


مقدّمة الناشر
يعدّ أبو المعالي
محمد بن إسحاق القونوي (٦٠٧ ـ ٦٧٢) من أبرز تلامذة وشارحي آراء وأفكار الشيخ محيي
الدين بن عربي ، فكان ـ على ما قيل ـ قد التقى بابن عربي وهو في سنّ الثانية عشرة
ولازمه ولم يفارقه أبدا حتّى الوفاة ؛ ولذلك فقد تلقّى منه العلوم ونقلها مباشرة
إلى تلامذته.
وبما أنّه كانت له
علاقة بابن سبعين حيث كان يختلف إليه ويجالسه فيمكن القول : إنّ القونوي في أفكاره
عن وحدة الوجود كان قد تأثّر بهذين العارفين ، أعني ابن عربي وابن سبعين. وكان
لصدر الدين القونوي علاقة مع كبار العلماء والعارفين من أمثال المحقّق نصير الدين
الطوسي وسعد الدين الحموي وملّا جلال الدين الرومي وأوحد الدين الكرماني. كما له
تلامذة من قبيل سعد الدين الفرغاني وفخر الدين العراقي وعفيف الدين التلمساني وقطب
الدين الشيرازي الذين تعاهدهم وقام بتربيتهم.
ولذيوع صيته
وشهرته فقد اختاره «مولانا» من بين علماء قونيه لإقامة صلاة الميت عليه وإنفاذ
وصيّته.
لصدر الدين
القونوي آثار كثيرة ، أهمّها وأشهرها «مفتاح الغيب» ، «النفحات الإلهية» ، «الفكوك»
، «النصوص» ، «شرح أربعين حديثا» و «تفسير فاتحة الكتاب» المعروف ب «إعجاز البيان
في تأويل أمّ القرآن» وهو الكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ.
وقد ذكر صدر الدين
القونوي في مقدمة الكتاب أنّه نقل كلمات المفسّرين والمفكّرين وغيرهم ، وقصد بذلك
بيان بعض أسرار أمّ الكتاب. وبناء على ذلك يتّضح أنّه لم يقصد تفسير
سورة الفاتحة ، بل
ما ذكره يكون تأويلا.
وفرق واضح بين
التفسير والتأويل ، فلكلّ منهما أسلوبه المخالف للآخر في فهم القرآن الكريم. ففي
مقدّمة تفسير القرآن لمحيي الدين بن عربي ـ الذي يحتمل قويا أن تكون هي تأويلات
عبد الرزاق الكاشاني ـ جاء ما مضمونه : «الذي في هذا الكتاب هو تأويل القرآن لا
تفسيره».
وقد قام صدر الدين
القونوي في هذا الكتاب ـ كما في سائر آثاره العرفانية ـ بتأويل الآيات القرآنية
الشريفة.
وقد تأثّر بأسلوبه
بعض العرفاء من قبيل صدر الدين الشيرازي والإمام الخميني في تفاسير هم لسورة
الفاتحة والقدر والتوحيد.
لقد طبع هذا
الكتاب سابقا في حيدرآباد دكن في الهند ، وطبع في قم على الأوفست من نسخة
حيدرآباد.
والآن قامت مؤسسة «بوستان
كتاب» التابعة لمركز النشر في مكتب الإعلام الإسلامي بالإعداد لطبع هذا الكتاب ـ
بعد أن عهد إليها السيد جلال الدين الآشتياني الذي قام بتصحيح الكتاب ومقابلته مع
النسخ المتعدّدة ـ بمهمّة طبع الكتاب ومقابلة التجارب المطبعية المختلفة وإعداد
الفهارس اللازمة التي تسهّل على الباحث الوصل إلى المباحث القرآنية في الكتاب. ولا
يفوتنا هنا أن نتقدّم بشكرنا الجزيل إلى كلّ الإخوة الأفاضل الذين ساهموا في إنجاز
الكتاب. لا سيّما فضيلة الشيخ أحمد عابدي الذي تولّى ضبط عبارات الكتاب ووضع
علامات الترقيم على النصوص.
نتمنّى للجميع
التوفيق والعافية للسيد الجليل الأستاذ الآشتياني طول العمر خدمة لدين الله تعالى
ونشر أفكار وتعاليم محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين.
|
مؤسسة بوستان كتاب قم
(مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية بقم المقدّسة)
محرم الحرام ١٤٢٣ إسفند سنة ١٣٨٠
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
وصلّى الله على
المصطفين من عباده ، خصوصا سيّدنا محمد وآله ، يا ربّ أنعمت فتمّم ، وأظهرت فعمّم.
الحمد لله الذي
بطن في حجاب عزّ غيبه الأحمى ، فأبهم وستر ، وشمل وظهر وتجلّى ، ففهّم وأظهر ،
وجمل وعلم ، وشاء الإنشاء فأبرم ، ودبّر ، وفصّل وقدّر ، فقضى وحكم وأمر ، فعدل ،
وخلق فسوّى ، فقوّم وصوّر ، وعدل ، وقدّر من كمّله من الأناسيّ على صورة حضرته ،
وحباه بأحسن تقويم ، فيا أحسن ما حبا وأنعم ، وقدّر وكمّل ، وملّكه أزمّة الأمور ومقاليد البيان ، فأبدى
ما كتم وستر وأجمل ، فكان إماما حاويا مبينا ، وخازنا حاميا أمينا على حضرة الجمع والأسرار ، وأمّ
الكتاب الأكبر ، معدن الظلّات والأنوار ، فما أعلى وأعظم وأنور وأجمل!
أحمده سبحانه حمده
نفسه عن نفسه وعبده بلسان جمعه وأحديّة ودّه ؛ إذ هو الحمد الأسنى الأعمّ الأظهر
الأشمل.
وأشكره شكر من
يرتجي أن يكون ممّن يرى النعمة منه به ، مع تيقّن العجز وشهوده من مقام الحمد
المذكور ؛ إذ هو الشكر الأسمى الأتمّ الأخطر الأفضل.
وأسأله تعالى
استمرار صلواته ، ودوام ورود الطيّبات من تحيّاته ، من أشرف أسمائه لديه ، وأعلى
تجلّياته ، على سيّدنا محمد وآله ، والصفوة من أمّته الوارثين لعلومه ومقاماته
__________________
وأحواله . مرتجيا من إحسانه الإسعاف والإجابة ؛ فإنّه أجود من سئل
فأجاب وسخا وتكرّم وبرّ وبذل.
__________________
رشح بال بشرح حال
اعلموا معاشر
الإخوان الإلهيّين خاصّة ، والمؤمنين بهم وبأحوالهم والمحبّين لهم عامّة ـ فإنّكم
قبلة هذه المخاطبة العليّة ، ومحلّ هذه التحفة السنيّة ـ ، أنّ الله سبحانه منح
عبده من عين منّته ، بسابق إحسانه وعنايته ، بعد التحقّق بمعرفته وشهوده من علم الأسماء
والحقائق ، وأسرار الوجود والخلائق ، ما شاء وأحبّ ، حسب القبول والأهليّة ، وخلوص
التوجّه لدى التعرّض للنفحات الإلهيّة وصفاء النيّة ، لا على مقدار جوده ؛ فإنّه أعظم من أن
ينحصر أو يتقيّد ، أو ينتهي إلى غاية فيحدّ ، فكان من جملة ما منّ به أن أطلعه على
بعض أسرار كتابه الكريم ، الحاوي على كلّ علم جسيم ، وأراه أنّه أظهر عن مقارعة
غيبيّة واقعة بين صفتي القدرة والإرادة ، منصبغا بحكم ما أحاط به العلم في المرتبة
الجامعة بين الغيب والشهادة ، لكن على نحو ما اقتضاه الموطن والمقام ، وعيّنه حكم
المخاطب وحاله ووقته بالتبعيّة والاستلزام ، فالكلام وإن كان مجرّدا من حيث حقيقته
، فإنّه لجمعه حكم الصفتين المذكورتين في طريقته ، وتوقّف ظهوره في عالم الشهادة
عليهما ، هو كالمركّب منهما.
فأمّا نسبته من
الإرادة فإنّه مقصود المتكلّم وسرّ إرادته ، ومظهر وموصل وجامع ، ولهذا يبرز ما كمن في باطن المتكلّم إلى كلّ مخاطب وسامع.
__________________
وأمّا نسبته من
القدرة فمن حيث كونه من باب التأثير الإلهي والكوني آلة ، ولهذا كان الإيجاد
موقوفا على قول «كن» معنى أو صورة أو هما معا لا محالة ، واشتقّ له اسم من الكلم ـ
وهو التأثير ـ تنبيها على هذا السرّ الخطير.
ثمّ سرى الحكم في
كلّ كلام صادر من كلّ متكلّم أن لا يظهر إلّا بحكم النسب المذكورة ، منصبغا بما
انطوت عليه السريرة ، واقتضاه حكم الصفة الغالبة على المتكلّم حين الكلام والسيرة
، وسيتلى عليك من أخباره ، ما يكشف لك عن سرّ مراتبه وأحكامه وأسراره .
ثمّ إنّ الحقّ ـ
سبحانه وتعالى ـ جعل العالم الكبير الأوّل من حيث الصورة كتابا حاملا صور أسماء
الحقّ وصور نسب علمه المودع في القلم الأسمى ، وجعل الإنسان الكامل ـ الذي هو
العالم الصغير من حيث الصورة ـ كتابا وسطا جامعا بين حضرة الأسماء وحضرة المسمّى ،
وجعل القرآن العزيز [شارح] خلق المخلوق على صورته ، ليبيّن به خفيّ سيرته ، وسرّ
سورة مرتبته ، فالقرآن العزيز هو النسخة الشارحة صفات الكمال الظاهر بالإنسان ،
والفاتحة نسخة النسخة القرآنيّة من غير اختلال ولا نقصان ؛ وكما أنّ كلّ نسخة
تالية هي مختصرة الأولى ، كذلك كانت الفاتحة آخر النسخ العلى.
والكتب الإلهيّة
الكليّة خمسة على عدد الحضرات الأول الأصليّة.
فأوّلها الحضرة
الغيبيّة العلميّة النوريّة المحيطة بكلّ ما ظهر ، ولها المعاني المجرّدة والنسب
الأسمائيّة العلميّة.
وتقابلها حضرة
الظهور والشهادة ، ولها ظاهر الوجود الكوني ـ المسمّى بالكتاب الكبير ـ وسائر
التشخّصات الصوريّة.
وحضرة الجمع
والوجود والإخفاء والإعلان ، ولها الوسط ، وصاحبها الإنسان.
وعن يمين هذه
الحضرة الوسطى حضرة بينها وبين الغيب المتقدّم ، نسبتها إليه أقوى وأتمّ ، وكتابها
عالم الأرواح واللوح المحفوظ المصون الملحوظ.
وعن يسارها حضرة
نسبتها إلى الاسم الظاهر ـ مرتبة الشّهادة ـ أقرب ، وهي مستوى الصحف المنزلة على
الأنبياء والكتب.
__________________
فالكتب الأربعة
المذكورة جداول بحر أحكام مرتبة الإنسان المستورة ، وباقي المراتب الوجوديّة
التفصيليّة يتعيّن فيما بين هذه الأمّهات العلويّة ، فإنّه عليها تترتّب أحكام
النسب الأصليّة ، وما يتبعها من الأسماء المتصرّفة في العوالم الملكيّة
والجبروتيّة والملكوتيّة ، وأشخاص الموجودات مظاهر دقائق الأسماء والصفات.
فمن كان مظهرا
لإحدى هذه المراتب الخمس ، قربت نسبته منها في حضرة القدس ؛ فإنّ حكم تلك المرتبة
الأصليّة فيه يكون أظهر وأبين ، ونسبة كلامه وما يخاطب به من جهة الحقّ من حيث تلك
المرتبة أشدّ وأمكن.
ولكلّ مرتبة من
هذه الخمس كمال ربّاني يبدو حكمه ويدوم بحسب قبول مظهره الإنساني.
ومن كان مقامه
نقطة وسط الدائرة وسلم من الأطراف الجائرة كنبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله ، فإنّ كلامه يكون أعمّ حكما ، والتنزيلات الواردة عليه
أعظم إحاطة ، وأجمع علما ؛ لاستيعابه أحكام المراتب وحيطته لها ، فليس يخرج شيء عن
حكم مقامه وقبضته.
ولهذا المقام
أسرار سترت بإقرار وإنكار ، وأقرّت في منزلها ؛ خوفا من إظهارها في غير وقتها ،
وقبل بلوغ محلّها ، ولو جاز إفشاؤها لأبرزت إليكم ، وتليت آياتها عليكم ، ولكن سرّ
قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ـ ولم يقل : ما
نزّل إليك ، ولا كلّ ما أنزل عليك ، وغير ذلك من الإشارات الإلهيّة والحكم ـ منع
من التصريح بما هنالك ، فوجب اعتبار التنبيه الإلهي ، والوقوف عند ذلك.
ثمّ إنّه لمّا وقف
العبد على خزائن هذه الأسرار ، واستجلى منها ما شاء الله عند رفع الأستار ، لم يجد
إلّا من جانب الحقّ لإظهار ما جاد به ؛ باعثا يوجب الإفادة
والإخبار ، ولا رغبة ـ بحمد الله ـ إلى طلب الظهور بالإظهار ، فرجّح السكوت
والكتمان ، وغلّب بالتوفيق الإلهي حكم الإخفاء على الإعلان. ولم يزل هذا حاله إلى
أن جدّد له الحقّ داعية العزم كرّة أخرى ، من حيث السفر فيه على التوجّه إليه ،
والتعرّض لنفحات جوده ، والإقبال
__________________
بوجه القلب عليه ،
ومنحه عند ذلك التوجّه لا به فتحا جديدا ، وجعل بصر بصيرته به ـ لا بالفتح ـ حديدا
وقيامه بحقّ شكر نعمته من غاية العجز قعودا ، وضمن من هذا الفتح أيضا من أسرار علم كتابه ما فتح به مغاليق كثيرة من أبوابه ، ثم حرّك الباطن لإبراز نبذ من تلك
الأسرار إلى إخوانه الإلهيّين والأبرار بداعية لائحة بركتها ، مرجوّ من فضل الله
الأمن [من] غائلتها ، فاستخار العبد ربّه في إمضاء تلك الداعية ، رجاء أن يجعل
لها عنده ثمرة صالحة ، وكلمة باقية ، واستفتح باسم الله.
__________________
الكلام على فاتحة الكتاب
والتعريف ببعض ما
تحويه من لباب الحكم والأسرار الذي هو غذاء أرواح أولي الألباب ؛ لموجب سرّ خفيّ ،
وحكم أمر جليّ ونسب عليّ.
قال العبد : وقد
عزمت ـ بعون الله ـ أن أسلك في الكلام ـ بعد الإعراض عن البسط والإطالة ـ باب
الإشارة والإيماء ، والجمع بين لساني الكتم والإفشاء ، مقتديا بربّي الحكيم العليم
، ومتّبعا ـ بمشيّته ـ صراطه المستقيم ، فإنّه سبحانه هكذا فعل في كلامه ولا سيّما
في هذه السورة ، فأدرج فيها مع الإيجاز علم كلّ معنى وصورة.
وأرجو ـ إن شاء
الله ـ أن لا أمزج الكلام بنقل أقاويل المفسّرين ، ولا الناقلين المتفكّرين وغير
المتفكّرين ، غير ما يوجبه حكم اللسان ، ويستدعيه من حيث الارتباط الثابت بين
الألفاظ والمعاني التي هي قوالب لها وظروف ومغان
بل أكتفي بالهبات
الإلهيّة الذاتيّة عن آثار الصفات المكتسبة والعواريّ ؛ سائلا ربّي أن يجعل حلية
دثاري ، وخلعة شعاري عساي أثبت في جريدة عبيد الاختصاص ، وأمنح في كلّ الأمور الخلاص من شرك الشرك ، والإخلاص ، والله سبحانه بكلّ خير
مليّ ، وبالإجابة والإحسان أهل ووليّ.
وبعد ، فاعلموا ـ
فهّمكم الله ـ أنّ كلّ ما له مبادئ وأسباب وعلل فإنّ تحقّق العلم به إنّما يحصل
بمعرفة أسبابه ومبادئه والوقوف من أصوله وأسبابه عليه.
ولمّا كان القصد
من إنشاء هذا المختصر بيان بعض أسرار الفاتحة المسمّاة بأمّ القرآن
:
__________________
ـ أي أصله ـ كان
الأولى أن يقع الشروع في الكلام على الأصل من أصله.
ولهذا الكتاب ـ
أعني القرآن العزيز ـ من كونه ينطق به ويكتب حروف تتركّب من حرفين إلى خمسة أحرف
متّصلة ومفردة ، فيظهر بنظمها عين الكلمة ، وبنظم الكلمات عين الآيات ، وبنظم
الآيات عين السور ؛ فهذه الأركان الأربعة التي هي : الحروف ، والكلمات ، والسور ،
والآيات مظاهر الكلام الغيبي الأحدي ، ومنازل ظهوره ، وجداول بحره ، وأشعّة نوره.
وهي ـ أي الأركان ـ
وإن كانت مبادئ الكلام من حيث مرتبتي اللفظ والكتابة ، فهي فروع لما فوقها من
الأصول التي لا يتحقّق بمعرفتها إلّا من اطّلع على سرّ الحضرات الخمس المشار إليها
[آنفا] ، وسرّ الظهر والبطن والحدّ والمطلع ؛ فلهذا وسواه احتجت أن أنبّه على هذه
الأصول وأبيّن سرّ الكتاب والكتابة والكلام والحروف والكلمات وغير ذلك من المبادئ
والأسباب والتوابع المهمّة ، واللوازم القريبة.
ولمّا كان الكلام في
التحقيق نسبة من نسب العلم ، أو حكما من أحكامه أو صفة تابعة له كيف قلت ، وجب
عليّ ؛ لما التزمته ، التنبيه على سرّ العلم ومراتبه ومتعلّقاته الكلّيّة الحاصرة ، وأحكامه وموازينه ، وطرقه وعلاماته ، ومظاهره التي هي
محلّ أشعّة أنواره ، كما ستقف على جميع ذلك إن شاء الله تعالى.
فأنا أقدّم أوّلا
تمهيدا مشتملا على قواعد كلّيّة أذكر فيها سرّ العلم ، ومراتبه ولوازمه المذكورة ،
وسرّ المراتب الأولى الأصليّة الأسمائيّة والمراتب التالية لها في الحكم ، وسرّ
الغيبين : المطلق والإضافي ، وسرّ الشهادة وانفصالها من الغيب ، وتعيّن كلّ منها
بالآخر ، وعلم مراتب التميّز الثابت بين الحقّ وبين ما سواه ، وعلم مقام الاشتراك
الواقع بين مرتبتي الحقّ ، والكون ، وأحكامه وأسراره ، وسرّ النفس الرحماني
ومرتبته وحكمه في العالم ـ الذي هو الكتاب الكبير ـ بالنسبة إلى الأعيان الوجوديّة
، التي هي الحروف والكلمات الربّانيّة والحقائق الكلّيّة الكونية ، من حيث إنّه أمّ الكتاب الأكبر وبالنسبة إلى المقام
الإنساني وحروفه وكلماته ، وسرّ بدء الإيجاد وانبعاث الصفة الحبّيّة وسرّ الغيرة ،
والتقسيم الظاهر من
__________________
المقام الأحدي
وعلم الحركة والقصد والطلب ، وعلم الأمر الباعث على الظهور والإظهار ، وعلم الكمال
والنقص ، وعلم الكلام والحروف والمخارج ، والنقط والإعراب ، ومراتبها الكلّيّة ،
وعلم الإنشاء والتأثير ، وسرّ الجمع والتركيب والكيفيّات الفعليّة والانفعاليّة ،
وسرّ التصوّرات الإنسانيّة ومراتبها ، وعلم الإفادة والاستفادة وعلم أدوات التفهيم
والتوصيل ، وسرّ البعد والقرب ، وسرّ الحجب المانعة من الإدراك ، وسرّ الطرق
الموصلة إلى العلم ، وأقسامه وعلاماته وأسبابه ، وسرّ الوسائط وإثباتها ورفعها ،
وسرّ سريان أحكام المراتب الكلّيّة بعضها في البعض ، وكذا ما تحتها من الجزئيّات
بحسب ما بينها من التفاوت في الحيطة والتعلّق الحكمي ، وبيان التابعة اللاحقة
التفصيليّة للمتبوعة السابقة الكلّيّة ، وسرّ المناسبات ، وسرّ التبدّل والتشكّل
والالتئام ، وعلم الأسماء وأسماء الأسماء ، وعلم النظائر الكلّيّة ، وسرّ المثليّة
والمضاهاة والتطابق بسرّ تبعيّة التالي للمتلوّ وبالعكس ، وذلك بالنسبة إلى الكتب
الإلهيّة التي هي نسخ الأسماء ، ونسخ الأعيان الكونيّة ، وما اجتمع منهما وتركّب
ممّا لا يخرج عنهما ، وسرّ مرتبة الإنسان الكامل ، وما يختصّ به بحسب ما يستدعيه الكلام عليه من كونه كتابا ونسخة جامعة ، وسرّ
الفتح والمفاتيح الحاكمة في الكتابين : الكبير والمختصر ، وما فيهما وما يختصّ من ذلك بفاتحة الكتاب ، وسرّ القيد والتعيّن
والإطلاق ، وسرّ البرازخ الجامعة بين الطرفين وخواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع
الكلم والأسرار الإلهيّة ، هكذا إلى غير ذلك ممّا ستقف عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّي
لا أستحضر ما يسّر الله لي ذكره على سبيل الحصر ؛ لعدم التتبّع والتأمّل
والجمع النقلي والتعمّل ، ولهذا لم أسلك في إيراد هذه الترجمة ـ التي متعلّقها
الكلّيّ هذا التمهيد المقدّم ـ الأسلوب المعهود الذي جرت العادة أن يسلك في فهرست
الفصول والأبواب المقدّم ذكرها في أوّل الكتاب .
ثمّ اعلم أنّ
الكلام على سائر ما ذكرت ترجمته إنّما يرد على سبيل التنبيه الإجمالي ، حسب ما يستدعيه
مناسبة الكلام على الفاتحة ، وبمقدار ما يحتمله هذا المختصر ، ليتفصّل
__________________
للمتأمّل بهذه
القواعد جمل أسرار هذه السورة ، وتشرق له شموس أنوارها المستورة ، فعلى الناظر في
هذا المسطور ، الراغب في استجلاء أسراره ومعانيه أن يتدبّره حرفا حرفا ، وكلمة
كلمة ، جامعا للنكت المبثوثة فيه بإضافة خواتمها إلى سوابقها ، وإلحاق
متوسّطات فوائدها بأوائلها وأواخرها ؛ فإذا انتظمت النشأة المعنويّة ، وتشخّصت
صورة روحانيّة الكلام في المرتبة الذهنيّة نظر إليها بعين الإنصاف والاستبصار نظر
أولي الأيدي والأبصار ، فحينئذ يعلم ما أودع في هذا المختصر من غرائب الأسرار
والعلوم ، ولطائف الإشارات والمفهوم ، فما وجد من فائدة وخير ، فليحمد الله عليه ، وما رأى من نقص وخلل لا يجد له محملا
صادقا ، أو تأويلا في زعمه موافقا ، فليسرّحه إلى بقعة الإمكان إن لم يتلقّه
بالتسليم ، وليستحضر قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) ؛ فإنّ علم الله أعظم من أن ينحصر في ميزان معيّن ، أو ينضبط بقانون مقنّن.
هذا مع أنّ
البشريّة محلّ النقائص ، فما كان من عيب فمنها ومن المشاهد لا من المشهود والوارد
، وفي قول العارف الإمام : «لون الماء لون إنائه» شفاء تامّ ، والله وليّ الإرشاد
والتوفيق ، لأحمد نهج وطريق.
__________________
التمهيد الموعود به
منهج البحث
اعلم أنّ هذا
تمهيد يتضمّن قواعد كلّيّة يستعان ببعضها على فهم بعضها ، ويستعان بمجموعها على
فهم كلام الحقّ وكلماته ، وخصوصا ما يتضمّنه هذا المسطور المتكفّل ببيان بعض أسرار
الفاتحة من غرائب العلوم ، وكلّيّات الحقائق التي لا أنسة لأكثر العقول والأفهام بها ؛ لعزّ مدركها ، وبعد غورها ،
وخفاء سرّها ؛ إذ كانت ممّا لا ينفذ إليها إلّا الهمم الخارقة حجب العوائد ،
والمرفوع عن أعين بصائر أربابها أستار الطباع وأحكام العقائد ، ولا يظفر بها إلّا من سبقت له الحسنى
وشملته العناية الإلهيّة ، فأنالته البغي والمنى ، وحظّي بميراث من كان ربّه ليلة أسرى به بمقام قاب
قوسين أو أدنى.
وما من قاعدة من
هذه القواعد إلّا وتشتمل على جملة من المسائل المتعلّقة بأمّهات الحقائق والعلوم
الإلهيّة ، يمكن تقرير بعضها بالحجج الشرعيّة ، وبعضها بالأدلّة النظريّة ،
وسائرها بالبراهين الذوقيّة الكشفيّة ، التي لا ينازع فيها أحد ممّن تحقّق
بالمكاشفات النوريّة ، والأذواق التامّة الجليّة ؛ إذ كانت لكلّ طائفة أصول
ومقدّمات هم مجمعون على صحّتها ، مسلّمون لها ، هي من جملة موازينهم التي يبنون
عليها ، ويرجعون إليها ، فمتى سلّمت لمن سلّمت له من محقّقي أهل ذلك الشأن ، تأتّى له أن
يركّب منها أقيسة صحيحة ، وأدلّة تامّة لا ينازعه فيها أرباب تلك الأصول التي هي
من موازينهم.
__________________
ومع التمكّن ممّا
ذكرته ، وكون الأمر كما بيّنته فإنّي لا أتعرّض لتقرير ما يرد ذكره في هذه القواعد
وما بعدها بالحجج الشرعيّة والأدلّة النظريّة والذوقيّة ، تعرّض من يلتزم ذلك في
كلامه.
لكن إن قدّر الحقّ
تقرير أمر في أثناء الكلام ، ذكرت ذلك ؛ تأنيسا للمحجوبين ، وتسكينا للضعفاء المتردّدين
، وتذكرة للمشاركين ، لكن أقدّم في أوّل التمهيد فصلا أنبّه فيه على مرتبة العقل
النظري ، وأهل الطلب الفكري ، وما ينتهي الفكر بصاحبه ؛ ليعلم قلّة جدواه وسرّه ،
وثمرته وغايته ، فيتحقّق من يقف على هذا الكتاب وغيره من كلام أهل الطريق أنّه لو كان في الأدلّة الفكريّة والتقريرات الجدليّة غناء
أو شفاء ، لم يعرض عنها الأنبياء والمرسلون ـ صلوات الله عليهم ـ ولأورثتهم من
الأولياء القائمون بحجج الحقّ ، والحاملون لها ـ رضي الله عنهم ـ.
هذا مع أنّ ثمّة
موانع أخر غير ما ذكرت ، منعتني عن سلوك ما إليه في كلامي أشرت : منها : أنّي لم أوثر أن أسلك
في الكلام المتعلّق بتفسير كتاب الله مسلك أهل الجدل والفكر ، لا سيّما وقد ورد حديث نبوي يتضمّن التحذير من مثل هذا
وهو
قوله صلىاللهعليهوآله : «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل» وتلاوته بعد ذلك : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً) الآية.
ومنها : طلبي
للإيجاز.
ومنها : أنّ قبلة
مخاطبتي هذه بالقصد الأوّل هم المحقّقون من أهل الله وخاصّته ، والمحبّون لهم ،
والمؤمنون بهم وبأحوالهم من أهل القلوب المنوّرة الصافية ، والفطرة السليمة ، والعقول الواقدة الوافية ، الذين يدعون ربّهم
بالغدوة والعشىّ يريدون وجهه ويستمعون القول فيتّبعون أحسنه بصفاء طويّة ، وحسن إصغاء بعد تطهير محلّهم من صفتي الجدل والنزاع ونحوهما ، متعرّضين لنفحات
جود الحقّ ، مراقبين له ، منتظرين ما يبرز
__________________
لهم من جنابه
العزيز على يدي من وصل ، ومن أيّ مرتبة من مراتب أسمائه ورد ، بواسطة معلومة وبدونها ، متلقّين له
بحسن الأدب ، وازنين له بميزان ربّهم العامّ تارة ، والخاصّ تارة ، لا بموازين
عقولهم ؛ فأرباب هذه الصفات هم المؤهّلون للانتفاع بنتائج الأذواق الصحيحة ، وعلوم
المكاشفات الصريحة.
ومن كان حاله ما
وصفناه فلا نحتاج معه إلى التقريرات النظريّة ونحوها ، ممّا سبقت الإشارة إليه ،
فهو إمّا مشارك يعرف صحّة ما يخبر به بما عنده منه ، للاستشراف بعين البصيرة على
الأصل الجامع المخبر به وعنه ؛ وإمّا مؤمن صحيح الإيمان والفطرة ، صافي المحلّ ،
ظاهره يشعر بصحّة ما يسمع من وراء ستر رقيق اقتضاه حكم الطبع وبقيّة الشواغل
والعلائق المستجنّة في المحلّ ، والعائقة له عن كمال الاستجلاء ، لاعن الشعور
المذكور ، فهو مستعدّ للكشف ، مؤهّل للتلقّي ، منتفع بما يسمع ، مرتق بنور الإيمان
إلى مقام العيان.
فلهذا اكتفى
بالتنبيه والتلويح ، ورجّحا على البسط والتصريح ، اختيارا وترجيحا لما رجّحه الحقّ
سبحانه واختاره في كلامه العزيز لرسوله صلىاللهعليهوآله ، وأمره به حيث قال له : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، ولم يأمره بإقامة المعجزة وإظهار الحجّة على كلّ ما يأتي
به ويخبر عنه ، عند كلّ فرد فرد من أفراد المخاطبين المكلّفين ، مع تمكّنه صلىاللهعليهوآله من ذلك ؛ فإنّه صاحب الحجج الإلهيّة الباهرة والآيات
المحقّقة الظاهرة ، ومن أوتي جوامع الكلم ، ومنح علم الأوّلين والآخرين ، بل إنّما
كان ذلك منه بعض الأحيان مع بعض الناس في أمور يسيرة بالنسبة إلى غيرها.
والمنقول أيضا عن
أوائل الحكماء ـ وإن كانوا من أهل الأفكار ـ نحو هذا [و]
أنّهم إنّما كان دأبهم الخلوة والرياضة والاشتغال على مقتضى قواعد شرائعهم التي
كانوا عليها ، فمتى فتح لهم بأمر ذكروا منه للتلاميذ والطلبة ما تقتضي المصلحة
ذكره ، لكن بلسان الخطابة لا التقرير البرهاني ، فإن لاحت عندهم مصلحة ترجّح عندهم
إقامة برهان على ما أتوا به وتأتّى لهم ذلك ساعتئذ ، قرّروه وبرهنوا عليه ، وإلّا ذكروا ما قصدوا إظهاره للتلامذة ،
فمن
__________________
قبله دون منازعة ،
انتفع به ، ومن وجد في نفسه وقفة أو بدا منه نزاع ، لم يجيبوه ، بل أحالوه على الاشتغال بنفسه ،
والتوجّه لطلب معرفة جليّة الأمر فيما حصل له التوقّف فيه من جناب الحقّ بالرياضة
وتصفية الباطن ، ولم يزل أمرهم على ذلك إلى زمان أرسطو ، ثم انتشت صنعة الجدل بعد
من عهد أتباعه المسمّين بالمشّائين وإلى هلمّ.
وإذا كان هذا حال
أهل الفكر والتأمّل ، الآخذين عن الأسباب ، والمتوجّهين إلى الوسائط ، فما الظنّ
بالمستضيئين بنور الحقّ ، المهتدين بهداه ، والسالكين على منهاج الشريعة الحقّة
النبويّة ، الآخذين عن ربّهم بواسطة مشكاة الرسالتين : الملكيّة والبشريّة ، وبدون
واسطة كونيّة ، وسابق آلة وتعمّل أيضا؟ كما نبّه الحقّ سبحانه على حال نبيّنا صلىاللهعليهوآله في ذلك بقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وبقوله أيضا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ).
فمثل هذا الذوق
التامّ يسمّى علما حقّا ، ونورا صدقا ، فإنّه كاشف سرّ الغيب ، ورافع كلّ شكّ
وريب.
وها أنا ذا أذكر
المقدّمة الموضّحة مرتبة الفكر والبراهين النظريّة وغايتها وحكم أربابها ، وما
يختصّ بذلك من الأسرار والنكت العلميّة بلسان الحجّة الإلهيّة على سبيل الإجمال ،
ثم أبيّن أنّ العلم الصحيح ـ الذي العلوم النظرية وغيرها من بعض أحكامه ، وصفاته عند المحقّقين من أهل الله ـ ما هو؟ وبما ذا يحصل؟ وما
أثره؟ وما حكمه؟ ثمّ أذكر بعد ذلك ما سبق الوعد بذكره إن شاء الله تعالى.
ولو لا أنّ هذه
المقدّمة من جملة أركان التمهيد الموضّح سرّ العلم ومراتبه وما سبق الوعد ببيانه ،
لم أوردها في هذا الموضع ولم أسلك هذا النوع من التقرير ، ولكن وقع ذلك تنبيها
للمحجوبين بأنّ الإعراض عمّا توهّموه حجّة وصفة كمال وشرطا في حصول العلم اليقيني
،
__________________
وأنّه أتمّ الطرق
الموصلة إليه ليس عن جهل به وبمرتبته بل لقلّة جدواه وكثرة آفاته وشغبه ، وإيثارا
وموافقة لما اختاره الحقّ للكمّل من عباده وأهل عنايته.
وصل
تهافت الأدلّة
النظريّة
اعلموا أيّها
الإخوان ـ تولّاكم الله بما تولّى به عباده المقرّبين ـ أنّ إقامة الأدلّة
النظريّة على المطالب ، وإثباتها بالحجج العقليّة على وجه سالم من الشكوك الفكريّة
والاعتراضات الجدليّة متعذّر ؛ فإنّ الأحكام النظريّة تختلف بحسب تفاوت مدارك
أربابها ، والمدارك تابعة لتوجّهات المدركين ، والتوجّهات تابعة للمقاصد التابعة
لاختلاف العقائد والعوائد والأمزجة والمناسبات ، وسائرها تابع في نفس الأمر
لاختلاف آثار التجلّيات الأسمائيّة المتعيّنة والمتعدّدة في مراتب القوابل ، وبحسب
استعداداتها ، وهي المثيرة للمقاصد ، والمحكمة للعوائد والعقائد التي يتلبّس بها ،
ويتعشّق نفوس أهل الفكر والاعتقادات عليها ؛ فإنّ التجلّيات في حضرة القدس وينبوع
الوحدة وحدانيّة النعت ، هيولانيّة الوصف لكنّها تنصبغ عند الورود بحكم استعدادات
القوابل ومراتبها الروحانيّة والطبعيّة ، والمواطن والأوقات وتوابعها ، كالأحوال والأمزجة والصفات
الجزئيّة ، وما اقتضاه حكم الأوامر الربانيّة ، المودعة بالوحي الأوّل الإلهي في
الصور العلويّة وأرواح أهلها والموكّلين بها ، فيظنّ لاختلاف الآثار أنّ التجلّيات
متعدّدة بالأصالة في نفس الأمر ، وليس كذلك.
ثمّ نرجع ونقول :
فاختلف للموجبات المذكورة أهل العقل النظري في موجبات عقولهم ، ومقتضيات أفكارهم
وفي نتائجها ، واضطربت آراؤهم ، فما هو صواب عند شخص هو عند غيره خطأ ، وما هو
دليل عند البعض هو عند آخرين شبهة ، فلم يتّفقوا في الحكم على شيء
__________________
بأمر واحد ،
فالحقّ بالنسبة إلى كلّ ناظر هو ما استصوبه ورجّحه واطمأنّ به ، وليس تطرّق
الإشكال ظاهرا في دليل يوجب الجزم بفساده وعدم صحة ما قصد إثباته بذلك الدليل في
نفس الأمر ؛ لأنّا نجد أمورا كثيرة لا يتأتّى لنا إقامة برهان على صحّتها ، مع
أنّه لا شكّ في حقّيّتها عندنا ، وعند كثير من المتمسّكين بالأدلّة النظريّة ،
وغيرهم. ورأينا أيضا أمورا كثيرة قرّرت بالبراهين قد جزم بصحّتها قوم بعد
عجزهم ، وعجز من حضرهم من أهل زمانهم عن العثور على ما في مقدّمات تلك البراهين من
الخلل والفساد ، ولم يجدوا شكّا يقدح فيها ، فظنّوها براهين جليّة وعلوما يقينيّة.
ثم بعد مدّة من الزمان تفطّنوا ـ هم أو من أتى بعدهم ـ لإدراك خلل في بعض
تلك المقدّمات أو كلّها ، وأظهروا وجه الغلط فيها والفساد ، وانقدح لهم من
الإشكالات ما يوهن تلك البراهين ويزيّفها.
ثمّ إنّ الكلام في
الإشكالات القادحة ؛ هل هي شبهة أو أمور صحيحة كالكلام في تلك البراهين ، والحال
في القادحين كالحال في المثبتين السابقين ؛ فإنّ قوى الناظرين في تلك البراهين
والواقفين عليها متفاوتة ، كما بيّنّا ولما ذكرنا ، والحكم يحدث أو يتوقّع من بعض الناظرين في تلك الأدلّة بما
يزيّفها بعد الزمان الطويل مع خفاء العيب على المتأمّلين لها ، المتمسّكين بها قبل تلك المدّة المديدة وإذا جاز الغلط على بعض الناس من هذا الوجه
، جاز على الكلّ مثله ، ولو لا الغلط والعثور عليه واطمئنان البعض بما لا يخلو عن
الغلط ، وبما لا يؤمن الغلط فيه ـ وإن تأخّر إدراكه ـ لم يقع بين أهل العلم خلاف
في الأديان والمذاهب وغيرهما. فهذا من جملة الأسباب المشار إليها.
ثمّ نقول : وليس
الأخذ بما اطمأنّ به بعض الناظرين واستصوبه وصحّحه في زعمه بأولى من الأخذ بقول
مخالفه وترجيح رأيه. والجمع بين القولين أو الأقوال المتناقضة غير ممكن ، لكون أحد
القولين مثلا يقتضي إثبات ما يقتضي الآخر نفيه ، فاستحال التوفيق بينهما والقول بهما معا.
__________________
وترجيح أحدهما على
الآخر إن كان ببرهان ثابت عند المرجّح ، فالحال فيه [كالحال فيه] والكلام كالكلام
والحال فيها مرّ. وإن لم يكن ببرهان كان ترجيحا من غير مرجّح يعتبر ترجيحه. فتعذّر
إذن وجدان اليقين ، وحصول الجزم التامّ بنتائج الأفكار والأدلّة النظريّة.
ومع أنّ الأمر كما
بيّنّا ؛ فإنّ كثيرا من الناس الذين يزعمون أنّهم أهل نظر ودليل ـ بعد تسليمهم لما
ذكرنا ـ يجدون في أنفسهم جزما بأمور كثيرة لا يستطيعون أن يشكّكوا أنفسهم فيها قد
سكنوا إليها واطمأنّوا بها ، وحالهم فيها كحال أهل الأذواق [من وجه] ومن وجه كحال
أهل الوهم مع العقل في تسليم المقدّمات والتوقّف في النتيجة ، ولهذا الأمر سرّ
خفيّ ربّما ألوح به فيما بعد إن شاء الله تعالى.
القانون الفكري
عند أهل النظر
وأمّا القانون
الفكري المرجوع إليه عند أهل الفكر فهم مختلفون فيه أيضا من وجوه :
أحدها : في بعض
القرائن وكونها منتجة عند البعض ، وعقيمة عند غيرهم.
وثانيها : في
حكمهم على بعض ما لا يلزم عن القضايا بأنّه لازم.
وثالثها :
اختلافهم في الحاجة إلى القانون والاستغناء عنه ، من حيث إنّ الجزء النظري منه
ينتهي إلى البديهي ، ومن حيث إنّ الفطرة السليمة كافية في اكتساب العلوم ، ومغنية
عن القانون ، ولهم فيما ذكرنا اختلاف كثير لسنا ممّن يشتغل بإيراده ؛ إذ غرضنا
التنبيه والتلويح.
وآخر ما تمسّك به
المثبتون منفعة الأولويّة والاحتمال فقالوا : إنّا نجد الغلط لكثير من الناس في
كثير من الأمور وجدانا محقّقا ، مع احتمال وقوعه أيضا فيما بعد ، فاستغناء الأقلّ
عنه لا ينافي احتياج الكثير إليه.
فأمّا الأولويّة :
فاحتجّوا بها جوابا لمن قال لهم : قد اعترفتم بأنّ القانون ينقسم إلى ضروري ونظري ،
وأنّ الجزء النظري مستفاد من الضّروري ، فالضروري إن كفى في اكتساب العلوم في هذا
القانون كفى في سائر العلوم ، وإلّا افتقر الجزء الكسبي منه إلى قانون آخر ، فقالوا : الإحاطة بجميع
الطرق أصون من الغلط ، فتقع الحاجة إليه من هذا الوجه عملا
__________________
بالأحوط ، وإصابة
بعض الناس في أفكاره ؛ لسلامة فطرته في كثير من الأمور ، وبعضهم مطلقا في جميعها
بتأييد إلهي خصّ به دون كسب لا تنافي احتياج الغير إليه ؛ ونظير هذا ، الشاعر
بالطبع وبالعروض ، والبدويّ المستغني عن النحو بالنسبة إلى الحضريّ المتعرّب.
مذهب المحقّقين
ونحن نقول بلسان
أهل التحقيق : إنّ القليل الذي قد اعترفتم باستغنائه عن ميزانكم لسلامة فطرته وذكائه نسبته إلى
المؤهّلين للتلقّي من جناب الحقّ والاعتراف من بحر جوده ، والاطّلاع على أسرار
وجوده في القلّة وقصور الاستعداد ، نسبة الكثير المحتاج إلى الميزان.
فأهل الله هم
القليل من القليل ، ثم إنّ العمدة عندهم في الأقيسة البرهان وهو : إنّي ، ولمّي ـ وروح البرهان
وقطبه هو الحدّ الأوسط. واعترفوا بأنّه غير مكتسب ببرهان ، وأنّه من باب التصوّر
لا التصديق.
فيتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الميزان أحد جزءيه غير مكتسب ، وأنّ المكتسب منه إنّما
يحصل بغير المكتسب ، وأنّ روح البرهان ـ الذي هو عمدة الأمر والأصل الذي يتوقّف
تحصيل العلم المحقّق عليه في زعمهم ـ غير مكتسب ، وأنّ من الأشياء ما لا ينتظم على
صحّتها وفسادها برهان سالم من المعارضة ، بل يتوجّه عليه إشكال يعترف به الخصم.
ومع ذلك فلا يستطيع أن يشكّك نفسه في صحّة ذلك الأمر هو وجماعة كثيرة سواه ، وهذا
حال أهل الأذواق ومذهبهم حيث يقولون : إنّ العلم الصحيح موهوب غير مكتسب.
وأمّا المتحصّل
لنا بطريق التلقّي من جانب الحقّ وإن لم يقم عليه البرهان النظري ؛ فإنّه لا يشكّكنا
فيه مشكّك ، ولا ريب عندنا فيه ولا تردّد ، ويوافقنا عليه مشاركون من أهل الأذواق
، و [أمّا] أنتم فلا يوافق بعضكم بعضا إلّا لقصور بعضكم عن إدراك الخلل الحاصل في
__________________
مقدّمات البراهين
التي أقيمت لإثبات المطالب التي هي محلّ الموافقة على ما بيّنّا سرّه في هذا التمهيد.
وفي الجملة قد بيّن أنّ غاية كلّ أحد في ما يطمئنّ إليه من العلوم هو ما
حصل في ذوقه ـ دون دليل كسبي ـ أنّه الحقّ ، فسكن إليه ، وحكم بصحّته ، هو ومن ناسبه في نظره وشاركه في أصل
مأخذه وما يستند إليه ذلك الأمر الذي هو متعلّق اطمئنانه.
وبقي : هل ذلك
الأمر المسكون إليه ، والمحكوم بصحّته هو في نفسه صحيح ، على نحو ما اعتقد فيه من
حاله ما ذكرناه أم لا؟ ذلك لا يعلم إلّا بكشف محقّق ، وإخبار إلهي.
فقد بان أنّ العلم
اليقيني الذي لا ريب فيه يعسر اقتناصه بالقانون الفكري والبرهان النظري.
هذا ، مع أنّ
الأمور المثبتة بالبراهين على تقدير صحّتها في نفس الأمر ، وسلامتها في زعم المتمسّك
بها بالنسبة إلى الأمور المحتملة والمتوقّف فيها ؛ لعدم انتظام البرهان على صحّتها وفسادها يسيرة
جدّا.
وإذا كان الأمر
كذلك فالظفر بمعرفة الأشياء من طريق البرهان وحده إمّا متعذّر مطلقا ، أو في أكثر
الأمور.
ولمّا اتّضح لأهل
البصائر والعقول السليمة أنّ لتحصيل المعرفة الصحيحة طريقين :
طريق البرهان
بالنظر والاستدلال ، وطريق العيان الحاصل لذي الكشف بتصفية الباطن والالتجاء إلى
الحقّ. والحال في المرتبة النظريّة فقد استبان ممّا أسلفنا ، فتعيّن الطريق الآخر
، وهو التوجّه إلى الحقّ بالتعرية والافتقار التامّ ، وتفريغ القلب بالكليّة من
سائر التعلّقات الكونيّه ، والعلوم والقوانين.
ولمّا تعذّر
استقلال الإنسان بذلك في أوّل الأمر ، وجب عليه اتّباع من سبقه بالاطّلاع ،
والكمّل من سالكي طريقه سبحانه ، ممّن خاض لجّة الوصول ، وفاز بنيل البغية
والمأمول ،
__________________
كالرسل ـ صلوات
الله عليهم ـ الذين جعلهم الحقّ تعالى تراجمة أمره وإرادته ، ومظاهر علمه وعنايته ، ومن كملت وراثته منهم علما وحالا ومقاما عساه سبحانه
يجود بنور كاشف يظهر الأشياء كما هي ، كما فعل ذلك بهم وبأتباعهم من أهل عنايته ،
والهادين المهتدين من بريّته. ولهذا المقام أصول جمّة ، ونكت مهمّة أشير إليها فيما بعد
وعند الكلام على سرّ الهداية حين الوصول إلى قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) حسب ما يقدّر الحقّ ذكره إن شاء الله تعالى.
__________________
وصل من هذا الأصل
بين طلّاب المعرفة
والحقائق العلويّة
اعلم أنّ لكلّ
حقيقة من الحقائق المجرّدة البسيطة المظهرة التي تعيّن الموارد المتعيّنة بها ـ سواء كانت من الحقائق
الكونيّة أو ممّا ينسب إلى الحقّ بطريق الاسميّة والوصفيّة ونحوهما ـ لوازم ووجوها
وخواصّ ، وتلك الصفات وما ذكر من أحكام الحقائق ونسبها فبعضها خواصّ ولوازم قريبة
وبعضها [لوازم] بعيدة ، فكلّ طالب معرفة حقيقة ـ [كائنة] ما كانت ـ لا بدّ وأن
يكون بينه وبينها مناسبة من وجه ، ومغايرة من وجه ، فحكم المغايرة يؤذن بالفقد
المقتضي للطلب ، وحكم المناسبة يقتضي الشعور بما يراد معرفته. والإنسان من حيث
جميعه مغاير لكلّ فرد من أفراد الأعيان الكونيّة ، ومن حيث كونه نسخة من مجموع
الحقائق الكونيّة والأسمائيّة يناسب الجميع ، فمتى طلب معرفة شيء فإنّما يطلبه
بالأمر المناسب لذلك الشيء منه لا بما يغايره ؛ إذ لو انتفت المناسبة من كلّ وجه
لاستحال الطلب ؛ إذ المجهول مطلقا لا يكون مطلوبا كما أنّ ثبوت المناسبة أيضا من
كلّ وجه يقتضي الحصول المنافي للطلب ؛ لاستحالة طلب الحاصل ، وإنّما حصول الشعور
ببعض الصفات والعوارض من جهة المناسبة هو الباعث على طلب معرفة الحقيقة التي هي
أصل تلك الصفة المشعور بها أوّلا.
فتطلب النفس أن
تتدرّج من هذه الصفة المعلومة أو اللازم أو العارض ، وتتوسّل بها إلى معرفة الحقيقة التي هي أصلها ، وغيرها من الخواصّ
والعوارض المضافة إلى تلك الحقيقة.
__________________
فتركيب الأقيسة
والمقدّمات طريق تصل بها نفس الطالب بنظره الفكري إلى معرفة ما يقصد إدراكه من
الحقائق ، فقد تصل إليه بعد تعدّي مراتب صفاته وخواصّه ولوازمه تعدّيا علميّا ،
وقد لا يقدّر له ذلك ، إمّا لضعف قوّة نظره وقصور إدراكه ـ المشار إلى سرّه فيما بعد ـ أو
لموانع أخر يعلمها الحقّ ومن شاء من عباده ، أوضحها إقامة كلّ طائفة في مرتبة
معيّنة لتعمر المراتب بأربابها لينتظم شمل مرتبة الألوهيّة ، كما قيل ، :
على حسب الأسماء
تجري أمورهم
|
|
وحكمة وصف الذات
للحكم أجرت.
|
وغاية مثل هذا أن
يتعدّى من معرفة خاصّة الشيء أو صفته أو لازمه البعيد أو القريب إلى صفة أو لازم
آخر له أيضا ، وقد تكون الصفة التي تنتهي إليها معرفته من تلك الحقيقة أقرب نسبة
من المشعور بها أوّلا المثيرة للطلب ، وقد يكون البعد على قدر المناسبة الثابتة
بينه وبين ما يريد معرفته ، وبحسب حكم تلك المناسبة في القوّة والضعف ، وما قدّره
الحقّ له. فمتى انتهت قوّة نظره بحكم المناسبة إلى بعض الصفات أو الخواصّ ، ولم
ينفذ منها متعدّيا إلى كنه حقيقة الأمر ، فإنّه يطمئنّ بما حصل له من معرفة تلك
الحقيقة بحسب نسبة تلك الصفة منها ومن حيث هي ، وبحسب مناسبة هذا الطالب معرفتها منها ، ويظنّ أنّه
قد بلغ الغاية ، وأنّه أحاط علما بتلك الحقيقة ، وهو في نفس الأمر لم يعرفها إلّا
من وجه واحد من حيث تلك الصفة الواحدة أو العارض أو الخاصّة أو اللازم. وينبعث
غيره لطلب معرفة تلك الحقيقة أيضا يجاذب مناسبة خفيّة بينه وبينها من حيث صفة أخرى ، أو خاصّة أو لازم ، فيبحث ويفحص ويركّب الأقيسة
والمقدّمات ساعيا في التحصيل ، حتّى ينتهي مثلا إلى تلك الصفة الأخرى ، فيعرف تلك
الحقيقة من وجه آخر بحسب الصفة التي كانت منتهى معرفته من تلك الحقيقة ، فيحكم على
إنّيّة الحقيقة بما تقتضيه تلك الصفة وذلك الوجه ، زاعما أنّه قد عرف كنه الحقيقة
التي قصد معرفتها معرفة تامّة إحاطيّة ، وهو غالط في نفس الأمر وهكذا الثالث
والرابع فصاعدا ، فيختلف حكم الناظرين في الأمر الواحد ؛ لاختلاف الصفات والخواصّ
والأعراض التي هي متعلّقات مداركهم ومنتهاها من ذلك الأمر الذي قصدوا
__________________
معرفة كنهه ،
والمعرّفة إيّاه والمميّزة له عندهم ، فمتعلّق إدراك طائفة يخالف متعلّق إدراك الطائفة الأخرى ، كما ذكر ، ولما مرّ بيانه ، فاختلف
تعريفهم لذلك الأمر الواحد ، وتحديدهم له ، وتسميتهم إيّاه ، وتعبيرهم عنه ؛ وموجب
ذلك ما سبق ذكره ، وكون المدرك به أيضا ـ وهو الفكر ـ قوّة جزئيّة من بعض قوى
الروح الإنساني ، فلا يمكنه أن يدرك إلّا جزئيّا مثله ؛ لما ثبت عند المحقّقين من
أهل الله وأهل العقول السليمة أنّ الشيء لا يدرك بما يغائره في الحقيقة ، ولا
يؤثّر شيء فيما يضادّه وينافيه من الوجه المضادّ والمنافي ، كما ستقف على أصل ذلك
وسرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فتدبّر هذه القواعد وتفهّمها ، تعرف كثيرا من
سرّ اختلاف الخلق في الله [من] أهل الحجاب ، وأكثر أهل الاطّلاع والشهود ، وتعرف
أيضا سبب اختلاف الناس في معلوماتهم كائنة ما كانت.
ثم نرجع ونقول :
ولمّا كانت القوّة الفكريّة صفة من صفات الروح وخاصّة من خواصّه ، أدركت صفة مثلها
ومن حيث إنّ القوى الروحانيّة عند المحقّقين لا تغاير الروح صحّ أن نسلّم للناظر
أنّه قد عرف حقيقة مّا ، ولكن من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة ـ التي هي منتهى
نظره ومعرفته ومتعلّقهما ، ـ وترتبط الصفة بها ، كما مرّ بيانه.
وقد ذهب الرئيس
ابن سينا الذي هو أستاذ أهل النظر ومقتداهم عند عثوره على هذا السرّ إمّا من خلف
حجاب القوّة النظريّة بصحّة الفطرة ، أو بطريق الذوق كما يومئ إليه في مواضع من
كلامه إلى أنّه ليس في قدرة البشر الوقوف على حقائق الأشياء ، بل غاية الإنسان أن
يدرك خواصّ الأشياء ولوازمها وعوارضها ، ومثّل في تقرير ذلك أمثلة جليّة محقّقة
وبيّن المقصود بيان منصف خبير ، وسيّما فيما يرجع إلى معرفة الحقّ جلّ جلاله ،
وذلك في أواخر أمره بخلاف المشهور عنه في أوائل كلامه. ولو لا التزامي بأنّي لا
أنقل في هذا الكتاب كلام أحد ـ وسيّما أهل الفكر ونقلة التفاسير ـ لأوردت ذلك
الفصل هنا استيفاء للحجّة على المجادلين المنكرين منهم عليهم بلسان مقامهم ؛ ولكن
أضربت عنه للالتزام المذكور ، ولأنّ غاية ذلك بيان قصور القوّة الإنسانيّة من حيث
فكرها عن إدراك حقائق الأشياء ، وقد سبق
__________________
في أوّل هذا
التمهيد ما يستدلّ به اللبيب على هذا الأمر المشار إليه وعلّته وسببه وغير ذلك من
الأسرار المتعلّقة بهذا الباب ، وسنزيد في بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ، ـ فنقول
: كلّ ما تتعلّق به المدارك العقليّة والذهنيّة : الخياليّة والحسّيّة جمعا وفرادى
فليس بأمر زائد على حقائق مجرّدة بسيطة تألّفت بوجود واحد غير منقسم ، وظهرت
لنفسها ، لكن بعضها في الظهور والحكم والحيطة والتعلّق تابع للبعض ، فتسمّى
المتبوعة ـ لما ذكرنا من التقدّم ـ حقائق وعللا ووسائط بين الحقّ وما يتبعها في
الوجود وما ذكرنا ، وتسمّى التابعة خواصّ ولوازم وعوارض وصفات وأحوالا ونسبا
ومعلولات ومشروطات ونحو ذلك ؛ ومتى اعتبرت هذه الحقائق مجرّدة عن
الوجود وعن ارتباط بعضها بالبعض ولم يكن شيء منها مضافا إلى شيء ، أصلا ، خلت عن كلّ
اسم وصفة ونعت وصورة وحكم خلوّا بالفعل لا بالقوّة ، فثبوت النعت والاسم والوصف
بالتركيب والبساطة ، والظهور والخفاء ، والإدراك والمدركيّة ، والكلّيّة والجزئيّة
، والتبعيّة والمتبوعيّة وغير ذلك ممّا نبّهنا عليه وما لم نذكره للحقائق المجرّدة
إنّما يصحّ ويبدو بانسحاب الحكم الوجودي عليها أوّلا ، ولكن من حيث تعيّن الوجود
بالظهور في مرتبة مّا وبحسبها أو في مراتب ، كما سنزيد في بيان ذلك ـ إن شاء الله
تعالى ـ وبارتباط أحكام بعضها بالبعض وظهور أثر بعضها بالوجود في البعض ثانيا ؛
فاعلم ذلك.
فالتعقّل والشهود
الأوّل الجملي للحقائق المتبوعة يفيد معرفة كونها معاني مجرّدة من شأنها ـ إذا
تعقّلت متبوعة ومحيطة ـ أن تقبل صورا شتّى وتقترن بها ؛ لمناسبة
ذاتيّة بينها وبين الصور القابلة لها ولآثارها ، والمقترنة بها ، وهذه المناسبة هي
حكم الأصل الجامع بينها ، والمشتمل عليها ، وقد سبقت الإشارة إليها.
والتعقّل والشهود الأوّل الجملي للحقائق التابعة يفيد معرفة كونها
حقائق مجرّدة لا حكم لها ولا اسم ولا نعت أيضا ؛ ولكن من شأنها أنّها متى ظهرت في
الوجود العيني تكون أعراضا للجواهر والحقائق المتقدّمة المتبوعة ، وصورا وصفات
ولوازم ونحو ذلك.
__________________
والصورة : عبارة
عمّا لا تعقل تلك الحقائق الأول ولا تظهر إلّا بها ، وهي ـ أعني الصورة ـ أيضا اسم
مشترك يطلق على حقيقة كلّ شيء ـ جوهرا كان أو عرضا ، أو ما كان ـ وعلى نفس النوع
والشكل والتخطيط أيضا حتّى يقال لهيئة الاجتماع : صورة ، كصورة الصفّ والعسكر ،
ويقال : صورة للنظام المستحفظ كالشريعة. ومعقوليّة الصورة في نفسها حقيقة مجرّدة
كسائر الحقائق.
وإذا عرفت هذا في
الصور المشهودة على الأنحاء المعهودة ، فاعرف مثله في المسمّى مظهرا إلهيّا ؛ فإنّ
التعريف الذي أشرت إليه يعمّ كلّ ما لا تظهر الحقائق الغيبيّة من حيث هي غيب إلّا
به.
وقد استبان لك من
هذه القاعدة ـ إن تأمّلتها حقّ التأمّل ـ أنّ الظهور والاجتماع ، والإيجاد
والإظهار والاقتران والتوقّف والمناسبة ، والتقدّم والتأخّر والهيئة ، والجوهريّة
والعرضيّة والصوريّة ، وكون الشيء مظهرا أو ظاهرا ، أو متبوعا أو تابعا ، ونحو ذلك
كلّها معان مجرّدة ، ونسب معقولة. وبارتباط بعضها بالبعض وتألّفها بالوجود الواحد
الذي ظهرت به لها كما قلنا يظهر للبعض على البعض تفاوت في الحيطة والتعلّق والحكم
، والتقدّم والتأخّر ، بحسب النسب المسمّاة فعلا وانفعالا ، وتأثيرا وتأثّرا ،
وتبعيّة ومتبوعيّة ، وصفة وموصوفيّة ، ولزوميّة وملزوميّة ، ونحو ذلك ممّا ذكر. ولكن وجود الجمع وبقاؤه إنّما يحصل بسريان حكم الجمع الأحدي الوجودي الإلهي
، المظهر لها والظاهرة الحكم في حضرته ، بسرّ أمره وإرادته.
تعذّر معرفة
الحقائق المجرّدة
وبعد أن تقرّر هذا
، فاعلم أنّ معرفة حقائق الأشياء من حيث بساطتها وتجرّدها في الحضرة العلميّة
الآتي حديثها متعذّرة ، وذلك لتعذّر إدراكنا شيئا من حيث أحديّتنا ؛ إذ لا تخلو من
أحكام الكثرة أصلا. وأنّا لا نعلم شيئا من حيث حقائقنا المجرّدة ، ولا من حيث
__________________
وجودنا فحسب ، بل
من حيث اتّصاف أعياننا بالوجود ، وقيام الحياة بنا ، والعلم وارتفاع الموانع
الحائلة بيننا وبين الشيء الذي نروم إدراكه ، بحيث يكون مستعدّا لأن يدرك ، فهذا
أقلّ ما يتوقّف معرفتنا عليه ، وهذه جمعيّة كثرة وحقائق الأشياء في مقام تجرّدها
وحدانيّة بسيطة ، والواحد والبسيط لا يدركه إلّا واحد وبسيط كما اومأت إليه من قبل
، وعلى ما سيوضّح سرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فلم نعلم من الأشياء إلّا
صفاتها وأعراضها من حيث هي صفات ولوازم لشيء مّا ، لا من حيث حقائقها المجرّدة ؛
إذ لو أدركنا شيئا من حيث حقيقته لا باعتبار صفة له أو خاصّة أو عارض أو لازم ،
لجاز إدراك مثله ؛ فإنّ الحقائق من حيث هي حقائق متماثلة ، وما جاز على أحد من
المثلين جاز على الآخر.
والمعرفة
الإجماليّة المتعلّقة بحقائق الأشياء لم تحصل إلّا بعد تعلّقها ـ من كونها متعيّنة
ـ بما تعيّنت به من الصفات أو الخواصّ أو العوارض كما عرّفنا الصفة ـ من حيث تعيّنها ـ بمفهوم كونها صفة
لموصوف مّا ، فأمّا كنه الحقائق من حيث تجرّدها فالعلم بها متعذّر إلّا من الوجه
الخاصّ بارتفاع حكم النسب والصفات الكونيّة التقييديّة من العارف حال تحقّقه بمقام
«كنت سمعه وبصره» وبالمرتبة التي فوقها ، المجاورة لها ، المختصّة بقرب الفرائض ،
كما سنومئ إلى سرّ ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ولهذا السرّ ـ الذي نبّهت على بعض
أحكامه ـ أسرار أخر غامضة جدّا يعسر تفهيمها وتوصيلها ، أحدها حكم تجلّي الحقّ
الساري في حقائق الممكنات الذي أشار شيخنا الإمام الأكمل (رضي الله عنه) إلى خاصّة
من خواصّه تتعلّق بما كنّا فيه وذلك في قصيدة الهائيّة يناجي فيها ربّه يقول في أثنائها :
ولست أدرك في
شيء حقيقته
|
|
وكيف أدركه
وأنتمو فيه
|
فلمّا وقف
المؤهّلون للتلقّي من الجناب الإلهي المعتلي على مرتبة الأكوان والوسائط ، على هذه
المقدّمات والمنازل ، وتعدّوا بجذبات العناية الإلهيّة ما فيها من
الحجب والمعاقد ، شهدوا في أوّل أمرهم ببصائرهم أنّ صورة العالم مثال
لعالم المعاني والحقائق ،
__________________
فعلموا أنّ كلّ
فرد فرد من أفراد صوره مظهر ومثال لحقيقة معنويّة غيبيّة ، وأنّ نسبة أعضاء الإنسان
ـ الذي هو النسخة الجامعة ـ إلى قواه الباطنة نسبة صورة العالم إلى حقائقه الباطنة
، والحكم كالحكم فحال بصر الإنسان بالنسبة إلى المبصرات كحال البصيرة بالنسبة إلى
المعقولات المعنويّة ، والمعلومات الغيبيّة ، ولمّا عجز البصر عن إدراك المبصرات
الحقيرة مثل الذرّات والهباءات ونحوهما ، وعن المبصرات العاليّة كوسط قرص الشمس عند كمال
نوره ، فإنّه يتخيّل فيه سوادا لعجزه عن إدراكه ، مع أنّا نعلم أنّ الوسط منبع
الأنوار والأشعّة ، ظهر أنّ تعلّق الإدراك البصري بما في طرفي الإفراط والتفريط من
الخفاء التامّ والظهور التامّ متعذّر كما هو الأمر في النور المحض والظلمة المحضة
في كونهما حجابين ، وأنّ بالمتوسّط بينهما الناتج منهما ـ وهو الضياء ـ تحصل
الفائدة كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
فكذلك العقول
والبصائر إنّما تدرك المعقولات والمعلومات المتوسّطة في الحقارة والعلوّ ، وتعجز
عن المعقولات الحقيرة ، مثل مراتب الأمزجة والتغيّرات الجزئيّة على التعيين
والتفصيل ، كالنماء والذبول في كلّ آن ، وعن إدراك الحقائق العاليّة القاهرة أيضا
، مثل ذات الحقّ جلّ وتعالى ، وحقائق أسمائه وصفاته إلّا بالله ، كما ذكرنا.
ورأوا أيضا أنّ من
الأشياء ما تعذّر عليهم إدراكه للبعد المفرط ، كحركة الحيوان الصغير من المسافة البعيدة ، وكحركة جرم الشمس والكواكب في
كلّ آن ، وهكذا الأمر في القرب المفرط ، فإنّ الهواء لاتّصاله بالحدقة يتعذّر
إدراكه وكنفس الحدقة ، هذا في باب المبصرات ، وفي باب المعقولات والبصائر كالنفس
التي هي المدركة من الإنسان ، وأقرب الأشياء نسبة إليه ، فيدرك الإنسان غيره ، ولا
يدرك نفسه وحقيقته ، فتحقّق بهذا الطريق أيضا عجز البصائر والأبصار عن إدراك
الحقائق الوجوديّة الإلهيّة والكونيّة ، وما تشتمل عليه من المعاني والأسرار. وظهر
أنّ العلم الصحيح لا يحصل بالكسب والتعمّل ، ولا تستقلّ القوى البشريّة بتحصيله ما لم تجد الحقّ بالفيض الأقدس الغيبي ، والإمداد بالتجلّي
النوري العلمي الذاتي الآتي حديثه لكن قبول التجلّي يتوقّف على استعداد مثبت
__________________
للمناسبة بين
الملتجلّي والمتجلّى له ، حتى يصحّ الارتباط الذي يتوقّف عليه الأثر ، فإنّ لكلّ
تجلّ في كلّ متجلّى له حكما وأثرا وصورة لا محالة أوّلها الحال الشهودي الذي
يتضمّنه العلم الذوقي المحقّق ، هذا مع أنّ نفس التجلّي من حيث تعيّنه وظهوره من الغيب
المطلق الذاتي هو تأثير إلهي متعيّن من حضرة الذات في مرتبة المتجلّى له إذ هو
المعيّن والمخصّص ، فافهم.
والأثر من كلّ
مؤثّر في كلّ مؤثّر فيه ، لا يصحّ بدون الارتباط ، والارتباط لا يكون إلّا بمناسبة
، والمناسبة نسبة معنويّة لا تعقل إلّا بين المتناسبين. ولا خلاف بين سائر المحقّقين من أهل الشرائع والأذواق
والعقول السليمة [في] أنّ حقيقة الحقّ سبحانه مجهولة ، لا يحيط بها علم أحد سواه
؛ لعدم المناسبة بين الحقّ من حيث ذاته وبين خلقه ؛ إذ لو ثبت المناسبة من وجه ،
لكان الحقّ من ذلك الوجه مشابها للخلق ، مع امتيازه عنهم بما عدا ذلك الوجه وما به
الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم التركيب المؤذن بالفقر والإمكان المنافي
للغنى والأحديّة ، ولكان الخلق أيضا ـ مع كونه ممكنا بالذات ومخلوقا ـ مماثلا
للحقّ من وجه ؛ لأنّ من ماثل شيئا فقد ماثله ذلك الشيء ، والحقّ الواحد الغنيّ
الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) يتعالى عن كلّ هذا وسواه ممّا لا يليق به.
ومع صحّة ما ذكرنا
من الأمر المتّفق عليه ، فإنّ تأثير الحقّ في الخلق غير مشكوك فيه فأشكل الجمع بين
الأمرين ، وعزّ الاطّلاع المحقّق على الأمر الكاشف لهذا السرّ ، مع أنّ جمهور
الناس يظنّون أنّه في غاية الجلاء والوضوح وليس كذلك وأنا ألمع لك ببعض أسراره ـ
إن شاء الله تعالى ـ فأقول :
سرّ الجهل بحقيقة
الله تعالى
فأقول : إذا شاء
الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ أن يطّلع على هذا الأمر بعض عباده عرّفهم أوّلا بسرّ نعت
ذاته الغنيّة عن العالمين بالألوهيّة وما يتبعها من الأسماء والصفات والنعوت ثم
__________________
أراهم ارتباطها
بالمألوه ، وأوقفهم على سرّ التضايف المنبّه على توقّف كلّ واحد من المتضايفين على
الآخر وجودا وتقديرا ، فظهر لهم وجه مّا من وجوه المناسبة ، ثم نعت الألوهيّة
بالوحدانيّة الثابتة عقلا وشرعا ووجدوها نسبة معقولة لا عين لها في الوجود ،
فشهدوا وجها آخر من وجوه المناسبة ، وعرّفهم أيضا أنّ لكلّ موجود ـ سواء كان
مركّبا من أجزاء كثيرة أو بسيطا بالنسبة أحديّة تخصّه وإن كانت أحديّة كثرة. وأنّ
الغالب والحاكم عليه في كلّ زمان في ظاهره وباطنه حكم صفة من صفاته أو حقيقة من
الحقائق التي تركّبت منها كثرته.
فأمّا من حيث
ظاهره فلغلبة إحدى الكيفيّات الأربع التي حدث عن اجتماعها مزاج بدنه ـ على باقيها. وأمّا من
جهة الباطن فهو أيضا كذلك ؛ لأنّ الإرادة من كلّ مريد في كلّ حال وزمان لا يكون
لها إلّا متعلّق واحد ، والقلب في الآن الواحد لا يسع إلّا أمرا واحدا ، وإن كان
في قوّته أن يسع كلّ شيء.
وأراهم أيضا
أحديّة كلّ شيء من حيث حقيقته المسمّاة ماهيّة وعينا ثابتة وهي عبارة عن نسبة كون
الشيء متعيّنا في علم الحقّ أزلا ، وعلم الحقّ نسبة من نسب ذاته ، أو صفة ذاتيّة
لا تفارق الموصوف ، كيف قلت على اختلاف المذهبين ، فنسبة معلوميّة كلّ موجود من
حيث ثبوتها في العلم الإلهي لا تفارق الموصوف.
فظهر من هذه
الوجوه المذكورة مناسبات أخر ، ولا سيّما باعتبار عدم المغايرة لعلم الذات عند من يقول به ، فالألوهيّة نسبة ، والمعلوميّة
نسبة ، والتعيّن نسبة ، وكذا الوحدة المنعوت بها الألوهيّة نسبة ، والعين الممكنة
من حيث تعرّيها عن الوجود نسبة ، والتوجّه الإلهي للإيجاد بقول : «كن» ونحوه نسبة ، والتجلّي
المتعيّن من الغيب الذاتي المطلق والمخصّص بنسبة الإرادة ومتعلّقها من حيث تعيّنه
نسبة ، والاشتراك الوجودي نسبة ، وكذا العلمي.
فصحّت المناسبة
بما ذكرنا الآن وبما أسلفنا وغير ذلك ممّا سكتنا عنه احترازا عن
__________________
الأفهام القاصرة ،
والعقول الضعيفة والآفات اللازمة لها ، فظهر سرّ الارتباط ، فحصل الأثر برابطة
المناسبة بين الإله والمألوه.
وسائل تحصيل العلم
الذوقي
ثم نقول : فلمّا
أدرك السالكون من أهل العناية ما ذكرنا ووقفوا على ما إليه أشرنا ، علموا أنّ حصول
العلم الذوقي الصحيح من جهة الكشف الكامل الصريح يتوقّف بعد العناية الإلهيّة على
تعطيل القوى الجزئيّة الظاهرة والباطنة من التصريفات التفصيليّة المختلفة المقصودة
لمن تنسب إليه ، وتفريغ المحلّ عن كلّ علم واعتقاد ، بل عن كلّ شيء ما عدا المطلوب
الحقّ ، ثم الإقبال عليه على ما يعلم نفسه بتوجّه كلّي جملي مقدّس عن سائر
التعيّنات العاديّة والاعتقاديّة ، والاستحسانات التقليديّة والتعشّقات النسبيّة ، على اختلاف متعلّقاتها الكونيّة وغيرها ، مع
توحّد العزيمة والجمعيّة والإخلاص التامّ والمواظبة على هذا الحال على الدوام أو في أكثر الأوقات ، دون فترة ولا تقسّم خاطر ، ولا تشتّت
عزيمة ، فحينئذ تتمّ المناسبة بين النفس وبين الغيب الإلهي وحضرة القدس الذي هو
ينبوع الوجود ، ومعدن التجلّيات الأسمائيّة الواصلة إلى كلّ موجود والمتعيّنة
المتعدّدة في مرتبة كلّ متجلّى له وبحسبه لا بحسب المتجلّي الواحد المطلق سبحانه
وتعالى شأنه.
ولكن لهذه التجلّيات وأحكامها وكيفيّة قبولها وتلقّي آثارها وما
يظهر منها وبها في القوابل أسرار جليلة لا يسع الوقت لذكر تفاصيلها ، وإنّما أذكر على سبيل الإجمال والتنبيه ما يستدعي هذا الموضع والمقام
العلميّ الذي نحن بصدد بيان مراتبه وأسرار ذكره إن شاء الله تعالى.
__________________
وصل من هذا الأصل
اعلم أنّ إمداد
الحقّ وتجلّياته واصل إلى العالم في كلّ نفس ، وبالتحقيق الأتمّ ليس إلّا تجلّيا
واحدا يظهر له بحسب القوابل ومراتبها واستعداداتها تعيّنات ، فيلحقه لذلك ،
التعدّد والنعوت المختلفة والأسماء والصفات ، لا أنّ الأمر في نفسه متعدّد أو
وروده طار ومتجدّد ، وإنّما التّقدّم والتأخّر وغيرهما ـ من أحول الممكنات التي
توهم التجدّد والطريان والتقيّد والتغيّر ونحو ذلك ـ كالحالّ في التعدّد ، وإلّا
فالأمر أجلّ من أن ينحصر في إطلاق أو تقييد ، أو اسم أو صفة أو نقصان أو مزيد.
وهذا التجلّي
الأحديّ المشار إليه والآتي حديثه من بعد ليس غير النور الوجودي ، ولا يصل من
الحقّ إلى الممكنات بعد الاتّصاف بالوجود وقبله غير ذلك ، وما سواه فإنّما هو
أحكام الممكنات وآثارها تتّصل من بعضها بالبعض حال الظهور بالتجلّي الوجودي
الوحداني المذكور.
ولمّا لم يكن
الوجود ذاتيّا لسوى الحقّ بل مستفادا من تجلّيه ، افتقر العالم في بقائه إلى
الإمداد الوجودي الأحدي مع الآنات ، دون فترة ولا انقطاع ؛ إذ لو انقطع الإمداد
المذكور طرفة عين لفنى العالم دفعة واحدة ، فإنّ الحكم العدميّ أمر لازم للممكن ،
والوجود عارض له من موجده.
ثم نقول : ولا
يخلو السالك في كلّ حين من أن يكون الغالب عليه حكم التفرقة أو الجمع الوحدانيّ
النعت ، كما أنّه لا يخلو أيضا فيما يقام فيه من الأحوال من غلبة حكم إحدى
__________________
صفاته على أحكام
باقيها ، كما بيّنّاه ، فإن كان في حال تفرقة ـ وأعني بالتفرقة هاهنا عدم خلوّ الباطن من الأحكام الكونيّة وشوائب التعلّقات ـ
فإنّ التجلّي عند وروده عليه يتلبّس بحكم الصفة الحاكمة على القلب ، وينصبغ بحكم
الكثرة المستولية عليه ، ثم يسري الأمر بسرّ الارتباط في سائر الصفات النفسانيّة
والقوى البدنيّة سريان أحكام الصفات المذكورة فيما يصدر عن الإنسان من الأفعال
والآثار ، حتى في أولاده وأعماله وعباداته التابعة لنيّته وحضوره العلمي.
والنتائج الحاصلة
من ذلك كلّه عاجلا وآجلا ، وتذكّر قوله صلىاللهعليهوآله : «الولد سرّ أبيه» و «الرضاع يغيّر الطباع» ونحو ذلك ممّا
اتّضح عند اولي البصائر والألباب فلم يختلفوا فيه ، وكانصباغ النور العديم اللون بألوان ما يشرق عليه من الزجاج ، فتتكثّر صفات
التجلّي بحسب ما يشرق ويمرّ عليه ويتّصل به من صفات المتجلّى له وقواه حتى ينفذ
فيه أمر الحقّ اللازم لذلك التجلّي.
فإذا انتهى السالك
إلى الغاية التي حدّها الحق وشاءها ، انسلخ عن التجلّي حكم تلك الصفات الكونيّة ،
فيعود عودا معنويا إلى حضرة الغيب بتفصيل يطول وصفه ، بل يحرم كشفه.
وهكذا حكم
التجلّيات الإلهيّة مع أكثر العالم فيما هم فيه ؛ فإنّ أوامر الحقّ الإرادية
الذاتيّة تنفذ فيهم وهم لا يشعرون بسرّ موردها ومصدرها.
فإن كان المتجلّى
له في حال جمع متوحّد مع التعرّي عن أحكام التعلّقات الكونيّة على نحو ما مرّ ذكره
، فإنّ أول ما يشرق نور التجلّي على قلبه الوحدانىّ النعت ، التامّ التجلّي ،
المعقول عن صداء الأكوان والعلائق توحّدت أحكام الأحديّات الكلّيّة
المتشعّبة من الأحديّة الأصليّة في المراتب التي اشتملت عليها ذاته كحكم أحديّة
عينه الثابتة وأحديّة التجلّي الأوّل الذي ظهر به عينه له ، وبهذه الأحديّة من حيث
التجلّي المذكور قبل العبد الإمداد الالهي الذي كان به بقاؤه إلى ساعته تلك ، ولكن
بحسب الأمر الغالب عليه وأحدية
__________________
الصفة الحاكمة
عليه حين التجلّي الثاني ، الحاصل لدى الفتح ، بل المنتج له ، فالذي للعين الثابتة
في التجلّي الأوّل تقييده بصفة التعيّن فقط ، والذي للصفة الغالبة الوجوديّة صبغ
التجلّي بعد تعيّنه بوصف خاصّ يفيد حكما معيّنا أو أحكاما شتّى ، كما سبق التنبيه
عليه.
فإذا حصل التوحيد المذكور ، اندرجت تلك الأحكام المتعدّدة المنسوبة إلى
الأحديّات والمتفرّعة منها في الأصل الجامع لها ، فانصبغ المحلّ والصفة الحاكمة
بحكم التجلّي الأحدي الجمعي ، ثم ينصبغ التجلّي بحكم المحلّ.
ثم أشرق ذلك النور
على الصفات والقوى ، وسرى حكمه فيها ، فتكتسى حالتئذ سائر حقائق ذات المتجلّى له
وصفاته حكم ذلك التجلّي الوحداني ، وتنصبغ به انصباغا يوجب اضمحلال أحكام تلك الكثرة وإخفاءها دون زوالها
بالكلّيّة ؛ لاستحالة ذلك.
ثم لا يخلو إمّا
أن يتعيّن التجلي بحسب مرتبة الاسم «الظاهر» ، أو بحسب مرتبة الاسم «الباطن» أو
بحسب مرتبة الاسم «الجامع» ؛ لانحصار كلّيّات مراتب التجلّي فيما ذكرنا.
فإن اختصّ بالاسم «الظاهر»
وكان التجلّي في عالم الشهادة ، أفاد المتجلّى له رؤية الحقّ في كلّ شيء رؤية حال
فظهر سرّ حكم التوحيد في مرتبة طبيعته وقواها الحسّيّة والخياليّة ، ولم يزهد في
شيء من الموجودات.
وإن اختصّ بالاسم «الباطن»
وكان إدراك المتجلّى له ما أدركه بعالم غيبه وفيه ، أفاده معرفة أحديّة الوجود
ونفيه عن سوى الحقّ دون حال ، وظهر سرّ التوحيد والمعرفة اللازمة له في مرتبة عقله
، وزهد في الموجودات الظاهرة ، وضاق عنه كلّ كثرة وحكمها.
وإن اختصّ التجلّي
بالاسم «الجامع» وأدركه المدرك من حيث مرتبته الوسطى الجامعة بين الغيب والشهادة
وفيها ، استشرف على الطرفين ، وفاز بالجمع بين الحسنيين ، ولهذا المقام أحكام
متداخلة وأسرار غامضة يفضي شرحها إلى بسط وتطويل ، فأضربت عن ذكرها طلبا للإيجاز.
والله وليّ الهداية.
ثم نقول : وهذه
التجلّيات هي تجلّيات الأسماء ، فإن لم يغلب على قلب المتجلّى له حكم
__________________
صفة التعيين ، وتطهّر عن سائر التعلّقات بالكلّيّة حتى عن التوجّه إلى الحقّ باعتقاد خاصّ ، أو
الالتجاء إليه من حيث اسم مخصوص ، أو مرتبة وحضرة معيّنة ، فإنّ التجلّي حينئذ
يظهر بحسب أحديّة الجمع الذاتي ، فتشرق شمس الذات على مرآة حقيقة القلب من حيث
أحديّة جمع القلب أيضا وهي الصفة التي صحّ بها للقلب الإنساني مقام المضاهاة وأن
يتّسع لانطباع التجلّي الذاتي الذي ضاق عنه العالم الأعلى والعالم الأسفل بما
اشتملا عليه ، كما ورد به الإخبار الإلهي بواسطة النبي صلىاللهعليهوآله
بقوله : «ما وسعني
أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقيّ النقيّ» وأن يكون مستوى له وظاهرا بصورته ، ثم تتبحّر ساحة القلب بالاستواء الإلهي ، وتتفرّع جداوله بعد التبحّر
والتوحّد بحسب نسب الأسماء علوا في مراتب صفاته الروحانيّة ، وسفلا
في مراتب قواه الطبيعيّة ، وتحرق حينئذ أشعّة شمس الذات ، المسمّاة بالسبحات
متعلّقات مدارك البصر ، وتقوم القيامة المختصّة به ، فيقول لسان الاسم «الحقّ» : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) فإذا لم يبق نسبة كونيّة يظهر لها حكم وعين ودعوى ، أجاب
الحقّ نفسه بنفسه ، فقال : (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) فإنّه قهر بالحكم الآخر من تجلّيه الأوّل المستجنّ فيمن
حاله ما ذكرناه آنفا أحكام الأكوان ودعاوي الأغيار المزاحمين لمقام
الربوبيّة ، والمنازعين لأحديّته بإخفاء كثرتهم وحكمها.
فإذا استهلكوا تحت
قهر الأحديّة وصاروا كأنّهم أعجاز نخل خاوية ، ولم تر لهم من باقية ، ظهر سرّ الاستواء
الإلهي الجمعى الكمالي ، على هذا القلب الإنساني ، فينطق لسان مرتبة المستوي بنحو
ما نطق عقيب الاستواء الرحماني فيقول : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ) وهي مرتبة العلوّ من صفات الإنسان المذكور الذي هو مستوى الاسم «الله» وصاحب مرتبة
__________________
المضاهاة كما بيّن
(وَما فِي الْأَرْضِ) وهو مرتبة سفله وطبيعته من حيث الاعتبار أيضا وما بينهما
وهو مرتبة جمعه (وَما تَحْتَ الثَّرى) وهو نتائج أحكام طبيعته التي سفل عن مرتبة الطبيعة من كونها منفعلة عنها ؛ إذ رتبة المنفعل
تحت مرتبة الفاعل من كونه فاعلا وتمّ الأمر وحينئذ يظهر قرب الفرائض المقابل لقرب
النوافل المشار إليهما في الحديثين المشهورين ب «كنت سمعه وبصره» وبقوله : «إنّ
الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده» ثم يقول لسان مرتبة الاسم «الله» : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لانقلاب كلّ صفة وقوّة من صفات العبد وقواه اسما من أسماء
الحقّ ويبقى العبد مستورا خلف حجاب غيب ربّه فينشد لسان حاله حقيقة لا مجازا ، شعر
:
تستّرت عن دهري
بظلّ جناحه
|
|
فعيني ترى دهري
وليس يراني
|
فلو تسأل الأيّام
ما اسمي؟ ما درت
|
|
وأين مكاني؟ ما
درين مكاني
|
لأنّه تنزّه عن
الكيف والأين ، وحصل في العين ، واحتجب من حيث مرتبته عن عقل كلّ كون وعين ، في مقام العزّة والصون.
ثم يتلى عليه من
تلك الإشارات بلسان الحال قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) وهي الأحكام الكونيّة المظهرة حكم الكثرة من حيث ظهورها
بهذا الإنسان ونسبة الفعل فيها إليه (فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) بأحديّة الجمع الإلهي كما مرّ ذكره ، (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، وهم أهل الستر الإلهي الغيبي المشار إليه : ب (يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) وأيّ مقيل ومستقرّ خير وأحسن من الثبوت في غيب الذات وستره
والتحرّز من عبوديّة الأكوان والأغيار ، وقيام الحقّ عنه بكلّ ما يريده سبحانه
منه؟ ثم قال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ) فالسماء بلسان المقام المشار إليه لمرتبة العلوّ لا محالة
، والعلوّ في
__________________
الحقيقة للمراتب
المحكمة بالتأثير في سائر الموجودات الأثر مخصوص بها ، وعلوّ درجة
المؤثّر على درجة المؤثّر فيه معلوم.
فالغمام هو الحكم
العمائيّ المنبّه عليه في التعريفات النبويّة والإلهيّة وقد أشرت إلى أنّه النفس
الرحماني وحضرة الجمع ، وأنّه النور الكاشف للموجودات والمحيط بها والمظهر بفتحه ،
وانشقاقه تميّزها العلمي الأزلي ، ولذلك أخبر سبحانه عن نفسه ، وحكم في آخر الأمر
يوم القيامة بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) الآية. فيفصّل بين الأمور ، ويميّز الخبيث من الطيّب ،
فظهر في الخاتمة سرّ السابقة الأولى ، وتمّت المضاهاة المظهرة حكم الأمر الجامع
بين الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، فافهم.
لا حلول ولا
اتّحاد
ثم نقول : ولا شكّ
أنّ مرتبة هذا العبد المشار إليه وأمثاله من جملة المراتب الداخلة تحت الحيطة
العمائيّة المذكورة ، فيظهر بما قلنا تميّز مرتبته من حيث نسبته العدميّة وظلمته
الإمكانيّة ، من مرتبة موجده برجوع الحكم الوجودي المستعار إلى الحقّ الذي هو الوجود
البحت والنور الخالص (وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ) التي هي مظاهر الأسماء حاملة للرسالات الذاتيّة في المنازل
التي لها في مقام هذا العبد الجامع الحائز من حيث كونه نسخة ومرآة تامّة صورة حضرة
ربّه حين تقديس ربّه إيّاه عن الظلمات البشريّة والأحكام الكونيّة.
فإذا استقرّت
الأسماء في المنازل المذكورة ، ـ وذلك بانقلاب صفاته وقواه أسماء وصفات إلهيّة كما
اومأت إليه ـ ترتّب حينئذ حكم الآية التي تلي هذه الآيات وهي قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ) الساترين ـ كما قلنا ـ بكثرتهم أحكام الأحديّة (عَسِيراً) فإنّه يعسر على الشيء ذهاب عينه ، ويعسر على السالك صاحب
هذا الحال قبل التحقّق بالمقام المذكور الانسلاخ والتخلّي ممّا قلناه أشدّ العسر و
__________________
[يصعب] التحقّق
والتحلّي بما وصفنا أشدّ الصعوبة ولكن «عند الصباح يحمد القوم
السّرى» جعلنا الله وسائر الإخوان من أهل هذا المقام العليّ وأرباب هذا الحال
السنيّ.
علم الله حقيقة
وعلم العبد مجاز
ثم نقول : فإذا
انتهى السالك إلى هذا المقام المستور ، وتحقّق بما شرحناه من الأمور ، ورأى بعين
ربّه ربّه ، وتحقّق بعكس ذلك أيضا ، أضيف العلم والمعرفة إليه من حيث ربّه لا من
حيث هو ولا بحسبه ، وكذا سائر الصفات.
ثم يعلم على هذا الوجه نفسه أيضا التي هي أقرب الأشياء الكونيّة
نسبة إليه ولكن بعد التحقّق بمعرفة الربّ على النحو المشار إليه.
ثم يعلم ما شاء
الحقّ أن يعلمه به من الأسماء والحقائق المجرّدة الكلّيّة ، بصفة وحدانيّة جامعة
كلّيّة نزيهة البتّة ، فيكون علمه بحقائق الأشياء وإدراكه لها في مرتبة
كلّيّتها حاصلا بالصفة الوحدانيّة الجامعة الإلهيّة ، الحاصلة لدى التجلّي المذكور
الصابغ له ، والمذهب بأحديته حكم كثرته الكونيّة الإمكانيّة ، وحكم أحديّاته
المنبّه عليها من قبل ، عند الكلام على سرّ الأثر والمناسبة ، فتذكّر.
ثم يدرك أحكام تلك
الحقائق وخواصّها وأعراضها ولوازمها بأحكام هذا التجلّي الأحدي الجمعي ، والصفة
الكلّيّة المذكورة التي تهيّأ بها للتلبّس بحكم هذا التجلّي الذاتي ، والنور
الغيبي العلمي المشار إليه.
سرّ الاستفاضة من
العلم اللدنّيّ
وسرّ ذلك وصورته :
أنّ الإنسان برزخ بين الحضرة الإلهيّة والكونيّة ، ونسخة جامعة لهما و لما اشتملتا عليه كما ذكر ، فليس شيء من الأشياء إلّا وهو مرتسم في مرتبته التي هي
عبارة عن جمعيّته. والمتعيّن بما اشتملت عليه نسخة وجوده ، وحوتها مرتبته
__________________
في كلّ وقت وحال
ونشأة وموطن إنّما هو ما يستدعيه حكم المناسبة التي بينه وبين ذلك الحال والوقت
والنشأة والموطن وأهله ، كما هو سنّة الحقّ من حيث نسبة تعلّقه بالعالم وتعلّق
العالم به وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، فما لم يتخلّص الإنسان من ربقة قيود الصفات
الجزئيّة والأحكام الكونيّة ، يكون إدراكه مقيّدا بحسب الصفة الجزئيّة الحاكمة
عليه على الوجه المذكور ، فلا يدرك بها إلّا ما يقابلها من أمثالها ، وما تحت
حيطتها لا غير.
فإذا تجرّد من
أحكام القيود والميول والمجاذبات الانحرافيّة الأطرافيّة الجزئيّة ، وانتهى إلى
هذا المقام الجمعي الوسطي المشار إليه ، الذي هو نقطة المسامتة الكلّيّة ، ومركز
الدائرة الجامعة لمراتب الاعتدالات كلّها ، المعنويّة والروحانيّة
، والمثاليّة والحسّيّة ، المشار إليه آنفا ، واتّصف بالحال الذي شرحته ، قام
للحضرتين في مقام محاذاته المعنويّة البرزخيّة ، فواجههما بذاته كحال النقطة مع كلّ جزء من أجزاء المحيط ، وقابل كلّ
حقيقة من الحقائق الإلهيّة والكونيّة بما فيه منه من كونه نسخة من جملتها ، فأدرك
بكلّ فرد من أفراد نسخة وجوده ما يقابلها من الحقائق في الحضرتين ، فحصل له العلم
المحقّق بحقائق الأشياء وأصولها ومبادئها ؛ لإدراكه لها في مقام تجريدها ، ثم يدركها من حيث جملتها وجمعيّتها
بجملته وجمعيّته ، فلم يختلف عليه أمر ، ولم ينتقض عليه حال ولا حكم بخلاف من بيّن
حاله من قبل ، ولو لا القيود الآتي ذكرها ، لاستمرّ حكم هذا الشهود ، وظهرت آثاره
على المشاهد ، ولكنّ الجمعيّة التامّة الكماليّة تمنع من ذلك ، لأنّها تقتضي
الاستيعاب المستلزم للظهور بكلّ وصف ، والتلبّس بكلّ حال وحكم. والثبات على هذه
الحالة الخاصّة المذكورة ـ وإن جلّ ـ يقدح فيما ذكرنا من الحيطة الكماليّة
والاستيعاب الذي ظهر به الحقّ من حيث هذه الصورة العامّة الوجوديّة التامّة ، التي
هي الميزان الأتمّ ، والمظهر الأكمل الأشمل الأعمّ.
ثم نقول : ومن
نتائج هذا الذوق الشامل ، والكشف الكامل الاستشراف على غايات
__________________
المدارك الفكريّة ، والاطّلاعات النظريّة وغير النظريّة ، التي لا تتعدّى
العوارض والصفات والخواصّ واللوازم ، كما سبق التنبيه عليه.
فيعرف صاحبه غاية
ما أدرك كلّ مفكّر بفكره ، واطّلع عليه بحسّه ونظره ؛ ويعرف سبب تخطئة الناظرين
بعضهم بعضا ، وما الذي أدركوه وما فاتهم ، ومن أيّ وجه أصابوا؟ ومن أيّة [جهة]
أخطئوا؟ وهكذا حاله مع أهل الأذواق ـ الذين لم يتحقّقوا بالذوق الجامع ـ وغير هم من أهل الاعتقادات
الظنّيّة والتقليديّة ؛ فإنّه يعرف مراتب الذائقين والمقلّد وما [هو] الحاكم عليهم
من الأسماء والأحوال والمقامات ، الذي أوجب لهم تعشّقهم وتقيّدهم بما هم فيه ، ومن
له أهليّة الترقّي من ذلك ، ومن ليس له ، فيقيم أعذار الخلائق أجمعين ، وهم له
منكرون ، وبمكانته جاهلون.
فهذا يا إخواني
حال المتمكّنين من أهل الله في علمهم الموهوب ، وكشفهم التامّ المطلوب ، ولا
تظنّوها الغاية التامّة فما من طامّة إلّا فوقها طامّة ، ولهذا التحقّق والاستشراف لم
يقع بين الرسل والأنبياء والكمّل من الأولياء خلاف في أصول مأخذهم ونتائجها وما
بيّنوه من أحكام الحضرات الأصليّة الإلهيّة ، وإن تفاضلوا في الاطّلاع والبيان.
