قوله تعالى :
(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ) ، ف «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» عطف بيان ، و «هنّ» فصل ، و
«أطهر لكم» خبر ، و «هؤلاء بناتي» معرفتان جميعا ، و «أطهر لكم» منزلته منزلة
المعرفة في باب الفصل ؛ لأنه من باب : زيد هو خير منك.
__________________
وقرأ محمد بن
مروان من أهل المدينة : «أطهر» بالنصب. وقد روى عن عيسى بن عمر بأسانيد جياد
مختلفة أنه قرأها : «هنّ أطهر لكم» بالنصب. فقال : احتبى في لحنه.
وقد روى عن سعيد
بن جبير أنه قرأ : «هنّ أطهر لكم» بالنصب.
ومعنى قول أبى عمر
: «احتبى في لحنه» : كقولك : اشتمل بالخطأ ، وتمكن في الخطأ ؛ ونحو هذا مما
يوجب تثبيت الخطأ عليه ، وإحاطته به.
قال أبو عثمان :
وجه النصب فى «أطهر لكم» : أن تجعل «هنّ» أحد جزءى الجملة ، وتجعله خبر «بناتي»
كقولك : زيد أخوك هو.
وتجعل «أطهر» حالا
من «هنّ» أو من «بناتي» والعامل فيه معنى الإشارة كقولك : هذا زيد هو قائما ، أو
جالسا ، أو نحو ذلك.
وإنما لحّن من
لحّن ؛ لأنه لم ير قوله «هنّ» تمام الكلام ، وإنما رأى قوله «هنّ» فصلا ، ورأى «أطهر»
الخبر. فلم ير ذلك ... تم به الكلام.
ومن طريف ما ذكرنا
:
أن سيبويه قال : وأما أهل المدينة فينزلون «هو» هاهنا منزلة
قوله : ما أظن أحدا هو خيرا منك ، ويجعلونها فصلا في هذا الموضع.
__________________
وزعم يونس : أن
أبا عمرو رواه لحنا وقال : احتبى ابن مروان في ذه ، فى اللحن.
وذلك أنه كان يقرأ
: (هؤُلاءِ بَناتِي
هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ).
وكان الخليل يقول
: والله [إنه ل] عظيم جعلهم «هو» فصلا في المعرفة ، وتصييرهم إياها بمنزلة «ما»
إذا كانت «ما» لغوا ؛ لأن «هو» بمنزلة / «أبوه» ، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع
لغوا [كما جعلوا «ما» فى بعض المواضع بمنزلة «ليس» ، وإنما قياسها أن تكون بمنزلة «كأنما»
و «إنما».
ومما يقوى ترك ذلك
في النكرة : أنه لا يستقيم أن تقول : رجل خير منك ، ولا أظن رجلا خيرا منك ، حتى
تنفى وتجعله بمنزله «أحد» فلما خالف المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء ،
وفي الابتداء لم يجر فى النكرة مجراه ، لأنه قبيح في الابتداء ، وفيما أجرى مجراه
من الواجب ، فهذا مما يقوّى ترك الفصل] .
وهذه الآية ما وقع
«هنّ» فيها بين نكرتين ؛ وليس بحجة لأهل المدينة ؛ ولكنه وقع فى «الكتاب هاهنا
موقعه في باب آخر ، وقد بيّنا هذا.
وأما قوله تعالى :
(وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) يرتفع «مولود» بالعطف على «والد» لإعادة العاطف مؤكدا.
__________________
ولأن كونه مبتدأ ،
ممتنع لتنكيره ، فيستدعى التخصيص بالوصف ، ولو كانت الجملة وصفا ، احتاج إلى الخبر
، ولا خبر هنا ، وهو تأكيد لما فى «مولود» أو مبتدأ ، و «جاز» خبره ، والجملة وصف
له ، ولا يكون «هو» فصلا ؛ لأن ما هو بينهما نكرتان.
وأما قوله تعالى :
(وَمَكْرُ أُولئِكَ
هُوَ يَبُورُ) فإن «هو» فصل ، و «يبور» خبر المبتدأ الذي هو «مكر أولئك»
، و «أولئك» جر بالإضافة.
قال أبو عثمان :
زيد هو يقول ذاك ، «هو» فصل ، ولا أجيز : زيد هو قال ذاك ؛ لأنى أجيز الفصل بين
الأسماء والأفعال .
ولا يجوز في
الماضية ، كما جاز في المضارعة ؛ وذلك أن سيبويه قد قال : إنى لأمرّ بالرجل خير
منك ؛ وبالرجل يكرمنى ؛ وهما صفة ، على توهم الألف واللام ، فكذلك في الفصل أتوهم
الألف واللام في الفعل ، ويكون بمنزلة الغاية بين المعرفتين.
كما أقول : «كان
زيد هو خيرا منك» على توهم الألف واللام فى «خير منك».
ولا يجوز : كان
زيد هو منطلقا. لأنى أقدر على الألف واللام ، وإنما يجوز هذا فيما لا يقدر فيه على
الألف واللام.
__________________
وأما قوله تعالى :
(أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) ، فموضع «أربى» رفع ؛ لأن قوله «أمة» اسم «تكون» وهي
ابتداء ، و «أربى» خبره ، والجملة خبر «كان» ، ولا يجوز أن تكون «هى» هاهنا فاصلة
؛ لأن أمة» نكرة ، و «أربى» وإن قاربت المعرفة فيستدعى كون معرفة قبلها.
وأما قوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) ، فقوله «جزاؤه» مبتدا. وقوله «من وجد» خبر المبتدأ ،
والتقدير : أخذ من وجد ، أي : أخذ الإنسان الذي وجد الصاع في رحله ؛ والمضاف محذوف
، وفى «وجد» ضمير «الصاع» العائد إلى «من» ، الضمير المجرور بالإضافة ، «فهو جزاؤه»
ذكرت هذه الجملة تأكيدا للأول ، أي أخذه جزاؤه ، و «من» بمعنى الذي / على هذا ،
وإن جعلت «من» شرطا ، و «وجد في رحله» فى موضع الجزم ، والفاء فى قوله «فهو جزاؤه»
جواب الشرط ، والشرط والجزاء خبر المبتدا ، جاد وجاز.
وكان التقدير : جزاؤه إن وجد الصاع في رحل إنسان فهو هو ، لكنه
وضع من الجملة إلى المبتدأ عائد ، لأنه إذا كان «من» شرطا ، أو بمعنى «الذي» ، كان
ابتداء ثانيا ، ويكون الفاء مع ما بعده خبرا ، وتكون الجملة خبر المبتدأ ، والعائد
هو الذي وضع الظاهر موضعه.
__________________
ويجوز أن يكون «جزاؤه»
خبرا ، و «هو» فصل.
وأما قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لا يجوز الفصل هنا.
فإذا لم يجز الفصل
كان «هم» الثانية : إما صفة ، وإما ابتداء ، وجازت الصفة ، لأن الأول مضمر ، فيجوز
أن يكون المضمر وصفا له. ونراها أشبه ؛ لأنك إذا جعلته ابتداء ، فصلت بين اسم
الفاعل وما يتصل به بمبتدأ ، وهما أذهب في باب كونها أجنبيات من الصفة ؛ لأن الصفة
متعلق بالأول ، والمبتدأ أجنبى من اسم الفاعل.
وأما قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ) . يحتمل «هم» ثلاثة أضرب :
أحدها ـ أن يكون
مرتفعا بمضمر دل عليه «ينتصرون» ؛ لأن هذا الموضع فعل.
ألا ترى أن جواب «إذا»
حقه أن يكون فعلا ؛ فإن أظهرت ذلك الفعل كان «ينتصرون» ؛ لأن الضمير حقه أن يتعلق
بالفعل ، كما يكون «أنت» ، فانظر في بيت عدى .
__________________
ومن أجاز إضمار
الفاء واستدل بقوله : (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جاز أن يرتفع «هم» على قوله بالابتداء ، والتقدير : فهم
ينتصرون ، إلا أنه حذف الفاء .
وهو على تقدير
العربية أن يكون صفة للضمير المنصوب فى «أصابهم» ، وليس بالقوى في المعنى .
ألا ترى أن البغي
إذا أصابهم هم ، أو أصاب أصحابهم ، وجب عليهم الانتصار لهم ، كما يجب انتصارهم
لأنفسهم.
وإنما قلنا قياس
قول سيبويه رفع قوله «هم» بمضمر ، لأنه قد قال فى قوله «إن يأتنى زيد يضرب» : إنه
يرتفع بفعل مضمر يفسره «يضرب» ، ولا فصل بين «إذا» و «إن».
ووصل «الذين» ب «إذا»
يدل على صحة ما ذهب إليه من قوله : أزيد إذا أتاك يضرب إذا جعلته جوابا ولم تقدر
به التقديم ـ وإن ذلك كان إذا كانت خبر مبتدأ / مضمر يفسره «يضرب» ، ولا فصل بين «إذا»
و «إن» ، ووصل «الذين» ب «إذا» يدل على صحة ما ذهب إليه من قوله : أزيد إذا أتاك
يضرب ـ إذا جعلته جوابا ولم تقدر به التقديم ، وأن ذلك كان إذا كانت خبر مبتدأ
مضمر أو صلة تشبّه ب «إن» ، كما شبهت «إذا» أيضا بها في قول من جازى بها في الشعر.
ولا يجوز ذلك فى «حين»
، ولا في غير الأسماء التي تتضمن معنى الشرط والجزاء.
__________________
ولا يحمل «إذن»
على اسم الزمان في وصل «الذي» بها.
هذا كله ، كما ترى
، درر نظمتها لك ، وفي الكتاب فصل يخالف هذا .
قال سيبويه :
واعلم أن «هو» تكون فصلا إلا في الفعل ، ولا تكون كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده
بمنزلته في حال الابتداء ، وذكر باب «حسبت» و «كان» فقط.
قال أبو بكر : ولم
يذكر باب «إن» هنا ، ولا باب «الابتداء بإن» قال : فأذكر أنه لا يكون فصلا إلا في
الأفعال ، وتأول الآية في حد «إن» على أنها مبتدأة ، وهي قوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْأَخْسَرُونَ) .
ويدل أيضا على صحة
قوله : أن سيبويه لما ذكر في هذا الكتاب ما يكون «هو وأخواتها فيه فصلا» ذكر باب «حسبت
وأخواتها» ، و «كان وأخواتها» ولم يذكر «إن».
قال أبو سعيد :
ومن مذهبه أنهن يكن فصلا فى «إن» وفي «الابتداء».
وإنما ابتدأ
بالفعل وخصه ؛ لأنه لا يتبين الفصل إلا فيه و «إن» و «الابتداء» لا يتبين الفصل
بهما في اللفظ ، لأنك إذا قلت : زيد هو خير منك ؛ فما بعد «هو» مرفوع على كل حال ،
وإن جعلت «هو» فصلا ، أو جعلته مبتدأ.
__________________
وإنما يتبين فى «كان
، وأخواتها» ، و «ظننت ، وأخواتها» الفصل من الابتداء ؛ لأن أخبارها منصوبة ، تقول
: كان زيد هو أخوك ، إذا جعلت «هو» ابتداء ، و «أخوك خبره ، والجملة خبر زيد»
وكذلك : ظننت زيدا هو أخوك ، وإذا كان فصلا قلت : كان زيد هو أخاك ، وظننت زيدا هو
أخاك.
الثالث والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل من المضمرين
إلى أي شيء يعود مما قبلهم
وهو كثير في
التنزيل ، لكنّا نذكر نبذا منها :
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) قيل : من مثل محمد ـ عليهالسلام ـ فالهاء تعود إلى «عبدنا».
وقيل : تعود الهاء
إلى قوله «ما» ، أي : فأتوا بسورة من مثله / ما نزلناه على عبدنا ـ فيكون «من»
زيادة ـ على قول أبى الحسن ـ دليله قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ).
وقيل : الهاء تعود
إلى الأنداد ، كما قال سيبويه في قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وفي الأخرى : (مِمَّا فِي بُطُونِها) لأن «أفعالا» و «أفعلا» و «أفعلة» و «فعلة» جرت عندهم مجرى
الآحاد ؛ لأنهم جمعوها في قولهم : أناعيم ، وأكالب ، وأساق ، وغير ذلك ، وصغروها
تصغير الآحاد فى : أنيعام ، وأكيلب. فجاز عودها إلى الأنداد في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، والمعنى يقتضى الأوجه الثلاثة ، وقرب اللفظ يقتضى عوده
إلى «عبدنا».
__________________
ومن ذلك قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).
قيل : التقدير :
أول كافر بالتّوراة ، وهو مقتضى قوله : (لِما مَعَكُمْ) فيعود إلى «ما».
وقيل : يعود الهاء
إلى قوله (بِما أَنْزَلْتُ) وهو القرآن. والوجه الأول أقرب.
ويجوز أن تعود
الهاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ وذلك مذكور دلالة ، لأن قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أي : أنزلته على محمد ، عليهالسلام.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) .
قيل : الهاء تعود
إلى «الصلاة». أي : إن الصلاة لكبيرة ـ أي : لثقيلة ـ إلا على الخاشعين ، كقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) .
وعندى : أن الهاء
تعود إلى المصدر ، لأن قوله : «واستعينوا» يدل على الاستعانة ، أي : إن الاستعانة
لكبيرة إلا على الخاشعين ، كما قال : من كذب كان شرّا له.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ) .
قيل : يعود إلى
ذبح الأبناء ، واستحياء النساء. أي : فى المذكور نقمة من ربكم.
ووحّد «ذا» ولم
يقل : «ذينكم» ، لأنه عبّر به عن المذكور المتقدم.
وقيل : يعود «ذلكم»
إلى «الإنجاء» من آل فرعون.
ومثل الأول قوله :
(فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) ، أي: ذلكم المذكور المتقدم.
ومثله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ
ذلِكَ) .
أي : بين المذكور
المتقدم ، لأن «بين» يضاف إلى أكثر من واحد ، كقولك : المال بين زيد وعمرو.
ومثله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ) ، «هو» عبارة عن المصدر ، / أي. الإخراج محرّم عليكم ، ثم
قال : «إخراجهم».
فبيّن ما عاد إليه
هو.
وقال : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي : العدل أقرب للتقوى.
وقد تقدم (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) على معنى : البخل خيرا لهم ؛ لأن «ينجلون» يدل عليه.
__________________
وقال : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ، أي : إنّ أكله.
وقال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، أي : إن أكله لفسق.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) .
قيل : التقدير :
وما أحد يزحزحه من العذاب تعميره. ف «هو» يعود إلى «أحد» وهو اسم «ما».
وقوله : «بمزحزحه»
خبر «ما» والهاء فى «بمزحزحه» يعود إلى «هو».
وقوله : «أن يعمّر»
يرتفع «بمزحزحه».
ويجوز أن يكون «وما
هو» «هو» ضمير التعمير ، أي : ما التعمير [بمزحزحه] من العذاب. ثم بين فقال : «أن
يعمر» ، يعنى : التعمير ، أي : ما التعمير.
وقال الفراء : «هو»
ضمير المجهول ، أي : ما الأمر والشأن يزحزح أحدا تعميره من العذاب. وهذا ليس بمستو
، لمكان دخول الباء ، والباء لا تدخل في الواجب ، إلا أن يقول: إن النفي سرى من
أول الكلام إلى أوسطه ، فجلب الباء.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) .
قيل : وآتى المال
على حب الإعطاء.
[و] قيل : وآتى
المال على حب ذوى القربى. فإن صح كان (ذَوِي الْقُرْبى) بدلا من الهاء ـ وفيه نظر.
__________________
وقيل : على حب
المال ؛ فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال ، أي : آتاه محبّا له.
وأما قوله تعالى :
(وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) . أي : على حب الطعام ، ويكون : على حب الإطعام ، ويكون :
على حب الله.
ومن ذلك قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) .
قيل : معناه : فمن
عفى عن الاقتصاص منه ، فاتباع بالمعروف ، هو أن يطلب الوليّ الدية بمعروف ، ويؤدّى
القاتل الدية بإحسان ـ عن ابن عباس. فالهاء فى «إليه» يعود إلى «من».
وقوله : «فاتّباع
بالمعروف ، أي : فعلى الوليّ اتباع بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إلى الولىّ
بإحسان. فالهاء فى «إليه» على هذا ل «الوليّ».
وقيل : إن معنى
قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) بمعنى : فمن فضل له فضل ـ وهو مروى عن السّدّىّ ، لأنه قال
: الآية نزلت فى فريقين كانا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ قتل من
كلا الفريقين قتلى ، فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض ، فمن بقيت له بقية /
فليتبعها بالمعروف ، وليؤدّ من عليه الفاضل بإحسان.
ويكون معنى قوله :
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) . أي : فمن فضل من قتل أخيه القاتل له شيء.
__________________
ولعل فارس الصناعة
أراد هذا حين قال «فمن عفى له» أي : من يسّر من قتل أخيه القاتل شيء فاتباع
بالمعروف ، أي ، ليتبعه ولى المقتول ، وليؤد إليه بإحسان ، فلا يمطله ، والأداء في
تقدير فعل المفعول ، أي فله : أن يؤدى إليه ، يعنى الميسر له ، ولو قدر تقدير : أن
يؤدى القاتل ، جاز ، والباء حال ، ولم يكن من تمام الأداء ليعلق إلى «به».
فمقتضى ما قدمنا
في قوله : (فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قولان :
أحدهما : أنهما
عائدان إلى القاتل والمقتول «اتباع بالمعروف» عائد إلى ولىّ المقتول أن يطالب
بالدية بمعروف ، والأداء بإحسان عائد إلى القاتل أن يؤدى الدية بإحسان.
والثاني : أنهما
عائدان إلى القاتل ، أن يؤدى الدية بمعروف وإحسان فالمعروف أن لا ينقصه ؛ والإحسان
أن لا يؤخره.
ففى الآية ثلاث
كنايات :
أحدها : الهاء فى «له».
والثاني : الهاء
فى «أخيه».
والثالث : الهاء
فى «إليه».
فيقال الهاء فى «له»
وفى «أخيه» للقاتل الذي عفى له للقصاص ،
__________________
وأخوه ولىّ
القتيل. والضمير فى «إليه» أيضا له. أي : يؤدى القاتل الدية إلى الولىّ العافي
بإحسان عن غير مطل.
وبين الفريقين في
هذه الآية كلام في موجب العمد ، هل هو القود؟ أو أحد الشيئين من القود والدية لا
بعينه.
فقال الشافعي في
موجبه أحدهما : فإن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء أخذ الدية ، فقال في الآية : إن
الله شرع القصاص عينا ابتداء ، ثم ألزم القاتل أداء المال إلى الوليّ إذا عفى له ،
ولأن قوله : (فَمَنْ) كلمة مبهمة ، وذكرت لبيان تغيّر حكم القصاص بعفو يقع له ؛
فدل ضرورة أن كلمة «من» تنصرف إلى من عليه القصاص ، ليسقط به ، وهي كناية عن الاسم
المراد بقوله (فَمَنْ) .
فثبت ضرورة أن
الثابت في اسم القاتل ، الذي دل عليه القصاص ، وأن العفو وقع له.
والله تعالى علّق
بالعفو وجوب الاتباع والقبول والأداء ، فإن قوله : (فَاتِّباعٌ) على / سبيل التعليق بالأول. بمنزلة قوله : «فاتبعوا». كقول
الله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فى باب الكفّارة.
ثم بيّن أن هذا
الحكم من الله تخفيف ورحمة ، فإن الحياة لا عوض لها ، وقد حي بعد الهلاك بالدية.
__________________
و (عُفِيَ لَهُ) يجئ بمعنى : عفى عنه ، فلما ثبت أن العفو وقع للقاتل علم
أن العافي هو الولىّ ضرورة ، وما لأحد غيره حقّ في هذا الباب ، وقد تقدّم الجواب
عن هذا الكلام.
ودل قوله «شىء»
على التنكير ، فإن الله أوجب القصاص ابتداء ، ثم قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) على سبيل التّنكير ، فينصرف إلى شىء من الواجب عليه ، أي :
أي شىء من القصاص.
فإن قيل : تأويله
: شىء من العفو بعفو القصاص دون البدل.
قلنا : لما كان «شىء»
نكرة من جملة وجب صرفها إلى الجملة المذكورة شائعة ، وهو القصاص ، دون العفو ،
الذي لم يذكر ، كما يجب في الكناية والتعريف.
ومن ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) .
فيه قولان :
أحدهما : «الهاء»
لنمرود ، لما أوتى الملك ، حاجّ في الله تعالى. عن الحسن.
الثاني : هو
لإبرهيم ، لما آتاه الله الملك ، حاجّه نمرود : عن أبى حذيفة. و «الملك» النبوة.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ).
__________________
فيه قولان :
أحدهما : أنه لا
يمد في عمر معمّر حتى يهرم (وَلا يُنْقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ) أي : من عمر آخر ، حتى يموت طفلا (إِلَّا فِي كِتابٍ). .
وقيل : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) قدّر الله مدة أجله ، إلا كان ما ينقص منه بالأيام الماضية
وفي كتاب ، جلّ سبحانه وتعالى ، فالهاء على هذا للمعمّر ، على الأول ، كقولك :
عندى درهم ونصفه ، أي ، نصف مثله ، كذلك : لا ينقص من عمر مثل معمّر ، ولا يشبه
الآية «درهم ونصفه» ، لأنه ليس المعنى : لا ينقص آخر من عمر ذلك الآخر.
إنما المعنى : ولا
ينقص آخر من عمر هذا المعمّر ، أي : لا ينقص بجعله أنقص عمرا منه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : إلّا
ليؤمننّ بالمسيح قبل موت المسيح ، إذا نزل من السماء. عن ابن عباس.
الثاني : إلّا
ليؤمننّ بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة ، فيؤمن بما أنزل الله من الحق
وبالمسيح ـ / عن الحسن ـ فيعود الهاء من «موته» إلى «أحد» المضمر ، لأن التقدير :
وإن أحد من أهل الكتاب.
__________________
والقول الثالث :
إلا ليؤمنن بمحمد ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ قبل موت الكتابي. عن عكرمة. وفيه ضعف
؛ لأنه لم يجر هاهنا لمحمد ـ عليهالسلام ـ ذكر.
فإن قيل : إذا كان
الاختيار الأول ، فما وجه قوله عزوجل : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) ؟ وكيف يشهدون على من لم يشاهدهم ، ولم ير منهم ما يشهد به
عليهم؟
فالجواب : أنه ليس
واجبا على الشاهد ألّا يشهد إلا بما شاهد ؛ لأن الشهادة علم ، وإذا علم الشيء
وتحقّقه فله أن يشهد.
ألا ترى أنّا نشهد
بأن محمدا رسول الله ، ولم نره ولم نشاهده ، لأنّا علمنا بالتواتر كونه ، وبالدليل
رسالته ، فكذلك عيسى نشهد بعلمه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) .
فيه قولان :
الأول : أنها
كفارة للجارح ؛ لأنه يقوم مقام آخذ الحق.
والثاني : كفارة
للمجروح. عن ابن مسعود.
وعن ابن عباس ،
هذا محمول على من عفى عنه بعد التوبة.
ويجوز أن يعود
الضمير في قوله إلى المقتول ، أي : إذا عفا وليّه زاد الله فى ثواب المقتول.
__________________
ويجوز أن يرجع إلى
القاتل ، والهاء الأولى للقتل ، أي : من تصدق بتبيين القتل منه ، وأنه هو الذي فعله
، وقصد استتار القاتل ، وخفى أمره على الأولياء. فذلك التصدق كفّارة للقاتل ؛ لأنه
إنفاذ لحكم الله ، وتخليص الناس من التّهم والظنون.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) .
قيل : الهاء لنوح.
وقيل : لإبرهيم ؛
لأن الله أراد تعداد الأنبياء من ولد إبراهيم ـ عليهالسلام ، امتنانا عليه بهذه النعمة.
وليس القصد ذكر
أولاد نوح ، فهو له ، ولوطا ويونس ب «هدينا» مضمرة عند من قال : إنه لإبرهيم.
ولا وجه لاختلاف العطف.
ومن ذلك قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) . أي : للذكر ؛ لقوله: (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)
وقيل : «وإنا له»
يعنى لمحمد صلّى الله عليه وعلى آله ؛ كما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) .
ومن ذلك قوله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) .
__________________
قيل : «فنسى» / أي
: نسيه موسى ، فمضى يطلب ربّا سواه ، فعلى هذا تقف على قوله : «فنسى» دون «موسى».
وقيل : «هذا إلهكم
وإله موسى» تمت الحكاية ؛ ثم قال : «فنسى» أي : فنسى السامري.
ومن ذلك قوله
تعالى : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) .
قيل : علم الله
صلاة نفسه ، وتسبيح نفسه.
وقد ذكرنا ما في
هذا من الاختيار فيما تقدم.
ومن ذلك قوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
أي : فإن المذكور
، كما قال : (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
أي : إن المذكور
كما قال : (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) . أي : ما جعل الله الإمداد ، فكنى عن الإمداد ؛ لأن قوله :
(أَنْ يُمِدَّكُمْ) ، يدل عليه نظيره في الأنفال : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَما جَعَلَهُ اللهُ) .
ومن ذلك قوله : (لِنُحْيِيَ بِهِ) أي : بالماء ، ثم قال : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ)
__________________
فقالوا : يعنى
المطر ، صرفه بين الخلق ، فلم يخص به مكانا دون مكان ، ليعتبروا ويتعظوا ، ومع ذلك
أبوا إلا كفورا ، حين قالوا : مطرنا بنوء كذا.
وقال قوم : ولقد
صرفنا القرآن بينهم ؛ لأنه ذكره في أول السورة.
والأول أوجه ؛
لأنه أقرب.
ومن ذلك قوله : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي : بالقرآن ، وقيل : بالإنذار ؛ لأن قبله «نذيرا» يدل
على الإنذار.
ومن ذلك قوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ) ، أي : بالله ، لقوله : (مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى
اللهِ) .
وقيل : بالرسول ،
صلى الله عليه وعلى آله.
فأما قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) .
فقيل : الضمير
للأمر والشأن ، أي : قل الأمر والشأن «الله أحد».
وقيل : «هو» إشارة
إلى «الله» ، وقوله : «الله» بدل منه ، مفسر له.
وأما قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فيمن اختلس كسرة الهاء كان كناية عن المصدر ، أي : اقتد
اقتداء.
__________________
وعلى هذا قراءة من
قرأ : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) بالهاء في الوصل ، يكون كناية عن المصدر.
وأما قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) .
ففى «هو» وجهان :
أحدهما ـ أن يكون
ضمير (كل) ، أي : لكل أهل وجهة وجهة هم الذين يتولونها ويستقبلونها عن أمر نبيهم.
عن مجاهد.
والثاني ـ الله
تعالى هو الذي يوليهم إليها ، وأمرهم باستقبالها. عن الأخفش.
وقد قرئ : «هو
مولّاها». وهذا حسن.
يدل على الثاني من
القولين قال : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ
رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) .
قيل : الهاء تعود
إلى الله ، أي : هو عصمنى ونجّانى من الهلكة.
وقيل : إنه سيدى
أحسن مثواى ؛ لأنه قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) .
فأما قوله : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ
مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي: الإجابة أو المقالة أو الكلمة ، ولا يكون قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) تفسيرا لقوله (فَأَسَرَّها) ؛ لأنه لا نظير لمثل هذا المثل ، والمفسّر فى كلامهم ؛ لأن
المفسّر في جملة ، والمفسّر في جملة أخرى ، وإنما يكونان فى جملة واحدة ، نحو :
نعم رجلا زيد ، وربّه رجلا ؛ وما أشبه ذلك.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) .
أي : زاد الإنس
الجن عظما وتكبرا.
وقيل : بل زاد
الجن الإنس رهقا ، ولم يعيذوهم ، فيزدادوا خوفا.
ومن ذلك قوله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ) أي : فذلك النقر ، فعبر عن المصدر ب «ذا».
ومن ذلك قوله : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) .
أي : على رجع
الإنسان وبعثه.
وقيل : على رجع
الماء إلى الإحليل.
ومن ذلك قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) .
الهاء الأولى ل «ما»
من قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) ؛ والثانية للرسول ، إذا جعلت «ما» بمعنى «الذي» ، وإذا
جعلته شرطا ، كلاهما للرسول.
ومن ذلك قوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى
لَهُمْ) .
قيل فاعل «أملى»
هو الله ؛ لقوله «أملى لهم».
وقيل : هو الشيطان
، لأنه أهملهم ، ورجّاهم ، وسوّل لهم ، وزيّن لهم.
ومن ذلك قوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) ، أي: من الكافرين من أهل الكتاب.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) .
قيل : الهاء
للمصدر ، أي : يذرؤكم في الذرء.
ويجوز أن يكون ، لقوله : (أَزْواجاً) كما قال : (فِي بُطُونِهِ) .
فأما قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل هدايته ؛ لأن قبله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) .
وأما قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ) . أي : من قبل السحاب ؛ لأن السحاب جمع سحابة ؛ فجرى مجرى
النخل والحب ، وقد قال : (يُزْجِي سَحاباً
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) كما ، قال : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) / و (أَعْجازُ نَخْلٍ
خاوِيَةٍ) . وقال : (مِنَ الَّذِينَ
هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، ولم يقل : «مواضعها».
فأما قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ) .
ففيما يعود إليه «منهما»
ثلاثة أقوال :
__________________
أحدها ـ أنه
لهاروت وماروت.
والثاني ـ من
السحر والكفر.
والثالث ـ من
الشيطان والملكين ، يتعلمون من الشياطين السحر ، ومن الملكين ما يفرقون به بين
المرء وزوجه.
ومن ذلك قوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) .
فالمعنى في الآية
: أن مجترحى السيئات لا يستوون مع الذين آمنوا ، كما قال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) .
وكما قال : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) .
فالمراد في الآية
هذا المعنى ، والضمير في قوله : (مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ) لا يخلو من أن يكون للذين آمنوا دون الذين اجترحوا السيئات
، أو للذين اجترحوا من دون المؤمنين ؛ أولهما جميعا.
فيجوز أن يكون
الضمير فى «محياهم ومماتهم» للذين آمنوا دون غيرهم. ويكون المعنى : كالذين آمنوا
مستويا محياهم ومماتهم ، فتكون الجملة في موضع الحال من «الذين آمنوا» ، كما يكون
الحال من المجرور في نحو : مررت بزيد.
ويجوز أن تكون
الجملة في موضع المفعول الثاني من «نجعل»
__________________
أي : نجعلهم
مستويا محياهم ومماتهم ، كالذين آمنوا ، أي : لا ينبغى ذلك لهم ، فيكون الضمير فى (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) للذين اجترحوا السيئات ، و «محياهم ومماتهم» يعود الضمير
منه إلى الضمير الذي فى (نَجْعَلَهُمْ) .
ويدل على ذلك أنه
قد قرئ فيما زعموا : «سواء محياهم ومماتهم» فنصب الممات. وقد حكى عن الأعمش.
فهذا يدل على أنه
أبدل المحيا والممات من الضمير المتصل ب «نجعلهم» ؛ فيكون كالبدل ، كقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ) .
فيكون الذكر فى «محياهم
ومماتهم» على هذا المعنى : للذين اجترحوا السيئات.
ويجوز أن نجعل
قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) فى موضع المفعول الثاني ل «نجعل» ، ويكون الضمير فى «محياهم
ومماتهم» للقبيلين.
ويكون العامل في
الحال «أن نجعلهم» الذي هو مفعول «الحسبان» . ويكون المعنى : أن نجعلهم والمؤمنين متساوين في المحيا
والممات.
وقد روى عن مجاهد
أنه قال / فى تفسير هذه الآية : يموت المؤمن على إيمانه ويبعث عليه ، ويموت الكافر
على كفره ويبعث عليه.
فهذا يكون على
الوجه الثالث يجوز أن يكون حالا ، من «نجعلهم» والضمير للقبيلين.
__________________
فإن قلنا : إن من
الكفار من يلحقه مكانه في الدنيا ، ويكون له نعم ومزية ، فالذى يلحق ذلك ليس يخلو
من أن يكون من أهل الذمة ، أو من أهل الحرب.
فإن كان من أهل
الذمة ، فليس يخلو من أن يكون قد أدركه ما ضرب عليهم من الذلة في الحكم.
وإن كان من أهل
الحرب ، فليس يخلو من إباحة نفسه وماله ، لكونه حربا. ومن أن يكون ذلك جاريا عليه
في الفعل من المسلمين بهم أو الحكم ، والمؤمن مكرم في الدنيا لغلبته بالحجة ، وفي
الآخرة في درجاته الرفيعة ومنازله الكريمة.
ومن ذلك قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هذا) . أي : الله سماكم المسلمين ، من قبل إنزال القرآن ، وفي
هذا القرآن. عن ابن عباس.
وقيل : بل إبراهيم
سمّاكم المسلمين ؛ لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) . عن ابن زيد.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) .
فى الهاء ثلاثة
أقوال :
الأول ـ أنه من
التكذيب.
والثاني ـ أنه
للكتاب.
والثالث ـ للإنذار
، وإن جاء «لتنذر» بعده.
__________________
ومن ذلك قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) .
قال سعيد بن جبير
: إن الرسل يئسوا من قومهم أن يؤمنوا به ، وإنّ قومهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما
قالوا لهم ، فأتاهم نصر الله على ذلك.
والضمير في قوله :
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا) للمرسل إليهم ، أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به ، من
أنهم إن لم يؤمنوا نزل العذاب بهم ، وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوه من إمهال الله
إياهم وإملائه.
ودلّ ذكر الرسل
على المرسل إليهم ، فكنّى عنهم ، كما كنى عن الرعد حين جرى ذكر «البرق» فى قوله :
أمنك البرق
أرقبه فهاجا
|
|
فبتّ إخاله دهما
خلاجا
|
وفيمن شدد «كذّبوا»
فالضمير للرّسل ، تقديره : ظن الرسل ، أي : تيقنوا. «وظنوا» ليس / الظن الذي هو
حسبان.
ومعنى «كذبوا»
تلقّوا بالتكذيب ، كقولهم : خطّأته ، وفسّقته ، وجدّعته ، وغفّرته ، فتكذيبهم
إياهم ، يكون بأن تلقّوا بذلك.
وقيل في قوله تعالى
: (وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً) أي : تساقط ثمرة النخلة ، فأضمر «الثمرة» لجرى ذكر «النخلة»
، كالرعد مع البرق ، والرسول مع المرسل إليه.
__________________
ومن ذلك قوله : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) . أي : فسوى الدّمدمة بينهم ، وهو الدّمار.
وقيل : سواهم
بالأرض ، أو سوى بهم بعدهم من الأمم.
(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي : الله تعالى ، لا يخاف عاقبة إهلاكه إياهم ، ولا تبعة
من أحد لفعله ، كقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ) .
وقيل : لم يخف
الذي عقر الناقة عقباها. أي : عقبى عقر الناقة ، على حذف المضاف. عن الضحاك.
وقيل : لا يخاف
صالح ـ رسول الله صلّى الله عليه ـ تبعتها ، أي : قد أهلكها الله ودمرها وكفاه
مؤونتها.
و «الواو» يجوز أن
تكون للحال ، أي : فسواها غير خائف عقباها ، أي : غير خائف أن يتعقب عليه في شىء
مما فعله.
وقيل : فعقروها غير
خائف عقباها. ولم يقل : ولا تخافون ؛ لأن لفظ «أشقى» مفرد ، فهو كقوله : (مَنْ يَسْتَمِعُ) ، و (مَنْ يَسْتَمِعُونَ) .
ومن ذلك قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا
تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) ، فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول ، مثل : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ) لأن الضمير للّروم ، وهم المغلوبون ، كأنه لما قيل : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد ، علمنا أنه أخذ بما أمر به وتلقّاه
بالقبول.
__________________
والمعنى : من لقاء
موسى الكتاب ، فأضيف المصدر إلى ضمير «الكتاب» وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر
به ، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل. كقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) و (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) .
ويجوز أن يكون
الضمير لموسى ـ عليهالسلام ـ والمفعول به محذوف ، كقوله : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعاءَكُمْ) والدعاء مضاف إلى الفاعل.
ويجوز أن يكون
التقدير : من لقائك موسى ، فحذف / الفاعل ، فيكون ذلك في الحشر ، والاجتماع للبعث
، أو في الجنة ، فيكون كقوله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) .
ومن ذلك قوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) . أي : مثل نور الله في قلب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله.
وقيل : مثل نور
القرآن.
وقيل : بل مثل نور
محمد ـ عليهالسلام.
وقيل : بل مثل نور
قلب المؤمن.
[و] قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، «ذا» إشارة إلى الإحياء ، أو إلى ذكر القصة ، أو للإباحة
، أو للإبهام.
__________________
وفي الضمير الاخر
قولان :
أحدهما ـ للقلوب.
والثاني ـ أنها
للحجارة ، لأنها أقرب المذكورين.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) الضمير لله ، لتقدّم ذكره فى قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) ، أو لجميع المذكورين .
وفي قوله : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ
أَبْناءَهُمْ) غير وجه :
قيل : يعرفون
تحويل القبلة إلى الكعبة.
وقيل : يعرفون
محمدا.
وقيل : يعود إلى
العلم ، من قوله : (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وهو نعته.
وأما قوله تعالى :
(بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) .
قال أبو على :
الهاء تعود إلى «ما عقدتم» بدلالة أن الأسماء المتقدمة : اللغو ، والأيمان ، وما
عقدتم.
ولا يجوز أن يعود
إلى اللغو ؛ لأن اللغو لا شىء فيه ، بلا خلاف. قال : ولا يعود إلى «الأيمان» إذ لم
يقل : فكفّارتها.
والمعقود عليه ما
كان موقوفا على الحنث والبر ، وما عدا ذلك لم يدخل تحت النّص.