وما نقل من الخلاف
عنهم فإنّما ذلك في جزئيّات الأمور والأحكام الإلهيّة المشروعة ؛ لكونها تابعة
لأحوال المكلّفين وأزمانهم ، وما تواطؤوا عليه وما اقتضته مصالحهم.
فتتعيّن الأحكام الإلهيّة في كلّ زمان بواسطة رسول ذلك الزمان بما
هو الأنفع لأهله حسب ما يستدعيه استعدادهم وحالهم وأهليّتهم وموطنهم.
وأمّا هم فيما
بينهم بعضهم مع بعض عليهمالسلام فيما يخبرون به عن الحقّ ممّا عدا الأحكام الجزئيّة المشار إليه
فمتّفقون ، وكلّ تال يقرّر قول من تقدّمه ، ويصدّقه ؛ لاتّحاد أصل مأخذهم وصفاء
محلّهم حال التلقّي من الحقّ عن أحكام العلوم المكتسبة والعقائد
__________________
والتعلّقات وغير ذلك ممّا سبق التنبيه عليه.
وهكذا أكابر
الأولياء ـ رضي الله عنهم ـ لا يتصوّر بينهم خلاف في أصل إلهي أصلا ، وإنّما يقع
ذلك ـ كما قلنا ـ في أمور جزئيّة
، أو بين المتوسّطين وأهل البداية من أهل الأحوال وأصحاب المكاشفات الظاهرة ،
الذين يبرز لهم الحقائق والحضرات وغيرهما ممّا لا يدرك إلّا كشفا في ملابس
مثاليّة.
فإنّ هذا النوع من
الكشف لا يتحقّق بمعرفته ومعرفة مراد الحقّ منه إلّا بعلم حاصل من الكشف المعنوي
الغيبي المعتلي عن مراتب المثل والموادّ ، وإخبار إلهي برفع الوسائط ، معتل عن الحضرات القيديّة والأحكام الكونيّة.
ومن هذا الذوق
يعلم أيضا سرّ الكلام والكتابة الإلهيّين ، وحكمهما في القلوب بصفة العلم والإيمان ،
وحقيقة قرب الفرائض والنوافل وثمراتهما ، وسرّ خروج العبد من حكم القيود الكونيّة
والتقيّدات الأسمائيّة والصفاتيّة إلى فسيح حضرات القدس ، وتحقّقه بمعرفة الأشياء كما سبقت الإشارة إليه.
ولهذا الذوق
والمقام المثمر له ، فوائد عزيزة وثمرات جليلة ، ولا نحتاج في هذا الموضع إلى التنبيه على غير ما أشرنا إليه ، ممّا
استدعاه السرّ العلمي الذي جاء هذا الكلام شارحا بعض أحكامه في بعض مراتبه ، وأذكر
من نفائس أسرار هذا المقام وتتمّاته عند الكلام على قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ما تستدعيه الآية ، وحسب ما يقدّر الحقّ ذكره إن شاء الله
تعالى.
__________________
وصل
لا بدّ قبل الخوض
في تفصيل بقيّة قواعد هذا التمهيد الكلّي من التنبيه على ألفاظ يسيرة يتكرّر ذكرها
في هذا الكتاب ، وسيّما فيما بعد ، ربما توجب شغبا واشتباها على من لا معرفة له
باصطلاح أهل الذوق ، فإذا نبّه عليها لم تعتص عليه معرفة المقصود منها ، واستغنى
أيضا عن تكرار جميعها بذكر أحدها حين الكلام على المرتبة التي هي أصلها. اللهمّ
إلّا أن يكون في الأمر المتكلّم فيه مزيد غموض ، فإنّي أتحرّى الإيضاح بذكر النعوت
؛ خوفا من نسيان المتأمّل ما سبق التنبيه عليه.
١. الغيب المطلق
فاعلم أنّي متى
ذكرت الغيب المطلق في هذا الكتاب فهو إشارة إلى ذات الحقّ سبحانه وتعالى وهويّته
من حيث بطونه وإطلاقه وعدم الإحاطة بكنهه وتقدّمه على الأشياء وإحاطته بها ، وهو
بعينه النور المحض والوجود البحت ، والمنعوت بمقام العزّة والغنى.
٢. البرزخ الأوّل
ومتى ذكرت البرزخ
الأوّل ، وحضرة الأسماء والحدّ الفاصل ، ومقام الإنسان الكامل من حيث هو إنسان
كامل ، وحضرة أحديّة الجمع والوجود ، وأوّل مراتب التعيّن ، وصاحبة الأحديّة ،
وآخر مرتبة الغيب ، وأوّل مرتبة الشهادة بالنسبة إلى الغيب المطلق ومحلّ نفوذ
الاقتدار ، فهو إشارة الى العماء الذي هو النفس الرحماني ، وهو بعينه الغيب
الإضافي الأوّل بالنسبة إلى معقوليّة الهويّة التي لها الغيب المطلق ، فإن أطلقت
ولم أنعت ، أو قلت : الغيب
الإلهي ، فإنّي
أريد الغيب المطلق.
٣. ومتى أضفت شيئا
إلى الطبيعة ، فقلت : الطبيعي ، فالمراد : كلّ ما للطبيعة فيه حكم ، والطبيعة
عندنا عبارة عن الحقيقة الجامعة للحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والحاكمة
على هذه الكيفيّات الأربع. والعنصري : ما كان متولّدا من الأركان الأربعة : النار
، والهواء ، والماء ، والتراب ، والسماوات السبع وما فيها عند أهل الذوق من
العناصر ، فاستحضر ما نبّهت عليه ، وما سوى هذا الغيب والنفس من المراتب فإنّي
أعرّفها عند ذكري لها بما يعلم منه المقصود.
وها أنا أوضّح
الآن ما تبقى من أسرار العلم المحقّق ومراتبه والكلام ، ثم أذكر القواعد الكلّيّة
التي تضمّنها هذا التمهيد ، وبدء الأمر الإيجادي وسرّه ، ثم يقع الشروع في الكلام
على أسرار : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثم أذكر المفاتيح المتضمّنة سرّ ما حوته الفاتحة ، والوجود الذي هو الكتاب الكبير على
سبيل التنبيه الإجمالي ، وحينئذ أشرع في الكلام على الفاتحة آية بعد آية إن شاء
الله تعالى.
أسرار علم التحقيق
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم أنّ العلم حقيقة مجرّدة كلّيّة ، لها نسب وخواصّ وأحكام وعوارض ولوازم
ومراتب وهو من الأسماء الذاتيّة الإلهيّة ، ولا يمتاز عن الغيب المطلق إلّا بتعيّن
مرتبته من حيث تسميته علما ، وموصوفيّته بأنّه كاشف للأمور ومظهر لها ،
والغيب المطلق لا يتعيّن له مرتبة ولا اسم ولا نعت ولا صفة ولا غير ذلك إلّا بحسب
المظاهر والمراتب ، كما سنشير إليه.
لا يجوز تعريف
العلم
والعلم هو عين
النور لا يدرك شيء إلّا به ولا يوجد أمر بدونه ، ولشدّة ظهوره لا يمكن
__________________
تعريفه ؛ إذ من
شرط المعرّف أن يكون أجلى من المعرّف وسابقا عليه ، وما ثمّة ما هو أجلى من العلم
ولا سابق عليه إلّا غيب الذات ، الذي لا يحيط به علم أحد غير الحقّ.
وتقدّم نسبة
الحياة عليه تقدم شرطي باعتبار المغايرة لا مطلقا ، ومع ذلك فلا يثبت تقدّمه إلّا
بالعلم.
لم جاء التعريف
أحيانا؟
فالمعرّف للعلم
إمّا جاهل بسرّه ، وإمّا عارف يقصد التنبيه على مرتبته من حيث بعض صفاته ، لا
التعريف التامّ له ، ولهذا التعريف التنبيهي سرّ وهو كون المعرّف العارف إنّما
يعرّف بحكم من أحكام العلم وصفة من صفاته حكما آخر أو صفة أخرى من أحكام العلم
أيضا وصفاته ، فيكون القدر الحاصل من المعرفة بالعلم إنّما حصل به لا بغيره فيكون
الشيء هو المعرّف نفسه ، ولكن لا من حيث أحديّته ، بل من حيث نسبه ، وهذا هو سرّ
الأدلّة والتعريفات والتأثيرات كلّها على اختلاف مراتبها ومتعلّقاتها.
ومن هذا السرّ
ينبه الفطن قبل تحقّقه بالمكاشفات الإلهيّة لسرّ قول المحقّقين : «لا يعرف الله
إلّا الله» ولقولهم : «التجلّي في الأحديّة محال» مع اتّفاقهم على أحديّة الحقّ
ودوام تجلّيه لمن شاء من عباده من غير تكرار التجلّي ، سواء كان المتجلّى له واحدا
أو أكثر من واحد ، فافهم وتدبّر هذه الكلمات اليسيرة ؛ فإنّها مفاتيح لأمور كثيرة
، وأسرار كبيرة.
ما في الوجود من
العلم
ثم نقول : فالظاهر
من الموجودات ليس غير تعيّنات نسب العلم الذي هو النور المحض ، تخصص وتخصّص بحسب حكم الأعيان الثابتة ، ثم انصبغت الأعيان
بأحكام بعضها في البعض بحسب مراتبها التي هي الأسماء ، فظهرت به ـ أعني النور ـ
وتعيّن بها وتعدّد.
فمتى حصل تجلّ
ذاتي غيبي لأحد من الوجه الخاصّ يرفع أحكام الوسائط ؛ فإنّه يقهر ـ كما قلنا ـ
بأحديّته أحكام الأصباغ العينيّة الكونية ، المسمّاة حجبا نوريّة إن كانت أحكام
__________________
الروحانيّات ،
وحجبا ظلمانيّة إن كانت أحكام الموجودات الطبيعيّة والجسمانيّات ، فإذا قهرها هذا
التجلّي المذكور ، وأظهر حكم الأحديّة المستجنّة في الكثرة اللازمة لذلك الموجود
المتجلّى له على نحو ما مرّ ، اتّحدت أحكام الأحديّات المذكورة من قبل في الأصل
الجامع لها ، وارتفعت موجبات التغاير بظهور حكم اتّحاد الأحكام المتفرّعة من
الواحد الأحد ، كما سبقت الإشارة إليه فسقطت أحكام النسب التفصيليّة والاعتبارات
الكونيّة بشروق شمس الأحديّة ؛ فإنّ العالم محصور في مرتبتي الخلق والأمر ، وعالم
الخلق فرع وتابع لعالم الأمر ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) ، فإذا ظهرت الغلبة الإلهيّة بحكم أحديّتها المذكورة ، فني
من لم يكن له وجود حقيقي ـ وهي النسب الحادثة الإمكانيّة ـ وبقي من لم يزل وهو
الحقّ ، فظهر حكم العلم الإلهي وخاصّيّته بالحال للأزلي لم يتجدّد له أمر غير ظهور إضافته إلى العين المتعيّنة فيه أزلا ، الموصوفة الآن
بواسطة التجلّي النوري بالعلم ؛ لما تجدّد لها من إدراكها عينها وما شاء الحقّ أن
يطلعها عليه في حضرة العلم اللدنّي بصفة وحدتها ونور موجودها ، وما قبلت من تجلّيه الوجودي الذي ظهر به تعيّنها في
العلم الأزلي.
ثم ليعلم أنّ لهذا
العلم الذي هو نور الهويّة الإلهيّة حكمين أو قل : نسبتين ـ كيف شئت ـ : نسبة
ظاهرة ، ونسبة باطنة ، فالصور الوجوديّة المشهودة هي تفاصيل النسبة الظاهرة ،
والنور المنبسط على الكون ـ المدرك في الحسّ ، المفيد تميّز الصور بعضها من بعض ـ هو حكم النسبة الظاهرة من حيث
كلّيّتها وأحديّتها.
وإنّما قلت : «حكم
النسبة الظاهرة» من أجل أنّ النور من حيث تجرّده لا يدرك ظاهرا ، وهكذا حكم كلّ
حقيقة بسيطة وإنّما يدرك النور بواسطة الألوان والسطوح القائمة بالصور ، وكذا سائر
الحقائق المجرّدة لا تدرك ظاهرا إلّا في مادّة ، والنسبة الباطنة هي معنى النور
ومعنى الوجود الظاهر وروحه الموضح للمعلومات المعنويّة والحقائق الغيبيّة الكلّيّة ، التي
__________________
لا تظهر في الحسّ
ظهورا يرتفع عنها به حكم كونها معقولة ، وتفيد أيضا ـ أعني هذه النسبة الباطنة العلميّة النوريّة ـ معرفة
عينها ووحدتها وأصلها الذي هو الحقّ ونسب هويّته التي هي أسماؤه الأصليّة ، أو قل
: شؤونه ـ وهو الأصحّ ـ ومعرفة تمييز بعضها من بعض وما هو منها فرع تابع ، وأصل
متبوع ؛ وكذلك تفيد معرفة الحقائق المتعلّقة بالموادّ والنسب التركيبيّة وما لا
تعلّق له بمادّة ولا شيء من المركّبات ، وما يختصّ بالحقّ من الأحكام ويصحّ نسبتها
إليه ، وما يخصّ العالم وينسب إليه ، وما يقع فيه الاشتراك بنسبتين مختلفتين. هذا
إلى غير ذلك من التفاصيل التابعة لما ذكر.
فصور الموجودات
نسب ظاهر النور ، والمعلومات المعقولة هي تعيّنات نسبه الباطنة التي هي أعيان الممكنات الثابتة ، والحقائق
الأسمائيّة الكلّيّة وتوابعها من الأسماء.
فالعالم بمجموع
صوره المحسوسة وحقائقه الغيبيّة المعقولة ، أشعّة نور الحقّ ، أو قل : نسب علمه ،
أو صور أحواله ، أو تعدّدات تعلّقاته ، أو تعيّنات تجليّاته في أحواله المسمّاة من
وجه أعيانا ، فظاهر العلم صورة النور ، وباطنه المذكور معنى النور ، غير أنّ
ظهور صورة النور توقّف على امتياز الاسم «الظاهر» بسائر توابعه المنضافة إليه عن
معنى النور ، فصار الباطن بما فيه متجلّيا ومنطبعا في مرآة مّا ظهر منه.
وهكذا كلّ نسبة من
نسب ما ظهر مرآة لنسبة مّا من النسب الباطنة النوريّة العلميّة ، مع أحديّة الذات
الجامعة لسائر النسب الباطنة والظاهرة وقد أخبر الحقّ سبحانه أنّه : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ثم ذكر الأمثلة والتفاصيل المتعيّنة بالمظاهر على نحو ما
تقتضيه مراتبها كما سبق التنبيه عليه ؛ ثم قال في آخر الآية : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فأضاف النور إلى نفسه مع أنّه عين النور ، وجعل نوره
المضاف إلى العالم الأعلى والأسفل هاديا إلى معرفة نوره المطلق ، ودالّا عليه ،
كما جعل المصباح والمشكاة والشجرة وغيرها من الأمثال هاديا إلى نوره المقيّد
وتجلّياته المتعيّنة في مراتب مظاهره ، وعرّف
__________________
أيضا على لسان
نبيّه صلىاللهعليهوآله أنّه النور وأنّ حجابه نور وأخبر : أنّه (أَحاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْماً) و (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) وأنّه (وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) .
والرحمة الشاملة
عند من تحقّق بالذوق الإلهي والكشف العلمي هو الوجود العامّ ، فإنّ ما عدا الوجود لا شمول فيه ، بل تخصيص تمييز ، فدلّ
جميع ذلك عند المنصف ـ إذا لم يكن من
أهل الكشف ـ على صحّة ما قصدنا التنبيه عليه بهذه التلويحات ، فتدبّر ذلك وافهم ما
أدرجت لك في هذه المقدّمات تلمح أسرار عزيزة إن شاء الله تعالى.
نعوت العلم
ثم اعلم أنّ
النعوت اللازمة للعلم ـ من قدم وحدوث ، وفعل وانفعال ، وبداهة واكتساب ، وتصوّر وتصديق ، وضرر ومنفعة ، وغير ذلك ـ ليست عين العلم من حيث هو هو ، بل هي أحكام العلم وخواصّه ،
بحسب متعلّقاته وبحسب المراتب التي هي مظاهر آثاره ، فما لا يعقل حكم الأوّليّة
فيه من المراتب ، ولا يدرك بدؤه ، ويشهد منه صدور أثر العلم وحكمه ، يوصف ويضاف
العلم إليه بنسبة القدم.
وحكم العالم فيما
نزل عن الدرجة المذكورة ينعت بالحدوث ، وما لا يتوقّف حصوله على شيء خارج عن ذات
العالم يكون علما فعليّا ، وما خالف في هذا الوصف وقابله كان علما انفعاليّا.
والعلم الذي لا واسطة فيه بين العبد وربّه ، وما لا تعمّل له في تحصيله ـ وإن كان
وصوله من طريق الوسائط ـ فهو العلم الموهوب ، والحاصل بالتعمّل ومن جهة الوسائط المعلومة فهو المكتسب.
وتعلّق العلم
بالممكنات من حيث إمكانها يسمّى بالعلم الكوني ، وما ليس كذلك فهو
__________________
العلم المتعلّق
بالحق أو بأسمائه وصفاته ، التي هي وسائط بين ذاته الغيبيّة وبين خلقه.
فإذا تحقّقت ما
أشرت إليه ونبّهت عليه في هذا التمهيد عرفت أنّ العلم الصحيح ـ الذي هو النور
الكاشف للأشياء عند المحقّقين من أهل الله وخاصّته ـ عبارة عن تجلّ إلهي في حضرة
نور ذاته ، وقبول المتجلّى له ذلك العلم هو بصفة وحدته بعد سقوط أحكام نسب الكثرة والاعتبارات الكونيّة عنه كما مرّ ،
وعلى نحو ما يرد ذلك بحكم عينه الثابتة في علم ربّه أزلا من الوجه الذي لا
واسطة بينه وبين موجده ؛ لأنّه في حضرة علمه ما برح ، كما سنشير إليه في مراتب
التصوّرات إن شاء الله تعالى.
وسرّ العلم هو
معرفة وحدته في مرتبة الغيب ، فيطّلع المشاهد ـ الموصوف بالعلم بعد المشاهدة بنور
ربّه ـ على العلم و مرتبة وحدته بصفة وحدة أيضا كما مرّ ، فيدرك بهذا التجلّي النوري
العلمي من الحقائق المجرّدة ما شاء الحقّ سبحانه أن يريه منها ممّا هي في مرتبته
أو تحت حيطته.
ولا ينقسم العلم
في هذا المشهد إلى تصوّر وتصديق كما هو عند الجمهور ، بل تصوّر فقط ؛ فإنّه يدرك به حقيقة التصوّر والمتصوّر والإسناد ، والسبق والمسبوقية وسائر الحقائق مجرّدة في آن
واحد بشهود واحد غير مكيّف وصفة وحدانيّة. ولا تفاوت حينئذ بين التصوّر والتصديق ،
فإذا عاد إلى عالم التركيب والتخطيط وحضر مع أحكام هذا الموطن يستحضر تقدّم
التصوّر على التصديق عند الناس بالنسبة إلى التعقّل الذهني ، بخلاف الأمر في حضرة
العلم البسيط المجرّد ، فإنّه إنّما يدرك هناك حقائق الأشياء ، فيرى أحكامها
وصفاتها أيضا ـ كهي ـ مجاورة
لها ومماثلة.
ولمّا كان الإنسان
وكلّ موصوف بالعلم من الحقائق ، لا يمكنه أن يقبل لتقيّده بما بيّنّاه في هذا التمهيد إلّا أمرا مقيّدا متميّزا عنده
، صار التجلّي الإلهي ـ وإن لم يكن من عالم
__________________
التقيّد ـ ينصبغ عند وروده
ـ كما مرّ ـ بحكم نشأة المتجلّى له وحاله ووقته وموطنه ومرتبته والصفة الغالب
حكمها عليه ، فيكون إدراكه لما تضمّنه التجلّيات بحسب القيود المذكورة وحكمها فيه.
وفي الانسلاخ عن
هذه الأحكام ونحوها يتفاوت المشاهدون مع استحالة رفع أحكامها بالكلّيّة ، لكن يقوى
ويضعف ، كما ذكرته في مسألة قهر أحديّة التجلّي أحكام الكثرة النسبيّة.
وبمقدار إطلاق
صاحب هذا العلم في توجّهه وسعة دائرة مرتبته وانسلاخه عن قيود الأحكام بغلبة صفة
أحديّة الجمع ، يعظم إدراكه ومعرفته وإحاطته بما انسحب عليه حكم هذا التجلّي من
المراتب التي هي تحت حيطته ، ويصير حكم علمه بالأشياء ـ التي علمها من هذا الوجه
بهذا الطريق ـ حكم الحقّ سبحانه في علمه الأحدي الأصل والمرتبة ، كما سبق التنبيه
عليه في المتن والحاشية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِما شاءَ) فافهم.
لكن تبقى ثمّة
فروق أخر أيضا ، كالقدم والإحاطة وغيرهما تعرفها ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا وقفت
على سرّ مراتب التمييز الثابت بين الحقّ والخلق عن قريب.
ثم نقول : فهذا
العلم الحاصل على هذا النحو هو الكشف الأوضح الأكمل الذي لا ريب فيه ولا شكّ
يداخله ، ولا يطرق إليه احتمال ولا تأويل ، ولا يكتسب بعلم ولا عمل ولا سعي ولا
تعمّل ، ولا يتوسّل إلى نيله ولا يستعان في تحصيله بتوسّط قوىّ روحانيّة نفسانيّة أو بدنيّة
مزاجيّة ، أو إمداد أرواح علويّة ، أو قوى وأشخاص سماويّة أو أرضيّة ، أو شيء غير
الحقّ.
والمحصّل له
والفائز به أعلى العلماء مرتبة في العلم ، وهو العلم الحقيقي ، والمتجلّي به هو
مظهر التجلّي النوري وصاحب الذوق الجمعي الأحدي وما سواه ـ ممّا يسمّى علما عند
أكثر العالم وكثير من أهل الأذواق ـ فإنّما هو أحكام العلم في مراتبه التفصيليّة
وآثاره من
__________________
حيث رقائقه وأشعّة
أنواره ، وليس هو حقيقة العلم.
مراتب العلم
ومراتب العلم
متعدّدة ، فمنها معنويّة وروحانيّة وصوريّة مثاليّة بسيطة بالنسبة ، ومركّبة
مادّية.
فالصوريّة كالحروف
والكلمات المكتوبة والمتلفّظ بها ونحوها من أدوات التوصيل الظاهرة.
والمعنويّة هي
المفهومات المختلفة ، التي تضمّنها العبارات والحروف المختلفة ، بحسب التراكيب والاصطلاحات
الوضعيّة ، والمراتب التي هي محالّ ظهور صفات العلم ومجاليه ، كالقوّة الفكريّة
وغيرها من القوى والمخارج والتصوّرات.
وروح العلم هو
حكمه الساري من رتبته ، وسرّ وحدته ، بواسطة الموادّ اللفظيّة والرقميّة ونحوهما
ممّا مرّ ذكره.
وبهذا الحكم يظهر
نفوذه فيمن أحيا الله به قلبه وأنار نفسه ولبّه بزوال ظلمة الجهل من الوجه الذي
تعلّق به حكم هذا العلم وتبديل تلك الصفة بحالة أو صفة نيّرة وجوديّة علميّة.
العلم يصحب
التجلّي الذاتي
فمتى حصل تجلّ
ذاتي غيبي على نحو ما سلف شرحه فإنّ العلم يصحبه ولا بدّ ؛ لأنّ صفات الحقّ سبحانه
وتعالى ليس لها في مرتبة غيبه ووحدته تعدّد ، والصفة الذاتيّة كالعلم في حق الحقّ
لا تفارق الموصوف ولا تمتاز عنه.
فمن أشهده الحقّ
تعالى ذاته شهودا محقّقا ؛ فإنّ ذلك الشهود يتضمّن العلم ، ويستلزمه ضرورة ،
ولتقيّد حكم التجلّي بحسب المشاهد وقيوده المذكورة كانت النتيجة العلميّة في كلّ
مشهد وتجلّ نتيجة جزئيّة ؛ إذ لو لا تلك القيود والأحكام اللازمة لها كان من أشهده
الحقّ تعالى ذاته برفع الوسائط علم علم الحقّ سبحانه وتعالى في خلقه إلى يوم
القيامة ، كما علمه
__________________
القلم الأعلى ،
ولكن بحسب المرتبة الإنسانيّة الكماليّة من حيث جمعيّتها الكبرى وحيازتها سرّ
الصورة. ولو لا الأحكام التمييزيّة الثابتة بين الحقّ سبحانه وما سواه ـ الآتي
ذكرها ـ كان الأمر أجلّ وأعظم.
هذا ، مع أنّ
للكمّل من هذا الأمر المشار إليه حظّا وافرا ، ولكن عدم الانفكاك التامّ عن القيود
من كلّ وجه ، ومقام الجمعيّة الذي أقيموا فيه ، المنافي للانحصار تحت حكم حالة
مخصوصة وصفة معيّنة ومقام مقيّد متميّز ـ كما مرّ ذكره ـ
يقضيان بعدم دوام هذه الصفة واستمرار حكمها وإن جلّت ، وهكذا أمرهم وشأنهم مع سائر
الصفات والمراتب. والمانع لغير الكمّل ـ ممّا أشرنا إليه ـ الحجب الكونيّة والقيود
المذكورة ، وكونهم أصحاب مراتب جزئية ، لا استعداد لهم للخروج من رقّها ، والترقّي
إلى ما فوقها.
أحكام العلم ونسبه
ثم نقول : والعلم
وإن كان حقيقة واحدة كلّيّة فإنّ له أحكاما ونسبا تتعيّن بحسب كلّ مدرك له في
مرتبته ، وبتلك النسبة المتعيّنة بحسب المدرك وفي مرتبته لم يتجدّد عليها ـ كما بيّنّا ـ ما
ينافي الوحدة العلميّة الأصليّة غير نفس هذا التعيّن الحاصل بسبب المشاهد وبحسبه
كما أنّ حقيقة العلم لا تتميّز عن الغيب المطلق إلّا بما أشرت إليه في أوّل الفصل.
فإذا شاء الحقّ
تكميل تلك النسبة العلميّة في مظهر خاصّ وبحسبه ، فإنّ ذلك التكميل إنّما يحصل
بظهور أحكام العلم وسراية آثاره إلى الغاية المناسبة لاستعداد المظهر ، والمختصّة
به.
وهكذا الأمر في
سائر الحقائق ؛ فإنّ كمالها وحياتها ليس إلّا بظهور أحكامها وآثارها في الأمور
المرتبطة بها التي هي تحت حكم تلك الحقيقة ، وبحسب حيطتها ولكن بواسطة مظاهرها.
__________________
فكمال العلم هو
بظهور تفاصيله ونسبه ، والتفاصيل بحسب التعلّقات ، والتعلّقات على قدر المعلومات ،
والمعلومات تتعيّن بحسب حيطة المراتب التي تعلّق بها العلم ، وبحسب ما حوت تلك
المراتب من الحقائق ؛ فإنّ سائرها تابع للعلم من حيث أوّليّته وأحديّته وإحاطته
وتعيّنها بالنسبة إلى كلّ عالم حسب قيوده المذكورة.
فإذا حصل التعلّق
من تلك النسبة الوحدانيّة العلميّة بالمعلومات على نحو ما مرّ ، تبعه التفصيل إلى
الغاية التي ينتهي إليها حكم تلك النسبة ، فإذا فصّل المدرك ذلك بحسب شهوده
الوحداني ، وكسا العلم صورة التفصيل والظهور من الغيب إلى الشهادة ، حتى ينتهي إلى
الغاية المحدودة له ، كان ذلك تكميلا منه لتلك النسبة العلمية بظهور حكمها وسراية
أثرها بمتعلّقاتها وفيها ، وتكميلا لمرتبته أيضا ، من حيث مقام علمه وحكمه فيه ،
وما يخصّه من الأمور التابعة لتعيّنه .
فمتى تكلّم عارف
بعلم ذوقي وأظهره ، وكان محقّقا صحيح المعرفة ، فلما ذكرنا من الموجبات وهكذا كلّ
مظهر بالقصد والذات حكم حقيقة من الحقائق ، أو حاضر مع الحقّ تعالى من كونه محلّا
ومجلى لظهور تلك الحقيقة ، دون سعي منه أو تعمّل ، ولكن كلّ ذلك بالإذن المعيّن ،
أو إذن كلّي عامّ. وما ليس كذلك من العلوم والعلماء فليس بعلم حقيقي إلّا بنسبة
بعيدة ضعيفة ، ولا يعدّ صاحبه عند أكابر المحقّقين عالما بالتفسير المذكور ؛ فإنّ
صاحب العلم الحقيقي هو الذي يدرك حقائق الأشياء كما هي وعلى نحو ما يعلمها الحقّ
بالتفصيل المشار إليه ، مع رعاية الفروق المنبّه عليها.
ومن سواه يسمّى
عالما بمعنى أنّه عارف باصطلاح بعض الناس ، أو اعتقاداتهم ، أو صور المفهومات من
أذواقهم ، أو ظنونهم ، ومشخّصات صور أذهانهم ، ونتائج تخيّلاتهم ونحو ذلك من أعراض
العلم ولوازمه وأحكامه في القوابل. وما هو فيه هذا الشخص من الحال إنّما هو
استعمال من المراتب الإلهيّة له ولأمثاله من المتكلّمين بالعلوم ، والمظهرين أحكام
الحقائق والظاهرة بهم وفيهم.
فإن رقّاه الحقّ
إلى مقام العلم الحقيقي فإنّه يعلم أنّ الذي كان يعتقد فيه أنّه علم محقّق
__________________
كان وهما منه
وظنّا ، سواء صادف الحقّ من بعض الوجوه وأصاب ، أو لم يصادف ، بل وجد ما كان عنده
علما من قبل ظنّا فاسدا ، ويدرك حينئذ ما أدركه أمثاله من أهل هذا الذوق العزيز
المنال حسب ما شاء الحقّ سبحانه أن يطلعه عليه.
و إن لم تتداركه العناية الإلهيّة ، فإنّه لا يزال كذلك حتى
ينتهي فيه الحكم المراد ، ويبلغ فيه الغاية المقصودة للحقّ تعالى من حيث المرتبة المتحكّمة فيه
، وهو لا يعرف في الحقيقة حال نفسه ، ولا فيما ذا ولما ذا يستعمل ، وما غاية ما هو
فيه ، وما حاصله ، أو حاصل بعضه على مقتضى مراد الحقّ تعالى ، لا ما هو في زعمه
حسب ظنّه.
وهكذا حكم أكثر
العالم وحالهم في أكثر ما هم فيه مع الحقّ سبحانه بالنسبة إلى باقي الحقائق أيضا
غير العلم ، كما لوّحت بذلك في سرّ التجلّي ؛ فليس التفاوت إلّا بالعلم ولا يعلم
سرّ العلم ما لم يشهد الأمر من حيث أحديّته في نور غيب الذات على النحو المشار
إليه.
وإذا عرفت الحال
في العلم ، فاعتبر مثله في جميع الحقائق ، فقد فتحت لك بابا لا يطرقه إلّا أهل
العناية الكبرى والمكانة الزلفى.
فاعلم ، أنّ الفرق
بين المحقّق المشار إليه وغيره هو خروج ما في قوّته إلى الفعل ، وعلمه بالأشياء
علما محقّقا ، واطّلاعه على إثباتها ، بخلاف من عداه ، وإلّا فأسرار الحقّ مبثوثة
، وحكمها سار وظاهر في الموجودات ، ولكن بالمعرفة والاطّلاع والإحاطة والحضور يقع
التفاوت بين الناس ، والله وليّ الإرشاد.
__________________
وصل من هذا الأصل
وإذ أومأنا إلى
سرّ العلم وما قدّر التلويح به من مراتبه وأسراره ، فلنذكر ما تبقى من ذلك ممّا سبق الوعد بذكره ، ولنبدأ بذكر متعلّقاته
الكلّيّة الحاصرة التي لا تعلّق للعلم بسواها إلّا بتوابعها ولوازمها التفصيليّة.
فنقول :
متعلّقات العلم
العلم إمّا أن
يتعلّق بالحقّ ، أو بسواه ، والمتعلّق بالحقّ إمّا أن يتعلّق به من حيث اعتبار
غناه وتجرّده عن التعلّق بغيره من حيث هو غير ، أو من حيث تعلّقه بالغير وارتباط
الغير به ، أو من حيث معقوليّة نسبة جامعة بين الأمرين ، أو من حيث نسبة الإطلاق
عن النسب الثلاث ، أو من حيث الإطلاق عن التقيّد بالإطلاق وعن كلّ قيد ، وانحصر الأمر في هذه المراتب الخمس
فاستحضرها.
ثم نقول :
والمتعلّق بالأغيار إمّا أن يتعلّق بها من حيث حقائقها التي هي أعيانها ، أو
يتعلّق بها من حيث أرواحها التي هي مظاهر حقائقها ، أو من حيث صورها التي هي مظاهر
الأرواح والحقائق. وللحقائق والأرواح والصور من حيث أعيانها المفردة المجرّدة
أحكام ، ولها من حيث التجلّي الوجودي الساري فيها والمظهر أعيانها باعتبار الهيئة
المعنويّة الحاصلة من اجتماعها أحكام ، ولكلّ حكم منها أيضا حقيقة هي عينه. لكن
لمّا كانت التابعة أحوالا للمتبوع وصفات ولوازم ونحو ذلك ، سمّيت التوابع نسبا وصفات وخواصّ وأعراضا
__________________
ونحو ذلك. وبعد
معرفة المقصود فلا مشاحّة في الألفاظ ، سيّما وأهل الاستبصار يعلمون ضيق عالم
العبارة بالنسبة إلى سعة حضرة الحقائق والمعاني ، وكون العبارات لا تفي بتشخيص ما
في الباطن على ما هو عليه.
ثم نرجع ونقول :
ومظاهر الحقائق والأرواح ـ كما قلنا ـ الصور وهي : إمّا بسيطة بالنسبة ، وإمّا
مركّبة ، فظهور الأحكام المذكورة في عالم الصور إن تقيّد بالأمزجة والأحوال
العنصريّة وأحكامها والزمان المؤقّت ذي الطرفين فهو عالم الدنيا ، وما ليس كذلك
فإن تعيّن ظهور محلّ حكمه فهو من عالم الآخرة ، وحضراتها هي الخمسة المذكورة في
صدر الكتاب.
فللأولى منها ـ
الذي هو الغيب ـ علم الحقّ وهويّته والمعاني المجرّدة والحقائق ؛ وللثانية الشهادة
والاسم «الظاهر» ونحو ذلك. وما نسبته إلى الحسّ أقوى ، له الخيال المتّصل ونحوه.
وما نسبته إلى الغيب أقوى ، فهو عالم الأرواح. والمتوسّط باعتبار الدائرة
الوجوديّة بين مطلق الغيب والشهادة من حيث الإحاطة والجمع والشمول هو عالم المثال
المطلق المختصّ بأمّ الكتاب الذي هو صورة العماء ، وله ما مرّ ، وبما لا يمكن
ذكره.
وكلّ ذلك إمّا أن
يعتبر من حيث النسبة الفعليّة ، أو الانفعاليّة ، أو الجامعة بينهما في سائر
المراتب المذكورة ، وتمّ الأمر.
ثم نبيّن الآن
صورة الإدراك بالعلم ، وما يختصّ بذلك من أدوات التفهيم والتوصيل والكلام والألفاظ
والعلامات ، ونحو ذلك.
صورة الإدراك
بالعلم
ثم نقول : إذا علم
أحد شيئا ممّا في الحضرة العلميّة المشار إليها بالاطّلاع والكشف المذكور ، فإنّما
يعلمه بما تعيّن به ذلك المعلوم من الصفات والمظاهر في المراتب التصوريّة العامّة والخاصّة ، وبحسب أنواع التركيب في التشكّلات التي هي أسباب الظهور ،
__________________
و بحكم التخصيص المنسوب إلى الإرادة ، وبحسب القرب والبعد
وما يتبع ذلك من القوّة والضعف ، والجلاء النوري والاحتجاب ، وما سواها ممّا سيذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى.
فأمّا التصوّرات :
فأوّل مراتبها الشعور الإجمالي الوجداني باستشراف العالم بما في ظاهره وباطنه من سرّ الجمعيّة وحكم
النور وأشعّته على الحضرة العلميّة من خلف أستار أحكام كثرته ، وهذا ليس تصوّرا
علميّا ، وإنّما هو إدراك روحاني جملي من خلف حجاب الطبع والعلائق ، فليس هو من
وجه من أقسام التصوّرات ، وإذا أدخل في مراتب العلم فذلك باعتبار القوّة القريبة من الفعل
؛ فإنّا نجد تفرقة بين هذا الشعور الذي سمّيناه علما بالقوّة القريبة من الفعل ،
وبين حالنا المتقدّم على هذا الشعور ، وهذا فرقان بيّن غنيّ عن التقرير.
ثم يلي ما ذكرنا
التصوّر البسيط النفساني الوجداني ، كتصوّرك إذا سئلت عن مسألة أو مسائل تعرفها ؛ فإنّك تجد
جزما بمعرفتها ، وتمكّنا من ذكر تفاصيلها ، والتعبير عنها ، مع عدم استحضارك حينئذ
أجزاء المسألة وأعيان التفاصيل ، وإنّما تتشخّص في ذهنك عند الشروع في الجواب
قليلا قليلا. والتصوّرات البديهيّة كلّها داخلة في هذا القسم.
ثم يليه التصوّر
الذهني الخيالي ، ثم التصوّر الحسّي ، وليس للتصوّر مرتبة أخرى إلّا النسبة
المتركّبة من هذه الأقسام بأحديّة الجمع ، وهذا من حكم العلم وأشعّة أنواره في
مراتب القوى.
فإذا شاء الحقّ
توصيل أمر إلى إنسان بتوسّط إنسان آخر أو غير إنسان مثلا ولكن من هذه المراتب ،
تنزّل الأمر المراد توصيله من الحضرة العلميّة الغيبيّة تنزّلا معنويّا ، دون
انتقال ، فيمرّ على مراتب التصوّرات المذكورة ، فإذا انتهى إلى الحسّ تلقّاه
السامع المصغي بحاسّة
__________________
سمعه أوّلا إن
كانت الاستفادة من طريق التلفّظ أو بحاسّة البصر إن كانت بطريق الكتابة أو ما يقوم
مقامها من حركات الأعضاء وغيرها. ثم انتقل إلى مرتبة التصوّر الذهني الخيالي. ثم
انتقل إلى التصوّر النفساني ، فجرّدته النفس عن شوائب أحكام القوى ، وملابس
الموادّ ، فلحق بمعدنه الذي هو الحضرة العلميّة بهذا الرجوع المذكور. بل عين
ارتفاع أحكام القوى والموادّ عنه ، وتجرّده منها هو عين رجوعه إلى معدنه ، فإنّه
فيه ما برح ، وإنّما الأحكام اللاحقة به قضت عليه بقبول النعوت المضافة إليه من
المرور والتنزّل وغيرهما. فإذا لحق بالمعدن بالتفسير المذكور أدركه المستفيد من الكتابة أو الخطاب
ونحوهما من أدوات التوصيل الظاهرة في مستقرّ بحكم عينه الثابتة المجاورة لذلك
الأمر في حضرة العلم ، كما سبق التنبيه عليه ، إلّا أنّ ذلك الأمر يكتسب بالتعيّن
الإرادي حال التنزّل والمرور على المراتب هيئات معنويّة وصفات انصبغ بها ، فيصير
لذلك الأمر تميّز وتعيّن لم يكن له من قبل ، وذلك بالآثار الحاصلة ممّا مرّ عليه ،
وتنزّل إليه [و] بذلك الحكم التمييزي تأتّى للنفس ضبطه وإدراكه وتذكّره في ثاني
حال ، وتعذّر ذلك من قبل ، لعدم تعيّنه ، مع ثبوت المجاورة المذكورة في الحضرة
العلمية ، وذلك للقرب المفرط وحجاب الوحدة ؛ إذ الغيب الإلهي الذي هو المعدن قد
عرّفناك أنّه لا يتعدّد فيه شيء ولا يتعيّن لنفسه ، والقرب المفرط والوحدة حجابان
؛ لعدم التعيّن والتميّز وكذلك البعد المفرط والكثرة غير المنضبطة.
ولهذه الأمور
طرفان : الإفراط ، والتفريط ، كما ذكر في النور المحض والظلمة المحضة وحال البصر
والبصيرة في المدركات العاليّة جدّا الشديدة الظهور وفي الحقيرة. فافهم ما أدرجت
لك في هذا الفصل تعرف سرّ الإيجاد والتقييد والإطلاق والإفادة والاستفادة ، وغير ذلك من الأسرار
الباهرة التي يتعذّر التنبيه عليها تماما ، فضلا عن الإفصاح عنها.
ثم اعلم ، أنّ
الفائدة ممّا ذكرنا إنّما تتحصّل بالقرب المتوسّط ، والسرّ الجامع بين الأطراف ، وحينئذ
يصحّ الإدراك والوجود وغيرهما ، فالأطراف كالأحديّة (والكثرة) ، والبعد المفرط
والقرب المفرط ، والنور المحض والظلمة المحضة ، وغير ذلك ممّا أومأت
__________________
إليه من المراتب
المتقابلة ؛ فإنّه لا يكون في جميعها من حيث انفرادها قرب متوسّط ، ولا أمر يتعلّق به الإدراك
أو يثبت له. والقرب لا يصحّ إلّا بين اثنين فصاعدا ويتفاوت من حيث الأمر الذي نحن
بصدد بيانه بحسب قرب النفس من الحضرة النوريّة العلميّة وبعدها بما سنشير إليه ،
وبحسب نسبة المدرك من المقام الأحدي الذي هو أوّل مراتب التعيين الآتي تفصيل حكمه
وحديثه ، وبمقدار حظّه من الصورة الإلهيّة ؛ فإنّ كثرة الحجب وقلّتها ، وضعف
الصفاء وقوّته تابعة لما ذكر.
وسرّ ذلك : أنّ
للحضرة الإلهيّة حقيقة وحكما ولها مظاهر ، فالقرب الإلهي المذكور راجع إلى أمرين
لا ثالث لهما ، غير نسبة جمعهما : أحدهما : الأحديّة الإلهيّة الأولى وسيأتي من حديثها ما
ييسّر الله ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ وأتمّ الموجودات حظّا من هذا المقام عالم
الأمر ، وأتمّ عالم الأمر قربا وحظّا ممّا ذكرنا العقل الأوّل والملائكة المهيّمة
، ومن الموجودات المتقيّدة بالصور العرش والكمّل والأفراد من بني آدم بعد تحقّقهم
بمقام الفرديّة والكمال.
وفي الجملة ، أيّ
موجود كانت نسبته إلى مرتبة الأحديّة والتعيّن الأوّل أقرب وقلّت الوسائط بينه
وبين موجده أو ارتفعت فهو إلى الحقّ من حيث الاسم «الباطن» والحضرة
العلميّة الأحديّة أقرب.
والقرب الثاني هو
من حيث اعتبار ظهور حكم الألوهيّة والتحقّق بصورتها ، فأيّ موجود كانت حصّته من
الصورة أكثر ، وكان ظهور حقائق الألوهيّة فيه وبه أتمّ ، فهو إلى الحق من حيث
الاسم «الظاهر» أقرب ، وحجبه أقلّ والمستوفي لما ذكر هو الإنسان الكامل ، فهو أقرب
الخلق إلى الحقّ من هذه الحيثيّة وأعلمهم به ، ومرتبة البعد في مقابلة مرتبة القرب
، فاعتبر الأحكام فيها بعكس هذه ، تعرفها.
ولا تفاوت بين
الموجودات ونسبتها إلى الحقّ بالقرب والبعد بغير ما ذكرنا ، وما سوى ذلك ممّا
يسمّى قربا إلهيّا في زعم المسمّي فإمّا أن يكون قربا من السعادة ، أو بالنسبة إلى
__________________
ما في نفس المعتقد
والمقلّد و المتوهّم من الحقّ لا غير.
ثم أقول :
فالمظاهر والصفات الظاهرة والمواد من الصور البسيطة والمركّبة آلات لتوصيل المعاني
ـ وإن شئت قلت : سبب لإدراكها في حضرة الغيب ـ وذلك بالتفات الروح ووجه القلب من
عالم الكون بالرجوع إلى الحضرة العلميّة النوريّة ، على صراط الوجه الخاصّ ،
بالنحو المشار إليه.
فإن كانت المناسبة
بين العالم وما يراد معرفته ثابتة والنسبة القريبة قويّة ، فإنّ الحاجة إلى أدوات
التوصيل تكون أقلّ ، حتى أنّه لتغني الكلمة الواحدة أو الإشارة في تعريف ما في نفس
المخاطب من المعاني الجمّة ، وتوصيلها إلى المخاطب ، وفي تذكيره الأسرار العزيزة والمعلومات الكثيرة ، وربما تكمل المناسبة ويقوى حكم القرب
والتوحّد ، بحيث يقع الاستغناء عن الوسائط ما عدا نسبة المحاذاة المحقّقة
المعنويّة والمواجهة التامّة ؛ لاستحالة الاتّحاد والمخاطبة في مقام الأحديّة.
وحينئذ ينطق لسان هذه المناسبة بنحو ما قال بعض تراجمة الحقائق والمراتب ـ
علم سرّ ما قال أو لم يعلم ـ :
تكلّم منّا في
الوجوه عيوننا
|
|
فنحن سكوت
والهوى يتكلّم
|
ولسان مرتبة
الإشارة بقوله :
تشير فأدري ما
تقول بطرفها
|
|
وأطرق طرفي عند
ذاك فتعلم
|
لكن لا بدّ من
حركة واحدة أو حرف واحد في الظاهر يكون مظهرا لتلك النسبة الغيبيّة ، حتى يظهر سرّ
الجمع ، فيحصل الأثر والفائدة لتعذّر حصول الفائدة بأقلّ من ذلك ، كما سنومئ إليه
، فالكلمة الواحدة أو الحرف الواحد أو الحركة الواحدة إذا انضافت إلى حكم المحاذاة
والمواجهة المذكورة المبقية للتعدّد والمثبتة سرّ المخاطبة كفت في ظهور سرّ الخطاب ، وحصول الأثر الذي
هو وصف الكلام ، وصار الحرف الواحد هنا أو الحركة
__________________
الواحدة مع نسبة
المحاذاة كالكلمة المفيدة التي قيل فيها : إنّه لا تحصل الفائدة بأقلّ منها.
وقد عاينّا ذلك
مرارا كثيرة من غير واحد من الأكابر المشاركين من أهل المكاشفات الإلهيّة.
ومن أسرار هذا
المقام أنّ الكلام من أثر المتكلّم في المخاطب وفعله ، ومنه اشتقّ اسمه ، ولا يصحّ
الأثر إلّا بأحديّة الجمع ، مع تحقّق الارتباط والمناسبة كما مرّ بيانه في سرّ
التجلّي وغيره.
فمتى غلب حكم
الوحدة الجامعة على حكم الكثرة التفرقة كان الأمر أقوى وأسرع ، ويضعف إذا كان
الأمر بالعكس.
والمختصّ بمرتبة
الكلام من نسب القرب هو القرب من المقام الأوّل الأحدي الجمعي. وعدم تأثّر السامع
من كلام من لا يعرف لغته واصطلاحه هو من كثرة الوسائط وحكم البعد وخفاء حكم
الأحديّة والمناسبة ، وقد ظهر من أسرار هذا المقام حكمه في الأوامر الإلهيّة
الواردة بالوسائط وبدونها ، فما لا يظهر للواسطة فيه عين أو سلطنة لا يقصى ولا يتأخّر نفوذه ، والواصل من جهة الوسائط المخالف في
النعت لما ذكرنا قد ينفذ سريعا إذا ناسب حكم الجمعيّة حكم الأحديّة مناسبة المرآة
الصافية الصحيحة الهيئة في المقدار للصورة المنطبعة فيها ، وقد يتأخّر. وقد سبقت
الإشارة إلى شروط الأثر وما أمكن ذكره من أسراره ، وقد لوّحت فيه وفي سرّ التجلّي
المنتج للعلم بما يعرف منه المستبصر اللبيب سرّ الكلام ، وأصله ، وحكمه ، والخطاب
والكتابة ، وغير ذلك من أمّهات الأسرار والعلوم.
ثم نرجع إلى تتميم
ما شرعنا في بيانه ، فنقول : وإن كان الأمر بخلاف ما ذكرنا في المناسبة ـ بمعنى
أنّ المناسبة بين المتعلّم وما يطلب معرفته تكون شديدة ، وحكم النسبة القريبة
ضعيفا ـ فإنّ المعرّف والمفيد يحتاج إلى تكثير أدوات التفهيم والتوصيل ، وتنويع
التراكيب والتشكيلات الماديّة من الحروف والأمثلة وغيرهما من الأشياء التي هي
__________________
منصّات ومظاهر
للمعاني الغيبيّة ، ومع ذلك فقد لا يحصل المقصود من التعريف والإفهام ، إمّا لأنّ
الأمر المراد توصيله وبيانه تكون مرتبته مستعلية على مراتب العبارات والأدوات الظاهرة ، فلا تسعه
عبارة ، ولا تفي بتعريفه أدوات التفهيم والتوصيل ، أو لقصور قوّة المتعلّم
والمخاطب عن إدراك ما يقصد توصيله إليه ، وتفهيمه إيّاه ؛ لبعد المناسبة في الأصل.
أدوات توصيل
المعلومات
وإذ قد ذكرنا من
أسرار الكلام وأحكامه وصفاته ولوازمه ما قدّر لنا ذكره ، فلنذكر ما تبقى من ذلك ،
ولنبدأ بتعريف أدوات توصيل ما في النفس إلى المخاطب ، فنقول : أدوات توصيل ما في
النفس من معنى الكلام المقصود تعريف المخاطب به ثلاثة أقسام :
أوّلها : الحركة
المعنويّة النفسانية المنبعثة لإبراز ما في النفس من المعاني المجرّدة المدركة
بالتصوّر البسيط.
ويلي ذلك استحضار
صور المعاني والكلمات في الذهن ، وهذه الحركة المشار إليها هي حكم الإرادة
المتعلّقة بالمراد طلبا لإبرازه.
والثالث : الحروف
والكلمات الظاهرة باللفظ والكتابة ، أو ما يقوم مقامها من النقرات والإشارة بالأعضاء بواسطة آلات وبدونها.
والمراتب التي
تمرّ عليها هذه الأحكام الثلاثة هي مراتب التصوّرات المذكورة ، وهذا من حكم
التربيع التابع للتثليث ، وسيأتيك خبره.
وإذ قد وضح هذا ،
فاعلم أنّ الحقّ قد جعل الكلام في بعض المراتب والأحيان في حقّ من شاء من عباده
طريقا موصلا إلى العلم ، كغيره من الأسباب المعقولة والمشهودة ، نحو التراكيب
والتشكيلات والصفات والمظاهر المعيّنة للحقائق الغيبيّة في الشهادة والمعرفة لها ،
كما جعل الحروف والكلمات عند انضمام بعضها إلى بعض بحدوث النسبة التركيبيّة والحكم
الجمعي طريقا إلى معرفة معنى الكلام المجرّد الوحداني ، وكلّ ما تدلّ عليه تلك
الكلمات ، كما جعل الحواسّ والمحسوسات وغيرها طريقا إلى نيل العلم ؛ إذ لحصول
العلم
__________________
طرق كثيرة عند
المستفيدين من الوسائط والأسباب.
ومن الأمور ما سبق
العلم الإلهي أنّها لا تنال إلّا من طريق الحواسّ مثلا أو غيرها من الطرق ، لكن
إذا شاء الحقّ أن يعلمها أحد من عباده ـ المكرّمين ، المحقّقين ، المتحقّقين
بمعرفته ـ دون واسطة ؛ لعلمه سبحانه أنّ هممهم قد خرقت حجب الكون وأنفت الأخذ عن
سواه ، تجلّى لهم في مرتبة ذلك الطريق الحسّي أو ما كان ، ثم أفادهم ما أحبّ
تعليمه إيّاهم ، فاستفادوا ذلك العلم منه سبحانه دون واسطة ، مع بقاء الخاصّيّة
التي حكم بها العلم السابق على حالها ؛ إذ ما سبق به العلم لا يقبل التبديل.
ومن عباد الله من
يحصل لنفسه في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجوديّة الإلهيّة أحوال توجب لها
الإعراض عمّا سوى الحقّ ، والإقبال بوجوه قلوبها ـ بعد التفريغ التامّ ـ على حضرة
الغيب الإلهي المطلق ، في أسرع من لمح البصر ، فتدرك من الأسرار الإلهيّة
والكونيّة ما شاء الحقّ.
وقد تعرف تلك
النفس هذه المراتب والتفاصيل أو بعضها ، وقد لا تعرف مع تحقّقها بما حصل لها من
العلم.
ولمّا كان كلّ
متعيّن من الأسماء والصفات وغيرهما حجابا على أصله الذي لا يتعيّن ولا يتميّز إلّا
بمعيّن ، وكان الكلام من جملة الصفات ، فهو حجاب على المتكلّم من
حيث نسبة علمه الذاتي ، فالكلام المنسوب إلى الحقّ هو التجلّي الإلهي من غيبه
وحضرة علمه في العماء الذي هو النفس الرحماني ، ومنزل تعيّن سائر المراتب والحقائق
، فيتعيّن حكم هذا التجلّي بالتوجّه الإرادي للإيجاد أو للخطاب من حيث مظهر
المرتبة والاسم الذي يقتضي أن ينسب إليه النفس والقول الإيجادي ، فيظهر نسبة الاسم «المتكلّم» ثم يسري الحكم
المذكور من المقام النفسي الرحماني المشار إليه الذي هو حضرة الأسماء إلى المخاطب
بالتخصيص الإرادي والقبول الاستعدادي الكوني ، فيظهر سرّ ذلك التجلّي الكلامي في
كلّ مدرك له وسامع حيث ما اقتضاه حكم الإرادة مع انصباغه بحكم حال من ورد عليه ،
وما مرّ به من المراتب والأحكام الوقتيّة والموطنيّة وغيرهما ممّا تقرّر من قبل ،
__________________
هذا إن اقتضى
الأمر الإلهي مروره على سلسلة الترتيب وما فيه من الحضرات ، وإذا وصل من الوجه الخاصّ الذي لا واسطة فيه ، فلا ينصبغ إلّا
بحكم حال من ورد عليه ووقته وموطنه ومقامه لا غير.
والكلام في كلّ
مرتبة لا يكون إلّا بتوسّط حجاب بين المخاطب والمخاطب ، كما أخبر سبحانه في كتابه
العزيز ، ولذلك الحجاب مرتبة الرسالة بالنسبة إلى من هو محلّ ذلك الحجاب ، والحجب والوسائط تقلّ وتكثر ، وأقلّها أن يبقى حجاب واحد
وهو نسبة المخاطبة بين المخاطبين ، فالحروف والكلمات المنظومة الظاهرة رسل وحجب للكلمات
والحروف الذهنيّة ، والذهنيّة رسل وحجب للحروف المعقولة ، والحروف المعقولة تتضمّن
رسالة معنى الكلام الوحداني ، ثم الكلام الوحداني يتضمّن رسالة المتكلّم به من حيث
نسبة ما تكلّم به ، ثم المفهوم من المتكلّم به يتضمن مراد المتكلّم من حيث الأمر
الخاصّ المفهوم من كلامه ، ثم الاطّلاع على ذلك الأمر الخاصّ يفيد معرفة الباعث
على صدور ذلك الكلام من المخاطب ، إلى المخاطب ، وهذا هو سرّ الإرادة الذي تنتشي منه صفة الكلام من كونه كلاما ، وفوقه مرتبة العلم
الذاتي المحيط. وبالغايات وأحكامها يعرف سرّ أوّليات البواعث والمقاصد وعللها
وأسرارها ؛ لأنّ الخواتم عين السوابق خفيت بين طرفي البداية والغاية للمزج وتداخل
الأحكام وغير ذلك ممّا لا يقتضي الحال ذكره هنا ، وتظهر الغلبة في آخر الأمر
للأوّل وسنومئ في آخر الكتاب في فصل «خواتم الفواتح» إلى بعض أسرار هذا المقام إن شاء الله تعالى.
__________________
وصل من هذا الأصل
اعلم ، أنّه لا
يظهر من الغيب المطلق إلى الشهادة أمر مّا ، سواء كان من الحقائق الأسمائيّة أو
الصفاتيّة أو الأعيان الكونيّة المجرّدة إلّا بنسبة الاجتماع التابع لحكم حضرة
الجمع المختصّ بالحدّ الفاصل الآتي حديثه. وحكم حضرة الجمع سار بالأحديّة من الغيب
في الأشياء كلّها ، معقولها ومحسوسها.
ويتعيّن ذلك
الاجتماع من حيث العموم بين الإرادة الكلّيّة الإلهيّة أوّلا ، ثم الطلب والقبول
الاستعدادي من الأعيان الممكنة ثانيا ، ومن حيث الخصوص بين نسب الإرادة المطلقة من
حيث مرتبة كلّ فرد فرد من أفراد الأسماء والصفات وكلّ عين من الأعيان الممكنة
الكامنة قبل ظهور حكم الجمع والتركيب بعضها مع بعض. والظاهرة بواسطتهما بعضها لبعض ، فافهم.
والمتعيّن والمراد
من حيث بعض الأسماء والصفات والمراتب بكلّ اجتماع واقع بين كلّ اجتماع حقيقتين
فصاعدا هو ما حدث ظهوره في الوجود الخارجي من الأمور الجزئيّة والصور والتشكّلات
والأحوال الشخصيّة ونحو ذلك.
وهكذا الأمر في
الكلام الجزئي المركّب من الحروف الإنسانيّة ، لا يحصل الأثر والفائدة إلّا
بالمركّب من حرفين فصاعدا ، أو الاسمين ، أو الاسم مع الفعل ، كما
سنلوّح لك بسرّه.
وهكذا العمل
بالحروف من جهة الروحانيّة والتصريف لا يحصل الأثر إلّا بحرفين
__________________
فصاعدا ، والحرف
الواحد عند العلماء به لا يؤثّر ، ومن جوّز تأثير الحرف الواحد كشيخنا وإمامنا رضى
عنه الله ، فإنّه اعتبر الحرف المشخّص في الذهن مضافا إلى الحرف الظاهر في اللفظ
أو الكتابة ، هذا قوله لي مشافهة رضى عنه الله ، فهما إذا حرفان ، فلم يحصل الأثر
بالحرف الواحد أصلا باتّفاق المحقّقين.
وأمّا ما ذكره أهل
العربيّة في باب الأثر المعهود في «ش» و «ق» و «ع» فأجيب عنه بأنّ الأصل حرفان وحصل الاكتفاء بالحرف الواحد
عند سقوط أحدهما بسبب الأمر ، رعاية للأصل ، وثقة بفهم السامع مراد المتكلّم ،
فالفهم المعتضد بالقرينة أو المعرّف بالأصل ناب مناب الحرف الساقط ، ولو لا ذلك لم
يحصل الأثر كما مرّ بيانه.
والكلام ـ كما
قلنا ـ هو تأثير من المتكلّم في المخاطب بقوّة تابعة لإرادته المتعلّقة بإيصال ما
في نفسه وإبرازه إلى المخاطب.
وهكذا لأمر في
إيجاد الحقّ الأعيان الممكنة التي هي كلماته وحروفه وإظهاره لها من نفسه بالحركة
الغيبيّة الحبّيّة المعبّر عنها بالتوجّه الإرادي الظاهر حكمه بواسطة جمع الأعيان
بالوجود الواحد الشامل لها ، وتركيبها ؛ ليعرف سبحانه وليظهر حكم صفاته وأسمائه
وكماله ، كما ستعلم بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.
سرّ التركيب
الستّة في العربيّة
ثم نبيّن الآن سرّ
التراكيب الستّة المختصّة بالكلام ، فنقول :
هذه التراكيب
مشهورة عند النحويّين ، وقد اتّفقوا في إفادة تركيبين منها ، واختلفوا في الواحد
في بعض الصور ، واتّفقوا في عرو الفائدة من الثلاثة الباقية :
فالمتّفق عليه :
تركيب الاسم مع الاسم ، ومع الفعل. والمختلف فيه في بعض الصور : الاسم مع الحرف في
النداء. والعاري من الفائدة هو تركيب الفعل مع الفعل ، ومع الحرف ،
__________________
وتركيب الحرف مع
الحرف. وأنا أظهر أصلها في العلم الإلهي المتكلّم فيه من حيث المرتبة التي وقع
التصدّي لكشف بعض أسرارها إن شاء الله تعالى.
اعلم ، أنّ الاسم
في التحقيق هو التجلّي المظهر لعين الممكن الثابتة في العلم ، ولكن من حيث تعيّن
ذلك التجلّي المنبعث من الغيب المطلق في مرتبة هذه العين التي هي مظهره ومعيّنته ،
فالعين الممكنة التي هي المظهر اسم للتجلّي المتعيّن به وفي مرتبته والتجلّي من
حيث تعيّنه ، اسم دالّ على الغيب المطلق غير المتعيّن.
والتسمية عبارة عن
نفس دلالة الاسم على الأصل الذي تعيّن منه ودلّ عليه ، كما سنزيد في بيان ذلك في
قاعدة الأسماء.
والحرف هو عين العين الثابتة من حيث انفرادها ، حتى عن أحكامها
وتوابعها.
والفعل هو نسبة
التأثير ، وارتباط الحكم الإيجادي الثابت بين الحقّ لا من حيث هو لنفسه بل هو من
كونه موجدا ، وبين العين لا من كونها عينا فحسب ، بل من كونها موجودة للحقّ ، وقابلة حكم إيجاده وأثره باستعدادها المقتضي ترجيح إيجادها [دون غيرها من الممكنات
التي لم يتعلّق العلم بإيجادها] في دائرة هذا الظهور المنتقش الحكم في ذات القلم الأعلى ،
فافهم ؛ فهنا أمور غامضة جدّا لا يمكن كشفها.
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم ، أنّ أوّل التراكيب الستّة المذكورة هو تركيب الاسم مع الاسم ، وهذا هو
الاجتماع الأوّل الحاصل بين الأسماء الأوّل وأمّهات الصفات الأصليّة التي من حيث
هي اقتضت الذات التوجّه إلى إيجاد الكون وإبرازه من الغيب ، وله النكاح الأوّل
المشار إليه عقيب هذا الكلام. ومن جملة تنبيهاتي عليه قولي في غير موضع : إنّ ظاهر الحقّ مجلى لباطنه وكالمحلّ لنفوذ اقتداره
، فافهم.
والثاني : تركيب
الاسم مع العين الثابتة من كونها مظهرا لعين الفعل الذي هو حكم الاسم «الموجد» و «الخالق»
ونحوهما ، بصفة القبول والاستعداد المشار إليه.
__________________
فهذان التركيبان
يفيدان ضرورة وهو الواقع في المراتب الوجوديّة ، وباقي التركيبات ـ وهو انضمام عين
ممكنة إلى عين من كونها عينا ممكنة فحسب ، وبالنظر إليها لا إلى الاقتضاء العلمي ـ
لا يفيد.
وكذلك نسبة
معقوليّة التجلّي دون سراية حكم حضرة الجمع الموجب لارتباط الحقّ بالعالم أو
معقوليّة معنى الإيجاد أيضا مضافا إلى الممكن دون سريان التجلّي الإلهي من حيث الألوهيّة
المثبتة للمناسبة والارتباط ، لا يفيد منه ، أي لا تحصل منه فائدة.
وهكذا أيضا
معقوليّة نسبة ارتباط تجلّ بتجل آخر دون أمر ثالث يكون مظهرا للفعل وسببا لتعيّن التجلّي من مطلق غيب الذات ، مغايرا للتجلّي ، ومثبتا
للتعدّد لا يفيد.
وهكذا العين
الثابتة إذا اعتبرت منضمّة إليها صفة قبولها للأمر الإيجادي دون اقتران التجلّي
الوجودي بها كما مرّ لا ينتج أيضا ولا يفيد ؛ فإنّ التجلّي مع التجلّي دون القابل
، هو كضرب الواحد في نفسه لا ينتج.
وهكذا أيضا سرّ عدم إنتاج اجتماع العين الممكنة بعين أخرى ، سواء
كانت من توابعها كصفة قبولها للتجلّي الإيجادي المتقدّم ذكرها التابعة لها ، أو
كانت عينا ممكنة منضمّة إلى عين أخرى متبوعة أيضا ، مستقلّة بنفسها.
وأمّا مسألة
النداء فنظيره قول الحقّ وأمره للعين بالتكوين من مراتب الأسماء الجزئيّة ومظاهرها
، فإنّه إن لم يكن سرّ التجلّي الذاتي من حضرة الجمع معقول السريان في ذلك القول
لم ينفذ حكمه ، كتقدير قولهم : يا زيد ، إنّما يفيد ؛ لأنّه بمعنى أدعو زيدا ، أو
أنادي زيدا ، ومثاله في التحقيق الأمر بالواسطة في عالمنا ، إن لم يقترن معه حكم
الإرادة التي هي من الأسماء الذاتيّة ، لم ينفذ. ولذلك يقول الحقّ بلسان الاسم «الهادي»
من حيث مقام النبي عليهالسلام لبعض الناس : «صلّ» فلا يصلّي ، ولا توجد الصلاة ونحو هذا
، بخلاف ما إذا انضافت إلى العين المأمورة صفة الاستعداد والقبول للحكم الإيجادي بالتجلّي
الذاتي المتعلّق بعين
__________________
الصلاة وظهورها في
مرتبة المظهر المسمّى بالمصلّي ؛ فإنّه يظهر عين الصلاة لا محالة.
ثم اعلم ، أنّ بين
التركيب والجمع والاستحالة التي هي عبارة عن سريان أحكام أجزاء المركّب بعضها في
بعض فرقانا في مراتب الصور لا في مراتب الأرواح والمعاني ، أذكره قبل إتمامي بيان
سرّ الجمع والتركيب ليعرف ، فأقول :
حكم الاجتماع فحسب
هو كاجتماع أشخاص الناس للصورة العسكريّة والصفّ ، والدور للبلد ونحو ذلك.
وحكم الاجتماع
والتركيب معا كالخشب واللبن للبيت المبنيّ.
وحكم الاجتماع
والتركيب والاستحالة كالأسطقسات للكائنات ؛ فإنّ نفس اجتماعها وتركيبها بالتماس
والتلاقي غير كاف لأن تكوّن منها الكائنات ، بل بأن يفعل بعضها في بعض ، وينفعل
بعضها عن بعض ويستقرّ للجملة كيفيّة متشابهة هي كمال تلك الحركات الفعليّة
والانفعاليّة ، وغايتها تسمّى مزاجا وحينئذ تستعدّ للصورة النوعيّة المتوقّف
حصولها على ذلك الاستقرار بتلك الكيفيّة المزاجيّة ، عقيب تلك الحركات الفعليّة
والانفعاليّة.
والغرض من إضافة
ذكر الاستحالة وحكمها هنا إلى الجمع والتركيب هو التنبيه على أنّها إحدى غايات حكم
الجمع والتركيب ، وأنّ قولي آنفا : «المراد من حيث بعض الأسماء والمراتب بكلّ اجتماع
بين كلّ حقيقتين فصاعدا هو ما حدث ظهوره في الوجود الخارجي» ليس أنّ ذلك هو الغاية
القصوى التي هي متعلّقة الإرادة ، ولذلك قيّدت الأمر ببعض الأسماء والمراتب ، كما قلت الآن في نتيجة الاستحالة
وحكمها : إنّها إحدى الغايات ، بل إنّما أومأت بذلك إلى سرّ التسوية الإلهيّة
السارية الحكم في كلّ صورة أو كلّ [ما] مرتبطة به الصورة ، وذلك لتحصيل الاستعداد الوجودي الجزئي بالتسوية المعبّر عنها في هذا
المثال بالاستقرار الحاصل للجملة من حيث الكيفيّة المزاجيّة عقيب الحركات المذكورة
في سائر مراتب النكاحات ومراتب الحركات الثلاثة. ونسبة المزاج إلى كلّ منها بحسبه
__________________
وهي : معنويّة ،
وروحانيّة ، وصوريّة بسيطة ، ومركّبة.
ثم إن كانت
المادّة ـ مثلا ـ إنسانيّة ، استعدّت لقبول النفخ الإلهي ، ولسرّ قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) كما تحصل التسوية للسالك بالتوجّه الصحيح والتفريغ التامّ
وما مرّ ذكره من الشروط ، فيستعدّ لقبول التجلّي الإلهي مثمر ممّا ذكره وغير ذلك ممّا لم يذكر ، وسنشير إلى غايات الإرادة
الكلّيّة الإلهيّة بما ستعرف السرّ فيه ولو على وجه الإجمال ، ثم نرجع إلى إتمام
ما قصدنا بيانه.
فنقول : والتركيب
إمّا معنوي ، وهو الاجتماع الحاصل للأسماء حال التوجه لإيجاد الكون ، ولهذا نبّهت
على أنّ الفرق بين التركيب والجمع يظهر في مراتب الصور لا فيما فوقها من المراتب ،
فافهم.
وهذا الاجتماع
المذكور هو مبدأ التصنيف والتأليف الربّاني للحروف العلميّة ؛ طلبا لإبراز الكلمات
الأسمائيّة والحقائق الكونيّة ، المعربة عن سرّ ذاته وحكمها بأسمائه وصفاته
في موجوداته.
ومادة هذا التأليف
والإنشاء النفس الرحماني الذي هو الخزانة الجامعة ، وأمّ الكتاب على ما سيتلى عليك
من أنبائه ما ييسّر الحقّ ذكره. هذا هو حكم التركيب المعنوي الذي هو الاجتماع
الأوّل ، والظاهر عنه وبعده.
وإمّا صوري مادّي
أو شبيه به ، فالشبيه بالمادّي كتوجّهات الأرواح النوريّة من حيث قواها ، وما سرى
فيها من خواصّ الأسماء التي كان اجتماعها سببا لوجود الأرواح وظهور عالم المثال ومظاهرها المثاليّة.
ثم توجّهات
الأرواح من حيث تقيّدها بمظاهرها المثاليّة بحسب صفاتها ، ومن حيث مراتب مظاهرها
بقواها والخواصّ الحاصلة لها من المراتب الأسمائيّة لإنتاج الصور العلويّة
والأجرام البسيطة بالنسبة.
__________________
وهذا هو مرتبة
النكاح الثاني ، وما سبق التنبيه عليه هو حكم النكاح الأوّل الغيبي الأسمائي.
والمادّي ما بعد
هذين النكاحين المذكورين وهو اجتماع ما سلف ذكره لإنتاج الصور الطبيعيّة المركّبة
، ثم اجتماع الصور المركّبة الطبيعيّة بقواها وسائر ما مرّ حديثه لإظهار صورة
الإنسان.
فكلّ أثر وحداني
وأصل من حضرة الجمع والوجود بحركة غيبيّة سار بأحديّة الجمع ، فإنّه يوجب للحقائق
الظاهر تخصّصها بالتوجّه الإرادي اجتماعا لم يكن من قبل.
فكلّ اجتماع على
هذا الوجه تركيب ، ولكلّ تركيب صورة ـ و هي نتيجة ذلك التركيب ـ ولكلّ صورة حكم تنفرد به وحكم
تشترك فيه مع غيرها.
والتركيبات من
الحروف الإلهيّة العامّة الشاملة الحكم ، ومن الحروف الإنسانيّة الخاصّة في كلّ
مرتبة من مراتب المخارج ، ومراتب العالم الكبير التي هي مخارج صورة الحضرة الإلهيّة لا تتناهى ، فنتائجها
المسمّاة صورا وكلمات لا تتناهى.
وهكذا الأحكام
اللازمة لها ، كالأسماء والصفات ، والخواصّ والكيفيّات ونحوها ، ولذلك لا تنفد
الكلمات الإلهيّة والكونيّة ؛ لعدم تناهي الممكنات المنبّه على حكمها ، وعدم تناهي
أنواع الاجتماعات والتراكيب ، فافهم.
وإنّما يتناهى
أصولها وكليّاتها ، فكلّ مدرك من الصور ـ بأيّ نوع كان من
أنواع المدارك والتصوّرات الإنسانيّة وسواء كان ذلك في مراتب وجود الإنسان ، أو
فيما خرج عنه باعتبار ـ فليس إلّا نسبة اجتماعيّة في مرتبة مّا أو مراتب على
اختلاف أنواع الاجتماعات وصنوفها ومراتبها التفصيليّة والكلّيّة المذكورة.
فالتركيب الجمعي
يحدث عين الصورة التي قصد المركّب والجامع إظهارها بالجمع و التركيب الذي هو شرط في ظهور عين ذلك المركّب ، فمتعلّق
الحدوث و التركيب
__________________
والجمع والظهور [تلك
الصور] لا الأعيان المجرّدة والحقائق الكلّيّة التي هي أصول المركّبات والمجتمعات
في سائر مراتب الجمع والتركيب ، وموادّ عين الجمع والمركّب.
وليس للجمع والتركيب ـ إذا تدبّرت ما نبّهت عليه ـ غير نسبة انضمام
الحقائق المجرّدة بعضها إلى بعض بحركة منبعثة عن قصد خاصّ من الجامع المركّب ،
فيحرّك أو يتحرّك لإبراز عين الصورة الوجوديّة أو الكلمة المراد ظهورها في النفس ،
فتصير الكلمة مشهودة بواسطة النسبة الانضماميّة بعد أن كانت غيبا.
وهكذا الشيء
الظاهر بالإيجاد الإلهي في أيّ مرتبة ظهر من المراتب الوجوديّة
حسب المشيئة والاستعداد ، فحدث ـ كما قلنا ـ التركيب الجمعي والإدراك والشهود
والاجتماع بالحركة والقصد ، وظهر الحكم الساري اللازم لسائر ما ذكر في كلّ ما ظهر
، وكلّ ذلك نسب لا أعيان موجودة.
فمتعلّق الشهود هو
المركّب من البسائط ، مع أنّه ليس بشيء زائد على بسائطه إلّا نسبة جمعها المظهرة الأمر الكامن فيها الذي لو لا
الاجتماع على النحو المقصود لم يعلم ولم يظهر عينه.
فالبساطة حجابك ،
وبالتركيب الذي هو ستر على الحقائق يرتفع ذلك الحجاب مع عدم تجدّد أمر وجودي ، هذا
هو العجب العجاب.
وإنّما الأمر
عبارة عن نسبة جمع وانضمام أحدث في المجتمع حكما لم يكن يعرف ذلك له قبل الاجتماع
كالأسماء والصفات وغيرها ممّا ظهر وتعلّق به الإدراك بواسطة التركيب.
ولهذا كان الكتاب
مشتقّا من الكتيبة وهو اجتماع الصورة العسكريّة اعتبارا لانضمام الحروف والكلمات بعضها إلى بعض
، وذلك الانضمام مستلزم انضمام المعاني الغيبيّة المجرّدة بطريق التبعيّة ، كتحيّز
الأعراض بتبعيّة الجواهر ؛ لأنّها إذا فرضت مجرّدة
__________________
يكون التحيّز من
صفاتها.
ثم هذا الانضمام
يتبعه حكمان مختلفان : النظم والاتّصال المسمّى بالجمع والتركيب ، والآخر الفصل
والتمييز. ويتبع ذلك أمران : التبديل ، والتشكيل.
فأمّا النظم فهو
المعبّر عنه بالانضمام والجمع والتركيب ونحو ذلك وقد بيّنّا حكمه.
وأمّا الفصل فهو
كون أحكام المعاني والحقائق متداخلة ، وبعضها مرتبطا بالبعض ، من حيث المناسبة
والتبعيّة.
فلسان العلم
بالأدوات المعرّفة والشارحة تعيّن الأحكام وتضيفها إلى أصولها ؛ فيرتفع الالتباس
الحاصل بحكم الوجود الواحد الذي عمّها وجمعها بالتمييز ، فيعلم المتعلّم [أنّ] هذا
الحكم ـ مثلا ـ إلى أيّة حقيقة يستند من الحقائق ، فينسبه إليها عن يقين دون مزج ، فيصير كلّ معنى مضافا إلى أصله ، وكلّ أصل
ممتازا بنفسه وما يتبعه ـ من الأحكام المختصة به ـ عمّا سواه ، وهذا من أكبر فوائد
مقام الحضور بعد العلم الصحيح لمن يعلم ما أدرجت في هذا الفصل وما قبله من الأسرار.
ثم نقول : ومتعلّق
التبديل الواقع في الوجود بالاجتماع والاقتران والتحليل والتركيب والتعيّنات
الظاهرة وأنواع التشكّلات هو الصور والأشكال الجزئيّة التي هي أحكام الحقائق
والأشكال المعقولة الكلّيّة المجرّدة.
فإنّ الأشكال
الجزئية والتشخّصات المتعيّنة في الشهادة مظاهر أحكام الأشكال الكلّيّة الغيبيّة ،
والحقائق البسيطة والكيفيّات المدركة التي هي أحوال للأمر المتشكّل من حيث هو
متشكّل في مرتبة مرتبة ، وعين وعين ، والحقائق مشتركة في التجرّد والجوهريّة
والصفة العينيّة ، متماثلة ومتّحدة من حيث الوجود العام المشترك بينها ، ومن حيث السرّ الغيبي
الإلهي الذي لا تعدّد لشيء فيه ، والاختلاف ظهر بالصور والأشكال الظاهرة فالمسمّاة
حدودا ذاتيّة للصور والأشكال لا للمتصوّر والمتشكّل ، ولكن لا يشهد هذا
المتشكّل عيانا إلّا بالشكل فيظنّ من لا يعرف أنّ المحدود هو المتشكّل من حيث ذاته ،
إنّما هو الشكل إلّا
__________________
أنّه يتعذّر
معاينته إلّا بالمتشكّل كما أنّ المتشكّل يتعذّر إدراكه إلّا بواسطة الشكل.
وكذا يغلط من يعرف
من حقائق الأشياء أعراضها وصفاتها ، ويظنّ أنّه قد عرف الصفة من حيث حقيقتها ، وهو
لم يعرفها إلّا من حيث كونها صفة لموصوف مّا ، كما سبق التنبيه عليه ، وكما قلنا
آنفا في الكيفيّات المدركة : إنّها أحوال للأمر المتشكّل من حيث هو متشكّل لا
مطلقا ، فافهم.
وهذه المعرفة متعلّقها
النسب لا الحقائق ، وصاحبها إنّما عرف نسب الحقائق بقيود سلبيّة أو إضافيّة ، و لم يعرف كنهها ؛ إذ معرفة كنه الحقائق لا تحصل إلّا
بالطريق المذكور من قبل ، المختصّ بذوق الأكابر ـ رضي الله عنهم ـ
ثم نقول : فأجزاء
حدّ كلّ شيء بسيط ليست أجزاء لحقيقته ، بل لحدّه فحسب ، وهو شيء يفرضه العقل في
المرتبة الذهنيّة ، فأمّا هو في ذاته فغير معلوم من حيث هو هو ، حتى تنتفي عنه الأجزاء نفيا حقيقيّا ، أو تثبت له ، ولهذا السرّ وما سبق بيانه في أوّل الكتاب تعذّرت
معرفة حقائق الأشياء من حيث إطلاقها وبساطتها في حضرة الغيب الإلهي الذي هو معدنها
الأعلى ، الوجه المنبّه عليه في سرّ العلم من قبل.
فالمتشكّل في ضرب
المثل إذا اعتبر مجرّدا عن الشكل يكون في حضرة العلم الإلهي الغيبي ، فلا يتعيّن لنا ؛ لما
بيّنّا ولا يمتاز ، فلا ينضبط في تصوّر ، ولا يتأتّى تعريفه وتحديده وتسميته
والتعبير عنه ؛ لعدم تحقيق معرفته إلّا على وجه مجمل ، وهو أنّ ثمّة شيئا وراء هذا
الشكل من شأنه أنّه متى اعتبر مجرّدا عن الصور والصفات والاعتبارات المعيّنة له
والأشكال ، لا ينضبط في تصوّر ، ولا يمكن تعقّله على التعيين وشهوده ، فلا بدّ من
أمر يظهر به الشكل الذي تقيّد به الأمر الموصوف بالتشكّل ، حتى تأتّى إدراك كلّ
منهما ـ أعني الشكل والمتشكّل ـ من حيث ذلك الأمر وهو نسبة الجمع.
وأمّا اعتبار
الشيء مجرّدا عن الشكل وحكم التشكّل كما قلنا ـ فيتعذّر معرفة حقيقته
__________________
إن كانت له حقيقة
يمتاز بها لذاته لا بتوسّط اعتبار وتميّز وتعيّن متعقّل ومظهر معرّف ، فافهم
وتدبّر ما نبّهت عليه ، وتنزّه فيما ينفتح لك من التفاصيل ، والله وليّ الإرشاد والهداية.
قاعدة كلّيّة
تتضمّن سرّ الحروف
والكلمات والنقط والإعراب والوجود والإمكان والممكنات وما يختصّ بها من المراتب ،
وما تدلّ عليه وتستند إليه ، وسرّ كون العالم كتابا مسطورا في رقّ منشور ، وغير
ذلك.
اعلم ، أنّ الوجود
المنبسط هو النور ، وقد نبّهت على حكمه حين الكلام على سرّ العلم ، وهو الرقّ
المنشور ، والانبساط المعبّر عنه بالنشر وقع على حقائق الممكنات.
فكلّ حقيقة على
انفرادها من حيث ثبوتها وتميّزها في علم الحقّ تكون حرفا غيبيّا ـ كما أشرت إليه
في سرّ التراكيب الستّة ـ ومن حيث إنّ الحقائق : منها تابعة ، ومنها متبوعة ،
والتابعة أحوال للمتبوعة وصفات ولوازم ، كانت المتبوعة باعتبار انضياف أحوالها
إليها وتبعيّتها لها حال تعقّلها خالية عن الوجود كلمة غيبيّة ، وباعتبار تعقّل الماهيّة
المتبوعة منصبغة بالوجود ، مفردة عن لوازمها المتأخّر وجودها عن وجود الماهيّة
المتبوعة تكون حرفا وجوديّا ، وباعتبار تعقّلها ـ أعني الماهيّة
المتبوعة ـ منضمّة إليها لوازمها التابعة حال اتّصافها بالوجود كلمة وجوديّة.
والآيات من هذه
الكلمات الوجوديّة ما يتضمّن معنى الدلالة على حقيقة صفة خاصّة أو حالة معيّنة أو
نوع مّا مخصوص من أنواع اللوازم المضافة إلى أصل كلّي أو جنس معيّن بصورة هيئة من
الهيئات الاجتماعيّة الواقعة بين الكلمتين فصاعدا ، معربة عن جملة من المعاني
المفهومة ، المدركة بواسطة تلك الهيئة.
والسور منها ما
يتضمّن بيان أحكام مرتبة مّا من المراتب أو صفة كلّيّة أو حالة كلّيّة تستلزم صفات
شتّى أو أحوالا متعدّدة مختلفة.
__________________
والكتب المنزلة
عبارة عمّا يتضمّن الترجمة عن صور الأحكام العلميّة الإلهيّة والأحوال الإمكانيّة
المختصّة بمرتبة مّا من المراتب الكلّيّة وطائفة مخصوصة وأهل قرن معيّن أو قرون
معيّنة.
والقرآن صورة
العلم المحيط بالأحوال الإمكانيّة ، المختصّة بالموجودات على اختلاف طبقاتها من حيث الأخبار المختصّة من حيث الحكم بأهل باقي العصر إلى الوقت المعيّن المقتضي
انتهاء حكم الشرائع قاطبة ، وهو زمان طلوع الشمس من مغربها ، فافهم.
والحضرات الكلّيّة
التي إليها الاستناد والمرجع هي الخمسة المذكورة ، وسنعيد ذكرها ؛ عملا بالأحوط ،
وخوفا من نسيان المتأمّل كما فعلت ذلك في عدّة أمور ربما ظنّ من لم يعرف المقصود
أنّ ذلك تكرار عار عن الفائدة.
فنقول : أوّلها
الغيب الإلهي الذي هو معدن الحقائق والمعاني المجرّدة.
ثم الإضافي وله
عالم الأرواح وما ذكر من قبل.
وفي المقابلة
مرتبة الشهادة ، ولها الصور المركّبة الطبيعيّة والبسيطة بالنسبة.
ثم التي نسبتها
إلى الشهادة أقرب كما ذكر.
وخامسها الأمر
الجامع وقد مرّ ذكر الجميع.
ونظيرها في عالم
النفس الإنساني مراتب المخارج فأوّلها باطن القلب الذي هو ينبوع النفس ، وتقابله
الشفتان مقابلة الشهادة للغيب ، والثلاثة الباقية : الصدر ، والحلق ، والحنك.
فكما أنّ كلّ
موجود لا بدّ وأن يستند إلى إحدى هذه المراتب الخمس ، أو يكون مظهرا لحكم جميعها
كالإنسان الكامل ، كذلك كلّ حرف لا بدّ وأن يستند إلى إحدى هذه المخارج ، أو
يستوعب حكم جميعها كحرف الواو ، وما سوى ما ذكر فمراتب تفصيليّة تتعيّن فيما بين
هذه الأمّهات الأصليّة ونظائرها من المخارج المشار إليها. ولكلّ فرد من أفراد
الموجودات العينيّة التي هي حروف النفس الرحماني من حروف النفس الإنساني خمسة
أحكام ثبوتيّة في قوّة أحدها جمعيّة ما في الأربعة ، وحكم سادس سلبي سار في الخمسة
من حيث
__________________
إنّ كلّ ثبوت يوصف به أمر مّا يستلزم نفي ما ينافيه فإمّا من وجه
واحد أو من وجوه بحسب المنافاة وحكمها.
ولهذه الأحكام
الستّة خمس علامات : ثبوتيّة ، مرتّبة تجمع إحداها ما تضمّنته الأربع ، وعلامة سادسة سلبيّة تنتج
حكما ثابتا ؛ فإنّ ترك العلامة علامة ، فهذه اثنا عشر أمرا استحضارها
يعين في فهم ما يذكر من بعد.
فأمّا الأحكام
الخمسة الثبوتية : فحكم الموجود من حيث ماهيّته الثابتة في العلم. وحكمه من حيث روحانيّته.
وحكمه من حيث صورته وطبيعته ؛ إذ لا بدّ لكلّ موجود من روحانيّة في قاعدة التحقيق
، ولا بدّ لكلّ روحانيّة من صورة تكون مظهرا لحكم الروحانيّة وإن لم تشترط في حقّ
بعض الموجودات الروحانيّة صورة بعينها.
والحكم الرابع من
حيث التجلّي الإلهي الظاهر بها والساري فيها بأحديّة الجمع اللازم للهيئة المعنويّة
الحاصلة من اجتماع جميعها.
والحكم الخامس من
حيث المرتبة التي هي غاية.
والسادس : السلبيّ
قد سبق التنبيه على حكمه.
وأمّا العلامات :
فالنقط ، والإعراب أو ما يقوم مقامهما ، ولكلّ منها خمس مراتب أيضا وسادسة سلبيّة
، فالتي تختصّ بالنقطة كونها تكون واحدة واثنتين وثلاثا ، من فوق الحرف ومن تحته ،
والسلبيّة عدم النقط.
والإعراب : الرفع
، والنصب والجرّ ، والتنوين ، والسكون الحيّ ، والسادسة السلبيّة : السكون الميّت
، وحذف الحرف القائم مقام الإعراب.
فالرفع للمرتبة
الروحانيّة.
والنصب والجرّ
للصورة الظاهرة والطبيعيّة.
والسكون الحيّ
للحكم الأحديّ الإلهي الأوّل المختصّ بحضرة الجمع العامّ الحكم على
__________________
الأشياء ، فهو أمر
معقول ثابت يرى أثره ولا يشهد عينه ، كما نبّه عليه شيخنا وإمامنا رضي الله عنه في
بيت له غير مقصود ، بقوله ، (شعر) :
والجمع حال لا
وجود لعينه
|
|
وله التحكّم ليس
للآحاد
|
ولهذا السكون أيضا
الرجوع إلى الحكم الثبوتي بالاستهلاك في الحق ، مع بقاء حكم وجود المستهلك ،
وارتفاع أحكام النسب الكونيّة ، فالحركة التي هي عنوان الوجود خفيّة ، فالحكم
موجود ، وليس لمن ينسب إليه الحكم عين ظاهرة وهذا هو حكم قرب الفرائض ، المشار
إليه بأنّ العبد ليستتر بالحقّ ، فيظهر حكمه في الوجود لا عينه كالبرازخ كلّها.
وممّا يختصّ
بمرتبة السكون الحيّ التنوين ، وله الثبات والاستقرار في الغايات بانتهاء حكم
الاستعدادات من الوجه الكلّي ؛ إذ الأمر من حيث التفصيل لا غاية له ولا انتهاء
إلّا بالنسبة والفرض.
والسكون الميّت
كالموت والجمود والتحليل والفناء ونحو ذلك.
ولمّا كان الحكم
في الأشياء للمراتب لا للأعيان الوجوديّة من حيث وجودها ، كان ما يضاف من الحكم
إلى الموجودات إنّما يضاف إليها باعتبار ظهور حكم مرتبتها بها ، والأثر الحاصل من
المراتب إنّما هو باعتبارين :
أحدهما اعتبار
سريان الحكم الجمعي الأحدي الإلهي الساري في الأشياء.
والثاني اعتبار
الأغلبيّة التابعة للنسبة الأوّلية ؛ فإنّ ثبوت الحكم والغلبة لبعض المراتب على بعض
، إنّما يصحّ بسبب الإحاطة ، ويظهر بحسب أوّليّتها.
ولمّا كانت
الخاتمة عين السابقة ، والغاية المعبّر عنها بالآخريّة هي نفس صورة كمال الأوّليّة
، لم تتميّز ولم تتغاير إلّا بخفاء حكم الأوّلية بين معقول طرفي
البداية والنهاية ، كما اومأت إلى ذلك آنفا.
لذلك كان شكل
التنوين ضعف شكل مجرّد الإعراب الدالّ على الحكم ، فتثنية التنوين للاعتبارين
المذكورين ، وسنذكر ما تبقى من أسرار الحركات والنقط ـ إن شاء الله تعالى ـ.
__________________
فنقول : اعلم أنّه
قدّمنا أنّ كلّ صورة وجوديّة يتعلّق بها الإدراك ـ على اختلاف مراتبه ـ أنّها عبارة عن اجتماع حقائق معقولة مجرّدة ظهرت بنسبة الاجتماع
التابع لحكم أحديّة الجمع الإلهي المذكور ، وذلك الظهور قد يكون في بعض المراتب
الوجوديّة ، وقد يكون في كلّها ، فللموجودات الغيبيّة التي هي حروف النفس الرحماني
وحروف النفس الإنساني بحسب المراتب الخمس الكلّيّة المذكورة ، وبحسب نظائرها في المخارج من حيث الحكم التركيبي والتأليف الاجتماعي ،
والسرّ الجمعي ـ الذي يصبغ به المتكلّم عين الكلام ، ويسري أثره فيما يتكلّم به ـ تداخل ومزج.
والغلبة والظهور
في أحوال التركيب إنّما يكون لأحد الأشياء التي وقع بينها ذلك الامتزاج والتأليف ،
فأمّا من حيث المرتبة فالحكم الجمعي المذكور ، وأمّا من حيث الظهور الوجودي
فالأوّليّة.
فالنقط والإعراب
معرّفات لهذه الأمور تعريف تمييز وتعيين ، ومنبّهات على أصولها ، فالنقط للمراتب ،
والحركات الإعرابيّة للأحكام والصفات.
وللمراتب الخمس
مراتب تالية لها وهي : مرتبة الفعل ، ومرتبة الانفعال ، ومرتبة جامعة تقتضي
التكافؤ والاعتدال والمقاومة ، ومظاهرها في النسخة الإنسانيّة : الصوت ، واللسان ،
والأسنان ، فافهم.
وكما أنّ المراتب
الخمس يكون ظهور حكمها ـ كما قلنا ـ باعتبار الأوّليّة والحكم الجمعي الأحدي ،
فكذلك ظهور الأمر في هذه المراتب الثلاث يكون باعتبارين : أحدهما ظهور الغلبة
المشار إليها من حيث القوى الروحانيّة ، والآخر من حيث القوى الطبيعيّة ؛ لأنّ
اختلاف استعدادات الأعيان ، واختلاف تعلّقات الأسماء وتوجّهاتها لإيجادها يقتضي
أنّ بعضها إذا وجد يتعيّن في مراتب الأرواح وينضاف إليها ، وبعضها في مراتب
الطبيعة ، والظهور في إحدى المرتبتين المذكورتين أو فيهما معا ـ باعتبارين ومن
وجهين ـ يستلزم الانصباغ بحكم إحدى النسبتين ـ وهما : الفعل والانفعال ـ أو الأمر
الثالث الجامع باعتبار ؛
__________________
فإنّ تعيّن الحرف ـ
مثلا ـ في المرتبة الفعليّة من حيث النسبة الروحانيّة لغلبة أحد الأحكام الخمسة من
حيث الأوّليّة أو الحكم الجمعي الأحدي المرتبي ، نبّه على الحكم بالإعراب وعلى المرتبة بالنقطة ، وتكون
واحدة من فوق الحرف ، وإن كانت الغلبة بالاعتبارين : الروحاني والطبيعي ، كانت
نقطتين ، وإن كان الأمر بالعكس ـ بمعنى أنّ تميّز الحرف يكون في المرتبة الانفعاليّة
بأحد الاعتبارين المذكورين أو كليهما ـ كان النقط من أسفل ، فإن انضاف إلى ذلك حكم
الأوّليّة بالنسبة إلى المرتبة الروحانيّة والطبيعيّة هناك أيضا وحصل التناسب ،
كان الإعراب أيضا من تحت الحرف كالنقط وهذا يكون إذا كان أحد الحكمين من الخمسة
لمرتبة السكون الميّت ، والآخر للصورة الطبيعيّة وإن كان الأمر بالعكس في
الاعتبارين وما يناسبهما من الأحكام الخمسة ، كان الإعراب والنقط فوق الحرف.
وإن كانت الغلية
لبعض الخمسة ما عدا السكونين ، ويكون التعيّن في المراتب من حيث النسبة
الانفعاليّة ، كان الإعراب من فوق والنقط من أسفل وإن كان الأمر بالعكس كان النقط
من فوق والإعراب من أسفل.
وإن حصلت الغلبة
في مرتبة الجمع والتكافؤ التي هي المرتبة الأخيرة من الثلاثة وكان الحكم من أحد
الخمسة للسكون الحيّ ، كان النقط ثلاثا من فوق.
ولمّا لم يظهر هذا
الجمع التركيبي إلّا بحسب الاعتبارين المذكورين ـ وهما النسبة الروحانيّة والنسبة
الطبيعيّة ـ لذلك لم ينقط من الحروف ثلاث نقط إلّا الثاء والشين ، فالثّاء
لحكم جمع القوى الروحانيّة ، والشين لحكم جمع القوى الطبيعيّة.
والسرّ في أنّ
النقط من أسفل لم تكن أكثر من اثنتين أنّ الامتزاج المذكور إنّما يقع بين الأرواح
والطبائع ؛ لما بيّنّا ، ولأنّهما مظاهر المعاني والحقائق والمراتب ، فإن غلبت
النسبة الروحانيّة بالتفصيل المقدّم ذكره ، كانت النقط من فوق ، وإن غلبت القوى
الطبيعيّة ، كانت من تحت ؛ تعريفا لمرتبة الأرواح والطبائع. والنقطة الثالثة لمّا
كانت منبّهة على التكافؤ الاعتدالي ، والسرّ الجمعي الأحدي الإلهي الذي تستند إليه
سائر الأحكام والآثار ـ كما مرّ
__________________
ذكره في غير موضع من هذا الكتاب ـ نبّه عليه من فوق لشمول حكمه.
وأمّا من تحت فلا
؛ لأنّه الأمر الإلهي الذي يغلب ولا يغلب ، ولهذا تجعل فوق النقطتين اللتين :
إحداهما للروحانيّة ، والأخرى للطبيعيّة ، وترسمان في صفّ واحد إشارة إلى تساويهما
من حيث إنّ كلّ واحدة منهما من وجه تفعل في الأخرى ، وتؤثّر فيها ، وتجعل الثالثة
فوقهما ؛ لما بيّنّا.
والسرّ في أنّ
الحكم الجمعي لا ينبّه عليه إلّا في الحرفين ـ وهما الثاء والشين ـ أنّ حكم الجمع
الأحدي والاعتدال الوجودي في غير هاتين المرتبتين معقول غير مشهود ، ولهذا
الاعتدال التامّ لا ينتج ولا يظهر له صورة ، وكذا الجمع الكلّي الشامل الحكم ،
والكمال الذي لا أكمل منه ، لا يتعيّنان في الوجود ، وإنّما يشهد كلّ منهما بحسب
المرتبة والمظهر الذي يظهر الكلّ فيه وبه ، لا بحسبه.
وأمّا سرّ دلالة
النقط على المراتب ، والخطوط الإعرابيّة على الأحكام ، فهو أنّ النقطة أمر معقول
غير مشهود مع أنّه أصل سائر الخطوط والسطوح والدوائر ، فيظهر به جميعها ، وهو من
حيث هو لا يظهر. كذلك المراتب حقائق معقولة غير مشهودة ، وهي أصل كلّ ما يشهد ،
والحاكمة عليه ، ولمّا كان الخطّ عبارة عن نقط متجاورة ، لذلك كان دليلا على الحكم
؛ لأنّ الحكم نسبة معقولة بين حاكم ومحكوم عليه ، وبالحركة الإيجاديّة يحصل
الاتّصال ، فيظهر عين الحكم والحاكم من كونه حاكما ، والمحكوم به وعليه ، فافهم
والله المرشد.
وأمّا سرّ التشديد
فهو تلاقي حكم النسبة الجامعة من المراتب الثلاث لحكم مرتبة السكون الحيّ المختصّ
بأحديّة الجمع الإلهي ، والظاهر منهما هو صاحب الأوّليّة ، فالحكم عين الظهور.
وأمّا سرّه في
الموجودات فيعلم من نتيجة قرب النوافل وقرب الفرائض ، فقرب النوافل يختصّ
بالطالبين ، وقرب الفرائض يختصّ بالمرادين المطلوبين. فإذا تعدّى المحقّق مقام «أو
أدنى» وارتفع الخطّ الذي قسّم الدائرة قوسين ، فإنّ المطلوب يكون له الأوّليّة
والظهور ، من حيث الحكم ، والطالب له الآخريّة ولوازمها ، ومن فهم سرّ
__________________
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ) وعرف سرّ «قف إنّ ربّك يصلّي» يعرف ما أومئ إليه.
ثم نرجع ونقول :
ولمّا كانت الصور منقسمة إلى مركّبة وبسيطة بالنسبة ، وكان البسيط لتشابه أجزائه
وعروه عن الكيفيّات المختلفة من حيث ذاته لا يظهر للتركيب فيه حكم محسوس ، بل يعقل ذلك فيه لا غير ، كانت الحروف
المختصة به بحكم الأغلبيّة والمنضافة إليه خالية عن النقط ؛ لأنّ النقط وضعت للتعريف ، ونسبة
هذه الحروف إلى الطبيعة والصور إنّما كانت من وجه واحد واكتفي في التنبيه على مرتبتها بمجرّد الصورة ، وعلى حكمها
بالإعراب ، فحصل الاستغناء عن معرّف آخر.
ثم إنّ الحروف ـ
التي هذا شأنها ـ في الاصطلاح أربعة عشر حرفا وفي قاعدة التحقيق اثنا عشر حرفا
فحسب ؛ لأنّ أحدها الألف وليس هو عند المحقّقين بحرف تامّ ؛ فإنّه عبارة عن امتداد
النفس دون تعيّنه بمقطع خاصّ في مخرج من المخارج ، فهو والهمزة عندهم حرف واحد ،
كما سنشير إليه.
ولام ألف أيضا حرف
مركّب من اللام والألف ، وله الدلالة على سرّ التركيب من حيث معقوليّته وعدم ظهور
حكمه في المركّب ، وله التعريف بسرّ الارتباط الواقع بين الحضرتين : الإلهيّة
والكونيّة ، والامتزاج الحاصل بين البسائط والمركّبات ، وله أيضا أسرار غير ما
ذكرنا لا يقتضي الحال ذكرها.
ثم نقول : فالحروف
الخالية عن النقط إذا اثنا عشر حرفا وتستند إلى البروج الاثني عشر المقدّرة
المفروضة في العرش الذي هو أوّل الأجسام البسيطة وأعظمها صورة وحكما وإحاطة
وعلامات البروج هي المنازل المشهودة في الفلك الثامن والمراتب المذكورة آنفا ،
السارية الحكم في الحروف جميعها.
والموجودات أيضا
اثنا عشر : الخمسة الأصليّة ، والاعتباران اللازمان لها ، والثلاثة التالية ،
والاعتباران التابعان لها ، فصار المجموع اثني عشر.
__________________
وصارت الحروف
المنقوطة أربعة عشر ؛ إشارة وعلامة على مراتب السماوات السبع ، والعناصر الأربعة
والمولّدات الثلاث ، والفلك الثامن هو البرزخ الجامع وهو الأعراف ، فافهم.
ولمّا كانت مرتبة
الإمكان بما تحويه من الممكنات غيبا ولها الظلمة ، وكانت الممكنات هي التي تتعيّن في النور الوجودي ويظهر أحكام
بعضها للبعض بالحقّ وفيه ، وهو سبحانه لا قيد له ولا تميز ، كان المثال الواقع في الوجود مطابقا للأصل.
فالمداد مع الدواة
نظير مرتبة الإمكان وما حوته من الممكنات من حيث إحاطة الحقّ بها وجودا وعلما.
وحقائق الممكنات كالحروف الكامنة في الدواة ، كما نبّهت عليه في سرّ «كان الله ولا
شيء معه» ونحوه عند قولي : «وليس لشيء في الغيب الذاتي الإلهي تعدّد ولا تعيّن وجودي». والورق
وما يكتب فيه كانبساط النور الوجودي العامّ الذي تتعيّن فيه صور الموجودات.
والكتابة سرّ الإيجاد والإظهار. والواسطة والآلة : القلم الإلهي. والكاتب : الحقّ
من كونه موجدا وخالقا وبارئا ومصوّرا ، كما نبّهت عليه في سرّ التراكيب الستّة
والتميّز والقدرة. ونظير الأنامل الثلاث الفرديّة الأولى التي وقع
فيها وبها الإنتاج ، وقد مرّ ذكرها. والقصد : الإرادة. واستحضار ما يراد كتابته
التخصيص الإرادي ، التابع للعلم المحيط بالمعلومات التي تظهر.
وكما أنّ استمداد
العالم الكاتب هنا ما يريد كتابته يرجع إلى أصلين : أحدهما : العلم الأوّلي ،
والثاني : الحسّي المستفاد من المحسوسات ، كذلك الأمر هناك ، فنظير الأوّلي علم الحق بذاته وعلمه بكلّ شيء من عين علمه بذاته. ونظير
المستفاد من المحسوسات رؤيته سبحانه حقائق الممكنات في حضرة الإمكان ، وتعلّق العلم بها أزلا تعلّقا ذاتيّا ،
وإبرازها في الوجود على حدّ ما علمت وبحسب ما كانت عليه ، وهذا سرّ تبعيّة علم
العالم للمعلوم.
__________________
ومن النسبة
الجامعة بين هذين الأصلين العلمين تعلم أسرار كثيرة لا يقتضي الوقت والحال تفصيلها
، أحدها سرّ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ) ، فاعلم ما نبّهت عليه ، فلقد أدرجت لك في هذه القاعدة
وتقاسيمها المتقدّمة أسرارا إن فكّ لك منها معمّاها ، انفتحت لك بها أبواب من
المعارف عظيمة الجدوى ، عزيزة المنال ، والله وليّ الهداية والإحسان.
__________________
قاعدة كلّيّة
تحتوي على ذكر مراتب التميّز الثابت بين الحقّ وما سواه ، وما
يختصّ بتلك المراتب من أمّهات الأسرار بطريق التبعيّة والاستلزام.
اعلم ، أنّ
الحضرات الخمس الأصليّة التي سبقت الإشارة إليها ـ مع كونها الأمّهات لسائر
المراتب والحضرات ـ فإنّ بعضها أيضا داخل تحت حيطة بعضها ، كالحضرتين اللتين هما
عن جنبتي المرتبة الوسطى ، فإنّ إحداهما تندرج في مرتبة الاسم «الظاهر» المنعوت
بالشهادة ، والأخرى في مرتبة الغيب الأصلي الذي تقابله الشهادة ، كما يندرج الوسط
أيضا في الطرفين إذا اعتبر كونه ليس بشيء زائد عليهما بل هو نسبة هي جمعيّتهما
الناتجة من بينهما.
ثم إذا اعتبر
الوسط أيضا أنّ حقيقته الاسم الظاهر والظهور وهما فرعان تفرّعا عن الغيب الباطن ، الذي هو الأصل ؛ فإنّ الظهور لا يكون
إلّا عن بطون متقدّم ، مفروض أو معلوم ، اندرجت الأربعة في الغيب الأوّل ، لكن
معقوليّة هذا الاندراج على هذا النحو ترفع الأحكام والكثرة والكلام والاعتبارات والتفاصيل الأسمائيّة
الإلهية والكونيّة والمراتب التي تنتهي إليها من هذه الخمسة الكليّة ، ولا يصحّ
الشهود والكلام والحكم والتفصيل إلّا بها ، وباعتبار تعلّقها هي الحضرة الإلهيّة
التي لها الغيب ، والحضرة الكونيّة التي تختصّ بالشهادة ، والسرّ الجامع بينهما.
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم أنّ الأمر الكلّي ينقسم بحسب هذه الأصول المذكورة ثلاثة أقسام :
__________________
قسم يختصّ به
الحقّ ، وقسم ينفرد به الكون ، وقسم يقع فيه الاشتراك في المقام النفسي العمائي
الذي هو السرّ الجامع المشار إليه.
فالمختصّ بالحقّ
سبحانه أمور لا يشارك فيها ، وهي على نوعين : ثبوتيّة باعتبار ، وسلبيّة باعتبار ،
فالثبوتيّة منها : إحاطته الوجوديّة والعلميّة ، وتقدّم وجوده على كلّ متّصف بالوجود
، وأوّليّة الإرادة والطلب ، وقبوله في كلّ وقت وحال وموطن ومظهر ومرتبة كلّ حكم
بحسب كلّ حاكم وما ذكر والجمع بين وجوب الوجود ووجوب الثبوت على الدوام.
والسلبيّة منها :
كونه سبحانه لا يتقيّد ، ولا يتميّز ، ولا ينحصر ، ولا أوّليّة لوجوده ، ولا يحاط
به ، فهذه الأمور يستحقّها بكلّ وجه وعلى كلّ حال ، فإنّها من مقتضيات ذاته ليس
أنّ تلك الأمور لم تكن ذاته تقتضيها ، بل عرضت في مرتبة المظاهر الكونيّة وبالنسبة
إليها ، وأضيفت إليه بسببها ؛ إذ لو كان كذلك ، لعاد إلى الحقّ من الأعيان
والحقائق به أو بها جمعا وفرادى ما لم تكن ذاته تقتضيه أزلا ، فيكون سبحانه قد
تجدّد له من غيره أو بغيره قبول حكم أو وصف ، وثبت ذلك له بثبوت الغير لكن لو فرض زوال ذلك الغير لزال ذلك
الأمر ؛ لأنّ ذاته لم تكن تقتضيه بدون هذا الغير ، وهذا لا يصحّ ؛
لأنّه يلزم منه قيام الحوادث بذات الحقّ وقبوله للتغيّر ، وأن يعاد فيحكم على الثابت نفيه بأنّه واجب الثبوت أو
ممكنه ، وهذا من باب قلب الحقائق ، وأنّه محال.
غير أنّ هنا سرّا
دقيقا فيه ـ لعمر الله ـ تحقيق ، وهو أنّ هذه الصفات بأسرها وسواها لا تعلم ولا يظهر ثبوتها وتعيّنها إلّا في العماء الذي هو البرزخ
المذكور ، الفاصل بين الغيب المطلق الذاتي والشهادة ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله
تعالى ـ فالثابت الآن للحقّ في كلّ شأن ـ كائنا ما كان ـ هو ما اقتضته ذاته أزلا ،
وكذلك الثابت لغيره من حيث حقيقته ، والثابت نفيه أيضا عنه وعن سواه ، فالمتجدّد
إنّما هو ظهور تعيّن تلك الأمور ومعرفتها للأعيان وبها ،
__________________
لا ثبوتها ونفيها
لمن هي ثابتة له أو منفيّة عنه ، والظهور لا يكون إلّا في العماء المذكور وبه ،
فافهم.
وما يمتاز الكون
به عن الحقّ ويخصّه من الأقسام المذكورة هو عدم كلّ ما تعيّن ثبوته للحقّ فيما مرّ
، ككونه لا يتّصف بإرادة أولى ولا بوجود قديم و غيرهما ممّا مرّ ، وبانفراده بوجوب الثبوت دون وجوب الوجود ، وبالحدوث
، وبتقلّب الأحوال عليه ، بخلاف الحقّ سبحانه ؛ فإنّه لا يتقلّب في الأحوال وما
سوا ما ذكر ـ من الصفات المشار إلى ثبوتها ونفيها ـ وأمور تبدو في البرزخ الأوّل المذكور وهي مشتركة ذات وجهين
وحكمين يصحّ نسبتها إلى الحقّ من وجه ، وإلى ما سواه من وجه. وثبوت هذه الأمور
للحقّ في هذه المرتبة البرزخيّة بنسبة الاشتراك هو ممّا اقتضت ذاته قبولها بهذا الشرط في هذه المرتبة البرزخيّة
نسبة الاشتراك على الوجه الواقع ، وهي من أحكام إحدى صفات امتيازه المذكورة ، وهي
قبول كلّ حكم في كلّ حال ومرتبة وزمان وموطن ومظهر بحسب كلّ حاكم. وحكم الأعيان
الكونيّة في هذه الأمور المشتركة الواقعة في هذا البرزخ على نحو ما ذكرنا في حقّ الحقّ من أنّ حقائقها
اقتضت قبول كلّ ما ظهر قبولها له بالفعل بشرائطه ، وأنّ المتجدّد إنّما هو ظهور
تلك الأمور ومعرفتها لا ثبوتها ونفيها لمن أثبتت له أو نفيت عنه.
ثم نقول : ولهذا
البرزخ صفة الضياء. وما امتاز به الحقّ عن الخلق ، له مرتبة الغيب والنور المحض ،
ومن شأنه أن يدرك به ولا يدرك هو ؛ ونظيره فيما نحن بصدد بيانه ـ من المراتب
الإلهيّة المتعيّنة ـ الأصل المنبّه على سرّه بالقسم الأوّل من الفاتحة ؛ ومن
ورثته والقائمين بحقّ مظهريّته «السابق» ومن العبادات الواجبة النهاريّة وكلّ عبادة لها درجة الأوّليّة.
وللحضرة الكيانيّة
الأخرى الظلمة المنبّهة على مرتبة الإمكان والعدم المعقول ؛ ومن شأنها أن تدرك ولا
يدرك بها ؛ ولها مرتبة القسم الأخير من الفاتحة والسؤال الذي متعلقه
__________________
الهداية الحاصلة
للذين ذكر وصفهم إلى آخر السورة بصفتي الإثبات والنفي التنزيهي ، وهو الانسلاخ من
النسب الكونيّة والصفات العارضة ، والبقاء على الأصل الذي هو الثبوت الإمكاني
المقابل للنور مقابلة العبوديّة الكاملة للربوبيّة ، وهو مقام الاستهلاك الثاني في
الحقّ ، كما سألوّح ببعض أسراره من بعد عند الكلام على سرّ الهداية ـ إن شاء الله
تعالى ـ مضافا إلى ما سلف ذكره في سرّ الفتح والعلم.
ويختصّ بهذه
المرتبة العبادات الليليّة والتي لها الآخريّة ؛ ومن القائمين بحقّ مظهريّة هذه المقامات الكلّيّة «الظالم».
وأمّا البرزخ
المنعوت بالضياء ، والمسمّى بالعماء ، فيستند إليه مقام (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومن شأنه أن يدرك ويدرك به ، ويختصّ به العبادات البرزخيّة
الجامعة ، كالمغرب والصبح وكلّ ما لا يتقيّد بأوّليّة و آخريّة.
ومن الورثة
القائمين بحجج الله وحقّ مظهريّة هذه المقامات الكبرى الإلهيّة «المقتصد» القائم
في الوسط والموفي كلّ ذي حقّ حقّه ، كربّه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ، فهذا مقام
الفرديّة الأولى ، الذي وقع فيه الإنتاج والتناسل بالنكاح الغيبي والروحاني
والطبيعي والعنصري والجامع بين جميعها.
ومن هذه تعرف
شرائع الإسلام الخمس ، والصلاة وغير ذلك ، وتعرف هذه من الحضرات الخمس الأصليّة ، وسيرد
في الكلام على الاسم «الربّ» في قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) من ذلك ما ييسّر الله ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ
ثم نقول بلسان هذا المقام البرزخي الجامع : فالأحكام الإلهيّة تبدو
من الحقّ من حضرة غيبه وترجع إليه كما أخبر ولكن بالممكنات ، وأحكام الممكنات
يتّصل من بعضها بالبعض ولكن بالحقّ ، فللممكنات من الحقّ الإظهار الإيجادي ، والذي
لحضرته منها القبول ، وكونها شرطا في رجوع أحكام الأسماء المتعيّنة بها وإظهار
آثارها من الحقّ إلى الحقّ كما مرّ آنفا
__________________
وكما أشرنا إليه في سرّ التصوّرات من قبل. وأوّليّة المرتبة في العلم
للكون من حيث إنّ العلم إنّما تعلّق بالعالم على حسب ما اقتضته حقيقته وحقيقة
التعلّق والمتعلّق من كونه متعلّقا ؛ فإنّ التعلّق تابع لما تعلّق به ولحكمه غير
أنّ الحقّ علم حقائق الأشياء من ذاته ؛ لارتسامها فيه ، فلم يكن له علم مستفاد من
خارج ، فهو تقدّم وتأخّر بالمرتبة والنسبة لا غير ، فافهم. والأوّليّة للوجود في
الحقّ كما ذكر في أوّل القاعدة.
فلسان التقدّم
الوجودي قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) ، وقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ ...
وَالْباطِنُ) ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «كان الله ولا شيء معه» ولسان الاسم «الآخر» المشار إليه
(إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ) و (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) ونحو ذلك وقوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا» ، «ومن عرف نفسه
عرف ربّه» ، «ومن تقرّب إليّ
شبرا ، تقرّبت منه ذراعا» ونحو ذلك ، فافهم
ما دسست لك من الأسرار بلسان الإيماء في هذه القاعدة.
واعلم أنّ مجموع
ما ذكر ـ من التقدّم والتأخّر والتعلّق والإظهار والقبول وغير ذلك ـ واقع في كلّ
نفس ، ولا ينفكّ مجموع الحكم عن مجموع ما تعلّق به ، فكلّ موجود فحكمه مع الأسماء
حكمها مع المسمّى. والانفكاك محال من كلّ وجه وعلى كلّ حال وتقدير وفي كلّ مرتبة.
فالعالم بمجموعه
مظهر الوجود البحت ، وكلّ موجود على التعيّن مظهر له أيضا ، ولكن من حيث نسبة اسم
خاصّ في مرتبة مخصوصة من المراتب ، والوجود مظهر لأحكام الأعيان ، وشرط في وصولها
من بعض الممكنات إلى البعض ، وفي العلم بنفس وببعضها بعضا في البرزخ المذكور الذي هو المرآة الكلّيّة.
ولهذا السرّ
والمقام تفاصيل لا يسع الوقت ذكرها ، وإنّما أوردت هذا القدر وفاء لما
__________________
التزمته من تبيين
الأشياء المتكلّم عليها من أصولها ، والتعريف بحقائقها ، وإلّا فالمتكلّمون على
الفروع والأصول والتفاصيل نقلا وفهما وذوقا قد أكثروا من ذكر نتائج الحقائق
والمقامات المتجلّية في مرتبة الخواطر والأفكار والقلوب ، ولكن قلّ من يعرّف
بحقيقة المرتبة والمقام تعريف عليم خبير بحيث يتشخّص في نفس المخاطب كأنّه يراها
رأي عين ، ثم يتكلّم على نسبها وتفاصيلها وأحكامها بكلام يظهر فيه اطّراد حكم
الأصول التي أسّس عليها البيان التفصيلي ، بحيث لا تنقض الأصول عليه شيئا من
الأمور التفصيليّة المسندة إليها ، بخلاف الأكثرين ؛ فإنّهم لم يستشرفوا على
أمّهات الحقائق وأصول المقامات ، بل يتكلّمون على التفاصيل منتقلين من بعض الفروع
إلى بعض آخر ، ولذلك يقع الخلاف بينهم ، ويرد النقض عليهم ، ويبدو حكم الحيرة فيهم
عند المحاقّة ، وفي الجملة ، فالغرض من تقديم هذه الأصول هو ما ذكرنا.
وليتنبّه الواقف
على هذا المسطور بما أوردنا ، فيعرف كيفيّة بروز العالم من الغيب إلى الشهادة
بالنفس الرحماني ، ويعلم أوّليّة مقام الوحدة وما يتبعها ممّا ذكر ويذكر سرّ
الأسماء وأسماء الأسماء ، وسرّ التسمية وسرّ التجلّي الساري ، وكون الموجودات
كلمات الله التي لا تنفد ، وكون الإنسان نسخة الحضرتين المذكورتين.
فانتشاء الحروف
والكلمات من نفسه في مراتب المخارج نظير انتشاء الموجودات من النفس الرحماني ،
وتعيّنها في المراتب الوجوديّة التي آخرها الشهادة ، عند الخروج من الغيب بالإرادة
الإلهيّة والقول الأمري.
والتغاير الواقع
هناك بحسب المراتب الأسمائيّة ، وتنوّعات توجّهاتها ، واختلاف الحقائق الكونيّة
ومراتبها واستعداداتها ، نظيره عندنا التغاير الواقع في الحروف الإنسانيّة بحسب
المقاطع والانتهاءات الحاصلة في المخارج ، فالنفس وإن لم يكن
متناهيا فإنّه لا يمكن أن يتعيّن منه في الوجود في كلّ زمان إلّا أمر متناه ؛ لتقيّد قبول
القوابل والمراتب وتناهيها.
ومن هنا يعلم سرّ «أكتب
علمي في خلقي إلى يوم القيامة» فقيّد ولم يطلق رعاية للقابل ، مع عدم تناهي
الممكنات والعلم الإلهي المتعلّق بها ، ولأنّ ما لا يتناهى لا يمكن دخوله في
__________________
الوجود دفعة واحدة
، كما مرّ.
ثم نقول : فالنفس
وإن كان حقيقة واحدة فإنّه يكتسب في المخارج أسماء مختلفة بحسب التميّز الحاصل
بسبب المقاطع ، فامتداد زمانه دون تعيّنه بمقطع من المقاطع يسمّى ألفا ، وأوّل
تعيّنه بأقرب المقاطع نسبة إلى القلب ـ الذي هو ينبوع النفس ـ يسمّى همزة ، ثم
يقال ـ مثلا ـ باء وسين وميم ونحو ذلك كما قيل في الأصل : قلم ولوح وعرش وغير ذلك.
فكلّ حرف فإنّه لا
يغاير النفس ، ولا يمتاز عنه إلّا بتعيّنه ، كذلك كلّ فرد من أفراد الأعيان
الوجوديّة والحقائق الأسمائيّة ، لا يمتاز عن الوجود البحت ، المنعوت بالغيب
والشهادة وغيرهما ، إلّا بالتعدّد والتعيّن الواقع في مرتبة الغيب الإمكاني ، بالنسبة إلى الحقّ لا
إلى الأشياء. والواقع في مرتبة الشهادة التي أوّلها التعيّن الأوّل الاسمي
المتميّز من الغيب الإلهي في الغيب الإضافي الذي هو الحدّ المذكور.
ونظيره في النفس
الإنساني ـ كما قلنا ـ الهمزة ، فالهمزة نفس التعيّن فحسب ، فالمتعيّن بذلك التعيّن المذكور التجلّي الذاتيّ الظاهر من الغيب
المطلق المضاف إليه النفس ، ومن الموجودات الكونيّة القلم ، والمتعيّن الأوّل في
نفسنا بالهمزة.
والمعرف بأحديّته
هو الألف ، والمتعيّن به من الحروف التامّة في الشهادة الباء ؛ فإنّ الهمزة والألف
ليسا بحرفين كما سنومئ إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ وبالجمع والتركيب والمراتب المختلفة على الأنحاء المختلفة ، وسريان حكم الجمع الأحدي ـ
كما بيّنّا من قبل ـ ظهرت الموجودات جميعها ، وظهرت صور الألفاظ والكلمات والحروف
في المراتب الكلّيّة وفي المخارج ، حاملة للمعاني ودالّة عليها حمل الأعيان
الكونيّة أحكام المراتب والأسماء ، وسرّ المسمّى من حيث دلالتها عليه وعدم
مغايرتها له من وجه ، فاعلم ذلك والله المرشد.
__________________
قاعدة كلّيّة
تتضمّن سرّ
الأسماء وأسماء الأسماء ومراتبها وكمالاتها والطلب المنسوب إليها المتعلّق بتحصيل
ما فيه كمالها ، وفائدة التسمية ، والأسماء وما بينهما من التفاوت ، وغير ذلك من
الأسرار التي ستعرفها حين التأمّل ، ـ إن شاء الله تعالى ـ
اعلم ، أنّ
الأسماء والحقائق ـ كما بيّنّا ـ بعضها أصلي متبوع ، وبعضها تابع تفصيلي ،
كالأجزاء والفروع والصفات واللوازم ، وإن لم تكن في حضرة الأسماء تجزئة ولا
انقسام.
فالمتبوعة كأسماء
الأعلام في العموم ، نحو قولك : شمس ، ونور ، وكأسماء الصفات للصفات ، مثل لفظ
العلم لمعنى العلم ، دون إضافته إلى الموصوف به المسمّى عالما.
والتابعة كالصفات
والأفعال ، فالصفات كالأحمر للمصوف بالحمرة ، والحيّ للموصوف بالحياة ونحو ذلك. وأسماء الأفعال
كالباعث والغافر ونحوهما.
ولمّا كان الفعل
يدلّ على الفاعل ، والنسبة والإضافة على الأمرين اللذين بهما ظهر عين تلك النسبة
والإضافة ، لذلك انقسمت الأسماء من وجه إلى هذه الثلاثة الأقسام ، وقد سبق لنا
فيها تنبيهات يكتفي بها اللبيب ، أحدها عند الكلام على التراكيب الستّة ، وقبل ذلك
أيضا ، وآخرها عند الكلام على النفس الرحماني والحروف في القاعدة المتقدّمة على
هذه القاعدة ، وسنزيد في بيان أسرارها ما ييسّر الحقّ ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ.
ثم نقول : فصار
لكلّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة دلالة على الحقّ من حيث إنّ الدالّ على الدالّ
على الشيء دالّ عليه ، وصارت الدلالة على نوعين : دلالة بوسط ودلالة بغير
__________________
وسط ، فالتي
بالوسط دلالة التزام وتبعيّة ، والتي بغير وسط دلالة مطابقة ، والاستدلال يحصل
بالأسماء التابعة التي قدّمنا أنّها كالصفات والأجزاء على الحقائق الأصليّة
المتبوعة ، بنحو ما نبّهت عليه في سرّ الشكل والتشكّل والمتشكّل.
وبتلك الأسماء
الأصليّة ومنها تظهر أعيان التوابع التفصيليّة ، وللتابعة حكمان : الدلالة ، والتعريف بنفسها وأصلها ومراتبها ، وتختصّ المتبوعة بكونها أصلا في وجود التوابع وفي إظهار
سرّ كونها دلالة ومعرفة كما مرّ.
فكلّ تميّز وتعدّد
يعقل ـ بحيث يعلم منه حقيقة الأمر المتميّز بذلك التميّز من حيث ذلك التميّز ،
ولزوم التعدّد له ، وكونه شرطا في معرفة الأصل الذي هو منشأ التعدّد ومنبع التميّز
، وأنّ ذلك الأصل له التقدّم بالمرتبة على التعدّد والتميّز فهو اسم ؛ لأنّه علامة على الأصل الذي لا يمكن تعيّنه بدون
المميّز والتميّز ، والتعدّد والتميّز حكمان لازمان للاسم ، واللفظ الدالّ على
المعنى المميّز الدالّ على الأصل هو اسم الاسم.
وأمّا سبب تنوّعات
الاسم فهو الكثرة الناشئة بسبب اختلاف الصفات والخواصّ والعوارض واللوازم والوجوه
والاعتبارات الناتجة من تنوّعات الاجتماعات الواقعة في المراتب المختلفة للحقائق
بحكم الكيفيّات والتراكيب الظاهرة بالاستعدادات المتفاوتة ، وسرّ الأمر الأحدي
المختصّ بحضرة الجمع والوجود.
فكلّ ما ظهر في
الوجود وامتاز من الغيب ـ على اختلاف أنواع الظهور والامتياز ـ فهو اسم ، وفائدته ـ
من كونه تابعا لما تقدّمه بالمرتبة والوجود جمعا وفرادى ـ الدلالة والتعريف كما
بيّنّا وكلّ ما بطن فله مرتبة الأصالة والشرطيّة بالنسبة إلى ما هو تابع له وفرع
من فروعه ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
ولمّا ظهر التعدّد
والكثرة في الممتاز الأوّل من الغيب المطلق ، المنعوت بالوحدة ، السابق كلّ تعيّن
وكثرة المميّزات لما قلنا ، ظهر بسرّ الجمع والتركيب والشروط والأسباب
الجزئيّة والكيفيّات اللازمة لكلّ حقيقة معنى ينفرد به دون مشارك ، وأفاد كلّ أمر
مميّز
__________________
ومعيّن من الأسماء
في الغيب الإلهي حكما لم يشاركه فيه مميّز آخر ، مع اشتراك جميع الأشياء المميّزة
في الدلالة والتعريف.
وحصل بكلّ اسم
فائدتان :
إحداهما : ما
اشترك فيه مع باقي الأسماء وهو الدلالة على أصله ، ومن هذا الوجه يكون الاسم عين
المسمّى ، فتذكّر.
والثانية : تعريفه
بحقيقته ، وحقيقته ما امتاز به من الصفات عن غيره ، فثبت له السموّ المشار
إليه بما قلنا ، وبكونه مطلوبا للمرتبة الجامعة للأسماء لأن يظهر به هذا التميّز المختصّ به ، الذي لولاه لم يعقل ، وذلك بطلب سابق على
طلبه الاستعدادي ، كما ذكر ويذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ
فإذا عرفت سرّ هذا
، فاعلم أنّ لكلّ اسم من الأسماء الإلهيّة المتعلّقة بالعالم كمالا يخصّه ويرجع
إليه ، وإنّما يحصل ذلك ويبدو ويتمّ بظهور أحكامه وآثاره في الأعيان الوجوديّة ،
التي هي مجاليه ومعيّناته ، ومحالّ ظهور سلطنته بحكمه وأثره وذلك بسؤال الاسم
بلسان مرتبته من الاسم «الله» الذي هو حضرة الجمع والوجود إمداده لإظهار
ما فيه كماله ؛ إذ لكلّ اسم لسان يخصّه من حيث مرتبته ، ولسان جمعيّة هذه الأسماء هو القابل للنسب التفصيليّة وأعيان صورها «فأحببت
أن أعرف» ، (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ونحو ذلك ، وكلّ اسم يقول بلسان هذه الجمعيّة للنسبة
التفصيليّة التي تحت حيطة مرتبته هذه المقالة المذكورة.
والأسماء طالبة من
الاسم «الله» ـ كما قلنا ـ إظهار ما به يتمّ كمالها ، ويظهر سلطانها ، وذلك إنّما
يحصل بسريان حكم كلّ فرد فرد منها في مجموع الأمر كلّه ، وعوده إلى الأصل منصبغا
بحكم المجموع مع بقائها من حيث الحقيقة في الغيب الإلهي على حالها ، كما سبق
التنبيه عليه عند الكلام على مراتب التصوّرات.
__________________
ولكلّ عين من
أعيان الموجودات أيضا كمال لا يحصل لتلك العين إلّا بالوجود المستفاد من الحقّ ،
فإمّا في بعض المراتب الوجوديّة وبحسب بعض المواطن ، أو في جميع المراتب وبحسب
جميع المواطن لكن مبدأ هذا السؤال ومنشأه من مرتبة الأسماء ؛ إذ الاسم عند
المحقّقين من وجه هو المسمّى ، كما نبّهت عليه آنفا وفي سرّ الحروف مع النفس الذي
نسبتها إليه نسبة الأسماء إلى المسمّى والحكم هي كالحكم ، والمسمّى عالم بذاته
ولوازمها أزلا بخلاف أعيان الموجودات ؛ فإنّ وجودها حادث ، فلا يصحّ لها في العدم علم ؛ لانتفاء الشروط التي يتوقّف حصول العلم عليها ،
كالوجود والحياة ، فلا يكون لها الأوّليّة إذا في مقام الطلب ؛ إذ طلب المجهول لمن
هو عنده مجهول حال جهله به ومن حيث ما يجهله لا يصحّ البتّة.
والمتعيّن بالسؤال
الغيبي ـ المشار إليه من حضرة الجمع بالنسبة إلى كلّ اسم ـ هو ما يقتضيه أحكام ذلك
الاسم من نسب مرتبة الإمكان المرتبطة ببعض الأعيان الممكنة التي هي محلّ ظهور حكم
ذلك الاسم.
والمتعيّن لكلّ
جنس وصنف من أجناس العلم وأصنافه وأنواعه ـ من الأسماء التي هي تحت حيطة حضرة
الجمع وأحكامها ـ هو ما يستدعيه استعداد ذلك النوع والصنف والجنس وما كان من نسب
الحضرة المتعيّنة بسرّ الربوبيّة في مرتبة ذلك النوع أو تلك الحقيقة الكونيّة
المستدعية والمعيّنة له ، فيظهر بهذا التعيّن والاستدعاء سلطنة الاسم «الله» و «الرّحمن»
على الحقيقة الكونيّة بنفوذ الحكم فيها ، فيصحّ الربوبيّة لهذين الاسمين جمعا
وفرادى من حيث تلك النسبة على تلك الحقيقة ، فيظهر بحسب الأثر المشهود في الحقيقة
القابلة له اسم يضاف إلى الحقّ من حيث مرتبة أحد الاسمين : الاسم «الله» و «الرّحمن»
كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فافهم هذا السرّ ؛ فإنّه في غاية الشرف والغموض.
فالكلّ للكمال
طالب ، وما ثمّ عائق من خارج ؛ فإنّه ما ثمّة إلّا حضرة الأسماء
__________________
والممكنات المذكور
شأنهما ؛ والسرّ الجامع بينهما ـ وهو الإنسان وله حكم ينفرد به ـ سنقصّ عليك من
حديثه ما شاء الله تعالى.
والذات من حيث
نسبة الغنى وعدم التعلّق والمناسبة فلا كلام فيها ، كما قد علمته فيما سلف ، والمسمّى معوّقا هو حكم بعض الأعيان في البعض ، ظهر
بالحقّ على نحو خاصّ فيه كماله أيضا ، ككمال غيره في سوى ذلك.
وهكذا الأمر في
النقائص والحجب والآلام ، فافهم. ونتيجة الكمالين ما ذكرنا ، والغاية الكلّيّة ما
ينتهي إليه كلّ موجود من الأمر والحال الذي يستقرّ عليه ، ويدوم حكمه من الوجه
الكلّي في أيّ مرتبة وموطن وصورة كان ، لا التفصيليّ ؛ إذ ليس للتفصيل غاية إلّا
بالنسبة والفرض ، فاعلم ذلك وتدبّر ما تضمّنته هذه القاعدة ، فلقد نبّهت فيها على
أسرار شتّى من أسرار الأسماء بألسنة مختلفة ، بعضها أعلى من بعض ، والسرّ الأكبر
لا تظفر به إلّا مبثوثا إن عملت بمقتضى ما وصّيت به في أوّل الكتاب والله وليّ
الإرشاد.
باب
يتضمّن سرّ البدء
والإيجاد ، وسرّ الوحدة والكثرة ، والغيب والشهادة ، والجمع والتفصيل ومقام
الإنسان الكامل ، وسرّ الحبّ وأحكامه ، وسرّ بسم الله الرحمن الرحيم من بعض الوجوه
، وغير ذلك ممّا ستقف عليه ـ إن شاء [الله] تعالى ـ وإذ قد بيّنّا من سرّ العلم
والكلام ومراتبهما وأحكامهما وما يختصّ بهما من اللوازم كأدوات التفهيم والتوصيل ،
وسرّ الأسماء ومراتب التميّز ، وغير ذلك ما يسّر ذكره مع ما وقع في أثناء الكلام
عليها وقبل ذلك من الأسرار التي قدّر الحقّ إبرازها وبيانها ، فلنذكر النتائج ،
وثمرات الأصول ، وما بقي من أمّهات العلوم والحقائق التي سبق الوعد بذكرها ،
مبتدئين بسرّ البدء والإيجاد ، ومستعينين بالله ربّ العباد.
سرّ البدء
والإيجاد
فنقول : اعلم ،
أنّ الحقّ علم كلّ شيء من عين علمه بذاته لم يتّصف بعلم مستفاد من غيره
__________________
ولا بغيره ، ثم
أوجد العالم على نحو ما علمه في نفسه أزلا ، فالعالم صورة علمه ومظهره ، ولم يزل
سبحانه محيطا بالأشياء علما ووجودا كما علم وأخبر وفهّم. وكلّ ما ظهر فإنّما ظهر
منه ؛ إذ لم يكن لغيره وجود مساوق لوجوده ، كما أخبر الصادق المصدّق صلىاللهعليهوآله بقوله : «كان الله ولم يكن معه شيء» . وقد أخبر سبحانه عن نفسه ناعتا لها ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ونبّه في موضع آخر من كلامه على صفات كماله ، فقال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
فعلم المحقّقون من
خاصّته ، والمعنيّ بهم من أهل قربه وكرامته بما كشف لهم ، وأطلعهم عليه من
أسرار وجوده أوّلا ، وربما أخبر ثانيا : أنّ المراتب ـ وإن كثرت ـ فإنّها ترجع إلى
هاتين المرتبتين وهما : الغيب والشهادة والحقيقة الجامعة بينهما ، كما سبقت
الإشارة إلى ذلك.
فكلّ شيء فله ظاهر
وهو صورته وشهادته ، وباطن وهو روحه ومعناه وغيبه ، فنسبة جميع الصور ـ على اختلاف
أنواعها الخفيّة والجليّة ـ إلى الاسم «الظاهر» المنعوت بالشهادة ، ونسبة جميع
المعاني والحقائق المجرّدة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئيّة المتعيّنة ، أو
أسباب أو شروط كيف شئت قلت إلى الغيب والاسم «الباطن».
وكلّ شيء موجود
فهو من حيث معناه أو روحانيّته ، أو هما معا متقدّم على صورته ، تقدّما بالمرتبة
والشرف ، وله درجة الأوّليّة باعتبار. وللصورة من وجه آخر تقدّم على المعنى
والروحانيّة ولو من حيث التقدّم العلمي ؛ فإنّ العلم بالجزء متقدم على العلم
بالكلّ ، والعلم بالظاهر متقدّم على العلم بالباطن وشرط في معرفته ، ومن حيث إنّ
الأرواح الإنسانيّة إنّما تتعيّن بعد الإنشاء المزاجي وبحسبه أيضا ، فظهر أنّ كلّ
واحد من الصور والحقائق الباطنة أوّل من وجه وباعتبار ، وآخر أيضا من وجه
وباعتبار.
__________________
ولمّا صحّ أنّ
الحقّ وسع كلّ شيء رحمة وعلما ، والرحمة ـ كما قدّمنا ـ هي الوجود الشامل ؛ فإنّ
ما عداه لا شمول فيه ولا عموم ، ظهرت إحاطة الاسم «الرّحمن» بالأشياء. ولمّا كان
لكلّ شيء خصوصيّة يمتاز بها ، وحصّة متعيّنة من الوجود المطلق لا يشارك فيها ، علم عموم حكم اسم «الرّحيم»
أيضا على كلّ شيء بالخصوص ، فصحّ أنّ الحقّ محيط بالأشياء كلّها علما ووجودا من
حيث ذاته ، ومن حيث أسمائه الكلّيّة المذكورة في هاتين الآيتين.
ثم نقول : وكلّ ما
ظهر وشوهد فمن بطون متقدّم على الظهور تقدّم الغيب على الشهادة ، سواء كان التقدّم والأوّليّة ـ في جميع ما مرّ ذكره في هذا
الباب ـ عند القائل به بالوجود ، أو بالمرتبة ، أو بهما معا.
فالاسم «الظاهر»
وسائر ما ظهر به من الصور كانت غيبا في غيب الحقّ ، وكانت مستهلكة تحت قهر
الوحدانيّة التي هي أقرب النعوت نسبة إلى الغيب الإلهي المذكور ، فمنعها حجاب
الوحدانيّة والاستهلاك بالقرب المفرط من إدراكها ذاتها وربّها.
ثم أظهرها الحقّ
بنور تجلّيه لما ميّزها حسب ما علمها ، فاستنارت بنوره ، وظهرت بظهوره ، فصارت
مشهودة موجودة بعد أن كانت باطنة مفقودة ، وسمّيت المرتبة الجامعة لها من حيث نسبة
ظهورها شهادة ، كما سمّيت المرتبة الباطنة المتقدّمة عليها الحاوية لكلّ ما ظهر
غيبا.
والغيب غيبان :
إضافي ، وحقيقي ، فالإضافي : ما يرد تفصيل حكمه. والحقيقي هو حضرة ذات الحقّ
وهويّته.
سرّ الوحدة
والكثرة
ومن المتّفق عليه
أنّ حقيقته لا يحيط بها علم أحد سواه ؛ لأنّه لا يتعيّن عليه حكم مخصوص ، ولا
يتقيّد بوصف ، ولا يتميّز ، ولا يتعيّن ، ولا يتناهى ، وما لا يتميّز بوجه لا يمكن
__________________
تعقّله ؛ إذ العقل
لا يحيط بما لا ينضبط ولا يتميز عنده ، فإن تعيّن ولو بنسبة مّا ، أو
من وجه مّا علم بتعيّنه من حيث ما تعيّن به ، وبحسبه لا مطلقا.
وهذا القدر من
المعرفة المتعلّقة بهذا الغيب إنّما هي معرفة إجماليّة حاصلة بالكشف الأجلى ،
والتعريف الإلهي الأعلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلّي المتعيّن من هذه الحضرة
الغيبيّة غير المتعيّنة ، وقد سبق التنبيه عليها وعلى كيفيّة حصولها ، ثم
الاستدلال عليه ثانيا بما ظهر منه ، وامتاز عنه من الأسماء والآثار الوجوديّة ، والتجليات
النوريّة المظهريّة ، ونحو ذلك ، كما لوّحت به في سرّ التشكّل والمتشكّل والشكل من
قبل ؛ فإنّ هذا الغيب هو أصل كلّ ما ظهر وعلم وسواهما أعني ما انفرد الحقّ بمعرفته
هو مقام الغنيّ عن العالمين والنسبة التي لا تعلّق لها بالسوى ؛ لارتفاع المناسبة
، كما مرّ بيانه. فأمّا من حيث نسبة تعلّقه بالعالم وتعلّق العالم به من جهة
الألوهيّة وحكمها ، وسرّ المناسبات المذكورة في سرّ العلم والتأثير ،
فمحكوم عليه بما ظهر به وأظهره ، وأخبر وعلّم وجلّى لمن شاء من عباده من غيب ذاته
مهما تجلّى.
وأقرب المراتب
نسبة إلى هذا الغيب العماء الذي هو النفس الرحماني ، وإليه تستند الأحديّة التي هي
أوّل أحكام التعيّن الأوّل ، وأقربها نسبة إلى إطلاقه.
وهو أعني حضرة
العماء حضرة الأسماء كلّها والصفات ، وصاحبة النعوت المذكورة من قبل ، وهو أوّل
مرتبة الشهادة بالنسبة إلى الغيب الإلهي المذكور. وإلّا فهو غيب بالإضافة إلى ما
تحته وهو آخر مرتبة الشهادة أيضا من حيث انتهاء كلّ كثرة صوريّة أو معنويّة عند
التحليلين إليها.
والكثرة المشهودة
في العالم منبثّة من الأحديّة المذكورة ، وظاهرة بها باعتبار ، ولكن لا بمعنى أنّ
الواحد من حيث هو واحد يكون منبعا للكثرة من حيث هي كثرة ؛ إذ لا يصحّ أن يظهر من
شيء ـ كائنا ما كان ـ ما يضادّه من حيث الحقيقة ، كما مرّ ، ولا خفاء في منافاة
الوحدة للكثرة ، والواحد للكثير ، فتعذّر صدور أحدهما عن الآخر من الوجه المنافي.
__________________
لكن للواحد
والوحدة نسب متعدّدة ، وللكثرة أحديّة ثابتة ، فمتى ارتبطت إحداهما بالأخرى ، أو
أثّرت ، فبالجامع المذكور.
وصورته فيما نروم
بيانه : أنّ للواحد حكمين : أحدهما : كونه واحدا لنفسه فحسب من غير تعقّل أنّ
الوحدة صفة له ، أو اسم ، أو نعت ، أو حكم ثابت ، أو عارض ، أو لازم ، بل بمعنى
كونه هو لنفسه هو ، وليس بين الغيب المطلق الذي هو الهويّة وبين هذا التعيّن
الاسمي الأحدي فرق غير نفس التعيّن ، كما أنّه ليس لشيء في هذا الغيب تعيّن ، ولا
تعدّد وجودي فيكون الحقّ ظرفا لغيره ، تعالت أحديّته عن ذلك.
ثم نقول : والحكم
الآخر من الحكمين المضافين إلى الواحد هو كونه يعلم نفسه بنفسه ، ويعلم أنّه يعلم
ذلك ، ويعلم وحدته ومرتبته ، وكون الوحدة نسبة ثابتة له ، أو حكما ، أو لازما ، أو صفة لا يشارك فيها ،
ولا تصحّ لسواه. وهذه النسبة هي حكم الواحد من حيث نسبته .
ومن هنا أيضا يعلم
نسبة الغنى عن التعلّق بالعالم ، ونسبة التعلّق به المذكور من قبل ، ومن هذه
النسبة انتشت الكثرة من الواحد بموجب هذا التعدّد النسبي الثابت ، من
حيث إنّ معقوليّة نسبة كونه يعلم نفسه بنفسه ، وكونه واحدا لذاته لا شريك له في وجوده مغايرة لحكم الوحدة الصرفة ، فالتعدّد
بالكثرة النسبيّة أظهر التعدّد العيني .
وهذان الحكمان
اللازمان للواحد مسبوقان بالغيب الذاتي المجهول النعت الذي لا يصحّ عليه حكم مخصوص
، ولا تتعيّن له ـ كما قلنا ـ صفة مميّزة من وحدة أو كثرة أو غيرهما.
وحكم الوحدة
بالنسبة إلى العدد هو كونها من شأنها أن يعدّ بها ، وأن تظهر العدد ، لا أنّها منه
، والاثنينيّة علّة للعدد أيضا ، ولكنّها كالعلّة الماديّة ، والثلاثة أوّل العدد التامّ ، وأوّل كثرته ،
وأوّل تركيباته ، فافهم.
وإذ قد نبّهنا على
مرتبة الوحدة بهذه الإشارة الوجيزة ، فلننبّه أيضا على مرتبة الكثرة
__________________
ليتمّ التنبيه
عليهما ، فلا يخفى حكمهما بعد ، فنقول : الكثرة على قسمين :
أحدهما : كثرة
الأجزاء والمقوّمات التي تلتئم فيها الذات كجزئي المادّة والصورة ، أو الجوهر والعرض بالنسبة
إلى الجسم على اختلاف المذهبين ، وكالأجناس والفصول بالنسبة إلى الأنواع الحاصلة
منهما ، وبالجملة ، كثرة يفتقر إليها أوّلا ؛ ليتصوّر حصول الشيء منها ثانيا.
والقسم الثاني :
كثرة لوازم الشيء وهو أن يكون للشيء الواحد في نفسه الوحدة الحقيقيّة ، أو المركّب من أجزاء أو
مقوّمات تلزمه بعد وجوده ـ كيف ما كان ـ معان وأوصاف في ذاته ، ولا تكون ذاته
ملتئمة منها ، سواء كان في نفسه ملتئما من غيرها أو لم يكن بل تتبع ذاته ضرورة
ووجودا بحيث لا يتصوّر وجود ذلك الشيء أو تعقّله إلّا وتلزمه تلك المعاني ،
كالستّة ـ مثلا ـ التي لا يتصوّر وجودها إلّا أن تكون زوجا ، لا أنّ الزوجيّة جزء
من أجزاء الستّة ، بل هي لازمة لها لزوم اضطرار وتأخّر في الرتبة تتضمّن أيضا معقوليّة النصف والثلث ، والفرديّة التي في الثلاثة
والخمسة وغير ذلك.
ومن هنا يتنبّه
الفطن الذي لم يبلغ درج التحقيق لمعرفة سرّ الإحاطة مع كون المحيط ليس ظرفا للمحاط
به ولا المحاط به جزءا من أجزاء المحيط ، وكون الصفات اللازمة للواحد غير قادحة في
أحديّته وغير ذلك.
سرّ الغيب
والشهادة
وحيث وضّح ما رمت
التنبيه عليه من سرّ الوحدة والكثرة ؛ ليكون معرفتهما عونا على فهم ما أذكره في
سرّ بدء الأمر الذي هو مفتاح الكتاب الكبير المسمّى بالعالم ، ليتدرّج منه إلى
معرفة نسخته ونسخة النسخة ، حتى يحصل الانتهاء إلى النسخة الأخيرة التي هي الفاتحة
[التي يكون] المراد بيان بعض أسرارها كما سبق الوعد ، فنقول :
اعلم ، أنّ الحقّ
سبحانه نظر بعلمه الذي هو نوره في حضرة غيب ذاته نظر تنزّه في الكمال
__________________
الوجودي الذاتي
المطلق الذي لا يتوقّف ثبوته له على أمر خارجي ؛ إذ ما ثمّ ما يخرج عنه ، وبهذا صحّ الغنى المشار إليه ، وليس هذا النظر عن حجاب متقدّم ، ولا أمر
خارج متجدّد لم يكن حاصلا من قبل ـ تعالى الحقّ
عمّا لا يليق به ـ فلا تجدّد هناك ، ولا قبليّة ولا بعديّة إلّا بالنسبة ، ولكن
لسان علم المشاهد في عالمنا الآن ـ بعد معرفة الأمور وما بينها من
التفاوت في الحكم والنعت ، والتقدّم والتأخّر ، وإدراكه لها في الحضرة العلميّة
النوريّة الغيبيّة ـ يعرب عن أسرار الحقائق على مقدار ما تحتمله العبارة ، ويقتضيه
حال المخاطب والمخاطب حين الخطاب ، ومراتبهما ومواطنهما ؛ إذ لكلّ ممّا ذكرنا فيما
نروم بيانه حكم يوجب أثرا في الأمر المعبّر عنه يخرجه عمّا كان عليه من النزاهة ، والإطلاق
السابق للتقيّد اللاحق له والعارض بسبب الموادّ والكيفيّات المختلفة حسب
ما تقتضيه أدوات التوصيل والقيود المذكورة ، كما اومأت إلى ذلك في سرّ الكلام من
قبل.
وبالجملة ، فقوى
نشأة الإنسان تضعف عن ضبط كلّ ما تدركه نفس العارف حال المشاهدة والتجريد ، وعن
كمال محاكاته والتعبير عنه ، وإبرازه على نحو ما تعلّق به الشهود ، ولذلك لا
يستحضر حال الرجوع إلى عالم الشهادة إلّا كلّيات ما شاهده ، وبعض الجزئيّات لا
كلّها ؛ لعدم مساعدة القوى الطبيعيّة ، وقصورها عن مدى مدرك البصيرة ، وضيق فلكها
بالنسبة إلى فسيح مسرح النفس ، وسعة دائرة مرتبتها في حضرة القدس.
وحال العارف فيما
ذكرنا كحال الكاتب المجيد ذي الارتعاش في كونه يعرف الكتابة معرفة تامّة في نفسه ، ولا يقدر على إظهارها على نحو ما يعلمها ؛ لعدم مساعدة
الآلة له على ما يريد ، فمن لا يعرف مراتب الوسائط والآلات ، وحكمها ، وقصورها بالنسبة
إلى ما في نفس مستعملها ينسب القصور إلى المستعمل وليس كذلك ، وإنّما العيب من
الآلة وقصور استعدادها الجزئي المجعول الوجودي أو الغيبي الكلّي الخارج عن دائرة
الوجود
__________________
والجعل عن حسن
المؤاتاة التامّة للفاعل على ما يريد إظهاره بها ، وهنا سرّ جليل إن بحثت عليه وصلت إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ
وإذا تقرّر هذا ،
فلنرجع إلى ما كنّا بسبيله من كشف بدء الأمر وتفصيله ، فنقول : فشاهد الحقّ بالنظر
المذكور على النحو المشار إليه كمالا آخر مستجنّا في غيب هويّته غير الكمال الأوّل
الوجودي الذاتي الوجوبي ، وإذا رقيقة متّصلة بين الكمالين اتّصال تعشّق تامّ ،
فكان ذلك الكمال المستجنّ كمال الجلاء والاستجلاء الآتي حديثه ، فاستدعت واستتبعت
تلك النظرة العلميّة المقدسّة عن أحكام الحدوث من حيث النسبة الشهوديّة التي لمّا
ظهر تعيّنها عندنا فيما بعد وعقلت ، عبّر عنها بالاسم «البصير» ـ انبعاث تجلّ غيبي
آخر ، فتعيّن ذلك التجلّي لنفسه ـ منصبغا بصبغة حبّية متعلّقة بما شاهده العلم ـ يطلب ظهوره ، وذلك لتقدّم مرتبة العلم على مرتبة المحبّة ؛ إذ
المجهول مطلقا لا تتعلّق به محبّة أصلا ، كما أشرنا إليه في الطلب الأسمائي
والكوني في كتاب مفتاح غيب الجمع .
ولمّا لم يكن في
الغيب إلّا ما هو معلوم للحقّ ومشهود له ؛ لإحاطته بالأشياء وارتسامها في ذاته كان
ذلك تقدّما بالنسبة ، والمرتبة كتقدّم الإرادة على القدرة ونحو ذلك ، فنظير العلم
في ذلك نسبتا حكمه وحكمته اللذين كانت الرؤيتان منّا ـ البصريّة ،
والعقليّة ـ مظهرين ونظيرتين لهما.
فعلم أنّ حصول
المطلوب يتوقّف على تركيب مقدّمتين ؛ إذ الواحد من حيث وحدانيّته وفي مقام أحديّته
لا ينتج غيره ، ولا تظهر عنه كثرة ، فلا يصحّ معه إلّا هو فقط ، وعلم أنّ الكمال
المطلوب لا يظهر بدون الكثرة ، فعلم أنّ ما لا يحصل المطلوب إلّا به فهو مطلوب.
ولم يتعيّن من
مطلق الغيب حالتئذ إلّا مقدّمة واحدة وهي التجلّي بالباعث الحبّي ، فلم ينفذ الحكم
؛ لما ذكرنا من سرّ الوحدانيّة ، وسرّ الغنى الذاتي الغيبي الوجودي أيضا الذي له السلطنة حالتئذ
، والإحاطة بما ذكرنا من النسب.
__________________
وهذا من سرّ
أحديّة التراكيب الستّة غير المفيدة والمنتجة وهو قولي : اتّصال أحكام التجلّيات
بعضها ببعض دون أمر آخر يكون مظهرا لحكمها المسمّى فعلا لا يفيد ولا ينتج ، وعين
الفعل هو التجلّي بنسبة التأثير الواصل من الحقّ ـ من كونه موجدا وخالقا ـ إلى
المفعول فيه ، أو به ، أو معه ، أو له على اختلاف المراتب.
ف «فيه» إذا كان
هو المقصود أو من جملة المقصود. و «به» إذا كان الواسطة و الشرط ، و «معه» إذا كان جزء علّة أو أحد الأسباب ، أو مرادا باعتبار. و «له» إذا كانت فائدة
ذلك الفعل تعود عليه ، أو كانت غايته ، وهو سرّ إيجاد الحقّ العالم للعالم ، وسرّ الأمر بالعبادة لأجل العابد لا للمعبود ؛ لأنّه
يتعالى من حيث عزّه وغناه [عن] أن يكون فعله لغرض ، بل رحمة ذاتيّة بالكون ، وقس
على ذلك باقي مراتب الفعل ؛ فقد فتحت لك الباب.
ثم نقول : والموجب الآخر لتأخّر حصول النتيجة ونفوذ الحكم بمجرد
التجلّي الحبّي هو : أنّه لو فرضنا وقوع الأمر بهذه المقدّمة الواحدة أو إمكانه ،
لسبق إلى مدارك بعض من يتعيّن بذلك الحكم ويظهر عينه أنّ الأمر الإيجاديّ والإنشاء
الكوني إنّما متعلّقه وغايته تحصيل ما يختصّ بحضرة الحقّ لا غير ، فكان ذلك نوع
نقص متوهّم في مرتبة الغنى الكمالي الوجودي الذاتي ، وتعالى ذلك الجناب عمّا لا يليق به.
فلمّا لم ينفذ حكم
التجلّي المذكور ؛ لهذه الموانع وغيرها ممّا لا يمكن ذكره ، عاد يطلب مستقرّه من
الغيب المطلق ، كما هو سنّة سائر التجلّيات المتعيّنة بالمظاهر وفيها عند انقضاء
حكمها في المتجلّى له ، فإنّها بالذات هي تطلب الرجوع والتقلّص إلى أصلها عند
انقضاء حكمها بالمظاهر وفيها ؛ لعدم مناسبتها عالم الكثرة ، وهذا
هو سبب الانسلاخ الحاصل للتجليّات التفصيليّة بعد التلبّس بأحكام المتجلّى له ،
وعودها إلى الغيب الذي ذكرته في سرّ التجلّي والمتجلّى له ، وفي مراتب
التصوّرات وسبب تجرّد الأرواح الإنسانيّة عن
__________________
النشآت التي تتلبّس
بها ، بعد الاستكمال بها واستصحابها زبد أسرار كلّ نشأة ، ولطائف خصائص كلّ صورة
وموطن ، وعودها إلى أصلها منصبغة بأحكام الكثرة ، لا بصورتها القادحة في وحدتها ،
فتذكّر.
ثم نقول : فحصلت
بهذا العود المذكور حركة غيبيّة ، ودورة مقدّسة شوقيّة سرى حكمها فيما حواه الغيب
من الحقائق الأسمائيّة والكونيّة ، ومرّ ذلك التجلّي في عوده على سائر التعيّنات
العلميّة ، فمخضها بتلك الحركة القدسيّة الغيبيّة الشوقيّة ، فانتشت بتلك المخضة
البواعث العشقيّة ، والحركات المعنويّة الحبّية من سائر الحقائق تطلب من الحقّ ـ
بحكم ما سرى فيها من أثر التجلّي الحبّي ـ ظهور أعيانها وما فيه كمالها ، فصار ذلك
مفتاح سائر الحركات الدوريّة الإحاطيّة ، المظهرة للخفيّات ، والمخرجة ما في قوّة
الإمكان والغيب إلى الفعل من أعيان الكائنات ، وكانت النسبة الجوديّة من جملة
الحقائق المستهلكة تحت قهر الأحديّة الغيبيّة ، فانبعث لسان مرتبتها ـ لحبّ ظهور
عينها وكمالها المتوقّف على نفوذ حكمها على نحو ما ذكر ـ يطلب إسعاف السائلين ،
فحصلت المقدّمتان : إحداهما : الطلب الذي تضمّنه التجلّي الحبّيّ ، والأخرى الطلب
الاستعدادي الكوني بصفة القبول الذي بيّنّا أنّه مظهر الفعل ، فتعيّنت النسبة ـ
المسمّاة عندنا الآن قدرة ـ تطلب متعلّقا تعيّنه لها الإرادة ، فتمّت الأركان ؛
لأنّ التجلّي الذي أوجب للعلم شهود ما ذكر هو تجلّي الهويّة منصبغا بحكم نسبة
الحياة المظهر عين النور الوجودي الغيبي ، ثم أظهر التجلّي الحبّي بالعلم
نسبة الإرادة التي هي عنوان السرّ الحبّي ، ثم تعيّنت القدرة كما بيّنّا.
فتمّت الأصول التي
يتوقّف عليها ظهور النتيجة المطلوبة ، وهما المقدّمتان كلّ مقدّمة مركّبة من مفردين ، فصارت أربعة ،
وتردّد الواحد منها ـ وهو سرّ أحديّة الجمع ـ من حيث نسبة الإرادة الصابغة بحكمها
الثلاثة الباقية حين خفائها في الثلاثة ؛ لحصول الأثر وكماله ، فحصلت الفرديّة ،
ثم ظهر بتلك الحركة الغيبيّة الذي هو الترداد سرّ النكاح ، فتبعتها النتيجة
__________________
تبعيّة استلزام لا
تبعيّة ظهور ، وبقي تعيين المرتبة التي هي محلّ نفوذ الاقتدار بالحركة الحبّية ،
ليظهر عين المراد بحسب أحكام الأصول المذكورة التي هي النسب الأصليّة والأسماء
الذاتيّة اللازمة حضرة الوحدانيّة الغيبيّة ، حاملا خواصّها ومظهرا أسرارها ، وما
عدا هذه الأسماء من الأسماء لهما ، فهي التالية لها إن كانت كلّيّة ، وإلّا فهي الأسماء
التفصيليّة المتعلّقة بعالم التدوين والتسطير ، والمتعيّنة فيه ، وقد كنّا بيّنّا
أنّه لا يمكن تأثير الشيء في نفسه من حيث وحدته وبساطته ، فاقتضى الأمر تمييز مقام
الوحدة عمّا يغايرها ممّا هو دونها في المرتبة ، ليتميّز منها ما يصلح أن يكون محلّا
لنفوذ الاقتدار ، فإنّ المتكافئين فيما هما فيه متكافئان ـ بنسبتين كانتا أو أمرين وجوديّين ـ لا يكون اختصاص أحدهما بالمؤثّريّة في
الآخر بأولى من صاحبه ، فلا بدّ من موجب أو معنى كماليّ يرجّح أحدهما على الآخر به
، يصحّ له أن يكون مؤثّرا ، وينزل الآخر عنه بالمرتبة لعود تلك الصفة الكماليّة أو الأمر المقتضي للترجيح فيكون محلّا
لأثر هذا المؤثّر المرجّح .
ولمّا لم يكن في
الغيب الإلهي تعدّد وجودي لشيء مّا ؛ لتقدّمه على كلّ شيء وكونه منبع التعدّد
والمعدودات كان هذا تعدّدا معنويّا من حيث النسب ، وترجيحا واقعا بين الأحوال
الذاتيّة ، فكانت الكثرة في مقام المقابلة من الوحدة ، وعلى إحدى جنبتي الوحدة
أحكامها ونسبها ناظرة إلى الكثرة ، وعن الجانب الآخر نسبة الظهور تنظر إليها الكثرة
، والجميع ناظر إلى مقام كمال الجلاء والاستجلاء وكلّ ذلك نظر تودّد وتعشّق بعين
المناسبة والارتباط الغيبي ، فسرى الحكم الذاتي الأحدي الجمعي في النسبة العلميّة بالشروع في تحصيل المقصود وإظهار عينه ، فانقسم الغيب
الإلهي شطرين. ومع أنّ السرّ الحبّي له السلطنة في الأمر فلم يخل من حكم قهري هو
من لوازم المحبّة والغيرة التابعة للأحديّة ، فتعلّق ـ أعني الحكم القهري الأحدي ـ
بالكثرة من حيث ما ينافيها عزّا وأنفة من مجاورة الكثرة لها ، بعد ظهور تعيّنها ؛
إذ قبل التعيّن لم يظهر للمنافاة والغيرة حكم ولا لأمثالهما من النسب.
__________________
ومن هنا يتنبّه
اللبيب إلى سرّ منشأ التنزيه ومبدإ وسرّ الرحمة والغضب ، والسبق المشار إليه ،
والرضا والسخط ، و الجلال والجمال ، و القهر واللطف ، كيف قلت ، فإنّ الجميع يرجع إلى هذين
الأصلين ، وأتمّ العبارات عنهما وأشدّها مطابقة ما ورد به التعريف الإلهي ، أعني الرحمة والغضب ، فافهم ،
والله المرشد.
ثم نقول : فانفصلت
في أحد الشطرين نسبة الوحدة التي تستند إليها الكثرة من حيث أحكامها المتعدّدة
بسائر توابعها ، فتعيّنت مرتبة الاسم الظاهر بالانفصال المذكور من حضرة الغيب
فتعيّن التعيّن لنفسه وللمتعيّن به قبل أن يظهر التعدّد للمعدود في مقام
الكمّ والكيف وأخواتهما ، كمتى ، وأين ، وامتاز بالشهادة عن الغيب ، فتعيّنت
للباطن مرتبة جملية بامتياز الظاهر عنه ، وشوهد بغيب الظاهر من حيث ظهوره ما أظهر
من الأحكام والصفات والصور واللوازم التابعة له فعلم [بالشهادة الظاهرة منه فعلم
الشهادة بالغيب] المستبطن فيه ، وجميع ما انفصل في الشطر المختصّ بالاسم
الظاهر ، فإنّما هو في تبعيّة كمال الجلاء والاستجلاء وخدمته ، وبقي الشطر الآخر
على إطلاقه في مقام عزّه الأحمى ، وكماله المنزّه عن النعوت والقيود والأحكام
وتعلّقات المدارك ، ما عدا التعلّق الإجمالي المشار إليه.
وتسميته شطرا ليس
لتعيّنه وتقيّده ، بل لمّا تعيّن منه شطر ، صار دليلا عليه ؛ [لأنّه الأصل ، فالمتعيّن منه دليل عليه] من حيث إنّه غير متعيّن ، فكان هو الدليل والمدلول كما سبق
التنبيه عليه في سرّ العلم ، وكلّ دليل فإنّه حجاب على المدلول مع أنّه معرّف له
من الجهة التي من حيث هي تدلّ عليه ، فافهم.
ثم إنّه اخترع له
، فظهر بحسب حكمه في كلّ ما تعيّن به ، ومنه اسم يدلّ عليه دلالتين : دلالة الحكم
المختصّ بالأمر المتعيّن ، ودلالة أخرى إجماليّة تعرّف أنّه أصل كلّ ما تعيّن. وهذا
هو سرّ التسمية ، فافهم.
__________________
ثمّ إنّه لم يكن
بدّ من حافظ يحفظ الحدّ الفاصل بين الشطرين ، ويمنع الشطر المنفصل من الامتزاج
والاتّحاد بما انفصل عنه بعد التعيّن والامتياز ، ليبقى الاسم «الظاهر» وأحكامه
على الدوام ، ويستمرّ نفاذ حكم التجلّي الإيجادي والحكم التعيّني ، فإنّه إن لم
يكن ثمّة حافظ يمنع ممّا ذكرنا اختلّ النظام ؛ لأنّ في الممتاز المنفصل ما يطلب الغيب
الأوّل طلبا ذاتيّا ، فإنّه معدن الجميع ، والأشياء تحنّ إلى أصولها والجزئيّات
إلى كلّيّاتها ، فكانت الأحديّة نعت ذلك الحدّ المشار إليه ، فهو معقول غيبي لا
يظهر له عين أصلا وهكذا كلّ فاصل يحجب بين أمرين إنّما يظهر حكمه لا عينه ، وكان الحافظ لهذا
الحدّ هو الحقّ ، ولكن من حيث باطن الاسم «الظاهر» وهي النسبة الباقية منه في
الغيب الذي به صحّ بقاؤه ودلالته على المسمّى الذي هو الباطن أيضا.
سرّ الإنسان
الكامل
وهذه النسبة
الباطنة من الظاهر لا تقبل الانفصال من الغيب. فإنّها عبارة عن الأمر الجامع بين
الظاهر والباطن المطلق ، والفعل والانفعال ، والطلب والمطلوبيّة ، ولهذه النسبة
وجه يلي الظاهر ، ووجه يلي الباطن المطلق ، فأحد وجهيه يلي الإطلاق الغيبي والآخر له التقيّد والتعدّد الشهادي.
فأشبهت الهويّة التي انفصل منها الشطر المذكور من حيث اتّحاد الشطرين في الأصل
وكون التغاير لم يكن إلّا بالامتياز وهو نسبة عدميّة ، لا أمر وجودي ، فتلك
الحقيقة الحافظة المذكورة هي مرتبة الإنسان الكامل الذي هو برزخ بين الغيب
والشهادة ، ومرآة تظهر فيها حقيقة العبوديّة والسيادة ، واسم المرتبة بلسان
الشريعة العماء ونعتها الأحديّة ، والصفات المتعيّنة فيها بمجموعها هي الأسماء
الذاتيّة ، والصورة المعقولة ـ الحاصلة من مجموع تلك الأسماء المتقابلة ، وأحكامها
، والصفات ، والخواصّ اللازمة لها من حيث بطونها ـ هي الصورة الإلهيّة المذكورة.
وهذه الأسماء وما
يتلوها في المرتبة من الأسماء الكلّيّة لا ينفكّ بعضها عن بعض ،
__________________
ولا يخلو أحدها عن
حكم البواقي ، مع أنّ الغلبة في كلّ مرتبة وكلّ شأن كلّ آن بالنسبة إلى ما هو
مظهرها لا تكون إلّا لواحد منها ، وتكون أحكام البواقي مقهورة تحت
حكم ذلك الواحد ، وتابعة له ، ومن جهته يصل الأمر الذاتي الإلهي إلى ذلك المظهر
المستند إلى الحقّ من حيث ذلك الاسم وتلك المرتبة من حيث وجوده ومن حيث عبوديّته ،
فيقال له ـ مثلا ـ «عبد القادر» و «عبد الجواد» إلى غير ذلك من الأسماء.
ومن لم يكن نسبته
إلى أحد الأسماء أقوى من غيرها ولم ينجذب من الوسط إلى إحدى المراتب لمزيد مناسبة
أو حكم أو تعشّق مع قبوله آثار جميعها والظهور بجميع أحكامها دون تخصيص غير ما
يخصّصه الحقّ من حيث الوقت والحال والموطن ، مع عدم استمرار حكم ذلك التخصيص
والتقيّد به فهو عبد الجامع.
والمستوعب لما
ذكرنا بالفعل دون تقيّده بالجمع ، والظهور ، والإظهار والتعرّي عنه ، وغير ذلك مع
التمكّن ممّا شاء متى شاء ، مع كونه مظهرا للمرتبة والصورة بحقيقة العبوديّة ،
والسيادة اللتين هما نسبتا مرتبتي الحقّ والخلق ـ هو الإنسان
الكامل ومن الأسماء القريبة النسبة إلى مرتبته «عبد الله». وكمال الجلاء هو كمال ظهور الحقّ بهذا العبد الذي
هو الإنسان المذكور. وكمال الاستجلاء هو عبارة عن جمع الحقّ بين شهوده نفسه بنفسه
في نفسه وحضرة وحدانيّة ، وبين شهوده نفسه فيما امتاز عنه ، فيسمّى بسبب الامتياز غيرا ولم يكن قبل الامتياز كذلك ، وعبارة عن
مشاهدة ذلك الغير أيضا نفسه بنفسه من كونه غيرا ممتازا ، ومشاهدته من امتاز عنه
أيضا بعينه وعين من امتاز عنه أيضا ، فتميّز الواحد عمّن ثناه بالفرقان البيني ـ الذي حصل بينهما
وظهر بينهما منهما ـ وانفرد كلّ بأحديّته وجمعيّته.
ولمّا كانت أعيان
الموجودات ـ التي هي نسب العلم ومظاهر أحكام الكثرة وأحديّتها ـ
__________________
مستجنّة في غيب
الحقّ ، وكانت من حيث التعدّد النسبي مغايرة للأحديّة التي هي أقرب النعوت نسبة
إلى إطلاق الحقّ وسعته وغيبه ، كانت معقوليّة النسبة ـ الجامعة لتعيّناتها وأحكامها
المتعددة المختصة بها ، من حيث تساوي قبولها للظهور بالتعين واللاظهور بالنظر
إليها ـ مسمّاة بمرتبة الإمكان ، والكثرة صفة لازمة لها لزوم الزوجيّة للأربعة ،
كما مرّ.
فظهر التغاير بين
مرتبتها وبين مرتبة الوحدانيّة من هذا الوجه ، فتعلّقت المشيئة بتميّز مقام الوحدانيّة عمّا لا يناسبها من الوجه المغاير ، وهو
أحد حكمي الوحدة التي هي منشأ الكثرة المذكورة فإنّ المغايرة غير حاصلة من الوجه
الآخر المختصّ بالحضرة العلميّة الذاتيّة الغيبيّة ؛ لعدم التعدد هناك ، ولهذا ما
برحت الأشياء من حيث حقائقها في الغيب ، ولم تفارق الحضرة العلميّة من الوجه الذي
لا يتعدّد لنفسها ولا يتكثّر وجودها ، وامتازت باعتبار آخر للمغايرة المذكورة ،
فظهر بالإيجاد كمال مرتبة الوحدانيّة بانفصال ما قويت نسبته من الكثرة عنها ، وسرى
حكم الوحدانيّة في كلّ نسبة من نسب الكثرة من الوجه الذي تكثّرت به ، وظهر سلطان
الأحديّة على الكثرة ، فعلم كلّ متكثّر أنّه من الوجه غير متكثّر ، وكثير ،
وأنّ لكلّ موصوف بالكثرة أحديّة تخصّه ، وظهر لمجموع أجزاء الكثرة أحدية مساوية
للأحديّة المنفيّ عنها التعدّد ، فاتّصل الأمر بعد بلوغ الكثرة إلى غايتها
بالأصل الذي منه انبعث الوحدة والكثرة ، وما تعيّن وظهر بهما فهو الغيب الإلهي ، معدن سائر التعيّنات ، منبع جميع التعدّدات الواقعة في الحسّ وفي العقول والأذهان ،
فافهم.
ثم نقول : فلمّا
امتاز الاسم «الظاهر» من الغيب المطلق حاملا صورة الكثرة المعبّر عنها بالإمكان ،
وتميّزت مرتبته في العماء الذي هو منزل التدلّي النكاحي الغيبي ومحلّ نفوذ
الاقتدار ، انفصل مع الاسم «الظاهر» سائر التوابع واللوازم المنضافة إليه ، فشهد
الحقّ نفسه بنفسه في مرتبة ظاهريّته الأولى الممتازة من غيب باطنه وهويّته ، فظهرت
ذاته له بأسمائه الذاتيّة ونسبها الأصليّة الظاهر تعيّنها بحكم المقام الأحدي
الذاتي ، والتعيّن الأوّل الذي هو الحدّ المذكور ، وذلك في حضرة أحديّة الجمع الذي
هو العماء.
__________________
فأوّل المراتب
والاعتبارات العرفانيّة المحقّقة لغيب الهويّة الاعتبار المسقط لسائر الاعتبارات ،
و هو الإطلاق الصرف عن القيد والإطلاق ، وعن الحصر في أمر من الأمور الثبوتيّة
والسلبيّة كالأسماء والصفات ، وكلّ ما يتصوّر ويعقل ويفرض بأيّ وجه تصوّر ، أو
تعقّل أو فرض.
وليس لهذا المقام لسان
، وغاية التنبيه عليه هذا ومثله ، ثم اعتبار علمه نفسه بنفسه وكونه هو لنفسه هو ،
فحسب ، من غير تعقّل تعلّق ، أو اعتبار حكم ، أو تعيّن أمر ثبوتي أو سلبي ـ كائنا
ما كان ـ ممّا يعقله غيره بوجه من الوجوه ما عدا هذا الاعتبار الواحد المنفيّ حكمه
عن سواه. ومستند الغنى والكمال الوجودي الذاتي والوحدة الحقيقيّة الصرفة قوله : «كان الله ولا شيء معه» ونحو ذلك من الأمر الذي يضاف
إليه ، هذا الاعتبار الثاني.
ويليه مرتبة شهوده
سبحانه نفسه بنفسه في مرتبة ظاهريّته الأولى بأسمائه الأصليّة ، وذلك أوّل مراتب
الظهور بالنسبة إلى الغيب الذاتي المطلق ، وقد أشرت إليه ، وجميع ما مرّ ذكره من
التعيّنات إلى هنا هي تعيّنات الظاهر بنفسه لنفسه على النحو المشار إليه قبل
أن يظهر للغير عين أو يبدو لمرتبته حكم ، فافهم.
واستخلص المقصود
من الكلام غير متقيّد بالألفاظ كلّ التقيّد ؛ فإنّها أضيق ما يكون ، وأضعف في
مثل هذا المقام و الإفصاح عن كنهه على ما هو عليه ، فمن خرق له حجابها ،
استشرف من هذا الباب على العجب العجاب. و الله المرشد بالصواب.
ثم نقول : ويلي ما
ذكرنا مرتبة شهود الظاهر نفسه في مرتبة سواه من غير أن يدرك ذلك الغير نفسه ، وما ظهر من الأمر به أو له ؛ لقرب نسبته
وعهده ممّن امتاز عنه ، ولغلبة حكم الغيب المطلق ، والتجلّي الوحداني المذكور عليه
، وهذا صفة المهيّمين في جلال جمال الحقّ وحالهم ، ثم ظهر حكم تعلّق الإرادة بنسبتي التفصيل والتدبير ،
لإيجاد عالم التدوين
__________________
والتسطير ، وإبراز
الكلمات الإلهيّة التي هي مظاهر نوره ، وملابس نسب علمه ، ومرائي أسمائه ،
ومعيّناتها في رقّ مسطوره ، فكان ثمرة هذا التعلّق الإرادي شهود
الظاهر نفسه في مرتبة الغير الممتاز عنه في الشهادة الأولى. ليظهر حكم الغيب
بظهوره في كلّ نسبة ظهر تعيّنها في مرتبة الظهور بحسب تعيّنها الثبوتي في العلم ،
وبحسب التوجّه الإرادي نحو تلك النسبة. وليشهده أيضا كما قدّمنا ما امتاز به عنه
في مرتبة الشهادة ، وتعيّنت له نسبة ظاهرة سمّي بها خلقا وسوى ، فيدرك بهذا
التجلّي عينه ، ومن امتاز عنه ، وما امتاز به عن غيره. وهنا سرّ عزيز ، وضابط شريف أنبّه عليه
، ثم أذكر من سرّ الترتيب الإيجادي ما يستدعي هذا الباب ذكره من كونه
مبدأ لتفسير البسملة.
فنقول : كلّ موجود
أو أمر يكون جامعا لصفات شتّى أو نسب متعدّدة ، فإنّ وصول حكمه وأثره إلى كلّ قابل
في كلّ شأن أو آن وشأن أيضا إنّما يتعيّن بحسب أوّليّة الأمر الباعث له على هذا الحكم والتأثير ، وبحسب الصفة الغالبة الحكم عليه بالنسبة
إلى باقي صفاته حال التحكّم والتأثير في القابل ، وبحسب حال القابل واستعداده. ولا
يخلو كلّ توجّه صادر من كلّ متوجّه [إلى كلّ متوجّه ] ، إليه من أن يتعين بحسب أحد هذه الأمور الثلاثة ، ويبقى
حكم الأمرين الآخرين.
وأحكام باقي النسب
والصفات التي للقابل تابعة لغلبة أحد هذه الأصول ، وكذلك صورة ثمرة ذلك التوجّه
تكون تابعة لحكم الأغلبيّة المذكورة ، وظاهرة هي بحسبها ، وإن انعجن فيها حكم باقي النسب والصفات ، ولكن يكون حكمها
خافيا بالنسبة إلى حكم ذلك الأمر الواحد الغالب ، وتبعا له ، ولا يثمر توجّه متوجّه
إلى متوجّه إليه قطّ إلّا إذا كان متعلّق التوجّه أمرا واحدا ، ومهما تعلّق بأمرين فصاعدا فإنّه لا يثمر ولا ينفذ
له حكم أصلا ، وسببه أنّ الأثر من كلّ مؤثّر [في كلّ مؤثّر ] فيه لا يصحّ إلّا بالأحديّة ، والنتيجة تتبع الأصل.
__________________
وبيانه أنّ مبدأ
التوجّه الإلهي للإيجاد صدر من ينبوع الوحدة بأحدية الجمع ، وتعلّق بكمال الجلاء
والاستجلاء المعبّر عن حكمه تارة بالعبادة ، وتارة بالمعرفة ، وهو قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) الآية. بالتفسيرين ، والظاهر بهذا التوجّه من غيب الحقّ هو
الوجود المنبسط على الأعيان لا غير.
ولمّا كان العالم
بما فيه ظلّا لحضرة الحقّ ومظهرا لعلمه ، سرى الحكم واطّرد فيما هو تابع للعلم
وفرع عليه ، فاعلم ذلك ، وإذا تقرّر هذا فلنعد إلى ما كنّا فيه من بيان سرّ بدء
الأمر لنستوفيه.
فنقول : فانسحب حكم التوجّه الإلهي الأحدي لإيجاد عالم التدوين والتسطير
على الأعيان الثابتة بعد ظهور الأرواح المهيّمة التي مرّ حديثها منصبغا بحكم كلّ ما حواه الغيب ممّا تعيّن
به ، وامتاز عنه من وجه ، فكان توجّها جمعيّا وحدانيّ الصفة :
فأمّا جمعيّته
فلما حواه الغيب ممّا أحاط به العلم وتعلّق بإبرازه. وأمّا أحديّته فلأنّ الإرادة
وحدانيّة ، ومتعلّقها من كلّ مريد في الحال الواحد لا يكون إلّا أمرا واحدا ،
والمريد الحقّ سبحانه واحد ، فإرادته واحدة لا محالة ، ومتعلّقها لا يكون في كلّ شأن
إلّا أمرا واحدا هو غاية ذلك التوجّه الإرادي ونتيجته ، ومنزل التوجّه الإلهي ،
ومحلّ نفوذ اقتداره ليس إلّا أمرا واحدا وأنّه العماء وقد مرّ حديثه ، فأنتج
التوجّه الإلهي المذكور ـ كما قلنا في مقام عالم التدوين والتسطير ـ نتيجة وجوديّة
متوحّدة حاملة كثرة غيبيّة نسبيّة ، فسمّاها الحقّ قلما وعقلا.
فعقلا من حيث
الوجه الذي يلي ربّه ، ويقبل به ما يهبه ويمدّه ، ومن حيث إنّه أوّل موجود متعيّن
عقل نفسه ، ومن تميّز عنه ، وما تميّز به عن غيره بخلاف من تقدّمه بالمرتبة وهم
المهيّمون.
وقلما من حيث
الوجه الذي يلي الكون ، فيؤثّر ويمدّ ، ومن حيث إنّه حامل للكثرة
__________________
الغيبيّة
الإجماليّة المودعة في ذاته ليفصلها فيما يظهر منه بتوسّط مرتبة وبدونها ، فلمّا كان هو ثمرة التوجّه المقدّم ذكره ، ظهر
مشتملا على خاصيتي الجمع والأحديّة ، كما نبّهت عليهما ، وظهر به سرّ التربيع من حيث التثنية الظاهرة في وجوده ،
التالية للمقام الأحدي المذكور من حيث التثنية المعقولة في التوجّه المنبّه عليه ،
المنتج له ، لكن لمّا كان الواحد من هذه الأربعة هو السرّ الذاتي الجمعي ـ وهو ساري الحكم في كلّ شيء من
المراتب والموجودات ، فلا يتعيّن له نسبة ولا مرتبة مخصوصة ـ كان الأمر في التحقّق
مثلّثا ، وذلك سرّ الفرديّة الأولى المشار إليه من قبل ، فلمّا انتهى حكم الإرادة بنفوذ حكمها
من هذا الوجه ، وظهر القلم الذي كان متعلّقها ، تعيّنت نسبة أخرى بتوجّه ثان من حيث
التعيّن لا من حيث الحقّ ؛ فإنّ أمره واحد ، فظهر وتعيّن من الغيب تجلّ ذو حكمين : أحدهما : الحكم الذاتي الأحدي الجمعي ، والآخر
من حيث انصباغ عين ذلك الحكم بما مرّ عليه وامتاز عنه وهو القلم ، فتعيّن بحكم
التثليث المذكور في المرتبة التالية لمرتبة القلم وجود اللوح المحفوظ حاملا سرّ
التربيع ؛ لأنّه انضاف إلى حكم التثليث المشار إليه حكم المرتبة اللوحيّة ، فحصل
تربيع تابع للتثليث فتعيّنت المرتبة الجامعة لمراتب الصور والأشكال ، أعني التثليث
والتربيع.
وظهر في اللوح
تفصيل الكثرة التي حواها العماء ، فكملت مظهريّة الاسم «المفصّل» كما كملت بالقلم ـ
المذكور شأنه ـ مظهريّة الاسم «المدبّر» من حيث اشتماله على خاصيّتي الجمع
والأحديّة المنبّه عليهما.
ثم تعيّنت مرتبة
الطبيعة باعتبار ظهورها من حيث حكمها في الأجسام ، وللطبيعة هنا ظاهريّة الأسماء
الأول الأصليّة التي سبق التنبيه عليها.
ثم تعيّنت مرتبة
الهيولى المنبّهة على الإمكان الذي هو مرتبة العالم.
وبه وبالجسم الذي
تعيّنت به مرتبة بعد هذه المرتبة الهيولانيّة ـ ظهر سرّ التركيب
__________________
المعنوي المتوهّم
الحصول من ارتباط الممكنات بالحقّ وارتباطه من حيث ألوهيّة بها ، فافهم.
ثم ظهر العرش الذي
هو مظهر الوجود المطلق الفائض. ونظير القلم وصورة الاسم «المحيط» ثم الكرسيّ الذي
هو مظهر الموجودات المتعيّنة من حيث ما هي متعيّنة ونظير اللوح المحفوظ.
فللتثنية الأولى :
الباء التي هي أوّل المراتب العدديّة.
وللتثليث الحامل
للكثرة المذكورة : السين.
وللتربيع الجامع
بين إجمال الكثرة وتفصيلها : الميم.
وللاسم «الله» من
حيث جمعيّته : ثم النفس الذي ظهرت به ، ومنه الموجودات ، ولا يتعيّن له في عالم
الصور مرتبة ظاهرة.
ثم يلي ما ذكرنا
مرتبة الاسم «الرّحمن» المستوي على العرش ، ثم الاسم «الرّحيم» المستوي على الكرسي
كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.
تفصيل لمجمل قوله
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
الشرح بلسان
المرتبة الذوقيّة المعربة بآثارها عن كنهها.
اعلم ، أنّ
التعيّن الأوّل الاسمي الأحدي الذي سبقت الإشارة إليه هو أوّل ممتاز من الغيب
الإلهي المطلق ، وهو مفتاح حضرة الأسماء ، والحدّ المذكور ، ونظيره من عالم الحروف
في النفس الإنساني : الهمزة ، والألف هو مظهر صورة العماء الذي هو النفس الرحماني
الوحدانيّ النعت ، الذي به وفيه بدت وتعيّنت صور سائر الموجودات التي هي الحروف
والكلمات الإلهيّة ، والأسماء وأسماء الأسماء ، كما تتعيّن الحروف والكلمات
الإنسانية بنفس الإنسان ، فلا يظهر لشيء من الحروف عين إلّا بالألف الذي هو مظهر
الواحد كما مرّ ، ولا يظهر للألف على سبيل الاستقلال التامّ عين في مرتبة الكلام ؛
لأنّ مقامه الوحدة
__________________
والواحد في مرتبة
وحدته التي لا يظهر فيها لغيره عين لا يدركه سواه ؛ إذ لو أدركه الغير ، لما صحّ
كونه واحدا ؛ فإنّ نسبة معقوليّة إدراك غيره له أمر زائد على حقيقته ، ولا يمكن أن
يتّصل به أيضا حكم من خارج ؛ لأنّه ليس ثمّة ما يخرج عنه ، فلم يدرك إلّا بنفسه ،
أو بما ظهر منه وامتاز عنه ؛ لعدم مغايرته إيّاه من أكثر الوجوه.
ولمّا كان مبدأ
انبعاث النفس الإنساني ـ الذي انفتحت فيه صور الحروف ـ هو باطن القلب ، وله الغيب
الإضافي نظير الغيب المطلق ، الذي له النفس الرحماني ، وهو مستند الأحديّة
والتعيّن الأوّل المشار إليه وكان الشفتان آخر مراتب النفس الإنساني والكلام ، ولهما الشهادة والتثنية الظاهرة ، في مقابلة التثنية الأولى
المتعيّنة من الوحدة وبها ، وكان الواحد من شأنه أن لا يتعيّن في مرتبة من المراتب
بنفسه ، بل يعيّن ولا يتعيّن ، والألف ـ كما بيّنّا ـ مظهره وكان أقرب الحروف نسبة
إلى الألف هو الباء ، كما أنّ أقرب المراتب نسبة إلى الوحدة هي التثنية الأولى المذكورة لمجاورة آخر نقطة الدائرة أوّلها
، ولما علمت من حال الكثرة ـ التي هي في مقابلة الوحدة ـ من أنّها تنتهي عند التحليل إلى الوحدة
التي انتشت منها.
النظريّة الدوريّة
والحروف العاليات
وأحكام الوجود
والحقائق والمراتب والموجودات دوريّة ، والحركات المعقولة والمحسوسة من الأمور
الكلّيّة والتالية لها أيضا دوريّة ، وهذا من البيّن عند الألبّاء المستبصرين ،
فظهر ـ لما قلنا وكما بيّنّا ـ [أنّ] حرف الباء في المرتبة الثانية من الألف.
وقد أسلفنا أنّ
كلّ ظاهر متعيّن فإنّه اسم دالّ على أصله الذي تعيّن منه وظهر به ، فالحروف
والكلمات اللفظيّة والرقميّة هي أسماء الأسماء ، لدلالتها على حقائق الأسماء
الغيبيّة.
__________________
فكان الدالّ على
الحقّ من حيث التعيّن الأوّل الاسم الأحدي الجمعي الذي هو مفتاح الأسماء
والمسمّيات ، وفي عالم الحروف الهمزة والألف من وجه والباء من وجه ، فنفس التعيّن
له الهمزة والمتعيّن بذلك التعيّن [له] الألف ، فالهمزة برزخ بين ما تعيّن من
الحروف وبين النفس من حيث هو عينه وإطلاقه ، والنفس أيضا ـ من حيث تعيّنه في مرتبة الألف
بالهمزة التي هي نفس التعيّن ـ برزخ بين ما تعيّن منه من الحروف كالباء وغيره ،
وبين نفسه من حيث إطلاقه وعدم تعيّنه.
وهكذا الاسم
المتميّز من غيب الذات ، الذي هو مفتاح الأسماء برزخ بين الأسماء وبين الذات من
حيث إطلاقه الغيبي ، وعدم تعيّنها في هذه المرتبة الأوّليّة الأسمائيّة المذكورة ، وقد سبق التنبيه عليه في شرح الحدّ.
الهمزة والألف
ثم نقول : فالهمزة
والألف كلّ منهما ظاهر من وجه ، وخفيّ من وجه ، كسائر البرازخ ، وهكذا الاسم الذي
له التعيّن الأوّل المنعوت بالوحدة ، وقد ذكر غير مرّة.
فمن خفاء الهمزة
عدم ظهورها في الحروف الرقميّة مثل أصلها الذي هو نفس التعيّن والحدّ المذكور ؛
فإنّه لا يظهر إلّا في متعيّن ، وبه. ومن ظهورها تمكّن النطق بها ووجدان أثرها.
وحكم الألف بخلافها ؛ فإنّ صورته تظهر في الرقم ولا تتعيّن في اللفظ النفسي ؛
لأنّه عبارة عن امتداد النفس دون تعيّنه بمقطع خاصّ ، في مخرج من مخارج الحروف ،
فمجموع الهمزة والألف حرف واحد ، وفي هذا المقام يكون التعيّن جزءا من المتعيّن ،
وهكذا حال الوحدة والتميّز التابعين للاسم الذي هو مفتاح الأسماء.
وكما أنّ أوّل
موجود صدر من الحقّ بالتجلّي المتعيّن من الغيب المطلق المتوجّه لإيجاد عالم
التدوين والتسطير هو القلم ، كذلك أوّل الحروف الموجودة من النفس الإنساني من حيث
تعيّنه بالهمزة في مرتبة أحديّته ، الذي الألف مظهره هو حرف الباء ، فالهمزة أقرب
__________________
المراتب نسبة إلى
الإطلاق الباطني النفسي وأوّلها ، والباء أقرب الموجودات نسبة إليه وهو آخر مراتب
الغيب وأوّل مراتب الشهادة التامّة.