وعندى أنه يعود
إلى «الأيمان» ، كقوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي
بُطُونِهِ) .
__________________
ومن ذلك قوله : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) ولم يقل : ألا إنهما قربة.
ولا يجوز أن يعود
إلى «الصلوات» ، لأن المفعول الثاني من «يتخذ» هو الأول ، والنفقة قربة ، وليست
بدعاء الرسول ، والضمير في «إنه» للنفقة التي عليها ما ينفق ، فلا يكون قوله : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) عطفا على (قُرُباتٍ) ولكن يكون عطفا على لفظة (اللهِ) .
وقيل : يكون عطفا
على لفظة «ما» ، أي يتخذ ما ينفق قربات ، ويتخذ صلوات الرسول قربات.
وأما قوله : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) ، فاعل «انهار» : «الجرف» فكأنه : فانهار الجرف بالبنيان
في النار ؛ لأن البنيان مذكر ، بدلالة (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ
الَّذِي بَنَوْا).
ويجوز أن يكون /
الفاعل ضمير (مِنَ) وسقوط البنيان زيادة في غضب الباني ؛ كالصّنم زيادة في
عقاب عابده.
وإنما قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) .
قيل : «اللام»
للعاقبة ، أي : إلى الاختلاف صار خلقهم ؛ لأنهم خلقوا للعبادة.
__________________
وقيل : هو مردود
إلى قوله : (وَأَهْلُها
مُصْلِحُونَ) ، أي. خلقهم لئلا يهلكهم وأهلها مصلحون.
وقيل : للرحمة
خلقهم.
وقيل : للشقاوة
والسعادة خلقهم. عن ابن عباس.
وقيل : للاختلاف
خلقهم عن مجاهد.
ومن ذلك قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) .
قال أبو على :
الهاء ضمير المصدر
الذي دل عليه قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ) ، أي : ولا يحيطون علما بعلمه.
ومما يبين ذلك
قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) .
ومن ذلك قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، أي : الإعادة أهون على الخالق ، وجاز لأن الفعل يدل على
مصدره ، أي : الإعادة أهون على الخالق من الابتداء في زعمكم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَما كانَ اللهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) .
أي : ما كان الله
معذب المشركين.
«وهم» أي :
المسلمون يستغفرون بين أظهرهم.
__________________
الباب الرابع والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل ، وقد أبدل الاسم من المضمر الذي قبله
والمظهر ، على سبيل إعادة العامل ، أو تبدل «إن» و «أن» مما قبله
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي : ما أمر الله بوصله ، ف «أن» بدل من الهاء المجرورة ،
نظيره فى «الرعد» فى الموضعين .
ودلّت هذه الآي
الثلاث ، على أن المبدل منه ليس في تقدير الإسقاط ؛ لأنك لو قدرت ذلك ، كانت الصلة
منجردة عن العائد إلى الأول.
ومن إبدال المظهر
من المضمر : ما ذهب إليه الأخفش في قوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) . التقدير: فيقوم الأوليان.
وقد عزّ إبدال
المظهر من المضمر عندهم ؛ وقل وجوده ، حتى بلغ من أمرهم أنهم أخرجوه من بيت
الفرزدق :
على حالة لو أنّ
في القوم حاتما
|
|
على جوده لظنّ
بالماء حاتم
|
__________________
/ فقالوا : «حاتم»
مجرور ، بدل من الهاء فى «جوده».
وفار فائر أحدهم ،
فقال : إنما الرواية : ما ضنّ بالماء حاتم.
برفع «حاتم».
واستجاز الإقواء
في القصيدة ، حتى لا يكون صائرا إلى إبدال المظهر من المضمر ، وقد أريتك هذا في
هذه الآي ، وأزيدك وضوحا حين أفسر لك قوله : (أَنْزِلْ عَلَيْنا
مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) .
ألا ترى أنه قال :
«لأولنا وآخرنا» فأبدل من النون والألف بإعادة اللام.
كما قال : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) فكرر اللام ، لأن العامل مكرر في البدل تقديرا أو لفظا.
ولهذا المعنى قال
أبو على في قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ
السِّحْرُ) فى قراءة أبى عمرو ، فألحق حرف الاستفهام ، كان «السّحر»
بدلا من المبتدأ ، ولزم أن يلحق «السّحر» الاستفهام ، ليساوى المبدل منه في أنه
استفهام.
ألا ترى أنه ليس
في قولك : «السّحر» استفهام ، وعلى هذا قالوا : كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت «العشرون»
و «الثلاثون» بدلا من «كم».
__________________
وألحقت «أم» لأنك
في قولك : كم درهما مالك [أعشرون أم ثلاثون] ؟ مدّع أنه أحد الشيئين.
ولا يلزم أن تضمر
ل «السّحر» خبرا على هذا. لأنك إذا أبدلت من المبتدأ صار في موضعه ، وصار ما كان
خبرا لما أبدلت منه في موضع خبر البدل.
فأما قول أبى حيوة
النّميرىّ :
و كأنّها ذو
جدّتين كأنه
|
|
ما حاجبيه معيّن
بسواد
|
لهق السّراة كأنّه
في قهره
|
|
مخطوطة يقق من
الإسناد
|
فإنه أبدل «الحاجبين»
من الضمير ، على حدّ قولك : ضربت زيدا رأسه.
فإن قلت : أبدل من
الأول ، وقدّر الخبر عن الأول ؛ فلأن المبدل منه قد لا يكون في نية الإسقاط بدلالة
إجازتهم : الذي مررت به زيد أبو عبد الله.
ولو كان البدل في
تقدير الإسقاط بدلالة ما لا يعتدّ به ، لم يجز هذا الكلام ، فهو قول.
فإن قلت : حمل
الكلام على المعنى ، فلما كان «حاجباه» بعضه ، حمل الكلام عليه ، كأنه قال : كأن
بعضه معيّن بسواد ، فأفرد لذلك ، فهو قول.
__________________
وأما قوله تعالى :
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ
عَنِ النَّبَإِ / الْعَظِيمِ) «عن» الثانية
يتعلّق بفعل محذوف ؛ أي : يتساءلون عن النبأ العظيم ؛ ولا تكون متعلقة ب «يتساءلون»
هذه الظاهرة ؛ لأنه لو كان يكون بدلا للزم إعادة الاستفهام كقولك : كم مالك أثلاثون
أم أربعون؟
وحسن حذف الفعل
لظهور الآخر.
وفي رفع (لِأَوَّلِنا) وجه آخر سوى البدل ، يكون من باب : تميمي أنا ؛ مبتدأ ، «وآخران»
خبره.
والتقدير :
فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله ، وأهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين عثر
على خيانتهما ، كقولهم : تميمى أنا.
ويجوز أن يكون خبر
مبتدأ محذوف ، أي فآخران يقومان مقامهما الأوليان.
ويجوز أن يكون
رفعا ب «استحق».
ويجوز أن يكون خبر
«آخران» ، لأنه قد اختص بالوصف.
ويجوز أن يكون صفة
بعد صفة ؛ ويكون الخبر (فَيُقْسِمانِ) . وجاز دخول الفاء ؛ لأن المبتدأ نكرة موصوفة.
ومن البدل قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا
إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) . ف «أن» جرّ بدل من «كلمة».
__________________
وقيل : بل «أن»
رفع بالظرف ، ويكون الوقف على «سواء». أي : إلى كلمة سواء ، ثم قال : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ) .
ولا يجوز أن يكون
الظرف وصفا ل «كلمة» ، لأنه لا ذكر فيه من «كلمة».
وقيل : بل الوقف «بينكم»
ثم ابتدأ : وقال (أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ) أي : هى أن لا تعبدوا إلا الله ، فأضمر المبتدأ.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) «أن» جرّ بدل من «الذين»
، أي : ويستبشرون بأن لا خوف على الذين لم يلحقوا من خلفهم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) .
فيمن قرأ بالتاء
يكون «أن» مع اسمه وخبره بدلا من «الذين كفروا».
وقال الفراء : هو
كقوله :
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) ، «أن» نصب بدل من
__________________
«السّاعة» كما أن
قوله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) جرّ / بدل من «الّذين».
وكما أن قوله : (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بعدها جر من «الّذين» فى قوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ
الَّذِينَ) .
ومن ذلك قوله
تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ) ، فيمن فتح ، أن يكون بدلا من «الرحمة» ، كأنه : كتب ربكم
على نفسه أنه من عمل منكم الرحمة ، لأنه من عمل منكم.
وأما فتحها بعد
الفاء (فَأَنَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ، فعلى أنه أضمر له خبرا ، تقديره : فله أنه غفور رحيم ،
أي : فله غفرانه. وأضمر مبتدأ يكون «أن» خبره ؛ كأنه : فأمره أنه غفور رحيم.
وعلى هذا التقدير
يكون الفتح فيمن فتح (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) تقديره : فله أن له نار جهنم. إلا أن إضماره هنا أحسن ؛
لأن ذكره قد جرى في صلة «أن».
__________________
وإن شئت : فأمره
أن له نار جهنم ، فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر.
ومثل البدل في هذا
قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) . المعنى: وإذ يعدكم الله كون إحدى الطائفتين
مثل قوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ).
ومثله قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) ، أي : فله أن لله ؛ أو : فأمره أن لله .
ومثله قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، أي : فأمره أنه يضله.
ومن ذهب في هذه
الآي إلى «أن» التي بعد الفاء تكرير ، أو بدل من الأولى ، لم يستقم قوله.
وذلك أن «من» لا
يخلو من أن تكون للجزاء الجازم الذي اللفظ عليه ، أو تكون موصولة ، فلا يجوز أن يقدر
التكرير مع الموصولة ؛ لأنه لو كانت موصولة لبقى المبتدأ بلا خبر.
__________________
ولا يجوز ذلك في
الجزاء الجازم ؛ لأن الشرط يبقى بلا جزاء. فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه على ما ذكرنا.
على أن ثبات الفاء في قوله «فأنّ له» يمنع من أن يكون بدلا.
ألا ترى أنه لا
يكون بين البدل والمبدل منه الفاء العاطفة ، ولا التي للجزاء.
فإن قلت : إنها
زائدة. بقي الشرط بلا جزاء ؛ فلا يجوز إذن تقدير هاهنا ، وإن جاءت في غير هذا
الموضع.
/ وأما قوله تعالى
: (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) فإن جواب الشرط محذوف على ما تقدّم. ومن جعل «أن» بعد
الفاء بدلا مما قبله ، وجب أن يقدّر زيادة الفاء.
وأما قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ
وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) .
فالتقدير : أيعدكم
أن إخراجكم إذا متم. فيكون المضاف محذوفا ، ويكون ظرف الزمان خبرا ، ويكون «أنكم
مخرجون» بدلا من الأولى.
ويجوز أن يكون خبر
«أن» الأولى محذوفا ، لدلالة خبر الثانية عليه ، والتقدير : أيعدكم أنكم إذا متم
وكنتم ترابا وعظاما تبعثون. فحذف الخبر لدلالة الثاني عليه.
__________________
وأما قوله : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) فيمن قرأ بالتاء ـ كان فى «يخيل» ضمير «العصى» أو «الحبال»
، ويكون «أنها» بدلا من ذلك الضمير ، أي : تخيل إليه سعيها.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) . «أن» رفع بدل من «الجن» ، والتقدير : فلمّا خرّ تبين
للإنس جهل الجن بالغيب.
أي : لما خرّ تبين
أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأما قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) .
فقوله : «أنّه من
تولّاه» رفع ب «كتب» و «من» شرط ، و «تولّاه» فى موضع الجزم ب «من» ، وقوله «فأنّه
يضلّه» جواب الشرط.
وإن شئت كان «من»
موصولة و «تولّى» صلته ، وقوله : «فأنّه» دخلت الفاء في خبر «من» لأن الموصولة
بمنزلة الشرط.
وفتحت «أنّ» من
قوله «فأنه» لأن التقدير : فشأنه أنه يضله ، فحذف المبتدأ.
__________________
وقول من قال : إن
قوله : «فأنّه يضلّه» بدل من «أنّه من تولّاه» كان خطا ، لأن الفاء لا تدخل بين
البدل والمبدل منه.
وكذا قول من قال
هو تكرير للأول : لا تدخل الفاء بين الاسمين.
وأما قوله : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) فقد قال أبو إسحاق: إن «أن» الأولى نصب / ، اسم «حسب»
وخبره ، وموضع «أن» الثانية نصب من وجهين :
أحدهما ـ أن تكون
منصوبة ب «يتركوا» ، فيكون المعنى : أحسب الناس أن يتركوا لأن يقولوا ، و «بأن» ،
فلما حذف الجر وصل «يتركوا» إلى «أن» فنصب.
ويجوز أن تكون «أن»
الثانية العامل فيها «حسب» ، كأن المعنى على هذا ، والله أعلم : أحسب الناس أن
يقولوا آمنا وهم لا يؤمنون ، والأول أجود.
قال أبو على : لا
يكون بدلا ، لأنه ليس هو الأول ، ولا بعضه ، ولا مشتملا عليه ، ولا يستقيم حمله
على وجه الغلط. ولا يكون صفة ، لأن «أن» لا يوصف بها شىء في موضع ولم يوصف هو ،
فإذا كان تعلّقه بالحسبان لا يصح ثبت تعلقه بالتّرك.
__________________
فأما قوله تعالى :
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ).
وزعم سيبويه أن
قولهم «أنّهم إليهم لا يرجعون» بدل من موضع «كم أهلكنا».
فإن قال قائل : عن
«كم» إنما هي استفهام ، فكيف يبدل منها ما ليس باستفهام؟.
فإنما ذلك لأن
معنى «كم» هاهنا الخبر ، والمعنى : يؤول إلى قوله : ألم يروا أنهم إليهم لا
يرجعون.
ولا يجوز أن يكون
بدلا من «كم» وحدها ، لأن محل «كم» نصب ب «أهلكنا» وليس المعنى : أهلكنا أنهم لا
يرجعون ، لأن معنى «أنهم لا يرجعون» الاستئصال ، ولا يصح أهلكنا بالاستئصال.
وإنما المعنى :
ألم يروا استئصالهم ، فهو بدل من موضع «كم أهلكنا».
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) . موضع «أن» رفع ، لأنه بدل من «رجال».
__________________
والمعنى : لو لا
أن تطؤوا رجالا ؛ ولا تعلق له بقوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) ، لأن «أن» الناصبة للفعل لا تقع بعد العلم ؛ وإنما تقع
بعد العلم المشدّدة ، أو المخففة من الثقيلة.
كقوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) .
وقوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) .
وكقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) .
وكقوله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ) .
وكقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، فيمن رفع.
ومن البدل قوله
تعالى ، فى قراءة الكسائي : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ / الْإِسْلامُ) ، هو بدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) ، أي : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام.
__________________
وجوّز الكسائي أن
يكون على حذف الواو ، أي : وأن الدين ، فهو محمول على أنه لا إله إلا هو.
ومن البدل قوله
تعالى : (كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ) ، «من غم» بدل من «منها»
، و «الغم» مصدر : غممته ، أي : غطيته.
ومنه قوله :
أتحقر الغم والغرقا
وهذا معنى قوله : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي : قد عمهم العذاب وغمرهم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) ، فيمن فتح «أنّا» أبدله من المجرور قبله.
ومن ذلك قوله
تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ، «ذلك» الثانية بدل من «ذلك» الأولى.
ولا يكون «بما
عصوا» بدلا من قوله (بِأَنَّهُمْ كانُوا) لأن العصيان أعمّ من كفرهم ، لقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ) (وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا) ، ولا تقول : مررت برجل فكيف امرأة .
__________________
وقال الله تعالى :
(وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ف «أن» بدل من «الياء» والمعطوف عليه.
وقد قال سيبويه :
مررت بي المسكين ، لا يجوز ، وجاز هذا ؛ لأنه بدل اشتمال ، هكذا زعم شارحكم ، وليس
بمستقيم.
والتقدير :
واجنبنى وبنىّ من أن نعبد الأصنام ، أي : من عبادة الأصنام ، ف «أن» مفعول تعدّى
إليه الفعل بالجار.
وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوها) ، ف «أن يعبدوها» بدل من «الطاغوت».
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) ، «نكالا» بدل من (الْجَزاءَ) ولا يجوز أن يكون غير بدل ؛ لأن الفعل الواحد لا يعمل في
اسمين كل واحد منهما مفعول له.
ومن ذلك قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ
كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ).
__________________
قال أبو على : لا
يكون «من أكره» استثناء من قوله : «من كفر» لأنه مفرد ، فإذن «من» بدل. وتقديره :
أولئك من كفر إلا من أكره.
ومن ذلك قوله
تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدَ) بدل من (يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ). وإن شئت كان نصبا على المدح.
ومن ذلك قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : لكن / أخرجوا بهذا القول.
والمعنى : أخرجوا
من ديارهم بغير حق يجب على الكفار إخراجهم به ، وليس ببدل من «حق» ، لفساد المعنى
، إذ لا يوضع موضع «حق».
ومن ذلك قوله
تعالى : (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : أنتم طوافون ، و «بعضكم» بدل من الضمير فى «طوافون» ، أي : أنتم يطوف بعضكم على بعض ، و «على» يتعلق بالطواف.
وحمله الطّبرىّ
على «من». أي : بعضكم من بعض. وقد تقدم هذا بأتمّ من هذا.
__________________
وأما قوله تعالى :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ) ، لا يكون اللام فى «لمن» بدلا من اللام فى «لكم».
ألا ترى أنه لم
يجز : بك المسكين ، كأن الأمر : بي المسكين ، لكن يكون صفة «للأسوة».
ويجوز أن يكون
متعلّقا ب «حسنة» ، أي حسنت لهم ؛ كقولك : حسنت بهم.
ومثله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بعد قوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) لا يكون البدل من «الذين».
وجوز الأخفش كونه
بدلا ؛ وليس بالصحيح.
وأما قوله تعالى :
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) .
فقوله : «لبيوتهم»
بدل من قوله : «لمن يكفر» وكرر اللام كما تقدم الآي الأخر.
وأما قوله : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي
أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) إلى قوله : (أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ) فقد زعموا أن قوله : «ألّا تعلوا» بدل من قوله : «كتاب».
__________________
والتقدير : إنّى
ألقى إلىّ. أن لا تعلوا علىّ.
واضطرب كلام أبى
إسحاق فى هذا ؛ فزعم أن التقدير : إنّى ألقى إلىّ كتاب بأن لا تعلوا علىّ ، أي :
كتب إلىّ بأن لا تعلوا علىّ.
وهذا الكلام منه
محتمل إن عنى أن قوله : «أن لا تعلوا على» متعلق بنفس قوله : «كتاب» فهو خطأ ؛ لأن
«كتابا» مصدر ، وقد وصف بقوله : «كريم» فلا يبقى من صلته شيء بعد كونه موصوفا.
وإن أراد : أن «كتابا»
دل على «كتب» ، و «أن لا تعلوا على» متعلق «بكتب» الذي دل عليه «كتاب» فهو وجه.
وسها الفارسىّ عن
هذا الكلام فى «الإغفال» .
وأما قوله تعالى :
(إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فاعتراض بين البدل والمبدل منه.
وأما قوله تعالى :
(فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) فيمن فتح ، فإنه / يجوز أن يكون موضع «أنا» رفعا بدلا من
اسم «كان» ، والتقدير : انظر كيف كان تدميرنا إيّاهم.
ويجوز أن يكون على
تقدير : فهو أنّا دمرناهم.
ويجوز أن يكون على
تقدير : لأنّا دمّرناهم.
__________________
ولا يجوز أن يكون
بدلا من «كيف» لأنه لا حرف استفهام معه.
ويجوز أن يكون «كيف»
ظرفا ل «كان» ، ويكون «عاقبة» اسم «كان» :
و «أنا دمرناهم»
خبره.
وقد ذكرنا هذا فى «البيان»
.
وأما قوله : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا
السُّواى أَنْ كَذَّبُوا) ، فيجوز : أن يكون على تقدير : هى أن كذبوا ؛ وعلى تقدير :
لأن كذبوا. ويجوز أن يكون بدلا من «السوءى» سواء جعلت «السوءى» اسم «كان» أو خبره
، على حسب اختلافهم في «عاقبة الّذين».
فأما قوله تعالى :
(فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ) ، بالكسر والفتح.
فالفتح على إيقاع
النداء عليه ؛ أي : نادته بأن الله ؛ والكسر على : قال : إن الله.
قال : وفي حرف عبد الله : (فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في
المحراب يا زكريّا إنّ الله) .
__________________
فهذا يوجب الكسر
لقوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ) إلى قوله : (يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ) فكسر ؛ لأن ما بعد النداء مبتدأ.
وقال في قوله : (نُودِيَ يا مُوسى) : أي : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فالكسر على قياس قراءة عبد الله ، الوجه.
قال : ولا يكون «يا
موسى» قائما مقام الفاعل ، ولا «إنّى أنا ربّك ؛ لأنهما جملتان ، والجملة لا تكون
فاعلة.
وهذا منه خلاف قول
سيبويه حين جوز فى (لَيَسْجُنُنَّهُ) أنه فاعل «بدا» ، وقد بيّنته «فى التّتمة» فلا يحتاج إلى
إضمار المصدر فى «نودى». كما لا يضمر سيبويه «بدا» فى قوله «ليسجننّه» [بعد قوله] (ثُمَّ بَدا) .
وأما قوله : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) بالفتح والتشديد ، عن الزيات والأعمش ، وهما يقرآن : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بالكسر ؛ فقد سهوا بأسرهم.
وعندى أنه محمول
على المعنى ؛ لأنه [لمّا] كان قال : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) ، وكان معناه : افعل ذلك لأنك بالوادي المقدس ، جاز أن
يقول : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) ، أي اخلع : نعليك لهذا ولهذا.
وأين هم من هذا؟
لم يتأملوا في أول / الكلام ، ولم ينظروا في قراءة الزيات ، والله أعلم.
__________________
الباب الخامس والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل من الكلمات التي فيها همزة
ساكنة ، يترك همزها أبو عمرو وما لا يترك همزها
وأعلم أن أبا عمرو
يترك الهمزة الساكنة في الأسماء والأفعال نحو : الكأس والفاس ، و (يُؤْمَرُونَ) (وَيَأْكُلُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) و (يُؤْفَكُونَ) و (يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) ، وما أشبه ذلك ، فى أربعين موضعا ، فيها ثلاث وثلاثون لا
خلاف عن أبى عمرو في همزها ، وهو ما يكون للجزم والوقف ، أو يخرج بتركه من لغة إلى
لغة ، أو من معنى إلى معنى ، أو يكون بترك الهمزة أثقل من الهمزة.
فأولها في البقرة
: (أَنْبِئْهُمْ) وفيها : (أَوْ نُنْسِها) .
وفي آل عمران : (تَسُؤْهُمْ) .
وفي النساء : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) .
وفي الأعراف : (أَرْجِهْ) .
وفي التوبة : (تَسُؤْهُمْ) .
__________________
وفي يوسف : (نَبِّئْنا) .
وفي إبراهيم : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) .
وفي الحجر : (نَبِّئْ عِبادِي) ـ وفيها : (وَنَبِّئْهُمْ) .
وفي بنى إسرائيل :
(اقْرَأْ كِتابَكَ) .
وفيها : (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) .
وفيها : (إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) .
وفي الكهف : (وَهَيِّئْ) (وَيُهَيِّئْ) .
وفي مريم : (وَرِءْياً) .
وفي الشعراء : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ) ـ وفيها : (أَرْجِهْ) وفي الأحزاب : (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ) .
وفي سبأ : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) .
وفي فاطر : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) .
__________________
وفي يس : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) .
وفي حم عسق : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) .
وفي النجم : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) .
وفي القمر : (وَنَبِّئْهُمْ) .
وفي المعارج : (تُؤْوِيهِ) .
وفي البلد : (مُؤْصَدَةٌ) .
وفي العلق : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و (اقْرَأْ وَرَبُّكَ) .
وفي الهمزة : (مُؤْصَدَةٌ) .
وأما السبعة
الباقية ـ فهى ستة أسماء وفعل :
فالأسماء : (البأس)
(والكأس) ، و (الرّأس)
، و (الضّأن) ، و (الذّئب) . و (وبئر)
والفعل : (يَلِتْكُمْ) .
__________________
السادس والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل من العطف على
الضمير المرفوع ، وقد أكد بعض ذلك وبعضه لم يؤكد
فمن ذلك قوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، عطف «وزوجك» على الضمير فى «اسكن» بعد ما أكّد بقوله «أنت».
وقال : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) فأكّد.
وقال : (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) .
ومما أكّد من ذلك
من غير تأكيد / ب «أنت» ولكن بشئ آخر : قوله : (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) فيمن رفع ، أكد بالمفعول دون أنتم» والمفعول يقوم مقام «أنتم.
ثم عطف على قوله : (وَشُرَكاءَكُمْ) .
ومن ذلك : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ) معطوفا على الضمير فى «استقم» ، وقام قوله «كما أمرت» مقام
التأكيد ، ويجوز أن يكون «من» فى موضع النصب مفعولا معه.
__________________
ومن ذلك قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ
صَلَحَ) ، يجوز فى «من» الرفع والنصب ، على ما تقدّم.
وقد قلنا في حذف
المضاف : مذهب أبى علّى فى «من» أن التقدير : ودخول من صلح من آبائهم وأزواجهم.
فأما قوله تعالى :
(ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) . فقد قال أبو على فى «التذكرة» : قوله : «هو» مرتفع
بالابتداء ، وليس بمحمول على الضمير الذي فى «استوى».
فإن قلت : فإن (استوى)
يقتضى فاعلين ، ألا ترى أنك تقول : استوى زيد وعمرو ، فإن هذا المفعول يكون على
ضربين :
الأول ـ ما ذكرنا.
والثاني ـ أن
تقتصر به على فاعل واحد كقوله : (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) وإذا احتمل ذا لم يكن لمن زعم أنّ الضمير المرفوع يعطف
عليه من غير أن يؤكّد دلالة في هذه الآية ؛ لاحتمالها غير ما ذكر ، وهو ما حملناه
عليه.
وهذا القائل هو
الفراء ؛ لأنه قال : المعنى : استوى النبي وجبريل عليهماالسلام بالأفق الأعلى ليلة المعراج ، حين أسرى به صلىاللهعليهوآله.
ومنه قوله تعالى :
(أَإِذا كُنَّا
تُراباً وَآباؤُنا) ، عطف «آباؤنا» على الضمير فى «كنّا» لمكان قوله : «ترابا».
__________________
وأما قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) فيمن رفع «العين». وجوّز فيه أبو علىّ : أن يكون «العين»
مرفوعا على الابتداء والجارّ خبر ، وجوّز أن يكون محمولا على موضع «أن» ، وجوّز أن
يكون رفعا عطفا على الضمير الذي في الظرف ، وإن لم يؤكد.
كما جاء (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) فعطف «آباؤنا» على الضمير الذي في «أشركنا» ، قال : ولم
يؤكده ؛ فكذا هاهنا.
فإن قلت : إن «لا»
يقوم مقام التأكيد ، فقد قال في الجواب : إنما يقوم «لا» مقام التأكيد / إن كانت
قبل الواو ؛ فأما إذا جاءت بعد الواو ، لم تقم مقام التأكيد ، ألا ترى أن التأكيد
في الآي التي تلونا قبل الواو ، نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ) ، وقوله: (فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) .
وهذا من أبى علىّ
استدراك على البصريين قاطبة ؛ لا سيما وسيبويه قال فى الآية الأولى :
إن قوله : «ولا
آباؤنا» بمنزلة : قمت أنت وزيد ؛ فلا يرى العطف على المضمر إلا بعد التأكيد ؛
والتأكيد بأنت ، وأنا ، أو ما يقوم مقامهما من المفعول وغيره.
ولم يروا التأكيد
بقولهم «نفس» فلم يجيزوا : قمت نفسك وزيد ؛ كما أجازوا : قمت أنت وزيد ، وقمتم
أجمعون وزيد.
قالوا : لأن «النفس»
اسم منصرف ، تدخلها العوامل بخلاف : أنت ، وأجمعين.
__________________
وقد يقع في التأكيد
بها ليس في بعض كلامهم ؛ كقولهم : هند خرجت نفسها ؛ فيكون كقولك : خرجت هي نفسها ـ
فيكون تأكيدا ل «هى» ويقال : هند خرجت نفسها ؛ فتكون الفاعلة ، كما تقول : خرجت
جاريتها ؛ والمعنيان مختلفان ؛ فلم يجر مجرى «أجمعين».
ومن هنا قال أبو
علىّ : لو قلت جاءونى أنفسهم ؛ لم يحسن حتى تؤكد ، فتقول : جاءونى هم أنفسهم ؛ لما
ذكرنا.
فلم يحسن لذلك أن
تحمله على الضمير حتى تؤكد ؛ يعنى حتى تقول : قمت أنت نفسك وزيد.
ولو قلت : مررت بك
نفسك ؛ جاز تأكيد الكاف بالنفس ؛ لأنك كأنك قلت : مررت بنفسك ـ ولم تذكر المؤكد
بخلاف العطف ؛ إذ لا يجوز : مررت بك وزيد.
وإن قلت : جاءونى
أنفسهم ، لا يجوز ؛ لأن المضمر المتصل في غاية الضعف ، والمؤكد متبوع ، فيكون أقوى
من التأكيد ، وهنا «النفس» أقوى من المضمر ؛ فلا يكون تابعا له ؛ فإذا انفصل
المضمر جاز أن تكون «النفس» تابعا له ؛ بمنزلة الأسماء الأجنبية ، أو بقيت بعدها
بمنزلة أخرى ، بخلاف المتصل ؛ إذ ليس بعدها بمنزلة أخرى.
وقد ذكر سيبويه
امتناع تأكيد المضمر ب «النفس» فى ثلاثة مواضع : فى حد أسماء الأفعال .
__________________
وفي حد الأحرف
الخمسة .
وفي حد علامات
المضمرين .
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) ، ف «من» رفع عطف على «التاء».
ومنه : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ) رفع عطف على الضمير فى «تقوم».
ومن ذلك قوله : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، «أخى» عطف على الضمير فى «لا أملك».
وإن شئت كان مبتدأ
، والتقدير : وأخى كذلك ؛ فحذف الخبر ؛ ولا يكون جرا بالعطف على الياء ؛ لأنه مضمر
مجرور.
__________________
السابع والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل ، لحقت «إن»
التي للشرط «ما» ، ولحقت النون فعل الشرط
فمن ذلك قوله
تعالى : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) .
وقال : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا
مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ)
وقال : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) .
وقال : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فى السورتين.
قال أبو إسحاق :
إعراب «إما» فى هذا الموضع إعراب حرف الشرط والجزاء ؛ لأن الجزاء إذا جاء في الفعل
، معه النون الثقيلة والخفيفة ، لزمه «ما» ، وفتح ما قبل النون فى «يأتينكم» لسكون
الياء وسكون النون الأولى.
قال أبو علّى :
ليس الشرط والجزاء من مواضع النونين ؛ إنما يدخلان على الأمر والنهى ، وما أشبههما
من غير الواجب. وفي قوله «لأن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة والخفيفة»
ما يوهم أنه من مواضعهما فى الكلام ، وأن لدخولها مساغا فيه ؛ وإنما يلحق الشرط في
ضرورة الشعر ، كقوله :
من يثقفن منهم
فليس بآيب
|
|
أبدا وقتل بنى
قتيبة شافى
|
__________________
وكذلك الجزاء
كقوله :
و مهما تشأ منه فزارة يمنعا
وهذا كقوله :
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
و «إن» فى الجزاء
أمثل ؛ لأنه بغير الواجب أشبه ، ألا ترى أنه خبر غير مبتّ كسائر الأخبار.
وفي هذا الكلام
شيء آخر : وهو أن قوله : الجزاء إذا جاء فى الفعل معه النون الخفيفة والثقيلة ؛
لزمه ما يوهم أن «ما» لزمت لدخول النون ؛ وأن لحاق النون سبب لحاق «ما» ؛ والأمر
بعكس ذلك وخلافه ؛ لأن السبب الذي له دخلت النون الشرط في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ
مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) ، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ) ، ونحو ذلك عند النحويين ، إنما هو لحاق «ما» أول الفعل
بعد «إن» ، فلذلك صار موضعا للتنوين بعد أن لم يكن لهما موضع.
وإنما كان كذلك
عند سيبويه وأصحابه ، لمشابهة فعل الشرط بلحاق «ما» به بعد «إن» دون أخواتها الفعل
المقسم عليه ، ولمشابهة كل واحد
__________________
منهما صاحبه في
معنى التوكيد بهما ، فسبب لحاق النون دخول «ما» ، على ما يذهب إليه النحويون ،
وكان لزوم النون فعل الشرط الوجه لدخول الحرف قبله ، إذا كان في خبر غير مبتّ.
فإن قيل : لم لزمت
النون فعل الشرط مع «إن» إذا لحقتها «ما» دون سائر أخواتها؟
وهلّا لزمت سائر
أفعال الشرط ؛ إذا دخلت على حرف المجازاة «ما» كما لزمته مع «إن» ، إذ ما ذكروه من
الشبه ب «ليفعلن» موجود في سائر الحروف ، وقد جاء : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ، و (أَيْنَ ما تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) ، و (أَيًّا ما تَدْعُوا
فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، وكل ذلك لا نون فيه :
الجواب في ذلك :
أن النون لم تلحق الشرط مع سائر حروف الجزاء ، كما لحقت مع «إن» لاختلاف موضعى «ما»
المؤكدة؟
وذلك أنه قد
استقبح أن يؤكّد الحرف ولا يؤكد الفعل ، وله من الرّتبة والمزية على الحرف ما
للاسم على الفعل ؛ فلما أكد الحرف ، والفعل أشد تمكنا منه ، قبح ترك تأكيده مع
تأكيد الحرف ، وليس سائر حروف الجزاء مثل «إن» فى هذا الموضع ؛ لأنها أسماء ، وهي
حرف ، فلا تنكر أن تؤكد هى دون شروطها
__________________
ألا ترى أن للاسم
من القدمة على الفعل ما للفعل على الحرف ؛ فيقبح لذلك ترك توكيد الفعل مع الاسم ،
كما قبح ترك توكيده مع الحرف.
فإن قلت : فما
الذي يدل على أن التوكيد لا حق للحرف؟ وما ننكر أن يكون لحاقه للفعل دون الجزاء ،
فيكون الفعل مؤكدا من أوله إلى آخره مثل «ليفعلن»؟
فالذى يدل على
لحاقه حرف الجزاء دون الشرط أن الوقف عليه ؛ وأن أحدا لم يقف على «إن» وحدها في
نحو : (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) فيستأنفوا «ما» مع الفعل ؛ كما استأنفوا ب «لا» مع الفعل ،
كقوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) .
ويدل أيضا على
لحاقها للحرف دون الفعل : أنها قد لحقت الحروف أيضا في نحو :
ألا ليتما هذا الحمام لنا
وفي الإدغام أيضا
تقوية ؛ لأن الكلمة لو نوى بها الانفصال جاز فيها الإظهار كما جاز فى «من ما» وما
أشبهه.
وكل هذا يدل على
أن التأكيد لاحق للحرف ، وإذا أكد الحرف الذي لا يستقل إلا بالفعل بعد «إن» لا
يؤكّد الفعل ؛ فافترق فعل شرط «إن» وفعل شرط سائر الحروف في لزوم النون لها مع «ما»
لاقترانهما فيما ذكرنا.
__________________
فهذا الذي ذكرناه
يصلح أن يحتج به من زعم أن النون لازمة للشرط إذا لحقت «ما» «إن» الجزاء.
وقد قال ذلك أبو
العباس ، وخالفه في ذلك سيبويه ، فقال : إن «ما» إذا لحقت «إن» الجزاء تبعه الفعل
منونا بإحدى النونين ، وغير منوّن بهما ، كما أن سائر الحروف كذلك.
وإذا لم يلزم
النون مع «إن» كما لم يلزم في الحروف الأخر نحو : (أَيْنَ ما تَكُونُوا) لم يلزم على قوله الفصل بينهما ؛ كما لزم في قول من زعم أن
النون لازمة.
وقد استقصينا الخلاف في هذا ، والله
أعلم.
__________________
الثامن والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل عقيب اسمين كنى عن أحدهما
اكتفاء بذكره عن صاحبه
وقد ذكر ذلك
سيبويه فى «الكتاب» ، واحتج بأبيات ، وربما أسوقها لك بعد البداية بآى
التنزيل.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) ، ولم يقل : وإنهما ـ اكتفاء بذكر «الصلاة» عن ذكر «الصبر»
، وقد ذكرنا أنهم قالوا : إن الهاء للاستعانة.
ومن ذلك قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) .
وقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ، فهذا على القياس المستمر ، لأن التقدير : وإن كان أحد
هذين ؛ و : من يكسب أحد هذين ، لأن «أو» لأحد الشيئين.
ولو صرح بهذا لصح
وجاد : «له» و «به».
فكذلك إذا قال
بلفظة : أو ما.
__________________
فأما قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً
فَاللهُ أَوْلى بِهِما) .
وقوله : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) .
فهذا على قياس
الآيتين المتقدمتين ، حقّهما : فالله أولى به ، وحرّمه ؛ ولكنه جاء على قولهم :
جالس الحسن أو ابن سيرين ؛ على معنى أنه يجوز له مجالستهما.
ومثل هذا قد جاء
في الشعر ، أنشدوا لرجل من هذيل :
/ وكان سيّان ألّا يسرحوا نعما
|
|
أو يسرحوه بها
واغبرّت السّوح
|
وأنت تقول : سيان
زيد وعمرو ، ولكنه قال : أو يسرحوه ، على ما ذكرنا.