السين
ثم ظهر السين بعد
الباء في الوسط ، بين الظاهر والباطن ، منصبغا بحكم التثليث الأوّل المذكور ، ولكن
في مرتبة الكثرة ؛ لأنّ مراتب التجريد التي لها بسائط الأعداد قد تمّت بالمراتب
السابقة ، كما قد عرفت ذلك إن تأمّلت ما أسلفنا.
فكان للسين من
الأعداد الستّون الذي له درجة التماميّة في مراتب العشرات ؛ إذ بالكثرة الظاهرة تمّ
الأمر.
وخفي الألف ـ الذي
هو مظهر الواحد ـ بين الباء والسين تعريفا بسرّ المعيّة ، وسريان حكم الجمع بالأحديّة
، وكذلك خفي في وسط الاسم «الله» والاسم «الرّحمن» اللذين هما الأصلان لباقي
الأسماء ، وقد عرّفتك بسرّ الوسط ، فافهم. وخفي أيضا هو باعتبار آخر في المراتب
الثلاث المقابلة لهذه الثلاثة المذكورة المختصّة بالعبوديّة التامّة ، وهي
المقابلة للربوبيّة التامّة ، وهي الياء الساكنة في «السين» و «الميم» و «الجيم»
ليعلم سريان تجلّي الحقّ في كلّ حقيقة ومرتبة سريان الواحد في المراتب العدديّة ،
المظهر للأعداد ، مع عدم ظهور عينه من حيث هو وبحسبه كما مرّ ، وليحصل الجمع بين
السريان المذكور وبين الإطلاق والتنزّه عن التقيّد بالأحكام والنسب والتعلّقات ، ولا يعرف ما اومأت إليه إلّا من عرف سرّ تحكّم الحقّ ، وإجابته.
ثم نقول : فالألف ـ
كما علمت ـ للسريان الذاتي ، والباء أوّل مراتب التعدّد والظهور الكوني ، الناتج
من المقام الجمعي الأحدي. والهمزة ـ التي هي نظير نفس التعيّن دون إضافته إلى من
تعيّن به ـ لها فتح باب الإيجاد ؛ لأنّ الحقّ من حيث ذاته لا يقتضي أمرا على
التعيّن من إيجاد أو غيره ، فالتعلّق والاقتضاء ونحوهما إنّما هو
من حيث اعتبار نسبة الألوهية
__________________
المرتبطة بالمألوه
والتي يرتبط بها المألوه ، ومن جهتها تضاف النسب والأسماء والاعتبارات إلى الحقّ.
ولمّا لم يكن
الإيجاد أمرا زائدا على تعيّن الوجود الواحد وتعدّده في مراتب الأعيان الممكنة وبحسبها ،
مع عدم تعيّنه وتعدّده في نفسه من حيث هو كذلك ، قلنا : إنّ الهمزة مظهر سرّ
الإيجاد ، فهي تختصّ بالقدرة التي هي أخرى النسب والصفات الباطنة ، المتعلّقة
بإظهار ما تعلّقت المشيئة بإظهاره ، والميم ـ الذي له التربيع المذكور ـ هو مقام
الملك ، وتمّ حكم الفرديّة في هذه المرتبة أيضا ؛ فإنّ لها في كلّ مرتبة مظهرا
وحكما بحسب تلك المرتبة ، فلذلك أكرّر ذكرها ليعلم حكمها في كلّ مرتبة ما هو ،
وليعلم حكم المراتب وتأثيرها فيما يمرّ عليها ويظهر فيها من الأمور.
فلمّا ظهر بعد
الباء بسرّ الألف الغيبي الساري في كلّ كلمة من كلمات البسملة حرف السين ، وظهرت
به صورة الكثرة ، رجع التجلّي والأمر ـ بعد نفوذه وظهور حكمه في مرتبة الكثرة
وإبراز أعيان نسبها ـ يطلب الرجوع إلى الأصل الذي هو مقام الأحديّة المشار إليه من
قبل ، فلم يمكن للسين الاتّصال المطلوب ؛ لأنّه جزء من أجزاء ثوب الاسم
الذي به يدوم ظهور كلّ ظاهر ، والرجوع إلى الأحدية ينافي ذلك ، وحكم القيوميّة لا
يقتضيه.
وأيضا فالألف ـ
الذي هو مظهر الواحد ـ ظهر في مقام الأوّلية ، لتعيين مظهر الاسم «الله» الجامع ،
وليس قبل الألف ما يتّصل به كون ؛ لأنّه المجاور للغيب كما قد علمت ، ولم يمكن للسين أن يسكن ؛ فإنّ
الإرادة الأصليّة بالتجلّي ـ الساري الوحداني المعقول بين الباء وبينه ـ تحكم عليه
بالحركة لنفوذ الأمر ، فدار في نفسه دورة تامّة بسرّ التجلّي المذكور ، فظهر عين
الميم مشتملا على ما تضمّنته الدائرة الغيبيّة التي هي فلكه من المراتب البسيطة ،
في المقام العددي ، ولكن بحسب مرتبته التي هي الكثرة المتوسّطة ، فصار ذا وجهين
وحكمين مثل أصله المقدّم ذكره.
__________________
الميم
فمن حيث سريان حكم
الإرادة وإتمام الدورة ظهر بجميع الأعداد البسيطة وهي التسعة ؛ فإنّ الميم في
الصورة الظاهرة ميمان لكلّ ميم أربعون ، وللياء المتوسّطة عشرة ، فصارت الجملة
تسعين. والتسعون هي التسعة بعينها لكن في مراتب العشرات ، وكذلك حكم الميم مع
السين والسين مع الباء باعتبار السابق والتثنية التي ذكرتها في حكم القلم واللوح.
ثم نرجع إلى الميم
ونقول : فظهرت الياء ـ التي لها العشرة ـ بين صورتي الميم ؛ لأنّ الوسط مقام الجمع
الذي منه تنشأ الأحكام ، وسكونها إشارة إلى الخفاء الذي هو شرط في التأثير ؛ فإنّ
الأثر فيما ظهر راجع إلى المراتب الغيبيّة ، فكلّ أثر يشهد من كلّ ظاهر فإنّما ذلك
بأمر باطن فيه أو منه ، وهكذا خفي حكم الإرادة في المراتب المتقدمة عليها ، ثم ظهر
بظهور متعلّقها الذي هو المراد ، وقد أشرت إلى ذلك من قبل.
ولهذه الآخريّة
والجمع اختصّ الميم بالإنسان ، كما أخبر به سيّدنا وشيخنا رضى الله عنه ، فعلى هذا
كان احتواء الميم على التسعة من وجه والتسعين من وجه إشارة إلى استيفائه أحكام
أسماء الإحصاء ، وحكمه في هذه الإحاطة والدور المذكور.
واختصاصها
بالإنسان ـ الذي هو آخر الموجودات ظهورا ـ من حيث صورته ، نظير التجلّي الحبّي
الأوّل ، الذي دار في الغيب على نفسه الدورة الغيبيّة المذكورة حتى كان مفتاح سائر
البواعث الحبّية المستجنّة في حقائق الممكنات ، ومفتاح الحركات الدوريّة العشقيّة
المنبّه عليها عند الكلام على سرّ بدء الإيجاد.
فمن أحكام الباء
الدلالة على التثنية الأولى ، المنبّهة على الجمع وأوّليّة المرتبة الكونيّة التالية
للأحديّة الإلهيّة ، وعلى الألف الغيبي المختصّ بالأحديّة المعقول بينه وبين السين.
ومن أحكام السين
الدلالة على ما دلّ عليه حرف الباء ، وعلى النسب التي تستند إليها الأرواح
المهيمنة قبل الباء ، كالأسماء الباطنة الأصليّة وغيرها ممّا سبق
التنبيه عليه في سرّ بدء الأمر وانفصال الشطر الغيبي ، ونظير ذلك في النفس
الإنساني مخارج الحروف التي
__________________
بين الهمزة التي
لها التعيّن الأوّل وبين الباء الذي هو آخر الغيب وأوّل الشهادة.
ومن أحكام الميم
الدلالة على سرّ حضرة الجمع الذي ظهرت صورته من بعد ظهور المدلول بعد الدليل وهو
الاسم «الله» لاختصاص
الميم بالإنسان الذي هو أتمّ دليل على الحقّ وأسدّه ، فظهر الاسم «الله» بألفين ولا مين وهاء.
فالألف الواحد
لنسبة الاسم «الباطن» وهي الظاهرة في النطق لا في الخطّ كظهور الاسم «الباطن»
بأثره لا بعينه ، والألف الآخر الظاهر للاسم الظاهر الأوّل.
وإحدى اللامين
لنسبة ارتباط الحقّ بالعالم من كونه ظاهرا بحقائق العالم. والأخرى لنسبة ارتباط
العالم بالحقّ من حيث ظهور العالم بعضه للبعض في غيب الحقّ ، والحقّ المظهر
والمرآة ، كما قد أشرت إليه في سرّ العلم والوجود والتقدم والتأخّر ، عند الكلام
على مراتب التمييز.
والهاء للهويّة
الغيبيّة الجامعة بين الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر.
فاستحضر من
الأسرار الخمسة ، وتذكّر الحضرات الخمس والأسماء الأصليّة الأربعة ، والسرّ الجامع
بينهما ، وكذلك النكاحات الخمسة ، والحكم الخماسي الظاهر في
الحروف والنقط والإعراب ، وانظر جمعيّة الاسم «الله» لسائرها .
ثم انظر إلى سرّ
الهاء الذي له جمع الجمع من حيث الأمر ومن حيث المرتبة ، وكيف اختصّ من الأعداد
بالخمسة ، وتدبّر أيضا التثليث والتربيع المذكورين ، وسريان حكمهما وتأمّل كيف كان
كلّ كلمة من كلمات البسملة جامعا لهما من وجه ، محلّا لحكمهما.
والاسم «الله» إذا
جمعت حروفه الظاهرة والباطنة كانت ستّة على رأي شيخنا رضي الله عنه : الألف ،
واللامان ، والألف الظاهرة في النطق لا في الخطّ ، والهاء ، والواو الظاهرة بإشباع
الضمّة. وإذا أضفت إلى هذه الستّة الحقيقة التي يدلّ عليها هذا الاسم أعني
الألوهيّة التي هي عبارة عن نسبة تعلّق الحقّ من حيث ذاته بالأسماء
المتعلّقة بالكون ، كانت سبعة ، فافهم.
__________________
وانظر سريان حكم
الحقائق التي نبّهت على سرّها ، وهكذا الاسم الكلّي «الرّحمن» التالي لهذا الاسم
الجامع ، والمشارك له في الجمع والحكم والإحاطة ، كما أخبرنا سبحانه ، وكما نبّهت عليه في هذا الكتاب وفي مفتاح غيب
الجمع ؛ فإنّ حروفه ستّة ، والسابع هو الألف الغيبي المعقول بين الميم والنون ،
الذي هو مظهر أحديّة الجمع ، فتذكّر.
ولمّا كانت كلمة «بسم»
من حيث الظاهر لم تجمع هذا السرّ السباعي الذي هو التثليث والتربيع ، تمّ ذلك بالإضمار
الذي به صحّ «بسم» أن يكون كلمة ، فتقديره : بدأت أو أبدأ مع لفظة «بسم» تجمع التثليث والتربيع المنبّه عليهما.
وهكذا ينبغي لك أن
تستحضر سرّ الغيب الذاتي من حيث الإطلاق الرافع للاعتبارات ، ومن حيث التقيّد
باعتبار واحد ، ثم سريان ذلك في المقدّمتين الموجبتين انقسام الغيب بشطرين ، ثم
نسبتي الرحمة والغضب ، اللتين نبّهت عليهما ، ونسبة الوحدة الصرفة باعتبار كونها
وحدة فقط ، ونسبتها من حيث استناد الكثرة إليها ، وحكم الباء المستندة إلى هذه
التثنية ، والسين المنبّه على الكثرة التالية ، وكاللوح مع القلم والكرسيّ ـ الذي
هو محل التقسيم الظاهر في عالم الصور ـ بالنسبة إلى العرش الوحدانيّ الصفة ،
والكلمة والأمر ، والإحاطة والعموم لسرّ الاسم «الرّحمن» المستوي عليه ، وسرّ
الاسم «المدبّر» المختصّ بالقلم ، وكذلك سرّ الاسم «المفصّل» المختصّ باللوح ، وظهور تخصيصه وتميّزه بالاسم «الرّحيم» في الكرسي
الكريم.
وانظر عموم حكم
الحقّ وإحاطته وجمعيّته ، من حيث ذاته ومن حيث أسمائه الكلّيّة ، ثم اندراج الجميع
جملة في الاسم «الله» ، وتفصيلا في الاسمين : «الرّحمن» و «الرّحيم» ثم اندراج
الجميع في هاء الاسم «الله» الذي هو مظهر الغيب الذاتي.
وانظر حكم الحضرات
الخمس مع النسبتين الأوليين المنبّه عليهما ، اللتين بهما ظهر السرّ السباعي وتمّ.
__________________
وانظر حكم المرتبة
الأولى كيف سرى فيما تحتها من المراتب من غير انخرام ولا اختلال
تعرف بعض الأمر ممّا تسمع وتستروح صحّته لئلّا تظنّ أنّه اعتبار ، أو تأويل ، أو
كلام نتج عن حدس وتخمين ، بل ذلك تنبيه عزيز على أسرار إلهيّة غامضة
، وترتيب شريف رتّبه ربّ لطيف عليم خبير.
ثم أقول : ولست
أسلك هذا المسلك في تفسير هذه السورة وإنّما ذكرت هذا القدر تعريفا بما أودع الحقّ
كتابه العزيز ، وسيّما هذه السورة التي هي أنموذج ونسخة لكتابه الكريم ، بل لسائر
كتبه من الأسرار الغريبة ، والعلوم العجيبة ليعلم أنّه رتّب حروفه وكلماته وترتيب
مدبّر خبير ، فما فيه حرف بين حرفين أو متقدّم ، أو متأخّر إلّا وهو موضوع بقصد
خاص ، وعلم كامل ، وحكمة بالغة لا تهدى العقول إلى سرّها.
بطون القرآن
وأسرار الحروف
ومن لا يكشف له
هذا الطور لم يعرف سرّ بطون القرآن التي ذكرها رسول الله صلىاللهعليهوآله بقوله «للقرآن ظهر
وبطن إلى سبعة أبطن» ، وفي رواية «إلى سبعين بطنا» ولا سرّ قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ)
ولا سرّ قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، ولا سرّ قوله صلىاللهعليهوآله : «خصّصت بستّ» ، وتعيينه في جملتها الفاتحة وخواتم البقرة
الدالّة على كمال ذوقه وجمعيّته ، ولا سرّ قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، ولا سرّ قول علي رضي الله عنه : «لو أذن لي في تفسير
الفاتحة ، لحملت منها سبعين وقرا» ، ولا سرّ قول الحسن رضى الله عنه : «أنزل الله
مائة كتاب وأربعة كتب ، فأودع المائة في الأربعة» وهي : التوراة ، والإنجيل ،
والزبور ، والفرقان ، وأودع الجميع في القرآن ، وأودع جميع ما في القرآن في
المفصّل ، وأودع ما في المفصّل في الفاتحة. وقد نبّهتك الآن على اندراج الجميع في
هذه الأسماء الثلاثة ، ثم اندراج الاسمين ، وما تحت حيطتهما في الاسم «الله» ثم
اندراج كلّ شيء في حرف الهاء من الاسم «الله».
__________________
ولو لا أنّ همم
الخلق وعقولهم تضعف وتعجز عن الترقّي إلى ذروة هذا الذوق ، وخرق حجبه والتنزّه في رياض نتائجه
وكمالاته ، وطباعهم تمجّه ؛ لبعد المناسبة ، لأظهرت ـ مع عجزي وضعفي ـ من أسراره
ما يبهر العقول والأذهان والبصائر والأفكار ولكن (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقد حصل ـ بحمد الله ـ بهذا القدر تنبيه لكلّ نبيه ،
وموافقة لشيخنا الإمام الأكمل رضي الله عنه ، حيث قرن الكلام على سرّ البداية
بالكلام على سرّ (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واستفتحه بهذا اللسان ، ثم بيّن بعد ذلك ما قدّر الله له
بيانه.
ولعمر الله لم
أقصد ذلك ، بل وقع هذا الكلام والموافقة والترتيب دون تعمّل ، وإنّما تنبّهت له
فيما بعد ، فشكرت الله سبحانه على ذلك.
وسببه أنّي ما
تصدّيت لنقل كلام أحد في هذا الكتاب ، لا الشيخ رضي الله عنه ولا غيره إلّا كلمات
يسيرة أخطرها الحقّ بالبال دون قصد وتعمّل في جملة ما ورد من نفحات جوده ، وقد كان
يقع ذلك لشيخنا رضي الله عنه ، ويقع لكثير من أهل الأذواق ، فيظنّ من لا يعرف أنّ
ذلك نقل عن قصد وتعمّل بمطالعة واستكشاف وجمع وليس كذلك. وفي الأذواق النبويّة من
ذلك كثير ، ولهذه الشبهة قالوا (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، فافهم ، والله وليّ الفضل والإحسان والإرشاد.
وإذ قد ذكرنا في
شرح كلمة «بسم» والاسم «الله» وحروفهما ما قدّر الحقّ ذكره ، مع تنبيهات جملية
تتعلّق بالاسمين : «الرّحمن» «الرّحيم» فلنذكر في تفسيرهما من حيث ما يخصّهما ما
يمليه الحقّ على القلب ، ويجري به القلم. فنقول :
الرّحمن الرّحيم
فلمّا انضاف إلى
المراتب المتقدّمة ـ أعني التربيع التابع للتثليث ـ الأسرار الخمسة ، التي تضمّنها
ظاهر الاسم «الله» تمّت الاثنا عشريّة المستوفية لمراتب الأسماء الكلّيّة ،
والتالية
__________________
لها في الحكم
والمرتبة.
وقد أشرت إلى بعض
أحكامها عند الكلام على سرّ الإعراب والنقط ، وو تمّت بها المراتب العددية أيضا
التي هي الآحاد المنتهية في التسعة ، ثم العشرات ، ثم المئون ، ثم الألوف.
فلمّا تعيّنت
مراتب الأسماء في الحضرة الجامعة لها بأحكامها ، وتوجّهت لإظهار مظاهرها وما به
يتمّ كمالها ويدوم ، أعقب ذلك ظهور صورة الوجود ب «الرّحمن» المضاف إليها الوجود
الشامل العامّ ، كما سبق التنبيه عليه.
وجاء بصيغة
المبالغة ؛ لعدم توقّف شموله على شرط علمي أو سعي تعمّلي ، أو نحوهما ، بخلاف غيره من الأسماء. وظهر مثاله
ومظهره ومستواه ـ الذي هو العرش المحيط وأوّل الصور الظاهرة ـ مناسبا للمستوي عليه
في الشمول والإحاطة وعدم التحيّز تنبيها على أنّ مظهر الاسم «الرّحمن» ـ مع كونه
صورة مجسّدة مركّبة من جوهر وعرض ، أو هيولى وصورة على اختلاف المذهبين ـ ليس له
مكان ، فلأن يكون المستوي ـ الذي جعله مكانا لما أحاط به ـ غنيّا عن المكان ،
وأجلّ من أن يحصره مكان بطريق أولى ، فحصل الاستواء على المقام الوجودي بالرحمة
التي هي الوجود. وعلى مظهره الذي هو العرش بالاسم «الرّحمن» ، فلم يظهر فيه تقسيم
ولا تخصيص ولا اختلاف.
ثم ميزت القبضتان ـ
الظاهرتان بحكم النسبتين المعبّر عنهما بالرحمة والغضب ، المنبّه عليهما من قبل ـ
إن انسحب عليه حكم الرحمة ، بحسب سرعة إجابة بعض الحقائق الكونيّة للنداء الإلهي
الحامل للأمر التكويني وقبول ذلك التجلّي على وجه لا ينضاف إليه ما يشين جماله ،
وبحسب تثبّط بعض الحقائق أيضا عن هذه الإجابة على هذا الوجه المذكور ، وإلباسها ذلك التجلّي
بسوء قبولها له أحكاما وصفات لا يرتضيها جماله ، وإن وسعها كماله ، إلى سعيد معتنى
به ، وإلى شقيّ غير معتنى به في أيّ مرتبة كانت غايته.
فظهر سرّ هذا
التفصيل العلمي الغيبي المذكور في مقام الكرسي ، المختص بالاسم «الرحيم».
__________________
فانقسم الحكم إلى
أمر مؤدّ ومفض بالممتثل له والعامل به إلى الانتظام في سلك السعداء أهل النعيم
الدائم والراحة الخالصة في ذلك المقام بعينه ، فإنّه مقام أهل اليمين ومظهر الاسم «الرّحيم».
وإلى نهي وتحذير عن الوقوع فيما يؤدّي إلى الانخراط في سلك الأشقياء أهل المكروه ،
الذي لا يظهر للاسم «الرّحيم» فيه أثر غير نفس التخصيص في الحال ؛ لغلبة حكم
القبضة الأخرى ، وتمّت مراتب التثليث في المراتب التابعة للفرديّة الأولى.
فالاسم «الله» من
حيث أوّليّته لمرتبة الألوهيّة ، التي يستند إليها المألوه ، ويختصّ بها القسم الأوّل من
الفاتحة. وللرحمن الوجود العام المشترك ووسط الفاتحة ، وللرحيم التخصيص المذكور
وآخر الفاتحة للإجابة الإلهيّة ، والتخصيص المتضمّن فيه بقوله : «هو لعبدي ، ولعبدي ما سأل».
فالرّحيم ـ كما
بيّنّا ـ لأهل اليمين والجمال. والرّحمن ـ الجامع بين اللطف والقهر ـ لأهل القبضة
الأخرى والجلال. وأهل الاسم «الله» من حيث الجمعيّة لهم البرزخ الجامع بين
القبضتين ومقام القربة والسبق والوجه والكمال ، فتدبّر ما يقرع سمعك ويستجليه
فهمك.
فهذه تنبيهات
إلهيّة يستفاد منها أسرار جليلة من جملتها معرفة سريان أحكام المراتب الكلّيّة
فيما تحت حيطتها من المراتب والمظاهر ، فيتحقّق الارتباط بين جميعها ، فيصير ذلك
سلّما لرقي الألبّاء ـ ذوي الهمم العالية والمدارك النوريّة الخارقة ـ إلى ما فوق
ذلك بتوفيق الله وعنايته ، والله وليّ الإرشاد والهداية. ولنختم الآن الكلام على
البسملة بالإشارة النبويّة المستندة إلى الحضرة الإلهيّة وهي قول الحقّ عند افتتاح
عبده المناجاة ببسم الله الرّحمن الرّحيم في الجواب : «ذكرني عبدي»
كيف يذكر العبد
ربّه؟
فنقول : الذكر
إمّا أن يقترن معه علم به وبالمذكور ، أو بأحدهما ، أو لا يقترن ، فإن اقترن فهو
مظهر للحضور وسبب له ، والحضور حقيقة متعلّقها استجلاء المعلوم ،
__________________
وله خمس مراتب :
إحداها الحضور مع
الشيء من حيث عينه فحسب ، أو من حيث وجوده ، أو من حيث روحانيّته ، أو من حيث
صورته. أو من حيث مرتبته الجامعة بين الأحكام الأربعة المذكورة.
وأمّا الحضور مع
الحقّ فإمّا أن يكون من حيث ذاته ، أو من حيث أسمائه ؛ والذي من حيث أسمائه فإمّا
أن يكون متعلّقه اسما من أسماء الأفعال ، أو من أسماء الصفات فالمختصّ بالأفعال
يتعيّن بالفعل ، وينقسم بحسب أنواعه. والذي من حيث الصفات. فإمّا أن يكون متعلّقه
أمرا سلبيّا أو ثبوتيّا. والذي متعلّقه الذات فإمّا أن يكون مرجعه إلى أمر تقرّر
في الذهن من حيث الاعتقاد السمعي ، أو البرهان النظري ، أو الإخبار الإيماني
النبوي ، أو المشاهدة الذوقيّة ، أو أمرا متركّبا من المجموع ، أو من بعضها مع
بعض. وكلّ ذلك لا بدّ وأن يكون بحسب أحد الأحكام الخمسة بالنسبة إلى صاحب الحضور
أو بحسب جميعها.
فأتمّ مراتب
الحضور مع الحقّ أن يحضر معه لا باعتبار معيّن من حيث تعلّق خاصّ ، أو باعتبار حكم
وجودي ، أو نسبي ، أو أسمائي بسلب أو إثبات بصورة جمع أو فرق أو تقيّد بشيء من ذلك
أو كلّه بشرط الحصر.
وما ليس كذلك فهو
إمّا حضور نسبي من حيث مرتبة خاصّة أو اسم معيّن إن كان صاحبه من أهل الصراط
المستقيم ، وإلّا فهو حضور مع السوى كيف كان. ثم نرجع إلى إتمام ما بدأناه. فنقول
:
والعلم المقترن بالذكر إمّا أن يتعدّى الذكر ويتعلّق بالمذكور ، ويتبعه
الحضور المنبّه على سرّه ويكون تعلّقه به تابعا للأمور المذكورة في نتائج الأذكار
من بعد وبحسب ما سبق التنبيه عليه ، أو لا يتعدّى ، فيكون متعلّقه نفس الذكر ،
ويكون الحضور حينئذ معه فحسب ، أو معه ومع المفهوم منه إن كان ممّا يدلّ على معنى زائد على نفس الذكر ودلالته على المذكور.
فإن اقترن مع ذلك حكم الخيال ، استحضر ما كان صورة الذكر سببا لتشخصه في
__________________
الذهن فعلا كان ،
أو حركة ، أو كيفيّة ، أو صورة وجوديّة ، لفظا كان أو غيره ، أو أمرا متركّبا من ذلك كلّه أو بعضه.
وإن لم يقترن مع
ذلك تخيّل حاكم فهو ـ أعني المسمّى ذكرا ـ عبارة عن نطق بحروف نظمت نظما خاصّا
تصلح لأن يجعل أو يفهم لها مدلول مّا ، كائنا ما كان.
وأمّا نتائج
الأذكار فإنّها تظهر بحسب اعتقاد الذاكر وعلمه ، وبحسب ما يتضمّنه الذكر من
المعاني التي يدلّ عليها ، وبحسب الخاصّة اللازمة للهيئة التركيبيّة الحاصلة من
اجتماع حروف الاسم الذي يتلفّظ به الذاكر أو يستحضره في خياله أو يتعقّله ، وبحسب الصفة الغالبة على الذكر حين الذكر ، وغلبة أحد الأحكام الخمسة المذكورة ، أو بحسب حكم جمعيّة الأمور
المستندة إلى الذاكر نفسه ، واستيلاء أحدها أو كلّ ذلك بحسب الموطن والنشأة
والوقت ، وأوّليّة الأمر الباعث على التوجّه ، وروحانيّة المحلّ والاسم الإلهي ، الذي له السلطنة إذ ذاك ، فافهم وتدبّر
وأمعن التأمّل فيما بيّن لك ، فإنّه إن فكّ لك معمّاه ، شاهدت بعقلك النظري الآلي ما يهولك أمره ، ويطيب لك خبره وأثره ، والله وليّ الإحسان
، الهادي إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم.
__________________
باب ما يتضمّن ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة
بالكتاب الكبير والكتاب الصغير وما بينهما من الكتب
ومن جملة ما
يتضمّن التنبيه على مراتب الحقائق والفصول التي تضمّنتها الفاتحة
، وبيان سرّ ارتباط بعضها بالبعض على سبيل الإجمال.
وهذا الباب سطر
على نحو ما ورد لفظا ومعنى ، وإن كان الكلّ من حيث المعنى كذلك ـ أي هو مقدّس عن
التعمّل والفكر ـ ولكن انفرد هذا بالجمع بين اللفظ والمعنى ، وكثيرا مّا يقع هذا
في الكتاب وغيره ، فافهم.
ثم اعلم ، أنّه ما
ثمّة أمر من الأمور يفرض بين أمرين ، أو ينسب إليه بداية وغاية إلّا ولا بدّ أن
يكون له فاتحة هي مرتبة أوّلية ، وخاتمة هي مرتبة آخريّة ، وأمر ثالث يكون مرجع
الحكمين إليه يجمعهما ويتعيّن بهما ، والفاتحة من جملة هذه الأمور المشار إليها ،
وكذلك الإنسان والعالم وما تفرّع على ما ذكرنا وكان تبعا له.
فواتح العالم
الكبير
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم ، أنّ الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ فتح خزانة غيب ذاته وهويّته التي لا يعلمها
سواه باسمه الجامع بين صفات الجمع والتفرقة ، والإطلاق والتقييد ، والأوّليّة
والآخريّة ، والظاهريّة والباطنيّة ، وخصّه بأن جعله مفتاحا للأسماء والأعيان وهو «الحمد»
الذي نبّهنا عليه في سرّ بدء الأمر.
__________________
وفتح بأحديّة هذا
الاسم التعدّد والاختلاف الظاهر في كلّ أمر من الأسماء وغيرها لدى البسط الأوّل
والانتشار.
وفتح باب الصفات
بالحياة والجمع بالتفصيل ، والترجيح بالاختيار.
وفتح الإجمال
بالتفصيل ، والتعيّن بالتميّز ، والتخصيص بالاستدلال والتذكار.
وفتح باب رحمته
وسعتها بالتجلّي الوجودي العامّ ، والخصوص بالعموم ، والعموم بالسعة ، والسعة
بالعلم ، والإيجاد بالقول. والقول بالإرادة والاقتدار.
وفتح أبواب
المدارك والإدراك بالتلاقي والانطباع واقتران الأنوار ، وفتح أبواب الكمالات
بالإدراك المتعلّق بالغايات ، والمحبّة والخبرة والإشعار. وفتح أبواب التوجهات بالحركات الحبّيّة ، وانبعاث الأحكام
الشوقيّة. المتعلّقة بنيل الأوطار.
وفتح باب الألفة
برابط المناسبة وحكم الاتّحاد والإبصار.
وفتح بآدم باب
الخلافة الكبرى ؛ لتكميل مرتبتي الظهور والإظهار.
وفتح به وبحوّاء
باب التوالد والتناسل البشري ، وأظهر بهما سرّ تفصيل الذرّيّة الكامل فيهما قبل الانتشار. وفتح باب الافتراق بإشهاد المباينة
وإظهار حكم النفار.
وفتح باب الكرم
بالغنى وسدل الأستار.
وفتح باب الإكرام
بالمعرفة.
وفتح الفتح
بالاصطفاء ، والاصطفاء بالعناية ، والعناية بالمحبّة ، والمحبّة بالعلم ، والعلم بالشهود
والإخبار.
وفتح باب الحيرة
والعجز عن معرفته بالتردّد والقصور عن تعقّل الجمع بين الأضداد في العين الواحدة ،
كالقيد والإطلاق ، والتنزيه والتشبيه ، والإبدار والسرار.
وفتح أبواب السبل
بالغايات ، وبالتعريف بإحاطته لكلّ غاية ، وبقوله :
__________________
(أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، وبقوله : (إِلَيْهِ يُرْجَعُ
الْأَمْرُ كُلُّهُ) ليعلم تعميره بسعته جميع المراتب والنهايات والأقطار.
وفتح باب
الاستقامة بمتعلّقات المقاصد والأغراض التي هي غايات السبل بالنسبة إلى السائرين
والأسفار ، وعيّن منها ما شاء بشرائعه ؛ رعاية لتقيّد السالك ، وتنبيها له على
تعيّن مرتبته ومصلحته ، ليعلم أنّ الحكم هو المتعيّن في أوّل الأسفار.
وفتح باب المحاذاة
الكلّيّة الأولى باعتبار الرحمة العامّة الإيجاديّة الرحمانيّة التي وسعت كلّ شيء
بمطلق حكم قابليّة الممكنات المخلوقة ، وقيامها مقام المرائي لظهور الوجود. ومن
جهة أنّها لمّا كانت شرطا في ظهور آثار الأسماء وتعيّناتها ، عوّضت بالتجلّي
الوجودي الذي ظهر به لها عينها. ونفذ حكم بعضها في بعض ، فكان ذلك أيضا ذلك مفتاح
سرّ القضاء والأقدار.
وفتح باب الأحكام
الإلهيّة بالأحوال ، والموازين بالانحراف والاعتدال معنى وصورة بحسب الآثار.
وفتح باب الاختصاص
التقرّبي والتحكيم العلمي والتدبير العليّ بالقلم الأعلى ، المقدّس عن موادّ أمداد
الأكوان والأغيار ، وعيّن به حكم الإقبال ولوازمه المنتجة للقرب وكذلك الإدبار.
وفتح باب التفصيل
الوجودي باللوح المحفوظ ، المحفوظ عن التبديل والتحريف والتغيير ، وعن ملاحظة
الأفكار.
وفتح باب الزمان بالآن ، والكيف بالشأن ، ونبّه على عموم حكمهما أولي الأيدي والأبصار.
وفتح باب المظاهر
الجسمانيّة التي هي مثل الحقائق العليّة الغيبيّة مثل الإحاطة والرجوع إلى البداية عند حصول البغية
لدى النهاية ، بالفلك الإحاطي الدوّار.
وفتح باب صورة
الاسم «الدهر» بالحركة العرشيّة اليوميّة وما يتبعها من الأدوار.
__________________
وفتح باب الأوقات
بتقدير الحركات التي أودعها كلّ فلك وكوكب سيّار.
وفتح باب الحركات
بباعثه الحبّي المتعلّق بكمال الظهور والإظهار.
وفتح باب التفصيل
الشخصي والتمييز الأمري بالكرسي العليّ محلّ الورد والإصدار ، ومنزل المقرّبين
ومستقرّ الأبرار.
وفتح باب الأمر
بالبقاء ، والإبقاء بالاعتدال ، ورفع أحكام الكثرة التركيبيّة بغلبة حكم الجمع
الأحدي ، ورعايته به حكم الاختلاف الثابت بين الأضداد بحفظ المقدار.
وفتح باب نشء السماوات العلى بالفلك الشمسي ، وجعله أيضا مفتاح الليل
والنهار.
وفتح باب العناصر
بالاسم الحامل لعرشه الكريم ، مقام الاستواء لا الاستقرار.
وفتح أبواب
التراكيب العنصريّة بالمولّدات ، والمولّدات بالمعادن والأحجار.
وفتح باب أمره
بالدعوة ، والدعوة بجميل الوعد والترغيب والإنذار.
وفتح باب الامتثال
بالسماع ، والسماع بالنداء ، والنداء بالإعراض ، والحجّة بالإنكار.
وفتح باب النسيان
بالغفلة ، والغفلة بالقصور عن الإحاطة ، والجمع والذكر بالحضور والاستحضار.
وفتح باب سلطنة
الربوبيّة بالمربوب ، والطلب والعبوديّة بمشاهدة الفقر والعجز والانكسار.
وفتح باب العبادة
بشهود الانفعال تحت حكم الاسم «المقتدر» و «القهّار».
وفتح باب المناجاة
بصحّة المواجهة المعقولة وحسن التلقّي الأدبي والتسليم والابتدار.
وفتح باب الثناء
بالتعريف لما تضمّنه مقام الربوبيّة من اللطف والرحمة في حقّ المربوب. مع ثبوت
الملك والتمكّن من فعل ما شاء ، كيف شاء على كلّ حال في كلّ دار. وفتح باب الشكر
بالإحسان ، وباب المزيد بالشكر ، وأشهد نفوذ أحكام قهره فيمن أبى من حيث حقيقة قبول إحسانه ولطفه ، تحذيرا من ازدراء النعم
، وتذكرة لأهل الاعتبار.
وفتح باب السؤال
بالحاجة والتّرجي وحسن الظنّ والانتظار.
__________________
وفتح باب التمجيد
والتعظيم بإشهاد ذلّ العبودية تحت عزّ الربوبية ، لترك الشطح والتعاظم والافتخار.
وفتح باب
الاستعانة بالقبول والتفويض والاستظهار.
وفتح باب تميّز القبضتين بتخصيص حكم الإجابة والإنابة الظاهرة الحكم في
السعداء والأشقياء الفجّار.
وفتح باب الهدى
والبيان بما أظهر من آياته في الآفاق وفي الأنفس ، وأبان حكمهما وحكمتهما بحقيقتي الفهم والنطق ، وكمّلهما في ذوات تراجمة أمره
المصطفين الأخيار.
وفتح باب العجمة
بالإعراب ، والإبهام بالإفصاح ، والرمز بالشرح ، والعقد بالحلّ ، والقيد بالإطلاق.
والأشفاع بالأوتار.
وفتح باب الأمل
بالإمكان والاغترار.
وفتح باب الاغترار بالدعوى والاختيار.
وفتح باب الاحتراز بالإمكان. والشكّ بالفرض ، والطمأنينة بالمشاهدة
والاستبصار.
وفتح باب الإرث
بصحّة النسبة والنسب ، والمكاسب بالنشآت والأوقات والأعمار.
وفتح باب الركون
إلى الأسباب بالعوائد والتجربة وشبهة التكرار.
وفتح باب السلامة بالبقاء على الأصل وعدم التقيّد بالعوارض العواري والتبرّي
من الدعوى واتّباع الآثار.
وفتح باب الاجتراء
بالحكم والإمهال والاحتمال والجهل والاغتفار.
وفتح باب القهر
والنقمة بالشرك والمنازعة والانتصار.
وفتح بإظهار
الأمثال باب الدوام والاستمرار.
وفتح باب العصمة
بالدراية ، والمسامحة بالإذعان والاعتراف والاعتذار.
وفتح كتابه العزيز
بالنسبة إلى جمعيّة اسمه المتكلّم بأمّ الكتاب وفاتحة جامعة
__________________
العلوم والأذكار.
وفتح الفاتحة بذكر
أسمائه الكلّيّة التالية الأصليّة الأولى المذكورة في الدرجات والآثار.
وفتح ذكر أسمائه
بالباء التي لها التقدمة على الحروف التامّة في أوّل النطق والإبدار.
وفتح باب معرفة
ذاته وحضرة جمعه وإشهاده وتجلّيه الكمالي المعتلي على سائر الأسماء والصفات بمن
أظهره آخر الوجودات ، وقدّره على صورته ، وحباه بسرّه وسورته ، وجعله خزانة حاوية
على كلّ الخزائن والمفتاح الذي هو أصل المفاتيح ، وينبوع الأنوار والمصابيح ، لا
يعرفه سوى من هو مفتاحه ، ويعلم هو من المفاتيح ـ التي حوتها ذاته ، واشتملت عليها
عوالمه ونشأته ، مفاتيح الغيب وأحاطت بها مراتبه ومقاماته ـ ما شاء ربّه أن يريه منها ويكشف له
عنها.
مفاتيح الغيب
فإنّ متعلّق النفي
الوارد في قوله سبحانه : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) إنّما هو نفى أن يعرف مجموعها غير الحقّ ، وأن تعرف من
كونها مفاتيح الغيب ، وأن تعرف إلّا بتعريفه سبحانه وتعليمه.
فأمّا كون
المفاتيح لا تعلم نفسها ، ولا يعرف بعضها بعضا ، ولا تعرف من هي مفاتيحه ، لا تعرف
بتعريفه دون كسب وقصد ، فذلك لا نصّ فيه.
ومن اطّلع على بعض
أسرارها عرف أنّ المتعذّر هو معرفتها من كونها مفاتيح أول مطلق الغيب ، باعتبار
فتحها الأوّل لا من حيث حقائقها ؛ فإنّ المفتاحيّة نعت زائد على حقيقتها تعرف
بمشاهدة فتحها ومشاهدة كيفيّة الفتح الأوّل. لا يعلمه غير الحقّ ؛ لتقدّمه بالذات
على كلّ شيء فإنّه كان ولا شيء معه ، وإن شهد أحد. الآن سرّ ذلك الفتح الإيجادي ، وكيفيّته ، لكان
كالأوّل لا عينه ؛ إذ الفتح الأوّل قد مرّ حديثه.
وأيضا فمعنى
المفتاحيّة نسبة بين الحقيقة المنعوتة بها وبين الغيب الذي بفتحه تثبت هذه النسبة
والصفة للحقيقة المنعوتة بالمفتاحيّة ، وتحقّق النسبة بين الأمرين يتوقّف على
__________________
معرفة ذينك
الأمرين وأحد الأمرين هو الغيب الإلهي الذاتي. و لا خلاف في استحالة معرفة ذاته سبحانه من حيث حقيقتها لا
باعتبار اسم أو حكم أو نسبة أو مرتبة.
فتعذّرت هذه
المعرفة المشار إليها من هذا الوجه ، وقد سبق في ذلك ما يغني عن التكرار والإعادة.
والتحقيق الأتمّ أفاد أنّه متى شمّ أحد من معرفتها رائحة ، فذلك بعد فناء رسمه وانمحاء حكمه ونعته واسمه واستهلاكه تحت سطوات أنوار الحقّ وسبحات
وجهه الكريم ، كما سبقت الإشارة إليه في شرح حال السالك على السبيل الأقوم ، إلى
المقام الأقدم.
فيكون حينئذ
العالم والمتعلّم والعلم في حضرة وحدانيّة رفعت الاشتباه والأشباه ، وحقّقت وأفادت معرفة سرّ قول : «لا إله إلّا الله» مع
انفراده سبحانه في غيب ذاته من حيث حجاب عزّته عن درك البصائر والأبصار ، وعن
إحاطة العقول والأفكار ، وعن قيد الجهاد والاعتبارات والأقطار ، فسبحانه لا إله
إلّا هو العزيز الغفّار ، كما قلنا ولما بيّنّا ونبّهنا على ما به أخبر وإليه أشار
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ). يتضمّن مسائل أربع : أولاها : سرّ الحمد ، ثم سرّ الاسم «الله»
ثمّ سرّ الاسم «الربّ» ، ثم «العالمين».
مقدّمه
ولا بدّ قبل
الشروع في هذا الكلام من تقديم أصل وجيز يكون مذكّرا ببعض ما سلف ذكره في القواعد
ممّا يتعلّق بهذا الأمر المتكلّم فيه ، وعونا على فهم ما يذكر من بعد.
ولهذا المعنى
ونحوه قدّمت تلك القواعد الكلّيّة ، وضمّنتها من كلّيّات العلوم والحقائق ما
يستعين به اللبيب على معرفة ما يأتي بعدها من التفاصيل ، ولأكتفي في
المواضع الغامضة ـ التي لا يتمّ إيضاحها إلّا بمعرفة أصلها ـ بالتنبيه على ما سلف
من كلّيّات الأمور المعرّفة بسرّ ذلك الأصل وحكمه ، فلا أحتاج إلى الإعادة والتكرار
، فممّا سلف ـ ممّا يحتاج إلى استحضاره في هذا الموضع هو : أنّ كلّ
موجود كائنا ما كان فله ذات ومرتبة ،
__________________
ولمرتبته أحكام
تظهر في وجوده المتعيّن بحقيقته الثابتة ، فتسمّى آثار تلك الأحكام في ذات صاحبها
أحوالا. والمرتبة عبارة عن حقيقة كلّ شيء لا من حيث تجرّدها ، بل من حيث معقوليّة
نسبتها الجامعة بينها وبين الوجود المظهر لها والحقائق التابعة لها ؛ فإنّه قد بيّنّا أنّ بعض الحقائق تابع للبعض ، وأنّ التابعة أحوال
للمتبوعة وصفات ولوازم. وبيّنّا أيضا أنّ الموجودات ليست بأمر زائد على حقائق مختلفة ظهرت بوجود واحد تعيّن
وتعدّد في مراتبها وبحسبها ، لا أنّه إذا اعتبر مجرّدا عن الاقتران بهذه الحقائق يتعدّد في
نفسه.
وللحقّ ذات ومرتبة
، ومرتبته عبارة عن معقوليّة نسبة كونه إلها ، وهذه النسبة من حيث هي هي مسمّاة
بالألوهيّة ، وللحقّ سبحانه من حيث هي آثار في المألوهين ، وصفات لازمة تسمّى
أحكام الألوهيّة. وذاته سبحانه من حيث تجرّدها عن جميع الاعتبارات المقيّدة ، وعدم
تعلّقها بشيء ، وتعلّق شيء بها ؛ لعدم المناسبة لا كلام فيها ، كما مرّ بيانه غير
مرّة.
ومن حيث معقوليّة
نسبة تعلّقها بالخلق ، وتعلّقهم بها ، وبحسب أحوالهم من كونهم مجاليه ومظاهره ،
يضاف إليها أحوال ، كالرضى والغضب ، والإجابة والفرح ، وغير ذلك عبّر عنها
بالشؤون. وتضاف إليها من حيث آثار مرتبتها التي هي الألوهيّة في كلّ مؤثّر
فيه ، صفات تسمّى أحكام المرتبة ، كالقبض والبسط ، والإحياء والإماتة ، والقهر
واللطف ، ونحو ذلك فاعلم واستحضر هذه المقدّمة الكلّيّة لتنتفع بها ـ إن شاء الله
تعالى ـ وبعد أن تقرّر هذا ، فلنشرع في شرح الحمد بلسان التنبيه.
معنى الحمد :
فنقول قوله تعالى
: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد من مقام التفصيل والجمع لا الأحديّة ، ولا يصحّ بين
متماثلين ، بل لا بدّ من علوّ المحمود على الحامد من حيث هو محمود بالنسبة إلى
الحامد من حيث هو حامد ، حال الحمد وعلى أيّ وجه ظهر الحمد ؛ فإنّه من حيث صورته
لسان من ألسنة الكمال ، فهو في البداية إشارة إلى كمال قصد الحامد في نفسه ، وإلى
كمال
__________________
مبدئيّة ظهور حكم
القصد ، من كون الحامد متوجّها لإظهار ما شرع فيه بالحمد.
وهو أيضا تنبيه
على معرفة المثني بالمحمود من الوجه الذي بعثه على الحمد ، وبالحال الموجب له ذلك.
وهو ـ أعني الحمد ـ
في الآخر تعريف بكمال ما شرع فيه ، وبحصول ما كان مطلوبا مع أنّه يسري في ذلك حكم
طلبي متعلّقه دوام التحقق بذلك الكمال ، وبقاء حكمه بعد نفوذه على الوجه الأتمّ
وإيناع الثمرات العظيمة الجدوى. ولأوّل الحمد الغيب المفتتح به ،
ولآخره الشهادة المقتضية له وإن انتهى إلى الغيب.
وأمّا السرّ
الجامع بينهما فراجع إلى المقام الذي تساوى نسبة الأطراف والمحامد [بالنسبة] إليه ، ويختص بحمد الحمد
الذي له الشمول والإحاطة ، ومن ألسنته «الحمد لله على
كلّ حال» فافهم.
ثم اعلم ، أنّ
أوّل ما يستفاد من إخبار كلّ مخبر عن أمر مّا ، أو تعريفه له بلسان الثناء أو غيره
كونه حاكما على نفسه بأنّه عارف بما أخبر عنه وأثنى عليه وعرّفه من حيث ما هو مخبر
ومثن ومعرّف.
ثم تقع الفائدة من
تفصيل إخباره وتعريفه وثنائه أنّ ما ادّعاه وحكم به على نفسه وعلى من عرّفه وأخبر
عنه وأثنى عليه هل هو صحيح أم لا؟ ويظهر ذلك بالإصابة والصدق وعدمهما ، فهو في أوّل أمره مدّع معرفة نفسه من حيث حكمه عليها ، ومعرفة المخبر عنه والمثنى
عليه والمعرّف ، وفي الحال الثاني مبرهن على دعواه ، ومعرب عمّا يوضح صحّة ما
ادّعاه لنفسه ولغيره.
وإذا تقرّر هذا ،
فنقول : الحمد من حيث هو مطلق وكلّي لا لسان له ولا حكم يظهر عنه أو يضاف إليه ،
وهكذا شأن جميع الصفات والأسماء والحقائق المجرّدة الكلّيّة ، المنسوبة إلى الحقّ
وإلى الخلق على سبيل الاختصاص أو الاشتراك النسبي. وقد تقدّمت في بيان ذلك تنبيهات
شتّى.
__________________
ثم ليعلم أنّ
الحمد هو الثناء كما مرّ ، وكلّ ثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه فهو تعريف كما
بيّنّا ، وهذا التعريف من المثني قد يكون بذاته أو بأحوالها أو بمرتبته أو
بأحكامها أو بالمجموع. وقد سبقت في تعرّف الذوات وأحوالها والمراتب وأحكامها تلويحات كافية ، ومع
ذلك فنزيده هنا إيضاحا بمثال نذكره في الإنسان ؛ لكونه الأنموذج
الأكمل والمراد بالقصد الأوّل. وإذا عرفت كيفيّة الأمر فيه ، وبالنسبة إليه ، عرف
اطّراده فيما سواه من الموجودات بحسب نسبته منه ؛ إذ ليس شيء خارجا عنه فأقول :
حقيقة الإنسان
عينه الثابتة ، التي قلنا : إنّها عبارة عن نسبة معلوميّته للحقّ وتميّزه في حضرته أزلا حسب مرتبته وعلم ربّه.
وأحوال هذه
الحقيقة ما يتقلّب فيه الإنسان وينضاف إليه ويوصف به من الصور والنشآت والتطوّرات
وغير ذلك من الأمور التي ظهرت بالوجود المستفاد من الحقّ.
ومرتبته عبارة عن
عبوديّته ومألوهيّته.
وأحكام هذه
المرتبة الأمور والصفات المنضافة إليه من كونه عبدا ممكنا ومألوها
، ومن كونها أيضا مرآة للحضرتين : الإلهيّة والكونيّة ، ونسخة جامعة
لما اشتملتا عليه ظاهرا بصورة الحضرة والخلافة.
ولمّا كان جميع ما
يظهر بالإنسان والعالم وفيهما ، ويوصفان به على سبيل الاشتراك وعلى سبيل التخصيص
ليس بأمر زائد على سرّ التجلّي الإلهي الجمعي الأحدي وظهور حكمه فيهما بحسب
الأسماء والصفات وبموجب أحكام النسب العلميّة المتعدّدة بقبول القابل ، كان ثناء
كلّ منهما ـ أعني الإنسان والعالم جمعا وفرادى ـ على الحقّ من حيث كلّ اعتبار وقسم
من الأقسام والاعتبارات المذكورة هو نفس دلالته على أصل ذلك الأمر ونسبه في الجناب الإلهي وإعرابه عنه.
فتارة من حيث
التفصيل ، وتارة من حيث أحديّة الجمع ، مرّة في مقام المضاهاة من حيث
__________________
المثليّة للظهور
بالصورة ، وأخرى في مقام المقابلة بالنقائص ، لما يمتاز به الكون عن موجده ومولاه
، ولما ينفرد به الحقّ في مقام المقابلة ممّا لا يشاركه فيه سواه.
فثناؤه من جهة
التفصيل أنّ كلّ فرد فرد من الحقائق والأجزاء العرضيّة والجوهريّة التي اشتملت
عليه ذات الإنسان والعالم ـ يثني على الاسم والصفة الإلهيّة الناظرة إليه
والمرتبطة بالحقّ من حيث هي بالألسن الأربعة المذكورة : لسان الذات ، والحال ،
والمرتبة ، والحكم.
ومتعلّق الثناء من
حيث الجملة بلسان أحديّة الجمع الحضرة الذاتيّة الجامعة المحيطة بجميع الأسماء
والصفات والعوالم والحضرات والنسب والإضافات. وحكم هذه النسبة الجامعة يظهر في كلّ
قسم من الأقسام المذكورة ، من حيث النسبة إلى الجناب الإلهي ذاتا وصفة وفعلا وإلى المقام الكوني ، ويعبّر عن هذا الحكم الجمعي الأحدي في مقام الحمد ب «حمد الحمد» فإنّ له
في كلّ مقام اسما بحسبه.
وموجب هذا الحمد
أنّ النعمة الذاتيّة الإلهيّة الكبرى ـ التي بها وجود الأشياء وبقاؤها وظهور أحكام الحقائق والأسماء والصفات وآثارها ـ لمّا كانت واصلة
إلى الإنسان. والعالم وما اشتملا عليه ، تارة من جهة الأسماء والصفات والمراتب ،
وتارة لا من حيثيّته بعينها ، اقتضت الحكمة العادلة وحكم الحضرة الكاملة ومقابلة ذلك
بحمد وشكر جامع وحدانيّ النعت ، كامل الوصف ، مستوعب جميع أنواع الحمد ، يظهر
بالكمّل من حيث حمدهم ربّهم به ومن حيث حمده سبحانه نفسه بهم بصورة جامعة بين
الحمدين في حالة واحدة لا حالتين ، حمدا يعلو على حكم الحضرتين : الإلهيّة
والكونيّة ، وما اختصّ بهما من اسم ووصف وعين ، فافهم والله المرشد.
واعلم ، أنّ قولنا
: إنّه لا يمكن أن يصدر ثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه دون معرفة المثنى عليه من حيث هو مثنى عليه لهذا المثني ، وإنّ الثناء في الحقيقة تعريف
والتعريف
__________________
لا يصحّ بدون
معرفة المعرّف ، إنّما ذلك فيما عدا التعريف الذاتي ؛ فالتعريف الذاتي أمر وجداني
والوجدانيات والأمور الذاتيّة من أوضح مراتب العلم وأجلى أقسامه ، فالشيء بهذا الاعتبار هو المثني على نفسه ، والدالّ عليه من وجهين
باعتبارين ، كما أشرنا إلى ذلك في سرّ العلم ، فافهم.
وأيضا فلمّا كانت
الموجودات بأسرها كلمات الله ، كان ثناؤها على الحقّ ـ كما اومأت إليه ـ هو بما استفادته منه وانطبع في مرائي أعيانها من تجلّيه ،
فالمقترن بها من نور الحقّ وسرّ صفاته وأسمائه بما استفادته هو المثني فيهم ومنهم
على الحقّ ، فإذن الحقّ هو المثني على نفسه من حيث مراتب خلقه وبخلقه ، لا هم.
وهكذا الشأن في
الأمور كلّها غير الحمد ، فرجع الأمر كلّه إليه ، وعادت عاقبة كلّ ثناء عليه ،
وكان الحمد صفته ونسبة من نسبه لا تغايره إلّا باعتبار تسميتها حمدا ، فكان الحامد
من هذا الوجه وهذا الاعتبار هو الحمد والمحمود ولتتذكّر ما نبّهت عليه في حمد
الحمد فهذا من سرّه.
واعلم ، أنّه قد
بقيت تتمّة لطيفة من أقسام الحمد وهي ـ مع اندراجها في الأقسام والأصول المذكورة ـ
تفيد مزيد إيضاح ؛ فإنّ لسان مرتبتها أقرب نسبة من المدارك ممّا تقدّم ذكره.
فإذا عرفت هذا ،
فنقول : الحمد ينقسم من وجه إلى حمد المحمود نفسه ، وإلى حمد غيره له. ثم إنّ
الحمد بما يحمد الشيء نفسه أو بما يحمده غيره على أنواع ثلاثة ؛ لأنّه إمّا أن يحمده بصفة فعل أو
صفة تنزيه أو صفة ثبوتيّة قائمة بالمحمود يستحسنها الحامد ، فيثني على المحمود من
حيث هي ، أو عليها من حيث ظهور حكمها بالمحمود وفيه ، بما بيّنه وبينها من
المناسبة الثابتة ؛ بما فيه منها ، كما بيّنّا. وهذا القسم من وجه يندرج في قسم
صفة الفعل ؛ فإنّ الاستحسان ونحوه لا يخلو عن نوع انفعال.
وحمد الحمد يسري
ويظهر في كلّ الأقسام بذاته ولو لم يكن لما صحّ حمد ؛ لما عرفت
__________________
من أنّ الحكم في
كلّ موجود ومرتبة للسرّ الجمعي ، فتذكّر.
ثم الحمد نوعان :
أحدهما ـ وهو العلم ـ الحمد بما عليه المحمود. والثاني أخصّ منه ، وهو الحمد بما
يكون منه ، ويسمّى شكرا. وتعيين الكلمات والصور والصفات والأحوال والكيفيّات الظاهرة
والمعقولة من حيث دلالتها على ما ذكر لا يتناهى ، وليس للحمد والمحمودين والحامدين
قسم ولا مرتبة تخرج عن هذه الأصول التي ذكرناها.
وخاتمة الضوابط في
هذا الباب هو أن تعلم أنّ كلّ ما ينسب إلى الجناب الإلهي بلسان الحمد والثناء لا يخلو إمّا أن يفيد أمرا ثبوتيّا أو سلبيّا ،
فالسلب راجع إلى التسبيح ، والإثبات مندرج في الحمد ، فافهم. ومع أيّ مرتبة من
مراتب الحمد المذكورة حضر معها الحامد حال الحمد ؛ فإنّ النتيجة والجزاء من جهة
الحقّ تكون لذلك الحامد من حيث تلك المرتبة وبحسبها ، ومن حضر مع حمد الحمد وسرّ
الجمعيّة دون التقيد بمرتبة ما أو صفة أو موجب على التعيين ، كان ثمرة حمده الحقّ سبحانه وتعالى ؛ إذ ليس لصاحب هذا الحمد
همّة متعلّقة بكون ولا متقيّدة بمرتبة ولا صفة ولا اسم ولا غير ذلك ، والثمرات
بحسب الأصول ، فافهم وتدبّر سرّ هذا الفصل وحصره وإيجازه ؛ فإنّك إن خرقت بعون
الله حجب جمله ، تنزّهت في رياض تفاصيله ، والله وليّ الإحسان والإرشاد.
الحمد لله
قوله تعالى : (لِلَّهِ).
اعلم ، أنّه قد
نبّهنا على كلّيّات أسرار التسمية والأسماء ومتعلّقاتها وأحكامها بأصول حاصرة شاملة الحكم ، عزيزة المنال ، لا تخرج عن حيطة الذوق المختصّة بمقامها ذوق إلّا بنسبة جزئيّة تفصيليّة شاهدة باندراجها تحت حيطة
الذوق والأصول المذكورة ، وقد سبق في شرح هذا الاسم عند الكلام على البسملة ما
يسّر الحقّ ذكره ، ونحن نذكرها هنا
__________________
أيضا ما يستدعيه
هذا الموضع حسب تيسير الله ومشيئته ، فنقول :
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إضافة الحمد إلى الحقّ من حيث هذا الاسم إخبار ، وهذا
الاسم اسم جامع كلّي ، لا يتعيّن له ـ من حيث هو ـ حمد ولا حكم ، ولا يصحّ إليه
إسناد أمر أصلا ، كما أشرت إلى ذلك في الحمد المطلق وسائر الحقائق المجرّدة.
وكلّ توجّه وسؤال
والتجاء ينضاف إلى هذا الاسم ، فإنّه إنّما ينضاف إليه بنسبة جزئيّة مقيّدة بحسب
حال المتوجّه والسائل والملتجئ ، فلا يذكر ولا يرد مطلقا إلّا من حيث اللفظ فحسب
لا من حيث الحقيقة ؛ فإنّه إذا قال المريض ـ مثلا ـ يا الله ، فإنّما يلتجئ إلى
هذا الاسم من كونه شافيا ومن كونه واهبا للعافية ، وكذا الغريق إذا قال : يا الله
، فإنّما يتوجّه إلى هذا الاسم الجامع للأسماء من كونه مغيثا ومنجيا ونحو ذلك.
وهكذا الأمر في
الحمد لا بدّ من أن يتعيّن بحسب أحد الأمور التي سلف ذكرها [بحيث] يكون هو الباعث
على الحمد والموجب له.
وهذا الاسم كثر
القول فيه والخلاف في أنّه هل هو جامد اسم علم ، أو مشتقّ؟ ولهم في هذا كلام كثير لست ممّن يشتغل بنقله وقلبه ، وإنّما أذكر ما
تقتضيه قاعدة التحقيق بحسب ذوقي ومعرفتي ، وأوفّق بينه وبين ما يقتضيه حكم اللسان ـ
إن شاء الله تعالى ـ ، فأقول :
لا يصحّ أن يكون
للحقّ اسم علم يدلّ عليه دلالة مطابقة بحيث لا يفهم منه معنى آخر ، وسأوضّح لك سرّ
ذلك بلسان الذوق والنظر والاصطلاح اللغوي ، الذي به نزل القرآن العزيز ، وهو ظرف
المعاني والأوامر والإخبارات الشرعيّة.
فأمّا ذوقا فإنّ
الحقّ من حيث ذاته وتجرّده عن سائر التعلّقات لا يقتضي أمرا ولا يناسبه شيء ، ولا
يتقيّد بحكم ولا اعتبار ، ولا يتعلّق به معرفة ، ولا ينضبط بوجه ، وكلّ ما سمّى أو
تعقّل بواسطة اعتبار أو اسم أو غيرهما فقد تقيّد من وجه ، وانحصر باعتبار ، وانضبط
بحكم ، والحقّ من حيث إطلاقه وتجرّده وغناه الذاتي لا يجوز عليه شيء
__________________
ممّا ذكرنا ، ولا
يصحّ عليه حكم سلبي أو إيجابي أو جمع بينهما أو تنزّه عنهما ، بل لا لسان لهذا
المقام ولا حكم عليه ، كما تقرّر ذلك من قبل وتكرّر.
وقد بيّنّا أيضا
فيما مرّ أنّ إدراك حقائق الأشياء من حيث بساطتها ووحدتها متعذّر ؛ لأنّ الواحد
والبسيط لا يدركه إلّا واحد وبسيط ، ويتعذّر إدراكنا شيئا من حيث أحديّتنا ؛ لما سلف ،
ولا خلاف في أحديّة الحقّ وتجرّده من حيث ذاته وعدم تعلّقه بشيء تجرّدا يعلو على كلّ تجرّد وبساطة ،
فإذا عجزنا عن
إدراك حقائق الأشياء في مقام تجرّدها ـ والمناسبة ثابتة بيننا من عدّة وجوه مع عدم
خلّوها عن التعلّق والقيود ـ فلأن نعجز عن إدراك حقيقة الحقّ وضبطها أولى وإذا ثبت
عجزنا عن التحقّق بمعرفتها ، ـ وإن شهدناها ـ فتسميتنا لها باسم يدلّ عليها بالمطابقة دون استلزامه معنى زائدا
على كنه الحقيقة متعذّرة ضرورة.
فإن قيل : هب أنّه
يستحيل أن نضع لذات الحقّ اسما علما مطابقا كما ذكرت ولكن لم لا يجوز أن يسمّي
الحقّ نفسه باسم يدلّ على ذاته بالمطابقة ، ثم يعرّفنا بذلك ، فنعرف ذلك الاسم
وحكمه بتعريفه كون هو المسمّي نفسه على ما يعلمها لا نحن؟
فنقول : الجواب عن
هذا من وجهين. أحدهما الاستقراء ، فإنّ هذا النوع لم نجده في الأسماء ، ولا نقل إلينا عن
الرسل الذين هم أعلم الخلق بالله ، وسيّما نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله الذي نعتقد أنّه أكمل الرسل وأعلمهم صلىاللهعليهوآله. ولو كان لنقل إلينا ، وكيف لا؟ ومثل هذا من أهمّ ما يخبر
به ، وأعزّه وأنفعه ، سيّما فيما يرجع إلى الالتجاء إلى الله والتضرّع في المهمّات
إليه ، وخصوصا والنبيّ صلىاللهعليهوآله يقول في دعائه : «اللهمّ إنّي أسألك بكلّ اسم سمّيت به
نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من عبادك ، أو استأثرت به في علم غيبك .
فهذا ممّا يستروح
منه أنّ السؤال من الحقّ بأعزّ أسمائه وأحقّها نسبة إليه أنفع للسائل وآكد في أسباب الإجابة ونيل المراد
، وأحقّ الأسماء نسبة إليه سبحانه ما كملت دلالته
__________________
عليه وتوحّد معناه
دون مشاركة في المفهوم منه وحيث لم نجد ذلك مع مسّ الحاجة إليه والاسترواح الحاصل
من مفهوم الدعاء النبوي دلّ على عدم ظهور هذا الاسم من الحقّ ، فهو إمّا أمر
متعذّر في نفسه ، أو هو ممّا استأثر به الحقّ في علم غيبه ، كما أخبر صلىاللهعليهوآله.
ولو أمكن حصوله
لأحد من الخلق لحصل لنبيّنا صلىاللهعليهوآله ؛ فإنّه أكرم الخلق على الله ، وأتمّهم استعدادا في قبول
فيضه والتلقّي منه ، ولهذا منح علم الأوّلين والآخرين ، فلو حصل له هذا الاسم ـ مع
ما تقرّر أنّ مثل هذا يكون أجلّ الأسماء وأشرفها وأكملها ؛ لكمال مطابقة الذات
واختصاصه بكمال الدلالة عليها ، دون تضمّنه معنى آخر يوهم اشتراكا ، أو يفهم
تعدّدا أو كثرة أو غير ذلك ـ لم يحتج أن يقول صلىاللهعليهوآله في دعائه : «أو علّمته أحدا من عبادك ، أو استأثرت به في
علم غيبك» ؛ فإنّ من ظفر بأجلّ ما يتوسّل به إلى الحقّ ويرغب به إليه ، استغنى عن
التوسّل بغيره ، سيّما على سبيل الإجمال والإبهام ، لعلوّ هذا الاسم على ما سواه
من الأسماء ؛
فلمّا استعمل صلىاللهعليهوآله في دعائه التقاسيم المذكورة عملا بالأحوط ، وأخذا بالأولى
والأحقّ ، علم أنّه لم يكن متعيّنا عنده.
فإن قيل : قد
رأينا من عباد الله ـ وسمعنا أيضا عن جماعة ـ أنّهم عرفوا اسما ، أو أسماء للحقّ ،
فتصرّفوا بها في كثير من الأمور ، وكانوا يدعون الحقّ بذلك فيما يعنى لهم ، فلم
تتأخّر إجابته إيّاهم فيما سألوا ، وهذا مستفيض وصحيح عند المحقّقين من أهل الله ،
ومن هذا القبيل مسألة بلعام في دعوته على موسى عليهالسلام وقومه بالاسم ، حتى ماتوا في التّيه بعد أن بقوا فيه حيارى
ما شاء الله من السنين ، وقد ذكر ذلك جماعة من المفسّرين في معنى قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) هذا ، مع أنّ بلعام من الغاوين كما أخبر الله. ومع ذلك
نفذت دعوته في موسى عليهالسلام وقومه ؛ لخاصية الاسم.
فنقول في جواب ذلك
: نحن لم نمنع أن يكون للحقّ اسم أو أسماء يتصرّف بها في الوجود من مكّنه الحقّ
منها وعرّفه بشيء منها ، بل نتحقّق ذلك ونتيقّنه ، وإنّما منعنا عموم نفوذ حكم
__________________
الاسم ، وأن يكون
دلالته على ذات الحقّ بالمطابقة التامّة ، دون تضمّنه معنى آخر غير الذات ،
كالصفات والأفعال ونحو هما ، وما ذكرتم لا ينافي ما قرّرناه ، فاعلم ذلك.
والجواب الآخر :
أنّ التعريف الواصل إلينا من الحقّ بهذا الاسم لا يمكن أن يكون بدون واسطة أصلا ،
ونحن نبيّن ذلك ونقرّره باللسان الشرعي والذوقي.
أمّا الشرعي فقوله
تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية.
وأمّا الذوقي فإنّ
أقلّ ما يتوقّف عليه الخطاب حجاب واحد ، وهو نسبة المخاطبة ، الحاصلة بين المخاطب
والمخاطب ، والخطاب من أحكام التجلّي ولوازمه ، والتجلّي لا يكون إلّا في مظهر ،
وأحكام التجلّي تابعة للمظاهر وأحوالها فإنّه قد بيّنّا أنّ تجلّي الحقّ وخطابه
وإن كان واحدا ، فإنّه ينصبغ بحكم ما يصل إليه ويمرّ عليه ، والمخاطب مقيّد
باستعداد خاصّ ومرتبة وروحانيّة وحال وصورة وموطن وغير ذلك. ولكلّ ممّا ذكرنا أثر فيما يرد من الحقّ.
فإذا ما يرد علينا
ويصل إلينا ، لم يبق على ما كان عليه ، ولم يصحّ إدراكنا له بحسبه ، بل بحسبنا.
ثم لو فرضنا أنّه
لم يلحق ذلك الخطاب تغيّر من حيث القابل ونسبته ، كما صحّ وثبت ،
لكان مجرّد تقيّده بالصفة الخطابيّة اختصاصها بمخاطب واحد أو مخاطبين مخرجا
له عمّا كان عليه من الإطلاق والتجريد التامّ ، الذي يقتضيه الحقّ لذاته. فكيف؟
والأمر لا ينفكّ
عن أحكام القيود المنبّه عليها وإذا كان الأمر على ذلك ، فلا مطابقة ؛ لأنّ
المقيّد بعدّة اعتبارات وقيود لا يطابق المطلق التامّ الإطلاق والتجريد ، العاري
عن كلّ نعت وصفة وحكم وقيد واعتبار وغير ذلك.
فإن ادّعى معرفة
هذا الاسم بطريق الشهود من حيث أحديّة التجلّي والخطاب ، فنقول :
__________________
الذوق الصحيح
التامّ أفاد أنّ مشاهدة الحقّ تقتضي الفناء الذي لا يبقى معه للمشاهد فضلة يضبط
بها ما أدرك.
وفي التحقيق
الأتمّ أنّه متى شهد أحد الحقّ فإنّما يشهد بما فيه من الحقّ ، وما فيه من الحقّ
عبارة عن تجلّيه الغيبي الذي قبله المتجلّى له بأحديّة عينه الثابتة المتعيّنة في
العلم ، التي يمتاز بها عن غيره من الوجه الخاصّ دون واسطة ، فاستعدّ به لقبول ما
يبدو له من التجلّيات الظاهرة فيما بعد بواسطة المظاهر الصفاتيّة والأسمائيّة.
وبهذا حصل الجمع
بين قولهم : «ما يعرف الله إلّا الله» وقولنا «لا يمكن إدراك شيء بما ينافيه» وبين
دعوى العارف أنّه قد عرف الله معرفة ذوق وشهود. و من عرف سرّ قرب الفرائض والنوافل وما بيّنّا في ذلك ،
تنبّه لما أومأنا إليه.
وعلى كلّ حال ،
فنحن مقيّدون من حيث استعدادنا ومراتبنا وأحوالنا وغير ذلك ، فلا نقبل إلّا مقيّدا مثلنا وبحسبنا
كما مرّ ، والتجليات الواردة علينا ـ ذاتيّة كانت أو أسمائيّة وصفاتيّة ـ فلا تخلو
عن أحكام القيود المذكورة ، ومن التقط ما قدّمنا من التنبيهات ، وجمع النكت
المبثوثة مستحضرا لها ، استغنى عن مزيد البيان والتقرير ، فإنّه قد سبق ذكر ما
يستنتج منه مثل هذا وغيره من الأسرار الجليلة.
ثم نقول : وأمّا
التقرير العقلي فهو أن يقال : المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره
إلى المسمّى ، فلو كان لله بحسب ذاته اسم ، لكان المراد من ذلك الاسم ذكره مع غيره
لتعريف ذلك المسمّى ، فإذا ثبت بالاتّفاق أنّ أحدا لا يعرف ذات الحقّ البتّة ، لم
يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة فثبت أنّ هذا النوع من الاسم مفقود.
وأيضا فالاسم
الموضوع إنّما يحتاج إليه في الشيء الذي يدرك بالحسّ ويتصوّر في الوهم وينضبط في
العقل ، حتى يمتاز بذلك الاسم الموضوع إلى ذاته المخصوصة ، والحقّ سبحانه يمتنع
إدراكه بالحواسّ ، وكذا تصوّره في الأوهام ، وانضباطه بمدارك العقول ،
__________________
فيمتنع وضع الاسم
العلم له.
إنّما الممكن في
حقّه سبحانه أن يذكر بالألفاظ الدالّة على صفاته ، كقولنا : «خالق» و «بارئ» و «محسن»
ونحو ذلك.
ثم المقصود من وضع
الاسم العلم له هو أن يتميّز ذلك المسمّى عمّا يشاركه في نوعه أو جنسه أو ما كان ،
والحقّ منزّه عن أن يكون تحت جنس أو نوع ، أو يشاركه أحد ، فيمتنع وضع اسم علم له.
ثم إنّ الاسم
العلم لا يوضع إلّا لما كان معلوما ، والخلق لا يعلمون الحقّ من حيث ذاته ، فكان
وضع الاسم العلم له محالا.
وأيضا فالألفاظ
إنّما تدلّ على ما تشخّص في الأذهان ، لا على ما في الأعيان ، ولهذا قيل : الألفاظ
تدلّ على المعاني ، والمعاني هي التي عناها العاني ، وهي أمور ذهنيّة ، والدليل
عليه أنّه إذا رئي جسم من بعيد ، وظنّ أنّه صخرة ، قيل : إنّه صخرة ، فإذا قرب
وشوهدت حركته ، قيل : طير ، فإذا قرب جدّا ، قيل : إنسان ، فاختلاف الأسماء لاختلاف التصوّرات
الذهنيّة يدلّ على أنّ مدلول الألفاظ هو الصور الذهنيّة ، لا الأعيان الخارجيّة.
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا أنّ اللفظ لو دلّ على الوجود الخارجي لكان إذا قال إنسان : العالم قديم ،
وقال غيره : العالم حادث ، لزم كون العالم قديما حادثا معا. أمّا إذا قلنا :
الألفاظ دالّة على المعاني الذهنية ، كان هذان القولان دالّين على حصول هذين
الحكمين من هذين الإنسانين بحسب تصوّرهما الذهني ، ولا تناقض في ذلك.
وإذا صحّ أنّ
مدلول الألفاظ هو ما في الأذهان ، لا ما في الأعيان ، والذي في الأذهان أمور
متشخّصة متقيّدة متميّزة عن باقي المتشخّصات الذهنيّة ، والحقّ من حيث ذاته
معتل عن سائر التشخّصات والتصوّرات الخارجيّة والذهنيّة والعقليّة ، فكيف تكون
الألفاظ اليسيرة المركّبة ـ تركيبا جزئيّا ـ دالّة على ذاته المطلقة دلالة تامّة
على سبيل المطابقة ، دون اشتراك بحكم وضعي ، أو مفهوم مقيّد بقيد وضعي أو اصطلاحي؟! هذا تعذّره بيّن
جدّا.
__________________
وبعد أن قرّرنا
حكم ما قصدنا تقريره باللسانين : الذوقي والعقلي ، فلنتمّم ذلك بذكر ما يقتضيه حكم
اللسان في هذا الاسم ليحصل الجمع والتطبيق الذي التزمته في أوّل الكتاب ، والتوفيق
بين الحكم الذوقي والاصطلاح اللغوي العربي ، والله الموفّق.
قال بعض أهل
العربيّة في الاسم «الله» : إنّه قد خصّ بسبع خواصّ لا توجد في غيره من الأسماء :
إحداها : أنّ جميع
أسماء الحقّ تنسب إلى هذا الاسم ، ولا ينسب هو إلى شيء منها. واستدلّ بقوله تعالى
: (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) فنسب جميع أسمائه إليه ، ولم يفعل ذلك بغيره تنبيها على جلالته.
ومنها : كونه لم
يسمّ به أحد من الخلق ، بخلاف باقي الأسماء. واستدلّوا بقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي هل تعلم شيئا يسمّى بالله غيره؟
ومنها : أنّهم
حذفوا «يا» من أوّله وزادوا ميما مشدّدة في آخره ، فقالوا «اللهمّ» ولم يفعل ذلك
بغيره. ومنها : أنّهم ألزموه الألف واللام عوضا عن همزته ، ولم
يفعل ذلك بغيره.
ومنها : أنّهم
قالوا : يا الله ، فقطعوا همزته ، ولم يفعل ذلك بغيره ، وجمعوا بين «يا» التي هي
للنداء والألف واللام ، ولم يفعل ذلك بغيره إلّا في ضرورة الشعر ، كقوله :
من أجلك يا التي
هيّمت قلبي
|
|
وأنت بخيلة
بالودّ عنّي
|
وأنشد الفرّاء :
مبارك هو ومن
سمّاه
|
|
على اسمك اللهمّ
يا الله
|
وقال آخر :
يا لغلامان اللذان فرّا
|
|
إيّاكما أن
تكسباني شرّا
|
__________________
ومنها
: تخصيصهم إيّاه في
القسم بحالة لا تكون لغيره وهو إدخالهم التاء عليه في قولهم : «تالله لا أفعل»
وقولهم : «وأيمن الله لأفعلنّ».
فتذكّر بهذه
الخواصّ السبع الحكم السباعيّ الذي نبّهت عليه عند الكلام على حروفه ، مرتقيا إلى
الفرديّة الأولى والتربيع التابع له ، ثم إلى التثنية التي لها الأوّليّة والحكم
الخماسيّ التالي له والمقترن به ، واعتبر التطابق الذي بين الحقائق ،
وتبعيّة ما ظهر من الجزئيّات لما بطن من أصولها الكلّيّة ، ينفتح لك أبواب شتّى من
المعارف العزيزة
والله المرشد.
اشتقاق لفظ
الجلالة
وأمّا اشتقاقات هذا الاسم الكريم فأحدها مأخوذ من أله الرجل إلى الرجل يأله إلاها : فزع إليه فآلهه ، أي أجاره
وآمنه.
والاشتقاق الثاني
مأخوذ من وله يوله ، وأصله «ولاه» فأبدلت
الواو همزة ، كما قالوا : وساد وإساد وشاح وإشاح. والوله عبارة عن المحبّة الشديدة
، وكان يجب أن يقال : مألوه كمعبود ، لكن خالفوا البناء ليكون اسم علم ، فقالوا :
إلاه. كما قيل للمحسوب والمكتوب : حساب وكتاب.
الاشتقاق الآخر
مأخوذ من لاه يلوه. إذا احتجب.
والآخر «لاه يلوه»
إذا ارتفع.
والآخر اشتقاقه من
ألهت بالمكان إذا أقمت به.
والآخر اشتقاقه من
الإلهيّة ، وهي القدرة على الاختراع.
والوجه الآخر في
اشتقاقه قالوا : الأصل في قولنا : الله الهاء التي هي كناية عن الغائب. وذلك أنّهم
أثبتوا موجودا في نظر عقولهم ، وأشاروا إليه بحرف الكناية ، ثم زيد فيه لام الملك
، لما علموا أنّه خالق الأشياء ومالكها ، فصار «له» ، ثم زيدت فيه الألف واللام
تعظيما ، وفخّموه توكيدا لهذا المعنى ، فصار بعد هذه التصرّفات على صورة قولنا : «الله»
والآخر : أله
__________________
الرجل يأله ، إذا
تحيّر في الشيء ولم يهتد إليه والوله ذهاب العقل.
والآخر وله الفصيل
إذ ولع بأمّه. والمعنى أنّ العباد مولهون ومولعون في التضرّع إلى الله في كلّ
الأحوال.
والآخر اشتقاقه من
أله يأله إلاهه ، كعبد يعبد عبادة ، وقرأ ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي عبادتك.
وقيل أيضا. أصل
هذا الاسم «إله» ثم أدخلت عليه الألف واللام ، فصار الإله ، ثم خفّفت الهمزة بأن
ألقيت حركتها على اللام الساكنة قبلها ، وحذفت ؛ فصار اللاه ، ثم أجريت الحركة
العارضة مجرى الحركة اللازمة ، فأدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكّنت
حركتها ، فقيل «الله».
فبهذا قد بيّنّا
ما يختصّ بهذا الاسم الجامع من الشرح من حيث الذوق ومن حيث البحث النظري ، ومن حيث
الاصطلاح اللغوي.
تطابق معاني الاسم
ظاهرا وباطنا
فأنت إذا اعتبرت
وجوه اشتقاقاته وما فيها من المعاني ، وأسقطت ما هو كالمكرّر منها من حيث اندراج
بعضها في البعض ـ اندراجا معنويّا ـ علمت أيضا صورة المطابقة بين معاني هذا الاسم
من حيث ظاهره ، وبين الأسرار الباطنة المنسوبة إليه فيما مرّ. ولو لا التطويل
لعيّنتها لك ، ولكن فيما ذكر غنية للّبيب المتبصّر.
ولمّا لم يصحّ
استناد العالم إلى الحقّ من حيث ذاته ؛ لما بيّنّا ، بل من حيث معقوليّة نسبة كونه
إلها ، وتعقّل الحقّ من كونه إلها اعتبار زائد على ذاته ، وتعلّق العالم بالحقّ
والحقّ بالعالم إنّما يصحّ بهذه النسبة ، فلا جرم صار مرجع سائر الأسماء والمراتب
والنسب إلى هذه النسبة الواحدة الجامعة لسائر ما ذكر ؛ فإنّها أصل كلّ حكم واسم
ووصف ونعت ونسبة وغير ذلك ممّا يسند إلى الحقّ سبحانه ، ويضاف إليه ، فافهم والله
المرشد.
ربّ
وإذا وضّحنا سرّ
الحمد ، ومراتبه وأقسامه ، وسرّ الاسم «الله» المضاف إليه الحمد في
هذه السورة ،
فلنبيّن سرّ الاسم «الربّ» التالي له ، فنقول :
هذا الاسم لا يعقل
ولا يرد إلّا مضافا ، وله من حيث الاصطلاح اللغوي خمسة أحكام تستلزم خمس صفات.
فأمّا الأحكام
فالثبات ، والسيادة ، والإصلاح ، والملك ، والتربية ؛ لأنّ الربّ هو المصلح ،
والسيّد ، والمالك ، والثابت والمربّي.
صلاحه تعالى
فأمّا سرّ كونه
مصلحا فلأنّ الممكنات من حيث هي وبالنظر إليها ليس نسبتها إلى الوجود وقبوله
والظهور به بأولى من بقائها في مرتبة إمكانها من حيث نسبة اللاقبول واللاظهور ،
فترجيح الحقّ جانب إيجادها على بقائها في حجاب إمكانها ـ مع ثبوت أنّ الخير في
الوجود والشرّ في العدم ، وكونه سبحانه يزيد العبد إلى نعمة الإيجاد من كونه
إيجادا فحسب نعما أخر لا تحصى ولا يقدر أحد على أداء شكر اليسير منها ، كالصلاح التامّ ونحوه ـ دليل
على رعاية ما هو الأنفع في حقّ العبد والأولى والأصلح.
حكم السيادة
وأما السيادة فثابتة للحقّ من حيث افتقار غيره إليه في استفادة الوجود
منه وغناه بذاته عن استفادة الوجود من الغير ؛ لأنّه عين الوجود ومنبعه ، والغنى
حقيقة إضافيّة سلبيّة تدلّ على عدم احتياج الغنيّ إلى غيره فيما ثبت له الاستغناء
عنه ، فقد يكون أمرا واحدا.
وقد يكون أكثر من
واحد ، مع تعذّر ظهور حكمه على الإطلاق ، كما بيّنّا في سرّ الحمد وغيره من
الحقائق.
وله ـ أعني الغنى ـ أربع مراتب :
مرتبة ظاهرة محلّ حكمها الأوّل عالم الدنيا ، ومادّته
__________________
متاع الدنيا.
ومرتبة باطنة ، وهي على قسمين : قسم لا تتعدّى فائدته موطن الدنيا ، وهو الغنى
النفسي الحاصل للقانعين من أهل النفوس الآبية والمتمكّنين من التصرّف في الموجودات بأسرار الأسماء
والحروف والتوجّهات الباطنة ، والعلم بالكيمياء والتسخيرات. وقسم لا تتقيد فائدته
بموطن دون موطن ، وبحال دون حال ، كحال الواثقين بالله والمتوكّلين عليه
والمتمكّنين من التصرّف مع تركه ؛ إيثارا لما عند الله وتأدّبا معه.
وقسم جامع بين سائر الأقسام المذكورة.
ومراتب الفقر في
مقابلة هذه المراتب المذكورة ، فكلّ نسبة عدميّة تعقل في مقابلة كلّ مرتبة من
مراتب الغنى هي مرتبة من مراتب الفقر ، والإطلاق محال كما مرّ ، والفقر الجامع
المقابل للغنى الجامع لا يصحّ إلّا للإنسان الكامل ، فافهم.
حكم الثبات
وأمّا حكم الثبات ـ
وهو الحكم الثالث من الخمسة التي للاسم «الربّ» ـ فهو ثبات الحقّ من حيث ذاته ،
ومن حيث امتيازه عمّا سواه بالأمور الثابتة له بكلّ وجه وعلى كلّ حال ، وفي كلّ
مرتبة دون مشارك ، وقد ذكرتها على سبيل الحصر في مراتب التمييز من قبل ، فلا حاجة
إلى إعادتها ، ومن وقف عليها ، علم سرّ ما أشرنا إليه.
حكم الملك
وأمّا حكم الملك
فظاهر في الكون من حيث إحاطة الحقّ به علما ووجودا وقدرة ، وكون مشيئة الكون تابعة
للمشيئة الإلهيّة كما أخبر وأظهر وعلّم ، فهو يفعل أبدا ما يشاء كيف شاء ، ومتى
شاء ، وبما شاء ، وفيما شاء.
حكم التربية
وأمّا حكم التربية
فيختصّ بالإمداد الحاصل لكلّ موجود ممكن من الحقّ ،
__________________
ليدوم وجوده ويبقى
؛ فإنّ الوجود لمّا لم يكن ذاتيّا له ، بل مستفادا ، افتقر إلى الإمداد بما به
بقاؤه ، وإلّا فالحكم العدمي الإمكاني يطلبه في الزمن الثاني من زمان وجوده وهو
قابل له ، فدوام حكم الترجيح الحاصل بالإبقاء ، وشروطه ممّا لا يستغني عنه ممكن في
وجوده.
لوازم الأحكام
وأمّا الصفات
الخمس اللازمة للأحكام فهو التلوين المقابل للثبات ، والعبوديّة المقابلة للسيادة
، والإعدام والإهلاك في مقابلة الإصلاح والإبقاء والإيجاد ونحو ذلك ، والمملوكيّة
المقابلة لنسبة المالكيّة ، وعدم قبول التربية والظهور بحكمها في مقابلة التربية.
وبعض هذا يندرج في
البعض ؛ فالتلوين مندرج في الثبات ؛ لأنّه عبارة عن التغيّر ، وحكم التغيّر ثابت
لنفس التغيّر والمتغيّر ، والمحو ثابت في الإثبات ، وكذلك الممحوّ ثابت له أنّه ممحو ، وأنّه ممتاز بهذا الحكم عن سواه من
حيث ما يغايره ، فحكم الثبات شامل كلّ شيء ؛ لأنّ كلّ حكم يقتضيه أمر لذاته ـ
كائنا ما كان ـ فهو ثابت له ، وثابت اختصاصه به أو مشاركة غيره له فيه.
وأمّا اندراج
العبوديّة في السيادة فهو أنّ العبوديّة عبارة عن نسبة جامعة بين نسبتي الفقر والانفعال
والمتضايفان لمّا توقّف معرفة كلّ منهما وظهوره ، على الآخر ، علم أنّه لا غنى
لأحدهما عن الآخر ، هذا سرّ الأمر من حيث الحاجة.
وأمّا سرّه من حيث
الانفعال فإنّ الذوق الصحيح والكشف التامّ الصريح أفاد أنّه لا يؤثّر مؤثّر حتى
يتأثّر ، فأوّل ما يظهر حكم الانفعال في الفاعل ، ثم يسري منه إلى من يكون محلّا
لأثره وظهور فعله.
وأمّا المالكيّة
والمملوكيّة فمندرجة في مرتبتي الفعل والانفعال ؛ لأنّ روح المالك هو
__________________
القدرة والتمكّن
من التصرف والتصريف ، دون قيد وتحجير بحال دون حال ، وعلى وجه دون وجه ، وفي أمر
دون أمر ، والسرّ في ذلك ما أسلفناه.
سرّ التربية
وأمّا التربية فهي
حقيقة كلّيّة تتضمّن معظم أسرار التدبير الوجودي والحكم الكوني والربّاني ، وهي
وإن اندرجت من بعض الوجوه فيما مرّ ذكره ، فلها امتياز من وجوه شتّى.
منها أنّ الإبقاء
قد يحصل بمنع ما ينافي البقاء عن أن يغلب الشيء الذي يراد بقاؤه ويقهره بحيث يذهب عينه أو يخفى ويضعف حكمه ، وقد يكون بإمداد ما يوجب غلبة الضدّ
المقتضي للفناء ، وعلى كلّ حال فأنا أبيّن سرّ التربية وأدرج فيه جملا من الأسرار
الربانيّة و الكونيّة المتعلّقة بهذا الباب ممّا يعظم نفعه وتجلّ جدواه
، والله الهادي ، فأقول :
التربية مخصوصة
بالأغذية التي يدوم بها الحياة والبقاء ، والغذاء عبارة عمّا به قوام الصورة
الوجوديّة والحياة القائمة بها ، وله ظاهر وباطن.
فلمطلق الصورة
الوجوديّة الأعيان وأحكامها ، وللصورة المتشخّصة من حيث الظاهر المشابه لما منه
تركيب الصورة الظاهرة ، ومن حيث الباطن ما لا تعرف تلك الحقيقة إلّا به ولا تظهر
ذاتها أو حكمها بدونه ، وما عدا هذين الأصلين فتبع لهما وفرع عنهما.
ونسبة كلّ صورة
كونيّة معيّنة إلى مطلق الصورة الوجوديّة نسبة الأعضاء ، ولكلّ واحد منها ارتباط
بمرتبة روحانية من مراتب الأرواح ، ولكلّ روح استناد إلى حقيقة إلهيّة من الأسماء
، وللحقائق نسب مختلفة توجب في الأرواح قوى مختلفة ، يظهر سرّ ذلك وأثره في مظاهر
الأرواح من الصورة العلويّة وغيرها ، بواسطة الحركات والتشكلات والامتزاجات
المعنويّة والروحانيّة والصوريّة ، الفلكيّة والكوكبيّة وسواها ، وبين الجمع تناسب من وجه ، وتنافر من وجه آخر.
__________________
ومحلّ سلطنة الاسم
، «الربّ» وحكمه في كلّ وقت من ذلك كلّه الغالب ظهورا ومناسبة وقوّة وهكذا الأمر
في الصور الإنسانيّة ، بمعنى أنّ لكلّ عضو من أعضاء الإنسان قوّة ، ولكلّ قوّة
ارتباط بحقيقة روحانيّة وأسمائيّة وكونيّة صوريّة مادّية ، وكلّ آخذ من الكلّ ،
معط للكلّ ، كلّ فرد لفرد آخر يناسبه ، والنسب والرقائق والإضافات تنشأ فيما بين
ذلك ، ويظهر حكمها ، وهكذا الأمر في مطلق الصورة الوجوديّة مع الحقائق الغيبيّة
التي هي الصورة المعنوية التي طابقتها هذه الصورة الظاهرة العامّة الكونيّة.
ويمتاز الإنسان من
بين سائر الصور الوجوديّة بعدّة أمور ، منها أنّ لكلّ ما عداه غذاء خاصّا من حيث
مرتبة خاصّة على وجه خاصّ لا يتعدّاه ولا يتأتّى له التغذّي بسواه ، والإنسان
بجمعيّته وإطلاقه يتغذّى بجميع أنواع الأغذية ، هذا له من حيث صورته
، وغذاؤه من حيث معناه وباطنه قبوله جميع أحكام الحقائق وآثار الأسماء والنسب ،
وظهوره بها ، وإظهاره كلّها والاتّصاف بجميعها.
واعلم ، أنّ
الغذاء ـ على اختلاف ضروبه وأنواعه ـ مظهر صفة البقاء ، وهو من سدنة الاسم «القيّوم»
ولا يتغذّى شيء بمنافيه من الوجه المنافي ، والمراد من التغذّي حبّ دوام ظهور
الاسم «الظاهر» وأحكامه.
وسرّ التفصيل في
عين الجمع بتجلّي الاسم النوري الذي هو الوجود والتنزّه عنه إشارة إلى عود التجليات
عند انسلاخها من ملابس أحكام المتجلّى له ، وانتهاء حكمها فيه إلى معدنها الذي هو
الغيب الذاتي والمرتبة المشار إليها بقوله : «كنت كنزا مخفيّا لم أعرف» الحديث ، ومقام : «كان
الله ولا شيء معه» و «الله غنيّ عن العالمين» ونحو ذلك ، وقد سبق في ذلك تنبيهات
كافية.
فمتى كاد الاسم «الظاهر»
أن يميل من مقام اعتداله ميلا يوجب انصباغ الباطن بحكمه ؛ لكونه صاحب الوقت
والغاية ، أظهر الاسم «الباطن» قوّته وغناه الذاتيّ.
ومتى بالغ «الباطن»
في ترجيح مرتبة بنسبة غناه ونزاهته ، أظهر «الظاهر» سرّ توقّف
__________________
معرفته عليه ،
وكون الظاهر مطلوبا للباطن والظاهر مستغن ، فلا تزال المجاذبة والمقارعة واقعة بين
المرتبتين.
والحافظ للحدّ ـ
أعني الإنسان الكامل ـ برزخ بين الحضرتين ، جامع لهما ، بيده الميزان في قبّة أرين
، دائم النظر إلى عين الميزان ، الذي هو مقام الاعتدال ونقطة وسط الدائرة.
فتراه حارسا واقيا
حافظا بأحديّة الجمع صورة الخلاف ، مظهرا ناظما فاصلا يطلب من ربّه أن يجوع
يوما ويشبع يوما ، تأسّيا بصورة الأصل ، وتطبيقا تناسبيّا بين حكم الحقائق
الغيبيّة المجرّدة الباطنة والموادّ الصوريّة التركيبيّة الظاهرة ؛ فإنّ العصمة من
لوازم الاعتدال وأحكامه على اختلاف مراتب الاعتدال المعنويّة والروحانيّة
والطبيعيّة بالنسبة إلى الصور البسيطة و المركّبة ، وضدّ الاعتدال ـ حيث كان ـ يلزمه الفناء
والاختلال والتحليل وظهور الأحكام الشيطانيّة ونحو ذلك ، فاعتبر ما ذكرته لك
كلّيّا عامّا وجزئيّا في كلّ مرتبة وصورة معيّنة ، وعضو ظاهر وباطن ، وأمر طبيعي
أو روحاني ، تستشرف على أسرار غريبة عزيزة ، عظيمة الجدوى.
غذاء الروح وغذاء
الجسد
ثم اعلم ، أنّه
كما اختصّ كلّ مزاج صوري باعتدال يخصّه ويناسبه وبحفظه تنحفظ صحّة ذلك المزاج ،
ويدوم بقاء صاحبه ، ويظهر أحكام القوى البدنيّة في ذلك المزاج ، على الوجه الموافق
والميزان المناسب بالمزج المتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط ، فيتأتّى لجميع
القوى أن تتصرّف في أفانين أفعالها ، وتتعلّق المدارك بحسب مراتبها بمدركاتها ونحو
ذلك ، كذلك للروح الإنساني قوى وصفات واختلاف يحصل بينها امتزاج روحاني ومعنوي يقوم منها نشأة نورانيّة
، ولذلك المزاج أيضا اعتدال يخصّه ، وميزان يناسبه ، بحفظه تنحفظ تلك النشأة ،
ويتأتّى لقواها التصرّف فيما أبيح له التصرّف فيه ، على نحو ما سبق التنبيه عليه
في المزاج الصوري.
__________________
فمتى انفتحت عين
البصيرة لإدراك تلك النشأة وخواصّها وقواها وصفاتها وأغذيتها وأحكامها ، سرى حكم
النشأة الباطنة وقواها في النشأة الظاهرة سريان حكم صورة الاسم «الباطن» والاسم «الظاهر»
فيها عند تمام المحاذاة وارتفاع الحجب المانعة من الإدراك ، فإنّها الجامعة بين
الصورتين ، والفائزة بالحسنيين وهي المخلوقة على الصورة ، والصورة الظاهرة
الإنسانيّة جزء منها ، فإنّ الصورة الظاهرة نسخة الاسم «الظاهر» والأحوال
الإنسانيّة ـ من حيث تبعيّتها لعينه الثابتة وحال كونها بأسرها ثابتة ـ هي نسخة
صورة الاسم «الباطن».
وهذه الصورة
المنتشية و الناتجة بينهما من الصفات والعلوم الإلهيّة والأخلاق
بالامتزاج المذكور ، التالي للامتزاج المختصّ بالنشأة الظاهرة ، هي نسخة صورة
الحقّ من حيث حضرة الجمع والوجود وقد مرّ حديثها.
وإن شئت قلت : من
حيث الاسم «الله» الجامع ـ كيف ما أردت ـ بشرط معرفة المقصود وخرق حجب العبارات.
وهذه هي الولادة الثانية ، التي يشير إليها المحقّقون ، ولها البقاء السرمدي والمقام
العليّ ، وأهل الأذواق فيها على مراتب وحصص نشير إليها فيه بعد ، إن شاء الله. ومن
هذا المقام يعرف سرّ الاسم «الربّ» وكينونته في العماء ، كما أخبر صلىاللهعليهوآله لمّا سئل : أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه قال : «كان في
عماء ما فوقه هواء ، وما تحته هواء» الحديث ، ويعرف العماء أيضا وما يختصّ به من
الأسرار ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، ولتحصيل معرفته فليعمل العاملون.
حكمة العارفين
ثم نقول : فإذا
انفتحت عين البصيرة ـ كما قلنا ـ واتّحد نورها بنور البصر ، وهكذا كلّ قوّة من قوى
النشأة المذكورة تتّحد بآلات النشأة الظاهرة ويتّصل حكم بعضها بالبعض ، عرف
صاحبها حينئذ سرّ تقويم الصحّة وحفظها على النفس ، وتصريف كلّ قوّة فيما خلقت له
__________________
ولم يتجاوز بها
حدّها ، ولم يمزج بين الصفات ، ولم يخلط بين المراتب وأحكامها ، وأقام العدل في
نفسه وخاصّة رعاياه ، وتحقّق بالاسمين : «الحكم» «العدل» وغيرهما ،
وصار صحيح الكشف ، صحيح المزاج الروحاني ، كنبيّنا صلىاللهعليهوآله والكمّل قبله وبعده من ورثته.
فما كان كمال كشفه
إدراكه في مرتبة المثل ، كشفه ممثّلا ، وما كان كمال كشفه أن يدرك في الحسّ ،
أدركه في الحسّ ، وما كان كمال كشفه أن يدرك في عالم المعاني المجرّدة والحضرات
الروحانيّة ، أدركه في مرتبته حيث كان على ما هو عليه.
أخبرني شيخي
وإمامي الإمام الأكمل رضي الله عنه : أنّه منذ تحقّق بهذا الأمر ما استعمل قوّة من
قواه إلّا فيما خلقت له ، وأنّ قواه شكرته عند الحقّ ؛ لإقامة العدل فيها وتصريفه
إيّاها فيما خلقت له ، وهذا من أعلى صفات مرتبة الكمال عند من عرف ما الكمال ، فكن
يا أخي ممّن عرف ـ إن شاء الله ـ
تخبط المحجوبين
ثم نقول : وفي
مقابلة صاحب هذا الذوق المحجوبون عن عالم الكشف ، وهم الذين بعدت نسبة أمزجتهم
الروحانيّة عن الاعتدال المذكور ، بطمس قواهم النفسانيّة ، واستيلاء حكم بعض
الصفات الطبيعيّة بقهرها لباقي الصفات ، وانصباغ ما عدا الغالب بحكم تلك
الصفة الغالبة انصباغا أوجب اضمحلال خاصّيّته واستهلاكه ، كما أشرنا إلى ذلك في
التجلّي الذاتي بالنسبة إلى المتجلّى له التامّ التوجّه والاستعداد.
فالمزاج الروحاني ـ
الذي للجاهل الفدم ، الغليظ ، الأحمق ، الجافي ، البعيد الفطنة جدّا ـ في
مقابلة المزاج الروحاني المختصّ بصاحب الكمال المذكور ، الذي يبصر بالحقّ ويسمع به
، ويبصر أيضا به الحقّ ويسمع به ، كما ورد في الحديث الثابت.
ونظير هذا الذي
ذكرناه ـ من الصور المركبة بالنسبة إلى الاعتدال الطبيعي في الأمزجة ـ مزاج المعدن
بالنسبة إلى مزاج الإنسان ، الذي هو أقرب الأمزجة نسبة إلى الاعتدال التامّ.
__________________
وبين مرتبة الكامل
وحاله ، ومرتبة الجاهل المحجوب المذكور وحاله مراتب ودرجات.
فمن كانت نسبته
إلى المرتبة الكماليّة أقرب ، كان حظّه من الكشف والصورة الإلهيّة والعلم بالحقّ
وغير ذلك من صفات الكمال بمقدار ذلك القرب وتلك النسبة ؛ ومن كانت نسبته إلى المرتبة التي في مقابلة
الكمال أقرب ، كانت حجبه أكثر ، وحظّه من الصورة والكشف وغيرهما ممّا
ذكرنا أقلّ.
والميزان الإلهي
في كلّ زمان هو كامل ذلك الزمان وحاله وكشفه ، ومنه يعلم حكم الاعتدال والانحراف
في مطلق الصورة الوجودية والصور المتعيّنة الإنسانيّة ، وفي باقي مراتب الاعتدال ،
كالاعتدال المعنوي والروحاني وغيرهما ، ولكلّ ما يغتذي به من صور الأغذية خواصّ
وقوى روحانيّة غير القوى والخواصّ المشهودة والمدركة من حيث صورته وأثره في
الأجسام ، ولتلك الخواصّ أحكام مختلفة على نحو ما ذكر في الإنسان وغيره ، وبين
الأغذية ومن يغتذي بها ـ من حيث المزاج الصوري والمزاج الروحاني والمعنوي ـ
مناسبات من وجه ومنافرات من وجه ، والحكم في كلّ وقت للاسم «الربّ» إنّما يظهر
بالغالب منها ، وأكثرها خفية تعسر معرفتها إلّا بتعريف إلهي.
فعلى قدر المناسبة
وصحّة المزاج الروحاني المذكور يقوى الكشف ، ويصحّ ويكثر ، وتعلو مرتبته ، وتشرف
نتائجه من العلوم والأذواق والتجلّيات بشرط اقتران حكم الاسم «الأوّل» ومساعدته ،
كما نبّهنا على ذلك غير مرّة ، وعلى قدر المباينة وقلّة المناسبة وضعف الامتزاج
والمزاج الروحانيّين يكثر الحجب ، ويقلّ الكشف والعلم والإدراك الذوقي ولوازم ذلك
كلّه.
ولهذا المقام من
حيث ما يتكلّم فيه الآن تتمّات أخر لكن ذكرها في شرح إيّاك نعبد أولى ، فأخّرتها
لذلك ، والله الميسّر.
ثم اعلم ، أنّ
للطبيعة ـ من حيث هي ـ أحكاما ولها من حيث تعيّن حكمها في مزاج مزاج
__________________
أحكام ، وللأرواح
أيضا صفات وأحكام ، وللأمر الجامع لهما أحكام ، ولمرتبة الاجتماع ـ من حيث هي ـ أحكام ، وللوازم
التابعة للاجتماع بها والأمر الجامع أحكام.
فالتدريج والرياضة
والتهذيب والسياسة ينتفع بها في خروج ما في القوّة إلى الفعل ورسوخ بعض الأحكام
العارضة المحمودة لتصير ذاتيّة أو كالذاتيّة ، وفي إزالة بعض الصفات ورفع أحكامها
المذمومة لئلا تترسّخ فيتعذّر الانسلاخ عنها ، ويبقى في المحلّ أحكام ثابتة مضرّة وكلّ ذلك ليتدرّج الإنسان ، فيصل إلى ما
يناسبه من الاعتدال المعنوي والروحاني والصوري المثالي وغير المثالي ، ويستمرّ
حكمه المؤجّل إلى الأجل المعلوم المقدّر وغير المؤجّل.
فمن عرف ما ذكرناه
، عرف سرّ الصورة والظهور بها ، وسرّ الكشف والحجاب وما للأغذية في ذلك من
الحكم ، ويعرف سرّ الحلال من الأطعمة والحرام ، وسرّ المجاهدة والرياضة وغير ذلك
من الأسرار العظيمة المصونة عن الأغيار.
المزاج يغلب قوّة
الغذاء
واعلم ، أنّه كما
أنّ الغذاء إذا ورد على محلّ قد غلب عليه كيفيّة مّا ، فإنّه يستحيل إلى تلك الكيفيّة ، وكون
المزاج ـ إذا كان قويّا ـ أبطل قوة الغذاء وحكمه بغلبة قوّته عليه ، فلم يظهر أثر
للخواصّ المودعة في ذلك الغذاء ، التي لو لم تصادف هذا المقام والقاهر ، لبدا
أثرها :
فكذلك حكم الخواصّ
والقوى الروحانية المودعة في كلّ غذاء مع المزاج الروحاني الذي للمتناول ، الحاصل ـ كما قلنا ـ من
اجتماعات القوى الروحانيّة والصفات النفسانيّة العلميّة منها والعمليّة ؛ فإنّ هذا
المزاج ينتهي في القوّة إلى حدّ يقلب أعيان الصفات الروحانيّة إلى الصفة المحمودة الكاملة ،
الغالب حكمها على صاحب هذا الحال والمزاج الروحاني المشار إليه ، ويضمحلّ قواها
وخواصّها في جنب قوّة هذا الشخص وروحه.
__________________
وهكذا الأمر في
الطرف المذموم ومقام النقائص بالنسبة إلى من هو في مقابلة أهل الكمال ؛ فإنّ الفيض
الإلهي وآثار القوى العالية والتوجهات الملكيّة تصل إليهم في غاية التقديس والطهارة
متميّزا بعضها عن بعض ، فإذا اتّصلت بهم انصبغت بحسب أحوالهم
والصفة الناقصة المذمومة المستولية عليهم ، فانقهرت الآثار الأسمائيّة والتوجّهات
الروحانيّة تحت حكم طبيعتهم وأمزجتهم المنحرفة الناقصة ، وظهر عليها سلطان صفاتهم
المذمومة ، فحجبتها وأخفت حكمها ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في سرّ التجليات ،
فافهم.
ومن تفاصيل هذا
السرّ والمقام تستشرف على سرّ الحلّ والحرمة أيضا ، كما نبّهت عليه ، فتعلم أنّ
ثمّة أمورا هي بالنسبة إلى بعض الخلق نافعة وبالنسبة إلى غيرهم غير نافعة ، ونظير
هذا في المرتبة الطبيعيّة الظاهرة أشياء شتّى كالعسل ـ مثلا ـ بالنسبة إلى المحرور
المحترق المزاج ، وبالنسبة إلى المبرود والمرطوب الغالب على مزاجه البلغم.
والضابط لك في هذا
الباب أنّه مهما ظهر لك حكم من هذه الأحكام في الطبيعيّات فاعتبر مثله في المراتب
الروحانيّة والصفات المعنويّة النفسانيّة ، واستحضر ما أسلفت لك في النكاحات
الخمسة وأسرارها من أنّ الأحكام الطبيعيّة ناتجة متحصّلة عن الأحكام الروحانيّة ، والروحانيّة ناتجة عن
الحقائق الغيبيّة فإن كنت من أهل الكشف والشهود ، فتذكّر بهذا الكلام وتنزّه ،
وإلّا فسلّم واطلب ؛ فإنّ الرزّاق ذو القوّة المتين ، ما هو على الغيب بضنين
ولتعتبر أيضا بعد اعتبارك لتبعيّة الطبيعيّات للروحانيّات تولّد
الأرواح الجزئيّة عن الأمزجة الطبيعيّة ، وما للمزاج فيها وفيما يختصّ بها من
الأحكام والآثار من حيث إنّها متعيّنة بقدر الأبدان ، وبحسب المزاج ، و ارق به بعد ذلك إلى حكم الأعيان مع الأسماء والوجود الواحد
المطلق ، على ما نبّهتك عليه أوّلا ، وانظر ما يبدو لك من المجموع ، تر العجب
العجاب ، وتنزّه في عموم حكم الغذاء في كلّ مرتبة ، فغذاء الأسماء أحكامها بشرط
المظاهر التي هي محلّ الحكم ، وهذا هو عالم المعاني والحقائق الغيبيّة ، وغذاء الأعيان
__________________
الوجود ، وغذاء
الوجود أحكام الأعيان ، وغذاء الجواهر الأعراض ، وغذاء الأرواح علومها وصفاتها ،
وغذاء الصور العلويّة حركاتها وما به دوام حركتها الذي هو شرط لدوام استمدادها من
أرواحها المستمدّة من الحقائق الأسمائيّة ، وغذاء العناصر ما به بقاء صورها المانع
لها من الاستحالة إلى المخالف والمضادّ ، وغذاء الصور الطبيعيّة الكيفيّات التي
منها تركّبت تلك الصورة والمزاج ، فالحرارة لا تبقى إلّا بالحرارة ، وكذا البرودة
وغيرهما من الكيفيّات الروحانيّة ، والرطوبة الأصليّة التي هي مظهر
الحياة لا تبقى إلّا بالرطوبة المستمدّة من الأغذية لكن لا يتأتّى
قيام المعنى بالمعنى وانتقاله إليه حقيقة وحكما إلّا بواسطة الموادّ والأعراض
اللازمة وهي شروط يتوقّف الأمر عليها ، وليست مقصودة لذاتها ولا مرادة بالقصد
الأوّل الأصلي ، فوظيفتها أنّها توصل المقصود وتنفصل ، فيعقبها المثل ، وهكذا
الأمر في كلّ غذاء ومغتذ على اختلاف مراتب الأغذية والمغتذين الذين سبق ذكر
مراتبهم.
ولمّا كان الوجود
واحدا ولا مثل له كانت تعيّناته الحاصلة والظاهرة بالأعيان هي التي يخلف بعضها
بعضا مع أحديّة الوجود ، فافهم.
وهنا أسرار لا
يمكن كشفها ، لكن من تدبّر ما اومأت إليه واطّلع على مقامه وأصله ، عرف سرّ ظهور
صور العالم بأسرها ، وسرّ أرواحه والنشآت الدنياويّة والأخرويّة والبرزخيّة وغيرها
، وعرف ما تنتشي من الحركات والأفعال والأحوال ، من كلّ متحرّك وفاعل ذي حال ، ومن
كلّ كون وفساد واقع في العالم ، وما [هو] المراد بالقصد الأوّل من المجموع وفيه ،
وما [هو] المراد بالتبعيّة وبالقصد الثاني ، وما هو شرط فحسب من وجه واحد ، مراد
باعتبار واحد ، وما هو شرط في مرتبة ، وتبع وهو بعينه مراد ومتبوع في مرتبة أخرى ،
وحكم الوقت والحال والمرتبة والموطن في مجموع ما ذكر من حيث التقيّد بالموطن
والوقت وغيرهما ، وكيف تكون هذه الأمور أيضا تارة في مرتبة المتبوعيّة والمشروطيّة
، وأخرى في مرتبة الشرطيّة والتبعيّة ، وحكم الوقت والحال. وما ذكرنا بالنسبة إلى
من يتعيّن بها وبحسبها وبالنسبة إلى من تتعيّن به ، وليس شيء مرادا في كلّ مرتبة
بالقصد الأوّل غير الإنسان الكامل في دوره وعصره. ومن الأشياء ما هي مرادة بقصد
أوّل وثان في
__________________
زمان واحد
باعتبارين ، وما المرتبة التي تتضمّن هذه التفاصيل قبل ظهور الإنسان الكامل ، وهل
يصحّ ذلك أم لا؟ ويعرف سرّ الدوام والحياة والبقاء والإبقاء ، وسرّ الزوال والموت
والفناء والإفناء ، وغير ذلك من العلوم التي يتعذّر تفصيلها ، وتفصيل ترجمتها مع
تعذّر تسمية بعضها بأحقّ أسمائها ؛ لما في ذلك من الأخطار. وفيما ذكرنا
غنية للمستبصرين وتذكرة للمشاركين وعبرة للمعتبرين (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
لسان الظاهر
(الْعالَمِينَ) التفسير : العالمين جمع عالم ، والعالم مأخوذ من العلامة ، وهو عبارة عن كلّ ما سوى
الله.
ولمّا وردت هذه
السورة من حضرة الجمع ومتضمّنة سرّه ، وذكر الاسم «الربّ» فيها ذكرا مضافا إلى كلّ ما سوى الله ؛
تنبيها على عموم حكمه الذي كشفت لك بعض أسراره ؛ فإنّ إضافات هذا الاسم كثيرة وهذا
أعمّها ، وأخصّ إضافاته المتضمّن لهذا العموم إضافته إلى الإنسان الجامع الكامل
سيّدنا محمد صلىاللهعليهوآله ، كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وكقوله أيضا (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ
ذُو الرَّحْمَةِ) وكقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) فإنّه لمّا كان صلىاللهعليهوآله عبد الله كما سمّاه الله لكماله وجمعيّته وكذا كلّ كامل
كانت إضافته إلى الاسم «الربّ» بعد ذلك محمولة على أعمّ أحكام الربوبيّة وأكملها
وأجمعها ، وما سوى هاتين الإضافتين فمراتب تفصيليّة جزئيّة تتعيّن فيما بينهما.
لسان الباطن
وإذا عرفت هذه ،
فنقول في شرح العالم بلسان الباطن ثم بما بعده : اعلم أنّ الحقّ سبحانه
__________________
قد جعل كلّ فرد من
أفراد العالم علامة ودليلا على أمر خاصّ مثله ، فمن حيث وجوده المتعيّن هو علامة
على نسبة من نسب الألوهيّة المسمّاة اسما الذي هذا الشيء الدالّ مظهر له ، ومن حيث عينه الثابتة فهو دليل
على عين ثابتة مثله ، ومن حيث كونه عينا ثابتة متّصفة بوجود متعيّن هو علامة على
مثله من الأعيان المتّصفة بالوجود.
فالأجزاء من حيث
هي أجزاء علامة على أجزاء مثلها ، ومن حيث مجموعها وما يتضمّنه كلّ جزء من المعنى
الكلّي هي علامة على الأمر الكلّي الجامع لها والوجود المطلق الذي يتعيّن منه
وجودها.
وجعل أيضا مجموع
العالم الكبير من حيث ظاهره علامة ودليلا على روحه ومعناه ، وجعل جملة صور العالم
وأرواحه علامة على الألوهيّة الجامعة للأسماء والنسب ، وعلى مجموع العالم.
وجعل الإنسان
الكامل بمجموعه من حيث صورته وروحه ومعناه ومرتبته علامة تامّة ودليلا دالّا عليه
سبحانه وتعالى دلالة كاملة.
وكلّ ما عدا الحقّ
والإنسان الكامل فليس كونه علامة على ما دلّ عليه شرطا ضروريا مطّرد الحكم ، لا
يمكن معرفة ذلك الشيء بدونه ، بل ذلك بالنسبة إلى أكثر العالم والحكم الغالب ،
بخلاف الحقّ والإنسان الكامل ؛ فإنّه قد يعلم بكلّ منهما كلّ شيء ، ولا يعلم
أحدهما إلّا بالآخر ، أو بنفسه.
وموجب ما ذكرنا
وسرّه هو أنّ الإنسان نسخة من كلّ شيء ، ففي قوّته ومرتبته أن يدلّ على كلّ شيء
بما فيه من ذلك الشيء ، فقد يغني في الدلالة على كلّ شيء عن كلّ شيء.
وهكذا الأمر في
الجناب الإلهي ؛ فإنّ الحقّ محيط بكلّ شيء ، فمن عرفه معرفة تامّة فقد يعرف حقيقة كلّ شيء بطريق التضمّن أو الالتزام.
والأمر في سوى
الحقّ والإنسان الكامل كما بيّنّا ؛ فإنّ من عباد الله من يكون مبدأ فتحه الحقّ ،
فيعرف الحقّ بالحقّ ، فإذا تحقّق بمعرفته وشهوده ، سرى حكم تلك المعرفة وذلك
الشهود في مراتب وجوده ، فيعلم كلّ شيء بالحقّ ، حتى نفسه التي هي أقرب الأشياء
__________________
نسبة إليه ، وقد
سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.
وإذا سبق العلم
بشرطيّة بعض الأشياء ، وأنّه يكون سببا في معرفة أمر ما لا محالة ، تجلّى الحقّ
سبحانه للعبد الذي حاله ما ذكرنا وأمثاله في مرتبة ذلك الشيء وعينه ، فعرفوه من
تلك الحيثيّة في تلك المرتبة ، ثم عرفوا به ما توقّف معرفته على هذا الشرط ، ولكن
من حيث النسبة الإلهيّة المشار إليها ، وارتفاع حكم النسب الكونيّة ، وسريان حكم
الوجه الخاصّ ، فلم يعرفوه إذا إلّا بالحقّ كما بيّنّا ذلك في سرّ الطرق ، فبعض
التجلّيات علامة له على تجلّيات أخر أنزل منها مرتبة من حيث إنّ المعرّف يجب أن
يكون أجلى من المعرّف ومتقدّما عليه ، ولا خلاف في تفاوت التجلّيات عند المحقّقين من حيث
القوابل ، وبحسب تفاوت الأسماء والحضرات التي منها يكون التجلّي وفيها يظهر ، وبعض
مظاهر التجلّيات من كونه مظاهر يكون علامة على مظاهر أخرى ، كما أنّ بعض التجلّيات
والمظاهر يكون حجابا على تجلّيات ومظاهر وغيرها ، مع أحديّة المتجلّي في الجميع ،
فافهم.
فالتفاوت بالمراتب
، والاطّلاع على المراتب بحسب العلم ، ولحصول العلم أسباب كثيرة من العلامات والطرق وغيرهما يطول ذكرها.
ثم أقول : وقد
تحصل لبعض النفوس في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجوديّة الإلهيّة أحوال توجب
لها الإعراض عمّا سوى الحقّ ، والإقبال بوجوه قلوبها ـ بعد التفريغ التامّ ـ إلى
حضرة غيب الذات ، في أسرع من لمح البصر ، فتدرك من الأسرار الإلهيّة والكونيّة ما
شاء الحقّ ، وقد تعرف تلك النفس هذه المراتب والتفاصيل ، وقد لا تعرف ، مع تحقّقها
بما حصل لها من العلم المتعلّق بالحقّ أو بالكون ، ممّا لم يكن له دليل ولا علامة
غير الحقّ ، بل كان الحقّ عين العلامة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، والعوالم
كثيرة جدّا ، وأمّهاتها هي الحضرات الوجوديّة التي عرّفتك ما هي.
وأوّل العوالم
المتعيّنة من العماء عالم المثال المطلق ، ثم عالم التهييم ، ثم عالم القلم
__________________
واللوح ، ثم عالم
الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام بحقيقتي الهيولى والجسم الكلّ ثم العرش هكذا
على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا ، ثم عالم البرزخ ، ثم
عالم الحشر ، ثم عالم جهنّم ، ثم عالم الجنان ، ثم عالم الكثيب ، ثم حضرة أحديّة
الجمع والوجود ، الذي هو ينبوع جميع العوالم ، فافهم والله الهادي.
قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، التفسير : لمّا تكلّمت على مفردات قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وبيّنت ما يختصّ بكلّ كلمة منها من الأسرار الكلّيّة
والأحكام الجمليّة اللازمة لها ، احتجت [إلى] أن أتكلّم على هذه الآية مرّة أخرى
بتنبيه وجيز جملي ، لتفهم من حيث جملتها وتركيبها ، كما علمت من حيث مفرداتها ،
وهكذا أفعل في باقي السورة ـ إن شاء الله ـ ثم أضيف إلى ما سبق ذكره من التنبيه
الجملي المذكور الكلام على الاسمين : «الرّحمن» ، «الرّحيم» حسب ما يستدعيه هذا
الموضع ، وإن كان فيما سلف غنية ولكن لا بدّ من التنبيه على حكمهما هنا مع تقدّم
ذكرهما في البسملة ، فنقول :
اعلم ، أنّه لمّا
كان ظهور الحمد من الحامدين للمحمودين إنّما يكون في الغالب بعد الإنعام وفي
مقابلة الإحسان ، وأنهى من ذلك الحمد الصادر من العارفين المخلصين لا في معرض أمر
مخصوص ؛ فإنّ نفس معرفتهم ـ المستفادة من الحقّ بأنّه سبحانه يستحقّ الحمد لذاته
وما هو عليه من الكمال ـ من أجلّ النعم وأسناها ، ولم يخل أحد من أن يكون على إحدى حالتين ؛ الراحة أو النكد ، وصحّ عند المحقّقين أنّ الحقّ أعرف بمصالح عباده
وأرعاها لهم منهم ، لا جرم جمع سيّد العارفين والمحقّقين صلىاللهعليهوآله حكم الحمد في قوله في السرّاء : «الحمد لله المنعم المفضل»
وفي قوله في الضرّاء : «الحمد لله على كلّ حال» تنبيها على أنّ
الحال الذي لا يوافق أغراضنا وطباعنا لا يخلو عن مصلحة أو مصالح لا ندركها ، يعود
نفعها علينا ،
فتلك الأحوال وإن كرهناها فلله فيها رحمة خفيّة ، وحكمة عليّة
يستحقّ منّا الحمد عليها ، وذلك القدر من الكراهة هو حكم بعض أحوالنا عاد علينا مع
التجاوز الإلهي عنّا في
__________________
أمور كثيرة ، كما
أخبر بقوله تعالى : (ما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)
ويقول نبيّه صلىاللهعليهوآله في آخر حديث أبي ذرّ رواية عن ربّه : «فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ
إلّا نفسه».
فما من حال يكون
فيه أحد من العباد حتى المكروهة إلّا والحقّ يستحقّ منه الحمد على ذلك من حيث ما
في ضمنه من المصالح التي يشعر بها كلّ أحد ، كمسألة عمر رضي الله عنه ومن تنبّه
لما أدركه وهذا من شمول النعمة وعموم الرحمة ، فافهم.
ثم اعلم ، أنّ
الحمد يتولّد بين إحسان المحسن وبين من هو محل لإحسانه وهكذا الأمر في سائر
الأوصاف الكماليّة المضافة إلى الحقّ إنّما يظهر بين هاتين المرتبتين : الإلهيّة
والكونيّة.
ولمّا كان أقوى
موجبات الحمد ومنتجاته الإحسان ، وكان قول القائل : «الحمد لله» ، تعريفا بأنّ
الحقّ مالك الحمد ومستحقّه والمختصّ به دون غيره ، على اختلاف مراتبه التي سبق
بيانها وتفصيل أحكامها الكلّيّة ، وكان الحمد حقيقة كلّيّة مطلقة ، وكذا الاسم «الله» المضاف إليه هذا الحمد المطلق ، كما بيّنّا
ولم يمكن أن يتعيّن للمطلق حكم من حيث هو مطلق ؛ لما أسلفنا ، جاء التعريف بعدهما
بالاسم «الربّ» الذي قلنا : إنّه لا يرد إلّا مضافا ، وأضافه إلى «العالمين» ؛
تعريف لمسمّى الاسم «الله» في هذه المرتبة ومن هذا الوجه. وأضاف الربّ إلى
العالمين ؛ بيانا لعموم سلطنة ربوبيّته وشمول حكم ألوهيّته وإثبات نفوذ أمره في العالم وقدرته من جهة الملك والتربية
والتصريف وغير ذلك ، ممّا مرّ بيانه.
فلمّا عرف الإنعام
وتعيّنت مرتبة المنعم المحمود على الإنعام ، احتيج بعد ذلك إلى أن يعرف أنّ وصول الإنعام المثمر للحمد
والمبيّن علوّ المحمود على الحامدين وربوبيّته وشمول حكمهما إلى العالمين ، الذين
هم محالّ هذه الأحكام ، ومظاهر هذه النسب والصفات ، بأيّ طريق هو؟ وكم هي أقسامه؟
فإنّ ذلك ممّا يستفيد المنعم عليه منه معرفة بالمنعم والإنعام ، فيكمل حضوره في
الحمد ، ويعلو ويتّسع ، فلا جرم ذكر سبحانه بعد ذلك ،
__________________
الاسمين : «الرّحمن»
، «الرّحيم» دون غيرهما ، إشارة إلى أنّ الإنعام والإحسان المثمرين للحمد والشكر
هما من توابع هذين الاسمين ؛ فإنّه لو لا الرحمة وسبقها الغضب لم يكن وجود الكون ،
ولا ظهر للاسم «المنعم» و «المحسن» وأخواتهما عين ، ولهذا كان الاسم «الرّحمن»
تلوا في الحيطة والحكم والتعلّق والجمعيّة للاسم «الله».
فعرّف سبحانه
بهذين الاسمين هنا أنّ لوصول إنعامه طريقين ، وأنّ إنعامه على قسمين ، فإحدى
الطريقين سلسلة الترتيب ومرتبة الأسباب والوسائط والشروط ، والطريق الأخرى مرتبة
رفع الوسائط ، وما ذكروا الإنعام من الوجه الخاصّ الذي ليس للأسباب والأكوان فيه
حكم ولا مشاركة. وقد نبّهت على ذلك غير مرّة.
وأمّا القسمان
فالعموم والخصوص ، فالعموم للوجود المختصّ بالرحمن ؛ فإنّ الرحمة كما بيّنّا نفس
الوجود ، والغضب يتعيّن بالحكم العدمي اللازم للكثرة الإمكانيّة ، والسبق هو الترجيح الإيجادي. والرحمن اسم
للحقّ من كونه عين الوجود ؛ فإنّ أسماء الحقّ إنّما تنضاف إليه بحسب الاعتبارات
المتعيّنة بالآثار والقوابل ، ولهذا كثرت مع أحديّة المسمّى.
ولمّا كان التخصيص
حكما من أحكام العموم وفرعا عليه ، اندرج الاسم «الرّحيم» في «الرّحمن» ولمّا كانت
الألوهيّة ـ من حيث هي ـ مرتبة معقولة لا وجود لها ، وكانت من حيث الحقّ المنعوت بها
والمسمّى لا تغايره ؛ لما بيّنّا أنّ الاسم من وجه هو المسمّى ، كان الاسم «الله»
جامعا للمراتب والموجودات ، وكان «الرّحمن» أخصّ منه ؛ لدلالته على الوجود فحسب ،
واختص الاسم «الرّحيم» بتفصيل حكم الوجود وإظهار تعيّناته في الموجودات.
فإن فهمت ما
بيّنته لك ، وتذكّرت ما أسلفته في شرح هذين الاسمين وسرّ الاستواء وسرّ العرش
والكرسي ، تحقّقت بمعرفة هذه الأسماء ، واستشرفت على كثير من أسرارها.
ثم نقول : وكلّ
شيء فلا بدّ وأن يكون استناده إلى الحقّ من حيث المرتبة أو الوجود جمعا وفرادى ، فلهذا عبّر سبحانه بهذين الاسمين في مرتبة التقدم والرئاسة على باقي
__________________
الأسماء ، فقال عزوجل : (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). .
ثمّ اعلم ، أنّ
الرحمة حقيقة واحدة كلّيّة ، والتعدّد المنسوب إليها ، المشار إليه في الحديث «بأنّ
لله مائة رحمة» راجع إلى مراتبها ، واختصاصها بالمائة إشارة إلى الأسماء الكلّيّة
المحرّض على إحصائها ، وهكذا الأمر في الدرجات الجنانيّة ، فما من اسم من أسماء
الإحصاء إلّا وللرحمة فيه حكم ؛ فإنّ الأسماء ـ كما بيّنّا ـ من وجه عين المسمّى ،
والمسمّى هو الرحمن الذي له الوجود المطلق ، وقد عرفت ممّا أسلفنا أنّ الأسماء لا
يظهر حكمها إلّا بمظاهرها ، ومظاهرها إذا لم تعتبر من حيث وجودها كانت نسبا عدميّة
أيضا ، ولا اعتبار للنسب إلّا بالوجود ، فحكم الأسماء والأعيان التي هي المظاهر
تابع للوجود ، وهذا من سرّ عموم حكم الاسم «الرّحمن» الذي نبّهنا عليه.
فالرحمة الواحدة
المرسلة إلى الدنيا هي النسبة الجامعة من نسب الرحمة ظهرت في الموطن الجامع ؛ لما
بيّنّا من أنّ تجلّي الحقّ وحكم أسمائه يتعيّن في كلّ حال ووقت وموطن بحسب القوابل
والأحكام المختصّة بها.
والتسعة والتسعون
رحمة هي عبارة عن مراتب الرحمة وأحكامها في أسماء الإحصاء فالنسبة الجامعة تظهر
حكم الرحمة من الوجه الكلّي ، وبالأسماء المذكورة تظهر أحكامها التفصيليّة ،
وبأحديّة جمعها يظهر في آخر الأمر سرّ سبقها للغضب.
وقد بيّنّا غير
مرّة أنّ الآخر نظير الأوّل ، بل هو عينه خفي بين الطرفين ، لتداخل أحكام النسب
المتعيّنة بين البداية والنهاية ، ثم تكمّل حكم الأوليّة في آخر الأمر ، فتظهر له
الغلبة في النهاية ، فإنّ الحكم في كلّ أمر هو للأوّليّات ، ولكن بسرّ الجمع كما
أشرت إلى ذلك مرارا ، فإذا كان يوم القيامة ، وانضافت هذه النسبة الجامعة إلى
التسعة والتسعين المتفرّعة في الأسماء ، وانتهى حكم الاسم «المنتقم» و «القهّار»
وأخواتهما ، ظهر سرّ سبق الرحمة الغضب في أوّل الإنشاء ، فافهم.
ولمّا كانت
الموجودات مظاهر الأسماء والحقائق ، وكان الإنسان أجمعها وأكملها ،
__________________
اقتضى الأمر
الإلهي أن يكون في عباد الله من هو مظهر هذا الحكم الكلّي والتفصيلي المختصّين
بالرحمة ، فكان ذلك العبد صاحب السجلّات ، الذي وردت قصّته في الحديث ، وكانت
بطاقته الحاملة سرّ أحديّة الجمع هي التي فيها لا إله إلّا الله ، ولها الأوّلية
والجمعيّة والأحديّة ، فغلبت لذلك أحكام الأسماء كلّها.
وفي التحقيق
الأتمّ أنّ الرحمة لمّا كانت سارية الحكم في مراتب الأسماء ، بنسبة التفصيل
والكثرة في مرتبة جمعيّتها وأوّليّتها بأحديّة الجمع ، كانت الغلبة
والمغلوبيّة حكمين راجعين إليها ، فهي ـ من حيث أحديّتها وجمعيّتها للنسب
التفصليّة ـ غالبة ، وهي بعينها ـ من حيث تفاريعها ونسبها الجزئيّة المتعيّنة في
مرتبة كلّ اسم بحسبه ـ مغلوبة ، فهي الغالبة المغلوبة ، والحاكمة المحكومة ، وهكذا
سرّ الحكم في المظهر المشار إليه ؛ فإنّ التسعة والتسعين سجلّا هي نسخ حاملة ما
قبح من أفعال ذلك العبد ، والبطاقة المتضمّنة لا إله إلّا الله هي نسخة ما حسن من
فعله ، فغلب الفعل الحسن المضاف إليه تلك الأفعال السيّئة ، فهو من حيث فعله الحسن غالب ، ومن حيث فعله القبيح
مغلوب.
ومن ارتقى فوق هذا
المقام ، رأى أنّ الفعل بالفاعل غلب نفسه ، فإن كمل ذوق المرتقي في هذا المقام ،
رأى أنّ جميع الصفات والأفعال المنسوبة إلى الكون صادرة من الحقّ وعائدة
إليه ولكن بالممكنات ، وهي شروط فحسب كالموادّ الغذائيّة الحاملة للمعاني التي بها
يحصل التغذّي ، فيصل المطلوب بها إلى الطالب ويتّحد به مع عدم المغايرة ، وتنفصل
هي من البين ، فيرتفع البين ، فافهم. وقد بقيت تتمّة تختصّ بالاسم «الرّحمن
الرّحيم» نذكرها ونختم الكلام بها عليهما إن شاء الله ، فنقول :
حضرات الرحمة
اعلم ، أنّ
الحضرات الكلّيّة المختصّة بالرحمة ثلاث : حضرة الظهور ، وحضرة البطون ، وحضرة
الجمع. وقد سبق التنبيه عليها في شرح مراتب التمييز ، وفي مواضع أخر أيضا.
__________________
وكلّ موجود فله
هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها ، وعلى هذه المراتب الثلاث تنقسم أحكام الرحمة في
السعداء والأشقياء ، والمتنعّمين بنفوسهم دون أبدانهم ، كالأرواح المجرّدة وبالعكس
، والجامعين بين الأمرين والسعداء في الجنّة أيضا من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم
؛ لكونهم لم يقدّموا في جنّة الأعمال ما يستوجبون به النعيم الصوري ، وإن كان ،
فنزر يسير بالنسبة إلى سواهم ، وعكس ذلك كالزهّاد والعبّاد الذين لا علم لهم بالله
، فإنّ أرواحهم قليلة الحظّ من النعيم الروحاني ، لعدم المناسبة بينهم وبين
الحضرات الإلهيّة العلميّة ، ولهذا ـ أي لعدم المناسبة ـ لم يتعلّق هممهم زمان
العمل بما وراء العمل وثمرته ، بل ظنّوه الغاية ، فوقفوا عنده واقتصروا عليه ،
رغبة فيما وعدوا به أو رهبة ممّا حذّروا منه.
وأمّا الجامعون بين
النعيمين تماما فهم الفائزون بالحظّ الكامل في العلم والعمل كالرسل ـ صلوات الله
عليهم ـ ومن كملت وراثته منهم أعني الكمّل من الأولياء.
ولمّا كانت الرحمة
عين الوجود ، والوجود هو النور ، والحكم العدميّ له الظلمة ، كما نبّهتك عليه ،
كان كلّ من ظهر فيه حكم النور أتمّ وأشمل ، فهو أحقّ العباد نسبة إلى الحقّ وأكمل ،
ولهذا سأل رسول الله صلىاللهعليهوآله ربّه أن ينوّر ظاهره ، وعدّد الأعضاء الظاهرة كالشعر
والجلد واللحم وغير ذلك ، ثمّ عدّد القوى الباطنة كالقلب والسمع والبصر ، فلمّا
فرغ من التفصيل ، نطق بلسان أحديّة جمعه ، فقال : «اجعل لي نورا واجعلني نورا» . وهذا هو عموم حكم الرحمة ظاهرا وباطنا ، وإجمالا وتفصيلا
من جميع الوجوه.
وصاحب هذا المقام
لا يبقى فيه من الحكم الإمكاني الذي له وجه إلى العدم إلّا نسبة واحدة من وجه واحد
، بها تثبت عبوديّته ، وبها يمتاز عمّن هو على صورته ، وتذكّر تعريف الحقّ سبحانه
نبيّه صلىاللهعليهوآله بأنّه أرسل رحمة للعالمين ، وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ،
وتضرّع إلى الله في أن ترث من هذا السيد الأكمل هذا المقام الأشرف الأفضل ، وصاحبه
هو الإنسان الكامل ، والحال المذكور هو من أكبر أجزاء حدّ الكمال ، ومن أتمّ الأوصاف المختصّة به ،
__________________
فاعلم ذلك. ثم
نرجع إلى ما كنّا بسبيله ، فنقول :
وهكذا الأمر في
جهنّم ؛ فإنّ المؤمن لا تؤثّر النار في باطنه ، والمنافق لا يعذّب في الدرك الأعلى
المتعلّق بالظاهر ، بل في الدرك الأسفل المختصّ بالباطن ، والمشرك يعذّب في الدرك
الأعلى والأسفل ، في مقابلة السعيد التامّ السعادة.
وهنا أمور لا يمكن
ذكرها يعرفها اللبيب ممّا سبقت الإشارة إليه من قبل. ولهذه الأقسام تفاصيل وأحكام
يفضي ذكرها إلى بسط كثير ، فأضربت عن ذكرها لذلك ، واقتصرت على هذا القدر ، وسأذكر
عند الكلام على قوله : (أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ما يبقى من جمل أسرار هذا المقام حسب ما تستدعيه الآية
ويقدّره الحقّ ـ إن شاء الله تعالى ـ
ثم لتعلم أنّ التخصيص الذي هو حكم الاسم «الرّحيم» على نوعين تابعين
للقبضتين كما مرّ بيانه :
أحدهما : تخصيص
أسباب النعيم لأهل السعادة برفع الشوائب ، كما أخبر به الحقّ بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، فإنّ الدنيا دار جمع ومزج ، فهي للمؤمنين في الدنيا
ممزوجة بالأنكاد والأحكام الموطنيّة ، وهي لهم في الآخرة خالصة.
فالاسم «الرّحيم»
هو المصفّي أسباب النعيم وسوابغ الإحسان عن شوائب الأكدار والأنكاد.
والنوع الآخر من
التخصيص هو مطلق تمييز السعداء من الأشقياء و التخليص من حكم التشابه الحاصل في الدنيا ، بسبب عموم حكم
الاسم «الرّحمن» وما للأشقياء في الدنيا من النعيم والراحة ونحوهما من أحكام
الرحمة ، وبضدّ ذلك لسعداء المؤمنين من الآلام والأنكاد.
وأيضا فالرحمن
عامّ المعنى ، خاصّ اللفظ ، والرحيم عام اللفظ ، خاصّ المعنى ، على
__________________
رأي جماعة من أكابر
علماء الرسوم ، وهذا القول من وجه موافق لبعض ما أشرنا إليه بلسان التحقيق وإن لم
يكن من مشرب أهل الظاهر ، فافهم.
وانظر إلى كمال
معرفة الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ بالأمور وقول الخليل ـ على نبيّنا وعليه أفضل
الصلاة ـ الذي حكاه الحقّ لنا عنه في كتابه العزيز لأبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ
عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) فراعى ـ صلوات الله عليه ـ من له الحكم من الأسماء على
أبيه يومئذ وهو الاسم «الرّحمن» فإنّه كان في سلامة وراحة ، فنبّهه على أنّ الاسم «الرّحمن»
اسم جامع وتحت حيطته أسماء لها أحكام غير الرحمة تظهر بحكم التخليص الرحمي في دار الفصل فتمتاز حصة الرحمة الخالصة عن كلّ ما ينافيها وتظهر خاصّيّة كلّ اسم بحسبه ، فكأنّه قال
له : لا تغترّ بما أنت عليه من الأمن والدعة ؛ فإنّ الاسم «المنتقم» إذا انفصل عنه
حكم الاسم «الرّحمن» بالتمييز والتخليص المذكور ، ظهرت لك أمور شديدة تخالف ما أنت
عليه الآن ، فاستدرك مادام الأمر والوقت موافقين ، فحجب الله إدراكه عن معرفة ما أشار الخليل إليه ليقضي
الله أمرا كان مفعولا.
وهنا سرّ عزيز
أنبّه عليه ونختم به الكلام على هذه الآية ، وهو أنّ التخصيص المضاف إلى الاسم «الرحيم»
هو حكم الإرادة ؛ فإنّ الإرادة ـ كما بيّنّا ـ من الأسماء الأصليّة الأول ،
والرحيم وإن عدّ من الكلّيّات باعتبار ما تحت حيطته ، فهو من الأسماء التالية
للأمّهات الأول المذكورة.
ثم التخصيص
المنسوب إلى الإرادة هو في التحقيق الأتمّ من حكم العلم ؛ إذ لو توقّف كلّ تخصيص
على الإرادة ، لكان نفس تخصيصها بكونها إرادة إمّا أن يتوقّف عليها ، فيفضي إلى
توقّف الشيء على نفسه وكونه سببا لنفسه ، وهذا لا يصحّ أو يتوقّف على إرادة أخرى ، متقدّمة
على هذه الإرادة ، والكلام في تلك كالكلام في هذه ، فيفضي الأمر إلى الدور أو
التسلسل ، وكلاهما محال في هذه الصورة ، ولكان تخصيص العلم والحياة أيضا متوقّفا
__________________
على الإرادة ، مع
ثبوت تبعيّتها لهما وتأخّر مرتبتهما عن مرتبتهما ، ولا يصحّ ذلك ، فالإرادة ، في
التحقيق تعلّق خاصّ للذات ، يتعيّن بالعلم وتظهر التخصيصات الثابتة في العلم ، لا
أنّها تخصيص ما لم يثبت تخصيصه في العلم ، والعلم من كونه علما تعلق خاصّ من الذات
، يتعيّن حكمه في المعلوم والمراد بحسبهما ، فمعقوليّة القبول من الممكن لنسبة
الترجيح الإيجادي ولوازمه تعيّن الحكم العلمي المعيّن لنسبة الإرادة والاختيار
وأحكامهما ، فافهم.
ولهذا المقام
أسرار يحظى بها الأمناء ، الذين رقوا بقدمي الصدق والعناية إلى ذروته ، فإن كنت من
أهل الهمم العالية والاستعدادات التامّة ، فتوجّه إلى الحقّ في أن يطلعك على مخزن
هذه الأسرار ، وينبوع هذه الأنوار ، فإن منحت الإجابة فارق وانظر وتنزّه ولا تنطق (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) .
قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يتضمّن عدّة مسائل : إحداها سرّ الملك ، وسرّ اليوم ، وسرّ الدين ، من كونه يدلّ على العبادة ، وعلى الجزاء ، وعلى الانقياد وعلى غير ذلك ممّا ننبّه
عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ فلنبدأ أوّلا ـ بعون الله ـ بالكلام على هذه الأمور من
حيث الانفراد ، ثم من حيث الجمع كما فعلت ذلك فيما مرّ ، فنقول :
سرّ الملك
الملك : القوّة
والشدّة ، ويطلق على القدرة أيضا ، والتصرّف. وملك الطريق في اللغة : وسطه ، وملك
الدابّة ـ بضم الميم واللام ـ : قوائمها وهاديها أيضا. والملكوت مبالغة ؛ لكونه
يشمل الظاهر والباطن.
وهذه المعاني التي
تتضمّنها هذه الكلمة كلّها صادقة في حقّ الحقّ سبحانه وتعالى ؛ فإنّ الحقّ ذو
القوّة المتين ، والهادي القيّوم ، والقادر على كلّ شيء ، والفاعل ما يشاء ، ومن
بيده ملكوت كلّ شيء. وفي الملكوت سرّ لطيف ، وهو أنّه مبالغة في الملك ، والملك
يتعلّق
__________________
بالظاهر دون
الباطن ؛ لأنّ الملك والمالك من الخلق لا يمكنهما ملك القلوب والبواطن ، بخلاف
الحقّ سبحانه ؛ فإنّه يملكهما جميعا. أمّا باطنا فلأنّ «القلب بين إصبعين من
أصابعه يقلبه كيف يشاء» وكلّ ظاهر في باب الفعل والتصرّف فتبع للباطن ، فملك
الباطن يستلزم ملك الظاهر دون العكس.
ولهذا نجد من
الناس من إذا أحبّ أحدا ، انفعل له بباطنه وظاهره ، وإن لم يكن المحبوب ملكه وسلطانه ، ولا
سيّده ومالكه بالاصطلاح المتقرّر.
على أنّ التحقيق
الكشفي أفاد أنّ كلّ محبّ فإنّما أحبّ في الحقيقة نفسه ، ولكن قامت له صورة
المعشوق كالمرآة لمشاهدة نفسه من حيث المناسبة التامّة والمحاذاة الروحانيّة ،
فكان المسمّى معشوقا شرطا في حبّ المحبّ نفسه ، وفي تأثيره في نفسه.
ومن أسرار ذلك أنّ
الإنسان نسخة جامعة مختصرة من الحضرة الإلهيّة والكونيّة ، وكلّ شيء فيه كلّ شيء
وإن لم يتأتّ إدراكه على التعيين لكلّ أحد ؛ للقرب المفرط والإدماج الذي توجبه
غلبة حكم الوحدة على الكثرة ، فإذا قام شيء بشيء في مقام المحاذاة المعنويّة والروحانيّة كالمرآة إمّا منه
أو ممّا يناسبه ، صار ذلك القدر من الامتياز والبعد المتوسّط مع المسامتة سببا
لظهور صورة الشيء فيما امتاز به عنه ، أو عن مثله فأدرك نفسه في الممتاز عنه ،
وتأتّى له شهودها ؛ لزوال حجاب القرب والأحديّة ، فأحبّ نفسه في ذلك الأمر الذي
صار مجلاه ، فافهم.
ولهذا المقام
أسرار أخر شريفة جدّا لا يقتضي هذا الموضع ذكرها ، وإنّما هذا تنبيه وتلويح.
ثم نقول : وقد قرئ
ـ كما علمت ـ ملك يوم الدّين و (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) ولكلّ منهما من حيث اللغة معان ينفرد بها لا يشاركه فيها
غيره.
وأهل الظاهر قد
ذكروا بينهما فروقا شتّى ، ورجّح بعضهم قراءة «ملك» ورجّح آخرون قراءة «مالك»
بالألف ، واستدلّ كلّ منهم على صحّة ما اختاره بوجوه تقتضيها اللسان ، ولست ممّن
ينقل هنا تفاصيل مقالاتهم غير أنّي أذكر من ذلك ما يفهم منه الفرق بين
__________________
الكلمتين ، ليتّضح
بذلك حكم اللسان ، ثم أتكلّم بما فتح الحقّ به عليّ في ذلك وما يقتضيه ذوقي ، ولو
لا قصد تطبيق الأمور الذوقيّة على ما يقتضيه المفهوم من حيث الاصطلاح اللغوي ، لم
أورد شيئا من كلام أهل النقل ، ولكن قد استثنيت في أول التزامي المذكور في مقدّمة
الكتاب هذا القدر لهذه الحكمة التي نبّهت عليها ، فأقول :
من جملة ما ذكروا
في الفرق بين الملك والمالك أنّ المالك مالك العبد ، والملك ملك الرعيّة ، والعبد
أدون حالا من الرعيّة ، فوجب أن يكون القهر في المالكيّة أكثر منه في الملكيّة ،
فالمالك إذا أعلى حالا من الملك ، والملك يملك من بعض الوجوه مع قهر وسياسة ،
والمالك يملك على كلّ حال ، وبعد الموت له الولاء.
وقالوا أيضا :
الحقّ تمدّح بكونه مالك الملك ـ بضمّ الميم ـ ولم يتمدّح بكونه ملك الملك ـ بكسر الميم ـ وذلك قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ؛ فثبت أنّ المالك أشرف من الملك.
وقالوا أيضا :
الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون مالكا ، كما أنّ المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون
، فالملكيّة والمالكيّة قد تنفكّ كلّ واحدة منهما عن الأخرى إلّا أنّ المالكيّة
سبب لإطلاق التصرّف ، والملكيّة ليست كذلك ، فكان المالك أولى.
اعلم ، أنّه لمّا
كان سائر المفهومات التي تتضمّنها هذه الكلمة من صفات الكمال ـ بالألف وبدونه ـ
كلّها ثابتة للحقّ ، لهذا وردت القراءة بالروايتين ، فإنّ الجمع أولى وأكمل ، و لمّا كان أمر الحقّ واحدا ، والترجيح في كلّ مرتبة من مراتب
الأسماء والصفات لا يصحّ إلّا لشيء واحد من نسبة واحدة ، فبذلك الأمر الراجح يصل
الأمر الإلهي الوحداني إلى غيره من الأشياء المرجوحة ، في ذلك المقام وتلك المرتبة
، وهو مظهر الحقّ ، وحامل سرّ الربوبيّة والتحكّم على ما تحت حيطته حالتئذ ، كما
ذكر من قبل ، ويذكر أيضا عن قريب ـ إن شاء الله ـ اقتضى الأمر الذوقي ترجيح إحدى القراءتين مع جواز القراءة بهما.
__________________
ومتعلّق ذلك الترجيح القراءة ب «ملك يوم الدّين» دون «مالك» ؛ لأسرار تقتضيها
قواعد التحقيق :
أحدها : أنّ
المالك مندرج في الاسم «الربّ» فإنّ أحد معاني الاسم «الربّ» في اللسان المالك ،
والقرآن العزيز ورد بسرّ الإعجاز والإيجاز ، فلو ترجّحت القراءة بمالك ، لكان ذلك
نوع تكرار ينافي الإيجاز ، والكشف التامّ أفاد أن لا تكرار في الوجود ، فوجب ترجيح القراءة إذا ب «ملك» دون «المالك»
،
والسرّ الآخر فيما
ذكرنا يظهر بعد التنبيه على مقدّمتين :
إحداهما : استحضار
ما ذكرت أنّ الآخر نظير الأوّل ، بل هو عينه ؛ فإنّ الخواتم عين السوابق.
والمقدّمة الأخرى
: أنّ جميع الأمور الحاصلة في الوجود لم تقع عن اتّفاق ، بل بترتيب إلهي مقصود
للحقّ ، وإن جهلته الوسائط والمظاهر.
وليس في قوّة
الممكنات المتّصفة بالوجود في كلّ وقت قبول ما هو أشرف من ذلك ولا أكمل ، فإن لم
تهتد العقول إلى سرّ ذلك الترتيب وسرّ الحكم الإلهيّة المودعة فيه ، فذلك للعجز
الكوني والقصور الإمكاني ، وقد لوّحت بشيء من ذلك على سبيل التنبيه والتذكرة عند
الكلام على أسرار حروف البسملة.
وإذا تقرّر هذا ،
فأقول : آخر سور القرآن في الترتيب الإلهي الواقع المستمرّ الحكم ـ سواء عرف ذلك حال الترتيب أو لم يعرف ـ هو (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) وهذا الاسم ورد في هذه السورة بلفظ «الملك» دون «المالك»
وذكر عقيب الاسم «الربّ» مع عدم جواز القراءة فيها ب «مالك» ، فدلّ على أنّ
القراءة ب «ملك» أرجح.
وأيضا فإنّ الحقّ
يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحديّة على الكثرة في القيامة الكبرى ،
والقيامة الصغرى الحاصلة للسالكين عند التحقيق بالوصول ، عقيب انتهاء السير وحال
الانسلاخ : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) والحاكم على الملك هو الملك ، فدلّ على أنّه أرجح.
__________________
وأيضا فالأسماء
المستقلّة ، لها تقدّم على الأسماء المضافة ، والاسم «الملك» ورد مستقلّا بخلاف «المالك»
وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأسماء المضافة لم تنقل في أسماء الإحصاء الثابتة بالنقل ،
مثل قوله عزوجل : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) و (ذِي الْمَعارِجِ) وشبههما.
وأيضا فالأحاديث
النبويّة مبيّنات لأسرار القرآن ، ومنبّهات عليها ، وقد ورد في الحديث في بعض
الأدعية النبويّة «لك الحمد لا إله إلّا أنت ربّ كلّ شيء وملكه » ولم يرد و «مالكه» وهذا السياق مناسب لسياق الأسماء
المذكورة في أوّل الفاتحة.
وأيضا ما ذكروه في ترجيح المالك على الملك ـ من أنّ المالك مالك
العبد ، وأنّه مطلق التصرّف فيه ، بخلاف الملك فإنّه إنّما يملك بقهر وسياسة ومن
بعض الوجوه ـ فقياس لا يصحّ ولا يطّرد إلّا في المخلوقين لا في الحقّ ؛ فإنّه من
البيّن أنّه مطلق التصرّف ، وأنّه يملك من جميع الوجوه ، فلا تقاس ملكيّة غيره
عليه ، ولا تضاف النعوت والأسماء إليه إلّا من حيث أكمل مفهوماتها ، وسيّما مما
سبق وضوحه بالشرع والبرهان ، فاعلم ، فدلّ ذلك على ترجيح القراءة بملك يوم الدّين.
وأمّا سرّ المالك
من حيث الباطن فقد اندرج فيما ذكرته في شرح الاسم «الربّ» فأغنى ذلك عن الإعادة ،
فافهم وتذكّر ، والله المرشد.
سرّ اليوم
لا بدّ قبل الشروع
في الكلام على أسرار هذه الكلمة من تقديم مقدّمة تكون مذكّرة ببعض ما سلف من
الأصول المنبّهة على حقيقة الزمان وما يختصّ به وما [هو] مستنده في الإلهيّات ،
فأقول :
قد علمت ممّا مرّ
أنّ الغيب الإلهي المطلق لا يحكم عليه بالتناهي ولا التعيين ولا التقييد ولا غير ذلك ، وأنّ الممكنات غير متناهية ،
لكنّ الداخل في الوجود من الممكنات والظاهر
__________________
من الغيب الذاتي ـ
في كلّ وقت ومرتبة وحال وموطن ، وبالنسبة إلى كلّ اسم ـ لا يكون إلّا أمرا متعيّنا
ذا بداية وغاية مقدّرة.
والحقائق الكلّيّة
والأسماء الإلهيّة الحاكمة في الأكوان متناهية الأحكام ، لكنّ بعضها ينتهي حكمه
جملة واحدة ، وبعضها ينتهي حكمه من الوجه الكلّي لا الجزئي التفصيلي.
وبيّنت أيضا أنّ
الإنسان متعيّن متميّز متقيّد بعدّة أمور وصفات لا يمكنه الانفكاك عن كلّها لكن عن
بعضها ، فكلّ ما يصل إليه من غيب الحقّ من تجلّ وخطاب وحكم فإنّه يرد بحسبه ،
وينصبغ بحكم حاله ومرتبته ، ومبدأ الحكم الإلهي ومنشأه هو من التعيّن الأوّل ، وله
النفوذ والاستمرار على نحو ما بيّن من قبل.
وإذا وضح هذا ،
فنقول : أصل الزمان الاسم «الدهر» وهو نسبة معقولة كسائر النسب الأسمائيّة
والحقائق الكلّيّة ، وهو من أمّهات الأسماء ، ويتعيّن أحكامه في كلّ عالم بحسب
التقديرات المفروضة ، المتعيّنة بأحوال الأعيان الممكنة وأحكامها وآثار الأسماء
ومظاهرها السماوية والكوكبيّة.
ولمّا امتاز كلّ
اسم ـ من حيث تقيّده بمرتبة معيّنة ـ بأحكام مخصوصة ينفرد بها مع اشتراكه مع غيره
من الأسماء في أمور أخر ، اقتضى الأمر أن يكون محلّ نفوذ أحكام كلّ اسم ومعيّنات
تلك الأحكام أعيانا مخصوصة من الممكنات هي مظاهر أحكامه ومحلّ ربوبيّته فإذا انتهت
أحكامه المختصّة به في الأعيان القابلة لتلك الأحكام من الوجه الذي يقتضي لها
الانتهاء ، كانت السلطنة لاسم آخر في أعيان أخر ، وتبقى أحكام ذلك الاسم إمّا
خفيّة في حكم التبعيّة لمن له السلطنة من الأسماء ، وإمّا أن ترتفع أحكامه ،
ويندرج هو في الغيب ، أو في اسم آخر أتمّ حيطة منه وأدوم حكما ، وأقوى سلطانا ؛
هكذا الأمر على الدوام في كلّ عالم ودار وموطن ، ولهذا اختلفت الشرائع والإلقاءات
والتجلّيات الإلهيّة ، وقهر ونسخ بعضها بعضا مع صحّة جميع ذلك وأحديّة الأصل وحكمه
من حيث هو وأمره ، فافهم.
ولا تكون السلطنة
والغلبة في كلّ وقت بالنسبة إلى كلّ مرتبة وموطن وجنس ونوع وعالم إلّا لاسم واحد ،
ويبقى حكم باقي الأسماء في حكم التبعيّة كما أشرت إلى ذلك غير مرّة ؛ لأنّ السلطان
لله وحده ، والألوهيّة الحاكمة الجامعة للأسماء واحدة وأمرها واحد ،
فمظهر ذلك الأمر في كلّ وقت وحال لا يكون إلّا واحدا ؛ إذ
بالوحدة الإلهيّة يحصل النظام ، ويدوم حكمه في الموجودات جميعها وإليه الإشارة
بقوله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وهذا من البيّن عند المحقّقين.
وإلى هذا الأصل
يستند القائلون بالطوالع في أحكام المواليد وغيرها ، فيجعلون الحكم مضافا إلى أوّل
ظاهر من الأفق حين الولادة والشروع في الأمر والانتهاء إليه ، وما سوى الأوّل الذي
له السلطنة حينئذ فتبع له ، ومنصبغ بحكمه ، فافهم.
وقد عرفت أنّ
الحقّ هو الأوّل والظاهر ، وقد نبّهت في هذا الكتاب على كثير من أسرار الأوّليّة
في غير موضع منه ، فتذكّر ترشد ـ إن شاء الله تعالى ـ
ثم نقول : فتعيين
الأوقات والأيّام والشهور والأعوام والأدوار العظام ، كلّها تابعة لأحكام الأسماء
والحقائق المذكورة ، والعرش والكرسي والأفلاك والكواكب مظاهر الحقائق والأسماء
الحاكمة المشار إليها ومعيّنات لأحكامها ؛ فبالأدوار تظهر أحكامها الكلّيّة
الشاملة المحيطة ، وبالآنات تظهر أحكامها الذاتيّة من حيث دلالتها على المسمّى
وعدم مغايرتها له ، كما بيّنّا ذلك من قبل ، وما بين هاتين المرتبتين من الأيّام
والساعات والشهور والسنين فيتعيّن باعتبار ما يحصل بين هذين الأصلين من الأحكام
المتداخلة ، وما يتعيّن بينهما من النسب والرقائق ، كالأمر في الوحدة التي هي نعت
الوجود البحت ، والكثرة التي هي من لوازم الإمكان ، والموجودات الظاهرة بينهما
والناتجة عنهما ، فافهم.
وانظر اندراج جميع
الصور الفلكيّة وغيرها في العرش مع أنّه أسرعها حركة ، وكيف يتقدّر بحركته
الأيّام؟! وارق منه إلى الاسم «الدهر» من حيث دلالته على الذات وعدم المغايرة كما
بيّنّا ، واعتبر الآن الذي هو الزمن الفرد غير المنقسم ، فإنّه الوجود الحقيقي وما
عداه فأمر معدوم سواء فرض ماضيا أو مستقبلا ، فللوجود الآن ، وللدور حكم الكثرة
والإمكان ، ولمعقوليّة الحركة التعلّق الذي بين الوجود الحقّ وبين الأعيان ، فبين
الآن والدوران المدرك مظهره في العيان ، وبين الوجود والإمكان المدرك بالكشف
والمعقول في
__________________
الأذهان تظهر
الأكوان والألوان ، وتتفصّل أحكام الدهر والزمان ، فمستند الأدوار «أكتب علمي في
خلقي إلى يوم القيامة» ومستند الآن ومحتده «كان الله ولا شيء معه» وقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فافهم.
فبالآن تتقدّر
الدقائق ، وبالدقائق تتقدّر الدرج ، وبالدرج تتقدّر الساعات ، وبالساعات يتقدّر
اليوم ، وتمّ الأمر بهذا الحكم الرباعي والسرّ الجامع بينهما.
فإن انبسطت سمّيت
أسابيع وشهورا وفصولا وسنين ، وإلّا كان الزائد على اليوم تكرارا ، كما أنّ ما زاد
على السنة في مقام الانبساط تكرار.
ومن تحقّق بالشهود
الذاتي ، وفاز بنيل مقام الجمع الأحدي لم يحكم بتكرار ولم ينتقل من حكم الآن إلى
الأدوار ؛ فإنّ ربّه أخبره أنّه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) فلمّا أضاف اليوم إلى الهو ، عرف شهودا وإخبارا أنّه الآن
الذي لا ينقسم ؛ لأنّ يوم كلّ مرتبة واسم بحسبه وللهو الذات الوحدة التي تستند
إليها المرتبة الجامعة للأسماء والصفات ، ومن هذا المقام يستشرف هذا العبد وأمثاله
على سرّ قوله عزوجل : (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فيعلم الأقرب أيضا ويشهده وإن لم يكيفه ، فاعلم ، والله المعلّم الهادي.
سرّ (الدِّينِ)
هذه الكلمة لها
أسرار كثيرة لا تتشخّص في الأذهان ، ولا تنجلي لأكثر المدارك والأفهام ، إلّا بعد
استحضار عدّة مقدّمات عرفانيّة ذوقيّة يجب تقديمها قبل الكلام عليها بلسان التفصيل
، وحينئذ نذكر ما تشتمل عليه من المعاني ـ إن شاء الله تعالى ـ وليست فائدة هذه
المقدّمات مقصورة على فهم ما تتضمّنه هذه الكلمة من الأسرار المنبّهة عليها ، بل
هي عامّة الفائدة ينتفع بها فيما سبق من الكلام وما يذكر من بعد وفيما سوى ذلك.
وإذا عرفت هذا ،
فنقول : اعلم ، أنّ الصفات والنعوت ونحوهما تابعة للموصوف والمنعوت بها بمعنى أنّ
إضافة كلّ صفة إلى موصوفها إنّما تكون بحسب الموصوف ،
__________________
وبحسب قبول ذاته
إضافة تلك الصفة إليها ، والحقّ سبحانه وإن لم يدرك كنه حقيقته ، فإنّه قد علم بما
علّم وأخبر وفهّم أنّ إضافة ما تصحّ نسبته إليه من النعوت والصفات لا تكون على نحو
نسبتها إلى غيره ؛ لأنّ ما سواه ممكن ، وكلّ ممكن فمنسحب عليه حكم الإمكان ولوازمه
، كالافتقار والقيد والنقص ونحو ذلك وهو سبحانه من حيث حقيقته مغاير لكلّ الممكنات
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) فإضافة النعوت والصفات إليه إنّما تكون على الوجه المطلق
الكلي الإحاطي الكامل.
ولا شكّ أنّ العلم
من أجلّ النسب والصفات ، فإضافته ونسبته إلى الحقّ إنّما تكون على أتمّ وجه وأكمله
وأعلاه ، فلا جرم شهدت الفطر بنور الإيمان ، والعقول السليمة بنور البرهان ،
والقلوب والأرواح بأنوار المشاهدة والعيان بأنّه لا يعزب عن علمه علم عالم ، ولا
تأويل متأوّل ، ولا فهم فاهم ؛ لإحاطة علمه بكلّ شيء كما أخبر وعلّم.
وكلامه أيضا صفة
من صفاته أو نسبة من نسب علمه على الخلاف المعلوم في ذلك بين أهل الأفكار ، لا بين
المحقّقين من أهل الأذواق. والقرآن العزيز هو صورة تلك الصفة ، أو النسبة العلميّة
ـ كيف قلت ـ فله الإحاطة أيضا كما نبّه على ذلك بقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وبقوله أيضا : (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فما من كلمة من كلمات القرآن ممّا يكون لها في اللسان عدّة
معان إلّا وكلّها مقصودة للحقّ ، ولا يتكلّم متكلّم في كلام الحقّ بأمر يقتضيه
اللسان الذي نزل به ، ولا تقدح فيه الأصول الشرعيّة المحقّقة ، إلّا وذلك الأمر
حقّ ومراد لله ،
فإمّا بالنسبة إلى
الشخص المتكلّم ، وإمّا بالنسبة إليه وإلى من يشاركه في المقام والذوق والفهم.
ثم كون بعض معاني الكلمات في بعض الآيات والسور يكون أليق بذلك
الموضع وأنسب لأمور مشروحة من قرائن الأحوال كأسباب النزول وسياق الآية والقصّة أو
الحكم ، أو رعاية الأعمّ والأغلب من المخاطبين وأوائلهم ، ونحو ذلك ، فهذا لا ينافي
__________________
ما ذكرنا ؛ لما
سبق التنبيه عليه في سرّ القرآن ، وأنّ له ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا ، ولبطنه بطن
إلى سبعة أبطن وإلى سبعين.
وإذا تقرّر هذا ،
فلتعلم أنّ للفظة «الدّين» في اللسان عدّة معان ، منها الجزاء ، والعادة ، والطاعة
، والشأن ، و «دانه» في اللغة : أذلّه واستعبده وساسه وملكه. والديّان : المالك ،
والدين : الإسلام أيضا ، فهذه المعاني كلّها تتضمّنها لفظة «الدّين» وهي بأسرها مقصودة
للحقّ ، لكمال كلامه وإطلاقه وحيطته ، وتنزّهه عن التقيّد بمفهوم خاصّ ، أو معنى
معيّن ، كما مرّ بيانه.
وأنا أومئ ـ إن
شاء الله ـ إلى ما ييسّر الحقّ ذكره من معاني هذه الكلمات بإشارات وجيزة كما فعلت ذلك فيما مرّ ، ثمّ أبيّن معاقد
أحكام هذه الآية من حيث الترتيب ، وسرّ انتهاء القسم الأوّل من أقسام الفاتحة
بانتهاء هذه الآية ، ثم أنتقل إلى الآية الأخرى المشتملة على القسم الثاني ـ إن
شاء الله تعالى ـ فلنبدأ أوّلا بشرح الجزاء الذي هو المفهوم الأوّل القريب من هذه
الكلمة في هذا الموضع ، مع أنّي أدرج فيه نكتا شريفة تنبّه على جمل من أسرار أحوال
الآخرة وغيرها ، فمن أمعن النظر فيما نذكره بنور الفطرة الإلهيّة ، استشرف على
أمور جليلة ، عظيمة الجدوى ، والله الهادي.
اعلم ، أنّ الحقّ
سبحانه ربط العوالم والموجودات ـ جليلها وحقيرها ، كبيرها وصغيرها ـ بعضها بالبعض
، وأوقف ظهور بعضها
على البعض ، وجعل بعضها مرائي ومظاهر للبعض ، فالعالم السفلي بما فيه مرآة للعالم
العلوي مظهر لآثاره ، وكذلك العالم العلوي أيضا مرآة تتعيّن وتنطبع فيه أرواح
أفعال العالم السفلي تارة ، وصورها تارة ، والمجموع تارة أخرى ، وعالم المثال
الكلّي من حيث تقيّده في بعض المراتب ، ومن حيث عموم حكمه وإطلاقه أيضا مرآة لكلّ
فعل وموجود ومرتبة ، وانفرد الحقّ سبحانه بإظهار كلّ شيء على حدّ علمه به ، لا غير
، وجعل ذلك الإظهار تابعا لأحكام النكاحات الخمسة ، التابعة للحضرات الخمس ، وقد
سبق التنبيه على كلّ ذلك ، فظهور الموجودات ـ على اختلاف أنواعها وأشخاصها ـ
متوقّف على سرّ الجمع النكاحي ، على اختلاف مراتبه المذكورة ، وأحكامها
__________________
المشار إليها من
قبل.
وإذا عرفت هذا ،
فأقول : الجزاء المراد بيان سرّه ، عبارة عن نتيجة ظاهرة بين فعل فاعل ، وبين
مفعول لأجله بشيء [وفي شيء] والباعث
على الفعل هو الحركة الغيبيّة الإراديّة ، التابعة لعلم المنبعث على الفعل. ولتلك
الحركة بحسب علم المريد حكم يسري في الفعل الصادر منه ، حتى ينتهي إلى الغاية التي
تعلّق بها العلم ، وعلّق بها الإرادة ، فكلّ فعل يصدر من فاعل فإنّ مبدأه ما أشرت
إليه ، ولا بدّ له أيضا من أمر به تتعيّن الغاية وتظهر صورة الفعل ، وإليه الإشارة
بقولي : «مفعول لأجله بشيء وفي شيء ، ولا بدّ له أيضا من نتيجة وأثر يكون متعلّقه
غاية ذلك الفعل ، وكما له.
وهذه الأمور تختلف
باختلاف الفاعلين وقواهم وعلومهم ومقاصدهم ؛ وحضورهم ومواطنهم ونشآتهم ، إن كانوا
من أهل النشآت المقيّدة ، والفاعل المطلق في الحقيقة لكلّ شيء وبكلّ شيء وفي كلّ
شيء هو الحقّ ، ولا يتصوّر صدور الفعل من فاعل ويكون خاليا عن أحكام هذه القيود
النسبيّة المذكورة إلّا النشآت المقيّدة ؛ فإنّ أفعال الحقّ من حيث الأسماء والوجه
الخاصّ وآثار الحقائق الكليّه والأرواح ، لا تتوقّف على النشآت المقيّدة ، ولكن
تتوقّف على المظهر ولا بدّ إلّا أنّه ليس من شرط المظهر.
وأقرب من ينضاف
إليه ذلك الفعل أن يكون عارفا بما ذكرنا أو حاضرا معه ؛ فإنّ من الأفعال ما إذا
اعتبر بالنظر إلى أقرب من ينسب إليه سمّي لغوا وعبثا بمعنى أنّ فاعله ظاهرا لم
يقصد به مصلحة مّا ، ولا كان له فيه غرض ، والشأن في الحقيقة ليس كذلك ؛ فإنّ فاعل
ذلك الفعل في الحقيقة الذي لا فعل لسواه هو الحقّ عزوجل ، ويتعالى أن ينسب إليه العبث ؛ فإنّه كما أخبر وفهّم (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) بل له سبحانه في كلّ تسكينة وتحريكة حكم عجيبة ، وأسرار
غريبة ، لا تهتدي أكثر الأفهام إليها ، ولا تحيط العقول دون تعريفه بكنهها ، ولا
تستشرف النفوس عليها.
فلا بدّ لكلّ فعل
من ثمرة وبداية وغاية ، ولا بدّ أن يصحبه حكم القصد الأوّل والحضور
__________________
التابعين للعلم
المتعلّق بالغاية كما مرّ ، لكن للفعل ولمن ينسب إليه مراتب ، فربما
نعت الفعل في بعض المراتب بنعوت عرضت له من حيث النسبة والإضافة في مرتبة معيّنة
أو حالة مخصوصة أو بحسب مراتب وأحوال ، فيظنّ من لا يعرف السرّ أنّ الفعل يستند
إلى فاعلين أو أنّ ذلك النعت ذاتي للفعل واجب الحكم عليه به على كلّ حال وفي كلّ
مرتبة ظهر منها ، وليس كذلك بل الأمر كما قلنا.
ثم اعلم ، أنّ
الأفعال على أقسام : ذاتيّة ، وإراديّة ، وطبيعيّة ، وأمريّة.
والأمريّة على
قسمين : قسم يتّحد بالأفعال الإراديّة ولا يغايرها ، كفعال الملائكة والأرواح
النوريّة ، وقسم يخالف الإراديّة من بعض الوجوه كالتسخير المنسوب إلى الشمس والقمر
وبعض الملائكة.
والطبيعيّة في
التقسيم كالأمريّة ، وتتّحد في بعض الصور بالنسبة إلى بعض الموجودات بالإراديّة
كاتّحاد الأمرية بالإراديّة.
وثمّ قسم جامع
لهذه الأقسام الستّة ، وصدور هذه الأقسام الفعليّة من الموجودات على أنواع ؛ فإنّ
من الموجودات ما يختصّ بقسم واحد من هذه الأقسام المذكورة ، ومنها ما يختصّ بقسمين
وثلاثة على الانفراد والتركيب ، بمعنى أنّ أفعاله تصدر مركّبة من هذه الأقسام. أو
يكون في قوّته أن يصدر منه بحسب كلّ قسم فعل أو أفعال شتّى ، ومنها ما يجمع سائرها
بالتفسير المذكور. ومظاهر هذه الأقسام الأرواح النوريّة والناريّة والصور العلويّة
والعناصر وما تولّد عنها ، وخصوصا الإنسان وما تولّد عنه في كلّ نشأة وحال وموطن
ومقام.
وقد بقي من هذا
الأصل أمر واحد وهو إسناد كلّ قسم من أقسام الأفعال إلى من يختصّ به من الموجودات على التعيين ، والكلام عليه يستدعي
بسطا وكشف أسرار لا يجوز إفشاؤها ، ومن عرف من ذوي الاستبصار ما اومأت إليه ، تنبّه
لبعض ما سكتّ عنه ولما تركت ذكره ، ثم نرجع إلى تتميم ما يختصّ بالإنسان من هذا
الأصل ، فإنّه العين
__________________
المقصودة والمثال
الأتمّ والنسخة الجامعة. فنقول :
الإنسان جامع
لسائر أقسام الفعل وأحكامها ، وله من حيث مجموع صورته وروحه في الحياة الدنيا
أفعال كثيرة ، وله من حيث روحانيّته حال الانسلاخ بالمعراج الروحاني أفعال وآثار
شتّى ، تقتضي أمورا شتّى ونتائج جمّة ، مع بقاء العلاقة البدنيّة والتقيّد من بعض
الوجوه بحكم هذه الدار ، وهذه النشأة العنصريّة ، وله أيضا بعد مفارقة النشأة
العنصريّة بالكلّيّة في نشأته البرزخيّة والحشريّة والجنانيّة وغيرها أفعال وأحوال
مختلفة ، ولكن كلّها تابعة للنشأة العنصريّة وناتجة عنها ، وبتوسّطها
تتعدّى أفعال الإنسان من الدنيا إلى البرزخ ، ثم إلى الآخرة ، وتتشّخص في الحضرات العلويّة ، ويثبت ويدوم حكمها
كيف كان الإنسان ، وحيث كان من المراتب والعوالم والمواطن ، فإنّه لا يعرى عن
أحكام المزاج العنصري ولوازمه ونتائجه التي يظهر بها وفيها نفسه ؛ إذ لا غنى له عن
مظهر. ومظاهر الإنسان لا تعرى عن حكم الطبيعة أبدا ، فافهم.
__________________
وصل من هذا الأصل
اعلم ، أنّ أهمّ
ما يجب ذكره وبيانه من هذه التقاسيم كلّها هو أفعال المكلّفين ، المضمون لهم عليها
الجزاء وهم الثقلان ؛ وللحيوانات في ذلك مشاركة من جهة القصاص لا غير ، وليس لها ـ
على ما ورد ـ جزاء آخر ثابت مستمرّ الحكم. وأمّا الجنّ فنحن وإن كنّا لا نشكّ في أنّهم يجازون على أفعالهم ، لكن لا نتحقّق
أنّهم يدخلون الجنّة ، وأنّ المؤمن منهم يجازى على ما عمل من خير في الآخرة ؛
فإنّه لم يرد في ذلك نصّ ، ولا يعرف من جهة الذوق في هذه المسألة ما يوجب الجزم ،
فقد يجنون ثمرة خيرهم في غير الجنّة ، حيث شاء الله. وأمّا الإنسان فعليه مدار
الأمر وهو محلّ تفصيل الحكم.
فنقول : فعله لا
يخلو إمّا أن لا يقصد به مصلحة مّا ، فهو المسمّى عبثا ، وقد سبق التنبيه عليه
وعلى أنّه غير مقصود للحقّ في نفس الأمر ، وإمّا أن يكون مقصودا ومتعلّقا بأمر هو
غايته ، وذلك الأمر إمّا أن يكون الحقّ أو ما منه.
فما متعلّقه الحقّ
، فإنّ مجازاته سبحانه عليه تكون بحسب عنايته بالعبد الذي هذا شأنه ، وبحسب علم
العبد بربّه ، الذي لا يطلب بما يفعله شيئا سواه ، وبحسب اعتقاده فيه ، وحضوره معه
حين الفعل من حيث العلم والاعتقاد ، ولهذا المقام أسرار يحرم كشفها.
وما من الحقّ
يتعلّق تفصيله بأربع مقامات : مقام الخوف ، ومقام التقوى ، ومقام الرجاء ، ومقام
حسن الظنّ.
وهذه المقامات
تابعة لمقامات المحبّة ؛ فإنّ الباعث على الفعل هو الحكم الحبّي ،
__________________
ومتعلّقه باعتبار
ما من الحقّ.
إمّا طلب ما يوافق
الطالب ، أو دفع ما لا يوافقه عنه ، أو الاحتزاز من وقوع غير الموافق ، أو ترجّي
جلب الموافق بالفعل ، أو به وبحسن الظنّ بمن يرجو من فضله نيل ما يروم حصوله من
كون المرجوّ جوادا محسنا ونحو ذلك ، أو العصمة ممّا يحذر وقوعه منه من كونه قاهرا
شديد العقاب ، فيخشى أن يصل إليه منه ألم وضرر.
ثم كلّ ذلك إمّا
أن يتقيّد بوقت معيّن وحالة مخصوصة ودار دون دار ، كالدنيا والآخرة وما بينهما من
المواطن ، وإمّا أن لا يتقيّد بشيء ممّا ذكرنا ، بل يكون مراد الفاعل أحد أمرين : إمّا
جلب المنافع ، أو دفع المضارّ على كلّ حال وفي كلّ وقت ودار بما تأتّى له من الطرق
، أو يكون الباعث له على فعل الخير هو نفس معرفته بأنّه حسن ، واحترازه من الشرّ
هو نفس معرفته بأنّه قبيح مضرّ.
ونتيجة كلّ قسم من
أقسام الأفعال تابعة لحكم الأمر الأوّل ، الموجب للتوجّه نحو ذلك الفعل والباعث
عليه مع مشاركة من حكم الاسم «الدهر» و «الشأن» الإلهيّين. وحكم الموطن والنشأة
والنقص والإتمام وما سوى هذا فقد سبق التنبيه عليه.
وظهور كلّ فعل من
حيث صورته في مقام المجازاة والإنتاج تابع لحكم الصفة الغالبة على الفاعل حال التوجّه
نحوه. ومنتهى الفعل حيث مرتبة الفاعل من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة
الغالبة ، وبحسب متعلّق همّته ، لكنّ الغلبة المنسوبة إلى الصفات الجزئيّة من حيث
أوّليّتها تابعة للغلبة الكلّيّة الأولى ، المشتملة على تلك الجزئيّات ، كالأمر
فيما سبق به القلم من السعادة والشقاء بالنسبة إلى محاسن الأفعال الجزئيّة
ومقابحها الظاهرة بين السابقة والخاتمة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كلّه غير مرّة
، وبيّنت أنّ الحكم في الأشياء هو لأحديّة الجمع ويظهر بالأوّليّات ، فتذكّر.
ثم اعلم ، أنّ كلّ
فعل يصدر من الإنسان فإنّ له في كلّ سماء صورة تتشخّص حين تعيّن ذلك الفعل في هذا
العالم وروح تلك الصورة هو علم الفاعل وحضوره بحسب قصده حال الفعل ، وبقاؤها هو
بإمداد الحقّ ـ من حيث اسمه الذي له الربوبيّة ـ على الفاعل حين الفعل ،
__________________
وكلّ فعل فلا
يتعدّى مرتبة الصفة الغالبة ، الظاهرة الحكم فيه حين تعيّنه من فاعله.
والشرط في تعدّي
الأفعال الحسنة وحكمها من الدنيا إلى الآخرة أمران هما الأصلان في باب المجازاة
ودوام صور الأفعال من حيث نتائجها ، أحدهما : التوحيد ، والآخر : الإقرار بيوم
الجزاء ، وأنّ الربّ الموجد هو المجازي ، فإن لم يكن الباعث على الفعل أمرا إلهيّا
كليّا ، أو معيّنا تابعا للأصلين وناتجا عنهما ، فإنّ الصورة المتشخّصة في العالم
العلوي ، المتكوّنة من فعل الإنسان لا تتعدّى السدرة ، ولا يظهر لها حكم إلّا
فيما دون السدرة خارج الجنّة ، في المقام الذي يستقرّ فيه فاعله آخر الأمر ، هذا
إن كان فعلا حسنا.
وإن كان سيّئا ،
فإنّه ـ لعدم صعوده وخرقه عالم العناصر ـ يعود ، فتظهر نتيجته للفاعل سريعا ،
وتضمحلّ وتفنى أو تبقى في السدرة ؛ لما يعطيه سرّ الجمع الكامن في النشء الإنساني
وما تقتضيه دار الدنيا ، الجامعة لأحكام المواطن كلّها. فإذا كان يوم الحشر ، ميّز
الله الخبيث من الطيّب ، كما أخبر : (وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) الآية. وهذه صفة أفعال الأشقياء الذين لا يصعد لهم عمل حسن
على اختلاف مراتبهم. والسرّ في ذلك أمران :
أحدهما : أنّ
للكثرة حكم الإمكان كما بيّنّا ولا بقاء لها ولا وجود إلّا
بالتجلّي الوجودي الأحدي والحكم الجمعي ، فأيّ موجود لم يعقل استناده إلى أحديّة
المرتبة الإلهيّة ، تلاشت أحكام كثرته وآثارها ، ولم تبق ؛ لعدم الاستناد إلى
المرتبة التي بها يحفظ الحقّ ما يريد حفظه ، ولو لا انسحاب حكم ميثاق «ألست»
ونفوذه بالسرّ الأوّل ، لتلاشى هو بالكلّيّة.
والأمر الآخر فيما
ذكرنا يتضمّن أسرارا غامضة جدّا ، يجب كتمها ، فأبقيناها في خزائن غيبها
، يظهرها الحقّ لمن شاء كيف شاء.
وأمّا الموحّدون
ومن يكون فعله تابعا للأمر الإلهي الكلّي والجزئي المعيّن ، فإنّ صور أفعاله تنصبغ
ـ كما قلنا ـ بصفة علمه ، ويسري فيها روح قصده ، ويحفظها الحقّ عليه من حيث رحمته
وإحصائه بموجب حكم ربوبيّته.
__________________
فإن غلب على الفعل
حكم العناصر وصورة النشأة العنصريّة ، انحفظت في سدرة المنتهى ، منبع الأوامر
الشرعيّة الباعثة على الفعل ؛ فإنّها غاية العالم العنصري ومحتد الطبيعة من حيث
ظهورها بالصور العنصرية ، فجعلها الحقّ غاية مرتقى الآثار العنصريّة ؛ فإنّ أفعال
المكلّفين بالنسبة الغالبة نتيجة الصور والأمزجة المتولّدة من العناصر والمتركّبة
منها ، فلهذا لم يمكن أن يتعدّى الشيء أصله ، فما من العناصر لا يتعدّى
عالم العناصر ، فإن تعدّى فبتبعيّة حقيقة أخرى تكون لها الغلبة إذ ذاك والحكم ،
فافهم.
فإن خرقت همّة
الفاعل وروحانيّته عالم العناصر بالغلبة المذكورة ـ لاقتضاء مرتبته ذلك وحاله ـ
تعدّى إلى الكرسي وإلى العرش وإلى اللوح وإلى العماء بالقوّة والمناسبة التي بينه
وبين هذه العوالم ، وكونه نتيجة من سائرها ، فانحفظ في أمّ الكتاب إلى يوم الحساب.
فإذا كان يوم
الفصل ، انقسمت أفعال العباد إلى أقسام :
فمنها : ما تصير
هباء منثورا ، وهو الاضمحلال الذي أشرت إليه.
ومنها : ما يقلبها
إكسير العناية والعلم بالتوحيد أو به وبالتوبة ، فيجعل قبيحها حسنا ، والحسن أحسن
، فتصير التمرة كأحد ، ويوجر من أتى معصية جزاء من أتى مثلها من
الحسنات بالموازنة ، فالقتل بالإحياء ، و الغصب بالصدقة والإحسان ونحو ذلك.
ومنها : ما يعفو
الحقّ عنه ويمحو حكمه وأثره.
ومنها : ما إذا
قدم الفاعل عليه ، وفّاه له مثلا بمثل خيرا كان أو ضدّه.
ونموّ الجميل من
الفعل وغلبته الظاهرة بصورة الترجيح تارة ، وبالحكم الماحي تارة أخرى
راجع إلى العناية والعلم الشهودي التامّ مع الحضور وسبق الرحمة والشفاعة المختصّة
بالتوحيد والإيمان ، المتفرّعة في الملائكة والرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنين
، والآخريّة للعناية السابقة المضافة إلى الحقّ آخرا من كونه أرحم الراحمين.
ومن الأفعال ما
يكون حكمها في الآخرة هو كسر سورة العذاب الحاصل من نتائج
__________________
الذنوب ، وقبائح
الأفعال.
ومن الأفعال ما
يختصّ بأحوال الكمّل ، ونتائجها خارجة عن هذه التقاسيم كلّها ، ولا يعرف حكمها على
التعيين إلّا أربابها ، والواصل من الحقّ في مقابلتها إلى من ظهرت به لا يسمّى
جزاء ولا معاوضة.
وتسمية المحقّق
مثل هذا جزاء وأجرا إنّما هي من حيث إنّ العمل المشروع يستلزم الأجر ؛ لكونه ناتجا
عنه وظاهرا به ، كما أنّ الإنسان شرط في ظهور عين العمل في الوجود ، وتلك سنّة
إلهيّة في هذا ونحوه ، لا أنّ هذا النوع من الجزاء يطلب من ظهر منه العمل أو به
غير أنّه لمّا لم يكن العمل يقتضي لذاته قبول الأجر والانتفاع به ؛ لأنّه نسبة لا
أمر وجودي ، أعاده الحقّ بفضله على من أضيف إليه ذلك الفعل ظاهرا من أجل ظهوره به
وتوقّف وجوده عليه ، ولاستحالة عوده من هذا الوجه على الحقّ ، فإنّه كامل الغنى
يتنزّه ويجلّ أن يعود من خلقه إليه وصف لم تكن ذاته من حيث هي مقتضية لذلك. وسرّ
الأمر أنّ المطلوب من كلّ مرتبة من مراتب الوجود وبها وفيها ليس غير الكمال
المختصّ بتلك المرتبة ومظاهرها ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وللأفعال والأعمال
مرتبة ، ولها بداية وكمال ، فمبدؤها الحركة الحبّية والتوجّه الإرادي الكلّي ،
المتعلّق بظهور الكمال الذي سبق التنبيه عليه عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه. وكمالها
هو ظهور نتائجها التي هي غاية كلّ فعل وعمل.
فكمال الأعمال
ونتائجها إنّما يتمّ حصوله بصدورها عن الحضرة الذاتيّة الغيبيّة ، وبروزها إلى
مرتبة الشهادة التي هي محلّ سلطنة الاسم «الظاهر» الذي هو مرآة الاسم «الباطن»
ومجلاه ومقام نفوذ حكمه ، فإذا كملت في مرتبة الشهادة بظهور امتياز نتائجها عنها
وتبعيّتها لها ، عاد الأمر كلّه إلى الحقّ مفصّلا على نحو امتيازه عنده في حضرة علمه أزلا ، مع أن لا فاعل
سواه ، لكن توقّف ظهور الأفعال على العباد وإن كانوا من جملة الأفعال ، فالأفعال
إنّما تنسب إليهم في الحقيقة من حيث ظهورها بهم ، لا أنّهم الفاعلون لها.
وهكذا حكم الصفات
التي توهّم الاشتراك بين الحقّ والخلق ، على اختلاف أحكامها
__________________
ومراتبها ، فافهم
وتذكّر ما سبق ذكره في سرّ الغذاء وصوره وكونه شرطا في التوصيل وظهور التفصيل لا
غيره ، وكذلك ما نبّهت عليه من النكت المبثوثة الكاشفة لهذا السرّ ؛ فإنّك تستشرف
على أسرار جليلة ، عظيمة الجدوى ، والله المرشد.
وصل من هذا الأصل
اعلم ، أنّ كلّ
فعل يصدر من الإنسان من أفعال البرّ ، ويقصد به أمرا مّا غير الحقّ ـ كائنا ما كان ـ فهو فيه يعدّ من
الأجراء لا من العبيد.
ومتى صدر منه
الفعل المسمّى برّا أو عملا صالحا ، ولا يقصد به أمرا بعينه ، بل يفعله لكونه
خيرا فقط ، كما سبقت الإشارة إليه ، أو لكونه مأمورا بفعله ويكون مطمح نظره في
العمل الأمر ولكن ليس لكونه أمرا مطلقا ، بل من حيث الحضور فيه مع الآمر ، فهو
الرجل ، فإن ارتقى بحيث أن لا يقصد بما يعمله غير الحقّ كان تامّا في الرجوليّة ،
فإن تعدّى هذا المقام بحيث يتحقّق أنّه لا يفعل شيئا إلّا بالحقّ ، كما ورد في
الحديث «فبي يسمع ، وبي يبصر وبي يبطش ، وبي يسعى» كان تامّا في المعرفة
والرجوليّة.
فإن انضمّ إلى ما
ذكرنا حضوره مع الحقّ من حيث صدور أفعاله من العبد وبالعبد ، ويتحقّق ذلك ويشهده
بعين الحقّ لا بنفسه ، من حيث إضافة الشهود والفعل والإضافة إلى الحقّ لا إلى نفسه
، فهو العبد المخلص المخلص.
فإن ظهرت عليه
أحكام هذا المقام والمقام الذي ـ وهو مقام «فبي يسمع ، وبي يبصر» ـ وغيرهما من
المقامات غير متقيّد بهما ولا بمجموعهما ، مع سريان حكم شهوده الأحدي على النحو
المشار إليه في كلّ مرتبة ونسبة ، دون الثبات على أمر بعينه ، بل يكون ثابتا في
سعته وقبوله كلّ وصف وحكم ، مع عدم تقيّده بمرتبة دون غيرها ، عن علم صحيح منه
__________________
بما اتّصف به وما
انسلخ عنه في كلّ وقت وحال ، دون غفلة ولا حجاب ، فهو الكامل في العبوديّة
والخلافة والإحاطة والإطلاق. حقّقنا الله وسائر الإخوان بهذا المقام المطلق ،
والحال المحقّق بمنّه وفضله.