ومن ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) ولم يقل : ينفقونهما.
وقال : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً
أُكُلُهُ) ، ولم يقل : أكلهما.
وقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) ، والتقدير : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه.
__________________
وقال : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) فيمن قرأ بالتاء. ولم يقل : يخيلان.
وقال : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً
انْفَضُّوا إِلَيْها) ولم يقل : إليهما.
وأنشد للأنصارى :
نحن بما عندنا
وأنت بما
|
|
عندك راض
والرّأى مختلف
|
ولم يقل : بما
عندنا راضون ؛ اكتفاء بالثاني عن الأول.
وقال :
رمانى بأمر كنت
منه ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطّوىّ رمانى
|
وقال :
... وكان وأنت غير غدور
فأحفظها.
__________________
التاسع والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل صار الفصل فيه عوضا
عن نقصان لحق الكلمة
وذلك إنما يجئ في
أكثر الأحوال في باب المؤنث ، فيقولون : قامت هند ، فإذا فصلوا بينهما قالوا : قام
اليوم هند.
فمن ذلك قراءة
أكثرهم : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
شَفاعَةٌ) ، قالوا : إن التذكير أحسن لمكان الفصل ، وقد قرئ أيضا
بالتاء ، ولم يعتدّ بالفصل.
كما قال : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) .
وقال : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ) .
وقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) .
وقال : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) فيمن قرأ بالتاء.
__________________
وقال : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) فيمن قرأ بالتاء ؛ وهم الأئمة السبعة ، إلا حمّادا رواه عن
عاصم بالياء.
وقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) .
وقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) .
وقال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي
الصُّحُفِ الْأُولى) .
وقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) فيمن قرأ بالتاء.
هذه الآي ونحوها
لم يعتد فيها بالفصل ، كما اعتد به في قوله : (وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) فى «هود».
وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) فى آي كثيرة اعتد / فيها بالفصل.
ومما اعتد فيه
بالفصل قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) ، لم تدخل النون هنا ؛ لأنها إنما تدخل فتفصل هذه من لام
الابتداء.
قال أبو علىّ في
قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) ، وهو يبطل
__________________
قول الفراء : إن
قوله (كَمْ أَهْلَكْنا) جواب القسم ، وإن التقدير : لكم أهلكنا ؛ قال : هذا لا
يجوز ؛ لأن اللام على هذا داخلة على الفضلة.
ثم قال : فإن قال
قائل : ما ننكر أن تكون اللام التي دخلت على الأفعال مرادة فى «كم» محذوفة لطول
الكلام ؛ وأن دخولها فى «كم» العامل فيه «أهلكنا» بمنزلة دخولها على «إلى»
المتعلقة بالفعل المنتصبة الموضع به فى قوله : (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) .
وكما جاز دخولها
على الجارّ المنتصب الموضع كذلك يجوز دخولها على «كم» المنتصبة الموضع.
ثم قال : الجواب
عندى أن التقدير بهذه اللام في قوله : (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) . ألا ترى أن القسم إنما وقع على «أنهم يحشرون» لا على
الجار والمجرور ، والمقسم عليه بالفعل ، وهو المؤكد باللام ، والملقى المقسم به.
وإنما دخلت اللام
على الحرف الجار لتقدّمه عليه ، ولم تدخل إحدى النونين على الفعل ، لوقوعه على
الحرف ، وجاز دخولها على الحرف في كلا الموضعين ؛ إذ المراد به التأخير ، كما جاز
دخول لام الابتداء في مثل : إن زيدا لطعامك آكل ؛ إذ المراد به التأخير إلى الخبر.
__________________
فإذا كان التقدير
ما ذكرنا لم يجز أن يكون (كَمْ أَهْلَكْنا) بمنزلة (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) في جواز دخول اللام عليها كدخولها فى «كم» ، إذا كان
دخولها في قوله (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) بمنزلة دخولها على الفعل ، وعلى حسب ما تكون عليه هذه
اللام في سائر مواضعها ومتصرفاتها ، فليس يسوغ تقدير دخولها على الفعل في «كم»
والفصل الذي وقع بين اللام وبين (تُحْشَرُونَ) صار عوضا عن دخول النون.
ومما يجرى مجرى
الفصل : المفعول الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه فى نحو قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ، وقوله : (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) .
صار المفعول هنا
عوضا عن إبراز الضمير في نحو قوله : / (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ)، وهكذا قال : (ما أَشْرَكْنا وَلا
آباؤُنا) .
__________________
المتم الثلاثين
هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفظ على المعنى وحكم
عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ
وقد ذكر ذلك
سيبويه في غير موضع ، وأنشد فيها أبياتا ، ربما نسوقها لك بعد البداية بالآى.
فمن ذلك قوله
تعالى :
(إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) .
من وقف على قوله «فاقع»
وجعل «فاقعا» تابعا ل «صفراء» ابتدأ «لونها» ورفعها بالابتداء ، وجعل قوله «تسرّ
النّاظرين» خبرا عنها.
وإنما قال «تسر»
ولم يقل : يسر ؛ حملا على المعنى ؛ لأن قوله «لونها» : صفرتها ؛ فكأنه قال :
صفرتها تسر الناظرين.
ومثله قوله تعالى
: (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) . فعدّى «رفثا» ب «إلى» حملا على الإفضاء ، وكما قال : (أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) كذا قال: (الرَّفَثُ إِلى
نِسائِكُمْ) .
__________________
ومثل ذلك قول أبى
علىّ في قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) . ثم قال : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) فقال : هذا محمول على المعنى ؛ لأنه لما قال : (وَلا تُؤْمِنُوا) كأنه قال : أجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟
ومثله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا) فعدّاه ب «من». كأنه قال : ونجيناه من القوم الّذين
كذّبوا.
وقال : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ
إِنْ جاءَنا) ، كأنه قال : من يعصمنا من بأس الله إن جاءنا؟
وقال : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ، فحمله على الإحسان ، كأنه قال : وتحسنوا إليهم.
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ) إلى قوله (وَفِي الرِّقابِ
وَالْغارِمِينَ) . «فى الرقاب» لم يعطف على «الفقراء» ؛ لأن المكاتب لا يملك
شيئا ، وإنما ذكر لتعريف الموضع ، و «الغارمين» عطف على «الفقراء» إذ لا يملكون ، «وفي
سبيل الله» مثل قوله «وفي الرقاب» لأن ما يخرج في سبيل الله يكون فيه
__________________
ما لا يملك المخرج
فيه ، مثل بناء القناطر ، وعقد الجسور ، وسد الثغور ، وقوله : «وابن السبيل» عطف
على اللام في «الغارمين» أو في «ابن السبيل» لم يكن سهلا. والمكاتب عبد ؛ لقوله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) .
ومن هذا الباب /
قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) فيمن رفع قوله «غيره».
وكذلك (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) فيمن رفع.
وكذلك قوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ
مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْبَرَ) فيمن رفع. كان ذلك كله محمولا على المعنى ؛ إذ المعنى : ما
لكم إله غيره ، وهل خالق غير الله ، وما يعزب عن ربك مثقال ذرة.
ومثله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) . ثم قال : (وَمِنَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّا نَصارى) ، لأن معنى قوله : أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل ، وأخذ الله
ميثاقا من بنى إسرائيل ، واحد ؛ فجاء قوله «ومن الذين قالوا» على المعنى ، لا على
اللفظ.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) ، أي : هذا الشخص ؛ أو : هذا المرئىّ.
وكذلك قوله تعالى
: (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، لأن الوعظ والموعظة ، واحد.
وقالوا في قوله
تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : إنه أراد ب «الرحمة» هنا : المطر ، ويجوز أن يكون
التذكير هنا إنما هو لأجل «فعيل» ، على قوله :
بأعين أعداء وهنّ صديق
وقوله :
... لا عفراء منك قريب
وأما قوله تعالى :
(بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، فإنه حمله على «النفس» لأن «الإنسان» و «النفس» واحد ،
وقيل : بل التاء للمبالغة ، وقيل : بل التقدير : عين بصيرة ؛ فحذف الموصوف.
وقال مجاهد : بل
الإنسان على نفسه شاهد : عينه ويداه ورجلاه ، فيكون «الإنسان» مبتدأ ، والظرف فيما
ارتفع به خبر ، والهاء العائد من الجملة إلى المبتدأ ، وهو المجرور بالإضافة ، كما
تقول : زيد في داره عمرو.
وعكس الأول قول
الحطيئة :
ثلاثة أنفس
وثلاث ذود
|
|
لقد جار الزّمان
على عيالى
|
__________________
حمل «الأنفس» على «الأشخص»
؛ كأنه قال : ثلاثة أشخص.
ومنه قوله تعالى :
(فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها) ، أنّث «العشر» لما كان «الأمثال» بمعنى : الحسنات ، حمل
الكلام على المعنى.
ومن ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ) ، (أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ) ، / عدّى «ترى» ب «إلى» حملا على النظر ؛ كأنه قال : ألم
تنظر.
وإن شئت كان
المعنى : ألم ينته علمك إلى كذا؟.
وعكس هذا قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولم يقل : إلى ملكوت ، لأن المعنى : أو لم يتفكروا في
ملكوت السموات.
ومن الحمل على
المعنى قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ) بعد قوله : (إِلَى الَّذِي حَاجَّ) كأنه قال : أرأيت كالذى حاجّ إبراهيم في ربه ، أو كالذى مر
على قرية ؛ فجاء بالثاني على أن الأول كأنه قد سيق كذلك.
ومنه قوله تعالى :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ) إلى قوله : (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ) ، لأن معناه : إن يؤخرنى أصدّق وأكن ، فحمل «أكن» على موضع
«فأصدق» لأنه في موضع الجزم لما كان جواب «لو لا».
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) . «الهاء» فى «إليه» يعود إلى ما تقدم ذكره ، من اسم الله ،
والمعنى : ويهديهم إلى صراطه صراطا مستقيما.
كما قال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ) ، وإن حملت «صراطا» على أنه لما قال : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) دل هذا الكلام على أنه قال : يعرفهم ، فنصب «صراطا» على
أنه مفعول لهذا الفعل المضمر ، والأول أشبه.
ومن ذلك قوله : (دِيناً قِيَماً) ، يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه لما
قال : (إِنَّنِي هَدانِي
رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، استغنى بجرى ذكر الفعل عن ذكره ثانيا ، فقال «دينا قيما»
، أي : هدانى دينا قيما ؛ كما قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) .
وإن شئت نصبته على
«اعرفوا» ، لأن هدايتهم إليه تعريف لهم ، فحمله على «اعرفوا».
و «دينا قيما» إن
شئت حملته على الإتباع ؛ كأنه قال : اتبعوا دينا قيما والتزموه ، كما قال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ) .
ومن ذلك قوله
تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) .
__________________
قال أبو على : وجه
الجر في «ولؤلؤ» أنهم يحلّون أساور من ذهب ومن لؤلؤ ؛ أي منهما.
وهذا هو الوجه ؛
لأنه إذا نصب فقال : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) حمله على : ويحلون لؤلؤا ، واللؤلؤ إذا انفرد من الذهب
والفضة لم يكن حلية.
فإن قلت :
/ فقد قال الله
تعالى : (حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) و (تَسْتَخْرِجُونَ) فعلى أن يكون «حلية» إذا وضع في الذهب والفضة صار حلية ،
كما قال في العصير (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً) لأنه قد يستحيل إليها بالشدة ؛ كما يكون ذلك حلية على
الوجه بخلافه.
ويحتمل النصب وجها
آخر ، وهو أن تحمله على موضع الجار والمجرور ؛ لأن موضعهما نصب.
ألا ترى أن معنى «يحلّون
فيها من أساور» : يحلون فيها أساور ، فتحمله على الموضع.
وقيل في قوله
تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ـ إن «من» دخلت ، لأن معنى قوله : «أحرص الناس» : أحرص من
الناس ، فقال : (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) حملا على المعنى.
وقد ذكرنا ما في
هذا في حذف الموصوف.
__________________
ومن الحمل على
المعنى قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ، والمتقدم ذكر الوصية ؛ ولكن معناه الإيصاء ، أي : من بدل
الإيصاء.
كقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) ثم قال : (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) حملا على الحظ والنصيب.
ومن ذلك قوله
تعالى : (ما لِيَ لا أَرَى
الْهُدْهُدَ) ، و (ما لَنا لا نَرى
رِجالاً) ، لما كان المعنى في قولك : مالى لا أراه ؛ وما لنا لا
نراهم ، أخبرونا عنهم ؛ صار الاستفهام محمولا على معنى الكلام ، حتى كأنه قال :
أخبرونى عن الهدهد ، أشاهد هو ، أم كان من الغائبين؟.
وكذلك الآية
الأخرى ، فيمن وصل الهمزة ولم يقطعها في قوله : (أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا).
وكما استقام الحمل
على المعنى في هذا النحو كذلك حمل الآية عليه ، فيما ترى أنه مذهب أبى الحسن.
يعنى قوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) .
ومن ذلك قوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ
وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) .
__________________
«من» منصوب الموضع
حملا على المعنى ؛ لأن معنى (جَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ) : أعشناكم ، وكأنه قال : وأعشنا من لستم له برازقين.
ويجوز أن يكون «من»
مبتدأ ـ والخبر مضمر. والتقدير : ومن لستم له برازقين جعلنا لكم فيها معايش.
ومن ذلك ما قال
سيبويه : قال : سألت الخليل عن قوله تعالى :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ، قال : هذا واجب ، وهو تنبيه ، كأنك قلت : انتبه / إن
الله أنزل من السماء ماء ، وكان كذا وكذا.
ومن ذلك قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فيمن قرأ بالنصب ؛ لأنه إنما ينصب إذا كان السؤال على
القرض ؛ لو قال : أيقرض زيد فيضاعفه عمرو؟.
وفي الآية السؤال
عن المقرض ، لا عن الإقراض ؛ ولكنه حمل على لمعنى ؛ فصار السؤال عن المقرض ،
كالسؤال عن الإقراض.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) فيمن جزم «يكفّر» حملا على موضع الفاء ؛ لأن الفاء في موضع
الجزم.
ومن الحمل على
المعنى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) هو محمول على المعنى إذا جعلته يسد مسد الجواب ؛ لأن «ليس»
لنفى الحال ، والجزاء لا يكون بالحال تقديره : باينتم نساء المسلمين.
ويجوز أن يكون
الجواب «فلا تخضعن» دون «لستنّ» ، و «لستنّ» أوجه.
ومن ذلك قوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ
وَيَذَرُهُمْ) ، فيمن جزم حمله على موضع «الفاء».
ومن ذلك قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فى قراءة الجمهور ، غير أبى عمرو. لأن معنى : «من رب
السموات» : لمن السموات؟ فقال : «لله» حملا على المعنى.
كما أن من قال في
الأول ـ وهو رواية العباس وأبى عمرو ، (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) حمل قوله : (لِمَنِ الْأَرْضُ) على المعنى ، كأنه قال : من رب الأرض؟ فقال : الله.
__________________
ومثله : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) جوابا لقولهم : (أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً) . ولو حمل على اللفظ لقال : أن أكون من الهازئين.
وأما قوله تعالى :
(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) .
فقد قال في
التذكرة : إنه محمول على ما قبله من المصدر ، والمصدر مفعول له ، وهو : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً) أي : للغرور. وغرورهم على ضربين :
إما أن يغرى بعضهم
بعضا ، أو يغروا جميعا من يوسوسون له ويوالونه ممن لا يؤمنون.
فنقديره : للغرور
، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون.
والضمير في «إليه»
ل «زخرف القول». أو «لوحيهم» ، أو «ليرضوه».
ولا يكون أن تحمله
على الأمر ، على قوله : / (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ) لثبات الألف في الفعل ، وليست بفاصلة ، فتكون مثل (السَّبِيلَا) .
فإذا كان كذلك لم
يتجه إلا على هذا الذي ذكرنا ؛ أو على قول أبى الحسن ، مع أن ذلك عزيز غامض ما
علمته مرّ بي إلا هذا البيت الذي أنشده فيه.
قال وللقائل أن
يقول : إن المقسم عليه محذوف مضمر ، كأنه :
إذا قال قدنى
قلت آليت حلفة
|
|
لتغنى عنّى ذا
إناؤك أجمعا
|
__________________
أي قلت : بالله
لتشربن أو لتقتحمن جميع ما في الإناء ؛ فحذف «لتقتمحن» لدلالة الحال عليه ، ولأن
ما في الكلام من قوله : «لنغنى عنى» ، وإن أجاز ذلك فيه ، لم يكن فيه حجة.
قلت : الذي قال «بلام
الأمر» فى الآية ؛ هو الجبّائى ، ولم ينظر إلى إثبات الألف ، ولم يعلم أن قوله «لا
ترضاها» وأخواته من الضرورة ؛ كأنه استأنس بقراءة زبّان : (لا تخف دركا ولا تخشى) .
فزعم الفارسي أن
ذاك للفاصلة ك (الظُّنُونَا) و (السَّبِيلَا) ، وليس قوله : «ولتصغى» فاصلة.
ومن ذلك ما ذهب
إليه أبو علّى في قراءة أبى عمرو في نصبه (وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا) فزعم أنه محمول على قوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) .
وأنت لا تقول :
فعسى الله أن [يأتى بأن] يقول الذين آمنوا ؛ ولكن حمله على المعنى ، لأن معنى :
فعسى الله أن يأتى بالفتح ، [وفعسى أن يأتى الله بالفتح] ، واحد.
وجوز فيه أن يكون
بدلا من قوله «أن يأتى». أجزنا فيه قديما أن يكون محمولا على «الفتح» ، أي : وأن
يأتى بالفتح ويقول المؤمنون.
كما قال الخليل في
قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً) أنه محمول على «الوحى».
__________________
وكرواية هبيرة «فنجّى»
بالنصب. حملا على «نصرنا» من قوله : (جاءَهُمْ نَصْرُنا
فَنُجِّيَ) .
ومن ذلك قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) .
ومنه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ) ، حمله على (يَعْدِلُونَ) فعدّاه ب «عن». وهذا النحو كثير.
ألا ترى أن سيبويه
قال في قولهم : ألست أتيتنا فتحدثنا ـ بالرفع والنصب ـ فحمل مرة على اللفظ وأجاز
النصب ، وعلى المعنى فمنع النصب ؛ إذ معناه الإثبات.
ولهذا جاء : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) ، بخلاف قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) .
فجاء الاختلاف /
فى الآيتين ؛ كما جاء الرفع والنصب في المسألة فحمل مرة على الإثبات ، وأخرى على
النفي ومن ذلك قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ) ، إن اللفظ لفظ النداء ، والمعنى على غيره.
كما أن قوله :
اغفر لنا أيّتها العصابة ، اللفظ على النداء ، والمعنى على غير النداء ، إنما هو
الاختصاص.
__________________
قال أبو علّى :
مثل ما يكون اللفظ على شىء والمعنى على غيره قولهم : لا أدرى أقام أم قعد؟ ألا ترى
أن اللفظ على الاستفهام والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم : «حسبك»
، اللفظ لفظ الابتداء والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم :
اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ؛ اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الدعاء.
وكذلك : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) .
وإلى هذا النحو
ذهب أبو عثمان في قولهم : ألا رجل ظريف؟ فقال : اللفظ لفظ الخبر ، والمعنى معنى
التمنّى.
وليس هذا بسائغ ؛
لأن الكلام قد دخله ما منع هذا المعنى ، ألا ترى أن هذا ارتفع بالابتداء ، وقد دخل
الكلام من المعنى ما أزال معنى الابتداء ؛ ألا ترى أن معنى الطلب قد أزال معنى
الابتداء من حيث جرى مجرى : اللهم غلاما ؛ أي : هب لى.
وكذلك قولك : ألا
رجل؟ بمنزلة قوله : هب لى ؛ وألا آخذ ؛ وألا أعطى ، ونحو ذلك.
فإذا دخل هذا
المعنى أزال معنى الابتداء ؛ وإذا زال معناه لم يجز ارتفاعه بالابتداء ، لمعاقبة
هذا المعنى له ؛ وإذا عاقبه ذلك وأزاله لم يجز أن يرتفع «أفضل» بأنه خبر ؛ لبطلان
كون الأول أن يكون مبتدأ أوفى موضع الابتداء.
فالقول في ذلك قول
سيبويه لهذه الآية.
__________________
الحادي والثلاثون
باب ما جاء في التنزيل من حذف «أن» وحذف المصادر ،
والفصل بين الصلة والموصول
وهو من باب لطائف
الصّناعة ، لأنهم زعموا أنّ «أن» موصولة ، وحذف الموصول وإبقاء صلته منكر عندهم ،
ومع ذلك فقد جاء في التنزيل.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) . قالوا : التّقدير : بأن لا تعبدوا إلا الله ، فلما حذفت «أن»
عادت «النون».
وكذلك قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) . تقديره : / بأن لا تسفكوا دماءكم ، فحذف «أن» وعادت «النون».
قالوا : ومثله قولهم
: «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه » أي : أن تسمع.
ومن ذلك قوله
تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ) ، أي : بعد إيمانهم أن شهدوا ، فحذفت «أن» ليصح عطفه على
«إيمانهم».
وإن شئت كان
التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، فتضع المصدر موضع «أن» ليصحّ عطف «شهدوا» عليه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) فيمن قرأ بالياء ، أي : أن سبقوا ، ليصح قيامه مقام
المفعولين.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ، فقال : «تأمرونى» لغو ، كقولك : هذا يقول ذاك بلغني ، ف «بلغني»
لغو ، وكذلك «تأمرونى» ؛ كأنّه قال : فيما تأمرونى ؛ وكأنه قال : فيما بلغني ، وإن
شئت كان بمنزلة :
ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى
قال «س» : «غير» منصوب ب «أعبد» على القول الأول ، وعلى القول
الثاني ب «تأمرونى».
ولا يجوز انتصابه
ب «أعبد» ؛ لأن «أعبد» فى صلة «أن» و «غير» قبله ، ولا يعمل ما في الصلة فيما قبل
الموصول.
«فا» : يؤكد أنهم يراعون الحال الأولى ، بعد حذف «أن» ما روى
أبو عثمان المارنى عن قطرب : «أحضر الوغى» بنصب «أحضر».
قال أبو سعيد : أجود ما يقال فيه ما ذكره سيبويه عن الخليل ، وهو نصب «غير»
«بأعبد» ، و «تأمرونى» غير عامل ، كما تقول : هو يقول ذلك فيما بلغني ، وزيد قائم
ظننت ، كأنك قلت : هو يقول ذاك فيما بلغني ، وزيد قائم فيما ظننت.
قال : وقال سيبويه
: «وإن شئت كان بمنزلة :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وهو ضعيف ؛ لأنه [يؤدى
إلى أن] يقرر «أعبد» بمعنى : عابدا غير الله ، وفيه فساد.
__________________
والذي عليه الناس
، هو الوجه الأول الذي ذكرناه».
وقد قال سيبويه
هذا الكلام هاهنا ، وقال في الباب المترجم عنه :
«هذا باب ما يكون فيه «إلا» وما بعده وصفا بمنزلة : «مثل» ، و «غير».
ومضى في كلامه «[ولا
يجوز أن تقول : ما أتانى إلا زيد ، وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة «مثل» ، إنما
يجوز ذلك صفة] ثم قال : ولا يجوز أن يكون رفع «زيد» على إضمار : إلا أن
يكون زيدا ؛ لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه ، لأن «أن» يكون اسما وما بعده صلة
له».
ويجوز في الآية
الأولى حذف «أن» ولم يجوزّه في الفصل الثاني.
وأبو إسحاق تكلم
على الآية ، أعنى قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ
تَأْمُرُونِّي) ونقل كلامه أبو علىّ فى «الإغفال» وأراد أن يتكلم عليه ،
فبيّض الموضع.
وهذا كلام أبى
إسحاق : «أفغير» منصوب ب «أعبد» لا بقوله «تأمرونى».
المعنى : أفغير
الله أعبد أيها الجاهلون فيما تأمرونى.
ولو كان أبو
العباس حين تتبّع سيبويه ، وتكلم بمثل هذا الكلام البارد الذي لا يخدش شيئا من
كلامه ، وتتبعه على هذا الوجه ، وتكلّم بمثل هذا الكلام ، وفصل بين الموضعين. كان
أحق وأجدر.
وقد ضمّنت هذا
الكتاب مثل هذا الفصل فصولا أخر ، تقدم بعضها ، وأنت بصدد الثاني فاحفظها.
قال الشيخ : ومما
يحمل على إضمار «أن» فى التنزيل قوله تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ
يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) ، ف «أن» مضمرة ، وهي مع الفعل في تقدير المصدر معطوف على «خزى».
__________________
ومثله : (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) ، أي : ثم كفر بعضكم ببعض يوم القيامة ، فأضمر «أن»
ومثله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) ، أي : ويوم القيامة رؤية الذين كذبوا على الله ، لأن قبله
(أَنْ تَقُولَ) ، و : (أَوْ تَقُولَ).
وقد قال أبو علّى
في قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) ، يجوز أن تقدر حذف «أن» كأنه : لا تحسبن الذين كفروا أن
سبقوا ، فحذفت «أن» كما حذفتها في تأويل سيبويه في قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي) .
قال : وحذف «أن»
قد جاء في غير شىء من كلامهم. قال :
و إن كبيرا لم
يكن ربّ علبة
|
|
لدن صرّحت
حجّاجهم فتفرّقوا
|
أي : لدن أن
صرّحت. وأثبت الأعشى في قوله :
أرانى لدن أن
غاب رهطى كأنما
|
|
يرانى فيكم طالب
الضّيم أرنبا
|
وقد حذفت من الفعل
وبنيت مع صلتها في موضع الفاعل.
أنشد أحمد بن يحيى
لمعاوية بن خليل النّصرى :
و ما راعنى إلا
بشير بشرطه
|
|
و عهدى به فينا
يفشّ بكير
|
فإذا وجّهه على
هذا سدّ «أن» مسد المفعولين.
__________________
كما أن قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا) فقال : هذا كلامه فى الآية من «الحجة». وإن شئت فاسمع
كلامه في موضع آخر ، قال : ومما يمكن أن يكون انتصابه على أنه مفعول به على
الاتساع ، وكان في الأصل ظرفا ، قوله : (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) فى قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، والعامل فى ، الأيام «كتب» ، تقديره : كتب عليكم الصيام
أياما معدودات ، أي : فى أيام معدودات. وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به ،
فتقول على هذا : مكتوب أياما عليه. ولا يستقيم أن ينتصب «أيام» ب «الصيام» على أن
يكون المعنى : كتب عليكم الصيام في أيام ، لأن ذلك وإن كان مستقيما في المعنى فهو
في اللفظ ليس كذلك ، ألا ترى أنك لو حملته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول
بالأجنبى منهما ، وذلك أن «أياما» تصير من صلة «الصيام» ، وقد فصلت بينهما بمصدر «كتب»
؛ لأن التقدير : كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم ، فالكاف فى «كما»
متعلقة ، ب «كتب» ، وقد فصلت بها بين المصدر وصلته ، وليس من واحد منهما. فإن قلت
: أضمر «الصيام» لتقدم ذكر المتقدم عليه ، كأنه : صيام أياما ، فإن ذلك لا يستقيم
؛ لأنك لا تحذف بعض الاسم ، ألا ترى أنه قد قال في قوله :
و كل أخ مفارقه
أخوه
|
|
لعمر أبيك إلّا
الفرقدان
|
أنه لا يكون على :
أن لا يكون الفرقدان ، لحذفك الموصول ، وكذلك الآية. وإذ قد / عرفت هذا وتبينت أن
المصدر و «أن» مع ما بعده عندهم بمنزلة واحدة ،
__________________
وأنهما كليهما
موصول ل «أن» ، فلا بد وأن نعد لك الآي التي وردت فيها المصادر وظاهرها فصل بينها
وبين صلاتها بمنزلة «أن» ، والحديث ذو شجون.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ، لا يجوز تعليق «على» بقوله «حجتنا» للفصل بين المصدر وما
يتعلق به بالصفة.
قال أبو على : وإن
كان «حجّتنا» بدلا ف «آتيناها» خبره ، و «على» متعلق بمحذوف ، كقوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) . وكذلك إن جعلت «حجتنا» خبرا ، فإن جعلت «آتيناها» فى موضع
الحال على : حجة آتيناها ، وإضمار «قد» ، جاز أن يكون متعلقا ، ب «الحجة» لأنه لها
فصل.
قال عثمان : قلت
لأبى علىّ في قول الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) يكون «آتيناها» حالا من «الحجة» إما على : قد آتينا ، وإما
: على : حجة آتيناها ، وعادت مع هذا على قوله بنفس حجتنا ، فمثل هذا ألّا فصل بين
الصلة والموصول بالأجنبى؟ فقال : الحال تشبه الظرف ، وقد يجوز في الظرف ما لا يجوز
في غيره ، ولم يزد على هذا بعد المراجعة.
والفصل بين
الموصول والصلة لا يجوز بالظرف ولا غيره ، ألا ترى أنك لو قلت ، أعجبنى ضربك يوم
الجمعة زيدا ، فعلّقت «يوم الجمعه» ب «أعجبنى» لا ب «الضرب» لم يجزه أحد ، وإنما
المتجوز بالفصل الفصل بالظرف ما كان بين الفعل وفاعله ، نحو : كان فيك زيد راغبا ،
ونحو قوله :
فإنّ بحبّها
|
|
أخاك مصاب القلب
جمّ بلا بله
|
__________________
(الكتاب
١ : ٢٨٠).
وأما ما ذهب إليه
أبو علىّ ، فيما حكينا عنه ، فلا ، والله أعلم.
وقال أبو علىّ في
موضع آخر : ففى هذا دلالة على وقوع مثال الماضي حالا ، وذلك أن «آتينا» لا تخلو من
أن تكون صفة أو جملة متبعة جملة ، على حد : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، أو حالا ، ولا تكون صفة لأن «حجتنا» معرفة ، ولا تكون
على حد (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، و (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ) لأنك إن جعلته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبى ،
فإذا امتنعتا ثبت أنه واقع موقع الحال ، إذا كانت / حالا لم تفصل بين الصلة
والموصول ، وكانت على [ذلك] متصلة بالمصدر الظاهر الذي هو «حجتنا». فإن قلت : فلم لا
تكون على قول أبى الحسن في نحو : (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ) ، أن يكون على تقدير : أو جاءوكم قوم حصرت ، ولا يكون على
قوله : أو جاءوكم قوما قد حصرت ، فإن ذلك لا يكون على حذف الموصوف ، كما يكون قوله
: أو يكون جاءوكم قوما حصرت ؛ لأنك على هذا تحذف الموصول وتبقى بعض صلته. وقد قال
سيبويه : إن ذلك لا يجوز فيه.
وأما قوله تعالى :
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فإن قوله «يوم خلق السّموات» تتعلق بمضمر دون «عدة» ، لأن
الفصل بين المصدر والمعمول لا يجوز ، ولهذا لا يتعلق «فى كتاب الله» ب «عدة» ولا
يكون بدلا من «عند الله» للفصل ، أو يكون أن يتعلق ب «حرم» ، كأنه : منها أربعة
حرم فيها كتب الله يوم خلق السموات ؛
__________________
فيكون المعنى :
مثبتا في كتاب الله ، أي : فيما فرض كونه حرما أربعة أشهر لا أكثر ، فإذا نشأتم
أنتم الشهور فجعلتم الشّهور الحرم أكثر من أربعة لما كتبه الله أجّل لهم ما حرّم
الله.
ويجوز أن يتعلق «يوم»
ب «كتاب».
وأما قوله تعالى :
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) . فإن قوله «من الله» صفة فيها ذكر من الموصوف ، وكذلك «إلى
الناس» ، ولا يكون من صلة «أذان» لأنه اسم ، وليس بمصدر. ومن أجرى هذا الضرب من
الأسماء مجرى المصادر فينبغى ألّا يتعلق به هذا الجار ، ألا ترى أن المصدر الذي
هذا منه لا يصل بهذا الحرف كما يصل قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) به ، لقوله :
برئت إلى عرينة من
عرين
و : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا
مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) .
فأما قوله : «يوم
الحجّ الأكبر» فيجوز أن يتعلق ب «أذان» لأنك تفصل بين الصلة والموصول بالصفة ، ولا
بد من تقدير الجار في قوله «إن الله» أي ، ب «إن الله» لأن الله برئ من المشركين ،
لا يكون الإعلام كما يكون الثاني الأول ، فى نحو : خبر له أنك خارج.
__________________
وأما قوله فى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسابٍ) : لا يتعلق الباء ب «عطاؤنا» / للفصل ، ولا ب «أمسك» لأنه
لا يقال : أمسكت بغير حساب ، إنما يقال : أعطيت بغير حساب ، فهو إذا متعلّق ب «امنن»
، ويكون معناه : أنه مخيّر بين أن يعطى كثيرا وأن يمسك ، وكأن معنى «امنن» أعط ،
لما كان منّا وتفضلا على المعطى ، قيل : «امنن» ، والمراد : أعط.
ومثله في جعل «المن»
عطاء قوله تعالى : و (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) ، كأنه : لا تعط مستكثرا ، أي : لا تعط لتأخذ أكثر منه.
ومثله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا
فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) .
وتقدير «تستكثر» :
أي : مقدرا فيه الاستكثار ، وجزم «تستكثر» على هذا يبعد فى المعنى ، لأنه يصير :
إن لا تمنن تستكثر ، وليس المعنى على هذا.
وقد أجاز أبو
الحسن نحوا من هذا اللفظ ، وإن لم يكن المعنى عليه.
وأما قوله تعالى :
(الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ) ، ف «الذين» جر ، عطف على «المؤمنين» ، أو نصب ، عطف على
«المطوعين». فالظرف. أعنى «فى الصدقات». متعلّق ب «مطوعين» أو «يلمزون» ، أي :
ويعيبون في إخراج الصدقات لقلتها ، ولا يكون «الذين يلمزون» ، بدلا من «من» فى
قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ، لأن هؤلاء غيرهم ... فى وضع الصدقات.
__________________
وأما قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ف «على» من صلة «وتمت» دون «الكلمة» وإن كانت «الكلمة»
بمعنى ، النعمة ، لأنها وصفت بالحسنى ، وكما يتعلق «على» ب «حقت» فى قوله : (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى
الْكافِرِينَ) وكذا هاهنا. وأما قوله : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ) فقد تكلّمنا عليه في باب المفعول.
وأما قوله تعالى :
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ، فقد تردّد فيه كلامه ، فقال مرّة : الظرفان صفة للنكرة
متعلقان بمحذوف ، والشهادة من الله هي شهادة يحملونها ليشهدوا ، فهذا كما قال : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) ، وقال في موضع آخر : لا يتجه أن يتعلق «من» ب «كتم» لأن
الله لا يكتم شيئا.
فإن قلت : فقد جاء
(وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) فإنه يجوز أن يكون التقدير : إن أحوالهم ظاهرة وإن كتموها.
كما قال : (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، فإذا لم يتعلق بكتم «تعلق بالشهادة» ، وتعلقه به على
وجوه.
فإن جعلت قوله «عنده»
صفة للشهادة لم يجز أن يكون «من الله» متعلقا ب «شهادة» لأنه فصل بين الصلة
والموصول ، وكما أنك لو عطفت عليه كان كذلك.
ويجوز أن تنصب «عند»
لتعلقه ب «شهادة». فإذا فعلت ذلك لم يتعلق ب «من الله» ، لأنه لا يتعلق به ظرفان.
وإن جعلت «عنده»
صفة أمكن أن يكون «من الله» حالا عمّا فى «عنده» ،
__________________
فإذا كان كذلك وجب
أن يتعلّق بمحذوف في الأصل ، والضمير العائد إلى ذى الحال هو الظرف.
هذا كلامه ؛ وقد
منع من تعلق الظرفين بالمصدر ، وهذا يجوز فى الظرفين المختلفين ، وإنما الكلام في
المتفقين ، وقد بيناه فى «الاستدراك».
وأما قوله : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) . فلا يخلو قوله «إذ تدعون» من أن يتعلق ب «لمقت الله» ،
ولا يجوز أن يتعلق بقوله «مقتكم» لأنهم مقتوا أنفسهم في النار ، وقد دعوا إلى
الإيمان فى الدنيا. ولا يتعلق بالمبتدأ ، لأنه أخبر عنه بقوله «أكبر من مقتكم» ،
والموصول لا يخبر عنه ، وقد بقيت منه بقية ، والفصل بين الصلة والموصول غير جائز.
وأما قوله تعالى :
(إِنَّهُ عَلى
رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) إن جعلت الهاء للكافر ، على معنى : إنه على إحيائه لقادر ،
لم يجز أن يتعلق «يوم تبلى السرائر» بقوله «رجعه» ، لأن قوله «لقادر» فى موضع
الخبر ل «إن» ، وقد فصل بين المصدر وما يتعلق به ، ولكن ينتصب بمضمر يفسره «رجعه»
، أي : يحييه يوم تبلى السرائر.
ويجوز أن يجعل «يوم»
بمعنى «إذا» فيعمل فيه مدلول «إذا» : (فَما لَهُ مِنْ
قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) كقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) . ألا ترى أن مدلول «الفاء» يعمل فى «يوم ندعو».
ومثله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) .
ومثله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) .
__________________
ولا يجوز أن يتعلق
بقوله «لقادر» ، لئلا يصغر المعنى ؛ لأن الله قادر يوم تبلى السرائر وغيره ، فى كل
وقت وعلى كل حال ، على رجع النشور.
قال أبو علىّ فى «الإغفال»
فى قوله : (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) قولا يخالف ما حكينا عنه فى «الحجة» قبل ، وهو أنه قال :
يجوز / أن يجعل «أياما»
متعلقا ب «الصيام» ، دون «كتب» ، وكانت الكاف في موضع النصب حالا من فاعل الصيام ،
ألا ترى أنه لا يستقيم : كتب عليكم أن تصوموا مشابهين الكتابة ، فهذا من جهة
المعنى.
ويصح كونه حالا من
«الصيام» على تقدير : كتب عليكم الصيام مثل ما كتب الصيام على من قبلكم ، أي كتب
الصيام مشابها كتابته على الذين من قبلكم.
فالصيام لا يشبه
الكتابة ، وحق التشبيه أن تشبّه كتابة بكتابة ، أو صيام بصيام ، فأما أن يشبه
الصيام بالكتابة فليس بالوفق ، إلا أن يدل اشتباه الصيام بالكتابة من حيث كان كل
واحد منهما مرادا ، وإن لم يكن الآخر.
وهذا مما يدلك على
أن حمل «كما» ، على أنه منصوب ب «كتب» ، أوجه وأبين من أن تجعله متعلقا ب «الصيام»
، ولا يجوز فى «كما» أن يكون صفة لمصدر «كتب» الذي دلّ ، «كتب» عليه ، في قول من
جعل «أياما» معمول «الصيام» ، لأنه يفصل بين الصلة والموصول بما هو أجنبى منهما ،
وما عمل فيه شيء.
وأما قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لا تكون الكاف
__________________
صفة لمصدر دل عليه
«كفروا» ، ولا لمصدر دلّ عليه قوله «لن تغنى» ، للفصل بين الصلة والموصول بالخبر
أو بالجملة التي هى «أولئك هم وقود النار» ، وإنما معمول لقوله «وقود النار» لأنه
لا فصل بينهما.
وأما قوله تعالى :
(الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فقوله «وقعدوا» اعتراض ، لأنه يسدّد ما يريدونه من
تثبيطهم وإقعادهم عن الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وعلى آله ، فقوله : «لو
أطاعونا ما قتلوا» فى موضع نصب. فقالوا : ولا يحتاج هنا إلى إضمار فعل آخر كما
احتجت إليه في قوله :
و قائلة تخشى على أظنّه
ولأن «تخشى» وصف ،
وإذا وصفت اسم الفاعل لم ينبغ أن يعمل. فأما «الذين» فموضعه رفع ، وقال : زيدا
اضربه ، نصب ؛ ألا ترى أنك تنصب : زيدا قال له خيرا ، كما تقول : زيدا اضربه. وليس
الرفع بمختار في قول أحد فيه ، لأنه لا وجه للرفع على ذلك.
وأما قوله تعالى :
(وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ف «من» موصولة ، وتمام الصلة عند قوله : (وَآتَى الزَّكاةَ) ، وقوله : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ) رفع ، عطف على «من آمن» ، فلا يجوز إذا أن يكون قوله «والصابرين»
عطفا على قوله «ذوى القربى» على تقدير : وآتى المال على حبه ذوى القربى والصابرين
، لأنك قد عطفت على الموصول قوله «والموفون» ، فلا يجوز أن يكون
__________________
«والصابرين» داخلا
في الصلة ، ولكنك إن رفعت «والموفون» على المدح جاز عطف «الصابرين» على قوله «ذوى
القربى» ، لأنّ الجملة تسدد الأول وتوضحه ؛ لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ
جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، فقوله «وترهقهم ذلة» عطف على «كسبوا» ، وقوله «وجزاء
سيئة بمثلها» اعتراض.
وقال قوم : بل
التقدير : جزاء سيئة ، والجملة في موضع خبر قوله : «والذين كسبوا».
فأما قوله تعالى :
(وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى * فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) قال أبو علىّ : يحتمل عندى قوله «أحوى» ضربين :
يجوز أن يكون حالا
ل «المرعى» كأنه : والذي أخرج المرعى أحوى ، فجعله غثاء أحوى ، ولا يكون فصلا بين
الصلة والموصول ، لأن «أحوى» فى الصلة ، وقوله «فجعله» أيضا معطوف على الصلة ،
وتقديم بعض الصلة على بعضها غير جائز ، فإذا حملته على هذا كان وصفه بالحوّة إنما
هو لشدة الرىّ ولإشباع الخضرة ، كأنه أسود ، على هذا قوله : (مُدْهامَّتانِ) ، وإن كان هذا لا يقع من الوصف بالحوّة ؛ لأنه أذهب في باب
السواد.
وإن جعلت أحوى صفة
ل «غثاء» كان المراد به السواد لا الخضرة التي فى الرىّ أنها سواد ، ولكن بالقدرة
أخرج المرعى فصار غثاءا أسود ليبسه وهيجه وتسويد الشمس له بأحراق لطيفة.
__________________
وأما ما ذهب إليه
علىّ بن عيسى في قوله : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إلى قوله (وَقِيلِهِ) من أن قوله «وقيله» فيمن جرّ ، معطوف على الجار والمجرور ،
أعنى ... وجدا ، للفصل بين الصفة والموصول بما تراه من الكلام.
وأما قوله : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، فإن «حتى» متعلق إما
بفعل مضمر يدل عليه «سلام» / أو بقوله (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ) .
فإن قلت : فإذا
كان متصلا بقوله «تنزل» فكيف فصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هى «سلام»؟
فإن ذلك لا يمتنع
لأمرين :
أحدهما : أن هذه
الجملة ليست بأجنبية ، ألا تراها تتعلق بالكلام وتسدّد.
والآخر : أن تكون
في موضع حال من الضمير في قوله (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) مسلّمة ، فهذا لا يكون فصلا على هذا الوجه الآخر.
وأما إذا لم تحمله
على هذا وجعلت «حتى» متعلّقا بفعل مضمر ، فلا يخلو من أن يتعلق ب «هى» أو «سلام» ،
فلا يتعلق ب «هى» ، لأنه لا معنى فعل فيه ، ولا يجوز أن يتعلق أيضا ب «سلام» ،
لأنك تفصل حينئذ بين الصلة والموصول بالمبتدأ ، ألا ترى أن «سلاما» مصدر ، فإذا لم
يجز هذا أضمرت ما يدل عليه «سلام» ، فكأنك قلت : تسلم حتى.
فإن قلت : فلم لا
تضمر فعلا بعد «هى» مما يتعلق به ، ويكون المبتدأ الذي هو «هي» قد أخبر عنه بأنه
سلام ، وأنها «حتى مطلع الفجر» مثل :
__________________
حلو حامض ، كأنه
أراد أن يعلم أنه سلام ، وأنه إلى هذا الوقت ، فإنّ الإفادة بأنها إلى مطلع الفجر
ليست بحسنة ، لأن ذلك قد علم من غير هذا المكان ، فإذا كان كذا حملناه على باب (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) ولهذا لم نجعل «حتى» خبر «هى» ، و «سلام» ل «هى» آخر ،
ولأنه إذا لم يكن من باب حلو حامض ، فلا يكون من باب : هو قائم ، أولى ، وإن جعلت «هى»
فاعل «سلام» ، و «حتى» فى موضع الخبر ، فهو وجه.
قال عثمان : لا
يلزم إذا جعلت «حتى» متعلقة ب «سلام» أن تكون فصلت بينهما ب «هى» ، لأن «سلاما» فى
موضع : مسلمة ، وأنشد :
فهلّا سعيتم سعى
عصبة مازن
|
|
و هل كفلائى في
الوفاء سواء
|
وأمّا قوله تعالى
: (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، فينبغى أن يكون قوله «أو من وراء حجاب» إذا جعلت «وحيا»
على تقدير : أن يوحى ـ كما قال الخليل ـ لمّا لم يجز أن يكون على أنّ الأولى من
حيث فسد في المعنى / يكون «من وراء حجاب» على هذا متعلّقا بفعل محذوف في تقدير
العطف على الفعل الذي يقدر صلة ، ل «أن» الموصولة ب «يوحى» ، ويكون ذلك الفعل :
يكلم ، وتقديره : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى إليه أو يكلم من وراء
حجاب ، فحذف «يكلم» لجرى ذكره أولا ، كما حذف الفعل في قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لجرى ذكره ، والمعنى : كذلك أنزلنا ، وكما حذف في قوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ، والمعنى : الآن آمنت ، فحذف ، حيث كان ذكر «آمنت» قد جرى
،
__________________
وهذا لا يمتنع
حذفه من الصلة ، لأنه بمنزلة المثبت ، وقد تحذف من الصلة أشياء للدلالة عليها ،
ولا يجوز أن يقدّر تعلّق «من» فى قوله (أَوْ مِنْ وَراءِ
حِجابٍ) إلا بهذا ، لأنك إن قدّرت تعلّقه بغيره فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبى ، ولا يجوز
أن يقدّر فعل غير هذا ، كما قدر فى «أو» فى قوله : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً) ، لأن هذا اعتراض يسدّد ما قبله ، وأنت إذا قدّرت «أو من
وراء حجاب» متعلقا بشيء آخر كان فصلا بأجنبى ، إذ ليس هو مثل الاعتراض الذي يسدّد
الأول.
وأما من رفع فقال
: (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً) فينبغى أن يكون قوله «أو من وراء حجاب» متعلّقا بمحذوف ،
ويكون الظرف في موضع حال ، لأن قوله (إِلَّا وَحْياً) على هذا التقدير مصدر في موضع الحال ، كأنه يكلّم الله
إيحاء ، أي : موحيا ، كقولك : جئت ركضا ومشيا ، ويكون «من» فى قوله «أو من وراء
حجاب» فى أنه في موضع حال ، مثل «من» فى قوله (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) بعد قوله (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ، فهذا موضع وقعت فيه «من» ظرفا في موضع الحال ، كما وقع
سائر حروف الجر ، ومعنى «أو من وراء حجاب» فى الوجه الأول : يكلّمهم غير مجاهر لهم
بالكلام ، أي : يكلمهم من حيث لا يرى كما لا يرى سائر المتكلمين ، ليس أنه هناك حجاب
يفصل موضعا من موضع.
__________________
وأما قوله تعالى :
(وَلِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) ، ف «رسله» معطوف على الضمير المنصوب الذي قبله ، كما قال
: (وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) ، ولا يجوز أن يكون معطوفا على مفعول «ليعلم» ؛ لأنك تفصل
بين الصلة والموصول ؛ ألا ترى أن قوله «بالغيب» متعلق ب «ينصر» ولا يجوز أن يتعلق
ب «ليعلم» ، فإذا كان كذلك ، فلو عطفت «رسله» على «يعلم» فصلت بالمعطوف بين الصلة
والموصول.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً) . فقوله بعد : (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) اعتراض بين الصلة والموصول ، وقوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) فى الصلة من الفعل. ونظير هذا (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) هو فصل بين الفعل ومفعوله دون الصلة وموصوله.
أما قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . فزعم أنه لا يكون عطفا على ما تقدم من ألّا يفصل بين
الصلة والموصول بقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، ولكن النصب على إضمار «أن» بعد «أو». ونعنى بالموصول قوله
: (بُشْرى لَكُمْ) لأن اللام من قوله «ليقطع» متعلق به ، وقوله : (وَمَا النَّصْرُ) اعتراض.
فهذه آي وردت ،
فيها يقول النحويون من امتناع الفصل بين الصلة والموصول ، ولا نرى منها حرفا في
كتبهم ، والحمد لله الذي هدى لهذا.
__________________
الثاني والثلاثون
هذا ما جاء في التنزيل من حذف حرف النداء والمنادى
وذلك حسن جائز
فصيح ورد به الكلام ، وعلى هذا جميع ما جاء فى التنزيل من قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا
أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا) .
ومنه قوله تعالى :
(يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا) أي : يا يوسف.
أما قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ) فقد قيل : التقدير : ثم أنتم يا هؤلاء ، ف «أنتم» مبتدأ ،
و «تقتلون» الخبر ، و «هؤلاء» نداء اعترض بين المبتدأ والخبر ، كما اعترض بين
الشرط والجزاء في قوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) أي : يا ربّ. وكما اعترض بين المصدر ومعموله في قوله :
فندلا زريق المال
ندل الثّعالب
/ وكقوله :
أوسا أو يس من
الهباله
__________________
ونحن نقول : إنّ «أنتم»
مبتدأ ، و «هؤلاء» على وجهين :
أحدهما : ثم أنتم
كهؤلاء.
وإن شئت : «هؤلاء»
بمعنى الذين ، أي : أنتم الذين تقتلون أنفسكم ، كما قال عزّ من قائل : (أُولاءِ عَلى أَثَرِي) .
وأما قوله تعالى :
(رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا) . إن شئت كان «ربنا» من صلة قوله : «واغفر لنا» ، أي :
واغفر لنا ربنا ، فتقف على «ربنا» ؛ وإن شئت ابتدأت ، فقلت : (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) . فإنما قلنا : لا يكون «هؤلاء» على : يا هؤلاء ، لأن «هؤلاء»
يجوز أن يكون وصفا ل «أي» ، فتقول : يا هؤلاء أقبل ، كل ما يوصف به «أي» لا يحذف
منه حرف النداء ، ألا ترى أنه لا يجوز : رجل أقبل ، لأنك تقول : يا أيها الرجل
أقبل ، وتقول : زيد أقبل ، لأنك لا تقول : أيها الزيد أقبل.
وأما قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) فيمن خفّف ، فقد قيل : إن الهمزة بمعنى «يا» ، والتقدير :
يا من هو قانت ، فأقيمت الهمزة مقام «يا».
قال أبو على :
المعنى : أمن هو قانت كمن هو بخلاف هذا الوصف؟ ولا وجه للنداء هاهنا ، لأن الموضع
موضع معادلة ، فليس النداء مما يقع فى هذا الموضع ، إنما يقع في نحو هذا الموضع
الجمل التي تكون أخبارا ، وليس النداء كذلك.
__________________
ويدل على المحذوف
هنا قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين ، وفي الجملتين في
الخبر ، فالمعنى : أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله.
وكما جاز حذف حرف
النداء فيما تقدم جاز حذف المنادى ، كما قال : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي : يا قوم ، ليتنا نرد. ومثله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ، و (يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ) وما أشبه ذلك.
وأما قوله تعالى :
(أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) فقد قال المبرّد : إن التقدير : ألا يا هؤلاء اسجدوا ،
فحذف المنادى.
والذي اختاره أبو
علىّ : أن الجملة هاهنا كأنها المنادى في الحقيقة ، وأن «يا» هاهنا أخلصت للتنبيه
مجردا من النداء ، كما أن «ها» من قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
جادَلْتُمْ) للتنبيه ، من غير أن تكون للنداء.
وقال أبو علىّ :
وجه دخول حرف التنبيه على «ألا» من أنّه موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المأمور
لتأكيد ما يؤمر به عليه ، كما أن النداء موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المنادى لما
ينادى له من إخبار أو أمر أو نهى أو نحو ذلك ، مما يخاطب به ، وإذا كان كذلك فقد
يجوز ألا يريد منادى في نحو قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) كما يريد المنادى :
__________________
يا لعنة الله
والأقوام كلهم
|
|
و الصالحين على
سمعان من جار
|
وكذلك ما حكى عن
أبى عمرو من قوله : يا ويلا له. ويؤكد ذلك قوله : «هلم». وبناؤهم «ها» للتنبيه مع «لمّ»
وجعلها مع الفعل كشئ واحد ، وإجماع الناس على فتح آخر الكلمتين في اللغتين. وكما
لا يجوز أن يراد هاهنا مأمور ، لبناء الكلمتين على الفتح ، وإن فكّت إحداهما من
الأخرى ، بل لا يسوغ إرادة المنادى لمكان بنائهما معا وجعلهما بمنزلة شيء واحد ،
كذلك يجوز لك ألا تريد مأمورا في قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) . ويجوز أن يراد تقدير مأمورين ، فحذفوا كما حذف من قوله :
يا لعنة الله والأقوام كلهم
وكما كان «يا هذا»
لا يكون إلا لغير اللعنة ، كذلك يجوز أن يكون المأمورون مرادين ، وحذفوا من اللفظ.
قال أبو علىّ في
قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يحتمل ضربين :
يجوز أن يكون «ها»
للتنبيه دخلت على «أنتم» ، ويكون التنبيه داخلا على الجملة كما دخل في قولهم «هلم»
، وكما دخلت «يا» للتنبيه في نحو (أَلَّا يَسْجُدُوا).
ويجوز أن يكون «الهاء»
فى «أنتم» بدلا من همزة الاستفهام ، كما كان بدلا منها في قول ابن كثير ، حيث قرأ (هأنتم)
على وزن «هعنتم» ، وتكون الألف التي تدخل بين الهمزتين لتفصل بينهما كما تدخل
بين النونين
__________________
لتفصل بينهما فى «إحسانان»
، وجاز «ها أنتم» ولم يجزها قوم لشبه المضمر بالميم في الإبهام. وأما قوله : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ
يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ، فيمكن أن يكون من هذا الباب ، على تقدير : يا إبراهيم ،
فحذف ، ويمكن أن يكون رفعا ، أقيم مقام فاعل «يقال».
وأما قوله : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ
أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً / ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا) ، فقد قيل : التقدير : يا ذرية ؛ وقيل : قوله «ذرية» مفعول
ثان ل «تتخذوا» ، و «وكيلا» الأول ، فيمن قرأه بالتاء .
وأما قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ، و (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالميم في آخر «اللهم» بدل من «يا» ، فيقال : يا الله ،
واللهم. وانتصاب قوله : «مالك الملك» على نداء آخر ، أي : يا مالك الملك ، و : يا
فاطر السموات ، كقوله : (رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ
السَّماواتِ) أي : يا فاطر السموات.
وأبو العباس يحمله
على موضع المنادى ، كقولهم : يا زيد أخا عمرو.
وسيبويه لا يرى
ذلك ، لأنه لمّا ضمت الميم إلى الكلمة صارت الأصوات التي لا توصف.
ومثله قراءة من
قرأ : (طُوبى لَهُمْ
وَحُسْنُ مَآبٍ) بالنصب ، أي : يا حسن ماب ، فحذف.
__________________
الثالث والثلاثون
هذا ما جاء في التنزيل قد حذف منه المضاف إليه
وذلك يجئ أكثرها
من كلمات تلت : «قبل» و «بعد» و «كل». فأما «قبل» و «بعد» إذا كانا مضافين فإنهما
معربان ؛ وإذا كانا مبنيين كان المضاف إليهما قد حذف منهما ونوى فيهما ، فاستحقّا
البناء ، لأنهما صارا غايتين ، على ما عرفت في كتب النحو.
وذلك قوله تعالى :
(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : كانوا من قبل مجيئه ، أي : مجئ الكتاب ، يعنى القرآن
، أي : يستفتحون على الذين كفروا ، فحذف المضاف.
وكذلك قوله : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ
وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي: من قبل مجيئهم.
وقال : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) ، أي : من قبل كل شىء ومن بعد كل شىء ، وقرئ : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) ولم يبنيا وجعلا اسمين من غير تقدير المضاف إليه.
ومن ذلك قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، أي : ولكل أهل قبلة وجهة ، فحذف المضاف.
__________________
وكذلك : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، أي : كل من في السموات والأرض.
وكذا : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) ، أي : وكلهم.
وكذا : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : كل ذلك.
وكذا قوله : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي : كلنا ، فحذف المضاف إليه.
فأما قوله «فيما»
فلا يخلو قوله «فيها» أن يكون صفة أو حالا ، فإن حملته على الحال لم يستقم ، لأنه
ليس في هذا الكلام ما يكون هذا حالا عنه ، وإذا لم يستقم أن يكون حالا كان صفة ،
وإذا كان صفة كان «كل» نكرة ، وإذا كان نكرة جاز دخول لام المعرفة عليه.
فإن قلت : فاجعله
حالا واحمله على المعنى ، لأن معناه «الجميع» ، وكأنه قال : نجتمع مستقرين ، فهذا لا يستقيم.
فإن قال قائل :
هذا التأويل ليس بالقريب ، لأن المعنى كأنه ليس عليه ؛ لأنه ليس يريد : إنّا كلّ ،
وإنّا فيها ، أي جمعنا الأمرين ، ولكن المعنى على الصفة ، ولا حجة في هذا أن «كل»
نكرة ، لأنه يجوز أن يجعل «كلا» مبتدأ ثانيا و «فيها» خبره ، فيها التقدير: إنا
كلنا فيها ، إن الأمر كله لله.
فإن قلت : واجعل «فيها»
و «كل» جميعا الخبر ، لأن ذلك
__________________
كما قال سيبويه في
قوله : وهذا بعلى شيخ ، ومثل : حلو حامض. فإذا كان كذلك جاز أن يتعلق بالمضمر على
حد : زيد في الدار ، فإذا جاز ذلك لم يكن صفة ، وإذا لم يكن صفة لم يكن هذا دليلا
قاطعا على أن «كل» نكرة ، وإذا لم يكن نكرة لم يجز دخول اللام عليه ، فهذا يمكن أن
يقال.
ويجوز أن يكون «كل»
ابتداء ، و «فيها» خبرا ، والجملة خبر «إن» ، كقوله : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، وكقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) فيمن رفع «المؤمنون» بالابتداء دون العطف على «الرسول» فى
قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) .
وهذه آية يتجاذبها
، على ما وصف لك سيبويه ، وأبو العباس ، لأن سيبويه يجيز إدخال لام التعريف على «كل»
، وبه قال الأخفش. وقال المبرد : لا يجوز ، واحتج المبرد بأن ، «كلا» و «بعضا» لا
يكونان أبدا منفردين ، إنما يجيئان مضافين في الابتداء ، نحو قولك : كل القوم
جاءونى ، وبعضهم قال كيت وكيت ، ولا تقول «كل جاءونى» إلا أن يكون هذا مبنيا على
كلام ، كأنه قيل : ما جاءك القوم ، فقلت : كل جاءونى ، على تقدير: كلهم جاءونى. وهذا
الحكم فى «كل» و «بعض» قائم فيهما أبدا ، مضافين أو في تقدير الإضافة ، وإذا كان
كذلك لم يجز إدخال الألف واللام عليهما ، لأن الألف واللام والإضافة لا يجتمعان ،
فثبت أنهما لا يدخلان عليهما ، ونحن تقيس البعض والكل على النصف.
وفي التنزيل : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ) . وقد ذكرنا هذه المسألة فى «الخلاف» مستقصى.
__________________
وأما قوله تعالى :
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ) ، فقيل : التقدير : ولكل مال جعلنا موالى. [أو : ولكل قوم
جعلنا موالى] . والأول الوجه ، لقوله : (مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، وهو صفة «كل» ، أي : ولكل مال مستقر مما تركه الوالدان ،
أي : متروك الوالدين. والظرف وصف ل «كل».
وزعم أبو إسحاق أن
«أيّا» فى قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) : أنّ «أيّا» حذف منها المضاف إليه وعوضت «ها» عما أضيفت
إليه.
قال أبو إسحاق : و
«ها» لازمة ل «أي» عوض مما حذف منها من الإضافة وزيادة في التنبيه ، و «أي» فى غير
النداء لا يكون معها «ها» ، ويحذف معها الذّكر ، نحو : اضرب أيهم أفضل ، أي : أيهم
هو أفضل.
ومذهب سيبويه خلاف
ما قال ، جعلوا «ها» فيها بمنزلة «يا» ، وأكّدوا ب «ها» التنبيه ، فمن ثم لم يجز
لهم أن يسكتوا على «أي» ، ولزمه التفسير. وقوله (وَمِنْ حَيْثُ) ، أي : من حيث ألزموها ، فصارا كاستئناف نداء.
وقال في موضع آخر
: وأما الألف والهاء اللتان لحقتا «أي» توكيدا ، فكأنك كررت «يا» مرتين ، إذا قلت
يا ، وصار الاسم بينهما كما صار بين «ذا» و «ها» ، وإذا قلت : ها هو ذا ، فقوله : «ذا»
هذا إشارة إلى أن المقصود بالنداء في هذا الكلام هو : الرجل ، كما أن المقصود
بالإشارة في قولهم : ها هو ذا : الاسم المبهم دون المضمر ، والمضمر قد اعترض بين
حرف
__________________
الإشارة والمشار
إليه ، كما أن المقصود في النداء في المعنى من قولهم : يا أيها الرجل : هو الرجل ،
وإن كان النداء واقعا في اللفظ على / «أي» ، وصار هذا دلالة على هذا المعنى ، ولا
يلزم أن يعوض «أي» منها ، فحذف الإضافة فيها ، لأنها تدل على الإضافة ، وإن حذف
منها لأنها لا تكون إلا بعضا لكل ، فهى دالة على الإضافة ، وكما لم يعوض كذلك ،
ولا يلزم تعويض «أي» بل لو عوض «بعض» و «كل» لكان «أي» جديرا ألّا يعوض هنا منه ،
لأمرين :
أحدهما ـ أن
النداء موضع حذف وتخفيف ، ألا ترى أن فيه نحو الترخيم ، وحذف الياءات ، ويأفل ،
وما أشبه ذلك.
والآخر ـ أن
الإضافة قد حذفت مما هو أمكن منه ولم تعوّض ، لدلالة المضاف على الإضافة ، فإذا لم
يعوض ما هو أمكن منه في الموضع الذي هو أولى بالعوض ، كذلك العوض ، هذا في الموضع
الذي لا تليق به الزيادات للعوض.
وأيضا فإن «أيّا»
قد حذفت صلتها في غير الندا ولم تعوّض من صلتها شىء ، مع أن الدلالة على الحذف من
الصلة أنقص من الدلالة على حذف المضاف إليه منه ، لأنّها يعلم منها أن معناها
الإضافة كيف كانت موصولة ، كالعلم بأنها أبدا مقتضية للإضافة.
فإذا لم تعوض من
حذف صلتها شىء كان ألا تعوّض من حذف إضافتها في النداء.
وإن قال قائل : ف «إذ»
ليس بتمكن ، وقد عوض إضافتها لمّا حذفت منها «يومئذ» و «حينئذ» وقوله : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) ، و (مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ) و (عَذابِ يَوْمِئِذٍ) ، فما تنكر أن تعوض «أي» فى النداء. إذا حذف المضاف إليه ،
فإن لم يعوض من «بعض» و «كل».
قيل له : «أي»
أشبه ب «بعض «وكل» فى اللفظ ، والمعنى بحمله عليهما أولى من حملها على «إذ» على
أنه لا يلزم إذا عوض «إذ» أن يعوض «أي» ، لما ذكرنا من دلالتها على المضاف إليه
بمعناها ولفظها ، ولأنها في موضع حذف ، وليست «إذ» كذلك ، ألا تراها أنها لا تدل
على إضافة كما تدل «أي» عليه ، وإنما تدل على وقت ماض ، ولا تتمكن تمكن «أي» لأنها
تتصرف في وجوه الإعراب ، و «إذ» إنما تمكنت في موضعين هذا أحدهما ، وكأنه كره أن
يسلب ذلك ولا يعوض منه ، و «أي» أمكن منها وأشد تصرفا ، فلم يلزم العوض منها من
حيث لزم / فى «إذ» ، ولأنهم قالوا : اضرب أي أفضل ، فحذفوا الصلة منه والإضافة ولم
يعوضوا مع حذف شيئين ، فلأن لا يعوض في النداء أولى ، وقد استقصينا هذا فى «الخلاف».
__________________
الرابع والثلاثون
هذا باب ما جاء في التنزيل من حروف الشرط دخلت عليه
اللام الموطئة للقسم
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ) ، (وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) ، (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). وقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) .
وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) .
وقوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ
بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) .
وقوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) .
وقوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ) .
وهذا ونحوه من
الآي دخلت اللام على حرف الشرط فيه مؤذنة بأن ما بعدها جواب قسم مضمر ، على تقدير
: والله لئن اتبعت أهواءهم ؛ يدل على صحة هذا ، وأن الجواب جواب قسم مضمر دون جواب
الشرط ، ثبات النون في قوله : «لا يأتون بمثله». وقوله : «لا يخرجون معهم» ، ولو
كان جواب الشرط لم يقل :
__________________
«لنذهبنّ» ، ولا «ليولن»
ولا «إنه ليئوس» ، ولا «إنكم لمشركون» ، ولا «ما تبعوا قبلتك». والجواب جواب قسم
مضمر دون جواب الشرط ، فلا يجوز : والله لئن تأتنى آتك ، وإنما يقال : والله لئن
تأتنى لأتينك. وأصل هذا الكلام أن تقول : والله لآتينك ، ثم بدا له عن الحلف
بالبتات فقال : والله إن تأتنى ، فإذا أضمروا القسم دخلت اللام على «إن» تؤذن
بالقسم المضمر الذي ما بعده جوابه ، فهذا مساغ هذا الكلام. فقول من قال : إن الفاء
في قوله : (إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) مضمرة ، ذهاب عن الصواب ، وكذا (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) ، ليست الفاء هناك مضمرة بتة.
وأما قوله تعالى :
(وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ) ففيه وجهان :
أوجههما ـ أن يكون
«من» بمعنى «الذي» ، و «اشتراه» صلته ، ويكون قوله : «ما له في الآخرة» خبر
المبتدأ.
/ ويجوز أن يكون «من»
شرطا ، و «اشتراه» جزم ب «من» ، ويكون «ماله» جواب القسم المضمر ، على تقدير :
والله ماله.
وإنما قلنا : إن
الأول أوجه ، لأنهم قد أجروا «علموا» فى كلامهم مجرى القسم ، فتكون «اللام» الّتي
فى «لقد» جواب القسم ، ويكون «لمن اشتراه» جواب «لقد علموا» ، فيكون هذا قسما
داخلا على قسم ؛ فلا يجوز ، ولا يلزم هذا في الوجه الأول.
فأما قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) ، إن جعلت «ما» بمعنى «الذي» كانت مبتدأة ، و «آتيتكم»
صلته ،
__________________
والتقدير :
آتيتكموه ، ويكون قوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) معطوفا على الصلة ، والتقدير : ثم جاءكم به ، إلى قوله : (لِما مَعَكُمْ) ، ويكون قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) خبر المبتدأ.
ومن رأى أن الظاهر
يقوم مقام المضمر كان قوله : «لما معكم» يغنى عن إضمار «به».
ومن قال : إن «ما»
شرط ، كانت اللام بمنزلتها فى «لئن» ، ويكون «آتيتكم» مجزوما ب «ما» ، و «ما»
منصوبة به ، ويكون قوله «ليؤمنن» جواب القسم الذي ذكرناه.
والوجهان اللذان
ذكرناهما في قوله «لمن اشتراه» جائزان في قوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) .
وقد جاءت لام «لئن»
محذوفة في التنزيل :
قال الله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والتقدير : ولئن لم ينتهوا ، كما ظهرت في قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ) .
ومثل قوله : (إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) قوله : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) .
قال أبو على :
ويدل أيضا على أن اعتماد القسم على الفعل الثاني دون الأول في نحو قوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) و (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) ، وما أشبه ذلك ، أنه لا يخلو من أن يكون اعتماد القسم على
الفعل الثاني ، أو على الفعل الأول ،
__________________
والدليل على أنه
الثاني دون الأول حذفهم اللام الأول في نحو هذا ، ألا ترى أنه لو كان اعتماد القسم
عليها دون الثانية لما حذفت ، كما لم تحذف الثانية فى موضع.
فمما جاءت فيه هذه
اللام الأولى محذوفة في التنزيل قوله : (وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا / عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ) ، (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ) .
وفي موضع آخر : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) ثم قال : (لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ) فيدلك حذفهم لها على الاعتماد على الثانية لا عليها.
فإن قلت : ما ننكر
أن يكون اعتماد القسم في نحو ذا على اللام الأولى دون الثانية ، لأن اللام حذفت
كما حذفت من قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) ، ولا يكون في حذفهم اللام من غير هذا دلالة على أن اعتماد
القسم على الفعل الثاني.
قيل : هذا لا يجوز
؛ لأن اللام فى «لقد» إنما استحسن حذفها لطول الكلام بما اعترض بين القسم والمقسم
عليه ولم يطل في هذا الموضوع كلام فيستجاز حذفها كما استحسن حذفها هناك ، فإن هذه
اللام بمنزلة «إن» فى قولك : والله إن لو فعل لفعلت ، تثبتها تارة وتحذفها أخرى ،
واللام الثانية هى المعتمدة ، والأولى زيادة كان سقوطها لا يخل بالكلام ، واختص به
القسم ، كقولهم : آثرا ما ، وربما ، وما أشبه ذلك.
وأما قوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) ، والتقدير: ليظلن ، فوضع الماضي موضع المستقبل.
__________________
ولأن جميع ما جاء
في التنزيل على هذا الوجه فيما تقدم من الآي ، من قوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقوله : (لَئِنْ آتانا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) ، وقوله : (وَلَئِنْ لَمْ
يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، وقوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ) ، وقال : (لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
__________________
الخامس والثلاثون
هذا باب ما جاء في التنزيل من التجريد
وهو باب شريف لطيف
يعزّ وجوده في كتبهم ، وذلك نحو قولهم : لئن لقيت فلانا لتلقيّن منه الأسد ، ولئن
سألته لتسألن منه البحر ؛ فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا أو بحرا ، وهو عينه هو
الأسد والبحر ، لا أن هناك شيئا منفصلا عنه وممتازا منه ، وعلى هذا يخاطب الإنسان
منهم نفسه حتى كأنها تقابله أو تخاطبه ، وقد يكون ذلك بحرف «الباء» / و «من» وحرف «فى»
فمن ذلك ، قوله تعالى : (ما لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ، أي : مالك الله وليّا ؛ وكذا : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
واقٍ) .
وقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ) ، أي : كونوا أمة.
وقال : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي : كن لنا وليّا.
(وَاجْعَلْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ نَصِيراً) ، أي : كن لنا نصيرا.
وقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) ، أي : لكم هو شراب.
__________________
وقال الله تعالى :
(ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) . أي : لهم هي دار الخلد.
ومسألة «الكتاب»
جاء بالباب : أما أبوك فلك به أب ، أي لك منه أو به ، أي: بمكانه ؛ أي : بمكانه
أب.
وقال عزّ من قائل
: (وَلِلَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : بعذاب ربهم عذاب جهنم.
ويجوز أن يتعلق
الباء بنفس «كفروا» ، فيكون على الأول الظرف معمول الظرف ، وعلى الثاني يكون الظرف
معمول الظاهر.
وأما قوله تعالى :
(وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) .
فقد قال أبو على :
جعلنا بدلكم ملائكة ؛ لأن الإنس لا يكون منهم ملائكة ، وقال :
كسوناها من
الرّيط اليماني
|
|
ملاء في بنائقها
فصول
|
وإن جعلت «من»
كالتى في قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)
و : يأبى الظّلامة
منه النّوفل الزّفر
كان التقدير : ولو
نشاء لجعلنا منكم مثل ملائكة ، أي : فلا تعصون كما لا يعصون ، فأجبرناكم على
الطاعة.
وقال أبو على : لك
به أب ، أي : بمكانه ، فقولك «بمكانه» فى موضع ظرف. والعامل فيه «لك». وكذلك : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) «فيها» ظرف ،
والعامل فيه «لهم». ويجوز على قول الشاعر :
أفادت بنو مروان
قيسا دماءنا
|
|
و في الله إن لم
يعدلوا حكم عدل
|
__________________
أن يكون من قوله :
(لَهُمْ فِيها دارُ
الْخُلْدِ) مستقرّا ، و «لهم» لغوا. ألا ترى أن قوله :
و في الله إن لم يعدلوا حكم عدل
لا يكون إلا
مستقرّا ، فإذا صح هذا هاهنا وجب جواز كونه مستقرّا فى الآية أيضا ، وكما تجعل هذا
بمنزلة الظرف / كذلك تجعل الجار والمجرور فى موضع المفعول من قوله :
بنزوة لصّ بعد
ما مرّ مصعب
|
|
بأشعث لا يفلى
ولا هو يقمل
|
و «مصعب» نفسه هو.
الأشعث. وقالوا : فى هذا الدرهم خلف من هذا الدرهم ، أي : هذا الدرهم خلف. وكذلك :
(لَهُمْ فِيها دارُ
الْخُلْدِ) أي : لهم النار دار الخلد ، وقال :
أخو رغائب
يعطيها ويسألها
|
|
يأبى الظّلامة
منه النّوفل الزّفر
|
ف «أخو رغائب» هو «النوفل
الزفر» ، فقال : منه النوفل ، وهو هو.
قال عثمان في قوله
:
و في الله إن لم يعدلوا حكم عدل
فى هذا غاية
البيان والكشف ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى ظرف لشئ ولا متضمن له
، فهو إذا على حذف المضاف ، أي عدل الله عدل حكم. ومثله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي : أسأل الله خبيرا.
__________________
السادس والثلاثون
هذا باب ما جاء في التنزيل من الحروف الزائدة في تقدير
وهي غير زائدة في تقدير آخر
فمن ذلك قوله
تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) ، إن شئت كان التقدير : فإن آمنوا مثل ما آمنتم به ، فتكون
الباء زائدة. وإن شئت كان التقدير : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم. والوجه الأول أحسن.
ومثله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ، إن شئت كان التقدير : ألم تر إلى الذي حاجّ ، وإلى الذي
مرّ ، وتكون الكاف زائدة. وقد تقدم فيه وجه آخر.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) .
إن شئت كانت الباء
زائدة ، أي : لا تلقوا أيديكم ، وعبّر بالأيدى عن الذوات. وإن شئت كان التقدير :
ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، «وألقى» فعل متعد ، بدليل قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ) .
قال أبو على :
الباء الجارة للأسماء تجئ على ضربين :
أحدهما ـ أن تكون
زائدة.
والآخر ـ أن تكون
غير زائدة.
والزائدة ـ تلحق [شيئين]
:
حدهما ـ جزء من
الجملة.