وصل من هذا الأصل
اعلم ، أنّ
الأحكام الأصليّة المشروعة ـ أعني الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة ـ
منسحبة على سائر أفعال المكلّفين ، فلا يمكن أن يصدر من المكلّف فعل من الأفعال ـ
كائنا ما كان ـ ولا أن يكون في حال من الأحوال إلّا وللشرع فيه حكم من إحدى هذه
المراتب الخمس وسواء كان الفعل ممّا تعيّنت له صورة في الأوامر والنواهي
المشروعة ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وكقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وغيرهما من الأمور المعيّنة بالذكر والمقيّدة بالشرط ،
كالحال والوقت ونحوهما من الشروط. أو كانت مندرجة الذكر في ضمن أصل كلّي شامل
الحكم ، مثل قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) إلى آخر السورة ، وكقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وكقوله عليهالسلام : «في كلّ ذي كبد رطبة أجر» ونحو ذلك ممّا أجمل ذكره في
الكتاب العزيز والأحاديث النبويّة.
ومبدأ ظهور جميع
الأفعال ، الإنسانيّة من حيث نشأته الطبيعيّة العنصريّة وهو باطن القلب ، لكن شروع
الفاعل في فعل أيّ أمر كان ، متوقّف على داعية تتشخّص في قلبه ، تبعثه على بعض
الأفعال ، وترجّحه على غيره من الأفعال وعلى الترك.
وتشخّص هذه
الداعية في القلب ، وتعيّن البواعث الموجبة لصدور الأفعال من الفاعلين ،
__________________
إنّما تخرج من
القلب ، وتتفرّع أحكامها وتنفذ في الجوارح ، ثم إلى غيرها بحسب وجوه القلب الآتي
ذكرها ، وبحسب ما اتّصف به القلب حال الشروع من الصفات المتعيّنة فيه من غيب الذات
، والظاهرة الغلبة عليه بواسطة إصبعي الرحمن أو اللمّتين أو ما نزل عنهما من
الأحكام الروحانيّة والنفسانيّة والطبيعيّة ، جهل تعيّن حكم كلّ من ذلك أو عرف.
والبواعث والأحكام
للوجوه القلبيّة بأجمعها ـ على اختلاف مراتبها ما عدا الوجه
الخاصّ ـ غايتها أحد أمرين : إمّا جلب المنافع ، أو دفع المضارّ عاجلا و آجلا ، صورة ومعنى ، جمعا أو فرادى ، بتعمّل أو بدونه ،
كما سبق التنبيه عليه ، لكن تحت ما ذكرنا أقسام دقيقة لا يعرفها إلّا الأكابر ، من
جملتها أنّ بعض الأعمال قد يكون حجابا على أحد الأصلين المذكورين ، ويقصد من
العامل وبدونه ، بمعنى أنّه قد يصدر من بعض الناس عمل مّا ، فيصير حجابا مانعا من
وصول بعض الشرور إليه ، أو وصول خير لو لا ذلك الحجاب ، لحصل لصاحب العمل ، وقد
يعلم العامل ذلك ، وقد لا يعلمه ، وقد يعلم فيما بعد.
وللجزاء أيضا
رتبتان كلّيّتان : إحداهما : تقتضي سرعة المجازاة في الدنيا ، وعدم تخلّف الجزاء
عن الفعل خيرا كان أو ضدّه. والرتبة الأخرى : قد تقتضي تخلّف الجزاء وتأخيره إلى أجل معلوم عند الله في الآخرة ، كما نبّه عليه من قبل
وعلى بعض ما يختصّ به من الأحكام والأسرار.
فمن الجزاء الخاصّ
في الخير المنبّه عليه في الإخبارات النبويّة هو أنّ اتّفاق الكلمة والجمعيّة قرن
بينهما درّ الرزق واستقامة الحال في الدنيا ، وإن كان القوم الذين
هذا شأنهم أهل فسوق. وفي رواية أخرى «صلة الرحم». وفي أخرى «الدوام على الطهارة». وفي أخرى جمع فقال ـ عليه الصلاة
والسلام ـ : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها
في الآخرة». وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، فإذا أفضي
__________________
إلى الآخرة لم يكن
له حسنة يعطى بها خيرا ، وعيّن صلىاللهعليهوآله أيضا في باب السيّئات وعدم تأخير الجزاء عليها بالعقوبة ، قطيعة الرحم ، والبغي وترك النهي
عن المنكر مع التمكّن من ذلك.
والجزاء العامّ السريع
في الخير تهيئة واستقامة تحصل للقوى القلبيّة والصفات الروحانيّة والطبيعيّة ،
فيعقبها انكشاف بعض الحجب وذهاب بعض الموانع الحائلة بين الإنسان وبين إدراك بعض
ما في إدراكه ، له خير وراحة في عاجل أو آجل ، معنويّا كان الخير أو محسوسا ،
فيحظى من ذلك الخير بمقدار تهيّئه وقبوله وما كتب له منه ، دون بطء ولا تأخير بطء
والجزاء العامّ السريع في باب المكروه الحرمان الذي يوجبه إمّا حجاب وارد ، أو عدم
ارتفاع حجاب حاصل في المحلّ حاكم عليه ، لو لا ذلك الفعل السيّئ ، لانتهى حكمه
وخلأ الإنسان منه ، أو لعدم حراسة تقي ضرر ما اجتلبه الإنسان إلى نفسه بواسطة الفعل
السيّئ وتعرّض له بقبيح العمل.
فهذه الأقسام من
نوع الجزاء لا تتأخّر عن الفعل ، بل تترتّب عليه عقيب صدوره من العامل.
ويشتمل هذا المقام
على أسرار إلهيّة وكونيّة شريفة جدّا لا يشهدها إلّا الأكابر من أهل الحضور والشهود
والمعرفة التامّة ، ويعلمون من تفاصيلها بمقدار معرفتهم التي يتبعها حضورهم.
ومن هذا المقام
يشهد من يكشفه على التمام سرّ الأمر الأحدي الجمعي الإلهي ، ثم الرحماني الذي
تفرّع منه حكم الإصبعين في إقامة القلب وإزاغته ، ثم حكم الإصبعين من كونهما
إصبعين ، ثم اللمّتين ، والأفعال النفسانيّة الطبيعيّة المباحة ، التي لا أجر فيها
ولا وزر ، إلّا إذا ظهرت من الكمّل والأفراد ومن شاء الله من المحقّقين الحاضرين
مع الآمر حين المباشرة من حيث الأمر ، بمعنى أنّه لو لم يبح له مباشرة ذلك الفعل ،
ما باشره ، مع ما أضاف إلى الإباحة بقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) و (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ
__________________
ما
أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وغير ذلك ، وقوله صلىاللهعليهوآله أيضا «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه»
ونحو هذا ؛ فإنّ
المباشر للمباح ، الحاضر مع الآمر أو مع الأمر من كونه أمرا يوجر على كلّ مباح ،
ويكتب في ارتكابه إيّاه من الطائعين الممتثلين أوامر سيّدهم ، وقد ورد ما يؤيّد ما
ذكرناه في الحديث الثابت لمّا نبّه عليهالسلام بعض الصحابة عيل هذا السرّ ، وأخبره أنّه له في إتيان أهله
أجرا ، فتعجّب الصحابي من ذلك ، فقال ما معناه : ألي في وضع شهوتي أجر؟ فقال عليهالسلام : «نعم ، أرأيت لو وضعتها في حرام أكان عليك فيها وزر؟»
فقال : نعم ، قال : «فكذلك إذا وضعتها في حلال كان لك أجر» أو كما قال عليهالسلام. ويمتاز الكمّل والأفراد فيما ذكرنا عمّن سواهم بحال وحضور
وظهور علم زائد على ما نبّهنا عليه يختصّون به ، ربما نلوّح بطرف منه فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.
__________________
تتمّة
متضمّنة كشف سرّ سائر الأوامر والنواهي
التي قرن بها العذاب الأخروي و النعيم
اعلم ، أنّ حاصل
سائر الأوامر والنواهي الشرعيّة الواصلة من الحقّ إلى الخلق في كلّ عصر بواسطة
رسول ذلك العصر هو التعريف بما تتضمّنه الأحوال والأقوال والصفات والأفعال
الإنسانيّة الظاهرة والباطنة ، من الخواصّ والثمرات الناتجة عنها ، والمتعيّنة
صورها في طبقات السماوات والبرزخ والحشر والجنّة والنار وحيث شاء الله ، إثباتا
ومحوا ، وضررا ومنفعة ، وغلبة ومغلوبيّة ، بواسطة اشتراك حكم الرحمة
والغضب الإلهيّين موقّت حسّا وخيالا ، وروحا ومثالا. فافهم هذا ؛ فإنّه من أعزّ الأسرار
الإلهيّة المختصّة بالمقام المتكلّم فيه والمترجم عنه.
ولمّا اطّلعت عليه
، عرفت الأسباب المعيّنة للغضب والرحمة ، وصورة ظهور حكميهما لها ، وانطباعهما
فيها انطباع الصور في المرآة.
وعاينت سرّ (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) وسرّ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) و «المحسنين» و «المتقين»
وغير ذلك.
__________________
وعرفت سرّ النعيم
والعذاب المعجّل والمتطاول المدّة وسريع الزوال ، وسرّ تبديل السيّئات الحسنات ،
وسرّ «إنّما هي أعمالكم ترد عليكم» وسرّ قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) وسرّ (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
ورأيت الأفعال ـ
إذا تعيّنت صورها في باطن الإنسان أو ظاهره ـ صارت مرآة لغضب الحقّ أو رحمته كما
قلنا ، لكن من غير تغيّر وتجدّد حال في الجناب الأقدس ، مع حدوث ظهور التعيّن
والأثر بما يلائم وما لا يلائم.
ورأيت أيضا سرّ
الحلّ والحرمة في كلّ عصر وأمّة وبالنسبة إلى كلّ شخص أيضا في وقت واحد ، وحال
مخصوص ، أو في حالين ووقتين مختلفين.
ورأيت صورة انبعاث الشرائع وتعيّن أحكامها بحسب أحوال الأمم والأعصار.
ورأيت الأوامر
والنواهي المقصورة الحكم على هذه الدار وهذه النشأة ، والمختصّة بمصالحهما
الكلّيّة والجزئيّة ولوازمهما.
ورأيت المتعدّية
الحكم إلى الآخرة تنقسم إلى اربعة أقسام : قسم ينتهي حكمه في أثناء زمان المكث
البرزخي ، أو ينتهي بانتهاء البرزخ ؛ وقسم ينتهي حكمه في أثناء زمان الحشر ، أو ينتهي بانتهاء يومه ؛ وقسم ينتهي في أثناء زمان سلطنة
جهنّم على من دخلها ، أو ينتهي بانتهاء حكمها في غير المخلّدين ؛ وقسم يختصّ بأهل
الجنّة وبمن قيل فيهم : (وَما هُمْ مِنْها
بِمُخْرَجِينَ) .
وهنا بحار زاخرة ،
وأسرار باهرة ، لو خلّي كشفها ، لظهر ما يحيّر الألباب ، ويبدي العجب العجاب.
ويعلم من هذا
المقام أيضا الجزاء الأبدي المستمرّ الحكم في الشرّ والخير ، والثابت إلى أجل
متناه ، وسرّ المجازاة على الخير والشرّ والموازنة بالمثل في الشرّ والتضعيف في
الخير إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف وما شاء الله من الزيادة بحساب ، وسرّ المجازاة على
__________________
بعض الأعمال لبعض
العاملين في الدنيا والآخرة ، وفي الآخرة دون الدنيا ، وبالعكس ، والمجعول هباء منثورا
، حتى لا يبقى لعين العمل صورة تترتّب عليها مكافأة بالخير.
ويعلم أيضا من كمل
له التحقّق بهذا المقام المشار إليه سرّ المرتفع عن مراتب المجازات والموازنات المتعيّنة ، المنبّه
عليها وتبيانه (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ومثله ممّا ورد وثبت ، فإنّ هذا الصنف من الأعمال لا
يتعيّن له جزاء معلوم لغير من ظهر به ، فإنّه إلهي باق على أصله لا تعلّق له بسوى
الحقّ ، ولسان حكمه من باب الإشارة لا التفسير (مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) .
وقد لوّحت بطرف من
هذا فيما مرّ في باب الحمد وتنزّل الجزاء على الحامدين بحسب علومهم ومعتقداتهم في
المحمود ومراتبهم وحظوظهم عنده ؛ فإنّها متعلّقات هممهم وقبلة مقاصدهم منه ،
وبيّنت أنّ ثمّة من ليس لقصده وهمّته والأفعال المنسوبة إليه
والظاهرة به من حمد وغيره غاية ولا مستهدف سوى الحقّ المطلق ، فجزاء مثل هذا خارج
عن المراتب والأقسام المعروفة ، فليلمح من هناك على أنّه سنزيد لذلك بيانا عن قريب ، ـ إن شاء الله تعالى ـ
ويعلم أيضا من هذا
المقام سبب اختلاف الأعمال ـ من حيث هي أعمال للمسمّين عاملين ـ والمقامات التي
يستقر فيها الأعمال في آخر مدى ارتفاعها ورفعها ، وما أوّل تلك المقامات منها ،
وأيّها أغلب حكما بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وبالنسبة إلى
الأعمال الباطنة أيضا ، وما أعلاها وآخرها ، وما المقام الذي ينزل منه الجزاء
الكلّي الأحدي المتنوّع والمنقسم بحسب مراتب الأعمال المختلفة الظاهرة في الأوقات
المختلفة بالعاملين المختلفى المقاصد والعلوم والعقائد والتوجهات والأحوال
والمواطن والمقامات والأزمان والنشآت.
__________________
وهذا المقام ـ
المترجم عن بعض أحكامه وخصائصه ـ يحتوي على نحو ثلاثة آلاف مقام أو أكثر ، وله
أسرار شريفة نزيهة تعزّ معرفتها ، ويقلّ وجدان الواقف عليها ، ولو لا أنّ الخوض في
تفصيل أمّهاتها يحتاج إلى فضل بسط ، ويفضي إلى إيضاح ما يحرم كشفه من أسرار الربوبيّة ، لظهر ما يدهش
العقول والبصائر ، ويشرح الصدور والسرائر ، ولكن لا مظهر لما شاء الحقّ إخفاءه من أسراره المستورة ولا كاتم لما أحبّ بروزه وظهوره.
ثم نعود إلى إتمام
ما وقع الشروع في إيضاحه أوّلا ، فنقول : وأمّا وجوه القلب ، المشار إليها آنفا
فخمسة على عدد الحضرات الأصليّة المذكورة ، ولا يمكن أن يصدر من أحد فعل مّا من
الأفعال إلّا ولا بدّ أن يكون ذلك الفعل منصبغا بحكم أحد هذه الوجوه أو كلّها.
فالوجه الواحد
منها يقابل غيب الحقّ وهويّته وهو المسمّى بالوجه الخاصّ عند المحقّقين الذين ليس
للوسائط ـ من الصفات والأسماء وغيرهما ممّا نزل عنهما ـ فيه حكم ولا مدخل ، ولا
يعرفه و [لا] يتحقّق به إلّا الكمّل والأفراد وبعض المحقّقين ، ولهذا الأمر ـ من
حيث الوجه الذي يقابله من قلب الإنسان وغيره ـ في الوجود الظاهر مراتب ومظاهر
وآيات من جملتها الأوّليّات : كالحركة الأولى ، والنظرة ، والخاطر ، والسماع ،
وكلّ ظاهر أوّل ممّا لا يخفى على أهل الحضور. ولا يترتّب شرعا ولا تحقيقا في جميع
العالم على هذا الوجه وما يخصّه حكم ، ولا يدخل تحت قيد ؛ فإنّه
إلهي باق على حكم التقديس الأصلي ، ولا يتطرّق إليه شكّ ولا غلط ولا كذب أصلا.
والمتحقّق بهذا
الوجه متى راقب قلبه مراقبة لا تتخلّلها فترة بعد معرفته سرّ التجدّد والخلق
الجديد في كلّ نفس ، حكم بكلّ ما يخطر له ، وأصاب ولا بدّ ؛ فإنّه لا تكرّر عنده ،
كما لا تكرار في حضرة الحقّ. وصاحب هذا ، المشهد والمقام كلّ خواطره وإدراكاته
واقعة بالحقّ في مرتبته الأوّليّة ، فالأفعال الصادرة منه من حيث جميع مشاعره
وحواسّه تترتّب وتبتني على هذا الأساس الإلهي ، فلا يصدر منه إلّا جميل حسن وما
يوجب رفع الدرجة ومزيد القرب في عين القرب ، لكن من باب المنّة والإحسان لا
المجازاة ؛ فإنّ أعمال
__________________
صاحب هذا المقام
الصادرة على هذا الوجه قد ارتفعت ـ كما ذكرنا من قبل ـ عن مراتب الجزاء. وقد أشير
إلى ذلك بقوله تعالى : (وَما تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وبقوله (وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ) وبالتنبيه المضمّن في قصّة كتب الفجّار والأبرار ـ التي هي
جرائد أعمالهم ـ وكون الواحد في سجّين ، والآخر في علّيّين ، ولم يذكر للمقرّبين
كتابا ، ولم ينسب إليهم غير الشهود واختصاصهم بالعين التي يطيب ويشرف بها مشرب
الأبرار ، فافهم.
ومن هذا المقام
قيل لرسول الله صلىاللهعليهوآله : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ) الآية. وهذه الحالة المذكورة لصاحب هذا المقام إحدى علامات
من كان الحقّ سمعه وبصره ، وإحدى علامات صاحب قرب الفرائض أيضا باعتبار آخر يعسر
شهوده وتصوّره إلّا للندّر.
والوجه الثاني من
وجوه القلب يحاذي عالم الأرواح ، ويأخذ به صاحبه عنها ، وتنتقش فيه منها بحسب
المناسبة الثابتة بينه وبينها ، وبحسب طهارة الوجه وصقاله ، الذي بهما تظهر صحة النسبة وتحيا رقيقة الارتباط ، التي هي
كالأنبوب والمرزاب الذي يمرّ عليه الفيض ، ويسري فيه ، ويصل به إلى مستقرّه من
القابل. وزكاته وصقاله بالتحلّي بالأخلاق المحمودة واجتناب المذمومة وعدم تمكين
القوى الطبيعيّة من الاستيلاء على القوى الروحانيّة وإطفائها بظلمتها وتكديرها
أشعّة أنوارها ، حتى تضمحلّ أحكامها وآثارها بقهر الأحكام الطبيعيّة المضادّة لها.
وهذا الشرط ـ أعني
حفظ صحّة أحكام كلّ وجه وحالة والصفات المختصّة به من الغلبة المحذورة من الضدّ ومن
الانحراف عن اعتداله الوسطي إلى طرف الإفراط و التفريط ـ معتبر في كلّ وجه من هذه الوجوه ، فزكاة الوجه
الأوّل المقابل لغيب الحقّ بصحّة المسامتة وخلوّه عن كلّ قيد وحكم كوني ورقيقة
إطلاقه عن القيود وطلسته ، وعروه عن النقوش ، وحياة تلك الرقيقة بدوام الافتقار
المحقّق والتوجّه الذاتي العاري عن
__________________
التعمّل والتكلّف.
والوجه الثالث
يقابل به صاحبه العالم العلويّ ، وقبوله لما يريد الحقّ إلقاءه إليه من حيث هو
يكون بحسب صور هذا الإنسان التي له في كلّ سماء ، كما نبّه على ذلك السيّد الحبر ابن عباس رضي الله عنه ووافقه عليه المحقّقون من أهل الله
وخاصّته قاطبة.
وزكاة هذا الوجه
وإحياء رقيقته هو بما مرّ ذكره في وجه الأرواح ، وبحفظ الاستقامة في الأوصاف
الظاهرة الحفظ المتوسّط المانع من التفريط والإفراط. ولن يتحقّق أحد بذلك ما لم
يعرف نسبته من كلّ عالم ، ويراعي حكم الموازنة والمناسبة في ذلك ، ويتفصّل له ـ ذوقا ـ ما أجملت الشريعة الإلهيّة الحقّة ذكره ، وتكفّلت السيرة النبويّة المحمديّة الكماليّة
ببيانه بالفعل والحال بعد الإفصاح عنه مجملا ، فحينئذ متى حكم ، أصاب ، وعرف كيف يتحرّى طريق الجزم والصواب ، والله
المرشد.
والوجه الآخر
يقابل به عالم العناصر ، وتزكيته وإحياء رقيقته أيضا معلوم بالموازين الربانيّة المشروعة والمعقولة ،
وعمدته أمران :
أحدهما : استعمال
الحواسّ والقوى فيما تتعيّن المصلحة فيه حسب الاستطاعة والإمكان وتقديم الأهمّ
فالأهمّ والمبادرة إلى ذلك.
والآخر : كفّها عن
كلّ ما ليس بمهمّ ، فضلا عن استعمالها في الفضول وما لا ينبغي استعمالها فيه ، أو
يجب الاحتراز عنه.
والوجه الآخر
يقابل عالم المثال ، وله نسبتان :
نسبة مقيّدة ،
وتختصّ بعالم الخيال الإنساني ، وطهارته تابعة لطهارة الوجه المتقدّم ، المختصّ بعالم
الحسّ والشهادة ، فينضمّ إلى ذلك تحسين المقاصد حال تصوّرها وامتشائها في الحسّ
المشترك ، والحضور مع الخواطر ، ومحو ما لا يستحسن منها ؛ فإنّ هذه
__________________
أمور يسري حكمها
فيما يصدر عن الإنسان من الأعمال والأنفاس وغيرهما.
وهكذا الأمر في
الحسّ الظاهر ، وقد نبّهنا على ذلك بقوله صلىاللهعليهوآله : «أصدقكم رؤيا ، أصدقكم حديثا» ؛ فإنّ الخيال لا ينتقش
فيه إلّا ما انتقل إليه من عالم الحسّ ، فإن اختلف فمن حيث تغيّر التركيب وتجدّده.
وأمّا المفردات فمستفادة من الحسّ لا محالة ، فمن صحّ وجه حسّه وقواه الحسّية ، صحّ له وجه خياله.
والنسبة الأخرى
تختصّ بعالم المثال المطلق ، وكمال استقامتها ـ من حيث حصّة الإنسان منها ـ ناتج عن استقامة الوجوه الثلاثة المذكورة
بعد الوجه الغيبي وصحّتها ، فاعلم ذلك.
__________________
فصل
يتضمّن الكلام على ما تبقى من أسرار معاني لفظة
«الدّين» وبيان سرّ التكليف وحكمته ، وأصل منشئه
وما يتعلّق بذلك من الأمور الكلّيّة واللوازم المهمّة
بلسان مقام المطلع وأحديّة الجمع
مقدّمه
ولنقدّم قبل
الشروع في الكلام على ما ترجمنا عليه مقدّمة تنبّه على نكت مفيدة مهمّة يجب
التنبيه عليها ، فنقول :
اعلم ، أنّ سرّ
كلّ شيء هو ما خفي من شأنه ، أو بطن منه ، سواء كان الباطن أمرا وجوديّا يمكن أن
يدرك ببعض الحواسّ أو كلّها ، كتجويف باطن قلب الإنسان مثلا وما فيه من البخار
بالنسبة إلى ظاهر جلدة بدنه ، وكدهن اللوز ونحوه مثلا بالنسبة إلى صورة اللوز ، أو
كان أمرا معنويّا كالقوى والخواصّ التي أودعها الحقّ سبحانه وتعالى في الأرواح
وغيرها ، بالنسبة إلى المظاهر والصور الجزئيّة ، التي بها تظهر تلك الخواصّ ،
ويكمّل الحقّ بها أفعال تلك القوى ، كالقوّة المسهلة التي في السقمونيا والقوّة
الجاذبة للحديد في المغناطيس.
وقد يكون الأمر
المضاف إليه السرّ معنى مجرّدا لا ظهور له في الأعيان ، بل يتعقّل في
__________________
الأذهان لا غير ،
كالنبوّة والرسالة والدين والتقى والإيمان ونحو ذلك ؛ فإنّ نسبة السرّ إلى هذه الأمور ليست على نحو نسبته إلى الأمور المتحقّقة
الوجود في الأعيان ، فإذا قيل : ما سرّ النبوّة؟ وما سرّ الشريعة؟ وما سرّ الدين؟
فالمراد بالسرّ هنا عند المحقّقين هو أصل الشيء المسئوول عنه ، أو ما خفي من أمره
الذي من عرفه علّة ذلك الشيء وخاصّيّته ، وأصل منشئه وسبب حكمه وظهوره ، ولوازمه
البيّنة والخفيّة.
وللدين سرّ يعرفه
من يعرف حقيقة الجزاء وأحكامه ، وللجزاء سرّ أيضا تتوقّف معرفته على معرفة الأفعال
التي يترتّب عليها الجزاء ، وللأفعال أيضا ـ من حيث ما يجازى عليها من نسبت إليه
وظهرت منه ـ سرّ تتوقّف معرفته على معرفة التكليف ، فإنّه ما لم يكن تكليف لم
يتقرّر أمر ونهي يوجبان تركا أو فعلا ، ومتى لم يتقرّر الأفعال المشروعة المتفرّعة
عن الأوامر والنواهي ، لا يتعقّل الجزاء المجعول في مقابلة الأفعال التي هي
متعلّقات الأوامر والنواهي ، فالتكليف إذا أصل هذه الأمور المذكورة ، وله أيضا سرّ
وحكمة ، سنشير إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ ؛ فإنّه قد ذكرنا من سرّ الأفعال
والمجازاة وما يختصّ بهما ما قدّر الحقّ ذكره ، ونبّهنا على كثير من الأفعال من
الأسرار الإلهيّة ، المتعلّقة بهذا الباب ، وما إذا تأمّله اللبيب وفهمه ثم استحضره ، لم يعزب عنه شيء من كلّيّات أسرار الدين
وأحكامه ولوازمه الأصليّة.
وقد شاء الله أن
أختم الكلام على هذه اللفظة من هذه الآية بذكر ما تبقى من أمّهات أسرار الدين ،
وأنبّه على أصل التكليف وسرّه وحكمته المعرّفة بمرتبته وثمرته وجلّ جدواه ؛ وفاء
بما التزمته في أوّل الكتاب من التنبيه على أصول ما يقع الكلام عليه في هذا التفسير ، ممّا تتضمّنه الفاتحة ، فأقول :
أصل التكليف وحكمته
كلّ نسبة تعقل بين
أمرين ، فإنّ تحقّقها وثبوتها يتوقّف على ذينك الأمرين لا محالة ،
__________________
والتكليف نسبة لا
تتعقّل إلّا بين مكلّف قادر قاهر عليم ، وبين مكلّف له صلاحيّة أن يكون محلّا
لنفوذ اقتدار المكلّف ، وقابلا حكم تكليفه.
ولمّا علمنا بالله
ـ أو قل ـ بما نوّر به سبحانه عقولنا وبصائرنا أنّ له تعالى الكمال المطلق الأتمّ
، بل هو ينبوع كلّ كمال ، ثم عرّفنا بواسطة نبيّه صلىاللهعليهوآله حين قال له في كتابه العزيز (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ) تحقّقنا بما نوّر أوّلا وبما أخبر ثانيا أنّ الأحكام
والأفعال الصادرة منه سبحانه تصدر منصبغة بالوصف الكمالي ، فليس منها حكم ولا فعل
إلّا وهو كامل ، مشتمل على فوائد وأسرار وحكم شتّى ، لا يحيط بها علم أحد سواه ،
وإنّما غاية الخلق وقصاراهم أن يعرفوا اليسير منها بوهب منه سبحانه أيضا ، لا
بتسلّط كسبي ، ولا على سبيل الإحاطة بذلك اليسير.
لكن مع هذا لا
نشكّ أنّ أفعاله وإن كانت من حيث صدورها منه ونسبتها إليه ـ كما قلنا ـ خيرا محضا
، وكمالا صرفا ، فإنّها متفاوتة في نفسها بحسب مراتب الأسماء والصفات والمواطن
والحضرات ، فبعض تلك الأفعال يكون لما ذكرنا أعظم جدوى من البعض ، وأجلّ قدرا ،
وأتمّ إحاطة ، وأشمل حكما ، وأكثر استيعابا للحكم والأسرار.
والحكم التكليفي
من أجلّ الأفعال والأحكام وأتمّها حيطة ، وأشملها حكما ؛ فإنّه عنوان العبوديّة
المنسحبة الحكم على كلّ شيء بسوط (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) وقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ولا شكّ أنّ كلّ مسبّح لله مقرّ بعبوديّته له ، بل نفس
تسبيحه بحمده إقرار منه بالعبوديّة لله تعالى إقرار علم ، كما أخبر سبحانه بقوله :
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) .
فكلّ ما يطلق عليه
اسم «شيء» فهو داخل في حيطة هذا الحكم والإخبار الإلهي. وقد أسلفنا من قبل أنّ
لكلّ حقيقة أو صفة تنضاف إلى الكون بطريق الخصوصيّة التي هي من خصائص الممكنات ،
أو بطريق الاشتراك ، بمعنى أنّه تصحّ نسبتها إلى الحقّ من وجه وباعتبار ، وإلى
الكون أيضا كذلك فإنّ لها ـ أي لتلك الحقيقة ـ أصلا في الجناب الإلهي ، إلى
__________________
ذلك الأصل ترجع
وإلى الحقّ من حيث ذلك الأصل تستند.
والتكليف من جملة
الحقائق وأنّه ظهر بين أصلين ، هما له كالمقدّمتين أو كالأبوين ، كيف قلت ، وهكذا كلّ أمر
يظهر في مراتب التفصيل فإنّه لا بدّ وأن يكون ظاهرا بين أصلين في إحدى حضرات
النكاحات الخمسة المذكورة من قبل.
فالأصلان الأوّلان
: حضرة الوجوب والإمكان أو قل : حضرة الأسماء والأعيان كيف شئت ، والنكاحات قد مرّ
حديثها.
وأنت متى رجعت إلى ما أسلفناه في بدء الإيجاد وسرّه وسرّ الوحدة ، تذكّرت ما بيّنّا من أنّ الأحديّة لا تقتضي إظهار شيء ولا إيجاده
، وأنّ الحقّ من حيث ذاته وأحديّته غنيّ عن العالمين ، لا يناسب شيئا ، ولا يرتبط
به ، ولا يناسبه أيضا شيء ، ولا يتعلّق به ، فإنّ التعلّق والمناسبة إنّما ثبتا من
جهة المراتب بحكم التضايف الثابت بين الإله والمألوه ، والخالق والمخلوق ، وغير
ذلك ممّا هو واقع بين كلّ متضايفين وكلّ مرتبتين هذا شأنهما ، وقد مرّ أنّ الأثر
لا يصحّ بدون الارتباط ، والارتباط لا يكون إلّا للمناسبة ، فتذكّر تفصيل ما ذكر
في ذلك ، ففيه غنية عن التكرار ، والله المرشد.
ثم نرجع ونقول :
فالأصل الواحد الذي يستند إليه التكليف هو الإيجاب الإلهي ، المختصّ بذلك الجناب ،
وهو إيجاب ذاتي منه عليه قبل أن يظهر للغير عين ، أو يبدو لمرتبته حكم.
ولسان مقام هذا
الأصل هو الناطق في الكتاب العزيز بقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وبقوله (وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ) وبقوله (وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي) و (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) و (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ونحو ذلك. في الأخبار النبويّة
__________________
«وجبت محبّتي
للمتحابّين فيّ»
الحديث «وإنّ حقّا
على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلّا وضعه» ونحوه ممّا يطول ذكره.
والأصل الآخر ـ
الذي منه نشأ التكليف ، وبه ظهر سرّ المجازاة بما لا يوافق من بعض الوجوه ـ هو أنّ
التجلّي الوجودي المقتضي إيجاد العالم ـ وإن شئت قل : الوجود الفائض من ذات الحقّ
على حقائق الممكنات ـ له الإطلاق التامّ عن سائر القيود الحكميّة والصفات
التعيّنية المتكثّرة الإمكانيّة ، ومن حيث انطباعه في أعيان الممكنات
ـ أو قل : اقترانه أو انبساطه عليها ، وظهوره بحسب مراتبها الذاتيّة واستعداداتها
، كما بيّن لك من قبل ـ أضيفت إليه ـ أي إلى الوجود المنبسط المذكور ـ الأوصاف
المتعدّدة المختلفة ، وتقيّد بالأحكام والأسماء والنعوت تقيّدا غير منفكّ عنه ،
بحيث استحال تعقّله وإدراكه مجرّدا عنها جميعها ، بل قصارى الأمر التجرّد عن
أكثرها. وأمّا عن جميعها بالكلّيّة فمحال إلّا بالفرض ، وأنهى الأمر الانتهاء إلى
قيد واحد إضافي ، هذا في أعلى مراتب الإطلاق.
فلا جرم اقتضت
الحكمة العادلة وحكم الحضرة الجامعة الكاملة ظهور سرّ المجازاة ، ووضعه بسرّ
المناسبة والموازنة المحقّقة ، فظهر التكليف الإلهي للعباد كلّهم ، وكلّ ما سواه
عبد ، فتعيّنت القيود الأمريّة والأحكام الشرعيّة ، في مقابلة ما عرض للوجود من
التقيّدات العينيّة وأحكام المراتب الكونيّة الإمكانيّة والعبادات المقرّرة على
نمط خاصّ في مقابلة ما يختصّ كلّ موطن وعالم وزمان ونشأة وحال به من الأحكام ،
وتقتضيه بحيث لا يمكن تعيّن الوجود فيه ، ولا ظهور الحقّ وتصرّفه إلّا بحسبه ،
فتقرّرت العبادات ـ كما قلنا ـ في أهل كلّ عالم أيضا ودور ووقت خاصّ وموطن ونشأة
وحال ومزاج ومرتبة بحسب ما يقتضيه حكم الحال والزمان وما ذكر ، وبحسب الصفات
اللازمة لكلّ ذلك أيضا ، وثبت ذلك جميعه في الكائنات ، كثبوت الحكم المذكور آنفا هناك لا جرم لو انتهى الإنسان ـ الذي هو الأنموذج
لجميع الممكنات والنسخة الجامعة لخصائصها وحقائقها ـ في أمره وحاله وترقّيه إلى
أقصى مراتب الإطلاق ، علما وشهودا ، وحالا ومقاما ، وتجريدا
__________________
وتوحّدا ، فإنّه
لا يتّصف بالحرّيّة التامّة الرافعة لجميع الاعتبارات والنسب والإضافات وأحكام
القيود أصلا ، بل ولو ارتقى ما عسى أن يرتقي بحيث تسقط عنه الأحكام التقييديّة
الإمكانيّة والصفاتيّة الأسمائيّة أيضا بعد سقوط التكليفات الأمرية عنه وخروجه عن
حصر الأحوال والنشآت والمواطن والمقامات ، فلم يحصره عالم ولا حضرة ولا غيرهما
ممّا ذكرنا لا بدّ وأن يبقى معه حكم قيد واحد إمكاني في مقابلة القيد
الاعتباري الثابت في أنهى مراتب الإطلاق للوجود المطلق.
وهذا القيد الباقي
للإنسان هو حظّه المتعيّن من غيب الذات ، الذي قلنا غير مرّة : إنّه لا يتعيّن
لنفسه من حيث هو إلّا بأمر ، ولا يتعيّن فيه لنفسه شيء ، فتعيّنه ـ أي تعيّن الغيب
المذكور ـ هو بحسب ما به ظهر متعيّنا وهو حاله المسمّى فيما بعد بالممكن ، فافهم.
وبهذا التعيّن
يظهر سرّ ارتباط الحقّ بالإنسان وارتباط الإنسان به ، من حيث يدري الإنسان ومن حيث
لا يدري. ولما ذكرنا توقّف تعقّل الوجود المطلق على نسبة أو مظهر يفيد التمييز ولو
غيبا لا عينا ، كتوقّف ظهور العين ـ التي هي شرط في التعقّل ـ على الوجود.
وأمّا عدم شعور
قوم من أهل الشهود الحالي هذا التمييز فلا ينافي ثبوته في نفسه ؛ فإنّ الكمّل
والمحقّقين من أهل الصحو ـ المخلصين من ورطة السكر والمشاهدات المقيّدة عند
استقرارهم من وجه في مركز مقام الكمال الإحاطي الجمعي الأحدي الوسطي ، المعاينين
من أطراف المحيط وأهلها ما خفى عن المنحرفين ـ يحكمون بما ذكرنا.
ثم نقول : ولكلّ
واحد من هذين القيدين : قيد الوجود ، وقيد الإنسان حكم نافذ ثابت يعطي آثارا جمّة
يعرفها الأكابر ، ويشهدونها من أنفسهم ومن سواهم وفي أحوالهم ، فيعرفون من الناس ـ
بل ومن الأشياء كلّها ـ ما لا يعرفه شيء من نفسه ، فضلا عن أن يعرفه من سواه.
وأمّا أحكام التكاليف والقيود اللازمة لها فتتفاوت في الخلق بالقلّة
والكثرة ، والدوام وعدم الدوام ، بحسب القيود المضافة إلى الوجود من جهة كلّ فرد
من أفراد الخلق. فمن كانت
__________________
مرآة عينه الثابتة
في ضرب المثل أقرب إلى الاعتدال والاستدارة وصحّة الهيئة والشكل ، متناسبة الأحوال
والصفات ، والقوى والأحكام ، بحيث لا تظهر في الأمر المنطبع فيها ، والظاهر بها
حكما مخالفا لما يقتضيه الأمر في نفسه لذاته من حيث هو ، كان أقلّ المجالي تكليفا
، وأتمّها استحقاقا للمغفرة الكبرى ، التي لا يعرفها أكثر المحقّقين ، وأقربها
نسبة إلى الإطلاق ، وأسرعها انسلاخا عن الأحكام الإمكانية والصفات التقييديّة ، ما
عدا القيد الواحد المنبّه عليه ، كنبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله ، ثم الكمّل من عباد الله من الأنبياء والأولياء.
ولهذا وغيره قيل
له : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأبيح له ولمن شاء الله ما حجر على الغير.
وصاحب هذه المرآة التامّة هو العبد المحقّق ذو القدم القديم ،
والفضيلة الذاتيّة الأزليّة ، الذي لم يؤثّر ـ بنقص القبول ـ في صورة كلّ ما تجلّى
فيه خداجا ولا نقصا وتغيّرا ، ولا أكسب الأمر المنطبع فيه وصفا متجدّدا لم يكن
ثابتا له أزلا سوى نفس التعيّن بحسب القيد الواحد ، الذي لا مندوحة عنه ، بخلاف
غيره ، فهو ـ أعني هذا العبد ـ يحاذي ويقابل كلّ شيء بالطهارة الصرفة ، ليظهر كلّ من
شاء بما هو عليه في نفسه ، وكلّ من هذا شأنه فإنّه يحفظ على كلّ شيء صورته
الذاتيّة الأصليّة على نحو ما كانت مرتسمة في ذات الحقّ ، ومتعيّنة في علمه أزلا
مادام محاذيا له ، فإن انحرف عن كمال المسامتة ـ لاقتضاء حكم حقيقة الانحراف ـ فلا
يلومنّ إلّا نفسه «من وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا
نفسه».
انظر ما الذي
أخبرك عليهالسلام عن ربّه أنّه قال لك ، وافهم عنه ، وقد أخبرتك أنّك من وجه
مرآة وجوده ، وهو مرآة أحوالك ، وقد كرّرت وربما زعمت أنّي طوّلت ، فاذكر فو الله لقد أو جزت واختصرت
، لو عرفت ما ذكرت لك ، لطار قلبك ودهش لبّك ، ولكن والله ما أراك تفهم مقصودي
وأنت معذور ، كما أنّي في التلويح بهذا القدر من هذا المقام مجبور ومأمور ،
__________________
وأمّا حكم من نزل
عن هذه الدرجة والمقام من الخلق ـ كائنا من كان ـ فبحسب قربه وبعده من المقام وزنا
بوزن ، لا ينخرم ولا يختلّ ؛ فإنّ ذلك من سنّة الله (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) .
فإذا عرفت هذا ،
فاعلم ، أنّ الأحكام التقييدية إن انضافت إلى الوجود من جهة مرتبة موجود مّا من أربعة أوجه مثلا أو خمسة ، حتى اقتضى
كلّ وجه منها حكما وتعيين وصف وحال خاصّ ، لم تكن تنضاف إلى الوجود بدونه ؛ فإنّ
حكم التكليف يظهر فيه وينفذ من حيث تلك الوجوه الخمسة وبحسبها ، وتقلّ الأحكام
التكليفيّة وتكثر بحسب الوجوه التي للممكن وما تعطى من الآثار المضافة إلى الوجود.
وسبب كثرة الوجوه هو تضاعف أحكام الإمكان ، لكن بالنسبة إلى كلّ ممكن كثرت الوسائط
بينه وبين موجده ؛ لنقص القبول وقصور الاستعداد الذاتي ، لا للجمع والاستيعاب ؛
فإنّ الإنسان من حيث صورته أكثر الموجودات وسائط من حيث سلسلة الترتيب ، وآخرها
ظهورا ، لكن إنّما كان ذلك ليجمع سرّ كلّ واسطة ، ويحيط بحكم ما اشتملت عليه
الدائرة ، وينختم به من حيث إنّه آخر مستمدّ مع أنّه عن مرتبة يحصل المدد للقلم الأعلى ، الذي هو أوّل ممدّ من
الوسائط بعد الحقّ ، فافهم. وهنا تفصيل يطول ذكره.
ولمّا كانت مراتب
الموجودات من الوجه الكلّي تنحصر في خمس مراتب كلّ مرتبة منها تقتضي أحكاما شتّى ـ
كما أسلفنا ـ لذلك كانت أصول التكاليف خمسة ، فالخمسة التي تختصّ بالمكلّف هو : حكم عينه الثابتة من حيث تميّزها في علم
الحقّ أزلا ، وحكمه من حيث روحانيّته ، وحكمه من حيث صوره ونشأته الطبيعيّة وما يختصّ بها ، وحكمه
من حيث العماء باعتبار سريانه في المراتب المذكورة ، والحكم الخامس من حيث
معقوليّة الأمر الجامع بين هذه الأربعة باعتبار الهيئة المعنويّة ، الحاصلة من
الاجتماع المذكور وذلك هو حكم مقام أحديّة الجمع ، فافهم.
__________________
ويستلزم ما ذكرنا
حكم الاسم «الدهر» و «الشأن» و «الموطن» و «المقام» والسرّ الجامع بين سائرها ،
واستلزمت هذه خمسة أخرى ، هي الشروط التابعة للخمسة المذكورة ، والمنشعبة منها :
أحدها سلامة عقل المكلّف ، وسنّ التكليف ، والاستطاعة من صحّة ونحوها ، العلم
المتوقّف على بلوغ الدعوة ، والدخول تحت حيطة أمر الوقت ، الإلهي من حيث تعيّنه
كمواقيت الصلوات وصوم رمضان ، وأداء الزكاة في رأس الحول ، والحجّ في ذي الحجّة
ونحو ذلك ، فكانت لما ذكرنا أركان الإسلام خمسة ، وكذلك الإيمان ، وكذا الأحكام
الخمسة ، والعبادات الكلّيّة.
وحبّة المجازاة
وبذرة شجرتها ومنبع أنهارها هو ما سلف في باب الفواتح من أنّ الأعيان الكونيّة
لمّا كانت شرطا في تعيّن أحكام الأسماء
والصفات وظهور نسبة أكمليّتها في الوجود العيني بنفوذ أحكامها في القوابل ، ورجوع
تلك الأحكام ـ بعد الظهور التفصيلي المشهود ـ إلى الحقّ على مقتضى معلوميّتها
ومعقوليّتها باطنا في حضرة الحقّ ، اقتضى العدل والجود المحتويان أن عوّضت
بالتجلّي الوجودي ، فظهرت به أعيانها لها ، ونفذ حكم بعضها في البعض بالحقّ ، جزاء
تامّا وفضلا وعدلا شاملا عامّا ، فافهم هذا الأصل الشريف ؛ فإنّ جميع أنواع
المجازاة الإجماليّة والتفصيليّة متفرّعة عنه وعن الأصل المتقدّم الذي بيّنت أنّه
سبب التكليف ، وأنّ التكليف مجازاة أوجبها تقيّد الوجود بالأعيان على نحو ما مرّ
ذكره ، فاذكر ، ترشد ، ـ إن شاء الله تعالى ـ
__________________
لسان جمع هذا القسم وخاتمته
لمّا كانت الفاتحة
منقسمة بالتقسيم الإلهي ثلاثة أقسام ، وقد انتهى ما يسّر الله ذكره في القسم
الأوّل منها ، وكان الوعد الإلهي قد سبق أن يكون خاتمة الكلام على كلّ آية قسما بلسان مقام الجمع والمطلع ، حان لنا أن نقبض عنان العبارة
عن الخوض في هذا النمط بلسان البسط ، ونشرع فيما سبق الوعد بذكره ، فنقول باللسان الجمعي ، ونبدأ ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) :
اعلم ، أنّ
التسمية من كلّ مسمّ لكلّ مسمّى تنبيه عليه لمن هو مجهول عنده ، أو تذكير به إن
كان ممّا قد علم المذكّر له ثم نسيه ، أو إظهار له من حيث صفة خاصّة أو
حالة أو مرتبة أو زمان أو موطن أو المجموع.
وتسمية الشيء نفسه
مع علمه بها تنبيه للغير ، أو ترهيب منه من حيث إنّه بمثابة أن يخشى ويحذر ، أو
ترغيب للمنبّه فيما عند ذي الاسم من الأمور التي يتعذّر نيلها أو معرفتها ابتداء دون ذلك التنبيه أو ما يقول مقامه من المنبّهة.
فمتى نبّه الشخص
شعّر ، فرغب وسعى وطلب ليغنم ، أو اتّقى وحذر ليسلم ، سواء كان ذلك مقيّدا بوقت أو حال أو غيرهما من الشروط ، أو لم
يكن ، فافهم.
وأمّا اسم «الله» فإنّه وإن
تقدّم القول فيه بما شاء الحقّ ذكره فلا بدّ من تتمّة يستدعيها
__________________
هذا اللسان الجمعي
، فنقول :
الاشتقاق المنسوب
إلى هذا الاسم راجع إلى المعنى المتشخّص منه في أذهان المتصوّرين ، لا إلى حقيقته
؛ لأنّ أحد شروط الاشتقاق أن يكون المعنى المشتقّ منه سابقا على المشتقّ وهذا لا
يصحّ في حقّ شيء من الحقائق ؛ فإنّ للحقائق ـ وخصوصا لهذا الاسم ـ
التقدمة على سائر المفهوم والمفهومات المتصوّرة ، وقد كان ثابتا لمسمّاه قبل وجود التصوّر والمتصوّرين لمعنى الألوهيّة مطلقا ومقيّدا ، فكيف يصحّ فيه الاشتقاق المعلوم؟! وأمّا
اختصاصه بهذه الحروف دون غيرها فذلك لسرّ يعرفه من يعرف أسرار الحروف ، ومراتب
روحانيّتها ، فيعلم سعة دائرة حروف هذا الاسم ، وحكم بسائطها وعظم أفلاكها ،
ومناسبتها لما وضعت بإزائه ، وأنّ هذا اللفظ أتمّ تأدية للمعنى الذي وضع له ،
وأقرب مطابقة من غيره من الأسماء اللفظيّة المركّبة من غير هذه الحروف عند من أدرك
مدلول هذا الاسم وتصوّره في أنهى مراتب الإدراك وأعلى مراتب التصوّر.
واعلم ، أنّ
الأتمّ شهودا وعلما بكلّ منادى ومدعوّ ومذكور ومسمّى هو أصحّ الموجودات تصوّرا له
، والأصحّ تصوّرا أصحّ استحضارا ، والأصحّ استحضارا ـ بعد صحّة التصوّر ـ أتمّ
احتظاء بإجابة المدعوّ والمنادى عند ذكره أو التوجّه إليه أو الطلب له أو منه.
وأمّا ما غاب من
حروف هذا الاسم في مرتبتي التلفّظ والكتابة فإشارة إلى ما بطن من المسمّى به وما
لا يقبل التعيّن منه في عالم الشهادة والغيب المقابل له ، فافهم.
وأمّا (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فهو في ذوق هذا المقام المتكلّم فيه اسم مركّب ، فلا يخلو
كلّ منهما عمّا تضمّنه الآخر ، فبعموم الحكم الرحماني ـ الذي هو الوجود ـ ظهر
التخصيص العلمي ، ثم الإرادي المنسوب إلى الرحيم ، فبه تعيّنت الحصص الغيبيّة صورا
وجوديّة ، كما أنّه بالرحيم ظهر الوجود الواحد متعدّدا بالموجودات العينيّة.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) تعريف بأطلق مراتب الثناء وأوسعه ، وبأوّل تعيّنات مطلق
__________________
الاسم «الله» بحسب
الاسم «الربّ» ، وبأوسع أفلاك الاسم «الربّ» المحيط بالعالمين والدائر عليهم بسرّ التربية ، والسيادة ، والملك ، والثبات ،
والإصلاح ، وبإظهار سرّ ارتباط العالم بالربّ من كونه عالما.
وأمّا سرّ الحمد
فمن أغرب أحكامه التي لم يتقدّم ذكرها هو حمد الحقّ الحمد والموجودات أيضا بنفس
شهادته سبحانه للثناء ؛ فإنّ علم الحقّ بأنّ الثناء ثناء هو المقتضي للشهادة ؛ إذ
لا شهادة في الحقيقة إلّا بعد العلم ، ولا : أمر يثبت ، ولا حكم ينفذ لغير الحقّ
إلّا بعد شهادة الحقّ بأنّه مستحقّ لما شهد له به وأضيف إليه ، ولمّا أضاف الحقّ
الحمد لنفسه بحكم كمالي ، ثبت له ذلك وتعيّنت مكانته.
وأمّا حمد الحقّ
الكائنات فهو بذواتها ـ أي بما يقتضيه كلّ شيء لذاته من الأمور المحمودة ـ فيظهر أعيانها
ويعرّف البعض للبعض ، حتى يعمّ التعريف والإشهاد ، فيشمل الحمد ـ الذي هو الثناء ـ
كلّ شيء من الحقّ بكلّ شيء ، فمجموع العالم محمود بجملة ما يشتمل عليه من الصفات
والأحوال المرضيّة بألسن شتّى وغير المرضيّة بلسان الإرادة والجمال المطلق
والتوحيد الفعلي والذاتي والحكمة الباطنة ، من حيث إنّه ما من شيء إلّا وهو شرط في
ظهور كمال القدرة وغيرها من الصفات ، وإنّ كمال مرتبة العلم والوجود المتوقّفين
على ظهور التفصيل الكوني متوقّف على كلّ فرد فرد من أفراد الموجودات ، فكلّ ما
توقّف عليه حصول المقصود ، فهو مطلوب ومشكور من حيث إنّه به ظهر ما أريد ظهوره ،
فافهم واقنع ؛ فهذا اللسان لا يحتمل الإطناب.
ويحمد الحقّ الخلق
بالحمد أيضا ، وذلك بإظهاره عين الحمد حيث شاء من العوالم ، وجعله صفة من أراد من
أهل ذلك العالم ، فيظهر حكم الحمد بالحقّ فيمن قام به وصار صفة له ، فإنّ
المعاني توجب أحكامها لمن قامت به.
وأمّا حمد الحمد
الحقّ أو نفسه أو الكون فهو بظهور حكمه وقيامه بالمحمود أو فيه وقد مرّ حديثه من
قبل.
__________________
قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليس تكرّرا لما في البسملة ، بل للواحد تخصيص حكم التعميم ، وللآخر
تعميم حكم التخصيص. ومتعلّق أحدهما الحكم الدائم بمقتضى حكم معنى الأمر باطنا
مطلقا ، للآخر الحكم المقدّر المشروط ظاهرا وباطنا.
وسرّ ذلك وتفصيله
أنّ الرحمة رحمتان : رحمة ذاتيّة مطلقة امتنانيّة ، هي التي وسعت كلّ شيء ، ومن
حكمها الساري في الذوات رحمة الشيء بنفسه وفيها ، تقع من كلّ رحيم بنفسه بالإحسان
أو الإساءة بصورة الانتقام والقهر ؛ فإنّ كلّ ذلك من المحسن والمنتقم رحمة بنفسه ،
فافهم. ومن حيث هذه الرحمة وصف الحقّ نفسه بالحبّ وشدّة الشوق إلى لقاء أحبّائه ،
وهذه المحبّة بهذه الرحمة لا سبب لها ولا موجب ، وليست في مقابلة شيء من الصفات
والأفعال وغيرهما وإليها أشارت رابعة ـ رضي الله عنها ـ بقولها :
أحبّك حبّين :
حبّ الهوى
|
|
وحبّا لأنّك أهل
لذاكا
|
فأمّا الذي هو
حبّ الهوى
|
|
فذكرك في السرّ
حتى أراكا
|
فأمّا الذي أنت
أهل له
|
|
فشغلي بذكرك
عمّن سواكا
|
ولا الحمد في ذا
ولا ذاك لي
|
|
ولكن لك الحمد
في ذا وذاكا
|
فحبّ الهوى
لمناسبة ذاتيّة غير معلّلة بشيء غير الذات. وأمّا حبّ أنّك أهل لذاكا فسببه المثمر
له هو العلم بالأهليّة. ولهذه الرحمة من صور الإحسان كلّ عطاء يقع لا عن سؤال أو
حاجة ولا لسابقة حقّ أو استحقاق لوصف ثابت للمعطى له أو حال مرضيّ يكون عليه هذا
مطلقا.
ومن تخصيصاته
الدرجات والخيرات الحاصلة في الجنّة لقوم بالسرّ المسمّى في الجمهور عناية ، لا
لعمل عملوه أو خير قدّموه.
ولهذا ثبت كشفا
أنّ الجنّات ثلاث : جنّة الأعمال ، وجنّة الميراث ، وجنّة الاختصاص.
وقد نبّه على جميع
ذلك في الكتاب والسنّة ، وورد في المعنى : أنّه يبقى في الجنّة مواضع خالية يملأها
الله بخلق يخلقهم لم يعملوا خيرا قطّ ، إمضاء لسابق حكمه وقوله تعالى :
__________________
«لكلّ واحدة منكما ملؤها».
والرحمة الأخرى هي
الرحمة الفائضة عن الرحمة الذاتية ، والمنفصلة عنها بالقيود التي من جملتها
الكتابة المشار إليها بقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فهي مقيّدة موجبة بشروط من أعمال وأحوال وغيرهما. ومتعلّق
طمع إبليس الرحمة الامتنانيّة التي لا تتوقّف على شرط ولا قيد حكمي ولا زماني ،
فالحكمي قيد القضاء والقدر اللذين أوّل مظاهرهما من الموجودات القلم الأعلى واللوح
المحفوظ. والزمانيّ إلى يوم الدين وإلى يوم القيامة ، وخالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض.
فرحمتا البسملة
للتعميم والتخصيص ، ورحمتا الفاتحة لما ذكرنا من الرحمة الذاتيّة الامتنانيّة
والتقييديّة الشرطيّة.
ومن هذا المقام (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ؛ فإنّ المجازاة ذاتيّة وغير ذاتيّة ، فالوقت لغير
الذاتيّة. والذاتيّة لا وقت لها ؛ لإطلاقها.
ولمّا كان للحقّ
سبحانه الأمران وفي العالم ما يقتضي قبول الحكمين ، ذكر اليوم المشتمل على الليل
والنهار اللذين هما مظهر الغيب المطلق الممحوّ آيته ، والشهادة المبصرة علاماته.
والمجازاة
الذاتيّة الواقعة بين الوجود والأعيان باعتبار القبول الأوّل والعطاء الأوّل. وقد
مرّ ذكرهما عن قريب.
والمجازاة
الصفاتيّة والفعليّة مثل قوله (أَنِ اعْبُدُونِي) (وَاشْكُرُوا لِي) في مقابلة ما أسدى إلى عباده من النعم الظاهرة والباطنة «وأنا
عند ظنّ عبدي بي ، وسيجزيهم وصفهم» والدعاء والإجابة ونحو ذلك لمرتبة
الأفعال.
وأمّا متعلّق قوله
سبحانه بلسان النبوّة عند قول العبد : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) : «مجّدني عبدي» فهو ما يستدعيه مقام العبوديّة العامّة ،
كنسبة الرعيّة مع الملك بخلاف قوله تعالى في
__________________
ذلك أيضا : «فوّض
إليّ عبدي» عند قوله تعالى : (مالِكِ) بالألف ، فإنّ متعلّقه ما يقتضيه خصوص العبوديّة من حيث الملك بالنسبة إلى المالك من كمال التفويض والاستسلام وصرافة الطاعة والإذعان ،
فافهم.
وما يتبع الجزاء ـ
كالحال والطاعة والعادة وما سبق ذكره من معاني لفظة «الدّين» ـ فكلّها أحوال
العبوديّة والطهارة الحاصلة للعبد المحض ، الذي لا يعامل معاملة الأجير تحصل له
بأمور ، منها ومن آياتها رفع المجازاة الصفاتيّة والفعليّة ، ويبقى في مقامه من
حكم المجازاة الذاتيّة ما يقتضيه الأمر الذي يمتاز به العبد عن الحقّ من حيث
الفروق التي سلفت ، لكن بين الكامل وغيره في ذلك تفاوت كثير قد سبق التنبيه
عليه أيضا في ذكر مراتب التمييز.
وللحال والطاعة وغيرهما من المعاني المذكورة تمخّضات وامتزاجات بين رتبة العبد وربّه ، وزبدة مخيضتها ما سبقت الإشارة إليه في الفصل السابق عند الكلام على
مراتب الأعمال ونتائجها ، فأمعن التأمّل فيه وفيما يليه وما يذكر في سرّ الشكر في
آخر الكتاب ، تر الغرائب.
__________________
وصل
في الظهر والبطن
والحدّ والمطلع
اعلم ، أنّا
بيّنّا في غير موضع من هذا الكتاب أنّ العالم من حيث حقيقته مرآة لأحكام
الحضرات الخمس ، وأنّ صور العالم ظاهرة بحسبها ، وما من موجود عيني ولا أمر غيبي
إلّا وحكم هذه الحضرات سار فيه ، كما نبّهت عليه غير مرّة. وجميع الخواص والأوصاف
واللوازم المضافة إلى الكون إنّما تظهر بحكم مقام الجمع الأحدي ، الذي تستند
إليه الأسماء والصفات والعوالم والحضرات ، فإنّها منفعلة ومتفرّعة عنه وتابعة
له ، وإن كانت في هذا المقام الأنزه الأنوه الذاتي لا تتعدّد ، بل يظهر عنها وفيها التعيين والتفصيل بحسب مراتب
العالمين وأحوالهم ومدركاتهم وتطوّراتهم.
وإذا تقرّر هذا ،
فنقول : الكلام الإلهي من أجلّ النسب والصفات الكلّيّة المستوعبة مراتب الإيضاح
والإفصاح وقد صدر من حضرة الحقّ ووصل إلينا منصبغا بحكم الحضرات الخمس الأصليّة
المذكورة وما اشتملت عليه.
وله ـ كما أخبر صلىاللهعليهوآله ـ ظهر وهو الجليّ
والنصّ المنتهي إلى أقصى مراتب البيان والظهور نظير الصور المحسوسة. وله أيضا بطن
خفيّ نظير الأرواح القدسيّة المحجوبة عن أكثر المدارك.
وله حدّ مميّز بين
الظاهرة والباطنة به يرتقى من [الظاهر إلى الباطن] و هو البرزخ
__________________
الجامع بينهما
بذاته ، والفاصل أيضا بين الباطن والمطلع. ونظيره عالم المثال الجامع بين الغيب
المحقّق والشهادة.
وله مطلع وهو ما
يفيدك الاستشراف على الحقيقة التي إليها يستند ما ظهر وما بطن وما جمعها وميّز
بينهما ، فيريك ما وراء ذلك كلّه وهو أوّل منزل من منازل الغيب الذاتي الإلهي ،
وباب حضرة الأسماء والحقائق المجرّدة الغيبيّة ، ومنه يستشرف المكاشف على سرّ
الكلام الأحدي الغيبي ، فيعلم أنّ الظهور والبطون والحدّ والمطلع منصّات لهذا
التجلي الكلامي ولغيره ، ومنازل لتعيّنات أحكام الاسم «المتكلّم» من حيث امتيازه
رتبة خامسة تعرف من سرّ النفس الرحماني ، وقد مرّ حديثه سيّما من هذا الوجه ،
فتذكّر.
وقد انتهى القول
في القسم الأوّل من أقسام الفاتحة جمعا وتفصيلا ، ويسّر الله الوفاء بما التزمته ،
وإنّي وإن بسطت القول فيما مرّ بالنسبة لمن لا يعرف قدر هذا الإيجاز ، فإنّما كان
ذلك من أجل أنّ تحرير الكلام في القواعد وفي أمّهات المسائل يفتح ما يأتي بعد.
ومن الأمور
المتفرّعة على تلك الأمّهات والتفاصيل التابعة لأصولها ولا سيّما والسورة المتكلّم
فيها أصل أصول الكلم ، ومفتاح جوامع الأسرار والحكم ، فجدير بمن قصد تفسيرها أن
ينبّه على مشارع أنهار أسرارها ، ومطلع شموس أنوارها ، ومجتمع كنوزها ومفتاح
خزائنها وحاصل مخزونها (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَ) ، (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
فاتحة القسم
الثاني قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ولنبدأ أوّلا بعون
الله ومشيئته بذكر ما يقتضيه ظاهر اللسان ومرتبته ، ثم نرقى منه وفيه بالتدريج إلى
الباطن ، ثم الحدّ والمطلع والأمر المحيط الحاكم على الجميع ، كما يسّر الله ذلك فيما مرّ. فنقول :
«إيّا» ضمير منفصل
للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في «إيّاك» و «إيّاه» و «إيّاي»
لبيان حكم المتكلّم والغائب والمخاطب ، ولا محلّ لها عند
__________________
المحقّقين من
أرباب اللسان من الإعراب ، كما لا محلّ للكاف في «أرأيتك» وليست بأسماء مضمرة
مقصودة. وما حكاه الخليل عن بعضهم أنّه «إذا بلغ الرجل الستّين فإيّاه وإيّا
الشوابّ» فشاذّ لا يعوّل عليه.
و «العبادة» في
اللغة : أقصى غايات الخضوع والتذلّل ، ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية
الصفاقة وقوّة النسج. كأنّه إشارة إلى قبوله الانفعال والتأثير القوي. وأرض معبّدة
: مذلّلة.
وأمّا سرّ باطن
ظاهر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الآية ، هو أنّه لمّا ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه صفات
العظمة والجلال ، ونعته بنعوت الكمال ، تعلّق العلم أو الذهن بمتصوّر عظيم الشأن ،
جدير بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة به في المهمّات ، فخوطب ذلك المعلوم أو
المتصوّر المتميّز ، بتلك الصفات حين تعيّن مرتبته وصورة عظمته في ذهن المناجي ،
بحسب معتقده فيه الذي عليه يترتّب إسناد تلك الصفات إليه.
وقيام المناجي
حالتئذ في مقام العبوديّة المقابلة للربوبيّة المستحضرة له عقيب ذلك بإيّاك نعبد
يا من هذه صفاته ، إشارة إلى تخصيصه بالعبادة وطلب الاستعانة منه ، أي لا نعبد
غيرك ولا نستعينه اقتصارا عليه وانفرادا له وليكون الخطاب أدلّ على أنّ العبادة
لذلك المتميّز بذلك المتميّز الذي لا تتحقّق العبادة إلّا به وإقران
العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وبين ما يطلبونه
ويحتاجون إليه من جهته. وتقديم العبادة على الاستعانة كتقديم الوسيلة على طلب
الحاجة ؛ رجاء الإجابة ، كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) الآية وإطلاق الاستعانة لتناول كلّ مستعان به.
وبعد أن ذكرنا في
هذه الآية ما استدعاه ظاهر مقامها من إلماع بطرف من الباطن ، فلنرق منه إلى ما
فوقه ، ولنذكّرك أوّلا أيّها المتأمّل بما أسلفناه قبل في حقيقة الذكر والحضور ،
في بيان سرّ جواب الحقّ عبده التالي المصلّي حين قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : «ذكرني
__________________
عبدي» الحديث ؛
لمسيس الحاجة إليه هاهنا. ثم نقول :
اعلم ، أنّ الله
سبحانه قد نبّه الألبّاء على بعض أسرار ما نحن بصدد بيانه تنبيها خفيّا بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) وكلّ عابد لشيء فإنّه متوجّه إلى معبوده لا محالة ،
وتوجّهه إليه مسبوق بما بعثه على ذلك التوجّه ، وباعثه على التوجّه يتعيّن بحسب ما
استقرّ عنده من المتوجّه إليه ، والمستقرّ عنده صورة علميّة منتشية من دلائل
ومقدّمات تفيد الجزم اليقيني في زعمه ، أو صورة ذهنيّة متحصّلة من أقاويل مسموعة ،
أو آيات وآثار مشهودة دالّة على أمور يزعم أنّها كمالات ، وأنّها حاصلة لمن تضاف إليه تلك الآثار ، وتستند إليه تلك الكمالات ، فحالما
تصوّر تلك الصفات قائمة بموصوف مّا منفرد بها دون غيره حكم بأنّه مستحقّ للعبادة ،
فرغب في اللجأ إليه والتعبّد له ؛ خوفا وطمعا ، أو استحسانا.
هذا ، مع أنّه قد
يكون ما حكم به لمن نسبت إليه تلك الصفات ودلّت عليه الآثار والآيات المسموعة
والمدركة صحيحا ثابتا لذلك الموصوف ، وقد لا يكون كذلك إلّا في زعم المعتقد لا في
نفس الأمر ، أو تكون تلك الصفات والآثار ونحوهما ثابتة لغير من أضيفت إليه ، وتلك
الأقاويل دالّة على تشخّصات متعيّنة في أذهان القائلين بحسب آرائهم وحدسهم
وتصوّراتهم ، فهي ـ أعني تلك الصور الذهنيّة الاعتقاديّة ـ من حيث أوّل حادس
ومستحضر ما أنشأ تصوّره منفعلة عنه ، ومن حيث السامع الأوّل القائل المستعبد نفسه
من حيث هي بحسب ما ثبت في نفسه وتصوّره منها لقول القائلين منفعلة مرّة أخرى ،
وهلمّ جرّا.
فالشخص إذا مستعبد
نفسه لما انتشى في ذهنه ، وكان ناشئا أيضا عن صورة أخرى منفعلة عن متصوّر آخر
بتصوّر هو بالأصالة منفعل ، هكذا ذاهبا إلى أوّل فاعل منفعل وكون الأمر كما تصوّر
فإنّه يمكن أن يكون المتوجّه إليه بالعبادة فاعلا من حيث هو ، ومنفعلا من حيث
تعيّنه في تصوّرات العقول والأذهان والظنون والأوهام ، أو ليس كذلك.
فيه : نظر. أمّا
في طور العقل فلا شكّ في فساده وبطلانه ؛ لما يستلزم ذلك من المحالات
__________________
التي لا حاجة بنا
إلى الخوض فيها ، كتجويز انضباط الحقّ وتعيّنه في تصوّر أحد على ما هو عليه في
نفسه ، مع استحالة ذلك في نفس الأمر ، فافهم.
ثم نقول : وقد
يكون الحاصل في نفس العابد المتوجّه أمرا متركّبا من موادّ عقليّة ومدركات حسّيّة
، ومن مسموعات ومظنونات ، فالإدراك ـ على اختلاف ضروبه المعنويّة والحسّيّة ـ تابع
للمدرك ، فتوجّه كلّ من شأنه ما ذكر ليس إلّا إلى صور منشآت في الأذهان شخصتها
نفوس المتوجّهين من موادّ ظنونها وآرائها ، أو ممّا انتقل إليها من مشخّصات أذهان
من حكى لها ، أو نقل إليها أو هي منتزعة من صفات وآثار وآيات قرّر المنتزع إضافتها
وثبوتها لموصوف بها ومنسوب إليه جميعها ، وأنّ ذلك كمال في زعمه ، بمعنى أنّ من هو
بهذه المثابة فجدير أن يعبد.
هذا ، مع اعتراف
كلّ منصف هذا شأنه أنّه حال حكمه بمثل هذا الحكم وتصوّره هو في نفسه ناقص ،
وتصوّره وغير ذلك من صفاته تابع له ؛ لأنّ الصفة تتبع الموصوف كما قلنا في
الإدراك.
فالحاصل في ذهنه
من صورة الكمال ـ الذي يجب أن يكون حاصلا للمعبود ـ صورة ناقصة ، والمنسوب إليه
ذلك الكمال ـ الثابت نقصه بما ذكرنا وغيره ـ مجهول عنده ، فأين المطابقة المشاهدة
بصحّة التصوّر الذي يتبعه الحكم التصديقي؟ وقد ثبت أنّ حاصل ما أشرنا إليه كونه
إنشاء في حال نقصه صورة ناقصة في الكمال ، متحصّلة من أجزاء وهميّة وخياليّة ، أو
استجلاءات نظريّة ضعيفة غير مطابقة لما قصد تصوّره ، ثم جعلها قبلة توجّهه وتوقّع
منها السعادة والمغفرة وقضاء الحوائج ، أليس الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) ألست تعلم أنّ
الذي أنشأته في ذهنك منفعل مثلك ، بل أنزل درجة منك ، من حيث إنّك منشئه .
فيا من هذا شأنه ،
بالله عليك راجع نفسك ، وانظر : هل يمكن أن يكون لمثل هذا الحال والاعتقاد ثمرة ،
أو يرضى بها عاقل ذو همة عالية في معتقده ، أو عباداته وتوجّهه في صلاة ، أو غيرها
من العبادات؟ وأين المقصود من قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) الآية؟
__________________
فأين المسابقة؟
وأين التوجّه الصحيح المصدّق قول المتوجّه إلى الحقّ في زعمه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)! وهو كاذب؟
فإنّه لم يخاطب
بهذا إلّا الصورة الذهنيّة التي خلقها بعقله السخيف ، أو وهمه وخياله ورأيه الضعيف.
وأنّى ترجى ثمرة عبادة أو صلاة هذا أساسها؟ وأين «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» وذكره
سبحانه الفاتحة وأقسامها ك «مجّدني عبدي» و «فوّض إليّ» و «هذه بيني وبين عبدي» و
«هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل»؟
فبالله عليك ، هذه
الصورة المنتشية في ذهنك تقول شيئا من هذا ، أو تقدر على شيء ، هيهات. المنشئون
لتلك الصور (لا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ، فما الظنّ ببعض ما انتشأ فيهم على النحو المذكور.
واعلم ، أنّ قوله صلىاللهعليهوآله في حديث الفاتحة والصلاة «يقبل من الصلاة ربعها ونصفها» وتعديده
الأقسام حتى انتهى إلى التسع ، ثم قال : «وآخر تؤخذ صلاته كالثوب الخلق ، فيضرب
بها وجهه» ، إشارة إلى ما ذكرنا من تفاوت حظوظ المتعبّدين ، وقلّة جدوى الكثير
منهم ، وحرمان آخرين بالكلّيّة ، وليس ذلك إلّا لما ذكرنا من تأسيس الأمر على غير أصل صحيح ، ونعوذ بالله من ذلك ومثله.
ولنعد الآن إلى
بيان الوجهة التي هي قبلة قلوب المتوجّهين وأرواحهم وعقولهم ونفوسهم وطباعهم ، من
حيث أحكام الصفات والأحوال الغالبة عليهم ، بحكم هذه الأمور المذكورة ؛ فإنّ وجهة
كلّ متوجّه هدف سهم إشارته حال توجّهه.
وقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فنقول في إيضاح سرّ ذلك : لأصل شجرة الحضرة الإلهيّة فروع
يسري في كلّ فرع منها من سرّ الألوهيّة ، بالسراية الذاتيّة من الذات المقدّسة قسط بمقدار ما يحتمله
ذلك الفرع من أصله ألا وإنّ تلك الفروع هي الأسماء الإلهيّة ، ألا وإنّ تلك
السراية الذاتيّة الأصليّة عبارة عن سريان التجلّي الذاتي في مراتب أسمائه ، بحسب
ما تقتضيه مرتبة كلّ اسم منها ، ولذلك قلنا غير مرّة : إنّ كلّ اسم من وجه عين
المسمّى ، ومن وجه غيره ،
__________________
وفصّلنا في ذلك ما
يغني عن إعادة الخوض فيه والإطناب.
ولمّا كان كلّ اسم
من أسماء الحقّ سببا لظهور صنف مّا من العالم ، كان قبلة له ، فاسم ظهرت عنه
الأرواح ، وآخر ظهرت عنه الصور البسيطة بالنسبة ، وآخر ظهرت عنه الطبائع
والمركّبات ، وكلّ واحد من المولّدات أيضا ظهر باسم مخصوص عيّنته مرتبة الظاهر به
، بل حال المظهر واستعداده الذاتي غير المجعول ، ثم صار بعد قبلة له في توجّهه
وعبادته لا يعرف الحقّ إلّا من تلك الحيثيّة ولا يستند إليه إلّا من تلك الحضرة ،
وحظّه من مطلق صورة الحضرة بمقدار نسبة ذلك الاسم من الأمر الجامع لمراتب الأسماء
كلّها والصفات.
وأمّا الإنسان
فلمّا توقّف ظهور صورته على توجّه الحقّ بالكلّيّة إليه حال إيجاده ، وباليدين ،
كما أخبر سبحانه ولإحدى يديه الغيب ، وللأخرى الشهادة ، وعن الواحدة ظهرت الأرواح القدسيّة ، وعن الأخرى ظهرت الطبيعة والأجسام
والصور ، ولهذا كان الإنسان جامعا لعلم الأسماء كلّها ومنصبغا بحكم حضراتها أجمع ،
ما اختصّ منها بالصور وكلّ ما يوصف بالظهور ، وما اختصّ منها بكلّ ما بطن من
الأرواح وغيرها ، ممّا يوصف بالغيب والخفاء ، فلم يتقيّد بمقام يحصره حصر الملائكة
، كما أشارت بقولها : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). ولا حصر الأجسام الطبيعيّة ، وبذا وردت الإخبارات الإلهيّة
بلسان الشرائع وغيرها فتوجّه الإنسان الحقيقي ـ إن تحرّر من رقّ المقامات ، وارتقى
وخلص بالاعتدال الكمالي الوسطي عن أحكام جذبات الأطراف والانحرافات ـ إلى حضرة
الهويّة التي لها أحديّة جمع الجمع ، المنعوتة بالظهور والبطون ، والأوّليّة
والآخريّة والجمع والتفصيل ، وقد مرّ للمتأمّل في الحديث عنها ما قدّر ذكره وبيانه
، وسنزيد ذلك تفصيلا ، ـ إن شاء الله تعالى ـ
وإن مال ـ أعني
الإنسان ـ عن الوسط المشار إليه إلى طرف لمناسبة جاذبة قاهرة ، وغلب عليه حكم بعض
الأسماء والمراتب فانحرف ، استقرّ في دائرة ذلك الاسم الغالب ، وارتبط به وانتسب
إليه ، وعبد الحقّ من حيث مرتبته ، واعتمد عليه ، وصار ذلك الاسم منتهى
مرماه وغاية مبتغاه ووجهه من حيث حاله ومقامه ، حتى يتعدّاه.
__________________
ولمّا كانت مراتب
الأسماء مرتبطا بعضها بالبعض ، وأحكامها مشتبكة متداخلة بالتوافق والتباين
الموضحين حكمي الإبرام والنقض ، صارت أحوال الخلق ـ من حيث هم تحت حكم هذه المراتب
، ومحلّ آثارها ـ متفاوتة مختلفة ؛ لأنّ اجتماعات تلك الأحكام الأسمائيّة تقع في
المراتب الوجوديّة على ضروب ، فتحصل بينهما كيفيّات معنويّة ، مقرونة بتقلابلات روحية ، فيحدث في البين ما يشبه المزاج في كونه متحصّلا عن
تفاعل كيفيّات ناشئة عن امتزاج واقع بين الطبائع المختلفة وقواها. ونظيرها هناك
التقابل والتباين اللذين بين الأسماء ، فتظهر الغلبة لبعض المراتب الوجوديّة
والأسمائيّة ، كغلبة بعض الطبائع هنا على البعض ، حتى يقال : هذا مزاج صفراوي
ودموي وغير ذلك. ويقال : هناك زيد عبد العزيز ، وآخر عبد الظاهر ، وآخر عبد الباطن
، وآخر عبد الجامع ، وآدم في السماء الأولى ، وعيسى في الثانية ، وإبراهيم في
السابعة ونحو ذلك.
ثم إنّه يحصل بين
تلك الأمزجة المعنويّة والروحانيّة وبين هذه الأمزجة الطبيعيّة اجتماع آخر ، تظهر
له أحكام مختلفة تنحصر في ثلاثة أقسام : قسم يختصّ بمن غلبت عليه أحكام روحانيّته
على أحكام طبيعته ، حتى صارت قواه الطبيعيّة تابعة لقواه الروحانيّة
وكالمستهلكة فيها ، وقسم يختصّ بجمهور الخلق وهو عكس ما ذكرنا ؛ فإنّ قواهم
وصفاتهم الروحانيّة مستهلكة تحت حكم قوى طبائعهم ، وقسم ثالث يختصّ بالكمّل ومن
شاء الله من الأفراد ، وآيتهم (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) فافهم ؛ فهذا مقام لا يحتمل البسط.
ثم نقول : فيظهر
لما قلنا بحسب الغلبة المذكورة حكم ما يقتضيه وصف الأمر الغالب من المراتب
والأسماء والطبائع ، وإن لم يخل المحلّ عن حكم الجميع ، لكن إنّما ينتسب لمن ظهرت
له السلطنة عليه ، فمنزّه ، ومشبّه ، وجامع بين التنزيه والتشبيه ، ومشرك ، وموحّد
، وغير ذلك.
__________________
فتفرّعت لما ذكرنا
الآراء المتباينة ، والأحوال المختلفة ، والمنازل المتفاوتة ، والمقاصد والتوجّهات ، فمن عرف
مراتب الوجود وحقائق الأسماء عرف سرّ العقائد والشرائع والأديان والآراء على
اختلاف ضروبها وكيفيّة تركيبها وانتشائها ، وسنلمع لك بيسير من هذا الباب ، فاتّخذه
أنموذجا ومفتاحا ، تعرف سرّ ما أشرنا إليه ـ إن شاء الله ـ
__________________
وصل
في قبلة العقول
والنفوس والإنسان
اعلم ، أنّ قبلة
العقول مطلقا أحديّة معنى الأمر ، لكن من حيث استنادها إليه ، لا من حيث هو.
وقبلة النفوس
التجلّي الكثيبيّ ، وله آخر درجات الظهور ، وأوّل درجات باطن الظاهر. وللمشبّهة
أحد وجهي هذه الدرجة ، وما اتّصل بها من التجلّي البرزخيّ المشار إليه ،
ويختصّ بإنسانيّة روح الأمر. وقبلة أهل السنّة والجماعة ومن شاء الله من أهل
الشرائع الماضية روح الأمر ومرتبته معا ، وله تنزيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وتشبيه «اعبد الله كأنّك تراه». وأعلى مراتبه ظاهر
العماء.
وقبلة العارفين
وجود مطلق الصورة الربّانيّة ، وظاهر الحقّ.
وقبلة المحقّقين
وجود الحقّ ، ومرتبته الجامعة بين الوجود والمراتب من غير تفرقة وتعديد.
وقبلة الراسخين
مرتبة الحقّ من حيث عدم مغايرتها له وانضياف صورته سبحانه ـ التي حذى آدم عليها ـ
إليها ، ولها حضرة أحديّة الجمع ، فافهم.
وأمّا قبلة
الإنسان ـ الحقيقي ، الذي هو العبد الأخلص الأكمل ـ فقد مرّ ذكرها آنفا عند الكلام
في الوجهة والتوجّه ، لكنّني تركت من أسراره ما يجلّ وصفه ، ويحرم كشفه ، مع أنّي
__________________
قد ألمعت بطرف منه
في آخر ما ذكرته في مجازاة العبد المخلص ، وقبل ذلك في سرّ الحضور مع الحقّ ، على
الوجه الأتمّ ، وبيّنت منه نكتا نفيسة في مواضع متفرّقة من هذا الكتاب ، يتفطّن لها اللبيب ـ إن شاء الله ـ
__________________
وصل
العبادة الذاتيّة
، والصفاتيّة
لتعلم بعد
استحضارك ما مرّ أنّ للإنسان عبادتين : عبادة ذاتيّة مطلقة ، وعبادة صفاتيّة
مقيّدة.
فالذاتيّة : قبول
شيئيّته الثابتة المتميّزة في علم الحقّ أزلا للوجود الأوّل من موجده ، وإجابته لندائه ، وامتثاله للأمر
التكويني المتعيّن ب «كن» وهذه العبادة مستمرّة الحكم من حال القبول الأوّل
والإجابة والنداء المشار إليه لا إلى أمد متناه ، فإنّه من حيث عينه ومن حيث كلّ
حال من أحوالها مفتقر إلى الموجد دائما ، لانتهاء مدّة الوجود المقبول في النفس
الثاني من زمان تعيّنه وظهوره ، والحقّ ممدّه دائما بالوجود المطلق المتعيّن والمتخصّص بقبول الإنسان من الأسماء وغيره
من الممدودين به ، والحركات والأفعال التي لا تعمّل للإنسان فيها والأنفاس أيضا من
لوازم هذا القبول ومن جملة صور هذه العبادة.
والعبادة المقيّدة
الصفاتيّة تختصّ بكلّ ما يظهر عن ذات العابد من حيث حكم صفاته أو خواصه أو لوازمه
من حال أو زمان معيّن ذي بداية ونهاية وغيرهما.
وتختصّ بهذه
العبادة أيضا عبوديّة الأسباب الكونيّة ، وتفاوت الخلق فيها ، بحسب غلبة أحكام
الصفات على حكم الذات وحكم ما يناسبها ـ أعني الصفات ـ من الأمور المؤثّرة في
الإنسان الذي هو منفعل لها ، ومنجذب بالقهر ـ الذي هو الاستعباد في الحقيقة ـ
إليها ، فإنّك عبد ما انفعلت له وظهر عليك سلطانه ، ولهذا قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد
__________________
الدرهم ، تعس عبد
الخميصة».
والضابط في هذا
المعنى : أنّ التأثير مطلقا ـ حيث كان ـ لسرّ الربوبيّة ، والانفعال مطلقا لمعنى
العبوديّة ، وقد أسلفنا أنّ الكامل لا يؤثّر أصلا ، إنّما هو مرآة تامّة صحيحة
الهيئة ، يظهر كلّ منطبع فيها بحسب ما هو عليه في نفسه ، فاذكر ، تعرف سرّ ما سبقت
الإشارة إليه.
وهاتان العبادتان
هما في مقابلة رحمة الوجوب ، ورحمة الامتنان المذكورتين من قبل ، وكما أنّ في رحمة
الوجوب رائحة التكليف ، ورحمة الامتنان مطلقة لا إيجاب فيها ولا التزام ، كذلك
العبادة الذاتيّة التي لا تكليف فيها ، وليست من نتائج الأمر ، وإنّما متعلّق
الأمر والتكليف العبادة المقيّدة الصفاتيّة ، المشار إليها رأفة من الله ورحمة ،
واحتياطا وتحذيرا من ميل الإنسان بجاذب إحدى صفاته إليها ، فيحصل بذلك الميل الذاتي لتلك الصفة الغلبة على غيرها من الصفات
، بحيث تستهلك أحكام باقي الصفات التي بظهور سلطنتها يحصل الاستكمال المتوقّف على
حفظ الصحّة والاعتدال الروحاني والمعنوي ، المختصّ بالمزاجين المتحصّلين من
الاجتماعات الواقعة بين الأرواح وقواها الباطنة ، وبين الصفات وغيرها من المعاني
المجرّدة ، وقد سبق التنبيه على ذلك في تفسير اسم «الربّ» منذ قريب ، فاذكر.
العمل والعبادة
ثم نقول : اعلم ،
أنّ العمل جسد وروحه العبادة ، فالعمل يطلب الثواب من جنّة وغيرها ، لكن لا مطلقا
، بل من حيث يستند إلى أصل وحدانيّ المرتبة ، شامل الحكم. والعبادة تطلب المعبود.
والعبادات من أحوال الروح ، والأعمال تختصّ بالبدن ، أو بما تنضاف إلى الروح باعتبار تعلّقه بالبدن
وتلبّسه بأحكامه الطبيعيّة ، وظهوره بحسب أحكام أصباغها ، وحضور العبد بصفة الذلّ
بين يدي عزّ ربّه في كلّ فعله من طاعة وغيرها من أحوال العارفين الذين يصدرون
الأعمال مصحوبة بالحياة الرفيعة ، التي أوجبها علمهم وحضورهم مع مشهودهم ،
__________________
فيعلو العمل إلى منتهى
مرقاة من المرتبة التي تستند إليها معرفتهم وشهودهم وتوجّههم ، كما نبّهت على ذلك
في تفسير (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) عند الكلام على مراتب العمّال ومجازاتهم ، فاكتف واستبصر.
قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
اعلم ، أنّه قد
ذكرنا في لفظة «إيّاك» ما يقتضيه حكم اللسان وما لا حاجة إلى إعادته ، أو ذكر مثله
، كما لا حاجة أيضا إلى ذكر كلّيّات أسرار بقيّة السورة ؛ لأنّا إنّما الكتاب
بالكلام على الأصول الكلّيّة ، وأمّهات الحكم والعلوم والأسرار العليّة ، ليكتفي
بها اللبيب حيثما أحيل عليها ، فإنّ المقصود الإلماع والإيجاز ، لا التصريح
والإطناب ، فهذه أصول ومفاتيح كلّيّة من فهمها وعرف كيف يطّرد حكمها فيما هو فرع
عليها وتبع لها ، عرف معظم أسرار القرآن العزيز ، بل وسائر الكتب ، فلا تتّكل بعد
على البسط للكلام منّي ، فقد اتّكلت على مزيد فهم وتأمّل منك ـ إن شاء الله
تعالى ـ وإنّما أذكر فيما بعد عقيب الفراغ من وظيفة الظاهر ما تتضمّنه بقيّة
السورة مما يختصّ بكلّ آية آية منها من الحكم والأسرار الباطنة ، وما بعد الباطن
كما سبق به الوعد ـ إن شاء الله تعالى ـ ولنشرع ـ بعد هذا التقرير والاكتفاء في
ظاهر «وإيّاك» الثاني بما مرّ في «إيّاك» الأوّل ـ في الكلام بلسان الباطن ، فنقول
:
اعلم ، أنّ متعلق
الإشارة من (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) ليس هو متعلّق الإشارة من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ؛ لأنّ الأوّل إشارة إلى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة
عند العابد ، وصار منتهى مدى مقصده ووجهته ، بحسب علمه أو شهوده ، أو
اعتقاده المتحصّل من موادّ الظنون والتخيّلات المنبّه عليها من قبل.
ومتعلّق الإشارة
من (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) ليس مطلق ذلك المعبود من كونه معبودا فقط ، بل من حيث إنّ
له صلاحيّة أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه ، وفي
طلب الاستعانة من العبد دعوى ضرب من الاستطاعة ، بصورة تعريف بحالة في العبادة ،
وعلمه بمكانة المعبود ، وما يعامل به ، مع اعتراف خفيّ بعدم الاستقلال ، وكأنّه
يقول : أجد
__________________
عندي قوّة على
تحصيل مطالبي ، لكنّي غير متيقّن ولا جازم أنّها وافية بتحصيل الغرض ، فلا مندوحة عن معاونة
منك لما عندي من التمكّن ؛ لأنّ المعونة منك إذا اتّحدت بما عندي من القوّة ، رجوت
الفوز بالبغية ، والوفاء بحقّ العبادة ، وإنّي شاكرك على ما منحتني من
القوّة ، وجدت بها عليّ ابتداء دون سؤال منّي ، وبها تمكّنت من طلب العون منك ،
رجاء القيام بحقّك ، والانفراد لك دون تردّد فيك ، و تعرّض إلى غيرك. هذا لسان مرتبة العبد.
وأمّا لسان
الربوبيّة المستبطنة في ذلك من كون الحقّ أنزل هذا على عباده ، وأمرهم بعبادته على
هذا الوجه ، فهو أنّه سبحانه لمّا علم أنّ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته
والعبادة له واللجأ إليه ، فإنّ الشواغل والغفلات التي هي من خصائص هذه النشأة
تذهل الإنسان في بعض الأوقات عن تذكّر ما يجب تذكّره واستحضاره ، فاحتاج إلى
التذكير وتعيين ما الأولى له الدؤوب عليه ؛ لأنّ ما لا يتعيّن لا يثمر ولا يؤثّر ،
لا جرم أمره تعالى أن يقول بعد تقديم الثناء عليه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تذكيرا له أنّ الذي تجده من العلم والقوّة وغيرهما ، لا
تظنّنّ أنّك فيه مستقلّ ، أو لك بشيء من الكمالات اختصاص ، بل ذلك كلّه منّي ولي ،
كما قال الكامل المكمّل صلىاللهعليهوآله : «إنّما نحن به وله» ، فالمرتبة الربانيّة تعرّف العبد
بتعذّر الاستقلال في الطرفين ، وهذا من غاية العدل حيث ينبّهك الحقّ ذو الجود
والفضل والإحسان والنعم التي لا تحصى ، على ما لك من المدخل في تكميل صورة إحسانه
، ويعتدّ لك بذلك ، ويعتبره ولا يهمله ؛ كما قال سبحانه معرّفا منبّها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) وهذا من التضعيف ، ثم قال (وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، فافهم ، ترشد ، ـ إن شاء الله تعالى ـ
__________________
وصل
من لسان الجمع والمطلع وبه نختم الكلام
على هذا القسم الثاني بعون الله ومشيئته
اعلم ، أنّ الله
لمّا خلق الخلق لعبادته ـ كما أخبر ـ وهبهم من وجوده وصفاته ما قدّر لهم قبوله ،
فعبدوه به ؛ إذ لا يصحّ أن يعبدوه بهم على جهة الاستقلال ، لأنّهم من حيث هم لا
وجود لهم ، ولا يتأتّى منهم عبادة ، ولهذا شرع لهم أن يقولوا بعد قولهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قولهم : (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) لعدم الاستقلال. فانبعثوا عند هذا التنبيه طالبين منه
المعونة على عبادته ، كما كان القبول منهم لوجوده حالة الإيجاد معونة لاقتداره
سبحانه وتعالى. فإنّه لو لا مناسبة ذاتيّة غيبيّة أزليّة يشهدها الكمّل المقرّبون
، ما صحّ ارتباط بين الربّ والمربوب ، ولا أمكن إيجاد ؛
فالإيجاد خدمة وعبادة
بصورة إحسان ، والعبادة إيجاد لصور أعيان أعمال ، وتسوية إنشاء ، وإحياء لنشآت
العبادة ، ليرجع إلى المنشئ ممّا ظهر وانتشأ به كمال لم يكن ظاهرا من قبل ، كظهوره
بعد الإنشاء ، فكذلك الأمر في الطرف الآخر ؛ فإنّه لو لا ظهور آثار الأسماء ، ما
عرف كمالها ، ولو لا المرائي المتعيّنة في المرآة الجامعة ـ التي هي مجلى ـ ما امتاز من غيب
الذات ، و [لو لا] التي ظهر فيها كوامن التعدّدات الحالية ، المستجنّة في غيب الذات
__________________
ما ظهرت أعيان
الأسماء.
فنحن العابدون وهو
المعبود ، وهو الموجد ونحن الموجودون ، فلام العلّة المنبّه على أحد حكميها بقوله
: (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ذاتيّة في الجانبين ، فأظهر أحد حكمي هذا السرّ بهذه اللام المذكورة في «ليعبدون» حكمة ظاهرة ، وأخفى حكمها الآخر
في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حكمة باطنة ؛ لأنّ له سبحانه في كلّ شيء ـ ولا سيّما في
شرائعه وأوامره وإخباراته ـ حكما ظاهرة وباطنة يشهدها ويتحقّق بمعرفتها الكمّل
والمتمكّنون من أهل الكشف والوجود ، ويشعر أهل العلوم الرسميّة من ظاهر تلك الحكم
بالأقلّ من القليل منها في بعض الصور التكليفيّة بطريق التعليل.
وأمّا سرّ قوله : (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) بضمير الجمع ، فلسرّين كلّيّين كبيرين :
أحدهما : ما سبقت
الإشارة إليه من أنّ ظهور عين العبادة والأعمال مطلقا لا يحصل في الوجود العيني
إلّا بين الرتبة المشتملة على أحكام الربوبيّة وبين المجلى المذكور المشتمل على
أحكام المربوبيّة ، فمتعلّق ضمير الجمع بلسان الحقّ والكون حيث ورد ، مثل «نحن» و
«إنّا» و «نعبد» و «نستعين» وغير ذلك هو لسان جملة ما يشتمل عليه كلّ واحدة من
الرتبتين المذكورتين ، فافهم.