والآخر ـ فضلة عن
الجملة ، أو ما هو مشبه بها فأما الجزء من الجملة فثلاثة أشياء : مبتدأ ، وخبر
مبتدأ / ، وفاعل مبنى على فعله الأول ، أو على مفعول بنى على فعله الأول.
__________________
من ذلك ، وهو
دخولها على المبتدأ زائدة : ففى موضع واحد في الإيجاب ، وهو قولهم : بحسبك أن تفعل
الخير ، ومعناه : حسبك فعل الخير ، فالجار مع المجرور في موضع رفع بالابتداء ، ولا
نعلم مبتدأ دخل عليه حرف الجر فى الإيجاب غير هذا الحرف.
فأما غير الإيجاب
فقد دخل الجار غير الباء عليه ، وذلك نحو قوله : هل من رجل في الدار؟ وقال : هل لك
من حاجة ، وقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) .
فأما قوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا) فمن رفع ما بعد الظرف بالابتداء كان قوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) كذلك ، ومن رفعه بالظرف كان في موضع الرفع بالفعل كما
يرتفع بالظرف ، كقوله : (أَنْ تَقُولُوا ما
جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ، وقوله: (أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .
أما الثاني :
دخولها على خبر المبتدأ في موضع ، فى قول أبى الحسن الأخفش ، وهو قوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ، زعم أن المعنى : جزاء سيئة مثلها ، وكأنه استدل على ذلك
بالآية الأخرى. وهو قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) .
ومما يدلك على
جواز ذلك أن ما يدخل على المبتدأ قد تدخل على خبره لام الابتداء التي دخلت على خبر
المبتدأ ، فى قول بعضهم : إن زيدا وجهه لحسن. وقد جاء في الشعر :
أمّ الحليس لعجوز
شهربه
__________________
والذي أجازه أبو
الحسن أقوى من هذا في القياس ، وذلك أن خبر المبتدأ يشبه الفاعل من حيث لم يكن
مستقلا بالمبتدأ ، كما كان الفعل مستقلا بالفاعل ، وقد دخلت على الفاعل فيما تدخله
بعد ، فكذلك يجوز دخولها على الخبر.
وقد تحتمل الآية
وجهين غير ما ذكر أبو الحسن :
أحدهما ـ أن تكون
الباء مع ما قبلها في موضع الخبر ، وتكون متعلقة بمحذوف ، كما يقال : ثوب بدرهم ،
ولا يمتنع هذا من حيث قبح الابتداء بالنكرة ، لمعنى العموم فيه وحصول الفائدة به.
والآخر ـ أن تكون
الباء من صلة المصدر وتضمر الخبر / لأنك تقول : جزيتك بكذا ، فيكون التقدير : جزاء
سيئة بمثلها واقع ، أو كائن.
الثالث : دخولها
على الفاعل المبنىّ على فعله ، وذلك في موضعين :
أحدهما ـ قوله : «وكفى
بالله».
والآخر قولهم في
التعجب : أكرم به.
فالدلالة على
زيادتها أن قولهم : «كفى بالله» «وكفى الله» واحد ، وأن الفعل لم يسند إلى فاعل
غير المجرور. وفي التنزيل : (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) ، (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) ، (وَكَفى بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً) ، والتقدير في كل هذا : كفاك الله شهيدا ، وكفاك الله
حسيبا ، وكفت جهنم سعيرا ؛ وكذلك : (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) ، أي : كفيناك حاسبين. قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
__________________
وتقول : مررت برجل
كفاك به ، وبرجلين كفاك بهما ، وبرجال كفاك بهم ، فتفرد الفعل لأن الفاعلين بعد
الباء ، وإن لم تلحق الباء قلت : مررت برجل كفاك من رجل ، وبرجلين كفياك من رجلين
، ورجال كفوك من رجال.
وأما الدلالة على
زيادتها في قولهم : أكرم به ، وقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ) ، فهى أن الفعل لا يخلو من أن يكون للمخاطب أو الغائب ،
فلو كان للمخاطب لثنّى فيه الفاعل تثنيته للمخاطب وجمع بجمعه وأنث لتأنيثه ، فلما
أفرد في جميع الأحوال ولم يعتبر به الخطاب علم أنه ليس للمخاطب ، وإذا لم يكن له
ثبت أنه للغائب.
ويدل على ذلك أيضا
أن المعنى إنما هو على الإخبار عن المخاطب ، ألا ترى أن قولهم : أكرم به ، يراد به
أنه قد كرم ، وإنما دخلت الهمزة على حدّ ما دخلت في قولهم : أجرب الرجل ، وأقطف ،
وأعرب ، وألأم ، وأعسر ، وأيسر ، إذا صار صاحب هذه الأشياء ، وكذلك «أكرم» معناه :
صار ذا كرم ، و (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ) صاروا ذوى بصر وسمع ، خلاف من قال تعالى فيه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) .
فإن قلت : كيف جاء
على لفظ الأمر؟ قيل : كما جاء (قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ، والمعنى : فمدّ له الرحمن مدا.
والموضوع الآخر من
الموضعين الذي لحقت الباء / بهما زائدة ، وهو أن يكون فضلة عن الجملة ، أو مشبها
بها ، فالمشبّه كقوله :
__________________
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ) (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) ، وقوله.
(لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ) فالباء الأولى متعلّقة باسم الفاعل.
والثانية التي
تصحب «ليس» قال : (وَما هُمْ مِنْها
بِمُخْرَجِينَ) .
والآخر زيادتها في
المفعول ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ) .
فأما قوله تعالى :
(وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ، فقد قيل : الباء زيادة.
وقد قيل : التقدير
: بهزّ جذع النّخلة.
ومن ذلك قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، أي : تنبت الثمرة بالدهن ، فحذف المفعول ، فيكون «الباء»
حالا.
وقيل : التقدير :
تنبت الدهن ، والباء زائدة.
وأما قوله تعالى :
(بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ) ، فقد قيل : الباء زائدة ، والتقدير : أيكم المفتون.
وقد قيل : «المفتون»
بمعنى : الفتنة ، أي : بأيكم الفتنة ، كما يقال : ليس له معقول ، أي : عقل.
فأما قوله تعالى :
(جَزاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِها) ، أي : جزاء سيئة مثلها ، لقوله فى الأخرى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) .
__________________
وأما قوله تعالى :
(عَيْناً يَشْرَبُ
بِها) فالباء زائدة. وقيل : بل هي بمعنى «من». وقيل : بل هي
محمول على المعنى ، أي : يروى بها وينتفع. وقيل : شربت بالعين ، حقيقة ، و : من
العين ، والعين ، مجازا ، لأن العين اسم للموضع الذي ينبع منه الماء ، فهو كقولك:
شربت بمكان كذا ، ولهذا يقال : ماء العين ، وماء السّلسبيل ، ثم توسع واجتزئ باسم
العين عن الماء ، لمّا كان لا يسمى المكان عينا إلا ينبوع الماء منه.
فأما قوله : «عينا»
فالتقدير : ماء عين ، أي : يشربون من كأس موصوفة بهذا ماء عين.
وقيل : بل «عين»
بدل من «كافور» ، لأن «كافور» اسم عين في الجنة.
وقيل : هو نصب على
المدح.
ومن زيادة الباء
قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، والتقدير : ألم يعلم أن الله يرى ، لقوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ) .
ومن ذلك قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) ، وقال : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ) ، ومثله : (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) . أي : اقرأ اسم ربك ، لقوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ) .
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ) ، فالباء فى «بقادر» ، زائدة ، لأنه خبر «أن» ، وجاءت
زيادتها للحاق النفي أول الكلام.
وأما قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فالكاف زائدة ، والتقدير : ليس مثله شىء ، لأن حمله على
الظاهر يوجب إثبات المثل.
وقيل : الباء
بمعنى الصفة ، أي : ليس كصاحب صفته شىء ، وصاحب صفته هو هو.
وقيل : بل «المثل»
زيادة.
وقد تزاد «من» فى
النفي بلا خلاف ، نحو قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) أي : ما لكم إله ، وكقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) ، وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ)، (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) .
فأما زيادتها في
الواجب فلا يجوز عند سيبويه ، وهو جائز عند الأخفش ، وقد تقدم ذلك فيما مضى ،
كقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) . و : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) . وقد تقدّم ذلك.
__________________
وقد تزاد الفاء ،
كقوله : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) إلى قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) ، ف «الفاء» زائدة.
وقد تزاد اللام
أيضا ، كقوله : (لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) ، وقوله : (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ
الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) . وقوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) ، وقد تقدم.
وقد تزاد الواو ،
قال الفراء : فى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ) ، جوابه قوله : (وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ) ، الواو مقحمة.
وقال : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) ، الواو زائدة. أي : تله.
وقال : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ، «الواو» مقحمة.
وعندنا أن أجوبة
هذه الأشياء مضمرة ، وقد تقدم.
__________________
السابع والثلاثون
هذا باب ما حاء في التنزيل من التقديم والتأخير ، وغير ذلك
فمن ذلك قوله
تعالى : (كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) ، قيل : الكاف تتعلق بقوله : (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) .
وقيل : بل هو
متعلق بقوله : (فَاذْكُرُونِي) ، أي : اذكروني كما أرسلنا فيكم.
ومثله قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما
عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) .
قال أبو على : «كما»
متعلق ب «فليكتب» ، بمنزلة : بزيد فامرر ، ولا تحمل على : «أن يكتب كما علّمه الله».
فأما قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا
يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) .
يجوز أن يكون
الوقف على «خاشعين» و «اللام» من صلة «يشترون» ، أي : لأجل الله لا يشترون. ويجوز
أن يكون «وما أنزل إليهم» تماما ، ويكون التقدير : لا يشترون بآيات الله خاشعين
لله ، فيكون حالا مقدّما.
ومثله في التقديم
قوله : (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ) .
__________________
قال أحمد بن موسى
: (وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) ، أي : لا يفترون النهار ، فهو في نية التقديم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، أي : لا تؤمنوا أن يؤتى أحد إلا لمن تبع دينكم ، ف «أن
يؤتى» مفعول «لا تؤمنوا». وقدم المستثنى فدلّ على جواز : ما قدم إلا زيدا أحد.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ، وقال : (لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها) ، فالمفعول مقدّم على الفاعل ، ووجب تقديمه هاهنا ، لأن
تأخيره يوجب إضمارا قبل الذكر.
ومن ذلك : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي : أوجس موسى فى نفسه ، فقدم الكناية على المكنى عليه ،
كما كان في نية التأخير ، فدل على جواز : ضرب غلامه زيد.
ومن ذلك قوله : (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما
أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) . التقدير : ليغفر لنا خطايانا من السحر ولم يكرهنا عليه ،
فيمن قال : إن «ما» نافية.
ومن ذلك قوله
تعالى : (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) هذا كقولهم : راكبا جاء زيد ، والتقدير : يخرجون من
الأجداث خشعا أبصارهم.
__________________
ومن ذلك قوله في
البقرة : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، أي : يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم ؛ ففصل بين
الواو والفعل بالظرف.
ومثله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ، فيمن فتح الباء ، أي: بشرناها بإسحاق ويعقوب من وراء
إسحاق ، ففصل بين الواو والاسم بالظرف.
وقد تقدم هذا في
غير موضع. وحمله قوم على إضمار فعل ، وآخرون على إضمار الجار والمجرور.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ
مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ، أي : كتاب موسى من قبله ، ففصل بين الواو وبين ما عطف به
عليه على «شاهد» بالظرف.
نظيره / فى
الأحقاف : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) إلى قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى).
«كتاب» معطوف على
قوله «شاهد» ، أي : وشهد شاهد وكتاب موسى من قبله.
وكذلك قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً) ، أي : وأمة مسلمة لك من ذريتنا.
ومثله : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، أي : ومثلهن من الأرض.
__________________
والذي نص عليه فى «الكتاب»
أن الفصل بين الواو والمعطوف بالظرف وغيره ، إنما يقبح إذا كان المعطوف مجرورا ،
ولم يذكر في المنصوب والمرفوع شيئا.
وقال أبو على :
قياس المرفوع والمنصوب كقياس المجرور ، قال : لأن الواو نابت عن العامل وليس بعامل
في الحقيقة ، فلا تتصرف فيه كما لا تصرف في معمول عشرين ، لما كان فرعا على باب «ضاربين».
وحمل هذه الآي على إضمار فعل آخر فقال : التقدير في قوله (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي : وخلق من الأرض مثلهن.
وقال في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) التقدير : واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك. ولعله يحمل «كتاب
موسى» فى الآيتين على الابتداء ، والظرف على الخلاف ، ولا يحمله على المرفوع
الظاهر ، وقال : لو قلت : هذا ضارب زيد أمس وغدا عمرو ، امتنع الجر والنصب فى «عمرو».
والذي نص عليه
سيبويه في باب القسم عند قوله : والله لا قومن ثم الله لأقتلن. فقال: هو ردئ خبيث
على تقديم : الله لأقتلن.
قال أبو على :
وإنما جاء الفصل بين الواو والمنصوب والمرفوع في الشعر دون سعة الكلام.
وقال قوم في قوله
: (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ) فيمن نصب. إنه حال ، على تقدير. وهو من الأرض مثلهن ، أي :
الخلق من الأرض ، أي : كان
__________________
من الأرض مثلهن ،
فجعل الجار الخبر وأضمر المبتدأ ، وفيمن رفع «مثلهن» أظهر ، على تقدير : وهو مثلهن
من الأرض. وقد نبهتك على الأبيات فى «البيان».
ومن ذلك قوله
تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ /
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ، التقدير عند الفراء : يستفتونك في الكلالة قل الله
يفتيكم ، فأخّر.
ومثله قال : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ، والتقدير عنده : آتوني قطرا أفرغه عليه ، فأخّر.
وقال : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ، أي : خذ إليك ، عند الفراء.
ومثله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ
شَيْئاً) فى الموضعين ، أي : لكى لا يعلم شيئا من بعد علم علما ، أي
من بعد علمه ، فأخّر عند الفراء.
فأما قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ، فقوله «بالله» يجوز أن يكون من صلة «الشهادة» ، ومن صلة «الشهادات»
، إذا نصب «الأربع». وقياس من أعمل الثاني أن يكون قوله : «بالله» من صلة «شهادات»
، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، كما تقول «بالله» من صلة «شهادات» ، وحذف من
الأول لدلالة الثاني عليه ، كما تقول : ضربت وضربنى ، ومن رفع فقال : فشهادة أحدهم
أربع شهادات بالله ، فإن الجار والمجرور من صلة «شهادات» ،
__________________
ولا يجوز أن يكون
من صلة «شهادة» ، لأنك إن وصلتها بالشهادة فقد فصلت بين الصلة والموصول ، ألا ترى
أن الخبر الذي هو «أربع شهادات بالله» يجوز أن يكون من صلة «شهادة أحدهم» فتكون
الجملة التي هى «إنه لمن الكاذبين» فى موضع نصب ، لأن الشهادة كالعلم فيتعلق بها «إن»
كما يتعلق بالعلم ، والجملة في موضع نصب بأنه مفعول به ، و «أربع شهادات» ينتصب
انتصاب المصادر. ومن رفع «أربع شهادات» لم يكن قوله «لمن الكاذبين» إلا من صلة «شهادات»
دون «شهادة» ، كما كان قوله «بالله» من صلة «شهادة» ففصلت بين الصلة والموصول.
ومن ذلك قوله : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) ، والتقدير : وأنهم ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا كما ظننتم.
وقال الله تعالى :
(وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً) ، أي : هزى إليك رطبا تساقط عليك.
فهذه الآي محمول
على الفعل الثاني عندنا ، وما يقتضيه الأول مضمر ، وهم يحملون الأول دون الثاني.
ويضمرون / الثاني ويفصلون بالثاني بين الأول ومقتضاه :
ومن التقديم
والتأخير : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)، التقدير : فلا أقسم بمواقع النجوم ، إنّه لقرآن كريم. فى
كتاب
__________________
مكنون. لا يمسّه
إلا المطّهرون. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. وفصل بين الصفة والموصوف بالجملة ، وهو «لو تعلمون» ، وبين القسم
وجوابه بقول : «وإنه لقسم».
ومن ذلك قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا
وَحِينَ تُظْهِرُونَ) والتقدير : وحين تصبحون وعشيّا ، فأخّر واعترض بالجملة.
التقديم والتأخير
قراءة ابن عامر : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) ، والتقدير : قتل شركائهم أولادهم ، فقدم المفعول على
المضاف إليه ، قالوا : وهذا ضرورة ليس بضرورة ، لأنه قد كثر عندهم ذلك ، وأنشدوا
فيه أبياتا جمة.
فمن ذلك قوله :
كأنّ أصوات من
ايغالهنّ بنا
|
|
أواخر الميس
أصوات الفراريج
|
أي : كأن أصوات
أواخر الميس.
وقال :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
أي : هما أخوا من
لا أخا له في الحرب.
وقال : بين ذراعى
وجبهة الأسد أي : بين ذراعى الأسد وجبهته.
__________________
وقال :
كأنّ برذون أبا
عصام
|
|
زيد حمار دقّ
باللّجام
|
أي : برذون زيد يا
أبا عصام حمار دق باللجام.
ومن ذلك ما قاله
أبو الحسن في قول الله تعالى : (مِنْ شَرِّ
الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) . أي : إنه لراد من شر الوسواس الخناس من الجنة والناس الذي
يوسوس في صدور الناس.
ومنه قول الله
تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا
فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) ، أي : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم
تولّ عنهم.
وقيل في قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) : إن تقديره : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم
يعودون.
قال أبو الحسن :
المعنى فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
فإن قلت : كيف جاز
أن تقدر / «لما قالوا» متعلقا بالمصدر ، وهو متقدم قبله؟ قيل : لا يمتنع أن يتقدم
على وجه التبيين ، ليس إنه متعلق بالصلة ، ألا ترى قوله :
تقول ودقّت
نحرها بيمينها
|
|
أبعلى هذا
بالرّحى المتقاعس
|
__________________
وقوله :
كان جزائى بالعصا أن أجلدا
لم يجعلوه متعلقا
ب «جزائى» ، ولكن جعلوه تبيينا للجلد ، وكذلك ما ذكره أبو الحسن.
وأما التقديم
والتأخير الذي قدر ، فمثله كثير ، ويجوز أن يكون التقدير : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون للقول ، و «القول» فى
المعنى «المقول» ، كالخلق بمعنى / المخلوق ، ألا ترى أن الذي يعاد هو الجسم ،
فلهذا كان الخلق بمعنى المخلوق ، فى قوله : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) .
فإن قلت : وكيف
وقع «اللام» موقع «إلى» فى قولك : عدت إلى كذا. فإنه لا يمتنع ، ألا ترى أنه قد جاء : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) . على أن «اللام» فى قول من يخالف في هذا التأويل بمعنى «إلى».
ومثله : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) . أي : فاستمع إلى ما يوحى ، لا بد من ذلك ، لا سيما في
قراءة الزيات : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ) ، ويكون التقدير : فاستمع لأنا اخترناك إلى ما يوحى ، ولو
لم تحمله على هذا لكان التقدير : فاستمع لأنا اخترناك لما يوحى ، فتعلق اللامين
بقوله «فاستمع» ، وقد قال : لا يتعدى فعل بحرفى جر متّفقين.
فإن قلت : ولم لا
تحمل «وأنا اخترتك» على «نودى» فى قوله (نُودِيَ يا مُوسى
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ... وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ) ، أي نودى بأنى أنا ربك وأنا اخترتك.
__________________
قيل : إن «اخترناك»
قراءة حمزة ، وهي تقرأ : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، مكسورة الألف ، فكيف تحمله عليه. وقد ذكرنا ما في هذا فى
«البيان» و «الاستدراك».
ومن ذلك قوله
تعالى : (إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ
لَهُمْ) . اضطرب قول أبى علىّ في هذه الآية ، وله كلام فى «الحجة»
وكلام فى «الإغفال» وكلام فى «الحلبيّات» وهو أجمع الثلاثة.
قال فى «الحلبيات»
:
والقول في أن حرف
العطف في قوله : «وأقرضوا» لا يخلو من أن يكون عطفا / على الفعل المقدّر في صلة «المصدقين»
أو على غيره : إن قوله «وأقرضوا الله» لا يجوز أن يكون معطوفا على الفعل المقدر في
الموصول الأول ، على أن يكون التقدير : إن الذين صدقوا وأقرضوا الله ، وذلك أنك
إذا قدّرته هذا التقدير فقد فصلت بين الصلة والموصول بما ليس منهما ، وما هو أجنبى
، والفصل بين الصلة والموصول بالأجنبى وما ليس منهما لا يصح ، ولذلك لم يجيزوا :
رأيت القائمين وزيدا إلا عمرا ، وهذا النحو من المسائل ؛ لأن «زيدا» معطوف على «رأيت»
، والاستثناء من الصلة من حيث كان المستثنى معمول الفعل الذي فيها ، فقد فصلت
بينهما بالمعطوف ، ولم يجز ذلك. كما لم يجز أن يكون «وأقرضوا» معطوفا على «صدقوا»
المقدر في الصلة ، لفصل «المصدقات» المعطوف
__________________
على ما بينهما.
وإنما لم يجز ذلك لأن العطف على الموصوف وغيره في الأسماء يؤذن بتمامه ، ألا ترى
أنك لا تعطف على الاسم من قبل أن يتم بجميع أجزائه ، فإذا كان العطف يؤذن بالتمام
فعطفت ثم أتيت بعد العطف بما هو من تمامه فقد زعمت أنه تام غير تام ، فنقضت بذكرك
ما بقي من الصلة ما قدّمته من حكم التمام بالعطف ، وكان مدافعا غير مستقيم. ولا
يستقيم أن يكون قوله «وأقرضوا الله» ، فى هذه الآية ، محمولا على المقدر في الصلة
، كما كان قوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) على المقدر من قوله : (فَالْمُغِيراتِ
صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) ، لأنك لم تزد في هذا الموضع على أنك عطفت على الموضع ولم
تفصل بين الصلة والموصول بأجنبى منهما ، كما فصلت بالمعطوف بينهما فى الأخرى ،
والحمل على المعنى في هذا النحو من العطف مستقيم حسن ، فإذا لم يجز أن يكون معطوفا
على الصلة لم تحمله على ذلك ، ولكن على وجوه أخر ، منها :
أن تجعل العطف
اعتراضا بين الصلة والموصول.
وإن شئت كملته على
أن الخبر غير مذكور.
وإن شئت جعلت
المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الفاعلين وجعلت العطف عليهم.
وأما حمله على
الاعتراض فهو أرجح الوجوه عندى ، لأن الاعتراض قد شاع / فى كلامهم واتسع وكثر ،
ولم يجر ذلك عندهم مجرى الفصل بين المتصلين بما هو أجنبى منهما ، لأن فيه تسديدا
وتثبيتا ، فأشبه من أجل ذلك الصفة والتأكيد ، فلذلك جاء بين الصلة والموصول في
الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر والمفعول وفعله ، وغير ذلك.
__________________
فما جاء من ذلك من
الصلة والموصول قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) .
وكقوله :
ذاك الذي وأبيك
يعرف مالك
|
|
و الحقّ يدفع
ترّهات الباطل
|
فإذا جاء الفصل
بين الصلة والموصول بما ذكرنا من الاعتراض فإنه يجوز الفصل بين اسم «إن» وخبرها
بالاعتراض الذي هو قوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أحرى ، لأن اتصال الصلة بالموصول أشد من اتصال المبتدأ
بالخبر ، ألا ترى أنهما يجريان مجرى الاسم الواحد ، وأن المبتدأ قد يحذف خبره ولا
يستعمل إثباته. وقوله : «يضاعف لهم» على هذا التأويل في الآية فى موضع رفع ب «إن»
خبر المبتدأ.
ومما جاء من
الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله :
ألا هل أتاها
والحوادث جمّة
|
|
بأن امرأ القيس
بن تملك بيقرا
|
فالمبتدأ والخبر
اعتراض ، والجار والمجرور في موضع رفع ب «أن» فاعل ، كما أنهما فى «كفى بالله»
كذلك ، وإذا جاز في الفعل والفاعل كان المبتدأ والخبر أجوز.
ومن الاعتراض بين
الصفة والموصوف قوله : تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) كما أن قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) كذلك ، والمعنى فى «لو تعلمون» : اعلموا ، كما تقول : لو
قمت ، أي : قم.
__________________
وزعم أبو الحسن أن
الماضي في هذا المعنى أكثر من المضارع.
وإن حملت على أن
الخبر غير مذكور ولم تجعل قوله «وأقرضوا الله» اعتراضا ، ولكن جملة معطوفة على ما
تقدم ، جاز في قوله «والمصدقات» أمران :
أحدهما ـ أن تكون
الواو بمنزلة «مع» ، على أن تكون قد سدّت مسدّ خبر المبتدأ ، كما أنك لو قلت : إن المصدقين
مع المصدقات ، كان كذلك ، ألا ترى أنه لما كان معنى قولك «أقائم الزيدان» : أيقوم
الزيدان ، استغنيت بالفاعل عن خبر المبتدأ ، وإن كان قد ارتفع «قائم» ارتفاع
المبتدأ ، فكذلك قولك «والمصدقات» ، وإن كان منتصبا بالعطف على «إن» ، فإنه سد مسد
الخبر ، فلا يحتاج مع ذلك إلى تقدير خبر ، كما لم يحتج إليه فى قولك : أقائم
الزيدان. ومثل ذلك قولهم : الرجال وأعضادها ، والنساء وأعجازها ؛ لما كان المعنى :
الرجال مع أعضادها ، والنساء مع أعجازها. استغنيت عن خبر الابتداء ، وكما استغنيت عن خبر المبتدأ بما
كان معطوفا عليه لمّا كان المعنى كذلك ، يدخلان على هذا الحد ، فيكون المعنى :
إنهم معهن فى نيل الثواب وارتفاع المنزلة. فإذا حملت على ذلك جاز بلا خلاف فيها. وقد يجوز أن تضمر لهذا النحو خبرا ، فيكون التقدير : كل رجل
وضيعته مقرونان ؛ وعلى هذا تضمر أيضا في خبر «إن» فى قوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ) . أي : إن المصدقين والمصدقات يفلحون ، أو مضاعف لهم ، ونحو
ذلك مما ذكروا به في التنزيل ، ويكون موضع
__________________
«يضاعف» نصبا صفة
للقرض.
وإن شئت جعلته
جملة مستأنفة ، إلا أنك لم تلحق الواو ، أو لالتباس أحدهما بصاحبه ، وقوله : (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مستأنف.
ومن شاء جعل ما
قبله وصفا ، إذ لا تعلّق له بالموصوف.
وإن شئت جعلته
حالا من «لهم» فى قوله «يضاعف لهم».
وإن شئت جعلت
المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الفاعلين ، وجعلت قوله «وأقرضوا» معطوفا على ذلك ،
لأن معنى «المصدقين والمصدقات» كمعنى : إن الناس المصدقين. فإذا كان ذلك معناه جاز
أن يعطف «وأقرضوا» عليه ، كما كان يجوز ذلك لو أبرزت ما هذا المذكور في معناه
وموضعه.
وعلى هذا الوجه
حمله أبو الحسن ؛ لأنه قال في تفسيرها : لو قلت : الضاربه أنا ، وقمت زيد ، كان جائزا ، كأنه يريد :
إنه كما استقام أن يحمل «الضارب» على «ضرب» فتعطف «قمت» عليه ، كذلك يستقيم أن
تجعل الفاعلين ، فتحمل «وأقرضوا» عليه ، إذ لا يستقيم عطف «وأقرضوا» على الصلة
الأولى ، ولأن العطف على المعنى قد جاء في الصلات وغيرها كثيرا ، فافهمه.
ومن التقديم
والتأخير / قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ) ، أي : جزيناهم ذلك ، فقدم المفعول الثاني.
وقال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) ، أي : جزيناهم ذلك بكفرهم.
وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكابِرَ مُجْرِمِيها) أي : مجرميها أكابر.
__________________
وقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) ، أي : الجنّ شركاء.
وقال : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي : يؤتى من يشاء ملكه.
وقال : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) ، أي : تؤتى من تشاء الملك.
وأما قوله تعالى :
(وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) . جاء فى التفسير أن قريشا في الجاهلية كانت تكثر التزوج
بغير عدد محصور ، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته وقلّ ماله مدّ يده إلى ما
عنده من أموال اليتامى ، فحلّ له الأربع. وإلى هذا الوجه أشار أبو علىّ بعد ما حكى
عن أبى العباس في كتابه في القرآن تعجب الكسائي من كون «فانكحوا» ما طاب لكم جوابا
لقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) .
قال : وقاله أبو
عبيد ، وليس هذا الجواب ، فإنما الجواب قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، كأنه قال : فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فإن خفتم
ألا تعدلوا فواحدة.
فقال أبو على :
جواب «إن خفتم» الفاء فى «فواحدة» ، كأنه فى التقدير : إن خفتم ألا تقسطوا ، إن
كثرت عليكم مؤن الزوجات وأحوجتم إلى مال اليتامى. أي : فانكحوا واحدة. وقوله «فانكحوا
ما طاب» اعتراض بين الشرط والجزاء ، مثل قولك : إن زيدا ـ فافهم ما أقول ـ
__________________
رجل صدق.
قال : ولما كان
الكلام باعتراض الجملة المسدّدة للشرط كرر الشرط ثانيا ، فقيل : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) وهو قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا) . وهذه الجملة متأخرة معنى ، أي : فى حال الضيق واحدة ، وفي
السعة أربع.
والقصة عن عكرمة
والشرح لأبى علىّ.
قال قوم : إنهم
كانوا يتوقّون أموال اليتامى ولا يتوقّون الزنى ، فقيل : كما خفتم في ذا فخافوا
الزنى وأتوا الكلالة. عن مجاهد.
وقيل : كانوا
يخافون ألا يعدلوا في أموال اليتامى ولا يخافون أن يعدلوا فى النساء. عن سعيد بن
جبير.
وقيل : التقدير :
ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما حل لكم من غيرهن من النساء. عن عائشة.
وروى عن عروة عن
عائشة أنها قالت : كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن ، ولم يكن لهن أحد
يخاصم عنهن ، فنهاهم الله عن ذلك ، وقال : (وَإِنْ خِفْتُمْ) .
ومن ذلك قوله
تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ* يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) . «ذلك» منصوب ب «يدعو» ، ويكون «ذلك» بمعنى «الذي» والجملة
بعده صلة.
وقال الفراء : بل «اللام»
فى «لمن ضرّه» فى نية التأخير ، والتقدير : من لضره ، وهو خطأ ، لأن الصلة لا
تتقدم على الموصول.
__________________
وقيل : إن «من» ليس
في موضع مفعول «يدعو» ، لأنه مكرر من الأول معاد للتوكيد ، واكتفى من مفعوله
بمفعول الأول ، وكرر تفظيعا للأمر في عبادة الأصنام ، وقوله «لمن ضره» على هذا
مبتدأ ، وخبره «لبئس المولى».
ووجه ثالث : وهو
أن يكون «يدعو» بمعنى «يقول» كقول القائل : ما يدعى فلان فيكم؟ أي : ما يقال له؟ وكذلك : يدعون عنته ، أي : يقولون : يا عنته ، أي : يقولون الذي ضره أقرب من نفعه هو إلهنا ،
ويكون الخبر محذوفا لدلالة الكلام عليه.
ووجه رابع : وهو
أن يكون «يدعو» من تمام الضلال البعيد ، أي : يدعوه ، و «يدعوه» فى موضع الحال للمبتدأ ، والتقدير : ذلك
هو الضلال البعيد داعيا ، أي : فى حال دعايته إياه. و «لمن ضره» ابتداء ، وخبره «لبئس
المولى». ولا يكون «لبئس المولى» خبرا في قول من يقول : إن «يدعو» بمعنى يقول ،
لأن المنافق لا يقول : إن الصنم والله لبئس المولى.
وإن قلت : إنه لا
يقول أيضا : ضره أقرب من نفعه ، وإنما يقول غير ذلك ، فإن ذلك على اعتقادنا ما فيه
من كونه ضارا ، على تقدير أن المنافق يقول : الصنم إله ، ثم يأخذ في ذمه.
ومن ذلك قراءة من
قرأ : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بالفتح ، لأن التقدير: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاتقون ، أي : فاتقون هذا.
__________________
ومثله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا
تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) . المعنى : ولأن المساجد لله فلا تدعو.
وكذلك عند الخليل
، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) كأنه : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش ، أي : ليقابلوا
هذه النعمة بالشكر والعبادة للمنع بها فأما قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فى سورة مريم ، فيجوز أن يكون على هذا : فاعبدوه لأنه ربّى
وربكم.
ولكن أبا علّى
حمله على قوله : (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) بأن الله ربى.
وأما قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ) فيكون مثل هذا ، والفاء فى قوله «فاتبعوه» مثل الفاء في
قوله : بزيد فامرر. والفاء في قوله الثاني عاطفة جملة على جملة ، وعلى القول الأول
زيادة.
وقال الفراء فيمن
فتح (وَأَنَّ هذا صِراطِي) : إنه محمول على «الهاء» من قوله: (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ، أي : به وبأن هذا.
وهكذا قال أيضا في
قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى
جَدُّ رَبِّنا) : إنه محمول على قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) وبأنه تعالى.
وقد ذكرنا أن عطف
الظاهر على المضمر لا يجوز ، وقد جوز فى خمس آيات هذا الوجه ، فهاتان ، وقوله : (وَكُفْرٌ بِهِ
__________________
وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) وقوله : (تَسائَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحامَ) فيمن جر ؛ وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ
فِيها مَعايِشَ* وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ) . وقد أبطلنا ذلك كله في غير موضع.
ومن ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلى قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) . قال الشافعي : فى مس أحد الزوجين : إنه ينقض وضوء الماس ،
واحتج بهذه الآية.
وقال لنا : متى
حملنا الآية على اللمس باليد صارت الآية حاجة لبيان الطهارتين وبيان أنواع الحدث
الأصغر ، فإن الآية نزلت في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ وكانوا
عرّسوا. فالمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة ، أي : عن التعريس والنوم ، فاغسلوا ،
فيكون بيان النوم حدثا ، وما هو بمعناه مما يوجب استطلاق وكاء الحدث من الإغماء
والجنون. ثم قال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، وكان بيانا لجميع ما يخرج من المخرج المعتاد دلالة ،
وكان في الآية تقديم وتأخير ، أي : إذا قمتم عن النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط
، أو لامستم النساء ، أي : مسستم باليد ، فيكون بيان أن المسّ حدث ، إذ هو سبب
اشتهاء ، فاغسلوا وجوهكم ، / فإن عدمتم الماء فتيمموا ، من غير ذكر أسباب الحدث ، لأن
البدل يتعلق بما يتعلق به الأصل ، فلا يفتقر إلى بيان زائد. ومتى لم يجعلوا هكذا
كانت الآية ساكتة عن بيان أنواع الحدث.
__________________
وعندنا المراد بالآية
: الجماع ، مجازا ، كما في قوله تعالى : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ، ولأنّا أجمعنا أن الجماع مراد ، فإن الشافعي أباح التيمم
للجنب ، وذكر أنه في كتاب الله تعالى إلا هاهنا ، فبطل أن تكون الحقيقة ، إلا أنه
يقول : أبحت التيمم للجنب ، لأن الله تعالى جعله بدلا عن الوضوء والاغتسال جملة.
وعن ابن عمر وابن
مسعود أنهما كانا يحملان الآية على المس باليد ، وكانوا لا يبيحون التيمم للجنب ،
فدل أن تأويل الآية بالإجماع ليس على التقديم والتأخير ، ولا يصار إلى التقديم
والتأخير إلا بدليل قاطع يمنع من حمله على الظاهر ، على ما ذكرناه قبل في هذه
الآي.
وكذلك قوله تعالى
: (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) ، أي : بل فاعبد الله ، فقدّم المفعول.
وأما قوله تعالى :
(وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) فهو في نية التقديم والتأخير ، والتقدير : نبذ فريق من
الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين ، ف «اتبعوا»
معطوف على (نَبَذَ) ، وقوله (كَأَنَّهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) فى موضع الحال ، أي : نبذوه مشابهين الجهّال.
وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، فى «ما» قولان :
أحدهما : أنه
بمعنى : الذي ، فيكون نصبا عطفا على السّحر على «ما تتلو» ، أو جرّا بالعطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) .
__________________
والثاني : أن يكون
نفيا بالعطف على قوله (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ) أي : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين.
ويقال : إن سحرة
اليهود زعموا أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان ،
فأكذبهم الله بذلك ، فيكون التقدير : وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ، ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس ببابل هاروت وماروت ؛ فعلى هذا اختلفوا فيهما على
ثلاثة أقوال :
الأول : أن هاروت
وماروت رجلان من سحرة أهل بابل تعلما السحر من الشياطين.
الثاني : أنهما
شيطانان من مردة الشياطين خصّا بالذكر من بينهم لتمردهما ، والسّحر من استخراج
الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم ، لأن أفعال الحيوان مناسبة.
وقيل : إنهما
ملكان من الملائكة أهبطهما الله على صورة الإنس لئلا ينفروا منهما.
وقيل : سبب
هبوطهما أن الله تعالى أهبطهما ليأمرا بالدين وينهيا عن السحر ، لأن السحر كثر في
ذلك الزمان وانتشر.
واختلف من قال
بهذا : هل كان للملكين تعليم الناس السحر أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أن
الملكين كانا يعلمان الناس السحر وينهيان عن فعله ، ليكون النهى عنه بعد العلم به
، لأن ما لا يعلم أنه سحر لا يمكن الاحتراز منه ،
__________________
كالذى لا يعرف
الكفر لا يمكنه الامتناع منه ، فيكون التعليم إذا بالنهى عنه. عن على بن أبى طالب
، صلوات الله عليه.
والثاني : أنه لم
يكن للملكين تعليم السحر ولا إظهاره للناس ، لما فى تعليمه من الإغراء بفعله ،
ولأنّ السحر قد كان فاشيا ، فأهبط الملكان بمجرد النهى.
قال ابن بحر :
جملة هذا أن «تلا» بمعنى : كذب. يقال : تلا ، أي : كذب. يقول: نبذ هذا الفريق كتاب
الله وراء ظهورهم واتبعوا كذب الشياطين على ملك سليمان أنه كان بسحر. وموضع «ما»
فى قوله (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) جر عطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) . أي : الشياطين كذبوا عليه وعلى ما أنزل.
قال : ومعنى (أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) : أنزل معهما وعلى ألسنتهما ، كما قال الله تعالى : (عَلى رُسُلِكَ) ، أي : على ألسن رسلك ومعهم. فلا يجوز أن يكون نصبا عطفا
على «السحر» لأن الإنزال على الملكين لا يكون إلا من الله تعالى ، والله لا يضاف
إليه السحر وإنما يضاف إلى الكفرة وأوليائهم من الشياطين ، وهما نزلا بالنهى عن
السحر ، فقالوا : نزلا بتعليمه. وكان معنى الكلام : أن الشياطين يعلمان الناس
السحر ، وأن الملكين لا يعلّمان ذلك أحدا بل ينهيان عنه حتى يبلغ من نهيهما
وصدّهما عن تعلّمه أن يقولا للمتعلم : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، فإن كان من
الملائكة فإنما يقولان ذلك للأنبياء ، ويقوله الأنبياء لسائر البشر ، وإن كان من
البشر قالا ذلك لكل واحد من البشر ؛ / وذلك كما يقول الرجل :
__________________
ما أمرت فلانا بما
فعل ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له : إنك إن فعلت ذلك نالك كذا وكذا. ووقع
الاختصار بعد قوله : (وَما يُعَلِّمانِ) فحذف : «بل ينهيان» ، ليستنبطه العلماء بالفكرة فيؤجروا.
وقال ابن جرير :
من جعل «ما» جحدا ، و «الملكين» : جبريل وميكائيل ، جعل التقدير : لم ينزل السحر
إلى سليمان مع جبريل وميكائيل ، كما يقول اليهود ، وجعل «من» فى قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) بمعنى المكان والبدل ، أي : فيتعلمون مكان ما علّماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
ومن ذلك قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى
النِّساءِ) إلى قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) . «ما» فى موضع الرفع بالعطف على الضمير في «يفتيكم» ، أي :
يفتيكم الله فيهن ، ويفتيكم أيضا القرآن الذي يتلى عليكم ، و «فى» من قوله : «فى
يتامى النّساء» من صلة «يتلى» ، و «المستضعفين» جر عطف على «يتامى النساء» ، و «أن
تقوموا لليتامى بالقسط» جر عطف على «المستضعفين».
ويجوز فى «المستضعفين»
أن يكون عطفا على قوله : «فى الكتاب» ، أي : يتلى عليكم في الكتاب وفي حال المستضعفين.
وجاء في التفسير :
إنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ، فلما فرض الله تعالى
المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس فسألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى
آله ـ عن ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. و (ما كُتِبَ لَهُنَّ) يعنى : الميراث. عن ابن عبّاس.
__________________
وقيل : إنهم كانوا
لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن ، فلما نزل قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً) سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ فأنزل الله
هذه الآية. و «ما كتب لهن» يعنى : من صداق.
قيل : إنه وارد في
ولىّ اليتيم ، كان لا يتزوجها وإن حلّت له ، ويعضلها ولا يزوّجها طمعا في مالها ،
لأنه لا يشاركه الزّوج فيه ، فنزل ذلك فيه. ومعنى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ) : أي : ترغبون عن نكاحهنّ.
ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) . قوله «فى الحياة الدنيا» لا يخلو من تعلّقه ب «حرّم» ، أو ب
«زينة» ، أو ب «أخرج» ، أو ب «الطيبات» ، أو ب «الرزق» ؛ فجوز تعلقها ب «حرّم» ،
أي : حرم ذاك إذ ذاك. ومنع من تعلقها ب «زينة» كما يمتنع : الضرب الشديد يوم
الجمعة ، إن علقت «اليوم» ب «الضرب» ، لكون المصدر موصوفا.
فإن قلت : فقد جاء
: إذا ... فرحين ، فإن اسم الفاعل ليس كالمصدر ، لأن الوصف يؤذن
بانقضاء أجزائه ، والوصل يؤذن ببقائه.
وجوز أن يتعلق ب «الطيبات»
وب «الرزق» وب «أخرج».
فإن قلت : فإن «أخرج»
فى صلة «التي» ، و «الطيبات» فى صفة اللام ، و «الرزق» مصدر ، فكيف يوصل بهذه
الأشياء ، «وهي للذين آمنوا» فاصلة؟ فإنه قد جاء والطلاق عزيمة ثلاثا ، وجزاء سيئة بمثلها ،
لأنه يسدد الأول.
ويجوز أن يتعلق ب «الطيبات»
، تقديره : والمباحات من الرزق
__________________
ويجوز أن يتعلق ب «آمنوا»
، الذي هو صلة «للذين آمنوا في الحياة الدنيا».
ثم انظر ما أغفله «أبو
على» من الفصل بين الصلة والموصول بقوله : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ) ، لأن هذا غير معطوف على قوله : «زينة الله».
ولا يمكن «أبو على»
أن يجيب عن هذا الفصل بأنه مما يسدّد القصة ، وإذا كان العطف على الموصول يتنزل
منزلة ، صفته في منع تعلق شيء به بعد العطف ، فالعطف على ما قبل الموصول أولى
بالمنع وأحق ، لأن قوله : «والطيبات» منصوب ب «حرم» لا ب «أخرج»
، وفي تعلقه ب «الطيبات» نظر ، لأن قوله «من الرزق» بيان ل «الطيبات» يتنزل منزلة
الحال ، وكما يمنع النعت بما قبله فكذلك الحال ، إلا أن لأبى علىّ أن ينحو بهذا
البيان نحو التمييز فيتوجه له حينئذ الفرق بينه وبين الحال.
وجوز فى «الإغفال»
تعلقها بآمنوا وباللام فى «الذين» ، وبمحذوف فى موضع الحال ، والعامل فيه معنى
اللام ، فعلى هذا يكون فيه ضمير. وعلى الأولين لا ضمير ولا يجوز تقديمه على «الذين» فى
الوجهين أعنى : الحال والتعلق ب «آمنوا». ويجوز في الوجه الآخر التقديم ،
كما جاز : كل يوم لك ثوب ؛ وهي مبتدأ واللام خبره ، و «خالصة» أيضا ، كحلو حامض ،
فيمن رفع ، وفيمن نصب حال ، ولم يجز أن يتعلق ب «أخرج» لأنه فصل به ، أعنى «فى
الحياة الدنيا» بين المبتدأ وخبره ، فيمن رفع ؛ وبين الحال وذى الحال فيمن نصب ،
لكون «فى الحياة الدنيا» أجنبية من هذه الأشياء ، ثم لم يرتض من نفسه أن يظن به ما
يخطر بخاطر من أن هذا ظرف ، والظروف يتلعب بها ، فذكره حجة لأبى الحسن.
ومن ذلك قوله
تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) . قالوا : إن التقدير : له معقبات من أمر الله ، فيكون «من
أمر الله» معمول الظرف الذي هو قوله «له».
وقيل : يحفظونه
عند نفسه من أمر الله ، ولا رادّ لأمره ولا مانع لقضائه.
وقيل : إن «لا»
مضمر ، أي : لا يحفظونه من أمر الله.
وقيل : فى «المعقبات»
: حراس الأفراد الذين يتعاقبون الحرس. عن ابن عباس.
وقيل : إنه ما
يتعاقب من الله وقضائه في عباده. عن عبد الرحمن ابن زيد.
وقيل : إنهم
الملائكة ، إذا صعدت ملائكة الليل عقبتها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار
عقبتها ملائكة الليل. عن مجاهد.
وقيل : فى «من بين
يديه» : أي : من أمامه وورائه. وهذا قول من زعم أن المعقبات حراس الأفراد.
وقيل : فى الماضي
والمستقبل. وهذا قول من زعم أن المعقبات ما يتعاقب من أمر الله وقضائه.
وقيل : من هداه
وضلالته. وهذا قول من زعم أنه الملائكة.
وقيل : يحفظونه من
أمر الله ، أي : من تلك الجهة وقع حفظهم له ، أي : حفظهم إياه إنما هو من أمر الله
، كما يقال : هذا من أمر الله.
عن سعيد بن جبير.
__________________
فإذا حملته على
التقديم كان قوله. «من بين يديه» متعلقا بقوله «يحفظونه» ، والتقدير : له معقبات
من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. قاله النخعىّ فيكون الظرف فاصلا / بين
الصفة والموصوف ، فنظيره : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، جمع : راصد. يعنى : الملائكة يحفظون النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله ـ من الجن والإنس ، وهم أربع.
ومن ذلك قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ) . قيل : الكاف من صلة ما قبله. وقيل : من صلة ما بعده.
فمن قال : هى من
صلة ما قبله ، قال : «كما أخرجك» أي : كما ألزمك الخصال المتقدم ذكرها التي تنال
بها الدرجات ، ألزمك الجهاد وضمن النّصرة لك والعاقبة المحمودة.
وقيل : بل المعنى
: الأنفال لله والرسول مع مشقتها عليهم ، لأنه أصلح لهم ، كما أخرجك ربك من بيتك
بالحق مع كراهتهم ، لأنه أصلح لهم.
وقيل : هو من صلة
ما بعده ، والتقدير : يجادلونك في الحق متكرّهين كما كرهوا إخراجك من بيتك.
وقيل : أن يعمل
فيه «بالحق» ، يعنى : هذا الحق كما أخرجك ربك. جائز حسن. وقيل : التقدير : يجادلونك في القتال كما جادلوا في
الإخراج.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) ، ثم قال : (ذَواتا أَفْنانٍ) . فقوله «ذواتا» صفة ل «جنتين» ، أي : جنتان ذواتا أفنان. واعترض
بينهما بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) .
وهكذا الآي كلها
التي تتلوها إلى قوله : (وَمِنْ دُونِهِما) ، كلها صفات لقوله : (جَنَّتانِ) ، والتقدير : وله من دونهما جنتان ، وما بعدها صفات ل «جنتان»
المرتفعة بالظرف. وقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) اعتراض ، ويكون قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ) حالا من المضمرين في قوله : (وَمِنْ دُونِهِما) أي : ولهم من دونهما ، كما أن قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) حال من قوله «ولمن».
والتقديم والتأخير
كثير في التنزيل. ومضى قبل هذا الباب الخبر المقدم على المبتدأ في قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) ، (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) ، ونحوه كثير.
وأما قوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) ، وقد قرئ بالرفع والنصب :
وجه الرفع فى «سواء»
أنه خبر ابتداء مقدّم ، والمعنى : العاكف والبادي فيه سواء ، أي : ليس أحدهما بأحق
به من صاحبه ،
__________________
فاستواء العاكف
والبادي ، فيه دلالة على أن أرض الحرم لا تملك ، ولو ملكت لم يستويا فيه ، وصار
العاكف فيه أولى بها من البادي بحقّ ملكه ، ولكن سبيلهما سبيل المساجد التي من سبق
إليها كان أولى بالمكان لسبقه إليه ، وسبيله سبيل المباح الذي من سبق إليه كان
أولى به.
ومن نصب فقال : (سَواءً الْعاكِفُ) أعمل المصدر عمل اسم الفاعل ، فرفع «العاكف» به كما يرتفع «بمستو»
، ولو قال : مستويا العاكف فيه والبادي ، فرفع العاكف «بمستو» فكذلك يرفعه ب «سواء».
والأكثر الرفع في
نحو هذا ، وألا يجعل هذا النحو من المصدر بمنزلة الفاعل ، ووجهه أن إعماله المصدر
قد يقوم مقام اسم الفاعل في الصفة ، نحو : رجل عدل ، فيصير : عدل العادل. وقد كسّر
اسم المصدر تكسير اسم الفاعل في نحو قوله :
فنوّاره ميل إلى الشّمس زاهر
فلو لا أن «النّور»
عنده كاسم الفاعل لم يكسّر تكسيره ، فكذلك قول الأعشى :
و كنت لقى تجرى عليك السّوائل
ومن أعمل المصدر
إعمال اسم الفاعل فقال : مررت برجل سواء درهمه ؛ وقال : مررت برجل سواء هو والعدم
؛ كما تقول : مستو هو والعدم ، فقال : سواء العاكف فيه والباد ، كما تقول : مستويا
العاكف فيه والباد ، فهو وجه حسن.
__________________
ويجوز في نصب قوله
«سواء العاكف فيه» وجه آخر : وهو أن تنصبه على الحال ، فإذا نصبته عليها وجعلت
قوله. «للنّاس» مستقراّ ، جاز أن يكون حالا يعمل فيها معنى الفعل ، وذو الحال
الذّكر الذي في المستقر.
ويجوز أيضا في
الحال أن يكون من الفعل الذي هو «جعلناه» ، فإن جعلتها حالا من الضمير المتصل
بالفعل كان ذو الحال الضمير والعامل فيها ، وجواز قوله «للناس» / مستقر ، على أن
يكون المعنى : أنه جعل للنّاس منسكا ومتعبدا ، فنصب ، كما قال : وضع للناس.
ويدل على جواز كون
قوله «للناس» مستقرّا ، أنه قد حكى : أن بعض القراء قرأ : (الّذى جعلناه للنّاس
العاكف فيه والبادي سواء) ، فقوله «للناس» يكون على هذا مستقرّا في موضع المشغول
الثاني ل «جعلناه» ، فكما كان في هذا مستقرّا كذلك يكون مستقرّا في الوجه الذي
تقدمه ، ونعنى : الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. أنهما يستويان فيه في الاختصاص
بالموضع ومن ذلك قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قوله «نصفه» بدل من «الليل» ، كما تقول : ضربت زيدا رأسه ،
فالمعنى : نصف الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص من النصف أو زد عليه.
وقوله «إلا قليلا»
يفيد ما أفاده أو «انقص منه قليلا» ، لكنه أعيد تبعا لذكر الزّيادة ؛ خيّره الله
تعالى بين أن يقوم النصف أو يزيد عليه أو ينقص منه.
__________________
وقال الأخفش :
المعنى : أو نصفه أو زد عليه قليلا ، لأن العرب قد تكلّم بغير «أو» ، يقولون : أعط
زيدا درهما درهمين أو ثلاثة.
وقال المبرد : خطأ
لا يجوز ، إنما «نصفه» بدل من «الليل» ، والاستثناء مقدم من «النّصف».
ومن ذلك قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) . هذا من طرائف العربية ، لأن «هى» ضمير القصة مرفوعة
بالابتداء ، و «أبصار الذين كفروا» مبتدأة ، و «شاخصة» خبر مقدم ، وهي خبر أيضا ،
والجملة تفسير «هى» ، والعامل فى «إذا» قوله «شاخصة» ، ولو لا أن «إذا» ظرف لم يجز
تقديم «ما» فى حيّز «هى» عليها ، لأن التفسير لا يتقدم على المفسّر ، ولكنّ الظرف
يلغيه الوهم ، وقد جاء ذلك في الشعر في غير الظرف ، قال الفرزدق :
و ليست خراسان
الذي كان خالد
|
|
بها أسد إذ كان
سيفا أميرها
|
والتقدير : الذي
كان خالد بها سيفا إذ كان أسدا أميرها. ففى «كان» الثانية / ضمير القصة ؛ وأسد «مبتدأ»
، وأميرها «خبر» ، والجملة تفسير الضمير الذي فى «كان» ، وقدم «الأسد» على «كان»
الذي فيه الضمير.
وقالوا : يمدح
خالد بن عبد الله القسري ويهجو أسدا ، وكان أسد وإليها بعد خالد ، قال : وكأنه قال
: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا ، إذ كان أسد أميرها. ففصل بين اسم
«كان» الأول ، وهو خالد ، وبين خبرها الذي هو «سيفا» بقوله : «بها أسد إذ كان» ،
فهذا واحد. وثان أنّه قدم
__________________
بعض ما أضافه إليه
، وهو «أسد» عليها ، وفي تقديم المضاف إليه أو شىء منه على المضاف من القبح ما لا
خفاء به ، فنظير الآية قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) ، وقوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، وقوله : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ) ، ثم قال : (إِنَّ رَبَّهُمْ) ، ف «إذا» فى هذه الأشياء متعلقة بمحذوف دلّ عليه ما بعد «إن»
و «الفاء».
وقيل في البيت :
إن «كان» زائدة ، فيصير تقديره : إذ أسد أميرها ، فليس في هذا أكثر من شىء واحد ،
وهو ما قدمنا ذكره من تقديم ما بعد «إذ» عليها ، وهي مضافة إليها. وهذا أشبه من
الأول ، ألا ترى أنه إنما نفى حال خراسان إذ أسد أميرها ؛ لأنه إنما فضل أيامه
المنقضية بها على أيام أسد المشاهدة فيها ، فلا حاجة به إلى «كان» ، لأنه أمر حاضر
مشاهد. فأما «إذا» هذه فمتعلقة بأحد شيئين. إما ب «ليس» وحدها ، وإما بما دلت عليه
من غيرها ، حتى كأنه قال : خالفت خراسان إذ أسد أميرها التي كانت أيام ولاية خالد
لها ، على حد ما نقول فيما يضمر للظرف ، ليتأولها ويصل إليها.
ومن ذلك قوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ
مِنْ قَبْلُ) ، تقدير «من قبل» أن يكون متعلقا ب «كفرت» ، المعنى : أي :
كفرت من قبل بما أشركتمونى. ألا ترى أن كفره قبل كفرهم ، وإشراكهم إياه فيه بعد
ذلك ، فإذا كان كذلك علمت أن «من قبل» لا يصح أن يكون من صلة «ما أشركتمونى» ،
وإذا لم يصح ذلك فيه ثبت أنه من صلة «كفرت».
__________________
ومن ذلك قوله : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ
فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) ، أي : أنزل إليك لتنذر ، فأخر اللام المتعلّق بالإنزال.
وقيل : فلا يضيق
صدرك بأن يكذبوك. عن الفراء ـ فيكون «اللام» متعلقا بالحرج.
ومن ذلك قوله : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) ، أي : كانوا يظلمون أنفسهم. ومنه : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، و (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كانُوا يَعْبُدُونَ) .
هذا يدل على جواز
: يقوم كان زيدا ، ألا ترى أن «أنفسهم» منتصب ب «يظلمون» ، فإذا جاز تقديم مفعوله
جاز تقديمه وجاز وقوعه موقع المعمول.
فأمّا قوله : (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ففى موضعه ثلاثة أقوال :
رفع بالعطف على «كتاب»
، وقيل : بل مبتدأ مضمر.
وإن شئت كان نصبا
ب «تذكر» ، أي ، لتنذر فتذكر.
وإن شئت هو جرّ
باللام ، أي : لتنذر وللذكرى.
وضعّفه ابن عيسى
فقال : باب الجر باب ضيّق لا يتسع فيه الحمل على المعاني : وليس الأمر كما قال ،
لأنا عرفنا أن تعدّ اللام مضمرة ، وكأنه قال : للإنذار به وذكرى للمؤمنين ، وإذا
جاء : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا) ، والتقدير : وبعد أن شهدوا ، لم يكن لنظر أبى الحسن مجال
في هذا الباب ، وابن من أنت من أبى علىّ ، وكلامك ما تراه من الاختصار والإيجاز.
__________________
فأما قوله تعالى :
(فَإِذا هُمْ
فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) فإن العامل فى «إذا» محذوف ، كقولك : خرجت فإذا زيد ،
فبالحضرة زيد ، فيكون «فريقان» بدلا من «هم» ؛ وإن كان متعلقا بالمحذوف ، فيكون
الإخبار عن المبدل منه ، وقد قال :
و كأنه لهق
السّراة كأنه
|
|
ما حاجبيه معيّن
بسواد
|
أخبر عن المبدل
منه ؛ والإخبار في الآية إذا قدرت قوله «فريقان» بدلا من «هم» كان متعلقا بمحذوف ،
كما يكون مع البدل منه فكذلك يجوز أن تجعل قوله «فريقان يختصمون» الخبر عن «هم» ،
فإذا قدّرته كذلك أمكن أن تعلق «إذا» بما فى «فريقان» من معنى الفعل ، وإن شئت
علّقته بالاختصام ، وقال : يختصمون ، على المعنى. ويجوز أن تجعل «الفريقان» الخبر
ونجعل «يختصمون» وصفا ، فإذا قدرته كذلك تعلق «إذا» بما فى «الفريقان» من معنى
الفعل ، ولا يجوز أن يتعلق ب «يختصمون» ، لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف / ألا
ترى أنه لم يجز : أزيدا أنت رجل تضربه ، إذا جعلت «تضرب» وصفا. «وأجاز المازني :
زيدا أنت رجل تكرمه ، على أن يكون «تكرمه» خبرا ثانيا ل «أنت» لا وصفا للنكرة.
ويجوز أن تجعل «يختصمون» حالا من «هم» ، وتجعل «فريقين» بدلا ، فالعامل في الحال
الظرف ، كقوله : فيها زيد قائما.
وقال في موضع آخر
: «يختصمون» وصف أو حال. والحال من أحد الشيئين :
__________________
إما من الضمير فى «فريقان»
لأنه منصوب ، ألا تراهم قالوا : يومئذ يتفرقون ، وليس كذا.
والآخر : أن يكون
حالا مما فى «ذا» من معنى الفعل ، وذاك إذا جعلته على قولهم: حلو حامض ، فإنه على
هذا التقدير متعلق بمحذوف ، فإذا تعلق بالمحذوف كان بمنزلة قولهم : فى الدار زيد
قائما. فإذا لم تجعله على هذا الوجه لم يجز أن ينتصب عنه حال ، ألا ترى أنك إذا لم
تجعله على قولهم : حلوّ حامضّ ، كان «فريقان» خبر «هم» الوقعة بعد «إذا» ، وإذا
كان كذلك كان «إذا» فى موضع نصب مما في قوله «فريقان» من معنى الفعل ، فليس فى «إذا»
ضمير لتعلقه بالظاهر ، فإنما ينصب الحال إذا تعلق بمحذوف خبرا «لهم».
وأما قوله تعالى :
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، يحتمل أن يكون : أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم
القيامة ؛ فحذف المضاف ، ويجوز أن يكون محمولا على موضع «فى هذه الدنيا» كما قال :
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غد
ويشهد لذلك ،
والوجه الذي قبله ، قوله تعالى في آية أخرى : (لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، وقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) ، ويكون قوله (هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ) . جملة استغنى بها عن حرف
__________________
العطف فيها بالذكر
الذي تضمنت ممّا في الأولى ، كما استغنى عنه بذلك فى قوله تعالى : (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ولو كانت الواو لكان ذلك حسنا كما قال : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ). ويجوز أن يكون العامل فيه «من المقبوحين» لأن فيه معنى
فعل ، وإن كان الظرف متقدما ، كما أجاز : كلّ يوم لك ثوب. ويجوز أن يكون العامل
فيه مضمرا يدل عليه قوله : «من المقبوحين» لقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) .
وأما قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ) فيكون «يومئذ» من صلة المصدر ، كما كان في التي قبلها ،
يعنى في قوله : (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) ، و «الحق» صفة والظرف الخبر ، ويجوز أن يكون «يومئذ»
معمول الظرف ، ولا يتقدم عليه ولا يتصل على هذا بالمصدر.
وأما قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) ، إن جعلت الظرف من صلة المصدر جاز أن تنصبه نصب المفعول
به ، كقولك : الوزن الدراهم حق ، ويكون «الحق» على هذا خبر المبتدأ. وإن جعلت «يومئذ»
خبر المصدر ، لأن «الوزن» حدث ، فيكون ظرف الزمان خبرا عنه تعلق بمحذوف ، جاز أن
ينتصب انتصاب الظرف دون المفعول به ، ألا ترى أن المفعول به لا تعمل فيه المعاني ،
ويكون «الحق» على هذا صفة ل «الوزن» ، ويجوز أن يكون بدلا من «الذكر» المرفوع الذي
في الخبر.
__________________
وأما قوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) فهو متعلق بمحذوف ، ألا ترى أنه ليس في هذا الكلام فعل
ظاهر يجوز أن يتعلق الظرف به ، فإذا كان كذلك تعلق بما دل عليه قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، كما أن قوله ، (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الظرف فيه كذلك ، وكذلك قوله : (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، لأنّ الظرف من حيث كان مستقبلا كان بمنزلة «إذا» ، ومن
ثم أجيب بالفاء كما يجاب «إذا» بها.
وأما قوله تعالى :
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) . فقد تكون مثل التي تقدمت ، ألا ترى أن قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ماض ، كما أن قوله : (وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا) كذلك ، و «ندعو» مستقبل ، كما أن (يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) كذلك ، فتجعل الظرف بمنزلة «إذا» كما جعلته ثمّ بمنزلته ،
فيصير التقدير : يوم ندعو كل أناس بإمامهم لم يظلموا ، أو عدل عليهم ، ونحوه.
ومن ذلك قوله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) ، القول فيه : إن ذلك إشارة إلى النّقر ، كأنه قال : فذلك
النقر يومئذ يوم عسير ، أي : نقر يوم عسير ، فقوله «يومئذ» ، على هذا متعلق بذلك ،
لأنه في المعنى مصدر وفيه معنى الفعل ، فلا يمتنع أن يعمل في الظرف كما عمل في
الحال ، ويجوز أن يكون «يومئذ» ظرفا لقوله «يوم» ، ويكون «يومئذ» بمنزلة «حينئذ» ،
ولا يكون
__________________
«اليوم» ، الذي
يعنى به وضح النهار ، ويكون «اليوم» الموصوف بأنه عسير خلاف الليلة ؛ ويكون
التقدير : فذلك اليوم يوم عسير حينئذ ، أي : ذلك اليوم يوم في ذلك الحين ، فيكون
متعلقا بمحذوف ولا يتعلق ب «عسير» ، لأن ما قبل الموصوف لا تعمل فيه الصفة. فأما «إذا»
فى قوله : «فإذا نقر فى الناقور» فالعامل فيه المعنى الذي دل عليه قوله : «يوم
عسير» ، تقديره : إذا نقر في الناقور عسر الأمر فصعب ، كما أن «لا بشرى يومئذ» يدل
على «يحزنون».
ومن ذلك قوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) ، و (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ) ، و (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) و (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ) ، و (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ) كل هذا «ما» فيه منصوب بفعل الشرط الذي بعده ، والفعل
منجزم به.
ومثله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) ، «أيا» منصوب ب «تدعو» ، و «تدعو» منجزم به.
ومنهم من قال : إن
«أيّا» ينتصب بمضمر دون «تدعو» ، لأنّ «تدعو» معموله ، فلو نصبه وجب تقدير تقديمه.
وأما قوله : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ، فالتقدير : أي انقلاب ينقلبون ، ف «منقلب» مصدر. و «أي»
مضاف إليه ، فيصير حكمه حكم المصدر ، فيعمل فيه «ينقلبون».
ومن ذلك ما قيل في
قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
__________________
عن ابن بحر : إن
فيه تقديما وتأخيرا ، والتقدير : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن
بها والله مقلّب قلوبهم في حال أقسامهم ، وعالم منها بخلاف ما حلفوا عليه ؛ إذ هو
مقلّب القلوب والأبصار ، عالم بما فى الضمير والظاهر ، وما يدريكم أنّها إذا جاءت
لا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أوّل مرة ، أي : قبل الآية التي طلبوها (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) .
وحمله قوم على أن «الكاف»
بمعنى «على» ، وآخرون على أنه بمعنى : من أجل ، أي : من أجل ما لم يؤمنوا / به أول
مرة.
ومن ذلك قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أىّ: ثبتت لهم دار السلام جزاء لعملهم ، وهو أحسن من أن تعلقه
بقوله : «وليهم» ، إنما يجازيهم بعملهم الجنة.
ومثله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ
فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) .
ومن ذلك قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) ، أي : على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا ، ففصل
وقدّم وأخّر. ويجوز أن يكون الواو واو الحال ، فيكون «قيما» حالا بعد حال.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ، يكون التقدير : على قرية على عروشها ، فيكون بدلا ،
ويكون «وهي خاوية» بمعنى : خالية ، والجملة تسدد الأول.
__________________
وأما قوله تعالى :
(وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ) ، التقدير : فمهما يكن من شىء فسلام لك من أصحاب اليمين إن
كان من أصحاب اليمين ، فقوله : «إن كان من أصحاب اليمين» مقدّم في المعنى ، لأنه
لما حذف الفعل وكانت تلى الفاء «أما» قدّم الشرط وفصل بين الفاء و «أما» به ، وعلى
هذا جميع ما جاء في التنزيل.
ومن ذلك قوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) . روى عن حمزة الزيات أنه قال في التفسير : فكيف تتقون يوما
يجعل الولدان شيبا إن كفرتم.
قال أبو على : أي
: كيف تتقون عذابه أو جزاءه ، ف «اليوم» على هذا اسم لا ظرف ؛ وكذلك : واتقوا يوما
يجعل الولدان شيبا ، إن «اليوم» محمول على الاتقاء. «وقد قيل» : إنه على «إن كفرتم
يوما» فهذا تقديره : كفرتم بيوم ، فحذف الحرف وأوصل الفعل. وليس بظرف ، لأن الكفر
لا يكون يومئذ ، لارتفاع الشّبه لما يشاهد.
وقال الله تعالى :
(وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) إلى قوله : (لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) .
قيل : الاستثناء
من قوله : (أَذاعُوا بِهِ) فهو فىّ نية التقديم.
وقيل : هو من قوله
: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ) ، و «لو لا» وجوابه اعتراض وقيل : بل هو مما يليه ويعنى به
: زيد بن عمرو بن نفيل ، يبعث وحده.
__________________
ومنه قوله تعالى :
(فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) . إن نصبت «أربعين» ب «يتيهون» كان من هذا الباب ، وهو
الصحيح.
وقيل : بل هو
متعلق ب «محرمة» ، والتحريم كان على التأبيد.
ومن ذلك (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ) فيمن رفع «المثل» أنه صفة لل «جزاء» ، والمعنى : فعليه
جزاء من النعم يماثل المقتول ، والتقدير : فعليه جزاء وفاء اللازم له ، أو :
فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد. ف «من النعم» على هذه القراءة
صفة للنكرة التي هى «جزاء» وفيه ذكره ، ويكون «مثل» صفة ل «الجزاء» ، لأن المعنى :
عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من النعم ، والمماثلة في القيمة أو الخلقة ، على
حسب اختلاف الفقهاء في ذلك. ولا يجوز أن يكون قوله : «من النعم» على هذا متعلقا في
المصدر ، كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِها) ، لأنك قد وصفت الموصول ، وإذا وصفته لم يجز أن تعلق به
بعد الوصف شيئا كالعطف فى التأكيد.
وقيل : قوله : «من
النعم» من صلة «ما قتل» وليس بوصف لل «جزاء».
وقيل : هو من صلة «يحكم»
وإن تقدم عليه ؛ والجزاء يقوم في أقرب المواضع إلى القاتل عند أبى حنيفة ، وعند
الشافعي الجزاء من النظير ، ولو كان من النظير لم يقل (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ولم يعطف عليه (أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ) ، لأن ذلك إلى الحكمين ، والنظير لا يحتاج فيه إلى ذلك.
__________________
وأما قوله تعالى :
(إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ) ، و (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، و (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) فتبيين للظاهر وليس بصلة ، لأنه لا تتقدم الصلة على
الموصول.
ومن ذلك قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ) إلى قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ
فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، «فتطردهم» جواب النفي في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ) ، وقوله : «فتكون» جواب النفي في نية التقديم.
ومن ذلك قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) ، فقوله : «درسوا» عطف على «ورثوا» ، وكلتا الجملتين صفة
لقوله : «خلف».
/ وقوله : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ
الْكِتابِ) اعتراض بين الفعلين اللذين هما صفة «خلف».
ومن ذلك قوله : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ
رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) إلى قوله : (وَلِتَصْغى) والآية بينهما اعتراض.
ومن ذلك قوله : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ، اللام متعلّق بقوله : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً) ، أي : يحكم به ليذوق وبال أمره. فيكون قوله «هديا» حالا
من الهاء المجرور بالباء ،
__________________
وقوله «أو كفارة»
عطف على «جزاء» ، و «طعام» بدل منه ، أو «عدل ذلك» عطف على «كفارة» والتقدير :
فجزاء مثل ما قتل من النعم ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما يحكم به ذوا
عدل منكم هديا بالغ الكعبة ليذوق وبال أمره.
ومن ذلك : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) . «يوم» ظرف لقوله : «له» ، ويجوز أيضا أن يتعلق بالمصدر
الذي هو «الملك» فيكون مفعولا به ، كأنه : يملك ذلك اليوم ، كما قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) فيمن جر ، وهي رواية عن أبى عمرو ، نعت لقوله : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) . ومن رفع «عالم» فهو رفع بفعل مضمر ، أي : ينفخ فيه عالم
الغيب ، كقوله : (رِجالٌ) بعد قوله : (يُسَبِّحُ) .
ومن ذلك قوله : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) نصب عطف على قوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) ، تقديره : (ومغانم أخرى) ؛ نظيره : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) والتقدير : على تجارة تنجيكم وتجارة أخرى. وإن شئت كان التقدير : ولكم تجارة
أخرى تحبونها. ثم قال : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) أي : هى نصر.
__________________
ومن ذلك قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) .
قال : معمر :
التقدير : وجاءتهم رسلهم بالبينات من العلم.
ومن ذلك قوله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) إلى قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي
رَحْمَتِهِ)
قال أبو الحسن :
اللام من صلة «كف» ، ولو قال : متعلق بمضمر دل عليه «كف» لم يكن فصلا بين الصلة
والموصول وكان أحسن.
ومن ذلك قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) .
قال أبو على :
الظرفان صفة للنكرة متعلقان بمحذوف ، والشهادة من الله هى شهادة يحملونها ليشهدوا
بها ، كما قال : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، فإنه يجوز أن يكون التقدير : إن أحوالهم ظاهرة وإن
كتموها ، كما قال : (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، فإذا لم يتعلق ب «كتم» تعلق ب «الشهادة» ، وتعلّقه به
على وجوه:
فإن جعلت قوله : «عنده»
صفة للشهادة لم يجز أن يكون «من الله» متعلقا ب «شهادة» ، لأنه فصل بين الصلة
والموصول ، كما أنك لو عطفت عليه كان كذلك.
ويجوز أن تنصب «عنده»
لتعلقه ب «شهادة» ، فإذا فعلت ذلك لم يتعلق به «من الله» لأنه لا يتعلق به ظرفان.
وإن جعلت «عنده»
صفة أمكن «من الله» حالا عما فى «عنده» ،
__________________
فإذا كان كذلك وجب
أن يتعلق بمحذوف في الأصل ، والضمير العائد إلى ذى الحال هو في الظرف الذي هو «من
الله».
ويجوز أن تجعل
الظرفين جميعا صفة للشهادة.
وقيل في قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا
يَذُوقُونَ) تقديره : لا يذوقون أحقابا ، فهو ظرف ل «لا يذوقون» ، وليس
بظرف ل «لابثين» ، إذ ليس تحديدا لهم ، لأنهم يلبثون غير ذلك من المدد ، فهو تحديد
لذوق الحميم والغسّاق.
ومن ذلك قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) .
عند الأخفش على
تقدير : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم.
ولا يلزم قول ابن جرير
، لأن «من» فى قوله «من بعد» يتعلق ب «ما اختلف» لا المصدر ، والفصل بين المفعول
له والمصدر ، لأنّ المفعول له علّة للفعل ، والمصدر اختلف فيه الأصحاب.
بيّض الموضع أبو
على في الكتاب.
ومن ذلك قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ) إلى قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) جر «المسجد» عندنا محمول على «الشهر» ، والتقدير : يسألونك
عن قتال في الشهر الحرام والشهر الحرام ، لأن القتال كان حقه عند المسجد.
/ وقوم يحملونه
على الباء في قوله «كفر به» ، والمضمر المجرور لا يحمل عليه المظهر حتى يعاد
الجار.
__________________
وأبو على يحمله
على المصدر ، والتقدير : وصد عن سبيل الله وعن المسجد ، ووقع الفصل بالمعطوف ، وهو
قوله «وكفر به» بين الصلة والموصول ، وهذا لا يجوز. وقد ذكر ... هو في مواضع أشياء أبطلها بمثل هذا القول ، حتى إنه قال في
قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ
حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) لا يكون «أو يرسل» عطفا على «وحيا» ، وقد علقت «أو من وراء
حجاب» بمضمر ، لأنك فصلت بين المعطوف على الوصول بما ليس من صلته. وقد تقدم هذا.
ومن ذلك قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). ويجوز أن يكون من صلة «تتفكرون».
وقيل في قوله
تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) .
قيل : فيه تقديم
وتأخير ، والتقدير : إنه كان فاحشة إلا ما قد سلف ، فصار فاحشة بعد نزول الفاحشة.
وقيل : إنها نزلت
في قوم كانوا يخلفون الآباء على نسائهم ، فجاء الإسلام بتحريم ذلك ، وعفا عما كان
منهم في الجاهلية أن يؤاخذوا به إذا اجتنبوه فى الإسلام.
وقيل : التقدير :
ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم ، ف «ما» مصدرية ، و «من» صلة «تنكحوا».
وقيل : الاستثناء
منقطع ، أي : لكن ما قد سلف في الجاهلية ، وإنه معفو عنه.
__________________
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) . قالوا : فيه قولان :
أحدهما : «ما»
بمعنى : «من» ، وهو قبيح.