وأمّا السرّ الآخر
المتضمّن تحقيق ما أجمل ، وبيانه ، فهو أنّ لكلّ من هاتين المرتبتين : الربانيّة
والكونيّة المشار إليهما نشأة معنويّة غيبيّة ، ذات أحوال وحقائق متناسبة متباينة
، ولأحكامها فيما بينهما امتزاج وتداخل بائتلاف واختلاف وهي من جانب الحقّ عبارة
عن الصورة التي حذيت عليها الصورة الآدميّة ، وتعيّنها من غيب الحقّ الذاتي هو من
حيث المرتبة الإنسانيّة الكماليّة ، المسمّاة هنا بحضرة أحديّة الجمع ، المظهرة
أعيان الأشياء وأحكام الأسماء والصفات والشؤون الإلهيّة المتقابلة من جهة الأثر ،
والمتفاوتة في الحيطة والحكم ، ك «القابض» و «الباسط» و «المانع» و «المعطي» و «المميت»
و «المحيي» و «العليم» و «القدير» و «المريد» وك «السخط» و «الرضا» و «الفرح» و «الحياء»
، و «الغضب» و «الرأفة» و «الرحمة» و «القهر» و «اللطف» ، ونحو ذلك ممّا ورد ؛
فإنّ لهذا كلّها
__________________
في حضرة أحديّة
الجمع ـ التي هي البرزخ بين مطلق الغيب الذاتي وبين الحضرة التي امتازت عن الغيب
من وجه ، وكانت محلّ نفوذ الاقتدار ، وهدف أسهم التوجّهات الغيبيّة
والآثار ـ تعيّنا وانتظاما بهيئة غيبيّة علميّة ، يضاهيها نظم النشأة الإنسانيّة
بقواها الطبيعيّة وأخلاقها الروحانيّة وخصائصها المعنويّة الغيبيّة ، والحقيقة
الإلهيّة التي تنضاف إليها الصورة المذكورة في مقابلتها العين الثابتة التي
للإنسان ، وأنّها عبارة عن صورة علم ربّه به أزلا وأبدا في نفسه سبحانه ، كما أنّ
صورة ربّه عبارة عن صورة علمه سبحانه بذاته وشؤونها وصور عبارة عن صور نسب علمه ؛
ونسب علمه في ذوق المقام المتكلّم فيه عبارة عن تعيّنات وجوده التي قلنا : إنّها من حيث تعدّدها
أحواله ومن حيث توحّدها عينه ، وأحواله تتعيّن في هذا البرزخ المسمّى بحضرة أحديّة
الجمع وتظهر متعدّدة في الحضرة الكونيّة التي هي عبارة عن أحد وجهي حضرة أحديّة الجمع
المشتمل على صورة الكثرة ؛ فإنّ هذه الحضرة هي مقام الكمال الظاهر الحكم بالإنسان
الكامل المرآة لغيب الذات ولما تعيّن منه ـ أي من الغيب المذكور ـ فيه وبها أيضا.
وهذا البرزخ أيضا
عبارة عن مبدأ تعيّنه سبحانه بنفسه لنفسه بصفة ظاهريّته ومظهريّته ، وجمعه ببرزخيّته المذكورة بين
الطرفين من حيث الإنسان الكامل ، وهذا التعيّن البرزخي الوسطي أيضا هو أصل كلّ
تعيّن ، والمنبع لكلّ ما يسمّى شيئا سواء نسب ذلك التعيّن ـ أيّ تعيّن كان ـ إلى الحقّ ، بمعنى أنّه
اسم له أو صفة أو مرتبة ، أو نسب إلى الكون أيضا بهذا الاعتبار الاسمي أو الصفاتي
أو المرتبي ، أو اعتبر أمرا ثالثا وهو ظهور الحقّ من حيث عينه ثانيا بالنسبة إلى ما قام منه
مجلى لسائر تعيّناته أولا كما مرّ ، وثالثا ورابعا ، وهلمّ جرّا إلى ما لا نهاية
له ، فيما تعيّن لنفسه منه من كونه غير متعيّن ، ثم فيما تعيّن ممّا تعيّن منه وبه
، غيبا وشهادة ، ممّا يسمّى عينا أو غيرا بالنسبة ، فاعلم ذلك.
__________________
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم ، أنّ العبارات اختلفت في تعريف حضرة أحديّة الجمع ، وكلّها صحيحة.
فإن قلت : إنّها
الحقيقة الإنسانيّة الإلهيّة الكماليّة ، التي كان كلّ إنسان كامل من حيث صورته الظاهرة مظهرا لتلك
الحقيقة ولوازمها ، صدقت ، وإن سمّيتها برزخ الحضرتين : الإلهيّة والكونيّة ؛
لكونها مشتملة على جميع الأحكام الإلهيّة والإمكانيّة ، مع أنّها ليست بشيء زائد
على معقوليّة أحديّة جمعها كسائر البرازخ ، صدقت أيضا.
وإن سمّيتها مرآة
الحضرتين ، أو أنّها مرتبة صورة الحقّ والإنسان الكامل من غير تعديد ، والحدّ
الفاصل بين ما تعيّن من الحقّ ، وكان مجلى لما لم يتعيّن منه ولم يتعدّد ، صدقت ،
فكلّ ذلك ذاتي لها دائما أزلا وأبدا. وتقيّد الكمّل الذين هم أصحاب هذه المرتبة ،
من حيث بعض النشآت التي يظهرون بها بالزمان ، لا يقدح فيما أصّلنا ، ولا ينافي ما
ذكرنا وقرّرنا.
ثم نقول : الإنسان
الكامل في كلّ عصر من حيث أحد وجهي هذه المرتبة ـ أعني الوجه الذي يلي غيب ذات
الحقّ ولا يغايره ولا يمتاز عنه ـ يترجم ، عن غيب الذات وشؤونها التي هي حقائق
الأسماء ب «نحن» و «إنّا» و «لدينا» ونحو ذلك ، ومن حيث الوجه الآخر الذي ينطبع
فيه الأعيان وأحوالها يترجم عنها وعنه من حيث هي وبلسانها ، ومن حيث هو أيضا بلسان
جمعيّة خصوصيّته وما حوته ذاته من الأجزاء والخصائص والصفات والقوى الروحانيّة
والجسمانيّة الطبيعيّة ب «نعبد» و «نستعين» و «اهدنا» ونحو ذلك ، لإحاطة مرتبته الكماليّة هذه ، الطرفين وما اشتملا عليه غيبا وشهادة ،
روحا وجسما ، عموما وخصوصا ، قوّة وفعلا ، إجمالا وتفصيلا ، فافهم ، وأمعن التأمّل
، وراجع ربّك بالتضرّع والافتقار ؛ فإنّه إن فكّ لك ختم هذا الكلام ، عرفت سرّ
الربوبيّة والعبوديّة في كلّ شيء ، وسرّ العبادة والتوجّه والطلب والفوز والحرمان
، وتحقّقت أنّ كلّ عابد متوجّه من حيث فرعيّته وخلقيّته ، إلى أصله الإلهي
المتعيّن به من مطلق غيب الذات في المرآة المذكورة الكماليّة الإنسانيّة الإلهيّة
، بانعكاس حكميّ راجع من عرصة الإمكان ، إلى المرآة المذكورة ، فإيّاه يعبد ،
وإليه يتوجّه ، ومنه بدأ ، وإليه يعود.
__________________
هذا ، مع أنّه ما
عبد أحد إلّا الله ، ولا توجّه إلّا إليه ، من حيث إنّ تلك المرآة الكماليّة
الإلهيّة قبلة كلّ موجود كان ويكون ، ومن حيث مواجهة كلّ شيء من هذه المرآة وفيها
أصله المحاذي والمتعيّن له به من غيب الذات ، فكلّ أحد له قسط من الحقّ أخذه من
مشكاة هذه المرتبة الكماليّة المسمّاة هنا بالمرآة ، وذلك القسط عبارة عن تعيّن
الحقّ من حيث شأن من شؤونه ، وذو القسط صورة ذلك الشأن ، فافهم.
فو الله ما أظنّك
تعرف مقصودي إلّا أن أمدّك الله بأيده ونوره ، وما فاز بالحقّ إلّا الكامل ، فإنّه
يواجه غيب الذات بأحد وجهيه المنبّه عليه مواجهة ذاتيّة ، لا يمتاز المتوجّه فيها
عن المتوجّه إليه إلّا بالجمع بين الوجهين المشتملين على أحكام الحضرتين : فهو
المطلق المقيّد ، والبسيط المركّب ، والواحد الكثير ، والحادث الأزلي ، له وجد
الكون ، وبه ظهر كلّ وصل وبين ، فتنبّه وانظر بما بيّنّا صحّة حكم قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله الآخر : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقضاؤه حكمه بلا شكّ ، وأمره الحقيقي نافذ دون ريب ، كما
قال سبحانه : (فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ) و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) .
فلو لم يكن سرّ
العبادة كما ذكر ، لزم أن تصحّ عبادة غير الله والتوجّه إليه ، ولزم تعقيب حكمه وردّ أمره
، ويتعالى الله عن ذلك وعن كلّ ما لا يليق بجلاله علوّا كبيرا.
فالتخطئة
والمؤاخذه وقعتا من أجل الحصر والتعيين والإضافة ؛ لأنّ إضافة استحقاق العبادة لشيء واعتقاد أنّه
الربّ المطلق التصرّف ، ذو الألوهيّة الشاملة الحكم على سبيل حصر هذه الأمور فيه
والتعيّن جهل وخلاف الواقع ، فصحّت المؤاخذة مع نفاذ الحكم الأوّل
والأمر المؤصّل.
__________________
وصل من هذا الأصل
ولمّا كان كلّ
واحدة من المرتبتين المذكورتين ـ اللتين كانت حضرة أحديّة الجمع مرآة لهما وجامعة
بالذات بينهما ـ أصلا من وجه ، فرعا من آخر كما سبق التنبيه عليه في غير موضع من هذا الكتاب ، من جملة ذلك قولنا : إنّ الحقّ من حيث
باطنه مظهر لأحوال العالمين ومرآة من حيث حضرة أحديّة الجمع لأعيانها ، فيه يرى
البعض منها البعض ، ويتّصل حكم البعض بالبعض ، ويظهر أثر المتبوع المتقدّم بالشرف
المرتبي والوجود والزمان على المتأخّر التابع ، وبالعكس أيضا من
حيث إنّ التابع المتأخّر من وجه آخر متقدّم متبوع وشرط كما بيّن من قبل في أوّليّة
الحقّ من حيث الوجود ، وآخريّته من حيث الصفات ، كما أخبر سبحانه وأبان بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وبقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) وفي بيان مرتبة آخريّته من حيث الصفات بقوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) وبقوله عليهالسلام : «من عرف نفسه عرف ربّه» وبقوله : «إنّ الله لا يملّ حتى
تملّوا» وبقوله : «كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف» الحديث ، فافهم ، واذكر ، ومن حيث إنّ الحقّ مسمّى بالظاهر
، كان العالم من حيث حقائقه مظاهر لوجوده ومجالي تعيّنات شؤونه ، وكلّ مظهر فغير
مرئيّ وإن كان الأثر له ، وكلّ منطبع فظاهر ولا ينسب إليه أثر من حيث هو
__________________
كذلك ، فلهذا وغيره قلنا : إنّ كلّ فرع متوجّه إلى أصله وعابد له ، ولهذا الموجب وسواه سرت أحكام العبوديّة والربوبيّة
في كلّ شيء بحسب ما يليق به ، فظهر سرّ المعيّة الإلهيّة الذاتيّة في كلّ شيء
بالإحاطة الوجوديّة والعلميّة والحكميّة ، فكلّ حاكم فبصفة الربوبيّة ، وكلّ مجيب
وتابع فبالصفة الأخرى ، وقد عرّفتك مراتب ظهور هذه الأمور في الأشياء كيف تكون ، ومتى تصحّ ، ومتى تمتنع ، وفي الشيء الواحد أيضا بحسب
شؤونه المختلفة والمحالّ والمراتب والمحالي المتباينة والمؤتلفة ، فتذكّر واكتف ،
والله الهادي.
فاتحة القسم
الثالث من أقسام أمّ الكتاب
بموجب التقسيم
الإلهي ، والتصرف النبوي ، وهو آخر أقسامها والخصيص بالعبد ، كما كان الأوّل خصيصا
بالحقّ ، والمتوسّط مشتركا بين الطرفين.
قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) :
اعلم ، أنّ هذه
الآية تشتمل على أمور تتعلّق بظاهرها ، وأمور تختصّ بما بعد الظاهر وفوقه ، ونحن
نبدأ بالظاهر ، ثم نشرع فيما بعد. فنقول :
هذه الآية منتظمة
من ثلاث كلمات : لفظة «اهدنا» ولفظة «الصراط» و [لفظة] «المستقيم» ، ولكلّ واحدة
من هذه الثلاث ثلاث مراتب ظاهرة ، وثلاث مراتب باطنة ، سننبّه عليها كلّها ـ إن
شاء الله تعالى ـ فتذكّر تثليث الفاتحة ، وافحص عن سرّه ، فإن أشهدته شاهدت العجب
:
و «اهدنا» ، أمر
في صورة دعاء وسؤال ، وهو مأخوذ من الهداية وهي : البيان ، وأصل هذه اللفظة بالياء
وانحذفت للأمر. وورودها بصيغة الجمع هو إرداف لما سلف في قوله : (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) فكان كلّ من العباد يترجم عن الجميع بلسان النسب الجامع
__________________
والحكم المشترك
بين الكلّ.
والحكمة الأولى في
ذلك أنّ الخلق لا يخلو فيهم من عبد يستجاب له في عين ما سأل ، فيسري حكم دعائه
وبركة عبادته تلك في الجميع ، ولهذا ورد : «الجماعة رحمة» وحرّضنا على الصلاة
والذكر في الجماعة بأنواع من التحريض رجاء البركتين : الواحدة ما ذكرنا من سراية
بركة من أجيب دعاؤه وقبلت صلاته كلّها فيمن لم تقبل صلاته ولم يستجب له في عين ما
سأل وبحسب ما أراد.
والبركة الأخرى هي
أنّه لو قدّر أن لا يكون في الجمع من أتمّ نشأة تلاوته أو صلاته على نحو ما ينبغي
، فإنّه قد يتحصّل من بين الجمع ـ باعتبار قبول المعبود من كلّ واحد من التالين أو
المصلّين بعض ما أتى به ـ صورة تامّة عمليّة ، منتشية من أجزاء صالحة مقبولة ، كلّ
جزء وقسط يختصّ بواحد من تلك الجماعة ، فتعود تلك الصورة التامّة ـ بحكم كمالها ـ
تشفع فيما بقي من الأجزاء والحصص التي لم تستحقّ القبول ، وتسري بركة المقبولة في
غير المقبولة سراية الإكسير بقوّته في الرصاص والقزدير ، فيقلب عينه ، ويوصل بينه
، ويرقّيه إلى درجة الكمال الذي أهّل له ، فافهم.
لفظة (الصِّراطَ) : الصراط هو ما يمشى عليه ، ولا يتعيّن إلّا بين بداية
وغاية ، وفي هذه اللفظة ثلاث لغات : الصاد ، والسين ، والزاي. واختصاصها بالألف
واللام هو للعهد والتعريف ، وهو أحد أقسام التعريف ؛ لأنّ التعريف بالألف واللام
على ثلاث أقسام :
أحدها : تعريف
الجنس نفسه لا باعتبار ثبوته لما تحته من الأفراد ، بل باعتبار ذاته فقط.
والثاني : التعريف
باعتبار ثبوت الحقيقة لأحد الأفراد التي تحتها.
والثالث : تعريف
الحقيقة من حيث استغراقها وهو اعتبار ثبوتها لما تحتها من الأفراد. ويسمّى الأوّل
تعريف الذات ، والثاني تعريف العهد ، والثالث استغراق الجنس.
وفي التحقيق القسم
الثاني من هذه الثلاثة الذي هو تعريف العهد هو أتمّ الأقسام ؛ فإنّ له وجها إلى
التعريف الذاتي ، وكأنّه لا يغايره من ذلك الوجه ، وهكذا حكمه أيضا مع القسم
الثالث ؛ فإنّه ما لم تسبق للمخاطب معرفة مقصود المخاطب من الأدوات التي يعرّف بها
__________________
لم يعلم مراده ،
فكلّ تعريف إذا لا يخلو عن حكم العهد بالاعتبار المذكور.
ولا شكّ أنّ الألف
واللام ها هنا لتعريف العهد ، فإنّه قد تكرّر التنبيه على ذلك عند ذكر الكمّل من
الأنبياء ، حيث قال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وذكر التأسّي أيضا بالجمع والإفراد في غير موضع وهو الاقتداء ، وبعد
تعريفه سبحانه عباده أنّ نبيّه صلىاللهعليهوآله يهدي إلى صراط مستقيم ، نبّههم وأخبرهم أنّهم إن كانوا
صادقين في دعواهم محبّة ربّهم ، فليتّبعوه يحبّهم الله ، وهذا من الاقتداء أيضا
الذي هو المشي على الصراط.
قوله : (الْمُسْتَقِيمَ) نعت للصراط ، والمراد بالمستقيم هنا استقامة خاصّة نذكر
سرّها وسرّ أربابها ، وأقسامهم فيما بعد ، وإلّا فما ثمّة صراط إلّا والحقّ غايته
، كما ستعرفه ـ إن شاء الله ـ
ولنشرع بعد في
الكلام على أسرار هذه الآية على جاري السنّة الملتزمة ، فنقول أوّلا :
اعلم ، أنّ
للهداية والإيمان والتّقى وأمثالها من الصفات ثلاث مراتب : أولى ، ووسطى ، ونهاية
، قد نبّه عليها سبحانه في مواضع من كتابه العزيز ، وعاينها ، وتحقّق بها أهل الكشف والوجود ، فمن ذلك قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا
وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ، فنبّه بذلك كلّه الألبّاء ليتفطّنوا أنّ بعد الإيمان بالله
والإقرار بوحدانيّته درجات في نفس الإيمان والهداية والتقى ونحو ذلك ، وإلى تلك
الدرجات الإشارة بالزيادة ، كقوله : (لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) وكقوله في أهل الكهف : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ
آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) .
ولمّا لم يعلم أهل
الظاهر من العلم هذه الدرجات ولم يعاينوها ولم يتحقّقوا بها ، اختبطوا في هذه
الأمور ، وقالوا : الصفات معان مجرّدة لا تقبل النقص والزيادة ، فشرعوا في التأويل
، وهاموا في كلّ واد من أوديته.
__________________
والراسخون في
العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر بعد هذا الإيمان بجليّة الأمر ويستشرف على كنه السرّ إلّا أولو الألباب الذين لم تحجبهم القشور
وتعدّوها ، فعرفوا كنه حقائق الأمور.
ومن غرائب ما في
هذه التنبيهات الربانيّة ذكر «ثمّ» المفيدة للتراخي والمؤذنة بامتياز ما بعدها عمّا تقدّمها ، لئلّا
يريبك المحجوب ؛ فأين الاهتداء المشار إليه بعد التوبة الإيمانيّة ، ثم الإيمان
اللازم لتلك التوبة والأعمال الصالحة بتعريف الله من الاهتداء إلى أنّ دين الإسلام
هو الدين الحقّ بعد بعثة محمّد ، وأنّ ما جاء به صلىاللهعليهوآله حقّ ، وما سواه منسوخ أو باطل؟ وأين الإيمان والتقى
المذكوران في أوّل الآية ـ التي أوردناها تأنيسا للمحجوب الضعيف ـ من الايمان
والتقى المذكورين في وسطها ، والمذكورين في آخرها ، فتذكّر.
وللهداية ثلاث مراتب يقابلها ثلاث درجات من الحيرة التي هي الضلالة
مقابلة الدركات النارية الدرجات الجنانيّة ستعيّن لك فيما بعد عند الكلام بلسان
الجمع والمطلع ـ إن شاء الله ـ
__________________
وصل من هذا الأصل
لا شرف في التجلّي
المطلق
اعلم ، أنّ في
التخصيص المتعلّق بالصراط المستقيم أسرارا منها : أنّ الحقّ لمّا كان محيطا بكلّ
شيء وجودا وعلما ، ومصاحبا كلّ شيء بمعيّة ذاتيّة مقدّسة عن المزج والحلول
والانقسام وكلّ ما لا يليق بجلاله ، كان سبحانه منتهى كلّ صراط ، وغاية كلّ سالك ،
كما أخبر سبحانه بقوله ـ بعد قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، فنبّه أنّ مصير كلّ شيء إليه : وكلّ من الأشياء يمشي على
صراط ، إمّا معنويّ أو محسوس بحسب سالكه ، والحقّ غايته كما قال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فعرّف سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآله ليعرّفنا ، فقال له : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) منها بالنسبة إلى غيرها ، فهو تعالى غاية السائرين ، كما
أنّه دلالة الحائرين ، لكن لا شرف في مطلقاته التي يرتفع فيها التفاوت ، كمطلق
خطابه ومطلق معيّته ومصاحبته ، ومطلق الانتهاء إليه من حيث إحاطته ، ومطلق توجّهه
الذاتي والصفاتي معا للإيجاد ؛ فإنّه لا فرق بين توجّهه إلى إيجاد العرش والقلم
الأعلى وبين توجّهه إلى إيجاد النملة من حيث أحديّة ذاته ومن حيث التوجّه.
ومن صار حديد
البصر ؛ لاتّحاد بصره ببصيرته وانصباغهما بالنور الذاتي الإلهي (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، وهكذا الأمر في معيّته الذاتيّة وصحبته ؛ فإنّه مع
__________________
أدنى مكوّناته كهو
مع أشرفها وأعلاها بمعيّة ذاتيّة قدسيّة لائقة. وحكم مطلق خطابه أيضا كذلك ، هو
المخاطب موسى ومن شاء ، وشرّفهم بخطابه وبما شاء ، والمخاطب أهل النار ب (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وباقي الآيات ولا شرف لهم من تلك المخاطبة ، ولا فضيلة ،
بل يزيدهم ذلك عذابا إلى عذابهم ، وهكذا الأمر في إحاطته ؛ فإنّه بكلّ شيء محيط
رحمة وعلما ، ورحمته هنا وجوده ؛ إذ ليس ثمّ ما تشترك فيه الأشياء على ما بيّنها
من التفاوت والاختلاف إلّا الوجود ، كما بيّن من قبل.
فهو سبحانه من حيث
الإحاطيّة والوجوديّة والعلميّة غاية كلّ شيء ، وقد نبّهتك أنّ علمه سبحانه في
حضرة أحديّة ذاته لا يغاير ذاته ، ولا يمتاز عنها ؛ إذ لا تعدّد هناك بوجه أصلا ،
ومع ثبوت أنّه غاية كلّ شيء ، ومع كلّ شيء ، ومحيط بظاهر كلّ ذرّة وجزء منقسم أو
غير منقسم ، وبظاهر كلّ بسيط من روح ونسبة ، ومحيط بباطن الجميع ، فإنّ الفائدة لا
تعمّ ، والسعادة لا تشمل.
وإنّما تظهر
الفوائد بتميّز الرتب ، واختلاف الجهات والنسب ، وتفاوت ما به يخاطبك ،
وبأيّ صفة من صفاته يصحبك ، وإلى أيّ مقام من حضراته العلى يدعوك ويجذبك ، وفي أيّ
صورة من صور شؤونه ولأيّ أمر من أموره ينشئك ويركّبك ، وفي أيّ حال ومقام يقيمك ويثبتك ، ومن أيّها ينقلك ويقلّبك ، ففي ذلك فليتنافس
المتنافسون.
أليس قد عرّفتك
أنّ كلّ اسم من أسمائه سبحانه وإن توقّف تعيّنه على عين من أعيان الموجودات ،
فإنّه غاية ذلك الموجود ، ومرتبة ذلك الاسم قبلته ، والاسم هو المعبود.
والأسماء وإن
جمعها فلك واحد فهي من حيث الحقائق مختلفة ، من حيث إنّ كلّ اسم من وجه عين
المسمّى ، والمسمّى واحد يقال : إنّها متّحدة وإلّا فأين الضارّ من النافع ،
والمعطي من المانع؟ وأين المنتقم من الغافر ، والمنعم اللطيف من القاهر؟ وأين
الرحمة والغضب ، والغلبة والسبق وما يقابلها من النسب بأحديّة الجمع؟ حفظت
__________________
على الأشياء صورة
الخلاف الذي وصفت به ، وبسرّ الإحاطة والمعيّة الذاتيّة الأحديّة حصل بين الأضداد
الائتلاف ، فانتبه ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، وما حرم كشفه ، فلا أبديه ولا أحلّه.
وممّا نبّه الحقّ
سبحانه الألبّاء على أنّه في البداية الغاية والطريق المتعيّن بينهما بحسب كلّ
منهما قوله بلسان هود ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ، فأشار إلى أنّه هو الذي يمشي بها ، ثم قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فهم على صراط مستقيم ، من حيث إنّهم تابعون بالقهر لمن
يمشي بهم ، وهذه هي الاستقامة المطلقة ، التي لا تفاوت فيها ، ولا فائدة من حيث
مطلق الأخذ بالنواصي ومطلق المشي ، كما مرّ.
ونبّه في الذوق
المحمّدي على سرّ هذا المقام بنمط آخر أتمّ ، فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، تنبيه منه أنّ الدعوة إلى الله ممّا هو المدعوّ حاصل فيه
وعليه إيهام من وجه بأنّ الحقّ متعيّن في الغاية ، مفقود في الأمر الحاضر.
ولمّا كان حرف «إلى»
المذكور في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) حرفا يدلّ على الغاية ويوهم التحديد ، أمره أن ينبّه أهل
اليقظة واليقين على سرّ ذلك ، فكأنّه يقول لهم : إنّي وإن دعوتكم إلى الله بصورة
إعراض وإقبال ، فليس ذلك لعدم معرفتي أنّ الحقّ مع كلّ ما أعرض عنه المعرض كهو مع ما أقبل عليه ، لم يعدم من البداية
فيطلب في الغاية ، بل أنا ومن اتّبعني في دعوة الخلق إلى الحقّ على بصيرة من الأمر
، وما أنا من المشركين ، أي : لو اعتقدت شيئا من هذا ، كنت محدّدا للحق ، ومحجوبا
عنه ، فكنت إذا مشركا ، وسبحان الله أن يكون محدودا متعيّنا في جهة دون جهة أو
منقسما ، أو أن أكون من المشركين الظانّين بالله ظنّ السوء.
وإنّما موجب
الدعوة إلى الله اختلاف مراتب أسمائه بحسب اختلاف أحوال من
__________________
يدعى إليه ،
فيعرضون عنه من حيث ما يتّقى ويحذر ، ويتوقّع من البقيا معه على ذلك الوجه الضرر ،
ويقبل به عليه بما هدى وبصر ، لما يرجى به من الفوز به وبفضله ويذكر ، فافهم
وتذكّر.
فصل في وصل
في مراتب الهداية
اعلم ، أنّ الصراط
المستقيم له ثلاث مراتب : مرتبة عامّة شاملة وهي الاستقامة المطلقة ، التي سبق
التنبيه عليها ولا سعادة تتعيّن بها.
ومرتبة وسطى ، وهي
مرتبة الشرائع الحقّة الربانيّة المختصّة بالأمم السالفة من لدن آدم إلى بعثة
محمّد صلىاللهعليهوآله.
والمرتبة الثالثة
مرتبة شريعتنا المحمّديّة الجامعة المستوعبة ، وهي على قسمين : القسم الواحد ما
انفرد به واختصّ دون الأنبياء. والقسم الآخر ما قرّر في شرعه من أحكام الشرائع
الغابرة.
والاستقامة فيما
ذكرنا الاعتدال ، ثم الثبات عليه ، كما قال صلىاللهعليهوآله في جواب سؤال الصحابي منه الوصيّة : «قل آمنت بالله ثم
استقم» وهذه حالة صعبة
عزيزة جدّا ، أعني التلبّس بالحالة الاعتداليّة الحقّة ، ثم الثبات عليها ، ولهذا قال
صلىاللهعليهوآله : «شيّبتني سورة هود وأخواتها» . وأشار إلى قول الحقّ له حيث ورد : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) فإنّ الإنسان من حيث نشأته وقواه الظاهرة والباطنة يشتمل
على صفات وأخلاق وأحوال وكيفيّات طبيعيّة وروحانيّة ، ولكلّ منها طرفا إفراط وتفريط والواجب معرفة
الوسط من كلّ ذلك ، ثم البقاء عليه ، وبذلك وردت الأوامر الإلهيّة ، وشهدت بصحّته
الآيات الظاهرة والموجودات العينيّة ،
__________________
وصحّ للأكابر من
بركات مباشرة الأخلاق والأعمال المشروعة ما صحّ ونبّهت على ذلك الإشارات الربانيّة
، كقوله في مدح نبيّه صلىاللهعليهوآله : (ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى) ، وكقوله في مدح آخرين في باب الكرم : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، وكوصيّته سبحانه لنبيّه أيضا بقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، فحرّضه على السلوك على الأمر الوسط بين البخل والإسراف ،
وكجوابه لمن سأله مستشيرا في الترهّب وصيام الدهر وقيام الليل كلّه بعد زجره إيّاه
، «ألا إنّ لنفسك عليك حقّا ، ولزوجك عليك حقّا ، لزورك عليك
حقّا ، فصم وأفطر وقم ونم». ثم قال لآخرين في هذا الباب : «أمّا أنا فأصوم وأفطر
وأقوم وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»
فنهى عن تغليب
القوى الروحانيّة على القوى الطبيعيّة بالكلّيّة ، كما نهى عن الانهماك في الشهوات
الطبيعيّة.
وهكذا فعل في
الأحوال وغيرها ، فمن ذلك لمّا رأى عمر رضي الله عنه وهو يقرأ رافعا صوته ، فسأله
عن ذلك ، فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال له : «اخفض من صوتك قليلا» وأتى
أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ أيضا خافضا صوته ، فسأله كذلك ، فقال : «قد أسمعت
من ناجيت» فقال له : «ارفع من صوتك قليلا» ؛ فأمرهما صلىاللهعليهوآله بلزوم الاعتدال الذي هو صفة الصراط المستقيم وهكذا الأمر
في باقي الأخلاق ؛ فإنّ الشجاعة صفة متوسّطة بين التهوّر والجبن ، والبلاغة صفة
متوسّطة بين الإيجاز والاختصار المجحف ، وبين الإطناب المفرط ، وشريعتنا قد تكفّلت
ببيان ذلك كلّه وراعته وعيّنت الميزان الاعتدالي في كلّ حال وحكم ومقام وترغيب
وترهيب ، وفي الصفات والأحوال الطبيعيّة ، والروحانيّة والأخلاق المحمودة
والمذمومة ، حتى أنّه عيّن للمذمومة مصارف إذا استعملت فيها كانت محمودة وراعى هذا
المعنى أيضا في الإخبارات الإلهيّة والإنباء عن الحقائق ؛ فإنّه سلك في ذلك
__________________
طريقا جامعا بين
الإفصاح والإشارة ، وبسنّته نقتدي ، وبالله نهتدي ، فاكتف بالتلويح ؛ فإنّ التفصيل
يطول.
وجملة الحال فيما
أصّلنا أوّلا أنّ الإنسان لمّا كان نسخة من جميع العالم ، كانت له مع كلّ عالم
ومرتبة وأمر وحال ، بل مع كلّ شيء نسبة ثابتة لا جرم فيه ما يقتضي الانجذاب من
نقطة وسطه الذي هو أحسن تقويم ، إلى كلّ طرف ، والإجابة لكلّ داع.
وليس كلّ جذب
وانجذاب وإجابة ودعاء بمفيد ولا مثمر للسعادة. هذا وإن كان الحقّ ـ كما بيّنّا ـ
غاية الجميع ومنتهاه ومعه ومبتغاه ، وإنّما المقصود إجابة وسير وانجذاب خاصّ إلى
معدن السعادات ، و إلى ما يثمر سعادة مرضيّة ملائمة خالصة غير ممتزجة ،
مؤبّدة لا موقّتة ، فما لم يتعيّن للإنسان من بين الجهات المعنويّة وغير المعنويّة
الجهة التي هي المظنّة لنيل ما يبتغي ، أو المتكفّلة بحصوله ، ومن الطرق الموصلة
إلى تلك الجهة ، و ذلك الأمر أسدّها وأقربها وأسلمها من الشواغب والعوائق ،
فإنّه ـ بعد وجدان الباعث الكلّي إلى الطلب أو مسيس الحاجة إلى دفع ما يضرّ وجلب
ما ينفع ، أو ما هو الأنفع ظاهرا وباطنا أو عاجلا وآجلا ـ لا يعلم كيف طلب ، ولا
ما يقصد على التعيين؟ ولا كيف يقصده؟ ولا بأيّ طريق يحصّله؟ فيكون ضالًّا حائرا
حتى يتعيّن له الأمر والحال ، ويتّضح له وجه الصواب بالنسبة إلى الوقت الحاضر
والمآل ، فافهم (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) .
__________________
وصل
وإذ قد يسّر الله
في ذكر أسرار ظاهر هذه الآية وباطنها بعد ثم حدّها الذي فرغنا منه الآن ما يسّر ،
فلنشرع في الكلام عليها بما يقتضيه سرّ المطلع ، ولسانه ، ثم لسان الجمع على سبيل
الإلماع حسب التيسير ، والله المرشد.
مراتب الهداية
والضلال
اعلم ، أنّ
الهداية ضدّ الضلال ، ولكلّ منهما ثلاث مراتب ، وصفة الضلال ـ الذي هو الحيرة ـ
اللاتعيّن ، والتعيّن للهداية ، والسرّ في تقديم حكم ضلالة الإنسان على هدايته هو تقدّم حكم الشأن المطلق
الإلهي الذاتي ، من حيث غيب هويّته ، على نفس التعيّن ، كتقدّم الوحدة والإجمال
والإبهام والعجمة ، على الكثرة والتفصيل والإيضاح والإعراب.
وتذكّر ما بيّن لك
في صدر الكتاب عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه ، وتقدّم مقام كان الله ولا شيء
معه ولا اسم ولا صفة ولا حال ولا حكم ، على التعيّن الأوّل المختصّ بحضرة أحديّة
الجمع ـ المنبّه عليه في صدر الكتاب ومنذ قريب أيضا ـ المعيّن لمفاتح الغيب. وكذا فلتتذكّر تقدّم حضرة أحديّة الجمع ، على
الكينونة العمائيّة الثابتة في الشرع والتحقيق والمقول بلسانها «كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، وتقدّم السرّ
النوني على الأمر
__________________
القلمي ، وتقدّم
القلم على اللوح ، وتقدّم الكلمة والحكم والأمر العرشي الوحدانيّ الوصف ، على
الأمر التفصيلي الأوّل الصوري الظاهر بحكم القدمين في الكرسي.
ثم انظر انتهاء
الأمر بالترتيب ـ المعلوم في العموم ، والمدرك في الخصوص ـ إلى آدم الذي هو آخر
صورة السلسلة وأوّل معناها ، واجتماع الذرّيّة واندماجها في صورة وحدته كالذرّ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) فبرزوا بعد الكمون والاندماج في الغيب الإضافي الآدمي
الجملي ، بإبانة الحقّ سبحانه لهم وبثّه إيّاهم ، حتى شهد كلّ منهم من نفسه وغيره
ما كان عنه الاندماج محجوبا ، واتّصلت أحكام بعضهم بالبعض بالإبرام
والنقض غالبا ومغلوبا ، فافهم وأمعن التأمّل فيما لوّحت به ، تعرف أنّ الهدى في
الحقيقة عين الإبانة والإظهار بالتمييز والتعيين.
فللوحدة والإجمال
وما نعت آنفا بالتقدّم : البطون ، وللكثرة : الظهور والإبانة والفصل والإفصاح ،
ولمّا قدّر الإنسان على الصورة ، وظهر نسخة وظلّا ، جاءت نسخته على صورة الأصول
التابعة لأصله ، لا جرم كانت ضلالته متقدّمة على هدايته كما أخبر سبحانه عن أكمل
النسخ وأتمّ الناس تحقّقا وظهورا بالكمال الإلهي والإنساني ، بقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي كنت بحال من لم يتعيّن له وجه الصواب والأولويّة في ما
ذا ، فعيّنه لك وميّزه وعلّمك ما لم تكن تعلم فكملت في مرتبة الهداية وغيرها ،
وامتلأت حتى فضت ، فهديت وكمّلت ، وانبسط منك الفيض على غيرك ، فتعدّى بك خيري إلى
الكون ، وبي خيرك ، فسبحان الذي خلق الإنسان وهداه النجدين ، ثم اختار له الصراط
السويّ الاعتدالي ، وعلّمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما.
فالجواذب ـ يا أخي
ـ من كلّ ناحية وطرف تجذب ، والدعاة بلسان المحبّة ـ من حيث إنّ الإنسان معشوق
الكل ، و حيث حكم الربوبيّة الذي انصبغ به الجميع ـ يدعون ،
والدواعي بحسب الجواذب والمناسبات للإجابة والانجذاب تنبعث ، وأنت عبد ما أحببت
__________________
وما إليه انجذبت ،
والاعتدال في كلّ مقام وحال وغيرهما وسط ، ومن مال عنه انحرف ، ولا ينحرف إلّا
منجذب بكلّه أو أكثره إلى الأقلّ. ومن تساوت في حقّه أطراف دائرة كلّ مقام ينزل فيه أو يمرّ
عليه ويثبت في مركزه هيولانيّ الوصف ، حرّا من قيود الأحكام والرسوم ، معطيا كلّ
جاذب وداع حقّه وقسطه منه فقط ، وهو ـ من حيث ما عدا ما تعيّن منه بالإقساط ـ
باق على أصل إطلاقه وسذاجة طلسه ، دون وصف ولا حال معيّن ولا حكم ولا اسم ، فهو الرجل
التابع ربّه في شؤونه ، حيث (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ؛ أي بيّن وأوضح كما قال الشيخ الكامل :
أصلّي إذا صلّت
وأشدو إذا شدت
|
|
ويتبعها قلبي
إذا هي ولّت
|
فافهم ، وتذكّر ما
مرّ في هذا الباب عند الكلام في سرّ الوجهة ، وسرّ «إيّاك نعبد» بلسان الجمع
الكمالي ، وما سبق ذكره قبل ذلك أيضا ، عساك تعرف ما أشير إليه.
مراتب الاعتدال
ثم نقول : اعلم ،
أنّ للاعتدال مرتبة غيبيّة إلهيّة ؛ هي عبارة عن الصورة المعنويّة ، والهيئة
الغيبيّة ، والمتعقّلة والمتحصّلة من الاجتماع الأزلي الواقع بحكم الجمع الأحدي
بين الأسماء الذاتيّة الأصليّة في العماء ـ الذي هو حضرة النكاح الأوّل ، الذي ظهر
به القلم الأعلى ـ والأرواح المهيّمة وهي أمّ الكتاب.
فمن تعيّنت مرتبة
عينه فيها ، بحيث تكون توجّهات أحكام الأسماء والأعيان إليه توجّها متناسبا ،
وينتظم في حقّه انتظاما معتدلا ، مع عدم استهلاك حكم شيء منها في غيره ، وبقاء
اختلافها بحاله على صورة الأصل ، وإن ظهرت الغلبة لبعضها على البعض كالأمر في
المزاج العنصريّ ، كان مقامه الروحاني من حيث الصفات والأفعال والأحوال
الروحانيّة
__________________
الخصيصة بروحه
معتدلا ، وكان اجتماع أسطقسّاته هنا حال انتشاء بدنه واقعا على هيئة متناسبة في
الاعتدال ، فجمع بالاعتدال الغيبي الأصلي المذكور ، بين الاعتدال الروحاني
والطبيعي المثالي والحسّي ، كانت أحواله وأفعاله وتصوّراته واقعة جارية على سنن الاعتدال
والاستقامة. سواء كانت تلك الأفعال والآثار من الأمور الزائلة أو الثابتة إلى أجل
أو دائما.
وكلّ شيء يصدر منه
صدورا معتدلا فهو في سيره من ربّه آتيا وعائدا يمشي مشيا مستقيما على الصراط السوي
، بسيرة مرضيّة ، وتطوّرات معتدلة رضيّة في نفس الأمر عند الله.
ومن انحرف عن هذه
النقطة الوسطيّة المركزيّة ، التي هي نقطة الكمال في حضرة أحديّة الجمع ، فالحكم
له وعليه بحسب قرب مرتبته من هذه وبعدها فقريب وأقرب وبعيد وأبعد ، وما بين
الانحراف التامّ المختصّ بالشيطنة وهذا الاعتدال الإلهي الأسمائي الكمالي يتعيّن
مراتب أهل السعادة والشقاء ، فللاعتدال الطبيعي السعادة الظاهرة ـ على اختلاف
مراتبها ـ والنعيم المحسوس ، ويختصّ بالمرتبة الأولى من مراتب الهداية وبجمهور أهل
الجنّة.
وللاعتدال
الروحاني باطن الهداية في الرتبة من ربّها ، ويختصّ بالأبرار.
ومن غلبت عليه
الأحكام الروحانيّة من الأولياء ، كقضيب البان وأمثاله ، فبعلّيّين. وأصحاب الاعتدال الأسمائي الغيبي الإلهي هم الكمّل
المقرّبون ، أهل التسنيم ، وخزنة مفاتيح الغيب ، ويختصّ بهم المرتبة الثالثة من
مراتب الهداية الكاملة الآتي ذكرها عن قريب.
وينقسم أهل
الهداية الظاهرة والباطنة المذكورين على أقسام عددها على عدد الأولياء الذين هم على عدد مراتب
الاعتدال الطبيعي والروحاني ، وهي تزيد على الثلاثمائة بمقدار قليل ، من حيث أصول
هذه الأقسام. وأمّا من حيث أمّهات الأصول
__________________
فلا تجاوز التسعة :
فمنهم : المهتدي
بكلام الحقّ ـ من حيث رسله الملكيّين ، أو البشريّين ـ في نفسه فقط ،
أو فيه وفي غيره. ولا يتعدّى أمر هؤلاء المسجد الأقصى عند سدرة المنتهى ، مع تفاوت
عظيم بينهم ؛ فإنّ فيهم من لا يتعدّى أمره السماء الأولى ، ولا الخطاب الإلهي
الوارد عليه ، ولا الرسول الملكي الآتي إليه.
وفيهم من يختصّ بالسماء الثانية ، وآخر بالثالثة ، هكذا إلى
المسجد المذكور ، عند سدرة المنتهى ، وليس فوق هذا المسجد تشريع تكليفي ، ولا
إلزام بصراط معيّن يتعبّد به أحد هنا بالقهر.
ومنهم : المهتدي
بكلام كلّ قدوة آخذ عن الله ، مأمور بالإرشاد ، وداع على بصيرة.
ومنهم : المهتدي
بصور أفعال الحقّ التي هي آيات الآفاق والأنفس.
ومنهم : المهتدي
بما فعل الرسل وكلّ متبوع محقّ ، أو واضع شريعة سياسيّة عقليّة
مصادفة ما قرّرتها الرسل ، لكن واضعها ابتدعها وتبعه فيها غيره تقليدا أو استحسانا.
ومنهم : المهتدي
بإذنه على اختلاف صور الإذن ، وقد نبّه سبحانه على هذا المقام بقوله :
(فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). ومنهم : من اهتدى بإيمانه كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) .
ومنهم : من اهتدى
بأمر متحصّل من مجموع ما ذكر أو بعضه ، كقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) هذا ، مع أنّ كلّ قسم ممّا ذكرنا ينقسم أهله إلى أقسام ،
فافهم.
ومنهم : من اهتدى
به سبحانه من حيث بعض أسمائه.
__________________
ومنهم : من اهتدى
به من حيث جملتها.
ومنهم : من اهتدى
به من حيث خصوصيّة المرتبة الجامعة بين سائر الأسماء والصفات.
ومنهم : من اهتدى
به لا من حيث قيد خاصّ ، ولا نسبة متعيّنة من اسم أو صفة أو شأن أو تجلّ في مظهر ،
أو خطاب منضبط بحرف وصوت ، أو عمل مقنّن ، أو سعي متعمّل ، أو علم موهوب أو مكتسب
وبالأسباب أو الوسائل محصّل ، وإنّما علم الحقّ أنّ من مقتضى حقيقته التكيّف بصورة كلّ شيء ، والتلبّس بكلّ حال ، والانصباغ
بحكم كلّ مرتبة وكلّ حاكم في كلّ وقت وزمان.
فلمّا رآها مضاهية
لصورة حضرته ، اختارها مجلى لحضرة ذاته المطلقة ، التي إليها تستند الألوهة الجامعة
للأسماء والصفات ، فتجلّى فيها تجلّيا تستدعيه هذه الحقيقة ، فعلم كلّ شيء من حيث
تعيّنه في علم ربّه أزلا بذلك العلم عينه ، وهدى كلّ شيء لكلّ شيء ، وحكم على كلّ
شيء بنفس ذلك الشيء ، فانحفظت به صور الحقائق من حيث عدم تغيّرها في مرآته ، على
ما كانت عليه حال ارتسامها في نفس موجدها. ولو لا هذا المجلى ما ظهر عن الحقّ
بتجلّيه فيه صور الأشياء بين المجلى والمتجلّي ، فافهم.
__________________
وصل
في مراتب
الاستقامة
وإذ قد ذكرنا نبذا
من أقسام الناس في مراتب الهداية والاهتداء ، فلنذكر ما يختصّ بالاستقامة.
اعلم ، أنّ الناس
في الاستقامة على سبعة أقسام : مستقيم بقوله وفعله وقلبه ، ومستقيم بقلبه وفعله
دون قوله ، ولهذين الفوز ، والأوّل أعلى ، ومستقيم بفعله وقوله دون قلبه ، وهذا
يرجى له النفع بغيره ، ومستقيم بقوله وقلبه دون فعله ، ومستقيم بقوله دون فعله
وقلبه ، ومستقيم بقلبه دون فعله وقوله ، ومستقيم بفعله دون قلبه وقوله ، وهؤلاء
عليهم لا لهم وإن كان بعضهم فوق بعض.
وليس المراد
بالاستقامة في القول هنا ترك الغيبة والنميمة وشبههما ؛ فإنّ الفعل يشمل ذلك ،
وإنّما المراد بالاستقامة في القول إرشاد الغير بقوله إلى الصراط المستقيم ، وقد
يكون عريّا ممّا يرشد إليه ، وسنجمع الأمر لك في مثال واحد موضح ، فنقول :
مثاله : رجل تفقّه
في أمر صلاته وحقّقها ، ثم علّمها غيره ، فهذا مستقيم في قوله ، ثم حضر وقتها
فأدّاها على نحو ما علّمها ، محافظا على أركانها الظاهرة ، فهذا مستقيم في فعله ،
ثم علم أنّ مراد الله منه من تلك الصلاة حضور قلبه معه فيها ، فأحضره ، فهذا
مستقيم بقلبه. وقس على ذلك بقية الأقسام ، تصب ـ إن شاء الله ـ
__________________
وصل منه
وإذا عرفت هذا ،
فنقول : إنّ أسدّ صراط خصوصي في مطلق الصراطات المشروعة ما كان عليه نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، قولا وفعلا وحالا على نحو ما نقل من سيرته. والفائز بها
الكامل في الاتّباع تقليدا ، أو عن معرفة وشهود وهي الحالة الوسطى الاعتداليّة ،
والناس فيها على مراتب لكلّ ذي مرتبة منها آية ، أو آيات تدلّ على صحّة تبعيّته
ونسبته منه صلىاللهعليهوآله ، بموجب القرابة الدينيّة الشرعيّة ، أو القرابة الروحانيّة من حيث ورثه في الحال أو في العلم ـ
ذوقا ومأخذا ـ أو في المرتبة الكماليّة التي تقتضي الجمع والاستيعاب.
وهذه الآيات تكون
في حقّ المحجوبين وفي حقّ أهل الاطّلاع.
فآيتها في
الإلهيّات بالنسبة إلى من هو دون الكمّل والأفراد شهود الحقّ الأحد في عين الكثرة
مع انتفاء الكثرة الوجوديّة وبقاء أحكامها المختلفة. هذا ، مع المعرفة اللازمة
لهذا الشهود وهي معرفة سبب تفرّع النسب والإضافات ورجوعها حكما إلى الوجود الواحد
الحقّ ، الذي لا كثرة فيه أصلا.
وأهل هذا الحال
فيه على درجات في الشهود والمعرفة والولاية ، وفي معرفة سرّ الاتّباع وحكمه موافقة
واقتداء ، وفي نتائج الأعمال الموقّتة وغير الموقّتة ، الصادرة بالنسبة إلى التابع
، وبالنسبة إلى الموافق.
والاستقامة
الوسطيّة بالنسبة إلى غير أهل الكشف والمعرفة من المؤمنين والمسلمين أيضا على
مراتب ودرجات ، فأتمّهم إيمانا بهذا الذوق المذكور ، وأشدّهم تحرّيا للمتابعة ،
__________________
وأصحّهم تصوّرا
لما يذكر من هذه الشأن أتمّهم قربا من الطبقة الأولى ، ولهم الجمع بين التنزيه
المنبّه عليه في سورة الإخلاص ، وفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وبين تشبيه : «ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة» و «يسكن جنّة عدن
في دار له فيها» ويتحوّل في الصور يوم القيامة ، وينزل مع ملائكة السماء السابعة
فيستوي على عرش الفصل والقضاء ، ويراه السعداء ، ويسمعون كلامه كفاحا ، ليس بينه
وبينهم ترجمان فيثبت كلّ ذلك للحقّ كما أخبر به عن نفسه ، وبحسب ما ينبغي لجلاله ،
في مرتبة ظاهريّته ، لأنّ كلّ هذا من شؤون الاسم «الظاهر» كما أنّ التنزيه متعلّقه
الاسم «الباطن».
ولحقيقة سبحانه
المسمّاة بالهويّة الجمع بين الظاهر والباطن كما نبّه على ذلك بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فعيّن مقام الهويّة في الوسط بين الأوّليّة والآخريّة ، والظاهريّة والباطنيّة
، وكذلك نبّهنا سبحانه فيما شرع لنا من التوجّه إلى الكعبة بعد التوجّه إلى بيت
المقدس على سرّ ما أشرنا إليه بقوله : (قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ؛ أي بين المشرق والمغرب ؛ لأنّه أردف ذلك بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ؛ أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب.
ولمّا كان المشرق
للظهور والمغرب للبطون والوسط للهو كما بيّنّا ، كان صاحب الوسط له العدل والاستقامة المحقّقة
، وأمّا قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، فهو تنبيه منه سبحانه على سرّ الحيطة والمعيّة الذاتيّة
والإطلاق ، ويظهر حكم ذلك في الحائر الذي لم يتحقّق جهة القبلة ، وفيمن يتوجّه إلى
القبلة من جهة المغرب أو المشرق كأنّ أحدهما متوجّه إلى المغرب ـ وإن كان قصده
استقبال القبلة من جهة المغرب ـ والآخر بالعكس كأنّه متوجّه إلى المشرق ، وفيمن
ينتقل على راحلته ؛ فإنّه يصلّي حيث توجّهت به راحلته كما ثبت ذلك عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وفي المصلّي في نفس الكعبة لا يتعيّن بجهة معيّنة هكذا حال من عاين محتد الجهات وارتقى عنها إلى حيث لا «أين» ولا
«حيث» ولا «إلى» ؛ لأنّه حصل
__________________
في العين وتحرّر
من رقّ كلّ جهة وكون ومقام وحال وأين ، فصار قبلة كلّ قبلة ، وجهة أهل كلّ نحلة وملّة ، لا يسلك ولا يسير ، بل منه أبرز ما
أبرز ، وإليه يسلك به ، وإليه المصير.
ثم نرجع ونقول :
ودون هذه الطائفة المذكورة من قبل التامّين في التبعيّة والإيمان الطائفة المنزّهة
التي لا تعطّل ولا تجزم بما تتأوّل ، ودون أولئك الظاهرية التي لا تشبّه ولا تتحكّم ،
وكلّ طائفة من هؤلاء ينقسم إلى أقسام ؛ وبين كلّ طائفتين منهم درجات في الاعتقادات
، لكلّ منها أهل ، فمن عرف ما ذكرنا ، ثم استقرأ حال الفرق الإسلاميّة ، عرّف
حالهم وعرف أبعدهم نسبة من أقربهم ، المنبّه على حاله وعرف ما بين الطرفين ونسبة
قربهم وبعدهم من الطبقة العليا ، ولو لا التطويل ، لذكرتهم على سبيل الحصر ،
وعيّنت طرقهم وسيرهم ولكنّ الغرض الاختصار والإيجاز ، و فيما ذكرنا غنية للألبّاء ، والله المرشد.
__________________
وصل
في مراتب السير
والسلوك
اعلم ، أنّ السير
الذاتي الأصلي بالنسبة إلى الحقائق الكونيّة والأسماء الإلهيّة والأرواح العليّة
والأجرام الفلكيّة والاستحالات الطبيعيّة والأحوال التكوينيّة وجميع التطوّرات
الوجوديّة كلّها دورى ؛ فسير الأسماء بظهور آثارها وأحكامها في القوابل. وسير
الحقائق بتنوّعات ظهوراتها في المظاهر المتنوّعة ، وسير الأرواح بلفتتيها استمدادا
من الحقّ بلفتة وإمدادا بلفتة أخرى ، وبالمواظبة على ما يخصها من العبادة الذاتية
مع دوام التعظيم والشوق ، وسير الطبيعة بإكساب كلّ ما يظهر عنها صفة ، صفة الجملة
وحكمه ، فافهم.
والسير الخصوصي من
الوسط وإليه خطان ، والخطّ المستقيم أقصر الخطوط ، فهو أقربها فأقرب الطرق
إلى الحقّ ـ المعرّف في الشريعة ، الذي قرنت السعادة بالتوجّه إليه ـ هو الصراط
المستقيم الذي نبّهت عليه ، وقد ذكرت لك صورة العدل والاعتدال في المراتب الكلّيّة
والأحوال والأخلاق العليّة السنيّة ، ونبّهتك على أحكامها وآثارها ونتائجها
الموقّتة وغير الموقّتة والظاهرة منها والباطنة ، وأوضحت لك مراتب الهداية وأهلها
العالين والمتوسّطين والنازلين ، وحال الناس في الاستقامة أيضا من حيث الفعل
والقول والقلب.
وأنا الآن أجمع لك
ذلك جمعا موجزا من أوّل مرتبة الرشاد الذي هو الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم التوبة
التي هي أوّل مقامات السالكين ، وهكذا إلى آخر مقام ، لينتظم الأمر وترتبط السلسلة المتعيّنة بين بداية الأمور وغايتها
وأوائلها وأواخرها ، ثم أنبّهك على سرّ
__________________
النبوّة الآتية
بصورة الهدايات ، والدالّة على غايات الكمالات ، وأطلعك على سرّ الاستقامة
والاعوجاج والمبادئ والغايات وما يختصّ بجميع ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ فأقول :
أوّل مرتبة الرشاد
في الصراط الخصوصي المشروع الإسلام وله التنبيه الإجمالي على حكم التوحيد الكلّي
المرتبي والانقياد لله الموجد ، الذي لا يجهل أحد الاستناد إليه ولا الانقياد له ، وله فروع من الأحكام والأحوال ، وتلبّس الإنسان بتلك
الأحوال وانقياده لتلك الأحكام هو سيره في مراتب الإسلام ودرجاته ، حتى ينفذ منه
إلى دائرة الإيمان ، وهكذا حاله في دائرة الإيمان بالأحكام والأحوال المختصّة به ،
حتى ينتهي إلى حال الطائفة التي ذكرناها آنفا وقلنا : إنّها تلي طائفة العرفان
والكشف والشهود.
ومبدأ الشروع في
درجات الكمال الإيماني من مقام التوبة ، فالصراط المستقيم العدل الوسط في التوبة
عبارة عن التلبّس بالحالة الخالصة من الشوائب المنافية للصدق ، والجزم عند قصد
الإنابة بحيث تكون التوبة طاهرة من كلّ ما يشينها مقبولة ثابتة الحكم ، ثم التصديق
الخاصّ بأنّ الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ويعلم ما يفعل عباده.
وفي قوله سبحانه
في هذه الآية : (وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ) ، تنبيه على هذا الإيمان المشار إليه ؛ فإنّ الإيمان ـ كما
علمت ـ التصديق ، فمن صدّق الله في إخباره أنّه يعلم ما يفعلون ، لم يقدم متجاسرا على ما يكره ؛ لأنّه من الضعف بمثابة
أنّه لو نهاه مخلوق مثله ـ ممّن له عليه تسلّط ـ عن أمر مّا ، وعرف أنّه كاره لذلك
الأمر ، ثم تأتّى له فعل ذلك الأمر مع وفور الرغبة ووجدان الاستطاعة لكنّه بمرأى من
ذلك المتسلّط الناهي ومسمع ، فإنّه لا يقدم على ارتكاب ذلك الفعل أبدا وإن توفّرت
رغبته إلى أقصى الغاية ، بل مجرّد الحياء من معاينته له مع تقدير الأمن من غائلته
يصدّه عن ذلك ، فكيف به إذا لم يتحقّق الأمن ، فهذا النحو من الإيمان ليس هو نفس
الإيمان بالله وكتبه ورسله على سبيل الإجمال ، بل هذا إيمان خاصّ.
__________________
ومن أكبر فوائد
إخبار الحقّ ورسله والكمّل من خاصّته عن أحكام القدر تنبيه النفوس والهمم وتشويقها للتحلّي بعلم القدر أو التحقّق بالإيمان به بعد الإيمان بما ذكرنا
، كقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما
فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) وكقوله عليهالسلام : «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل
رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب» وكقوله : «لا
يستكمل إيمان عبد مسلم حتى يكون فيما في يد الله أوثق منه ممّا في أيدي الناس» ، وفي الحديث
الآخر الصحيح أيضا : «حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» و «حتى يخاف الله
في مزاحه وجدّه» ونحو هذا في هذا المعنى وغيره ممّا يطول ذكره
ويجرّب العبد بميزانه عليهالسلام وميزان ربّه إيمانه ، فيعلم ما حصّل وما بقي عليه ولم
يحصّله.
ثم الصراط
المستقيم العدل الوسط بعد التحقّق بالتوبة المقبولة المنبّه على حكمها هو الثبات
على العمل الصالح بصفة الإخلاص الذي هو شأن أهل الإنابة ، ثم الترقّي بالعمل
الصالح في الدرجات العلى كما قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) يعني الأرواح الطاهرة (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فلا يزال الإنسان ـ مع إيمانه وتوبته وملازمته الأعمال
الصالحة ـ يتحرّى الأسدّ فالأسدّ ، والأولى فالأولى من كلام وعمل ، فيتّقي ويرتقي من حقّ الإيمان إلى حقيقته ، كما
نبّه الرسول صلىاللهعليهوآله على ذلك الحارثة وقد سأله : كيف أصبحت يا حارثة؟ قال :
أصبحت مؤمنا حقّا فقال : «إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت
نفسي عن الدنيا فتساوى عندي ذهبها وحجرها ونحو ذلك ، ثم قال :
وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزا وكأنّ أهل الجنّة في الجنّة ينعّمون وأهل النار في
النار يعذّبون ،
__________________
فقال عليهالسلام : «عرفت فالزم» . فهذا آخر درجات الإيمان ، وأوّل درجات الإحسان .
ثم إنّ العبد يرقى
ويزداد من النوافل بعد إحكام الفرائض وإتقانها وجمع الهمّ على الله وإحضار قلبه
فيما يرتكبه لله ، مع مشاهدة التقصير بالنسبة إلى ما يجب وينبغي ، ثم الإكثار من النوافل ما كان أحبّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، لكونه كان أحبّ إلى الله ، فيدأب عليه ويلازمه ؛ لحبّ
الله فيه ورسوله ، ولأنّه أشدّ جلاء للقلب الذي عليه مدار كلّ ما ذكرنا. ومنتهى
جميع ذلك ما أخبر الحقّ به على لسان رسوله بقوله : «ولا يزال العبد يتقرّب إليّ
بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» الحديث. وهذا مقام الولاية ،
وبعده خصوصيات الولاية التي لا نهاية لها ؛ إذ لا نهاية للأكمليّة ، بل بين مرتبة «كنت
سمعه وبصره» ومرتبة الكمال
المختصّ بصاحب أحديّة الجمع ـ المذكور غير مرّة والمنبّه عليه أيضا منذ قريب ـ
مراتب ، فما ظنّك بدرجات الأكمليّة التي هي وراء الكمال ، فمن جملة ما بين مرتبة «كنت
سمعه وبصره» وبين مرتبة الكمال. مرتبة النبوّة ، ثم مرتبة الرسالة ، ثم مرتبة
الخلافة المقيّدة بالنسبة إلى أمّة خاصّة ، ثم الرسالة العامّة ، ثم الخلافة العامّة ، ثم الكمال في الجمع ، ثم الكمال المتضمّن
للاستخلاف والتوكيل الأتمّ من الخليفة الكامل لربّه سبحانه في كلّ ما كان الحقّ سبحانه قد استخلفه فيه ، مع
زيادة ما يختصّ بذات العبد وأحواله ؛ فكلّ نبيّ وليّ ولا ينعكس ، وكلّ رسول نبي
ولا ينعكس ، وكلّ من قرن برسالته السيف فخليفة ، وليس كلّ من يرسل هذا شأنه ، وكلّ
من عمّت رسالته ، عمّت خلافته [إذا منحها بعد الرسالة ، وكلّ من تحقّق بالكمال ،
علا على جميع المقامات والأحوال والسلام] وما بعد استخلاف الحقّ والاستهلاك فيه عينا والبقاء حكما
مع الجمع بين صفتي التمحّض والتشكيك مرمى لرام.
ومن أراد أن
يتفهّم شيئا من أحوال الكامل وسيرته وعلاماته ، فليطالع كتاب مفاتح غيب الجمع
وتفصيله الذي ضمّنته التنبيه على هذا وغيره ، وقد فرّقت في هذا الكتاب
__________________
جملا من هذه
الأسرار ، فإن أردت الاطّلاع على مثل هذه الجواهر ، فأمعن التأمّل في هذا الكتاب ،
وألحق آخر الكلام بأوّله ، واجمع النكت المبثوثة فيه وما قصد تفريقه من غامضات
الأسرار ، تر العجب العجاب. وما يتوهّمه المتأمّل تكرارا فليس كذلك ، وإنّما كلّ
ما لا يمكنني التصريح به دفعة واحدة قد أعيد ذكره بتعريف آخر ولقب غير اللقب
الأوّل لأكشف بذلك قناعا من حجبه غير ما كشف من قبل ، اقتداء بربّي وسنن الكمّل من
قبلي ، فاجمع وتذكّر واقنع واستبصر ، والله الهادي والمبصّر.
فصل
في بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها وثمراتها
اعلم ، أنّ
للنبوّة صورة وروحا ، ولكلّ واحدة منهما حكم وثمرة ، فصورة النبوة التشريع وهو على
ثلاثة أقسام : قسم لازم يختصّ بكلّ من تعبّده الله في نفسه بشريعة عيّنها له يسلك
عليها ويعبد ربّه من حيثها. والشريعة : الطريقة ، فافهم ، وقسم يختصّ بكلّ مرسل
للإرشاد إلى طائفة خاصّة ، فحكم نبوّته متعدّ ؛ لأنّه ومن أرسل إليه من الطوائف
شركاء فيما عيّن له ، لكن أمر شريعته لا يعمّ.
والقسم الثالث
رسالة نبيّنا صلىاللهعليهوآله فإنّها رسالة مشتملة على جميع ضروب الوحي وجميع صور
الشرائع ، وأمرها محيط عام مستمرّ لم يعيّن لها انتهاء ، وإنّما ينقضي حكمها
بانخرام نظم نشأتي صورة الكون والزمان الذي من جملته طلوع الشمس من مغربها ، وكفى
بذلك عبرة وآية.
أحكام النبوّة
ثم نقول :
وللنبوّة من حيث أصلها الظاهر الأثر تماما في شريعتنا حكم كلّي يظهر بتفاريعها
الخمسة التي هي : الوجوب ، والندب ، والحظر ، والكراهة ، والإباحة باعتبار ترتّبها
وانسحابها على سائر المكلّفين بحسب أحوالهم وأفعالهم وفهومهم. وأوقاتهم ونشآتهم ،
وما تواطؤوا عليه وأنسته عقولهم وألفته طباعهم ألفة يتعذّر
__________________
عليهم الانفكاك
عنها.
وحكم صورة النبوّة
حفظ نظام العالم ، ورعاية مصالح الكون ؛ للسلوك والترقّي من حيث الصور إلى حيث
سعادة السالك المرتقي ، كما مرّ بيانه ؛ ولإقامة العدل بين الأوصاف الطبيعيّة
واستعمال القوى والآلات البدنيّة فيما يجب وينبغي استعماله ، مع اجتناب طرفي
الإفراط والتفريط في الاستعمال والتصرّف بمراقبة الميزان الإلهي الاعتدالي في ذلك
والعمل بمقتضاه والفوز أيضا بالنعيم المحسوس الطبيعي في الدار الآخرة أبد الآباد ،
وتحصيل الاستعداد الجزئي الوجودي ، لإذعان البدن بجملة قواه للروح القدسي الإلهي
والانصباغ بصفته وحكمه وما يستلزمان من الأمور الإلهيّة والفوائد الروحانيّة.
وروح النبوّة :
القربة ، وثمرتها : الصفاء والتخلية التامّة ، ثم صحّة المحاذاة ، المستلزمة
لمعرفة الحقّ ، وشهوده ، والأخذ منه ، والإخبار عنه ، وإحياء المناسبة الغيبيّة
الثابتة بين روح السالك المتشرّع وبين روح النبيّ أيضا ، والأرواح الآتية إليه ،
والملقية الوحي الإلهيّ والتنزّلات العلويّة الظاهرة الحكم والأثر عليه عند تقوية
الروح وطهارته ومشاركته ملائكة الوحي ، والإلقاء ، في الدخول تحت دائرة المقام
الذي منه يتنزّل الوحي المطلق ، المنقسم على ملائكة الوحي والواصل إلى من وصل [إليه] بواسطة الملك ، والمشاركة أيضا في
الدخول تحت حكم الاسم الإلهي الذي له السلطنة على الأمّة المرسل إليها الرسول ،
وعلى الملك والرسول أيضا ، من حيث ما هو رسول تلك الأمّة.
فإن كان الرسول هو
كامل عصره كنبيّنا صلىاللهعليهوآله ، فله شرط آخر وهو أن يصير مرآة لحضرة الوجوب ، والإمكان
في مرتبة أحديّة الجمع ، وقد مرّ حديثها.
وإن كانت رسالة
الرسول جزئية ، فإنّ رسالته ناتجة وظاهرة عن اسمين : أحدهما الاسم «الهادي» والاسم
آخر يتعيّن بحاله وعلمه وشرعته ومنهاجه ، وليس في الرسل من صدرت رسالته عن الاسم «الله»
الجامع لسائر مراتب الأسماء والصفات ، المستوعب لأحكامها إلّا رسالة نبيّنا صلىاللهعليهوآله ؛ فهو عبد الله ورسوله ، كما أشار إليه صلىاللهعليهوآله.
__________________
وحكم النبوّة من
حيث روحها تنبيه للاستعدادات بالإخبار عن الله وعن أسمائه وصفاته ، والتشويق إليه
وإلى ما عنده ، والتعريف بأحوال النفوس والسعادات الروحانيّة واللذّات المعنويّة ،
وإمداد الهمم للترقّي إلى ما لم تستقلّ عقول الأمّة بإدراكه دون التعريف الإلهي من
طريق الكشف المحقّق والوحي ، لتسمو همم النفوس إلى طلبه ، وتهتمّ في تحصيله من
مظنّته ، وتحصيل معرفة كيفيّة التوجّه إلى الحقّ بالقلوب والقوالب أيضا من حيث
تبعيّتها لأحكام القلوب حين انصباغها بوصفها ، ومعرفة عبادة الحقّ الذاتيّة
والحكميّة الوقتيّة والموطنيّة الحالية ، والتوجّه الجمعي بالسلوك نحوه على الصراط الأسدّ الأقوم
الأقرب ، والوجه الأحسن وفهم ما أخبرت عنه سفراؤه والكمّل من صفوته من العلوم
والحقائق والأسرار والحكم التي لا تستقلّ عقول الخلق بإدراكها ، والاستشراف عليها
، ومعرفة إرشاد الخلق ، للتوجّه إلى الحقّ التوجّه المستلزم لتحصيل الكمال على
الوجه الأسدّ والطريق الأقصد الأصوب ، وهو الطريق الجامع بين معرفة القواطع
المجهولة الخفيّة الضرر ، والأسباب المعيّنة الخفيّة المنفعة أيضا ، ليتأتّى طلب
كلّ معيّن محمود يحتاج إليه ويستعان به على تحصيل السعادات ، والتحقق بالكمال على
الوجه الأحسن الأيسر ، ويتمكّن من الأعراض عن العوائق ، وإزالة ضرر ما اتّصل من
أحكامها بالإنسان ، ومعرفة النتائج ـ التابعة للمضارّ والمنافع ـ المنبّه عليها ،
وما هو منها مؤجّل ومتناه ، وما لا يتقيّد بأجل ، ولا يحكم عليه بالتناهي ، وإصلاح
الأخلاق بتحسين السيرة والزهد فيما سوى المطلوب الحقّ.
وغاية كلّ ذلك ،
الفوز بكمال معرفة الحق ، وشهوده الذاتي ، والأخذ عنه ، والتهيّؤ على الدوام لقبول
ما يلقيه ويأمر به ويريه ، دون اعتراض ، ولا تثبّط ، ولا إهمال ، ولا تفقّه ولا
تأويل يقضي بالتقاعد.
وليراع الأولى
فالأولى ، والأجدر فالأجدر من كلّ أمر ، بالقصد أوّلا ، و بأن تصفو مرآة قلبه وحقيقته ثانيا صفاء يستلزم ظهور هذه
الأمور كلّها ـ بل ظهور كلّ شيء ـ فيها ، وبروزها به ـ أي بالإنسان ـ في الوجود
على ما كانت عليه في علم الحقّ من الحسن التام
__________________
المطلق ، الذاتي
الأزلي دون تعويق مناف للترتيب الذاتي الإلهي يوجبه صدى محلّ القابل ، أو خداج
حاصل بسبب نقص الاستعداد ، واختلال في الهيئة المعنويّة التي لمرآته يقضي بسوء القبول ، الذي هو عبارة عن تغيير صورة كلّ ما ينطبع فيها
عمّا كان عليه في نفس الحقّ ، صفة كان من صفاته أو خلقا أو علما أو حالا أو اسما
إلهيّا أو صفة من صفاته سبحانه أو فعلا أو كونا مّا من الأكوان.
ومنتهى كلّ ذلك
بعد التحقّق بهذا الكمال التوغّل في درجات الأكمليّة توغّلا يستلزم الاستهلاك في
الله استهلاكا يوجب غيبوبة العبد في غيب ذات ربّه ، وظهور الحقّ عنه في كلّ مرتبة
من المراتب الإلهيّة والكونيّة ، بكلّ وصف وحال وأمر وفعل ، ممّا كان ينسب إلى هذا
الإنسان من حيث إنسانيّته وكمال الإلهي ، وينسب إلى ربّه من حيث هذا العبد ، ظهورا
وقياما يوهم عند أكثر أهل الاستبصار أنّه عنوان الخلافة وحكمها وحالها والأمر بعكس ذلك في نفس الأمر عند الله وعند أهل هذا
الشهود العزيز المنال.
ومن حصلت له هذه الحالة ، وشاهد اللحمة النسبيّة التي بينه وبين
كلّ شيء ، وانتهى إلى أن علم أنّ نسبة الكون كلّه إليه نسبة الأعضاء الآلية والقوى
إلى صورته ، ونسبة القرائب الأدنين وتعدّى مقام السفر إلى الله ومنه إلى خلقه ،
وبقي سفره في الله لا إلى غاية ولا أمد ، ثم اتّخذ الحقّ وكيلا مطلقا به عن أمره ،
يقول حالتئذ : اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، وأنت حسبي في
سفري فيك ، والعوض عنّي وعن كلّ شيء ، ونعم الوكيل أنت على ما خلّفت ممّا كان
مضافا إليّ على سبيل الخصوص من ذات وصفة وفعل ولوازم ، كلّ ذلك ، وما أضفته إلىّ
أيضا من حيث استخلافك لي على الكون إضافة شاملة عامّة محيطة ، فقم عنّا بما شئته
منّا ، كيف ما شئت ، وفي كلّ ما شئت ، فكفانا أنت عوضا عنّا ، وعن سوانا ، والحمد
لله رب العالمين.
__________________
خاتمة وهداية جامعة
اعلم ، أنّ
الاستقامة والاعوجاج في الطرق هما بحسب الغايات المقصودة ، والغايات أعلام المبالغ
والكمالات النسبيّة المسمّاة مقامات أو منازل ودرجات. وهي ـ أعني الغايات ـ تتعيّن
بالبدايات ، وبين البدايات والغايات تتعيّن الطرق التي هي في التحقيق أحكام مرتبة
البداية التي منها يقع الشروع في السير الذي هو عبارة عن تلبّس السائر بتلك
الأحكام والأحوال المختصّة بالبداية والغاية ، جذبا ودفعا ، وأخذا وتركا ،
فانصباغه بحكم بعد حكم ، وانتقاله من حالة إلى حالة ـ مع توحّد عزيمته وجمع همّه
على مطلوبه الذي هو قبلة توجّهه وغاية مبتغاه ، واتّصال حكم قصده وطلبه بوجهته دون
فترة ولا انقطاع ـ هو سلوكه ومشيّة هكذا ، حتى يتلبس بكلّ ما يناسبه من الأحوال
والأحكام ، ويستوفيها ، فإذا انتهى إلى الغاية هي وجهة مقصده ، فقد استوفى تلك
الأحوال والأحكام من حيث تلبّسه بها وتكيّفه بحسبها ، ثم يستأنف أمرا آخر هكذا ،
حتى ينتهي إلى الكمال الحقيقي الذي أهلّ له ذلك السائر كائنا من كان.
ثم نقول :
البدايات تتعيّن بأوّليّات التوجّهات ، والتوجّهات تعيّنها البواعث
المحرّكة للطلب والسلوك في الطرق ، والطرق إلى معرفة كلّ شيء بحسب وجوه التعرّف
المثيرة للبواعث ، والبواعث تتعيّن بحسب حكم إرادة المنبعث ؛ فإنّ بواعث كلّ أحد
أحكام إرادته ، وشأن الإرادة إظهار التخصيص السابق تعيّن صورته ومرتبته في العلم ،
والعلم في نفس الأمر هو نور الحقّ الذاتي. وعلم الكمّل بالنسبة إلى الكمّل ومن شاء
الله من الأفراد حصّة
__________________
من علمه سبحانه ؛
فإنّ من عرف الأشياء بالله وحده ، فله نصيب من علم الله ؛ لأنّه علم الأشياء ـ
التي شاء الحقّ أن يعلمها ـ بما علمها به الله. والتنبيه على ذلك في الكتاب العزيز
قوله : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وفي الحديث «فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يعقل» فافهم
واستحضر ما نبّهنا عليه منذ قريب في سرّ الاهتداء ، وتذكّره كلّيّا أوّليّا إليّا
أزليّا ، والحظ مبدئيّة الأشياء من الحقّ باعتبار تعيّنها في علمه ، ثم بروزها
بالإرادة ، وقوله آخرا : (وَإِلَى اللهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ، وارق وانظر وتنزّه ولا تنطق ، وأمعن التأمّل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعلم ما نريد ـ إن شاء الله تعالى ـ
ثم نرجع إلى إتمام هذه القاعدة الكلّيّة الدوريّة. فنقول :
والبواعث وإن كانت
تتعيّن بالعلم إلى منتهى الدائرة كما بيّنّا فقد تتعيّن أيضا بالنسبة إلى البعض
بحسب فهمه أو شعوره أو تذكّره أو حضوره عن استحضار أو دون استحضار.
والحضور كيفما كان
عبارة عن استجلاء المعلوم الذي هو عبارة عن صور تعقّلات العالم نفسه في علمه ،
بحسب كلّ حالة من أحواله الذاتيّة ، واستجلائه ذاته من حيث هي ، أعني من حيث
أحواله.
والتذكّر والشعور
والحضور والفهم سبب للانجذاب إلى ما دعت إليه ألسن الدعاة ، ومحدث صفة الإجابة ،
وقوّة الجذب ، وأثر الدعاء بحسب ما من الداعي في المدعوّ والجاذب من المجذوب ،
وبالعكس أيضا.
والإجابة والانجذاب
ممّن هما صفتاه بحسب قوّة المناسبة والشعور ، وغلبة حكم ما به الاتّحاد والاشتراك
على ما به الامتياز.
وحاصل جميع ذلك
تكميل كلّ بجزء ، وإلحاق فرع بأصل ، ليظهر ويتحقّق كلّ فرد من أفراد مجموع الأمر
كلّه بصورة الجمع وحكمه ووصفه ، والمنتهى ـ بعد صيرورة الفروع
__________________
أصولا بالتفسير
المذكور ، وظهور الواحد في تنوّعات أحوال ذاته أشخاصا وأنواعا وأجناسا وفصولا ـ
زوال عين الأغيار ، مع بقاء التمييز والاختلاف على الدوام والاستمرار ، وهذا سرّ
لا إله إلّا الله المشروع ، فافهم وأظنّ أنّك لا تكاد تفهم.
ثم أقول : والحضور
المذكور المعرّف المعيّن بالعلم صور البواعث ، وحكمه استجلاء المعلوم لا يتأخّر
عنه الاستجلاء ، سواء تعلّق العلم بالمعلوم حال الاستحضار أو كان معلوما من قبل ،
لكن منع من دوام ملاحظته غفلة أو ذهول عنه بغيره ؛ لإنّ حكم كلّ واحد من الحضور
والغيبة لا يعمّ ، بل لا بدّ للإنسان في كلّ حال من حضور مع كذا ، أو غفلة عن كذا ، ولا يظهر حكمهما إلّا بالنسبة والإضافة
وهكذا الأمر في المبادئ والغايات إنّما تتعيّنان ـ كما قلنا ـ بحسب قصد القاصدين ،
وأوّليّات بواعث السائرين ، وإلّا فكلّ غاية بداية لغاية أخرى هذه بدايتها ، فأقوم
الصراطات بالنسبة إلى كلّ قاصد غاية مّا يتوخّاها ويقصد التوجه إليها هو الصراط
الأسدّ ، الأسلم من الشواغب والآفات ، الأقرب إلى تلك الغاية المقصودة له ، أيّة
غاية كانت ، وكلّ صراط لا يكون كذلك ، فهو عنده بالإضافة إلى الصراط المذكور معوّج
غير مستقيم.
فظهر أنّ
الاستقامة والاعوجاج أيضا ، يتعيّنان بالمقاصد ، فالأمر فيهما ـ كما في سواهما ـ
راجع إلى النسب والإضافات فافهم ، فقد أبنت لك الحقائق الأصليّة ، والأسرار العليّة الإلهيّة منتظمة محصورة في أوجز عبارة ، وألطف إيماء وإشارة ، والله
المرشد.
__________________
فصل في الهداية الموعودة
ومضمونها التنبيه
على سرّ الدعاء المدرج في قوله تعالى : (اهْدِنَا) وعلى أشرف الأحوال التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها سلوكا
ووقوفا وسكونا وظهورا وبطونا ، ما عدا الكمّل.
سرّ الدعاء
والإجابة
فلنبدأ بسرّ
الدعاء فنقول : «اهدنا» سؤال من العبد ودعاء ، والسؤال والدعاء قد يكون بلسان
الظاهر ـ أعني الصورة ـ وقد يكون بلسان الروح وبلسان الحال وبلسان المقام ولسان
الاستعداد الكلّي الذاتي الغيبي العيني الساري الحكم من حيث الاستعدادات الجزئيّة
الوجوديّة التي هي تفاصيله.
والإجابة أيضا على
ضروب : إجابة في عين المسؤول ، وبذله على التعيين دون تأخير ، أو بعد مدّة ، وإجابة بمعاوضة في الوقت أيضا. أو بعد مدّة ،
وإجابة ثمرتها التكفير ، وقد نبّهت الشريعة على ذلك ، وإجابة بلبّيك أو ما يقوم
مقامه.
وكلّ دعاء وسؤال
يصدر من الداعي بلسان من الألسنة المذكورة في مقابلته من أصل المرتبة التي يستند
إليها ذلك اللسان حسب علم الداعي به ، أو اعتقاده فيه إجابة يستدعيها الداعي من
حيث ذلك اللسان ، ويتعيّن بالوصف والحال الغالبين عليه وقت الدعاء.
ولصحّة التصوّر
وجودة الاستحضار في ذلك أثر عظيم اعتبره النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وحرّض عليه
__________________
عليّا عليهالسلام لمّا علّمه الدعاء ، وفيه : «اللهمّ اهدني وسدّدني» فقال
له : «واذكر بهدايتك هداية الطريق ، وبالسداد سداد السهم» ،
فأمره باستحضار
هذين الأمرين حال الدعاء ، فافهم هذا ، تلمح كثيرا من أسرار إجابة الحقّ دعاء
الرسل والكمّل والأمثل فالأمثل من صفوته ، وأنّ صحّة التصوّر ، واستقامة التوجّه
حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوي في الإجابة.
وممّا ورد ما
يؤيّد ما ذكرنا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث طويل : «ولو عرفتم الله حقّ
معرفته ، لزالت بدعائكم الجبال». فنبّه على ما
ذكرنا. الأنّ الأتّم معرفة بالشيء أصحّ تصوّرا له ، كما نبّهت عليه قبل هذا.
وبيانه : أنّ من
تصوّر المنادى المسؤول منه تصوّرا صحيحا عن علم ورويّة سابقين أو حاضرين حال
الدعاء ، ثم كلّمه ودعاه ، وسيّما بعد أمره له بالدعاء والتزامه بالإجابة ، فإنّه
يجيبه لا محالة. ومن زعم أنّه يقصد مناداة زيد والطلب منه وهو يستحضر غيره ويتوجّه
إلى سواه ، ثم لم يجد الإجابة لا يلومنّ إلّا نفسه ؛ فإنّه ما نادى الآمر بالدعاء
القادر على الإجابة والإسعاف ، وإنّما توجّه إلى ما استحضره في ذهنه وأنشأه من
صفات تصوّراته بالحالة الغالبة عليه ، إذ ذاك لا جرم أنّ سؤاله لا يثمر ، وإن أثمر
فبشفاعة حسن ظنّه بربّه وشفاعة المعيّة الإلهيّة وحيطته سبحانه ؛ لأنّه ـ تعالى
شأنه ـ مع كلّ تصوّر ومتصوّر ومتصوّر.
فالمتوجّه المحكوم
عليه بالخطاء مصيب من وجه ، فهو كالمجتهد المخطئ مأجور غير محروم بالكلّيّة ،
فاعلم ذلك وتذكّر ما أسلفناه في هذا الباب ، تصب ـ إن شاء الله ـ
__________________
تتمّة الكلام على هذه الآية بمقتضى الوعد السابق
لا شكّ أنّ لك
مستندا في وجودك ، ولا شكّ أنّه أشرف منك ، وسيّما من حيث استنادك إليه ؛ فإنّ
الرتبة الأولى لها الفعل والغنى ، وللثانية الفقر والانفعال ، فأشرف توجّهاتك نحو
مستندك وأشرف أحوالك ـ من حيث سيرك إليه وقصدك له للقرب منه ، والاحتظاء به ،
معرفة وشهودا ومكانة وتمكينا ـ أن تقصده بقلبك الذي هو أشرف ما فيك ، فإنّه
المتبوع لجملتك بتوجّه مطلق جملي ، لا من حيث نسبة أو اعتبار معيّن علمي أو شهودي
أو اعتقادي يستلزم حكما بنفي أو إثبات بصورة جمع أو فرق وسواهما من الاعتبارات المتفرّعة على النفي والإثبات ،
كالتنزيه والتشبيه وغيرهما ممّا هو تابع لهما ، ما عدا النسبة الواحدة التي لا
يصحّ سير ولا توجّه ولا رجاء ولا طلب بدونها ، وهي نسبة تعلّقك به وتعلّقه بك. أو
قل : تعقّله لك وتعقّلك له من حيث تعيّنه في علمك أو اعتقاد لك ولو ارتفعت هذه النسبة كباقي الاعتبارات ، لم يصحّ السلوك
، ولا الاستناد ولا غيرهما ، ولا تظنّنّ أنّ هذا الحال إنّما هو بالنسبة إلى
المحجوب فقط ، بل ذلك ثابت في حقّ العارف المشاهد أيضا ؛ فإنّه ـ ولو بلغ أقصى
درجات المعرفة والشهود ـ لا بدّ وأن يبقى معه اعتبار مبق للتعدّد علما لا عينا ،
ولو لا ذلك الاعتبار ، لم تثبت مرتبة شاهد ولا مشهود ولا شهود ، ولا كان سير ولا
طلب ، ولا بداية ولا غاية ولا طريق ، ولا فقر ولا تحصيل ، ولا توقّع ولا وصول ولا
لسان ولا بيان ، ولا رشد ولا رشاد ، ولا ضالّ ولا هاد ، ولا غير ذلك ولا «من هنا» ولا «إلى هنالك» ، فافهم.
__________________
ثم إنّ العارف قد
يرى هذه النسبة الباقية ، بعين الحقّ ومن حيث هو سبحانه ، لا من حيث نفسه ، ولا
بعينه وبحسب مرتبته ، فيحكم بأنّ مشاهدة تلك النسبة الباقية لا تقدح في تجريد
التوحيد ، وربما ذهل عنها ـ لقوّة سلطنة الشهود ـ أو حجبته سطوة التجلّي عن
إدراكها ، لكن عدم إدراكه لها لا ينافي بقاءها في نفس الأمر ؛ لأنّ عدم الوجدان لا
يفيد عدم الوجود.
وإذا تقرّر هذا
وعرفت أنّه لا مندوحة من بقاء نسبة قاضية بامتيازك عنه واحتياجك إليه ـ ولو فرضت
أنّها نسبة تعقّل امتيازك عنه بنفس التعيّن فقط ـ فاجمع همّك عليه ، وخلّص توجّهك
إليه من أصباغ الظنون والاعتقادات والعلوم والمشاهدات وكلّ ما تعيّن منه لك أو
لسواك ، أو كان ممّا منعه غيرك وخصّك به دون الخلق وحباك وقابل
حضرته ـ بعد تخليص توجّهك على النحو المذكور ـ بالإعراض في باطنك عن تعقّل سائر
الاعتبارات الوجوديّة والمرتبيّة الإلهيّة الأسمائيّة ، والكونيّة الإمكانيّة
إعراض سائل [و] حر عن الانقهار بحكم شيء منها والتعشّق به ، ما عدا تلك
النسبة المعيّنة بينك وبينه ، من حيث عينك لا عينه ، فتكون متوجّها إليه من
حيث ثبوت شرفه عليك وإحاطته بك وبما لديك توجّها هيولانيّ الوصف ، معتليا على
الصفات والأسماء على ما يعلم نفسه في أكمل مراتب علمه بنفسه وأعلاها وأوّلها نسبة
إليها وأولاها دون حصر في قيد أو إطلاق أو تنزيه أو تشبيه ، كما قلنا أو نفيهما ،
أو الحصر في الجمع بينهما ، بقلب طاهر أخلص من هذا التوجّه ، قابل لأعظم التجلّيات
ولتفني وحدة توجّهك الخالص المحرّض على التجلّي به سائر متعلّقات علمك وإرادتك ،
فلا يتعيّن لك معلوم ، ولا مراد ولا حال ولا صفة إلّا توجّهك الذاتي الكلّي
المذكور المنزّه عن كلّ تعين. ومتى تعيّن لك أمرا ـ إلهيّا كان أو كونيّا ـ كنت ـ
بحسبه وتبعا له من حيث هو ، لا من حيث أنت ـ بحيث إنّه متى أعرضت عنه عدت إلى حالك
الأوّل من الفراغ التامّ بالصفة الهيولانيّة المطلقة المذكورة ، بل وزمان تبعيّتك لما تعيّن لك ، إنّما
__________________
تعيّن له من نفسك
الأمر المقابل والمماثل له من نسخة وجودك ، فنسبة ذلك الأمر إلى ما تعيّنت نسبة
منك نسبة التعيّن إلى المتعيّن ، فإذا قابلت التعيّن بتعيّن مثله ـ كما بيّن لك ـ
ظهر الجزاء الوفاق ، والعدل التامّ ، وما سوى ما تعيّن منك من ذاتك فباق على
إطلاقه ، لا صفة له ولا اسم ولا كيفيّة ولا وسم ولا تعيّن ولا رسم ، كما هو الحقّ
سبحانه ؛ فإنّه ما تعيّن من ذاته بالنسبة إلى عرصة الألوهة ـ التي هي مرتبته ـ
إلّا ما استدعته استعدادات الأعيان المتّصفة بالوجود المنبسط منه وهو ـ من حيث ما
عدا ما استدعته وتعيّن بها وبحسبها ـ باق على الطلسة الغيبيّة الذاتيّة ، منزّه عن
التقييد بصفة أو اسم أو حكم أو حال أو مرتبة أو رسم ، فافهم ، وسل ربّك أن تتحقّق
بذلك لتكون على صورته ، وظاهرا بسورته.
وكلّ حال ـ ينتقل
فيها السائرون إلى الله ، الماشون على الصراط المستقيم بنفس تنقّلهم في تلك
الأحوال من حال إلى حال ، ومن حكم إلى حكم ، تأثيرا وتأثّرا ـ هو حكم حالك المطلق
المذكور ، كما أنّ مرجع الألوان المختلفة التفصيليّة إلى مطلق اللون الكلّي الذي
هو أصلها ، فسير هذا اللون المطلق الذي هو المثال نحو الكمال الخصيص بحقيقته هو بالألوان تنويعا وتفصيلا ، وإتيانا وتوصيلا ،
وكمال جميعها في عودها إليه توحّدا وتضوّلا فالمح ما أشرت إليه ، وأضفه إلى ما سلف من أمثاله تعرف
غاية الغايات ، وكيفيّة المشي على الصراط المستقيم الخصوصي ، المتصل بأعلى رتب
النهايات ، حيث منبع السعادات ومشرع الأسماء الإلهيّة والصفات (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) و (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) .
قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
في هذه الآية ممّا
يتعيّن بيانه : معنى النعمة العامّة والخاصّة ، ومعنى الغضب والضلال ، ومراتب
أرباب هذه الصفات ، فلنبدأ أوّلا بذكر ما يستدعيه ظاهر هذه الآية ، ثم نتعدّى من
__________________
الظاهر إلى الباطن
وما وراءه ، كجاري العادة ـ إن شاء الله تعالى ـ
اعلم ، أنّ قوله :
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تعريف للصراط المستقيم المذكور من باب ردّ الأعجاز على الصدور. ولفظة «الصراط»
قد سبق الكلام عليها بمقتضى اللسان ، فلا حاجة إلى التكرار. وأمّا (الَّذِينَ) فنذكر فيه ما تيسّر ، فنقول :
الجملة من قسم
النكرات ، ولا توصف بها المعارف إلّا بواسطة «الّذي» ونحوه من الموصولات المتفرّعة
منها ، و «الّذي» أصله الّذي ولكثرة التداول والاستعمال أفضي فيه الأمر إلى أن
حذفت ياؤه المشدّدة ، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء الأخرى ، فقالوا : «الّذ» ثم
حذفوا الكسرة ، فقالوا : «الّذ» وحذف بعضهم الذال أيضا ، فلم يبق إلّا اللام
المشدّدة ، التي هي عين الفعل ؛ فإنّ اللام الأخرى لام التعريف ، فإذا قلت : زيد
الذي قام ، أو قلت : القائم ، كان المعنى واحدا ، فلام «القائم» ناب مناب قولك «الذي»
، والياء والنون في «الذين» ليس للجمع ، بل لزيادة الدلالة ؛ لما تقرّر أنّ
الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهنّ سواء ؛ ولأنّه لو كان الياء والنون في «الّذين»
للجمع ، لأعيد إليه حين الجمع الياء الأصليّة المحذوفة على جاري العادة في مثل ذلك
، ولم يكن أيضا مبنيّا بل معربا و «الّذين» مبنيّ بلا شكّ ، فدلّ ذلك على صحّة ما
ذكر ، فاعلم.
وأمّا فصول هذه
الآية فهي كالأجوبة لأسئلة ربانيّة معنويّة ، فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول
العبد : «اهدنا الصّراط» : أيّ صراط تعني ، فالصراطات كثيرة وكلّها لي؟ فيقول لسان
العبوديّة : أريد منها المستقيم ، فيقول لسان الربوبيّة : كلّها مستقيمة من حيث إنّي غايتها كلّها
، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعها ، فأيّ استقامة تقصد في سؤالك؟ فيقول لسان
العبوديّة : أريد من بين الجميع صراط الذين أنعمت عليهم ، فيقول لسان الربوبيّة :
ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ، ولم تشمله نعمتي؟ فيقول
لسان العبوديّة : قد علمت أنّ رحمتك واسعة كاملة ، ونعمتك سابغة شاملة ، لكنّني
لست أبغي إلّا صراط الذين أنعمت عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، الصافية من كدر
الغضب ومزجته ،
__________________
وشائبة الضلال
ومحنته ؛ فإنّ السلامة من قوارع الغضب لا تقنّعني إذا لم تكن النعم المسداة إليّ مطرّزة بعلم الهداية
المخلصة من محنة الحيرة وبيداء التيه ، وورطات الشبه والشكّ والتمويه ، وإلّا
فأيّة فائدة في تنعّم ظاهري بأنواع النعم مع تألّم باطني بهواجم التلبّسات المانعة من السكون ، ورواجم الريب والظنون. هذا في الوقت
الحاضر ، فدع ما يتوقّعه الحائر من اليوم الآخر ، فحينئذ يترتّب ما ذكره صلىاللهعليهوآله عن ربّه أنّه يقول : «هؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل» فاعرف
كيف تسأل ، تنل من فضل الله ما تؤمّل.
صورة النعمة
وروحها وسرّها
ثم اعلم ، أنّ
لأصل النعمة المشار إليه صورة وروحا وسرّا ، فصورتها : الإسلام والإذعان ، وروحها
: الإيمان والإحسان ، وسرّها : التوحيد والإيقان ، فحكم الإسلام متعلّقه ظاهر
الدنيا. والإيمان لباطن الدنيا وباطن النشأة الظاهرة. والإحسان للحكم البرزخي
ونشأته ، وإليه الإشارة في جواب [سؤال] جبرئيل [عن] النبيّ صلىاللهعليهوآله ما الإحسان؟ قال : «أن تعبد الله كأنّك تراه» ، وهذا هو الشهود
والاستحضار البرزخي ، فافهم.
وسرّ التوحيد واليقين يختصّ بالآخرة ، فالمح ما أدرجت لك من أسرار
الشريعة ، في هذه الكلمات الوجيزة الشريفة ، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء ، والله
المرشد.
ثم إنّ الحقّ
سبحانه قد نبّه على الذين أنعم عليهم النعمة المطلوبة منه في هذه الآية بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ثم قال : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ
اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) فهذه المراتب الأربع كالأجناس والأنواع لما تحتها من مراتب
السعداء ، والصلاح هو النوع الأخير.
ثم فصّل ما أجمله
هنا في موضع آخر ، فقال محرّضا نبيّه صلىاللهعليهوآله على موافقة الكمّل من هؤلاء الطوائف لمّا عدّدهم مبتدئا
بخليله ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ فقال بعد ذكره :
__________________
(وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، ثم قال : (وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ثم قال : (وَإِسْماعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ، ثم ذكر قسما جامعا مستوعبا فقال : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ثم قال : (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) ، [ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الآية] ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) .