والآخر : أن تكون
صفة «كل» ، والفصل لا يمنع كما لم يمنع (أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) و (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) و (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً)
وأما قوله : (ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) . لا يكون الباء من صلة «قلته» ، لأنه لا يتقدم على الشرط
ما في حيزه ، ولا يكون للقسم ، لأنه لا لام مع «إن» ، ولا مع «قد» والقسم يوجب ذلك
، نحو : والله لئن تأت لأقومن ، فهو من صلة الظرف الذي قبله.
ومن ذلك قوله : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) إلى قوله : (مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ) يجوز في موضع «الحوايا»
وجهان :
أحدهما : إنه رفع
، عطف على «الظهور» ، بتقدير : أو ما احتملت الحوايا.
والثاني : النصب ،
/ بمعنى العطف على «ما» فى «إلا ما حملت» ، وموضع «ما اختلط» نصب ، لأنه معطوف على
«ما» الأولى.
وقال قوم : حرمت
عليهم الثّروب وأحل لهم ما حملت الظهور ، فصار قوله (الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) نسقا على «ما حرم» لا على الاسم
__________________
المعنى على هذا
للقول : أو حرمنا عليهم شحومهما ، أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، إلا ما حملت
ظهورهما فإنه غير محرم ، ودخلت «أو» على طريق الإباحة.
ومن ذلك قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) .
قال مجاهد : فيه تقديم
وتأخير ، والتقدير : لآتينهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث ينظرون ، ومن خلفهم
وعن شمائلهم من حيث لا ينظرون.
وقال أبو على : أي
: أسوّل لهم تسويلا وأغويهم إغواء أكون به كالغالب لهم المستولى عليهم ، لأن من
أوتى من هذه الجهات فقد أحيط به ، ومن أحيط به فقد استولى عليه.
وقيل : من بين
أيديهم أشكّكهم في أخراهم ، ومن خلفهم أرغبهم فى دنياهم ، وعن أيمانهم ، أي : من
قبل حسناتهم ، وعن شمائلهم : من قبل سيئاتهم. عن ابن عباس.
ويقال : لم دخلت «من»
فى الخلف والقدام ، و «عن» فى اليمين والشمائل؟
والجواب : لأن في
الخلف والقدام معنى طلب النهاية ، وفي اليمين والشمال الانحراف.
قال أبو عيسى : لم
يقل : «من فوقهم» ، لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ؛ ولم يقل : «من تحت أرجلهم»
، لأن الإتيان منه موحش.
__________________
ومن ذلك قوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ) .
قال ابن عباس : فى
الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ،
وإن كان موجزا في اللفظ.
وقيل : هو على حذف
المضاف ، أي : يعذبهم بمصائبها التي تصيبهم ؛ وقيل : بزكاتها ؛ وقيل : بغنيمتها
وسبى الأولاد ، لأنه قيل : «الهاء» للأولاد ، لقوله : (انْفَضُّوا إِلَيْها) .
وقيل : يعذبهم
الله بجمعها والبخل بها.
ومن ذلك قوله : (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) إلى قوله : (لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) . اللام من صلة «أسكنت» وهو في نية التقديم ، والفصل
بالنداء غير معتد به.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) . فإنه في المعنى في نية التقديم والتأخير ، والتقدير : وما
أرسلنا من قبلك بالبينات والّزبر. ولكنه يمنع من ذلك شىء ، وهو «من قبل» لأنه لا
يعمل فيما بعده إذا تم الكلام قبله ، ولكنه يحمله على مضمر دل عليه الظاهر ، أي :
أرسلناهم بالبينات.
ومن ذلك قوله
تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، جوّز : إما أن يكون «يوم نطوى» منصوبا ب «نعيده» ، أو
بدل من الهاء فى (كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، ولم يجز أن يكون منصوبا ب «هذا يومكم» كقوله:
__________________
أيام فارس والأيام من هجرا
لأنه اليوم بعينه
، ولا معنى لفعل فيه.
ومن ذلك قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) ، و (حَتَّى إِذا أَخَذْنا
مُتْرَفِيهِمْ) . العامل فى «إذا» (إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) و (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) الفعل والفاعل ، و «إذا» للمفاجأة ، وهو الناصب للجار
والمجرور ، أعنى : حتى إذا فتحنا ، و : حتى إذا أخذنا ، كما تقول : يوم الجمعة
عندك زيد ، ولا تنصب «إذا» الأولى بما بعد «إذا» الثانية ، لأن الثانية كالفاء ،
فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
ومن ذلك قوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) . إن جعلت «ما» استفهاما كان مفعولا مقدما لقوله «يدعون» ،
عن الخليل ، لمجى «من» بعده ، وإن جعلته بمعنى «الذي» ، كان منصوبا ب «يعلم» ، أي
: أعلم الذين تدعونه فلا تعلم ما أخفى لهم من قرة أعين ، فيكون استفهاما ، ويكون
موصولا.
وأما قوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) يكون حالا من الضمير فى «دعاكم». ولا يتعلق ب «تحرجون» لأن
ما لا في حيّز المضاف لا يتقدم عليه.
ومن ذلك قوله : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ
ذِكْراهُمْ) . التقدير : فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وهو قول
أبى الحسن. يدل عليه قوله : (أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرى)
__________________
فى الأخرى ، وفيما
ذكر من وصف هذا اليوم ، فى نحو قوله : (يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) . وقوله : (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً) ونحوها من الآي المتضمّنة صعوبة الأمر دلالة على التذكّر
لا يكون فيه ، لما يدهم الناس ويغشاهم.
ومن ذلك قوله : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) . أي : فبشّرناها / بإسحاق فضحكت.
ومنه قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) . «أجل» معطوف على «كلمة» فى نية التقديم.
ومنه قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) . أي : فعقروها فكذبوه.
ومن ذلك قوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي : تدلّى فدنا. وقيل : قرب من الأفق إلى سماء الدنيا
فتدلّى إلى الأرض ، وكل من استرسل من علو إلى سفل فقد تدلى ، تشبيها بإرسال الدّلو
في البئر.
ومن ذلك قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) .
إن جعلت «ما» صلة
تعلق قوله «فى أي صورة» ب «ركبك» ، و «شاء» صفة للصورة ، أي : شاءها ، ولا يكون «ما»
شرطا.
وإن تعلق الجار ب «ركبك».
لأنك تقول «زيدا إن تضرب اضرب ، فتنصب ب «أضرب».
وقيل : «فى» بمعنى
«إلى». فيتعلق ب (فَعَدَلَكَ) ، أي : عدلك إلى أي صورة ، أي : صرفك.
__________________
وأما قوله : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أولى أنّ الفعل من غير فصل ، وليس هذا كقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) ، لأن «ليس» ليست لها قوة الفعل ، ولكنه يكون «لا» المركبة
مع «لو» عوضا من الفصل ، وإن تقدمت ، كما كان عوضا من التوكيد في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، وإن كانت بعد حرف العطف زائدة عن موضع التوكيد فى
الحاشية.
قال عثمان :
راجعته في هذا فقلت : ولم جعلت «أن» مخففة من الثقيلة ، وما أنكرت أن تكون هي
الخفيفة الناصبة للفعل؟ فتفكر مليّا ثم جوّزه.
ومن التقديم
والتأخير قول الكوفيين : نعم زيد رجلا. واستدلوا ب (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) . قال : وقد يكون التقدير على غير ما قالوا ، لأن «نعم» غير
متصرف.
ومن ذلك : (حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ) إلى قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) هو جواب القسم.
فأما قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اعتراض ليس بجواب ، لأنه صفة القرآن ، وليس من عادتهم أن
يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه ، فهو معترض بين القسم وجوابه.
__________________
ومن ذلك قول
الفراء في قوله : (فَحاسَبْناها حِساباً
شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) قال : وعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة
وأما قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) فإن الجار يجوز تعلقه بشيئين : بالأخذ والعزة ؛ فإن علقته
ب «الأخذ» كان المعنى : أخذه بما يؤثم ، أي : أخذه بما يكسبه ذلك. والمعنى ، أنه
للعزة يرتكب ما لا ينبغى أن يرتكبه بما يؤثمه. وكأن العزة حملته على ذلك وقلة
الخشوع.
وقد يكون المعنى الاعتزاز
بالإثم ، أي : مما يعتز بإثمه فيبعده مما يرضاه الله.
ومن ذلك قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) . قال أبو الحسن : عنى به الشياطين.
وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، عنى به الناس.
الطبري : هذا
المخالف لقول جميع أهل التأويل ، لأنّهم مجمعون أن قوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) يعنى به اليهود دون الشياطين ، وهو خلاف ما دل عليه
التنزيل ، لأن الآيات قبل قوله وبعد قوله : (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) جاءت بذم اليهود ، فقوله (لَمَنِ اشْتَراهُ) مثله ، ومعناه التقديم ، والتقدير : وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا
يعلمون. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.
وقال بعضهم : نفى
عنهم العلم بعد أن أثبته لهم ؛ لأنهم علموا ولم يعلموا.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) . أي : وادعوا شهداءكم ، ولن تفعلوا ، واتقوا النار.
ومن هذا الباب
عندى دون سائر النحويين :
قوله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
وقوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
وقوله : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ) ف «إذا» فى هذه الآي محمول على ما بعد «إن» ، وجاز ذا لأنه
ظرف.
وقد تصالح الأستاذ
والغلام على أن الظرف يعمل فيه الوهم ورائحة الفعل ، وحكى عنه ذلك
في مواضع ، ولكنهم تعاضدوا في هذه الآي وأجمعوا أن ذا محمول على مضمر دون ما بعد «إن».
وقد قال سيبويه في ذلك : وسألت الخليل عن قوله : أحقا إنك لذاهب؟
فقال : لا يجوز كما لا يجوز : يوم الجمعة إنه لذاهب.
قال أبو سعيد :
لأن «أحقا» ، و «يوم الجمعة» في مذهب الظرف ، ولا يجوز نصبهما بعد «إن» لأنه لا
يعمل فيما قبل «إن» ما بعدها ، وإنما تنصبها كما تنصب «خلفك زيد» ، ولا يجوز : «خلفك
إن زيدا ذاهب» ، وإنما يقال : خلفك زيد ذاهب ، كما تقول : خلفك ذهاب زيد ، فإذا لم
يجز : خلفك إن زيدا : ذاهب. فقولك : خلفك إن زيدا لقائم ، أبعد في الجواز ، لمنع
اللام من اتصال ما قبلها بما بعدها ، ولا يجوز أيضا : أحقا إنه لذاهب ، صح بفتح «أن»
مع اللام ، لأن «اللام» يوجب أن ما بعدها جملة مستأنفة.
__________________
وهذا الفصل نقله
أبو علىّ بهذا اللفظ من كلام أبى سعيد ، وجروا عن آخرهم على هذا ، ونسى أبو علىّ هذا
الفصل في قوله :
و لو شهدت أم
القديد طعاننا
|
|
بمرعش خيل
الإرمنى أرنّت
|
فى كلام طويل حكاه
عن أبى علىّ ، وأن «خيل الإرمنى» منصوب ب «طعاننا» ، و «الباء» متعلق بمحذوف حالا
من «نا» فى «طعاننا» ، أو من نفس المصدر ، والفصل به كلا فصل ، لأنه ظرف.
وقال في بعض كلامه
: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . قال فى بعض المواضع : قياس قول سيبويه أنه يكون انتصاب «جميعا»
كانتصاب ؛ «أرخص» ، فى قولهم : البر أرخص ما يكون قفيزان. ويجعل «الأرض» «القبضة»
على الاتساع ، فلا يحمله على حذف المضاف ، أي : ذات قبضته ، لأن ما يتعلق بالمضاف
إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، إلا أن يحمل الكلام على المعنى ، لأن المعنى : ذات
قبضته متذللة منقادة ، فيكون كقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ)
ويجوز أن يكون «الأرض»
مرتفعا بالابتداء ، و «قبضته» مبتدأ ثان ، لأن القبضة ليست بالأرض ، و «جميعا»
منتصب ، ب «إذا يكون» ، كأنه : والأرض قبضته إذا يكون جميعا ف «إذا» خبر عن القبضة
لأنه مصدر ، وقدم خبر المبتدأ ، مثل قولك : ويوم الجمعة القتال.
وقال في «التذكرة»
: لا يجوز أن يكون «جميعا» منصوبا على تقدير : إذا كانت جميعا ، لأن «إذا» تبقى
غير متعلقة بشيء لأن القبضة مصدر ، فلا
__________________
تعمل فيما قبلها ،
ولكنه على أن تجعل المصدر ، يعنى «المفعول» ، أي : المقبوض ، والمفعول ينصب ما
قبله ، وإن لم يعمل المصدر فيما قبله. «ومثل القبضة» : «القسمة» فى نحو قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبى) ، لقوله : (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) ، أي : من المقسوم ، لأن الرزق لا يكون [القسمة] . هذا كلامه في هذه الآية.
وقال في الظرف في
قوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ) : إنه متعلق بمعنى «إله» ، كقوله : «كل يوم لك ثوب» ، ولم
يلتفت إلى معنى : إله ذو العبادة ، وأن المتعلق بالمضاف إليه لا يتقدم على المضاف.
ولعله جعله بمعنى «مألوه»
من أن «القبض» بمعنى «المقبوض».
فإن راجعنا درس «الكتاب»
وحضرتنا نكتة تدفع الفصل أخبرناك بها إن شاء الله.
وقد بلغ من أمرهم
ما هو أشد من هذا ، فقالوا : لا يجوز : زيدا ما ضربت ، على تقدير : ما ضربت زيدا ،
لأنه نقيض قولهم : إنّ زيدا قائم : فتقول : ما زيد قائم ، ألا ترى أن «ما» يكون
جوابا للقسم في النفي كما يكون جوابا فى الإيجاب ؛ فلما صارت بمنزلة «إن» لم يعمل
ما بعدها فيما قبلها.
ثم إنهم قالوا في
قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) : ويجوز أن تكون ، ما «نافية» ، و «قليلا» نصب ب «يهجعون»
، لأنه ظرف ، والظرف يكتفى فيه برائحة الفعل ، أي : ما كانوا يهجعون من الليل.
فقد حصل من هذا
كله أن الحارثي يسوّى بين الظرف وبين الاسم المحض ؛ فلا يعمل ما بعد «إن» فيما قبل
«إن» ، سواء كان ظرفا
__________________
أو اسما محضا ،
فعلى هذا قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، لا يتأتى إعمال قوله «فى شأن» فى قوله : «كل يوم» على
قول الحارثي ، وإن كان ظرفا ، لأن الظرف والاسم الصريح عنده سيان ، فجاء من هذا أن
قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) كقولهم : زيدا أجله أحرز ، فتنصب «زيدا» ب «أحرز» ، للفصل
بين المعمول والعامل بالمبتدأ ، وهو أجنبى ، وكما لا يجوز : زيدا أجله أحرز ، وجب
ألا يجوز «ل يوم هو فى شأن» أن تنصب «كل» ب «فى شأن». لأنه مثل «أجله» فى المسألة
، فلهذا اضطرب كلام الأستاذ وغلامه فيما أنبأناك به. والله أعلم.
وأما قوله : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) فتحمله على مضمر ، أو على قوله : (أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) ، لا تحمله على «أبقى».
ومثل الآي المتقدم
ذكرها :
(يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) لا تحمله على قوله «إنّا منتقمون» لما ذكرنا ، وإنما تحمله
على مضمر. وأما قوله :
رأسها ما تقنّع
فالنصب على أن
يكون مفعول «تقنع» على هذه القاعدة خطأ ، والصحيح رواية من رواه بالرفع على تقدير
: ورأسها ما تقنعه ، فحذف الهاء. كقراءة ابن عامر : (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) أي : وعده الله.
ومن ذلك قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ
إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) «فبصائر» حال من «هؤلاء»
، وقد أخّره عن الاستثناء.
__________________
وهم يقولون : ما
قبل «إلا» لا يعمل فيما بعده ، إذا كان الكلام تاما.
وحدثتك غير مرة ما
زعم أن «بادئ الرأى» محمول على الظرف ، لأن الظرف يعمل فيه الوهم. فربما يقول هنا
: إن الحال يشبه الظرف. وقد بيّنا شبهه بالظرف فيما سلف.
ومن التقديم
والتأخير قوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ
ما فِي صُدُورِكُمْ) ، تقديره : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلى الله ما في
صدوركم ، فيكون كقوله : (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) ، وقوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) . هذا كله على أفعال مضمرة. قد ذكرناه في حذف الجمل ولم
نحكم بزيادة الواو.
ومن ذلك قوله
تعالى : (لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) . والتقدير : إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق ، ثم محلها ، ف
«إلى» الأولى تتعلق بالظرف ، أعنى : «لكم» و «إلى» الثانية متعلقة بمحذوف فى موضع
الحال «من منافع» ، أو من الضمير ، أي : واصلة إلى البيت العتيق ، «ثم محلها» ، أي
: محل نحرها.
قال مجاهد : ثم
محل البدن والهدايا إلى البيت العتيق إلى أرض الحرم ، فعلى هذا لا تقديم ولا
تأخير.
وقيل : معناه : ثم
محلكم أيها الناس من مناسك حجكم.
وعن أبى موسى :
محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت.
وقيل : ثم محلها
منافع أيام الحج إلى البيت العتيق بانقضائها. روى ذلك ابن وهب.
__________________
عن ابن زيد :
محلها حتى تنقضى تلك الأيام ، يعنى أيام الحج إلى البيت العتيق.
ومقتضى هذه
الأقاويل غير ما قدمنا أن يكون قوله : «إلى البيت» متعلقا بخبر المبتدأ ، أي :
محلها منتهى إلى البيت ، أو يكون «إلى» زيادة ، ولم نعلمها جاءت زيادة في موضع.
والله أعلم.
ومن ذلك ما قاله
الجرجاني فى قوله تعالى (اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) . قال : التقدير : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا ، وما
الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ، وقوله
تعالى (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) عارض بين الكلام وتمامه.
والصواب أنه يكون
: إنه لما بسط الله الرزق لقوم فرحوا بهذا البسط ، أي : حملهم على المرح ، وهو
كثير. وأنشد سيبويه :
و ما مثله في
النّاس إلا مملّكا
|
|
أبو أمه حىّ
أبوه يقاربه
|
تقديره : وما مثله
في الناس حىّ يقاربه إلا مملكا أبوه ، وذلك أن الفرزدق مدح هشام بن إسماعيل
المخزومي ، فقال : وما مثله ـ أي هشام المخزومي ـ فى الناس حى يقاربه إلا مملكا ـ يعنى
هشام بن عبد الملك ـ أبو أمه ـ أي : أبو أمه هذا الخليفة هشام بن عبد الملك ـ أبو
هشام بن إسماعيل المخزومي ، وذلك أن إسماعيل أب المخزومي جد الخليفة هشام بن عبد
الملك من قبل أمه ، وأمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل المخزومي ،
__________________
فهشام الممدوح خال
هشام الخليفة ، وأبو أم الخليفة أبو الممدوح ، ف «حى» اسم «ما» ، و «يقاربه» صفته
، وفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ ، وهو «أبو أمه» مع خبره في موضع النصب ل «مملك»
، وقدم المستثنى وهو «مملكا» على المستثنى منه وهو «حى» ، وأنشدوا للقلاخ :
و ما من فتى
كنّا من الناس واحدا
|
|
به نبتغى منهم
عميدا نبادله
|
قال البيّانى : هذا كلام مستكره ، وتلخيصه : فما كان أريب فتى ، وذلك من
شرط المرتبة. والفصل بينهما وبين المدح ، أعنى إدخال كان فيها ، فحذفها واكتفى
منها بقوله «كنا» ، و «من» لغو ، كقولك : ما رأيت أحدا ، وما رأيت من أحد كنّا من
الناس واحدا ، أي : كنا نبغى عميدا أو أحدا من الناس نبادله به. والمعنى : لا أحد
أفتى وأسود نتمناه مكانه.
والقلاخ بن حزن بن
جناب العنبري ، نصرى ، عمّر عمرا طويلا فى الإسلام ، والقلاخ مأخوذ من «القلخ» ،
وهو رغاء من البعير فيه غلظ وخشونة ، وأحسبه لقبا. والله أعلم.
وله مع معاوية بن
أبى سفيان خبر يذكر فيه أنه ولد قبل مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله.
قال عثمان : فى
البيت فيه أشياء في التقديم والتأخير ، وذلك أنه أراد : فما من الناس فتى كنا
نبتغى منهم واحدا عميدا نبادله به.
ولا يحسن أن يكون «واحدا»
صفة ل «عميد» من حيث لم يجز أن تقوم الصفة على موصوفها ، اللهم إلا أن يعتقد
تقديمه عليه ، على أن
__________________
يجعله حالا منه ،
فقوله «من الناس» خبر من «فتى» ، وقد فصل بينهما ببعض صفة الفتى ، وهو قوله «كنّا»
، ويجوز أن «من الناس» صفة أيضا ل «فتى» على أن يكون خبر «فتى» محذوفا «أي «ما في
الوجود أمر في المعلوم أو نحو ذلك : فتى من أمره ومن شأنه. ويجوز أن يكون نصب «واحدا»
ب «ينبغى» ، و «عميدا» وصف له ، وقدم «واحدا» وهو مفعول «ينبغى» عليه ، وقدم «به»
وهو متعلقه بقوله «نبادله» ، وهو صفة ل «عميد» هى. ولا يجوز تقديم «ما» فى الصفة
على موصوفها ، لو قلت : عندى زيدا رجل ضارب ، وأنت تريد : عندى ضارب زيدا ، لم يجز
، وذلك أنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل ، والعامل هنا هو الصفة
، ومحال تقديمها على موصوفها ، فإذا لم يجز ذلك أضمرت «للناس» مما يتعلق به مما
يدل عليه. قوله «نبادله» ، هنا بمعنى نبدله ، وقع فاعل موقع أفعل ، كقولهم : عافاه
الله ، أي أعفاه ، وطارقت النعل ، أي أطرقتها ، وجعلت لها طرقا. ويجوز أن يكون «به»
متعلقه ب «نبتغى» ، كقولك. طلبت بهذا الثوب مائة درهم ، وأردت فيما بعت ، نبادله
به ، فحذفت الثانية لمجىء لفظة الأولى.
الثامن والثلاثون
هذا باب ما جاء في التنزيل من اسم الفاعل الذي يتوهم فيه جريه
على غير من هو له ، ولم يبرز فيه الضمير ، وربما احتج به الكوفي ،
ونحن لا نجيز ذلك لأنا نقول : أن اسم الفاعل إذا جرى على غير من
هو له خبرا أو صفة أو حالا أو صلة وجب إبراز الضمير فيه
فمن ذلك قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها) . فقوله «خالدين» حال من المجرور ب «على» ، أي : أولئك
عليهم لعنة الله خالدين فيها ، فقد جرى على غير من هو له ، فلم يبرز فيه الضمير.
ومن قال : إنه حال
من «اللعنة» لمكان الكناية المتصلة به وهو «فيها» لم يصح ، لأنه حينئذ جرى على
اللعنة والفعل لغيرها ، فوجب أن يبرز فيه الضمير ، وكان يجىء : خالدين فيها هم.
ومثله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها) ، هو على هذا الخلاف.
ومثله : (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) ، لا يكون «خالدا فيها» صفة للنار ، لأنه لم يقل : خالدا
فيها هو ، وإنما حال من الهاء في «يدخله» ، أي : يدخله نارا مقدرا الخلود فيها ،
كما قال : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً
مِنْ قَوْلِها) ، أي : مقدرا الضحك من قولها.
__________________
وأما قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) لا يكون «خالدا» حالا من الهاء في «جزاؤه» لأنه أخبر عن
المصدر بقوله «جهنم» ، فيكون الفصل بين الصلة والموصول ، ولا يكون حالا من «جهنم»
لمكان «فيها» ، لأنه لم يبرز الضمير ، ألا ترى أن الخلود ليس فعل «جهنم» ، فإذا هو
محمول على مضمر ، أي : يجزاه خالدا فيها.
ونظيره في «الحديد»
: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها).
وقال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ
عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) .
قال أبو علىّ :
بشراكم اليوم جنات ، أي : حلول جنات ، أو : دخول جنات ؛ لأن البشرى حدث ، والجنة
عين ، ولا تكون هي هى ، وإذا كان كذلك لم تخل «خالدين» من أن تكون حالا من «بشراكم»
، أو من المصدر المحذوف في اللفظ المراد في المعنى ، فلا يجوز أن يكون من «بشراكم»
على معنى : تبشرون خالدين ، لئلا يفصل بين الصلة والموصول ؛ فإذا كان كذلك قدرت
الحال من «الدخول» المحذوف من اللفظ المثبت في التقدير ، ليكون المعنى عليه ، كأنه
: دخول جنات خالدين ، أي : مقدرين الخلود مستقبلا ، كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) .
فإن قلت : فهل
يجوز أن يكون الحال مما دل عليه البشرى ، كما كان الظرف متعلقا بما دل عليه المصدر
، فى قوله تعالى : (إِذْ تُدْعَوْنَ
إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) كأنهم يبشرون خالدين ؛ فالقول : إن ذلك لا يمتنع
__________________
فيما ذكرت من
الظرف ، إذ كان الظرف أسهل من الحال ، ألا ترى أن الحال هو المفعول به في المعنى ،
فلا يحسن أن يعمل فيه ما لا يعمل في المفعول به ، ومن ثم اختلفا فى امتناع تقديم
الحال إذا كان العامل فيها بمعنى ، ولم يمتنع ذلك في الظرف ؛ وقد جعلنا الظرف
متعلقا «بالبشرى» وإن لم تقدره كذلك ، ولكن إن جعلت الظرف خبرا جاز ذلك ، ويكون
«جنات» بدلا من «البشرى» ، على أن حذف المصدر المضاف مقدّر ، ويكون «خالدين» على
الوجهين اللذين تقدم ذكرهما.
ومثله في «التغابن»
: (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) . «خالدين» حال من الهاء العائدة إلى «من» ، وحمل على
المعنى فجمع.
ومثله في «الطلاق»
: (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) .
وفي «التّوبة»
موضعان : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، وبعده : (وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) .
وفي «آل عمران» : (الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً) .
وفي «النساء» : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها)
__________________
وفى «المائدة» : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). «خالدين» حال من المفعول دون جنات.
وفى «التوبة» : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) .
فهذا ونحوه على
الخلاف الذي قدّمناه.
قال : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً*
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) . ف «ماكثين» حال من الهاء والميم ، وعندهم صفة ل «الأجر».
فأما قوله : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) ، أي : ما الماء ببالغ فيه. وإن شئت : ما فوه ببالغ الماء
؛ ولا يكون : وما فوه ببالغه الماء ، ويكون الضميران ل «فيه» ، وفاعل «بالغ الماء»
؛ لأنه يكون جاريا على «فيه» وهو للماء ، والمعنى : إلا كاستجابة كفّيه إلى الماء
، وكما أن (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) و (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) لم يذكر معهما الفاعل ، واللام متعلق ب «البسط».
فأما قوله : (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) ، أي : ما الماء بالغ فاه من كفّيه مبسوطتين. ويمكن أن
يكون «هو» فى قوله : «وما هو ببالغه» ضميرا ل «باسط» ، أي : ما الباسط / كفّيه إلى
الما بالبالغ الماء ، أي : ليس ينال الماء بيده ،
__________________
فإذا لم ينل الماء
لبعده عنه مع بسطه الكفين ، فأن لا يبلغ فاه ، مع هذه الصورة على الامتناع ، أولى.
وقيل : إن الذي
يدعو الماء ليبلغ إلى فيه ، وما الماء ببالغ إليه.
وقيل : إنه
كالظمان يرى خياله في الماء ، وقد بسط كفيه ليبلغ فاه ، وما هو ببالغه ، لكذب ظنه
وفساد توهمه. عن ابن عباس.
وقيل : إنه كباسط
كفّيه إلى الماء ليفيض عليه ، فلا يحصل في كفيه شىء منه.
وعن الفراء : إن
المراد بالماء هاهنا البئر ، لأنها معدن للماء ، وإن المثل : كمن مدّيده إلى البئر
بغير رشاء.
وأما قوله تعالى :
(فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) . فقد قال الفراء : إن «خاضعين» جرى حالا عن المضاف إليهم
دون الأعناق ، فجمع جمع السلامة ، ولو جرى على «الأعناق» لقيل : خاضعة.
وليس الأمر كما
قال ؛ لأنه لم يقل : خاضعين هم ، ولكن الأعناق بمعنى الرؤساء. وإن شئت كان محمولا
على حذف المضاف ، أي : فظلت أصحاب أعناقهم ، فحذف المضاف.
وأما قوله : (إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) . فهو نصب على الحال من الضمير في قوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) ولم يجر وصفا ل «طعام» ، لأنه لم يقل : غير ناظرين أنتم
إناه ، إذ ليس فعلا ل «طعام».
__________________
التاسع والثلاثون
هذا باب ما جاء في التنزيل نصبا على المدح ورفعا عليه و
ذلك إذا جرى صفات
شتى على موصوف واحد ، يجوز لك قطع بعضها عن بعض ، فترفعه على المدح أو تنصبه ،
وكذلك في الشتم تقول : مررت بالرجل الفاضل الأديب الأريب ، وبالرجل الفاسق الخبيث
اللئيم. يجوز لك أن تتبعها الأول ، وأن تنصب على المدح ، وترفع.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ) . والتقدير : هم الموفون. (وَالصَّابِرِينَ) أي : امدح الصابرين.
وقيل : إن قوله «والموفون»
رفع عطف على «من آمن».
ومن ذلك / قوله
تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) . أي : وامدح المقيمين. (وَالْمُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) . أي : وهم المؤتون ، وكذلك : (وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) .
وقيل إن قوله : «والمقيمين»
جر وعطف على قوله : «منهم» وهذا خطأ ، لأنه لم يعد لفظة «من».
وأما قوله : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا
قَلِيلاً مَلْعُونِينَ) ، فنصب على الذم ، أي: أذم الملعونين.
__________________
وقيل : هو حال من
الضمير فى (لَنُغْرِيَنَّكَ) ، أي : لنغرينّك بهم ملعونين.
ومن ذلك قوله
تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) . فيمن نصب على تقدير : أذم حمالة الحطب ، فيكون قوله : «وامرأته»
رفعا عطفا على الضمير فى «يصلى» ، أي : يصلى هو وامرأته.
وأما من رفع «حمالة
الحطب» فيكون «وامرأته» مبتدأة ، ويكون «حمالة الحطب» خبره. وإن رفعته بالعطف كان
التقدير : هى حمالة الحطب ، وكل ما ذكرنا فى «الذي» و «الذين» : إذا جاز كونهما
وصفا لما قبلهما ، فإن نصبهما ورفعهما على المدح جائز.
وأما قوله تعالى :
(الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ) ، فقد يكون من هذا الباب ، وقد يكون جرّا جريا على قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
.... الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا ... الصَّابِرِينَ) .
ومن ذلك قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) ، أي : أذمّهم.
وأما قوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) فيكون على الذم ، ويكون على الحال من (الْمُعَوِّقِينَ) ، أي : يعوقون هاهنا عند القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء
المسلمين. وإن شئت من (وَالْقائِلِينَ) وإن شئت (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) ، ويكون على الذم.
__________________
المتم الأربعين
هذا باب ما جاء في التنزيل من المبتدأ المحذوف خبره
فمن ذلك قوله
تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، والتقدير : فيما يتلى عليكم شهر رمضان. ويكون قوله : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) نعتا.
وقيل : بل هو
الخبر.
وقيل : بل الخبر
قوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ) ، أي : فمن شهده منكم.
وجاز دخول الفاء
لكون المبتدأ موصوفا بالموصول ، والصفة جزء من الموصوف ، وكان المبتدأ هو الموصول.
ومثله قوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) . لما وصف اسم «إن» بالموصول أدخل الفاء في الخبر كما دخل
في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ
جَهَنَّمَ) . وكما قال : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ، ثم قال : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، لأن المبتدأ الموصول والنكرة الموصوفة يدخل «الفاء» فى
خبرهما.
وقال الأخفش : بل
الفاء في قوله : (فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ) زائدة ، فعلى قياس قوله هنا تكون زائدة.
__________________
ويجوز أن يكون
قوله «الذي تفرّون» خبر «إن» ، كأنه قال : الموت هو الذي تفرون منه ، نحو القتل أو
الحرب ، ويكون الفاء فى «فإنه ملاقيكم» للعطف.
ومن ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) ، أي : فيما يتلى عليكم.
ومن ذلك أيضا : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) ، أي : فيما يتلى عليكم.
ويجوز أن يقال :
وإنما رفع قوله «واللذان» ولم ينصبه.
وقال فى «الكتاب» : «اللّذين يأتيانك فاضربهما» ؛ لأن الاختيار النصب ، لأن
الذي فى «الكتاب» يراد بهما معيّنان ، والفاء زائدة ، فهو بمنزلة : زيدا فاضرب.
وفي الآية لا يراد بهما معيّنان ، بل كل من أتى بالفاحشة داخل تحتها.
فقوله : (فَآذُوهُما) فى موضع الخبر ، والفاء للجزاء في الآية ، وفي المسألة
الفاء زائدة.
وقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) . وقال : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي : فيما يتلى عليكم :
فأما قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ) فهو على القياس المتقدم ، أي : فيما يتلى عليكم.
__________________
وقال أبو إسحاق :
التقدير صفة الجنة التي وعد المتقون ، وليس بصحيح ، لأن اللغة لا تساعد عليه ،
ولأن موضوعه التشابه ، ولا معنى للوصفية في شىء من تصاريفه ، وكيف يصح. ومن جهة
المعنى أيضا : إنه ولو قال قائل : صفة الجنة فيها أنهار ، لكان كلاما غير مستقيم ،
لأن الأنهار في الجنة لا في صفتها ؛ وأيضا فقد أنث ضمير «المثل» حملا على الصفة ،
وهذا أيضا بعيد.
وقول الفراء أيضا
من أن الخبر جعل عن المضاف إليه ، وهو الجنة ، دون المضاف ، الذي هو «مثل» ، فباطل
أيضا ؛ لأنا لم نر اسما يبدأ به ولم يخبر عنه البتة ، وكذا من قال : «المثل» يقحم
، أي : يلغى ، لأن الاسم لا يكون زائدا ، إنما يزاد الحرف ، فكذلك قول الزجاج ،
لأنه إن أراد بالمثل الصفة ، فقوله : «صفة الجنة جنة» فاسد ، لأن الجنة ليست
بالصفة ، والزيادة شيء يقوله الكوفيون فى : مثل ، واسم ، ويعلم ، ويكاد ، ويقول :
هذه الأربعة تأتى فى الكلام زيادة ، ونحن لا نقول بذلك.
وأما قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) ، إن جعلته مبتدأ ، فقوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبره وما ، بعده معطوف على «الذي» ، والتقدير : هو يطعمنى
ويسقينى ، إلى قوله : (بِالصَّالِحِينَ) محذوف الخبر ، أي : فهو يهدينى ، كما تقول : زيد قائم ،
وبكر وخالد.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) ، أي : البر والتقوى أولى ، فحذف الخبر.
__________________
وأما قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ) ، فيمن لم ينون ، فيجوز أن يكون «عزير» مبتدأ ، و «ابن» صفة
، والخبر مضمر ، أي : قالت اليهود عزير ابن الله معبودهم.
ويجوز أن يكون حذف
التنوين لالتقاء الساكنين ، ويكون «ابن» خبرا.
ويجوز أن يكون لم
يصرف «عزير» ، ومثله : (يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فيمن جعل «يدعو» بمعنى «يقول». وقد تقدم ذلك فى المبتدأ.
ومثله : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ) ، ولم يقل : محطوط عنا ، وقد تقدم.
ومثله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) و : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، وقد تقدم.
ومثله قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، والتقدير : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) إلى قوله : (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) / والصابئون كذلك ، فالتقدير فى «والصابئون» ، أي : والصابئون
كذلك ، فحذف الخبر وفصل بين اسم «إن» بمبتدأ مؤخر تقديرا ، وقال :
و من يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّى وقيّارا
بها لغريب
|
__________________
أي : إنى لغريب
وإن قيارا كذلك.
وقال الله تعالى :
(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي : رسوله برئ ، فحذف الخبر.
وقيل : بل هو عطف
على الضمير فى «برئ» هو ورسوله.
وعند سيبويه : هو
محمول على موضع «إن» ، كقوله : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ، فيمن فتح.
ومن ذلك قوله
تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى
إِماماً وَرَحْمَةً) ، ولم يذكر الخبر ، والتقدير : كمن كان على ضلالة.
وقال : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَناً) ، أي : كمن لم يزيّن له ذلك.
وقال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ) ، والتقدير : كمن لا يقام عليه. فحذف الخبر في هذه الآي.
وقد أظهر في قوله
، (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) .
وأما قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) فيمن خفّف ، فيكون ، أي : يكون من هذا الباب ، على تقدير :
أمن هو قانت آناء الليل كالجاحد والكافر.
__________________
وزعم الفارسي أن
التقدير : أمن هو قانت آناء الليل كمن جعل لله أندادا.
ثم قال : واستضعفه
أبو الحسن ، دون الاستفهام لا يستدل عليه بما قبله وإنما يستدل عليه بما بعده.
فقيل : إن ذلك على
تقديرك دون تقديرنا ، فما تقول في قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ) ، أليس الخبران محذوفين؟ وقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) .
قلت : أيها
الفارسي ، جوابا : إن سيبويه قال : إن الخبر محذوف ، يعنى خبر قوله (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ) ، ولم تكن لتذب عن أبى الحسن : أن التقدير : أفمن حق عليه
كلمة العذاب ، أفأنت تنقذ ، بل قدّرت حذف الخبر.
وزعم أحمد بن يحيى
أن من قدر : أمن هو قانت آناء الليل ، فهو كالأول.
وزعم الفارسي أن
هذا ليس / موضع نداء بل موضع تسوية ، ألا تراه قال من بعد : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، وجواب الفارسي تحت قول أحمد هو كالأول ، يعنى أنه قال ـ عز
من قائل : (قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ، يا من هو قانت آناء الليل أبشر إنك من أصحاب الجنة ،
فحذف في الثاني لذكره أولا.
__________________
فأما من شدد فقال
: «أمّن هو قانت» ، فالتقدير : الكافر الجاحد خير أمّن هو قانت؟ كقوله : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، والتقدير : أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟
ومن ذلك قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ، قوله «إلا الله» بدل من موضع الجار والمجرور ، والخبر
مضمر ، والتقدير : ما من إله في الوجود إلا الله ، كقوله : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، فليس الرفع محمولا على الوصف للمجرور ، لأن الأكثر في
الاستثناء والبدل دون الوصف.
وأما قوله تعالى :
(الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ف «الذين يلمزون» مبتدأ ، وخبره (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) . ومن نصب «زيدا مررت به» كان «الذين» منصوبا عنده ، ولا
يكون (فَيَسْخَرُونَ) خبره ، لأن لمزهم للمطوعين لا يجب عنه سخريتهم بهم ، كما
أن الإنفاق يجب عنه الأجر فى قوله : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) إلى قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، وإذا لم يجب عنه كان «فيسخرون» عطفا على «يلمزون» ، أو
على «يجدون» ، وموضع (وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ) جر تابع ل «المؤمنين» ، أو نصب تابع ل «المطوعين» ، للفصل
بين الصلة والموصول ، أي : يعينون في إخراج الصدقات لقلتها ، ومنه قوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) ، ومنه قوله : (فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ) ، أي : فله نزل من حميم ، وفي الظرف ذكر من الموصوف.
__________________
الحادي والأربعون
هذا باب ما جاء في التنزيل من «إن» المكسورة المخففة من «إن»
وذلك إذا جاءت
لزمتها اللام في الخبر ، كما أن النافية يلزمها إلا في الخبر.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) .
قال : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) .
قال : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ) .
قال : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ
لَغافِلِينَ) .
قال : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) .
قال : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ
أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) فاللام هنا ك «إلّا». كقوله : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) .
وقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) .
وقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) .
قال سيبويه : ويكون «إن» يبتدأ بما بعدها في معنى اليمين ، وفي
اليمين ، كما قال : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) . و (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).
__________________
قال : وحدثنى من
لا أتهم به أنه سمع عربيا يتكلم بمثل قوله : إن زيدا لذاهب ، وهي التي في قوله : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا) ، وهذه «إن» مخففة من «إن» الشديدة.
قال أبو على : أما
«إن» فى الآي فالقول فيها أنها مخففة من الثقيلة ، وقد دخلت على الفعل مخففة ،
وامتنعت من الدخول عليه مشددة ؛ فالجواب أنها امتنعت من ذلك مثقلة لشبهها بالفعل
في إحداثها النصب والرفع ، كما يحدثهما الفعل من حيث لم يدخل الفعل على الفعل لم
تدخل هى أيضا عليه ، وأصلها أنها حرف تأكيد ، وإن كان لها هذا الشبه الذي ذكرنا
بالفعل ، فإذا خففت زال شبه الفعل عنها ، فلم تمتنع من الدخول على الفعل إذ كانت
الجمل المخبر بها على وجهين : مبتدأ وخبر ، وفعل وفاعل ، وقد تحتاج المركبة من
الفعل والفاعل من التأكيد إلى مثل ما تحتاج إليه المركبة من المبتدأ والخبر ،
فدخلت المخففة على الفعل مؤكدة ، إذ كان أصلها التأكيد ، وزال المعنى الذي كان
امتنع من الدخول على الفعل ، وهو شبهها به ، ولزوال شبهها بالفعل اختير في الاسم
الواقع بعدها الرفع ، وجاء أكثر القراءة على ذلك ، كقوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) ، و : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
عَلَيْها حافِظٌ) ، فمن حيث اختير الرفع في الاسم الواقع بعدها جاز دخولها
على الفعل في الآي التي تلوناها أو غيرها.
وأما اللام التي
تجئ بعدها مخففة فهى لأن تفرق بينها وبين «إن» التي تجئ نافية بمعنى «ما» ، كالتى
في قول الله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ
فِيما إِنْ
__________________
مَكَّنَّاكُمْ
فِيهِ) وليست هذه اللام التي تدخل على خبر المشددة التي هي
الابتداء ، لأنه كان حكمها أن تدخل. على «إن» / فأخرت إلى الخبر لئلا يجتمع
تأكيدان ، إذا كان الخبر هو المبتدأ في المعنى ، أو ما هو واقع موقعه وراجع إليه ،
فهذه اللام لا تدخل إلا على المبتدأ أو على خبر «إن» إذا كان إياه في المعنى أو
متعلقا به ، ولا تدخل من الفعل إلا ما كان مضارعا واقعا في خبر «إن» وكان فعلا
للحال ، فإذا لم تدخل إلا على ما ذكرنا لم يجز أن تكون هذه اللام التي تصحب «إن»
الخفيفة إياها ، إذ لا يجوز دخول لام الابتداء على الفعل الماضي ، وقد وقع بعد «إن»
هذا الفعل ، نحو : (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا) و : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ) . وقد جاءت الأفعال الواقعة بعد «إن» فعملت فيما بعد اللام
، ومعلوم أن لام الابتداء التي تدخل في خبر «إن» الشديدة لا يعمل الفعل الذي قبلها
فيما بعدها ، وذلك قوله : (إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) ، وقول القائل:
هلبتك أمّك إن
قتلت لفارسا
|
|
حلّت عليك عقوبة
المتعمّد
|
فلما أعمل الفعل
فيما بعد هذه اللام علم من ذلك أنها ليست التي تدخل في خبر «إن» الشديدة ، وليست
هي التي تدخل على الفعل المستقبل ، والماضي للقسم ، نحو : ليفعلن ، أو لتفعلن. ولو
كانت تلك للزم الفعل ، الذي تدخل عليه «النون» يعنى : ليفعلن ، الذي تدخل عليه
إحدى النونين ، فلما لم يلزم النون علم أنها ليست إياها قال الله تعالى : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) و (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) ، فلم يلزم النون.
__________________
حكى سيبويه إن هذه
النون قد لا تلزم المستقبل في القسم ، فيقال : والله لتفعل ، وهم يريدون :
لتفعلنّ.
قال : إلا أنّ
الأكثر على ألسنتهم ما أعلمتك ، يعنى من دخول النون ، ولا ينبغى أن نقول : إن هذه
اللام هي التي فى «لتفعلن» فتحمل الآي التي تلوناها على الأقل في الكلام ، على أن
هذه اللام لو كانت هذه التي ذكرنا أنها للقسم ، وتدخل على الفعل المستقبل والماضي
، لم تدخل على الأسماء ، مثل : (إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) و «إن قتلت لفارسا» ، لأن تلك تختص بالدخول على الفعل
الماضي أو المستقبل المقسم عليه ، أو ما يتصل بهما ، نحو «إلى» من قوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) . والدليل على ذلك أنها لا تعلق الأفعال الملغاة قبل «إن»
إذا وقعت / فى خبرها ، كما تعلقها التي تدخل على الأسماء. فقد ثبت بما ذكرنا أن
هذه اللام الداخلة على خبر «إن» المخففة التي تدخل في خبر «إن» المشددة ، ولا هي
التي تدخل على الفعل المستقبل والماضي في القسم ، لكنها تلزم «إن» هذه لتفصل بينها
وبين التي بمعنى «ما» النافية ، ولو أدخلت شيئا من الأفعال المعلقة على «إن»
المكسورة المخففة من الثقيلة ، وقد نصبت واللام في خبرها. لم تعلق الفعل قبلها من
أجل اللام ، كما تعلقه مع لام الابتداء ، لأن هذه اللام قد ثبت أنها ليست تلك ،
فإذا لم تكن تلك لم تعلق الفعل الملغى كما تعلقه لام الابتداء.
فهذه حقيقة «إن»
هذه المخففة واللام التي تلحق معها عندى ، ويدل على أن هذه اللام ليست التي
للابتداء أن تلك تدخل على الخبر نفسه التي
__________________
لا تسغنى ، أو
يكون قبل الخبر ويكون الأول في المعنى أو ما يقوم مقام ما هو الأولى فى المعنى ،
أو تدخل على الاسم نفسه إذا فصل بين «إن» واسمها ، ولا تدخل على الفضلات وما ليس
بالكلام افتقار إليه ، كما دخلت هذه في قوله «لفارسا» ونحوه ، فلو أدخلت «علمت»
على مثل : إن وجدك زيدا لكاذبا ، فقلت : علمت إن وجدك زيد لكاذبا. لوجب انفتاح «إن»
إذ ليس في الكلام شيء يعلق الفعل عنها ، ولم يجب أن يكون فى «إن» ضمير القصة من
هذه المسألة ، كما تقول «أن» فى مثل قوله : (عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ) ضمير ، لأن هذا الضمير إنما يكون فى «أن» المخففة من «أن»
الشديدة ، وليست هذه تلك ، إنما هى «أن» التي كانت قبل دخول الفعل عليه ، «أن»
التي لا تمتنع من الدخول على الفعل لزوال العلة التي كانت تمنعها من الدخول عليه ،
وهي ثقيلة ، وكما تقول في حال انكسارها نحو : (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا) إنه لا ضمير فيه كذلك تقول في حال انفتاحها بعد الفعل :
إنه لا ضمير فيها. والوجه أن تقول : إنه لا ضمير فيه ، في نحو : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) وإنه دخل على الفعل كما دخل على الاسم ، لأنه حرف وضعه
للتأكيد ، فالصنفان جميعا يؤكدان ، وإنما امتنع من الدخول على الفعل في حال
التثقيل لشبهه بالفعل ، وكما لم يدخل فعل على فعل كذلك لم تدخل هذه مثقلة عليه ،
وهذه العلة زائلة عنها في حال التخفيف ، فيجب أن تدخل عليها ، فإذا قلنا : علمت أن
قد وجدك زيد لكاذبا لم تدخل اللام ، كما كانت تدخل قبل دخول «علمت» ، ولم يمنع
الفعل من فتح «أن» شىء ، وارتفعت الحاجة إليها مع دخول «علمت» ، لأن «علمت» يفتحها
، إذ لا مانع لها من فتحها ، فإذا فتحتها لم تلتبس «بإن» التي ينفى بها ، ولو لا
__________________
فتحها إياها
لاحتيج إلى اللام ، لأن «علمت» من المواضع التي يقع فيها النفي كما وقع بعد «ظننت»
فى نحو قوله : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) . فلو بقيت «إن» على كسرتها بعد «علمت» للزمتها اللام ،
وكان ذلك واجبا لتخليصها من النفي ، فإذا لم تبق على الكسرة فلا ضرورة إلى اللام ،
فإن شئت قلت : إذا أدخلت «علمت» عليها حذفت اللام لزوال المعنى الذي كانت اللام
اجتلبت له ، وإن شئت قلت. أتركها ولا أحذفها ، فتكون كالأشياء التي تذكر تأكيدا من
غير ضرورة إليه ، وذلك كثير في الكلام.
فأما قول أبى
الحسن : ويدخل على من زعم أن هاهنا ضميرا أن تقول له : كيف تصنع. إلى آخر الباب؟
فذلك من قوله يدل
على أنه جعل اللام التي في نحو : إن وجدت زيدا لكاذبا ، لام ابتداء ، وقد بيّنا
فساد ذلك ، وكيف يجوز أن تكون هذه لام الابتداء وقد دخلت في نحو قوله : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ) وليس فى هذا الكلام شىء يصلح أن تدخل عليه لام الابتداء
البته ، ولا يوجد فيها شرطه ووصفه ، وقد بينا ذلك ، ولا يصلح أن يكون فى «إن» هذه
ضمير ، من حيث ذكرت قبل.
وأما قوله تعالى :
(وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، من خفف «إن» ونصب بها «كلا» فهو الذي حكاه سيبويه ،
ويكون «لما» : ما ، صلة فصل بها بين لام «إن» ولام القسم.
ومن قال : «وإن
كلا لّمّا» فشدّد ، كان «لما» مصدرا ، لقوله : «كلا لما» ، لكنه أجرى الوصل مجرى
الوقف.
__________________
وأما قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) ، و (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) فشدد ، وكذلك : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ
لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، فشدد قوم ، وأمّا من خفف فسهل سائغ ، و «إن» على قراءته
هي المخففة من الثقيلة المكسورة الهمزة المعلمة عمل الفعل ، وهي إذا خففت لزمتها
اللام لتفصلها من النافية وتخلّصها منها ، ولهذا المعنى جاءت هذه اللام ، وقد تكون
«ما» صلة.
فأما من ثقّل فقال
«لما» ، قيل : إنّ «لمّا» بمنزلة : إلا.
قال سيبويه :
وسألت الخليل عن قولهم : أقسمت عليك إلا فعلت ، ولم فعلت؟ لم جاز هذا في هذا
الموضع ، وإنما «أقسمت» هاهنا ، كقولك : والله؟ فقال : وجه الكلام ب «لتفعلن»
هاهنا ، ولكنهم أجازوا هذا لأنهم شبهوه ب «نشدتك الله» ، إذ كان فيه معنى الطلب.
قال أبو على : ففى
هذا إشارة من سيبويه إلى أنهم استعملوا «لمّا» حيث يستعملون فيه «إلا».
وقال قطرب : حكاه
لنا الثقة ، يعنى كون «لمّا» بمعنى «إلا».
وحكى الفراء عن
الكسائي أنه قال : لا أعرف جهة التثقيل.
وقال الفراء في
قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) الوجه التخفيف ، ومن ثقل إن شئت أردت : وإن كل لمن ما جميع
، ثم حذفت إحدى الميمات لكثرتها ، مثل قوله :
طفت علماء علة حاتم
__________________
والوجه الآخر من
التثقيل أن تجعلوا «لمّا» بمنزلة «إلا» مع «إنّ» خاصة ، فتكون في مذهبها.
وقال أبو عثمان
المازني ، فيما حكاه عنه أبو إسحاق : الأصل «لما» فثقل.
فهذا ما قيل في
تثقيل «لما» من هذه الآي الثلاث ، أعنى قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ) ، وقوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ
لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) .
ويجوز أن يتأول
على هذا الذي قيل من أن معنى «لما» ك «إلا» على أن يكون «إن» فيها هي النافية ، لا
يمتنع ذلك في شيء منها.
فأما قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، فلا يجوز فيه هذا التأويل ولا يسوغ ، ألا ترى أنك لو قلت
: إنّ زيدا إلا لمنطلق ، لم يكن لدخول إلا مساغ ولا مجاز.
فإن قال : أو ليس
قد دخلت «إلا» بين المبتدأ وخبره في المعنى ، فيما حكاه سيبويه من قولهم : ليس
الطيب إلا المسك ، و «إن» مثل «ليس» فى دخولها على المبتدأ وخبره؟
قيل. إنه ذكر :
أنّ قوما يجرون «ليس» مجرى «ما» ، كما أجروها مجراها ، فقولهم : ليس الطيب إلا
المسك ، كقولهم : ما الطّيب إلا المسك ، ألا تراهم رفعوا المسك كما يرتفع خبر «ما»
فى نحو ذا ، ولم يتأول سيبويه
__________________
«ليس» على أن فيه
ضمير القصة والحديث ، لما كان ، لا يرى في هذا التأويل ، من إدخال «إلّا» بين
المبتدأ والخبر ، فلا مساغ لتثقيل «لما» فى هذه الآية على / أنه يكون بمنزلة «إلّا».
فأما ما قاله
الفراء من قوله : إن هي لمن ما ، ثم حذفت إحدى الميمات لكثرتهن ، فلا تخلو «ما»
هذه التي قدرها هاهنا من أن تكون زائدة أو موصوله ، فلا يسهل أن تكون موصولة ، لأن
التقدير يكون : لمن الذين هم جميع لدينا محضرون.
وقلت : قولى «هم
جميع لدينا» صلة «الذين» ، و «الذين» مع صلته بمنزلة اسم واحد في صلة «من» ، و «محضرون»
خبر «ما» الذي بمعنى «الذي» ، والاسم وخبره صلة «من» ، فقولك غير جائز ، لأن «من»
على هذا لم يرجع من صلته إلى شىء ، فهذا التقدير في هذه الآية غير متأتّ.
وأما قوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) ، فلا يجوز فيه ذلك أيضا ، ألا ترى أنك إن قدرت «ما» زائدة
، كان المعنى : وزخرفا وإن كل ذلك متاع الحياة الدنيا. و «الزخرف» وما قبله من
المذكور لا يكون من فى المعنى ، فلا يكون من المتاع. فهذا قول ساقط مستكره
لانكساره وتجويز مالا يجاز فيه ، حيث يوجد لتأويله مجاز ، وإن كان غير هذا الوجه
من حذف الحرف من «من» ، وحذفه غير سائغ ، لأن أقصى أحوالها أن تكون كالمتمكّنة ،
والمتمكنة إذا كانت على حرفين لم تحذف ، إنما تحذف من الثلاثة لتصير على حرفين ،
فإذا بلغ ذلك لم يكن بعده موضع حذف ، هذا على «إنّ» من غير متمكنة ، والحذف فيها
وفي ضربها غير موجود.
__________________
فأما «لدن» فهو
على ثلاثة أضرب ، وقد قلنا فيه فيما تقدم. وكذلك ما قالوه من قولهم : م الله
لأفعلن. قال العجّاج :
خالط من سلمى خياشيم وفا
موضع ضرورة ،
فأمّا ما ذكره الفراء من الحذف من «لمن ما» كالحذف من قولهم «علما».
فالذى نقول : إن
الحذف أحد ما تخفف به الأمثال إذا اجتمعت ، وهو على ضربين:
أحدهما : أن يحذف
الحرف مع جواز الإدغام كقولهم : بخّ بخّ ، فى : بخ بخ.
والآخر أن يحذف
لامتناع الإدغام في الحرف المدغم فيه لسكونه ، وإن الحركة غير متأتية فيه مثل «علما»
، أو لأن الحرف المدغم يتصل بحرف إذا أدغم فأسكن لزم تحريك ما قبله ، وهو مما لا
يتحرك ، مثل «يسطيع» ، فلا يشبه قولهم «علما» إذا أرادوا : على الماء ، ما شبهه به
لو أريد به : لمن ما ؛ لأنك لو أدغمت اللام من «على» فى التي للتعريف للزم تحريكها
، وهي ما يلزمه السكون ، ولذلك اجتلبت معها همزة الوصل ، فلما كان كذلك حذفت اللام
الأولى ، وليس كذلك «لمن ما» ، ألا ترى إن الحرف المدغم فيه هنا متحرك وليس بساكن
، فلا يشبه هذا ما شبّهه به. فإن قلت : اجعله مما ذكرته مما يحذف الحرف فيه مع
جواز الإدغام ك «بخ» قيل : هذا يمتنع من وجهين :
أحدهما : إنه
منفصل و «بخ» متصل ، والمنفصل في الإدغام ليس كالمتصل ، إذ لا يلزم لزومه ، وإن
التقدير باتصاله الانفصال ، ألا ترى أنك تظهر مثل : جعل لك ، و : قعد داود ، ونحوه
من المفصل ، ولو كان متصلا لم يجز
إلا الإدغام ،
وكما لم يستثقل اجتماع الأمثال ، لما كان التقدير بها الانفصال فى هذه الأشياء ،
كذلك لا يستثقل فى «لمن ما» اجتماع الأمثال.
وأيضا فإذا لم
يدغم مثل : «قوم موسى» ، من أدغم مثل : «جعل لك» ، لكراهية تحريك الساكن في
المنفصل ، فأن يكره الحذف أولى ، لأن التغيير بنقل حركة ثابتة في الحرف أسهل من
حذف حرف بكثير ، ألا ترى إلى كثرة ما ينقلون من الحركات للإدغام في المتصل ، وقلة
حذف الحرف للإدغام فى المتصل ، فإذا امتنعوا من الكثير الذي أنس به في المتصل كان
أن يمتنعوا من القليل الذي لم يأنسوا به في المنفصل أولى.
والآخر : أن الحذف في هذا قياسا على «بخ» لا يجوز لما أعلمتك من
قلته ، وأنا لا نعلم له مثلا فلا مساغ للحمل على هذا الضّيق القليل ، مع ما ذكرته
لك من الفصل بين المنفصل والمتصل ، وعلى أن «بخ» ليس لنا أن نقول إنه حذف ،
لاجتماع المثلين دون أن تجعله محذوفا على حدّ بناء جاء على علّته غيره من ذوات
الثلاثة المحذوفة ، لأنها كحذف «دد» ونحو ذلك ، فقول الفراء في هذا فاسد في المعنى
من حيث أريتك ، وفي اللفظ لما ذكرته من امتناع حذف «من» قبل الإدغام وبعد الإدغام.
وقول المازني أيضا ليس بالجيد ، لأن الحروف يخفف مضاعفها ، ك «أن» و «ربّ» ، ونحو
ذلك ، ولا ينقل إلى أنه أقرب إلى الصواب ، لأن الدخل فيه من جهة اللفظ دون المعنى
، فأما ما حكوه من كون «لما» / بمعنى «إلا» فمقبول ، ويحتمل أن تكون الآي الثلاث
عليه ، كما أعلمتك ، وتكون «إن» النافية.
قال : وقد رأينا
نحن في ذلك قولا لم أعلم أحدا تقدّمنا فيه ، وهو أن تكون «لما» هذه في قول من شدد
في هذه الآي «لم» النافية دخلت
__________________
عليها «ما»
فهيأتها للدخول على ما كان يمتنع دخولها عليه قبل لحاق «ما» لها ، ونظير ذلك :
إنما أنذركم بالوحى ، ولعلّما أنت حالم ، وما أشبهه ، وربما أوفيت.
ألا ترى أنها هيأت
الحرف للدخول على الفعل ، فكأنه في التقدير : إن كل نفس لمّا عليها ، أي : ليس كل
نفس إلا عليها حافظ ، نفيا لقول من قال : كل نفس ليس عليها حافظ ، أي : كل نفس
عليها حافظ.
ف «إن» على هذا
التقدير تكون النافية الكائنة بمعنى «ما» ، والقراءة بالتثقيل على هذا تطابق
القراءة بالتخفيف ، لأن المعنى يؤول إلى : كل نفس عليها حافظ ، مثل قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ) إلا أنه أكّد ب «إن» ، والقراءة بالتخفيف «لما» أسهل مأخذا
وأقرب متناولا.
وأما تقدير قوله :
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) كأنه قيل : كل ما جميع لدينا محضرون ، على ما كانوا
ينكرونه من أمر البعث حتى حمل عظيم إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ فقيل له
: أترى الله يحيى هذا بعد ما رمّ؟ وكما حكى في التنزيل من قولهم: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) فى كثير من الآي تحكى عنهم أنهم ينكرون فيها البعث ، فقيل
لهم : كل ما جميع لدينا محضرون ، نفى لقولهم : كلهم ليس يجمعون عند الله ولا
ينشرون.
__________________
وأما قوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ
الْحَياةِ) فكأنه قيل : كل ذلك ليس متاع الحياة الدنيا ، فنفى ذلك بأن
قيل : ليس ذلك ليس متاع ، وإذا نفى أنه كله ليس متاع الحياة الدنيا ، أي : ليس شىء
من ذلك للكافر يقرّبه إلى الله وإلى الدار الآخرة إنما هو متاع الدنيا والعاجلة.
وأما قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً
لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قيل : التقدير : ما كنا فاعلين ، وليست «إلا» معها.
فأما قوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) على أنه لا ولد له. وقيل : إن كان للرحمن ولد على الشرط
فأنا أول العابدين ، على أنه لا ولد له صح وثبت ، ولا يكون ذلك أبدا كما قال عيسى
: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ
فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أي إن صح وثبت أنى كنت قلته فيما مضى فقد علمته.
__________________
الثاني والأربعون
هذا باب ما جاء في التنزيل من المفرد ويراد به الجمع
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ) ، يعنى : الكتب ، لأنه لا يجوز أن يكون لجميع الأولياء
كتاب واحد.
وقال : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ) فيمن قرأه هكذا ، يريد : وكتبه.
وقال : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
وَكُتُبِهِ) أي : وكتبه.
فأما قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) «فالطاغوت» يقع
على الواحد وعلى الجمع ، وأراد به الجمع هنا.
وقال في الإفراد :
(يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) جاء في التفسير أنّه أراد : كعب بن الأشرف.
وقال في موضع آخر
: (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) أراد به الأصنام ، و «أن» فى موضع النصب بدل من الطاغوت ،
أي : اجتنبوا عبادتها ، هو في الأصل مصدر «طغى» ، وأصله : طغيوت ، على : فعلوت ،
مثل : الرهبوت ، والرحموت ، فقدم الياء وأبدل منها الفاء فصار طاغوت.
__________________
ومن ذلك قوله تعالى
(لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) لفظه لفظ المفرد ومعناه «الجنس» ، ألا ترى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) يدل على صحة هذا : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) .
«الذين» مبتدأ
وخبره «فلهم أجر غير ممنون» فهذا لا يصح في سورة «العصر» إذ لا خبر بعده.
ومن ذلك قوله
تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سامِراً) ، أي : سمارا ، لقوله «مستكبرين» قبله ، وبعده «تهجرون» :
فالسامر كالباقر ، والحامل ، عند أبى علىّ.
ومثله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) . عند أبى على ،
وعلى هذا حمل أيضا
قوله : / (عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ) فيمن أسكن الياء ، فقال: يكون «ثياب سندس» مبتدأ ، على قول
سيبويه ، و «عاليهم» خبر مقدم. وزعم أنه بمنزلة قوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ) وهذا لعلة نظره فيما قبل الآية لقوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ) الا ترى أنه يجوز أن يكون «عاليهم» صفة له.
قال : ومثله : «دابر».
من قوله (فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) .
قال : ينبغى أن
يكون «دابر» فاعلا ، من باب : الحامل ، والباقر ، على تفسير معمر إياه ب : آخر
القوم الذي يدبرهم.
قوله في موضع آخر
: (وَقَطَعْنا دابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) فقال: «وما كانوا» فجمع الضمير.
__________________
فإن قلت : يكون
الضمير عائدا على «الذين كذبوا» ، وهو جمع.
قيل : هذا يبعد ،
لأن «الذين كذّبوا بآياتنا» معلوم أنهم غير مؤمنين ، فإذا لم يجز هذا ثبت أن
الضمير يعود إلى «الدابر» ، وإذا عاد اليه ثبت أنه جمع ، و «الدابر» يجوز أن
يكونوا مؤمنين ، ويجوز أن يكونوا كافرين ، مثل «الخلف» ، ويصح الإخبار عنهم بأنهم
كانوا مؤمنين.
ومن ذلك قوله : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ) أي : الكفار ، فيمن ، أفرد أراد الجنس ، ومنه : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) . أي : على معصية ربه ظهيرا.
وأما قوله تعالى :
(وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) . «فالفلك» اسم يقع على الواحد والجمع جميعا.
قال في المفرد : (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) .
وقال في الجمع : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ) . فقال : «وجرين» ، فجمع ، وهو في الجمع مثل : أسد ، وفي
المفرد مثل : قفل.
ومن ذلك «أحد» فى
قوله : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) .
وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً) . أي : أنفسا.
وقال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) . أي : رفقاء.
وقال : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : أطفالا.
__________________
وقال : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً) . أي : وكلاء.
وقال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي : أعداء.
وقال : (خَلَصُوا نَجِيًّا) . أي أنجية.
وقال : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ) . أي : أصدقاء.
__________________
الثالث والأربعون
هذا باب ما جاء في التنزيل من المصادر المنصوبة بفعل مضمر دل عليه ما قبله
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَقالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ) ، أي : نسألك غفرانك ، ونستغفر غفرانك ، واغفر لنا غفرانك.
ومن ذلك قوله
تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) . أي : لأثيبنهم ثوابا ، فدل على ذلك «لأكفرن».
ومثله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) إلى قوله : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) . لأنه يدل على : أنزلهم إنزالا.
ومن ذلك قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) ، لأن قوله : «وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله» دل على أنه كتب ذلك ، أي : كتب ذلك عليهم كتابا مؤجلا.
ومن ذلك قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) لأن قبله (حُرِّمَتْ) ، وقد نقدم ذلك.
ومن ذلك قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ
الْحَقِّ) فيمن نصب ، أي : أقول قول الحق.
ومنه قوله تعالى :
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) لأن معنى «تهجد» «وتنفل» واحد.
__________________
ومن ذلك قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) . لأن معنى هذه الجملة : صنع الله ذلك صنعا.
ومثله قوله : (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ) لأن معنى «ينصر» و «يعد» واحد.
ومثله ، (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ) لأن ما قبله يدل على «يعد الله».
فهذا قياس ما يرد
عليك مما قد فاتنى منه ، والله أعلم.
وأما قوله تعالى :
(اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) . أي : استكبروا ومكروا المكر السيء ، ألا ترى أن بعده ، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ) كما أن «السيء» صفة «للمكر» ، كذلك الذي قبل ، تقديره :
ومكر المكر السيئ. وكذلك : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) . أي : مكروا المكرات ، السيئات فحذف الموصوف هذا وأقام
صفته ، فوقعت الإضافة إليه ، كما تقع على موصوفه الذي هو المصدر ، وأجرى مجراه.
__________________
الباب الرابع والأربعون
هذا باب ما جاء في التنزيل من دخول لام «إن» على اسمها
وخبرها أو ما اتصل بخبرها ، وهي لام الابتداء دون القسم.
وقد تقدم على ذلك
أدلة ، وهي تدخل على خبر «إنّ» أو ما يقع موقعه ، أو على اسم «إنّ» إذا وقع الفصل
بين «إنّ» ، / واسمها.
فمن ذلك قوله
تعالى (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) فإذا دخل على الاسم لما وقع الفصل بينها وبين اسمها.
وقال : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عابِدِينَ) .
وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) ، فأدخل على الخبر.
وقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) .
وقال : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) .
وقال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) .
وقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) .
__________________
فأدخل على الفضلة
الواقعة قبل الخبر.
وقال : (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
وقال : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) .
وقال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ) .
وقال : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) و (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) .
وأما قوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، فإنك لو جعلت «فى أم الكتاب» خبرا كنت أدخلت اللام على
الخبر الثاني ، والأحسن من ذلك أن تدخل على الخبر الأوّل ، فوجب أن يكون قوله «فى
أم الكتاب» ظرفا متعلقا بالخبر لا خبرا.
وأما قوله تعالى :
(إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فيمن أضمر ، لأن لو جعل «ان» بمعنى «نعم» فإنه قد أدخل
اللام على خبر المبتدأ ، لأن «هذان» فى قولهما ابتداء ، واللام لا تدخل على خبر
الابتداء ، وإنما تدخل على المبتدأ ، وإدخالها على الخبر شاذ ، وأنشدوا فيه :
أمّ الحليس
لعجوز شهر به
|
|
ترضى من اللحم بعظم
الرّقبه
|
وقد تقدم ما هو
الاختيار عندنا. وتختص هذه اللام بباب «إن» وشبهوا ب «إن» «لكن» ، وأنشدوا.
__________________
و لكنّنى من حبها لعميد
وهذا حديث يطول ،
وفيما ذكرناه كفاية.
فأما قوله تعالى :
(وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) فإن قوما من النحويين أنكروا أن يدخل الصلة قسم ، كما ذهب
إليه أبو عثمان ؛ لأن الفراء حكى ذلك ، وقال : فاحتججنا عليه بقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) بهذا ما أشار اليه في كتاب «الأخبار» فى قوله : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ) وكان الوجه الذي ذهبوا لأجله إلى ذلك القسم جملة ليس لها
بالصلة ولا بالموصول التباس ، فإذا لم يلتبس لم يجب ان يفصل بها ، ألا ترى أنّ :
والله ولعمرك ، ونحوهما في نحو «الذي» والله ، لا تعلق له بالموصول ، / فلما رأوه
كذلك لم يجيزوا ، والجواب عن ذلك أنه ينبغى أن يجوز من وجهين :
أحدهما : أن القسم
بمنزلة الشرط والجزاء ، وكما يجوز أن يخلو الشرط مما يعود إلى الموصول ، إذا عاد
إليه من الجزاء ، كذلك يجوز أن يخلو القسم من الراجع.
والوجه الآخر : أن
القسم تأكيد وتسديد ل «ما» الصلة ، وإذا جاز الفصل فيها والاعتراض من حيث كان
تسديدا للقصة ، نحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فالفصل بين القسم وبينه أجدر وأقيس ، لما ذكرناه من شبهه
بالجزاء والشرط ، مع أن فيه ما ذكرناه من تسديد القصة ، فهذا وجه الجواز.
__________________
فهرست أبواب القسم الثاني
من
إعراب القرآن
فهرست أبواب القسم الثاني
من
إعراب القرآن
الباب المتم العشرين : ما جاء في التنزيل من حذف المفعول
والمفعولين أمر تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول ، وأحوال الأفعال المتعدية
إلى مفعوليها وغير ذلك مما يتعلق به.......................................... ٤٠٥
ـ ٥١٠
الباب الحادي والعشرون : ما جاء في التنزيل من الظروف التي
يرتفع ما بعدهن بهن على الخلاف ، وما يرتفع ما بعدهن بهن على الاتفاق ، وهو باب
يغفل عن كثير من الناس............................................ ٥١١
ـ ٥٣٨
الباب الثاني والعشرون : ما جاء في التنزيل من «هو» و «أنت»
فصلا ، ويسميه الكوفيون بالعماد ٥٣٩ ـ ٥٥١
الباب الثالث والعشرون : ما جاء في التنزيل من المضمرين إلى أي
شيء يعود مما قبلهم ٥٥٢ ـ ٥٧٦
الباب الرابع والعشرون : ما جاء في التنزيل وقد أبدل الاسم من
المضمر الذي قبله والمظهر على سبيل إعادة العامل ، أو تبدل «إن» «وأن» مما قبله.................................................................. ٥٧٧
ـ ٥٩٥
الباب الخامس والعشرون : ما جاء في التنزيل من الكلمات التي
فيها همزة ساكنة ، يترك همزها أبو عمرو وما لا يترك همزها ٥٩٦ ـ ٥٩٨
الباب السادس والعشرون : ما جاء في التنزيل من العطف على الضمير
المرفوع ، وقد أكد بعضه ذلك وبعضه لم يؤكد ٥٩٩
ـ ٦٠٣
الباب السابع والعشرون : ما جاء في التنزيل لحقت «إن» التي
للشرط «ما» ، ولحقت النون فعل الشرط ٦٠٤
ـ ٦٠٨
الباب الثامن والعشرون : ما جاء في التنزيل عقيب اسمين كنى عن
أحدهما اكتفاء بذكره عن صاحبه ٦٠٩ ـ ٦١٢
الباب التاسع والعشرون : ما جاء في التنزيل صار الفصل فهو عوضا
عن نقصان لحق الكلمة ٦١٢ ـ ٦١٥
الباب المتم الثلاثين : ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفظ
على المعنى وحكم عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ ٦١٦ ـ ٦٢٩
الباب الحادي والثلاثون : ما جاء في التنزيل من حذف «أن» وحذف
المصادر ، والفصل بين الصلة والموصول ٦٣٠ ـ ٦٤٧
الباب الثاني والثلاثون : ما جاء في التنزيل من حذف حرف النداء
والمنادى..... ٦٤٨ ـ ٦٥٢
الباب الثالث والثلاثون : ما جاء في التنزيل قد حذف منه المضاف
إليه........ ٦٥٣ ـ ٦٥٨
الباب الرابع والثلاثون : ما جاء في التنزيل من حروف الشرط دخلت
عليه اللام الموطئة للقسم ٦٥٩ ـ ٦٦٣
الباب الخامس والثلاثون : ما جاء في التنزيل من التجريد..................... ٦٦٤ ـ ٦٦٦
الباب السادس والثلاثون : ما جاء في التنزيل من الحروف الزائدة
في التقدير وهي غير زائدة في تقدير آخر ٦٦٧
ـ ٦٧٤
الباب السابع والثلاثون : ما جاء في التنزيل من التقديم
والتأخير وغير ذلك..... ٦٧٥ ـ ٧٣٥
الباب الثامن والثلاثون : ما جاء في التنزيل من اسم الفاعل الذي
يتوهم فيه جريه على غير من هو له ، ولم يرد فيه الضمير ، وربما احتج به الكوفيون............................................................. ٧٣٦
ـ ٧٤٠
الباب التاسع والثلاثون : ما جاء في التنزيل نصبا على المدح
ورفعا عليه........ ٧٤١ ـ ٧٤٢
الباب المتم الأربعين : ما جاء في التنزيل من المبتدأ المحذوف
خبره.............. ٧٤٣ ـ ٧٤٩
الباب الحادي والأربعون : ما جاء في التنزيل من «إن» المكسورة
المخففة من «إن» ٧٥٠ ـ ٧٦٢
الباب الثاني والأربعون : ما جاء في التنزيل من المفرد ويراد به
الجمع............ ٧٦٣ ـ ٧٦٦
الباب الثالث والأربعون : ما جاء في التنزيل من المصادر
المنصوبة بفعل مضمر دل عليه ما قبله...... ٧٦٧
ـ ٧٦٨
الباب الرابع والأربعون : ما جاء في التنزيل من دخول لام «إن»
على اسمها وخبرها أو ما يتصل بخبرها وهي لام الابتداء دون القسم..................................................................... ٧٦٩
ـ ٧٧١
|