فما قسّم سبحانه
هؤلاء الأنبياء المذكورين هنا في ثلاث آيات ، ونعت الطائفة الأولى بالإحسان ،
والثانية بالصلاح ، والثالثة بالوصف العامّ الذي اشترك فيه الجميع ، إلّا للتنبيه على أنّهم ـ مع اشتراكهم في النبوّة ـ على طبقات ، ثم جعل حالة
الطبقة الرابعة ممتزجة من أحكام هذه الطبقات الثلاث ومن غيرها ، فاجمع بالك ،
وتذكّر ما نبّهتك عليه من قبل ، واستحضر (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) مع اشتراكهم في نفس الرسالة التي لا تفريق فيها (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ) ، وتنبّه للمراتب الأربع المذكورة وهي : النبوّة ،
والصدّيقيّة ، والشهادة ، والصلاح ، تعرف كثيرا من لطائف إشارات القرآن العزيز ـ
إن شاء الله ـ فهذه الآيات شارحة من وجه المراد من قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إلى آخر السورة.
وأمّا (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فورد في الشريعة أنّهم اليهود ، [أن] و (الضَّالِّينَ) هم النصارى. وإذا عيّن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعض
محتملات ألفاظ الكتاب العزيز ، فلا عدول عنه إلى محتمل آخر أصلا ، فاعلم ذلك.
وإذ قد يسّر الله
ذكر ما شاء ذكره في ظاهر هذه الآية من المباحث النحويّة واللطائف الشرعيّة
القرآنيّة مع نبذ عزيزة من غامضات الأسرار جاءت فجأة ، فلم يمكن منعها وكتمها ،
__________________
فلنشرع بعد في
الكلام عليها ـ أعني الآية ـ بلسان الباطن ، فنقول ـ بعد الاكتفاء في الكلام على
الصراط بما مرّ ـ : اعلم أنّ النعم الواصلة من الحقّ إلى عباده على قسمين : نعم
ذاتيّة ، ونعم أسمائيّة ، فالنعم الذاتيّة هي : كلّ ما تطلبه الأشياء من الحقّ من
حيث حقائقها بألسنة استعداداتها الكلّيّة الغيبيّة ، وهذه ألسنة الذوات ولا تتأخّر
عنها الإجابة ، ولا تعويق في حقّها ولا تكفير ، بل هي إجابة ذاتيّة كالسؤال في عين
المسؤول ، وهذه النعم من حيث الأصل نعمة واحدة ، وتعدّدها إنّما هو من حيث تكيّفها
وتنوّعها في مرتبة كلّ حقيقة وبحسبها.
والنعم الأسمائيّة
على أقسام : فمنها نعم تثمر نعما ، كالأعضاء والقوى والآلات البدنيّة ، وكالصفات
والأحوال الوجوديّة والمعنويّة ، وهي بأجمعها صور الاستعدادات الوجوديّة الجزئيّة
، فكلّ فرد فرد من هذا المجموع بالنظر إلى فقر الإنسان واحتياجه إلى الاستكمال
والأسباب المعيّنة على تحصيله نعمة تثمر نعمة أو نعما ، والمجموع بالعناية
الذاتيّة والاستعداد الكلّي الغيبي يثمر بالنسبة إلى الكمّل التحقّق بالكمال ، وبالنسبة إلى سواهم الكمال اللائق به ، المؤهّل
له ، ومن آكدها بالنسبة إلى الأمر والمقام اللذين أتكلّم فيهما نعمة التوفيق
الواصلة من الحقّ من حيث اسمه «الهادي» وهي على قسمين :
قسم يختصّ بالعلم
وله باطن الإنسان وروحه والأعمال الروحانيّة ،
وقسم يختصّ بالعمل
وله ظاهر الإنسان ولوازم ظاهريّته.
فالمختصّ بالعلم
والعبادة الباطنة يثمر المشاهدات القدسيّة والأحوال الشهيّة الندسيّة واللذّات
الروحانيّة والملاحظات الإحسانيّة والأنوار الإيمانيّة والرئاسات الربانيّة ولذّة
الخلاص والسلامة من الشكوك المعضلة والشبه المضلّة ؛ فإنّ الطالب سبيل الرشاد إذا
اعتورته الشكوك ، واجتذبته الآراء المختلفة والأهواء والاعتقادات المتشعّبة المشتّتة عزائم المتوجّهين المجدّين والمقرّحة أفئدة المفكّرين المتردّدين يكون في أشدّ العذاب
__________________
الروحاني ،
ومنقهرا تحت سلطنة النزعات والتسويلات الخياليّة الشيطانيّة ، فلا نعمة في حقّه
وبالنسبة إليه أعظم وأتمّ من نعمة النور العلمي اليقيني الكاشف له عن جليّة الأمر
، والمخلص له من ورطة ذلك الشرّ ، فتلك عافية روحانيّة لا تضاهيها عافية ؛ لأنّ
العافية الجسمانيّة ـ وسيّما عقيب المرض ـ يجد الإنسان لها حلاوة لا يقدّر قدرها ،
فما الظنّ بالعافية الروحانيّة ، التي هي أشرف وأدوم وأثبت وأقرب إلى الاعتدال
الحقيقي الأصلي وأقوم ، وبها نيطت السعادة في عالم الغيب والشهادة؟ فافهم.
وأمّا القسم الآخر
من النعم المختصّ بالعمل وظاهر الإنسان فإنّه يثمر المنازل الجنانيّة واللذّات
الجسمانيّة والراحات والفوائد الطبيعيّة النفسانيّة عاجلا غير مصفّى ، وآجلا خالصا
مصفّى ، كما نبّه الحقّ سبحانه على ذلك بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ممزوجة بالغصص
والعلل والأنكاد ، وهي لهم في الآخرة طاهرة طيّبة مخلصة من الشوائب ، ولهذا أرشد
الحقّ سبحانه عباده وعلّمهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو
صراط من أنعم عليه الإنعام الخالص من شوب الغضب ومحنة الضلالة ، فلسان مقامهم يقول : يا ربّنا رحمانيّتك الأولى العامّة
الشاملة قضت بإيجادنا ، ورحيميّتك الأولى ـ يعنون اللتين في البسملة ـ خصّصتنا
بهذه الحصص الوجوديّة ، المختصّة بكلّ واحد منّا ، كلّ ذلك من حيث نعمتك الذاتيّة
ورحمتك الامتنانيّة ، ورحمانيّتك الثانية ـ التي أوجبتها على نفسك بكرمك من حيث
عموم حكم اسمك «الهادي» عمّتنا معشر المؤمنين ، كما أشرت إلى ذلك بقولك : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فلمّا شملتنا بنعمة الإيمان والانقياد لأمرك والاستسلام
لحكمك والإقرار بتوحيدك انبرى كلّ منّا يذكرك ويثني عليك ، ويمجّدك ويفوّض إليك ،
ويفرّدك بالعبادة بعد إقراره لك بالسيادة ، ويطلب منك العون بصورة الإبانة عن صفة
العجز ونقص الكون ، ثم إنّه لمّا خصّصتنا برحيميّتك الثانية بالحكم الخاصّ من
أحكام اسمك «الهادي» المقتضي طلب
__________________
أشرف صور الهداية
والسلوك على أقوم السبل وأقصدها وأسلمها ، طلبنا ذلك منك ؛ لاستلزامه الفوز والاحتظاء بالنعم التي جدت بها على الكمّل من أحبّائك ، حيث سلكت بهم على أسدّ صراط
وأقومه وأقربه وأسلمه ، حتى ألقوا عصيّ تسيارهم بفنائك ، وحظوا ـ بعد التحقيق
بمعرفتك وشهودك ـ بسابغ إحسانك
وأشرف نعمائك وأخلص حبائك المقدّس عن شوب المزج وشين النفاد ، المقرونين بالنعم
المبذولة لأهل الفساد ، المغضوب عليهم ظاهرا والضالّين باطنا عن سبل الرشاد ، فاستجب لنا يا ربّ (وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) .
__________________
وصل بلسان الحدّ والمطلع
توحيد الوجود
اعلم أنّ التمييز للعلم ، والتوحيد للوجود ، لا بمعنى أنّ العلم
يكسب المعلوم التميّز بعد أن لم يكن متميّزا ، بل بمعنى أنّه يظهر تميّزه المستور
عن المدارك ، لأنّه نور والنور له الكشف ، فهو يكشف التميّزات الثابتة في نفس
الأمر.
وتوحيد الوجود هنا
عبارة عن انبساطه على الحقائق المتميّزة في علم الموحّد أزلا ، فيوحّد كثرتها ؛ لأنّه القدر المشترك بين سائرها فيناسب كلّا منها بذاته الواحدة البسيطة.
وإذا تقرّر هذا ،
فاعلم ، أنّ الهداية حكم من أحكام العلم ؛ فإنّه ليس لها إلّا تعيين المستقيم
من المعوجّ ،
والصواب من الخطأ ، والضارّ من النافع ، والأسدّ والأولى من كلّ أمرين مرادين لجلب
منفعة أو دفع مضرّة ، أو وسيلتين تترجّح إحداهما بالنسبة إلى الغايات المقصودة والمطالب المتعيّنة
عند الطالب والمفقودة الغائبة عنه حال الطلب.
وهذا التعيين ـ
المشار إليه المنسوب إلى الهداية ـ ضرب من التمييز ، كما بيّن لك ، فالنعمة
المقرون ذكرها ب (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) والتعريف التابع من بعد ب (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هي : نعمة العدل والإصابة وثمراتهما ، كما بيّن لك من قبل
، ونتمّم لك بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ والإصابة ثمرة العلم ؛
لأنّ الخطأ ـ على اختلاف مراتبه ـ ثمرة الجهل ، فالأصل فيه العلم
__________________
لكنّ العلم ـ من
حيث هو علم ـ مجرّد مطلق عن قيد إضافته إلى شيء لا حكم له ، ومن حيث إضافته ـ مطلق
الإضافة ـ له أحكام شتّى تنحصر في حكمين :
أحدهما : هو من
حيث إضافته إلى الحقّ ، وله أوصاف كثيرة ، كالقدم والحيطة وغيرهما.
والثاني : من حيث
إضافته إلى الممكنات ، فالنعمة الكلّيّة المختصّة بالممكنات من جهة علم الحقّ هي
مطلق اختياره سبحانه لعبده ما فيه الخير ، والخيرة له في كلّ حال يتلبّس به ، أو
مقام يحلّه أو يمرّ عليه ، أو نشأة تظهر بها نفسه وموطن يتعيّن فيه النشأة ، وزمان
يحويه من حيث تقيّده به ودخوله في دائرته ، ومكان يستقرّ فيه من حيث ما هو متحيّر
، وأوّل كلّ ذلك ومبدؤه هو من حال تعلّق الإرادة الإلهيّة بإظهار تخصيصه الثابت
أزلا في علم الحقّ ، ثم اتّصال حكم القدرة به لإبرازه في التطوّرات الوجوديّة ،
وإمراره على المراتب الإلهيّة والكونيّة ، وله في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليه صورة
تناسبه من حيث ذلك العالم والحضرة ، وحال تخصّه بحسب ما ذكرنا أيضا ، ووديعة
يأخذها هي من جملة النعم.
وحظّه من النعم
الذاتيّة والأسمائيّة يتفاوت بحسب استعداده وحظّه من نعمة حسن الخلق والتسوية
والتعديل والتهمّم به بموجب المحبّة الذاتيّة التي لا سبب لها أيضا حال التصوير.
فكم [فرق] بين من
باشر الحقّ تسويته وتعديله ، وجمع له بين يديه المقدّستين ، ثم نفخ بنفسه فيه من
روحه نفخا استلزم معرفته الأسماء كلّها وسجود الملائكة له أجمعين ، وإجلاسه على
مرتبة النيابة عنه في الكون ، وبين من خلقه بيده الواحدة أو بواسطة ما شاء ، ولم
يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله من اختير للنيابة.
وكون الملك هو
الذي ينفخ فيه الروح بالإذن ـ كما ورد في الشريعة عنه صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «يجمع خلق أحدكم في بطن أمّه أربعين يوما نطفة
، ثم أربعين يوما علقة ، ثم أربعين يوما مضغة ، ثم يؤمر الملك ، فينفخ فيه الروح
ويقول : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ ما عمله» ؟ فالحقّ يملي والملك يكتب أو كما قال صلىاللهعليهوآله : «فأين هذا من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)» ؟ شتّان بينهما ؛ هنا أضاف
__________________
المباشرة إلى نفسه
بضمير الإفراد الرافع للاحتمال ، ولهذا قرع بذلك المستكبر المتأبّي عن السجود له ،
ولعنه وأخزاه ، وقال له : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) .
وأكّد ذلك صلىاللهعليهوآله بأمور كثيرة منها قوله : «إنّ الله خلق آدم على صورته» و «على
صورة الرحمان» ، وبقوله في
الصحيح أيضا الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة ، الجاهلون
بأسرار الشريعة والحقيقة ، في وصيّته بعض أصحابه في الغزو : «إذا ذبحت ، فأحسن
الذبحة وإذا قتلت ، فأحسن القتلة ، واجتنب الوجه ؛ فإنّ الله خلق آدم على صورته»
الخلق بيد وبيدين
وقال أيضا صلىاللهعليهوآله في المعنى : «إنّ الله إذا خلق خلقا للخلافة ، مسح بيمينه
على ناصيته» فنبّه على مزيد التهمّم والخصوصيّة. وأشار أيضا في حديث آخر ثابت أيضا
«إنّ الذي باشر الحقّ سبحانه إيجاده أربعة أشياء» ، ثم سردها ، فقال : «خلق جنّة
عدن بيده وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ، وخلق آدم بيديه» وقال أيضا : «الإنسان
أعجب موجود خلق» فافهم.
كيف ينحرف الإنسان
فلا يزال الإنسان
مباشرا ـ في سائر مراتب الاستيداع من حين إفراز الإرادة له من عرصة العلم ،
باعتبار نسبة ظاهريّته لا نسبة ثبوته وتسليمها إيّاه إلى القدرة ، ثم تعيينه في مقام القلم الأعلى ، الذي هو العقل الأوّل ، ثم في
المقام اللوحي النفسي ، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمها في الأجسام ، ثم
في العرش المحدّد للجهات ، ثم في الكرسي الكريم مستوى الاسم «الرحيم» ثم في
السماوات السبع ، ثم في العناصر ، ثم المولودات الثلاث
__________________
إلى حين استقراره
بصفة صورة الجمع ، بعد استيفاء أحكام مراتب الاستيداع ـ مباشرة تابعة للمشيئة
والعناية التابعتين للمحبّة الذاتيّة بالإيجاب العلمي ، فمهتمّ به اهتماما تامّا ،
ومتساهل في حقّه ، كما نبّه على الأمرين صلىاللهعليهوآله
بقوله في جنازة
سعد : «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» وقال في طائفة أخرى ؛ لما ذكر : «إنّ
الموت ينتقي خيار الناس الأمثل فالأمثل حتى لا تبقي إلّا حثالة كحثالة
التمر أو الشعير لا يبالي الله بهم».
فأين من يهتزّ
لموته عرش الرحمن ممّن لا يبالي الله بهم أصلا؟ فكما هو الأمر آخرا ، كذا هو أوّلا ، بل الخاتمة عين السابقة ،
فافهم.
ثم نرجع ونقول
متمّمين لما وقع الشروع في بيانه : ومكث الإنسان في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليها ويهتمّ أهل ذلك العالم والمرتبة به وبخدمته وإمداده وحسن تلقّيه
أوّلا ومشايعته ثانيا ، هو بحسب ما يدركونه فيه من سمة العناية وأثر الاختصاص ، وما من عالم من العوالم العلويّة
يمرّ عليه إلّا وهو بصدد التعويق أو الانحراف المعنوي ؛ لغلبة صفة بعض الأرواح ـ
الذي يتّصل حكمه به ـ عليه ، والأفلاك بالنسبة إلى البواقي ، فيتعوّق أو ينحرف
عمّا يقتضيه حكم الاعتدال الحالي الجمعي الوسطي الربّاني ، الذي هو شأن من يختار
للنيابة ، ثم الأمثل فالأمثل.
وإذا دخل عالم
المولودات ، ـ وسيّما من حين
تعدّي مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه ـ إن لم تصحبه العناية ولم يصحبه
الحقّ بحسن المعونة والمرافقة والحراسة والرعاية ، وإلّا خيف عليه ، فإنّه بصدد آفات كثيرة ؛ لأنّه بعد دخوله عالم
النبات إن لم يكن محروسا معتنى به وإلّا فقد ينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيّته إلى
نبات رديء لا يأكله حيوان ، أولا يمكن أكل الأبوين أو أحدهما له ، ويفسد ذلك
النبات الرديء فيخرج منه إلى عالم العناصر ويبقى فيه حائرا عاجزا حتى يعان ويؤذن
له في الدخول مرّة أخرى.
__________________
ثم بعد دخوله
واتّصاله بنبات صالح مغذّ ربما عرضت له آفة من العناصر من برد شديد
، أو حرّ مفرط ، أو رطوبة زائدة ، أو يبس بالغ ، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولا آخر ، هكذا مرارا شتّى حسب ما
شاء الله وقدّره.
ثم على تقدير
سلامته أيضا فيما ذكرنا بنعمة الحراسة ونعمة الرعاية وباقي النعم التي يستدعيها
فقره ، ربما تمّ في صورة نبات مّا ، لكن تناوله حيوان ولم يقدر للأبوين أكل ذلك
الحيوان لمانع من الموانع ، أو منع مانع عن أخذ ذلك النبات وتناوله ؛ لما لم يكن
رزق اللذين سبق في علم الله أن يكونا أبويه.
وإذا قدّر مؤاتاة
كلّ ما ذكرنا وتناوله الشخصان المتعيّنان في العلم أن يكونا أبويه أو أحدهما ،
وصار ذلك النبات كيلوسا ، ثم دما ، ثم منيّا ، فإنّه قد يخرج على غير الوجه الذي
يقتضي تكوينه منه ، فهو مفتقر بعد الاتّصال بالأبوين إلى نعمة الحراسة والرعاية
وغيرهما.
فإذا تعيّن في
الرحم ، فقد تعدّى مراتب الاستيداع وصار مستقرّا في الرحم متطوّرا فيه على الوجه
المعلوم عند الجمهور من حيث الشرع ، ومن حيث ظاهر الحكمة ، فيحتاج إلى حراسة أخرى
ومعونة ورعاية لحسن الغذاء واعتدال حركات الوالدة وسلامتها من الأمراض والآفات ،
وأن يكون انفصاله عنها في وقت صالح سعيد مناسب ، فإنّ لحكم الزمان والمكان حال
مسقط النطفة وحال الانفصال عن الوالدة مدخلا كبيرا في أمر الإنسان من حيث ظاهره وباطنه.
فالمختصّ بمسقط النطفة من حكمي المكان والزمان شاهدان على كثير من أحواله
الباطنة ، والمختصّان بحال الولادة شاهدان على معظم أحواله الظاهرة وسرّ الابتداء
في السلوك إلى جناب الحقّ سبحانه أو إلى ما يرغب الإنسان فيه ويطلب الاستكمال به
ينبّه على الأمر الجامع بين الظاهر والباطن.
وجملة الحال أنّه
ما من مرتبة من هذه المراتب التي ذكرناها إلّا والإنسان من حيث الخلق التقديري ـ
المنبّه عليه بقوله عليهالسلام : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام».
__________________
وبقوله : «إنّ
الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريّته كأمثال الذرّ». الحديث ، وبما أخبرنا أنّ تعيّن صور الأشياء في اللوح
المحفوظ بالكتابة الإلهيّة القلميّة سابق على التعيّنات الروحانيّة والجسمانيّة ـ
معرض للآفات التي أجملنا ذكرها ممّا لا تستقلّ العقول بإدراكه.
فأين من يكون
أحديّ السير من حين صدوره من غيب الحقّ إلى عرصة الوجود العيني ، لم يتعوّق من حيث حقيقته وروحانيّته في عالم من العوالم
، ولا حضرة من الحضرات متذكّرا حين كشف الغطاء عنه هنا ما مرّ عليه ، يسأل عن
ميثاق «ألست» فيقول : كأنّه الآن في أذني وغيره يخبر بما هو أكثر من ذلك ، ممّن
يتعوّق ويتكرّر ولوجه وخروجه المقتضيان كثافة حجبه وكثرتها ، وتقلّبه في المحن والآفات
، نعوذ بالله منها.
ثم نقول : وأمّا
الآفات والمحن التي الإنسان معرض لها من حين الولادة ، بل من حيث الاستقرار في
الرحم إلى حين تحقّقه بمعرفة ربّه وشهوده وتيقّنه بالفوز بتحصيل أسباب الرشد
والسعادة بل إلى حين تحقّق حسن الخاتمة بالبشرى الإلهيّة ، أو بما شاء الله
بالنسبة إلى البعض ، فغير خافية على العقلاء ، وبالنسبة إلى البعض إلى حين دخول
الجنّة ، كما ورد : «لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط» ، فما من مقام ولا حال ولا
زمان ولا مكان ولا نشأة من النشآت الاستيداعيّة ، والتطوّرات الاستقراريّة ، التي
ذكرها الله في خلق الإنسان من تراب وماء مهين ، ونطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم
عظم ولحم ، إلى تمام النشأة الدنياويّة ، ثم البرزخيّة ، ثم الحشريّة ، ثم
الجنانيّة إلّا ولله فيها على الإنسان نعم كثيرة ـ كما بيّنّا ـ موقّتة ومستصحبة.
فالموقّتة منها
كلّ نعمة هي من لوازم كلّ نشأة وحالة يتلبّس الإنسان بها ، ثم ينسلخ عنها في
العوالم والمراتب والأطوار التي يمرّ عليها.
وغير الموقّتة
والمستصحبة نعمة الحراسة ، ونعمة العناية ، ونعمة الرعاية ، ونعمة قبول الأعمال
الذاتيّة ، ونعمة صحّة المعرفة اللازمة للشهود الذاتي ، ونعمة الارتضاء والقبول الذاتي ، ونعمة حسن
التعويض والتبديل والإنشاء ، ونعمة التخلّي للتجلّي ، ونعمة إشهاد
__________________
الخلق الجديد في
كلّ آن ، ونعمة حسن المرافقة في كلّ ذلك وسواه ، ونعمة الإمداد بما يحتاج إليه في ذاته
وخواصّها ولوازمها ، وما يحتاج إليه في الوصول إلى مرتبة الكمال الذي أهلّ له ،
ونعمة التوفيق والهداية المقرّبين للمدى ، المنافيين لما عليه العدى ، ونعمة العافية ، ونعمة تهيئة الأسباب
الملائمة في كلّ الأمور.
والأعلى والأشرف
نعمة المشاهدة الذاتيّة ، التي لا حجاب بعدها ـ مع كمال المعرفة والحضور معه
سبحانه ، على أتمّ وجه يرضاه للكمّل ـ منه ومنهم له دنيا وبرزخا وآخرة ، فقوله
تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالنسبة لمن يعرف ما بيّنّا هو ما أشرنا إليه.
وأوّل موجود تحقّق
بالنعم الإلهيّة القلم الأعلى الذي هو أوّل عالم التدوين والتسطير ، فإنّ
المهيمنين وإن كانوا أعلى في المكانة ، لكنّهم لا شعور لهم من حيث هم بأنفسهم ، فضلا
أن يكون لهم شعور بنعيم ولذّة.
وآخر الموجودات
تحقّقا بهذه النعم عيسى بن مريم ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ لأنّه
لا خليفة لله بعده إلى يوم القيامة ، بل لا يبقى بعد انتقاله وانتقال من معه مؤمن
على وجه الأرض ، فضلا عن وليّ وكامل. كذا أخبر نبيّنا صلىاللهعليهوآله ثم قال : «لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول : الله الله ،
ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس».
فينبغي لمن فهم ما
ذكرنا أن يستحضر عند قوله : (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، القلم الأعلى وعيسى ومن بينهما ، ممّن منح النعم
الإلهيّة التي عدّدناها والتي أومأنا إليها إشارة وتلويحا على سبيل الإجمال ؛
فإنّه لا يفوته نعمة من النعم الإلهيّة أصلا ؛ لأنّ أهلها محصورون في المذكورين
ومن بينهما ، وسيّما إذا استحضر قوله تعالى على لسان نبيّه : «هؤلاء لعبدي ،
ولعبدي ما سأل» ، وصدّق ربّه بإيمانه التامّ فيما أخبر عن نفسه ، وفي وعده
بالإجابة وأنّه سبحانه عند ظنّ عبده به ، فإنّ الله تعالى يعامله بكرمه الخاصّ واعتقاده فيه لا محالة كما أخبر ، وهو الصادق الوعد
والحديث ، الجواد المحسان.
__________________
وصل منه
اعلم ، أنّ النعيم
والعذاب ثمرة الرضا والغضب ، ولكلّ منهما ثلاث مراتب ، كما لباقي الصفات على ما
عرفت به من قبل عند بيان سرّ الهداية والإيمان والتقى وغير ذلك.
مراتب الغضب
فأوّل درجات الغضب
يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي ، المستلزم لتسلّط الجهل والهوى والنفس
والشيطان والأحوال والأخلاق الذميمة الحاكمة ، لكن كلّ ذلك موقّت إلى أجل معلوم
عند الله في الدنيا إلى النفس الذي قبل آخر الأنفاس في حقّ من يختم له بالسعادة
كما ثبت شرعا وتحقيقا سواء كانت سلطنة ما ذكرنا باطنا أو ظاهرا أو هما معا.
والرتبة الثانية
تقضي بانسحاب الحكم المذكور باطنا هنا ، وظاهرا في الآخرة برهة من زمان الآخرة ،
أو يتّصل الحكم إلى حين دخول جهنّم وفتح باب الشفاعة ، وآخر مدّة الحكم حال ظهور
حكم أرحم الراحمين بعد انتهاء حكم شفاعة الشافعين.
وفي هذه الرتبة
حالة أخرى تقضي بانسحاب حكم ظاهر الغضب ظاهرا هنا فقط منها بتعيّن المحن على الأنبياء وأهل الله ، وينتهي الأمر بانتهاء حكم
هذه النشأة ، كما قال صلىاللهعليهوآله لفاطمة عليهاالسلام حين وفاته : «لا كرب على أبيك بعد اليوم». وهذا الحكم
باطنه فيه الرحمة
__________________
وظاهره من قبله
العذاب ، وله التطهير ومزيد الترقّي في الأمور التي سبق العلم أنّها لا تنال تماما إلّا بهذه المحن
المنبّه على أصلها. وفوق هذا سرّ عزيز جدّا لا أعرف له ذائقا ، أذكره ـ إن شاء
الله تعالى ـ
وذلك أنّ الكمّل
من أهل الله من الأنبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال إنّما امتازوا
عن سواهم أوّلا بسعة الدائرة وصفاء جوهريّة الروح والاستيعاب الذي هو من لوازم
الجمعيّة ، كما نبّهتك عليه في سرّ مرتبة أحديّة الجمع واختصاصها بالإنسان الذي هو
برزخ الحضرتين ومرآتهما. وحضرة الحقّ مشتملة على جميع الأسماء والصفات ، بل هي
منبع لسائر النسب والإضافات والغضب من أمّهاتها والمجازاة الشريفة الصفاتيّة
الأولى إنّما كانت بين الغضب والرحمة ، فمن ظهر بصورة الحضرة تماما وكانت ذاته
مرآة كاملة لها ، لا بدّ وأن يظهر فيها كلّ ما اشتملت عليه الحضرة ، وما اشتمل
عليه الإمكان على الوجه الأتمّ ، ومن أمّهات ما فيها ما ذكرنا فلا جرم وقع الأمر كما علمت ، ولو لا سبق الرحمة الغضب ،
كان الأمر أشدّ ، فكما أنّ حظّهم من الرحمة والنعيم والعظمة والجلال أعظم من حظوظ
سواهم بما لا نسبة ، فكذلك كان الأمر في الطرف الآخر لكن في الدنيا ؛ لأنّ هذه
النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية النقائص والآلام ونحو ذلك.
وعند الانتقال
منها بعد التحقّق بالكمال يظهر حكم غلبة الرحمة الغضب وسبقها ، وثمرة الاستكمال
المستفاد بواسطة هذه النشأة الجامعة المحيطة ، وحكم من دون الكمّل بالنسبة إليهم
بحسب قرب نسبتهم منهم وبعدها ، وكذا نبّه صلىاللهعليهوآله فقال : «نحن معاشر
الأنبياء أشدّ الناس بلاء في الدنيا» وفيه ـ أي في
الحديث ـ : «ثم الأمثل فالأمثل» ، وورد في طريق آخر في المعنى : «أشدّ الناس بلاء
في الدنيا الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل» وهكذا الأمر
في طرف النعيم والسعادة. ومن بعث رحمة للعالمين فدى بنفسه في الأوقات الشديدة
المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب ضعفاء الخلق ، وكذا نبّه على هذا السرّ صلىاللهعليهوآله
__________________
أهل هذا الذوق
الأشرف لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف ، وجعل يتّقي حرّها عن وجهه بيده وثوبه ويتأخّر عن مكانه ويتضرّع ويقول : [«ألم تعدني
يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟»]
«ألم ، ألم» : حتى
حجبت عنه. يريد قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) ، فافهم.
وأمّا الرتبة
الثالثة من رتب الغضب بالنسبة إلى طائفة خاصّة فتقتضي التأبيد وكمال حكمها يوم
القيامة ، كما تخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولها الذي حكاه لنا نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وهو أنّها تقول : «إنّ الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب
قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» ، فشهدت بكماله شهادة تستلم بشارة لو عرفت لم
ييأس أحد من رحمة الله ،
ولو جاز إفشاء ذلك
وكشف سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء ، وانتهائهم إلى نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وسرّ فتحه باب الشفاعة ، وسرّ حثيات ربّنا ، وسرّ «فيضع
الجبّار فيها ـ يعني في جهنّم ـ قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قطّ قطّ» أي حسبي حسبي ، وسرّ السجدات الأربع ، وما يخرج
من النار في كلّ دفعة ، وما تلك المعاودة والمراودة ، وسرّ قول مالك
خازن النار لنبيّنا صلىاللهعليهوآله في آخر مرّة يأتيه لإخراج آخر من يخرج بشفاعته : يا محمّد!
ما تركت لغضب ربك شيئا ، وسرّ قوله تعالى : «شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع
المؤمنون ولم يبق إلّا أرحم الراحمين» وسرّ قوله سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوآله عند شفاعته في أهل لا إله إلّا الله : «ليس ذلك لك» الذي
يقول في إثره : «شفعت الملائكة» ، الحديث ، وغير ذلك من الأسرار التي رمزها لنا
وأجمل ذكرها لظهر ما يبهر العقول ويحيّر الألباب ، ولكنّ الأمر كما قال بعض
التراجمة ـ قدّس الله روحه ـ :
وما كلّ معلوم
يباح مصونه
|
|
ولا كلّ ما أملت
عيون الظبا يروى
|
ثم اعلم ، أنّ حكم
الغضب الإلهي هو تكميل مرتبة قبضة الشمال ؛ فإنّه وإن كانت كلتا يديه المقدّستين
يمينا مباركة ، لكن حكم كلّ واحدة منهما يخالف [حكم] الأخرى ،
__________________
(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ) (الْقِيامَةِ
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فافهم.
فلليد الواحدة
المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والحنان كما ورد ، وللأخرى القهر والغضب ولوازمهما ، ولكلّ منهما
دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبوديّة وحقوق الربوبيّة حسب
الإمكان ، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاعتدال الذي نبّهناك
عليه ، المفرطين في حقوق الألوهة والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقّونه على الوجه الذي
يتوهّمونه.
وغاية حظّهم من
تلك الأحكام ما اتّصل بهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانيّة المحاكية بصورة الإنسان
الحقيقي الكامل ، وشفاعة نسبة الجمعيّة ، والقدر المشترك الظاهر بعموم الرحمة
الظاهرة الحكم في هذه الدار ، وقد عرّفتك بأسرارها ، فتذكّر.
فلمّا جهلوا كنه
الأمر ، اغترّوا وادّعوا واجترءوا وأشركوا وأخطئوا في إضافة الألوهة حقيقة إلى
صورة متشخّصة لم يظهر عليها من أحكام الألوهة إلّا البعض ، فلا جرم استعدّوا بذلك
لاتّصال أحكام الغضب بهم ، ولأن يكونوا هدفا لسهامها ، فالحقّ سبحانه من حيث اسميه : «الحكم» «العدل» يطالبهم
بحقّ ألوهته ، ويحكم بينها وبينهم ، ويغضب لها على من بخسها حقّها ، وجار وجهل سرّها
، ولم يقدّرها قدرها.
ولو لا سبق الرحمة
الغضب وغلبتها بالرحمة الذاتيّة الامتنانيّة التي هي للوجه الجامع بين اليدين ، ما
تأخّرت عقوبة من شأنه ما ذكر.
هذا ، مع أنّه ما
ثمّ من سلم من الجور بالكلّيّة ولو لم يكن إلّا جورنا في ضمن أبينا آدم عليهالسلام حين مخالفته ؛ فإنّا إذا لم نكن غيره فبنا أذنب وسلب ، كما
أنّه ما سلب ، كما أنّه بتلقّيه الكلمات من ربّه ، وكمال جوهريّته وجمعيّته ، رجع
إلى مقامه الكريم ، فلكلّ من ذلك نصيب يجني ثمرته عاجلا بالمحن والأنكاد إن اعتني
به ، وآجلا بحكم (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها)
__________________
وأمّا من لم يعتن به ، فشأنه كما أخبرنا ، فافهم.
وإلى عموم الجور
والظلم أشار الحقّ سبحانه بقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) ولكن استواء الرحمة العامّة من حيث الاسم «الرحمن» على
العرش المحيط بصور العالم ، وشفاعة الصورة وأحديّة الفعل ، من حيث الأصل والفاعل
منع من ذلك ، فتأخّرت سلطنة «الحكم العدل» إلى يوم القيامة الذي هو يوم الكشف ويوم
الفصل والقضاء الظاهر الشامل.
فهناك يظهر الأمر
تماما للجمهور ، ولهذا قال سبحانه : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) وهو يوم المجازاة ، والسرّ في ذلك العالم هو أنّه لو ظهرت سلطنة «الحكم العدل» هنا ، ما جار أحد على
أحد ، ولا تجاسر على ظلمه ، ولا افترى على الله وعلى عباده ، ولكان الناس أمّة
واحدة ، ولم تكمل إذا مرتبة القبضتين ، ولا ظهر سرّ المجازاة الواقعة بين الغضب
والرحمة ، والأسماء والصفات اللازمة لهما ، ولا كان حلم ولا عفو ولا صبر ولا تبديل
سيّئة بحسنة ولا غير ذلك ، فأين إذا (كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي ممنوعا؟ فالرحمة العامة تستلزم العطاء الشامل كلّ شيء ،
لا جرم وقع الأمر هكذا ، فحقّت الكلمة ، وحلّت النقمة ، وظهر حكم الغضب ، ثم غلبت الرحمة ، فافهم.
ثم لتعلم أنّ حكم
الغضب الظاهر على الكمّل هو من هذا القبيل ، إنّما يظهر بسبب التقصير في أداء حقوق
الألوهة وحصرها في صورة معيّنة بإضافة تنافي حيطتها وسعتها ، فهم ينتصرون لها ببعض
مظاهرها العادلة المعتدلة ، من مظاهرها المنحرفة المخدجة بسوء قبولها حسن اعتدال الألوهة
ولطائف كمالاتها ، لا أنّهم يغضبون لأنفسهم من حيث هم عبيد ، كما ورد عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه كان لا يغضب لنفسه ، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء.
ومطلق غضبهم في
الحقيقة هو ما قلنا من قبل عبارة عن تعيّن غضب الحقّ فيهم من كونهم مجاليه ومجالي
أسمائه وصفاته ، لا أنّهم يغضبون كغضب الجمهور وقد شهدت
__________________
الشريعة أيضا بذلك
في قصّة أبي بكر لما نهى صهيبا وبلالا وسلمان وبقية الستّة عن
الوقوع في أبي سفيان لمّا مرّ بهم وقالوا له : بعد ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ
الله ، فقال لهم أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وكبيرها؟ أو نحو ذلك ، فلمّا بلغ
ذلك الخبر إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «لعلّك أغضبتهم يا أبا بكر ، إن أغضبتهم أغضبت ربّك»
فرجع إليهم وقال : استغفروا لي يا إخوتي ، فقالوا : غفر الله لك [يا أخي. فقال :
أغضبتكم؟ فقالوا : لا ، يا أخي] و .
فافهم أنّ ثمّة من
يغضب الحقّ لغضبه ، ويرضى لرضاه ، بل ثمّة من نفس غضبه هو غضب الحقّ ، وعين رضاه
رضا الحق.
وغضب الخلق حالة
ناتجة عن أثر طبيعي وفعل غير موافق لمزاج الغاضب ومراده ، وهكذا حكم أهل الله مع
باقي الصفات ليس حالهم معها حال الجمهور ، ولا نسبتها إليهم نسبتها إلى سواهم ،
وبين صفات الرحمة وصفات الغضب بالنسبة إلى الحقّ وإلى الكمّل ومن دونهم فروق دقيقة
لا يعرفها إلّا من عرف سرّ أحديّة الفعل والفاعل ، وسرّ سبق الرحمة وسببها وما
الغضب المسبوق المغلوب. وسألمع لك بنبذة من أسراره تحت أستار الأمثلة والعبارات ،
فارصد فهمك ، واجمع همّك ، تعثر على المقصودات ـ إن شاء الله ـ
اعلم ، أنّ باطن
الغضب رحمة متعلّقها الغضب والمغضوب عليه ، فأمّا الغضب فإنّه ينفث بغضبه وإمضاء
حكمه في المغضوب عليه ما يجده من الضيق بسبب عدم ظهور سلطنة نفسه تماما ، التي بها نعيمه ، وفيها لذّاته وذلك التعذّر إمّا لوجدان المنازع ، أو
اعتياص الأمر المتوقّع منه أن يكون محلّا لنفوذ الاقتدار تماما ،
أو آلة مؤاتية لما يراد من التصرّف بها وفيها عن حسّ المؤاتاة ، وعن تنفيذ الأوامر بها أيضا وفيها.
ولنفس الغضب مثلا
موازين وسنن مع القدرة على حزمها لا يمكن أن تحزم ؛ إذ لو حزمت لنيل مراد جزئي أو
تكميل أمر خاصّ غير الأمر المراد لعينه دون غيره ، استلزم ذلك
__________________
الحزم فساد أصل
كلّي ، أو فساد الأمر الأصلي المراد لعينه ، والمراد ما سواه لأجله ، فوجب رعاية
الأصلح ، وترجيح الأهمّ ، وبهذا قام الوجود ، وانتظم أمر كلّ موجود ، وتفصيل هذا
السرّ يطول ، وفي هذا الإلماع كفاية للألبّاء وغنية.
وأمّا سرّ الأمر
من جهة المغضوب عليه فهو على أنواع ثلاثة : تطهير ووقاية ، وتكميل.
أمّا الوقاية
فكصاحب الآكلة ـ نسأل الله العفو والعافية منها ومن كلّ داء ـ إذا ظهرت في عضو أحد
وقدّر أن يكون الطبيب والده أو صديقه أو شقيقة ، فإنّه مع فرط محبّته فيه يبادر
لقطع العضو المعتلّ ؛ لما لم يكن فيه قابليّة الصلاح أو المعالجة ، فتراه يباشر
الإيذاء الظاهر وهو شريك المتأذّي بذلك الأذى ، ولا مندوحة ؛ لتعذّر الجمع بين جلب
العافية وترك القطع ؛ لما لم يساعد استعداد العضو على ذلك ، فافهم.
وتذكّر : «ما
تردّدت في شيء تردّدي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بدّ له من ذلك» والوالد يظهر الغضب لولده رعاية
لمصلحته وهو في ذاته غير غاضب ، وإنّما يظهر بصفة الغضب بحيث يظنّ
الولد أنّه متّصف بالغضب حقيقة وليس كذلك ، وإنّما موجب ظنّه في أبيه ما يشاهده من الأثر الدالّ على الغضب عادة ،
والأمر بخلافه في نفس الأمر ، وإنّما ذلك لقصور نظر الولد ، ولعدم استقلاله
بالمصالح دون تعليم وزجر وتأديب وتقويم ، فلو وفي استعداده بالتحقّق بالكمال
المطلوب للوالد ، ما ظهر ما ظهر ، ولا ظنّ ما ظنّ ، بل علم مراد أبيه ممّا
ظهر به من حكم الغضب ، مع عروه عنه.
وأمّا الأمر من
حيث التطهير فمثاله : لو أنّ ذهبا مزج برصاص ونحاس وغيرهما لمصلحة لا يمكن حصولها
إلّا بالمجموع كما هو مجرّب في بعض الطلسمات الروحانيّة المشترط فيها مجموع المعادن ، بحيث لو نقص شيء منها لم يحصل
المقصود ، ثم إنّه إذا فرضنا انقضاء الوقت المراد لأجله ذلك الجمع وحصل المطلوب أو
انتهت مدة حكمه وقصد تمييز الذهب ممّا مازجه من غير جنسه ، لا بدّ وأن يجعل في
النار الشديدة ، لينفرد
__________________
الذهب ويظهر كماله
الذاتي ، ويذهب ما جاوره ممّا لم يطلب لنفسه ، وإنّما أريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب
وقد اتّصل. كماء الورد كان أصله ماء ، وعاد إلى أصله ، لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات
مؤثرة مطلوبة استفادها لمجاورة غير الجنس ، لم تكن موجودة في مجرّد الماء أوّلا
وهكذا الأمر في الغذاء يوصله الإنسان ويضمّه إليه ، فإذا استخلصت الطبيعة منه
المراد رمت بالثفل ؛ إذ لا غرض فيه. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) .
وقال في هذا
المعنى ببيان آخر أوضح وأتمّ تفصيلا : (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) الآيات. فتدبّرها ؛ ففيها تنبيهات شريفة على أحوال أهل
قبضة الغضب ، وأهل قبضة الرحمة والرضا.
وأمّا التكميل
فمشار إليه في تبديل السيّئات حسنات في قوله : «أسلمت على ما أسلفت من خير». وفي
الجمع بين حكم اليدين ، وفي استجلاء الرحمة المستبطنة في الغضب والقهر وفي استطعام
حلاوة الحلم مع القدرة ، واستجلاء كمال الصبر مع أن لا مكره من خارج ، فافهم ،
وارق ؛ فإنّك إن علوت عن هذا النمط وقت الرواح لا وقت العود استجليت سرّ القدر
المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم.
ومن رقى فوق ذلك
رأى غلط الإضافات السابقة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال ، فإن رقى فوق ذلك
رأى الجمال المطلق لا قبح عنده ، ولا تشريف ولا غلط ولا نقص ولا تحريف.
فإن رقى فوق ذلك
رأى الجور والعدل والظلم والحلم والحقوق المؤدّاة والتقصير والبخس والإذهانة
والجدّ والتعظيم والكتمان والإبانة كلّها محترقة بنور السبحات
__________________
الوجهيّة ،
مستهلكة في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة.
فإن رقى فوق ذلك
سكت فلم يفصح وخرس ، فلم يوضح وعمي ، فلم ينظر وذهب ، فلم يظهر.
فإن أعيد ظهر بكلّ
وصف ، وكان المعنى المحيط بكلّ حرف لم يعتص عليه أمر ، ولم يستغرب في حقّه عرفان
ولا نكر.
مراتب الرضا
ولنعد الآن إلى
إتمام ما كنّا قد شرعنا فيه من تقسيم مراتب الرضا المثمر للتنعّم بالنعم ، بعد تعدّينا بفضل الله مراتب الغضب والفراغ من ألسنة
أحكامه ، فنختم الكلام على الرضا ؛ لأنّه آخر الأحوال الإلهيّة حكما في السعداء ،
كما سننبّه عليه.
فنقول : مراتب
الرضا المثمر للنعم كلّها والتنعّم بها ثلاث :
حكم أوّلها رضا
الحقّ عن الموجودات من حيث استصلاحها لأن يتوجّه إليها بالإيجاد وبقسط مّا من
الإحسان ؛
وحكم الثانية
الرضا عن كافّة المؤمنين ؛
وحكم الثالثة الرضا
عن خواصّهم ، وعن الأنبياء والأولياء ، كما ورد وثبت.
وهذا القسم ينقسم
إلى قسمين : قسم خاص ، وقسم أخصّ ، فالخاصّ ما يتعلّق بالأنبياء والأولياء ،
والأخصّ هو الذي عيّنه سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) فعرفنا أنّ هذا رضا مخصوص ليس لكلّ الرسل والأنبياء ؛ لعدم عموم حكم العلامة المذكورة ، في الجميع مع رضاه عن سائرهم ، ولأنّه أخبرنا
أنّه قد رضي عن المؤمنين ، فعن الأولياء أولى ، فعن الأنبياء آكد ، فما الظنّ
بالرسل؟
فحيث خصّص هنا ب «من»
وبالعلامة ، عرفنا أنّه رضا خاصّ ، وهو ثابت لا محالة لآخر الرسل صلىاللهعليهوآله ؛ فإنّه بعينه آخر الصفات الإلهيّة حكما في الآخرة في
السعداء ، فكان العطاء
__________________
الآخر بالآخر
محبّة وكمالا أنسب.
وأمّ أنّ الرضا
آخر المنح الكلّيّة الحاصلة من الحقّ للسعداء فالحجّة فيه ظاهر ما ورد : إنّ الله سبحانه إذا تجلّى لعباده في الجنّة وخاطبهم
ومنّاهم ولاطفهم وحيّاهم عدّد عليهم نعمه ، ثم سألهم ماذا تريدون؟ فلا يجدون
للتمنّي مساغا ، فيقول : قد بقي لكم عندي ، فيتعجّبون ويسألون ، فيقولون : في آخر
الأمر : «رضاي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبدا» فيجدون لذلك من اللذّة والراحة ما لا
يقدّر قدره أحد ، فصحّ أنّ الله سبحانه يختم أمر السعداء بالرضا الذي به كمال
نعيمهم ، كما أنّ شهوده روح كلّ نعيم.
مراتب النعيم
واعلم ، أنّ مراتب
النعيم أربع : مرتبة حسّية ، وأخرى خياليّة ، وثالثة روحانيّة ، والرابعة السرّ
الجامع بينها ، الخصيص بالإنسان وهو الابتهاج الإلهي بالكمال الذاتي ، يسري حكمه
في الظاهر والباطن وما ذكر.
ومراتب الآلام
أيضا الثلاث المذكورة ، وهي في مقابلة الاعتدال الحسّي والروحاني
والمثالي. والمقابل للابتهاج الرابع هو صفة الغضب. المحدث كلّ ألم وتعب وانحراف في
المراتب الثلاث ، وفي الأجسام الطبيعيّة هو الانحراف على اختلاف مراتبه ، فافهم.
وأتمّ مراتب مطلق
النعيم رؤية الحقّ على الوجه الذي أنبّهك عليه ، وهو أن يكون الرائي خلقا ،
والمرئيّ حقّا ، والذي يرى به حقّ أيضا ، فهذه ، الرؤية اللذيذة التي لا لذّة فوقها أصلا
وما سوى هذه من المشاهدات ، فإمّا دون هذه ، وإمّا التي تفنى ولا لذّة معها. وإلى
هذه أشار صلىاللهعليهوآله بقوله في دعائه
ربّه : «وارزقني لذّة النظر إلى وجهك الكريم أبدا دائما سرمدا» ولم يقل : ارزقني
النظر إلى وجهك الكريم ، فافهم ، فالشرف والنعيم في العلم ، وإلّا فمجرد الرؤية
دون العلم لا يجدي.
ربّ امرئ نحو
الحقيقة ناظر
|
|
برزت له ، فيرى
ويجهل ما يرى
|
__________________
وتذكّر قول
العلماء : اللذّة والنعيم عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، فحيث لا إدراك
لا نعيم ولا نعمة إذا ؛ فإنّ المال والجاه والمطعم الشهيّ ، والمنظر البهيّ وغير ذلك إنّما يعدّ نعمة ويتنعّم به من
حيث إدراك ما في كلّ واحد منها من أحكام الكمال بالنسبة إلى المدرك.
فحصول اللذّة
والتنعّم وتفاوته هو بحسب ذلك القرب الكمالي وصحّة الإدراك ، فبمقدار قوّة إدراك
الكمال من حيث أحكامه المناسبة للمدرك تقع اللذّة ويصدق اسم النعمة على ذلك الأمر
عند المدرك.
ومن تحقّق بالكمال
حتى صار منبعا لأحكامه ، صار هو ينبوع النعم ، وسببا لنعيم المتنعّمين من كونه عين
النعم ونفس اللذّة ؛ لأنّه أصل كلّ شيء ، فيظهر بحكمه متى شاء فيما أراد من الصفات
والأحوال التي هو جامعها بالذات.
وأمّا هو فيلتذّ
بكلّ ما يلتذّ به الملتذّون ، مع اختصاصه بأمر لا يشارك فيه وهو تنعّمه باستجلائه
حسن كماله وما تشتمل عليه مرتبته من الجهة التي تلائم حاله حين الاستجلاء ،
فافهم ، فهذا عزيز جدّا.
ودون صاحب هذا
الحال في النعيم في الدنيا من وافقت مراداته الطبيعيّة والنفسانيّة مراد الحقّ منه
وعلمه فيه ، مع ملاحظة ذلك في كثير من الأوقات ، وإنّما قلت : في كثير من الأوقات
؛ لاستحالة دوام ذلك في كلّ حال.
ومثله أو دونه
بيسير من تمكّن من الإبراز إلى الحسّ بكل ما تنشئه إرادته في ذهنه ، وهذا التمكّن شرط في الكمال لا الظهور به
، وإنّما جعلت هذه الرتبة بعد الرتبة الأولى ؛ لأنّ صاحب هذا التمكّن لا بدّ وأن
يكون متعوبا من جهات أخرى ، هي من لوازم هذا التمكّن دون انفكاك ،
فاعلم ذلك.
وأكثر الناس
تألّما في الدنيا من كثرت فيه الأمانيّ الشهيّة التي لم يقدّر الحقّ ظهورها في
__________________
الخارج ، مع نقص عزائمه في أكثر ما يتوخّاه ، وشظف العيش ، أعاذنا الله من ذلك.
مراتب الرضا
الإنساني
ثم نرجع ونقول :
واعلم ، أنّ للرضا المثمر للنعم والتنعّم بها في عرصة أحوال الإنسان أيضا
ثلاث مراتب ، كما هو الأمر في جانب الحقّ.
فأوّل درجاته فيه
رضاه من حيث الباطن عن عقله ، وما زيّن له من الأحوال والأعمال التي يباشرها ، هذا
عموما وأخصّ منه ما ورد من ذكر المؤمن له : رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ،
وبمحمد صلىاللهعليهوآله نبيّا ، ومن حيث الظاهر رضاه عن ربّه بما تعيّن له منه من
صور الأعمال والأحوال الظاهرة ، التي يتقلّب فيها في حياته الدنيا ومعاشه ، دون
قلق مزعج يتمرّر به العيش ، لا أنّه يطمئنّ ويسكن دون تمنّ وتشهّ ؛ فإنّ ذلك من أحكام المرتبة الثانية ، وإنّما أعني ما
عليه أكثر الناس من أهل الحرف والصنائع وأمثالهما.
وأمّا الرتبة
الثانية من الرضا المقرون بقوّة الإيمان وارتفاع التهمة من جانب الحقّ فيما وعد
وأخبر عاجلا في أمر الرزق ، وباقي المقدورات التي الإنسان بصدد التلبّس بها ، المتكرّر بيانها في الكتاب والسنّة ، والمجمل في قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ) فإنّه من عرف أنّ الله أرأف به من نفسه ، وأعرف بمصالحه ،
وأشدّ رعاية لها منه ، ويرى دقائق ألطافه ، وحسن معاملته معه ، وما له عليه من
النعم التي لا تحصى ممّا حرمها غيره ، فإنّه يرضى عنه وعمّا يفعله معه وإن تألّم
طبعه ، فذلك لا يقدح ، وإنّما المعتبر في هذا نفسه القدسيّة ؛ فإنّ الرضا ليس من
صفات الطبع.
وأتمّ حال يكون
عليه أحد من أهل هذه المرتبة الثانية أن يقرّر في نفسه ـ إذ لا يخلو في
__________________
كلّ حال يكون فيه
من إرادة تقوم به ، سواء كان مختارا في تلبّسه بذلك الحال أو مكرها عليه ـ أن يجعل
إرادته تبعا لحكم الشرع في ذلك الحال ، أو ذلك الأمر كائنا ما كان ، فما أراده
الشرع ورضي به ، رضيه لنفسه في نفسه وفي غيره ومن غيره ؛ لاتّصافه بالإرادة لما
أراده الشرع خاصّة دون غرض باق له على التعيين في أمر مّا غير ما عيّنه الشرع
وسوّغه ، هذا يعرفه أهل مقام الرضا ؛ فإنّ له أهلا من أكابر الصوفيّة ذائقين لحكمه ، عارفين بأسراره ، منصبغين بأحواله. والأدلّة والشواهد في هذا الباب بحسب الموازين المشروعة العامّة ، والموازين الخاصّة
والمتعارفة بين أهل هذا الشأن كثيرة لسنا نحتاج إلى ذكرها ؛ إذ القصد الإيجاز
والإلماع لا البسط.
واعلم ، أنّ كلّ
مرتبة هاتين المرتبتين تشتمل على درجات لكلّ درجة أهل ، وبين المرتبتين أيضا درجات
كثيرة لها أرباب ، وهكذا الأمر في كلّ ما ذكرناه من هذا القبيل في هذا الكتاب
وغيره ، إنّما نكتفي بذكر الأصول الحاصرة التي لا يخرج شيء عنها من جنسها. وأمّا
التفاصيل المتشعّبة فقد أضربنا عنها صفحا ، لرغبتنا في الإيجاز ، ولو لا قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات في أثناء الكلام
؛ لأنّها كالعلاوة الخارجة عن المقصود.
ثم نرجع ونقول :
وأعلى مراتب الرضا في مرتبة العبوديّة أن يصحب العبد الحقّ لا بغرض ولا تشوّف ولا
توقّع مطلب معيّن ولا أن يكون علّة صحبته له ما يعلمه من كماله ، أو بلغه عنه ، أو
عاينه منه ، بل صحبة ذاتيّة لا يتعيّن لها سبب أصلا ، وكلّ أمر وقع في العالم أو
في نفسه يراه ويجعله كالمراد له ، فيلتذّ به ويتلقّاه بالقبول والبشر والرضا ، فلا
يزال من هذا حاله في نعمة دائمة ونعيم مقيم ، لا يتّصف بالذلّة ولا بأنّه مقهور أو
مغضوب عليه ، فتدركه الآلام لذلك ، وعزيز صاحب هذا المقام ، قلّ أن يوجد ذائقة
وسبب قلّة ذائقة
أمران :
__________________
أحدهما : عزّة
المقام في نفسه ؛ لأنّه من النادر وجدان من يناسب الحقّ في شؤونه ، بحيث يسرّه كلّ
ما يفعله الحقّ وكأنّه هو فاعله والمختار له بقصد معيّن. وغير ذلك ممّا لا يمكن
التصريح به.
والأمر الآخر :
كون الطريق إلى تحصيل هذا المقام مجهولا ، ولمّا كان الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به
لأمر مّا ، والطلب وصف لازم لحقيقته لا ينفكّ عنه ، فليجعل متعلّق طلبه مجهولا غير
معيّن إلّا من جهة واحدة ، وهو أن يكون متعلّق طلبه ما شاء الحقّ إحداثه في العالم
وفي نفسه أو غيره ، فما رآه أو سمعه أو وجده في نفسه أو عامله به أحد ،
فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول قد عيّنه له الوقوع ، فيكون قد وفى حقيقة كونه طالبا
، ويحصل له اللذّة بكلّ واقع منه أو فيه أو في غيره أو من غيره.
فإن اقتضى ذلك
الواقع التغيّر تغيّر ؛ لطلب الحقّ منه التغيّر ، فهو طالب الواقع ، والتغيّر هو الواقع ، ليس بمقهور فيه ولا مغضوب عليه ، بل ملتذّ في تغيّره ، كما هو
ملتذّ في الموجد للتغيير ، وما ثمّ طريق إلى تحصيل هذا المقام إلّا ما ذكر
، فافهم.
وما رأيت بعد
الشيخ رضي الله عنه من قارب هذا إلّا شيخا واحدا اجتمعت به في المسجد الأقصى ، ثم في موضع آخر ، هو
من أكبر من لقيت ، أعرف له من العجائب ما لا يقبله أكثر العقول. صحبته وشاهدت من
بركاته في نفسي وفي ذوقي غرائب رضي الله عنه.
__________________
وصل في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ)
قد سبق في تفسير
هذه الكلمة نكت نفيسة بلسان الظاهر والباطن وغيرهما ، تنبّه على جملة من الأسرار ،
وسنذكر الآن تمامها ـ إن شاء الله
تعالى ـ ، فنقول :
أمّا بيان ما بقي
من ظاهرها فهو أنّ هذه الكلمة معطوفة على قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) ، فهو استثناء تابع لاستثناء لا غير.
وأمّا الواجب
بيانه هنا فتعيين مراتب الضلالة ، وأهلها وأحكامها. ولنقدّم مقدّمة كلّية نافعة
قريبة من الأفهام ، ثم نشرع في التفصيل.
اعلم ، أنّ إضلال
الحقّ عبده هو [عدم عصمته إيّاه عمّا نهاه عنه] ، وعدم معونته وإمداده بما يتمكّن به من الإتيان بما أمره به
، أو الانتهاء عمّا نهاه عنه.
وسرّ الإضلال
والاستهزاء والمكر والخداع ونحو ذلك ـ ممّا أضافه الحقّ إلى نفسه ، وتحيّر أكثر
العقول عن نسبته إلى الحقّ تنزيها له ـ هو من باب تسمية الفرع باسم الأصل ؛ إذ مكر
العبد ـ مثلا ـ واستهزاؤه هو الأصل المتقدّم الجالب ما ذكر ، والمسمّى مكرا
واستهزاء وغير ذلك من هذه الأوصاف التي لا يعرف الأكثرون كمالها إنّما يظهر
ويتعيّن بهذا الحكم من سرّ (سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ) فافهم ، والله المرشد.
مراتب الضلال
ثم اعلم ، أنّه قد
كنّا نبّهناك على أنّ الضلال الحيرة ، وأنّ لها ثلاث مراتب ،
__________________
كما لباقي الصفات المنبّه عليها :
فالمرتبة الأولى :
تختصّ بحيرة أهل البدايات من جمهور الناس. وحكم الثانية يظهر في المتوسّطين من أهل
الكشف والحجاب. وحكم الثالثة مختصّ بأكابر المحقّقين.
أمّا سبب الحيرة
الأولى العامّة فهو كون الإنسان فقيرا طالبا بالذات ، فلا يمرّ عليه نفس يخلو فيه
من الطلب ؛ لما ذكرنا من فقره الذاتي ، وذلك الطلب متعلّقة في نفس الأمر
الكمال الذي هو غاية الطالب ، ولنفس ذلك الطلب فروع متعلّقة بمطالب ليست مرادة لأنفسها ، كالطلب المتعلّق بالمأكل والمشرب
ونحوهما ممّا يعيّنه الوقت ؛ لجلب منفعة جزئيّة ، أو دفع مضرّة مثلها ، والغايات
تتعيّن بالهمم والمقاصد والمناسبات الداعية الجاذبة وغير ذلك ممّا سبق ذكره
مستوفى.
فما لم يتعيّن
للإنسان وجهة يرجّحها ، أو غاية يتوخّاها ، أو مذهب أو اعتقاد يتقيّد به بقي حائرا
قلقا ؛ لأنّه مقيّد من حيث النشأة والحال وأكثر ما هو فيه ، فلا غنى له عن الركون
إلى أمر يستند إليه ويربط نفسه به ويعوّل عليه.
وهكذا أمره فيما
يعانيه من الأشغال والحرف أو الصنائع ، فإذا جذبته المناسبة بواسطة بعض
الأحكام المرتبيّة رؤية أو سماعا انجذب إلى ما يناسبه من المراتب.
وهكذا الأمر
بالنسبة إلى بواعث الإنسان المتعيّنة من نفسه ؛ فإنّ البواعث مخاطبات نفسانيّة
داعية للمخاطب بها إلى الأصل الذي يستند إليه ذلك الباعث ، وهذا هو السبب الأوّل في انتشار الملل والنحل والمذاهب المتفرّعة على ما عيّنه الحقّ بواسطة ضروب
وحيه وإرشاد الرسل والأنبياء وكلّ مقتدى محقّ ، فالحيرة سابقة شاملة الحكم لما
ذكرناه من قبل في سرّ الهداية ولما نذكره عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وأوّل مزيل لها ـ
أعني هذه الحيرة الأولى ـ تعيّن المطلب المرجّح ، ثم معرفة الطريق الموصل ، ثم
السبب المحصّل ، ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض ، ثم معرفة
__________________
العوائق وكيفيّة إزالتها ، فإذا تعيّنت هذه الأمور تزول هذه الحيرة.
ثم إنّ حال
الإنسان ـ بعد أن يتعيّن له ما ذكرنا ويشرع في الطلب ويرجّح أمرا مّا يراه الغاية
والصواب ـ على ضربين : إمّا أن يستحوشه ذلك الأمر بحيث أن لا يبقى فيه فضلة يطلب
بها المزيد ـ كما هو حال أهل الاعتقادات والنحل غالبا ـ أو يبقى فيه فضلة من صحو ،
فتراه ـ مع ركونه إلى حال معيّن وأمر مخصوص ـ كأكثر من يرى يفحص أحيانا ويتلمّح
عساه يجد ما هو أتمّ ممّا أدرك وأكثر جدوى مما يتوخّى تحصيله ، أو حصّله ، فإن وجد ما أقلقه ونبّهه انتقل إلى
دائرة المقام الثاني. وحاله في هذا المقام كالحال المذكور في المقام الأوّل من
أنّه لا يخلو من أمرين : إمّا أن يكون في كلّ ما يحصل له ويركن إليه مطمئنّا ،
مرتوبا ، فاترا عن طلب المزيد ، أو قد بقيت فيه أيضا فضلة تمنعه من الاستقرار ، وسيّما إذا رأى
المتوسّطين من الناس أهل هذا المقام قد تفرّقوا شيعا ، وتحزّبوا أحزابا ، وكلّ
منهم يرى أنّه المصيب ومن وافقه ، وأنّ الغير في ضلالة ، ويرى مأخذ كلّ طائفة
ومتمسّكها فلا يجدها تقوم على ساق ، ويرى الاحتمال متطرّقا ، والنقوض واردة ،
ويرى أنّ الحكم بالخطاء والإصابة ، والحقّ والباطل ، والضلال والهداية ، والحسن
والقبح ، والضرر والنفع في هذه الأمور وغيرها من المتقابلات إنّما هو بالنسبة
والإضافة ، فإنّه يحار ولا يدري أيّ المعتقدات أصوب في نفس الأمر؟ وأيّ النحل
والأحوال والأعمال أوفق وأنفع؟ فلا يزال حائرا حتى يغلب عليه آخر الأمر حكم مقام
مّا من المقامات ـ التي يستند إليها بعض أهل العقائد والمذاهب ـ فينجذب إليه ؛ لما
فيه من سرّه ويطمئنّ ويسكن أو يفتق له بالعناية أو بها ويصدّقه في طلبه وجدّه
في عزيمته وبذله المجهود حال طلبه الحجاب ، فيصير من أهل الكشف.
وحاله في أوّل هذا
المقام كحاله فيما تقدم من أنّه إذا سمع المخاطبات العليّة ، وعاين المشاهدات
السنيّة ، ورأى حسن معاملة الحقّ معه ، وما فاز به ممّا فات أكثر العالمين ، هل
__________________
يستعبده بعض ذلك
أو كلّه ، أو يبقى فيه بقيّة من غلّة الطالب والصحو فيثبّت وينظر في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) وفي أمثاله من الإشارات الربانيّة والتنبيهات النبويّة
والكماليّة ، فيتنبّه إلى أنّ كلّ ما اتّصل بالحجاب ، أو تعيّن بالواسطة ، فللحجاب
والواسطة فيه حكم لا محالة ، فلم يبق على طهارته الأصليّة ولا صرافته العليّة ،
فيتطرّق إليه الاحتمال ، وسيّما إذا عرف سرّ الوقت والموطن والمقام الذي هو فيه ،
والحال والوصف الغالب عليه ، أنّ لكلّ ممّا ذكر أثرا فيما يبدو له ويصل إليه ، فلا يطمئنّ ، وخصوصا إن تذكّر قوله صلىاللهعليهوآله حال رؤية الريح كلّ وقت ، وتغيّر لونه ، ودخوله وخروجه
وقلقه ، وقوله لمن سأله عن ذلك : «ولعلّه كما قال قوم عاد : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) (عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) » وفي قوله صلىاللهعليهوآله في غزاته ليلة بدر : «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لن تعبد
في الأرض» وكقوله لمّا جاءه
جبريل في المنام بصورة عائشة رضي الله عنها في سرقة حرير ، وقال له : هذه زوجتك ـ
ثلاث مرّات ـ بعد الثالثة : «إن يكن من عند الله يمضه»
ولم يجزم ونحو ذلك
مما يطول ذكره ، مع قوله عليهالسلام : «زويت لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك
أمّتي ما زوي لي منها» . وقوله عن العشر الفوارس من طلائع المهدي عليهالسلام الآتي في آخر الزمان ، ويمينه صلىاللهعليهوآله : «والله إنّي لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم
وعشائرهم وألوان خيولهم» ، فيطّلع على لون فرس وصورة شخص واسمه ونسبه قبل أن يخلق
بستّمائة سنة وكسر ، ولا يجزم ، بل يخاف أن يقطع بأمنه دون ذلك ، لعلمه بأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت ، وأنّ حكم
حضرة الذات ـ التي لا يعلم ما تقتضيه ولا ما الذي يتعيّن من كنه غيبها فتبديه ،
ويقتضي على إخباراته تعالى ، وسيّما الواصلة بواسطة مظاهر رسالاته ، والحاملة
أصباغ أحكام حضرات أسمائه وصفاته
__________________
(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً
مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ـ تنبيه وتأديب
إلهي مانع من حصر الحقّ فيما أظهر وأخبر : «أدّبني ربي فحسّن أدبي»
لا جرم كان صلىاللهعليهوآله كما ذكر عنه.
نعم ، ولنعد الآن
إلى إتمام حال السائر المتوسّط ، وبيان سرّ حيرته ، فنقول : فالإنسان المشار إليه ـ
بعد تعدّيه ما ذكرنا من المراتب والأحوال وأحكام الحيرة ـ إذا تأمّل ما بيّنّاه
الآن فإنّه مع كشفه وجلالة وصفه يحار ؛ لأنّه يرى من فوقه كما ذكرنا ، ويعرف أنّ
الحاصل له هو من فضلات تلك العطايا الأقدسيّة الحاصلة للكمّل ، فيقول : لو كان ما
حصل لي ولمثلي يقتضي الطمأنية لذاته ، لكان الأعلى منّا بهذا الحال أجدر وأولى.
فحيث لم تقنعه ما رأى ما حصل ، دلّ [على] أنّ الذي هو فيه أوجب وأرجح
وأفضل ، فتراه إذا ـ مع معرفة جلالة ما حصل له ـ لا يقف عنده ولا يركن إليه.
وسيّما إذا رأى مشاركيه ، ومن وافقه في مطلق الذوق والكشف يزيّف بعضهم ذوق البعض ،
ويرد بعضهم على بعض ، كموسى مع الخضر وغيرهما.
وكلّ يحتجّ بالله
وبما علّمه الله ، والعدالة ثابتة والحقّ صدوق ، ولكلّ منه سبحانه قسط ، ولكن (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) : (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) فما من طامّة إلّا وفوقها طامّة ، ولا تقف وسر ؛ فالطريق
وراء الحاصل ، والأمر كما ترى و «عند الصباح يحمد القوم السّرى» والسلام.
واعلم ، أنّ السرّ
فيما ذكرنا هو أنّ الخلق كلّهم مظاهر الأسماء والصفات ، ولكلّ اسم وصفة تجلّيات ،
وعلوم أحكام وآثار تظهر في كلّ من هو في دائرته وتحت حكمه وتصريفه كما بيّنّا أنّ
كلّ صنف من الموجودات إنّما يستند إلى الحقّ ، ويأخذ منه من حيثيّة اسم خاصّ هو
سلطانه.
ولمّا كانت
الأسماء متقابلة ومختلفة ، وكانت أحكامها وأذواقها وآثارها وأحوالها أيضا كذلك ظهر
للّبيب ـ وإن لم يكمل
كشفه بعد ـ أنّ سبب الاختلاف هنا هو سبب
__________________
الاختلاف في الأصل
، فهي في التعيّن تابعة للخلق ، والخلق في الحكم والحال تابعون لها.
ولمّا كان كلّ اسم
من وجه عيّن المسمّى ، ومن وجه غيره ـ كما بيّن من قبل ـ كان حكمها أيضا ذا وجهين
: فالمحجوبون من أهل العقائد غلب عليهم حكم الوجه الذي به يغاير الاسم المسمّى ،
وأهل الأذواق المقيّدة غلب عليهم حكم الوجه الذي يتّحد به الاسم والمسمّى ، مع
بقاء التمييز والتخصيص الذي تقتضيه مرتبة ذلك الاسم ، والأكابر لهم الجمع والإحاطة بالتجلّي
الذاتي ، وحكم حضرة أحديّة الجمع ، فلا يتقيّدون بذوق ولا معتقد ، ويقرّرون ذوق
كلّ ذائق ، واعتقاد كلّ معتقد ، ويعرفون وجه الصواب في الجميع والخطاء النسبي ،
وذلك من حيث التجلّي الذاتي ، الذي هو من وجه عين كلّ معتقد ، والظاهر بحكم كلّ
موافق ومخالف منتقد ، فحكم علمهم وشهودهم يسري في كلّ حال ومقام ، ولهم أصل الأمر
المشترك بين الأنام ، والسلام.
__________________
وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها
اعلم ، أنّ
الإنسان إذا تعدّى كلّ ما ذكرناه ، واستخلصه الحقّ لنفسه ، واستصلحه لحضرة أحديّة
جمعه وقدسه من جملة ما يطلعه عليه كلّيّات أحكام الأسماء والصفات المضافة إلى الكون
والمضافة إليه سبحانه ، والقابلة للحكمين ، فمن جملة ما يشاهده في هذا الإطلاع
المشار إليه الكمال الإلهي المستوعب كلّ اسم وصفة وحال ، كما أشرت إليه الآن ،
وعلى ما ستعرفه أو تفهم عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ ، فيرى أنّ الصفات ـ
الظاهرة الحسن والخفيّ حسنها ـ كلّها له وإليه مرجعها ، وأنّها ـ من حيث هي له ـ
حسنة كلّها عامّة الحكم ، لا يخرج عن حيطتها أحد ، فإنّه سبحانه كما أنّه محيط
بذاته ، كذلك هو محيط بصفاته.
وهذا الوصف
المتكلّم فيه ـ أعني الحيرة ـ من جملة الصفات ، وقد نبّهت الحقيقة بلسان النبوّة
على أصلها في الجناب الإلهي بقوله «ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة
عبدي المؤمن» الحديث ، وقد ذكرته من قبل ، فعرّفنا أنّ ثمّة تردّدات كثيرة هذا
أقواها ، فافهم.
ولهذا نسب الإضلال
سبحانه إليه بقوله : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، وتسمّى به.
والفاتح لسرّ عموم
حكمه ، وأمثاله ما ذكرناه من أنّ الهداية والضلال و أمثالهما من الصفات المتقابلة إنّما تثبت بالنسبة والإضافة
، فكلّ فرقة ضالّة بالنسبة إلى الفرقة المخالفة
__________________
لها ، فحكم الضلال
إذا منسحب على الجميع من هذا الوجه ، ومن حيث إنّ ترتّب حكم الناس على أكثر الأشياء
هو بحسب ظنونهم وتصوّراتهم ، مع اليقين الحاصل بالإخبار الإلهي وغيره (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) وسيّما في الله ، فإنّ الإحاطة لمّا كانت متعذّرة ، كانت
منتهى حكم كلّ حاكم فيه إنّما هو بمقتضى ما تعيّن له منه بحسبه ، لا بحسب الحقّ من
حيث هو لنفسه ، وما لم يتعيّن منه أعظم وأجلّ ممّا تعيّن ؛ لأنّ نسبة المطلق إلى
المقيّد نسبة ما لا يتناهى إلى المتناهي ، بل لا نسبة بين ما تعيّن لمداركنا منه
سبحانه وبين ما هو عليه في نفسه من السعة والعزّة والعظمة والإطلاق.
ثم إنّ المتعيّن
أيضا منه لمّا لم يتعيّن إلّا بحسب حال القابل المعيّن وحكم استعداده ومرتبته علم أنّ القدر الذي عرف من سرّه لم يعلم على ما هو عليه في
نفسه ، وبالنسبة إلى علمه نفسه بنفسه ، بل بالنسبة إلى استعداد العالم به وبحسبه.
وحيث ليس ثمّ استعداد يفي بالغرض ، ويقضي بظهور الأمر عند المستعدّ بهذا الاستعداد ـ كما هو الأمر في
نفسه ـ فلا علم إذا ، وإذ لا علم فلا هداية ، وإن قيل بها ، فليس إلّا بالنسبة
والإضافة.
وقد قال أكمل
الخلق ـ لمّا سئل عن رؤيته ربّه ـ : «نور أنّى أراه؟». فأشار إلى العجز والقصور ،
وقال أيضا في دعائه : «لا أحصي ثناء عليك» [أي] لا أبلغ كلّ
ما فيك وأعترف بالعجز عن الاطّلاع على كلّ أمره ، وقال سبحانه منبّها على ذلك (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) والقليل هذا شأنه ، فما ظنّك بما ليس بعلم عند العقلاء
كلّهم ، ولهذا نهى الناس عن الخوض في ذات الله ، وحرّضوا على حسن الظنّ به وسيّما في أواخر الأنفاس.
__________________
ولمّا صحّ أنّ
أقرب الأشياء نسبة إلى حقيقة الشيء روحه ، وكان عيسى ـ على نبيّنا وعليه أفضل
الصلاة والتسليم ـ روح الله ومن
المقرّبين أيضا بإخبار الله وإخبار كلّ رسله عنه ، ومع ذلك قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ
ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) علمنا بهذا وسواه من الدلائل ـ التي لا تحصى كثرة ممّا أومأنا إليه وسكتنا عنه ؛ لوضوح الأمر وكونه بيّنا
بنفسه ـ أنّ الاطّلاع على ما في نفس الحقّ متعذّر.
فالحاصل عندنا من
المعرفة به المستفادة من إخباره سبحانه لنا عن نفسه هو بتقليد منّا له ، وكذا ما
نشهده وندركه بقوّة من قوانا الظاهرة أو الباطنة ، أو بالمجموع ، إنّما نحن
مقلّدون في ذلك لقوانا ومشاعرنا.
وقصارى الأمر أن
يكون الحقّ سمعنا وبصرنا وعقلنا ، فإنّ ذلك أيضا لا يقضي بحصول المقصود ؛ لأنّ
كينونته معنا وقيامه بنا بدلا من أوصافنا إنّما ذلك بحسبنا لا بحسبه كما بيّنّا ، ولو لم
يكن الأمر كذلك ، لزم أن يكون كينونة الحقّ سمع عبده وبصره وعقله حاصلا وظاهرا على
نحو ما هو الحقّ عليه في نفسه ، فيرى العبد إذا كلّ مبصر ويسمع كلّ مسموع سمعه الحقّ وبصره. ولزم أيضا أن
يعقل كلّ ما عقله الحقّ ، وعلى نحو ما عقله.
ومن جملة ذلك ـ بل
الأجلّ من كلّ ذلك ـ عقله سبحانه ذاته على ما هي عليه ، ورؤيته لها كذلك ، وسماعه
كلامها وكلام سواها أيضا كذلك ، وهذا غير واقع لمن صحّ له ما ذكرنا ، ولمن تحقّق
بأعلى المراتب وأشرف الدرجات ، فما الظنّ بمن دونه؟
فإذا لكلّ من الحيرة في الله وفيما شاء نصيب ، وتذكّر قوله : «في
خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله» وقوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) وقوله :
__________________
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقوله : (ما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وغير ذلك ممّا يطول ذكره ، فافهم (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
__________________
وصل آخر
في بيان أقوى أسباب الحيرة الأخيرة
التي للأكابر وأسرارها بلسان ما بعد المطلع
اعلم ، أنّه قد
ذكر لك أنّ الإنسان فقير بالذات ، وأنّه دائما طالب ومتوجّه إلى ربّه من حيث يدري
ومن حيث لا يدري ، وخصوصا أهل طريق الله ، فإنّهم طالبون بالذات والفعل والحال.
فمن تعيّنت له
منهم وجهة ظاهرة مقيّدة بجهة من الجهات ، أو باطنة في أمر مّا من المعقولات ، أو تقيّد
طلبه للحقّ إن زعم أنّه من طالبيه بحسب علم عالم ، أو اعتقاد معتقد ، أو شهود
مشاهد ، أو من حيث اعتبار مميّز ، أو أمر مّا معيّن كائنا ما كان ، فهو ممّن
استشعرت نفسه بغايته ، وممّن يكون له الرأي عند الفتح ، وممّن يضعف حكم الحيرة المنبّه عليها فيه ، أو
تكاد تزول ممّن يأخذ أو يترك ، ويقبل ويعرض ، ويختار ويرجّح.
ومن لم يبق له في
العالم ـ من كونه عالما ـ رغبة ، بل ولا في حضرة الحقّ ؛ لأجل أنّها مصدر للخيرات
، وسبب لتحصيل المرادات ، وتعدّي مراتب الأسماء والصفات ، وممّا ينضاف إليها من الأحكام والآثار والتجلّيات واللوازم
التابعة لها من النسب والإضافات ، فلم يتعيّن له الحقّ في جهة معنويّة أو محسوسة
من حيث الظاهر أو الباطن بحسب العلوم
__________________
والمدارك والعقائد
والمشاهد والأخبار والأوصاف وغير ذلك ممّا ذكر ؛ ولشعوره أيضا بعزّة الحقّ وإطلاقه
وعدم انحصاره في كلّ ذلك أو في شيء منه ، ولعدم امتلائه ، ووقوف همّته عند غاية من
الغايات التي وقف فيها أهل المواقف المذكورة آنفا ، وإن كانوا على حقّ ، وقفوا
بالحقّ له وفيه ، بل أدرك بالفطرة الأصليّة الآليّة دون تردّد أنّ له مستندا في
وجوده ، وتحقّق أن ليس هو ، وأقبل بقلبه وقالبه عليه مواجهة منه ومقابلة لمستنده
بأجلّ ما فيه ، بل بكلّيّته ، وجعل حضوره في توجّهه إلى ربّه هو على نحو ما يعلم
سبحانه نفسه في نفسه بنفسه ، لا على نحو ما يعلم نفسه في غيره ، أو يعلمه غيره ،
فإنّه يصير حاله حينئذ حالا جامعا بين السفر إلى الله ومنه وفيه ؛ لأنّه غير مسافر
لنفسه ولا بنفسه ، ولا في نفسه ، ولا بحسب علومه الموهوبة أو المكتسبة بالوسائط
المركّبة أو البسائط.
وهذه الحالة أوّل
أحوال أهل الحيرة الأخيرة ، التي يتمنّاها الأكابر ولا يتعدّونها ، بل يرقون فيها أبد الآباد
دنيا وبرزخا وآخرة ، ليست لهم وجهة معيّنة في الظاهر أو الباطن ؛ لأنّه لم يتعيّن
للحقّ عندهم رتبة يتقيّد بها في بواطنهم وظواهرهم ، فيتميّز عن مطلوب آخر ، بل قد
أشهدهم إحاطته بهم سبحانه من جميع جهاته الخفيّة والجليّة ، وتجلّى لهم منه لا في شيء ولا جهة ، ولا اسم ولا مرتبة ، فحصلوا من شهوده
في بيداء التيه ، فكانت حيرتهم منه وبه وفيه.
__________________
وصل أعلى منه وأجلى وأكشف للسرّ فرعا وأصلا
اعلم ، أنّ الوجود
المحض من حيث هو لا يكون مرئيّا ولا متعيّنا ولا منضبطا ، وأعيان الممكنات ـ سواء
قيل فيها : إنّها عين الأسماء ، أو حكم بأنّها غيرها ـ فإنّها ـ من حيث هي أعيان
مجرّدة ـ لا يتعلّق بها إدراك أصلا ، ولا تنضبط إلّا من حيث التصوّر الذهني ،
وتعيّنها في الذهن عارض ؛ إذ ليس هو نفس تعيّنها الأزلي في علم الحقّ ، فإنّ ذلك
ثابت أزلا وأبدا ثبوت الحقّ ، وهذا التعيّن عارض للذهن المتصوّر. وغاية هذا التعين
أن يشبه ذلك من حيث المحاكاة ، والمحاكاة إنّما تكون بحسب تصوّر المحاكي ، وقوّته وذهنه ليس بحسب ما
هي الحقائق المتصوّرة في نفسها بالنسبة إلى تعيّنها في نفس الحقّ ، فليس أحد من
الخلق بمدرك لها من حيث هي كما هي ، ولا للوجود ولا لذات الحقّ من حيث إطلاقها عن
أحكام النسب والإضافات.
ولا نشكّ أنّ ثمّة إدراكا أو إدراكات لمدرك أو مدركين يتعلّق بمدرك
أو مدركات ، فما الذي أدرك؟ ومن المدرك له؟ وليس ثمّة إلّا ما ذكرنا وبيّنّا أنّه
يتعذّر إدراكه كما هو. إن كان متعلّق الإدراك النسب مع أنّها أمور عدميّة يلزم أن
يكون المدرك لها وما أدرك به مثلها ؛ لأنّ الشيء لا يدرك بغيره من حيث ما يغايره ،
ولا يؤثّر فيه ما يباينه من الوجه المباين هذا ما لا تردّد فيه عند الكمّل ولا
دفاع له ، ولا ثمّة ـ كما مرّ ـ إلّا
وجود واحد تفرّع منه ما أضيف إليه ممّا يسمّى صفات وأحوالا ولوازم.
__________________
وكلّها معان بسيطة
لا تقوم بنفسها ، ولا يظهر حكمها إلّا بالوجود ، والوجود شرط لا مؤثّر ومع كونه
كذلك فلا يتعيّن بنفسه فيدرك ، ولو تعيّن من كان مدركه إذا كان ما سواه لا وجود له
إلّا به وهو غير متعيّن بنفسه ، بل لا بدّ له من أمر يظهر به ويكون مرآته ،
ووظيفته ـ أعني الوجود ـ الإظهار لا غير ، والإظهار له هو من كونه نورا ، والنور [يدرك
به ولا] يدرك هو ، فلا يستقلّ بالظهور ، فكيف بالإظهار ؛ لأنّ
الإظهار موقوف على اجتماع واقع بين النور وما يقبله ، ويظهر بظهوره إمّا لمعنى
يعبّر عنه بالاشتعال ، أو المحاذاة والانطباع ، فهو حينئذ موقوف على نسبة الجمع ،
والجمع أيضا نسبة أو حال كيف قلت ، فكيف يتحصّل من مجموع ما لا يقوم بنفسه ولا
يستقلّ ولا يثبت ما يقوم بنفسه ويحكم بثبوته ؟!
وكيف ينقسم ما لا
يقوم بنفسه [لذاته أوّلا في ثاني الحال إلى ما يقوم بنفسه ويكون مرئيّا ، وإلى ما
يقوم بنفسه وبغيره ويسمّى رائيا ، وإلى ما لا يقوم بنفسه] ، كالأمر في الأوّل ، وهو بعينه عين كلّ قسم من الأقسام
المذكورة ، فيرى لا يرى ، ويرى لا يرى ، وينقسم لا ينقسم ، ويستقلّ لا يستقل ،
ويجتمع مع أنّه لا يتعدّد ولا يتغيّر ، ويظهر بالجمع الذي لا وجود لعينه مع
استحالة ظهوره بنفسه ، ومع كون الجمع صفته الذاتيّة فالجمع حالة واحدة ،
والاجتماعات بحكم الجمع أحوال لعين واحدة ، والوحدة لا تتصوّر إلّا بمقابلها وهو
معنى الكثرة ولا كثرة ؛ إذ ليس ثمّة إلّا أمر واحد متنوع ، فأين الجمع ، والوحدة
ليست ثمّة أيضا إلّا بالتقدير ؛ فإنّ المدرك هو الكثير ، والمميّز عن الكثرة حال طلب
التميّز والحكم به غير متميّز ، بل مقدّر له التميّز بالفرض ، وبالنسبة إلى تشخّصه
في بعض الأذهان ، وأمّا هل هو في نفسه مع قطع النظر عن هذا الفرض وهذا التشخّص على
نحو ما قدّر له وحكم به عليه أولا؟ حديث آخر ، بل الأمر في نفسه جزما ليس كذلك ؛
لأنّ هذه الأحكام كلّها طارئة ، والذي يقتضيه المحكوم عليه لذاته ثابت له أزلا من
نفسه لا لموجب .
ثم إنّ هذه
الأحكام كلّها والأحوال تابعة لإنّيّة كلّ مدرك من المدركين بالنسبة إلى مداركه
ومشاعره ، فالشيء لم يدرك على ما هو عليه أصلا ولا اهتدى إليه.
__________________
ثم نقول :
والمسمّى عالما لم يكن مظروفا للحقّ ؛ لاستحالة ذلك ، ولا ظرفا له «لأنّ الله كان
ولا شيء معه» ، ولا كان عدما محضا فصار وجودا ؛ لأنّه لو كان كذلك لزم انقلاب
الحقائق ، وأنّه محال ، فمن المدرك منّا؟ ومن المدرك؟ ومن العالم من مجموع ما
ذكرنا؟ ومن الحقّ؟ ومن العالم والعلم والمعلوم؟
والنسب كما بيّنّا
أمور عدميّة لا وجود لها إلّا في الأذهان ، والأذهان وأصحابها لم يكونوا ثم كانوا
، وكينونة الجميع إن كانت من النسب كما مرّ فقد ظهر الموجود من المعدوم ، وإن كانت
ظاهرة عن الوجود ، فالوجود لا يظهر عنه ما لا وجود له ولا أثر له كما مرّ من حيث
هو وجود صرف ؛ لأنّه واحد ، والواحد البحت لا ينتج شيئا ولا يناسب ضدّه ، فيرتبط
به ، وما لا وجود له مضادّ للوجود ، فكيف الأمر؟
ولا يظهر عن
الوجود أيضا عينه ؛ لأنّه يكون تحصيلا للحاصل ، وإن ظهر عنه عينه لا على النحو
الحاصل لا بدّ له من موجب غير نفس الوجود ؛ لأنّه لو كان موجبه نفس الوجود لزم
مساوقته له أزلا وأبدا ، ولا جائز أن يكون موجبه وجودا آخر ؛ لما يلزم من المفاسد
البيّنة الفساد لو كان كذلك ، ولا جائز أيضا أن يكون الموجب نسبة عدميّة ؛ لأنّه
يلزم حينئذ تأثير المعدوم في الوجود.
واستناد كلّ ما
ظهر إمّا إلى ما لا وجود له ، وإمّا لوجود ونسبة معا بشرط اجتماعهما ، واجتماعهما
إن كان طارئا لزم منه مفاسد لا تكاد تنحصر ؛ لأنّ المقتضي للاجتماع إمّا كلّ منهما
أو أحدهما أو ثالث ، فإن كان الوجود ، لزم أن يكون فيه جهة تقتضي الاقتران بالنسبة
المعدومة ثانيا ، مع عدم اقتضائها ذلك أوّلا ، وفيه ما فيه من المحالات التي لا
حاجة إلى تعديدها.
وإن كانت النسبة
هي المقتضية للجمع ، لزم أن يكون ما لا وجود له يوجب حكما وأثرا في الوجود ، وأن
يكون سببا لظهور كلّ موجود ، وغير ذلك من المحالات مع أنّ الجمع في نفسه لا وجود
له ، بل هو نسبة كما مرّ.
وإن كان أمرا ثالثا عاد السؤال ؛ لأنّ ذلك الثالث لا يخلو ، إما أن
يكون وجودا أو نسبة
__________________
ويلزم ما مرّ ذكره
، والأمر غير خارج عن هذه الضروب المذكورة ، فكيف الأمر؟ فيثبت الحيرة.
وإن استندنا إلى
الإخبارات الإلهيّة ، فالكلام فيها كالكلام فيما مر ؛ لأنّها لا بدّ وأن تكون تابعة للمدارك ، والمدارك أوصاف تابعة للموصوف ، والموصوف
لم يثبت بعد ما هو؟ فما الظنّ بما هو تبع له ومتفرّع عنه؟ ومع هذه كلّه فالإدراكات
حاكمة ومتعلّقة بمدارك متعدّدة من حيث تنوّع ظهوراته ، أو بمدركات شتّى ، وثمّ
لذّة هي عبارة عن إدراك الملائم ، وألم يعبّر عنه بأنّه إدراك غير الملائم ، وثمّة
ظلمة ونور ، وحزن وسرور ، فالكلّ ثمّة وما ثمّة كلّ ولا جزء ولا ثمّة ، فما العمل؟
وما من وكيف؟
ولا تظنّنّ أنّ
هذه الحيرة سببها قصور في الإدراك ، أو نقص مانع من كمال الجلاء هنا والاستجلاء
لما هناك ، بل هذه حيرة إنّما يظهر حكمها بعد كمال التحقّق بالمعرفة والشهود ،
ومعاينة سرّ كلّ موجود ، والاطّلاع التامّ على أحديّة الوجود ، لكن من تقيّد ، وقف
؛ لضيقه وما سار وانقهر لحكم ما عاين ، فانحرف ومار ، ومن اتّسع ، جمع وكشف ، فأحاط فدار وحار وما إن حار ، بل جرى وانطلق فمار وجار واستوطن غيب ذات ربّه متنوّعا
بشئونه سبحانه وبحسبه بعد كمال الاستهلاك فيه به (فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ)
هذا مقام السار.
__________________
تنزّل إلى الأفهام وتأنيس وإيضاح مبهم بتمثيل نفيس
ربما استنكرت
أيّها المتأمّل ما أشرت إليه آنفا في سرّ الحيرة ؛ لأنّ فهمك ينبو عن درك سرّه ،
وأنت المعذور لا أنا حيث أذكر لك مثل هذا وأتوقّع منك ومن الناس فهمه واستخلاص
المقصود من مشتبهه ، وعلمه.
اللهمّ إلّا من
حيث إنّي محلّ لتصرّف ربّي ومرآة له ، فهو يظهر بي ويظهر ما يشاء من شأنه ، ويوضح
ما اختاره من برهانه ، فإنّي أيضا مقهور ، لا مختار ولا مجبور ، وها أنا أتنزّل من ذلك المرقى
الجليل إليك وإلى غيرك بالتمثيل ، للتفهيم وهدى السبيل ، فارعني سمعك ، وأرصد لي
لبّك وفهمك ، والله المرشد.
اعلم ، أنّه سواء
كان المتأمّل لهذا الكلام من المرجّحين لمذهب المتكلّمين ، أو النظّار
المتفلسفين ، فإنّه لا يشكّ أنّ ما يدركه من عالم الأجسام الذي هو فيه مركّب من
جوهر وعرض ، أو هيولى وصورة ، فالجوهر لا يظهر إلّا بالعرض ، والعرض لا يكون إلّا
بالجوهر ، كما أنّ الهيولى لا يوجد إلّا بالصورة ، والصورة لا تظهر إلّا بالهيولى
، ومعقوليّة الجسم المتعيّن في البين عبارة عن معنى ما يمكن أن يفرض فيه أبعاد
ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق.
ثم إنّ الهيولى
المجرّد عند أهل النظر لا يقبل القسمة عقلا ، وكذلك الصورة ، مع أنّه بحلول الصورة
في الهيولى صارتا جسما ، وقبلتا القسمة ، فانقسم ما كان لذاته غير قابل للقسمة ،
مع أنّه لم يحدث إلّا الاجتماع ، وهو نسبة كسائر النسب ، فافهم.
__________________
ثم إنّ الطبيعة ـ
التي تولّد عنها ما تولّد ـ عبارة أيضا عن معنى مجرّد مشتمل على أربع حقائق تسمّى
: حرارة ، وبرودة ، ورطوبة ، ويبوسة. وذلك المعنى يناسب كلّا من هذه الأربعة بذاته ، بل هو عين
كلّ واحدة منها مع تضادّها ، ومع كونها ـ أعني الطبيعة ـ من حيث هي معنى جامعا
للأربعة المذكورة. وهذه وجميع ما تقدّم ذكره عبارة عن معان مجرّدة لا يمكن ظهور
شيء منها وإدراكه بمفرده ، ولا بدون الوجود ؛ فإنّ وجود الجميع أيضا من كونه وجودا
بحتا لا يتعيّن بنفسه ، ولا يظهر من حيث هو فيدرك ، فإذا اجتماع هذه المعاني هو
المستلزم لظهورها ، وإدراكها ، والاجتماع نسبة أو حالة لا وجود لها في عينها ، وما
ثمّة أمر آخر يتعلّق به الإدراك ، وقد تعلّق فما هو؟ وكيف هو؟ وهذه صورتك التي من
حيث هي أمكنك إدراك ما تدرك ناتجة عن الأصول المذكور شأنها ، وأجلّها الطبيعة ،
فالصور ظهرت عن الطبيعة.
وإذا أمعنت النظر
فيما ظهر عنها لم تلفه شيئا زائدا عليها ، ومع أنّ الذي ظهر ليس غيرها ، فليست من
حيث معقوليّة كلّيّتها عين ما ظهر ، ولم تزدد بما ظهر عنها ولم تنتقص ولم تتميّز ؛
إذ ليس ثمّة غير فتميّز عنه ؛ لأنّ الذي ظهر عنها جزما ليس غيرها ، وهذا ما لا
خفاء فيه ، فافهم.
وأمّا روحك الذي
تزعم أنّه مدبّر لصورتك وكلّ ما يسمّى روحا فالحديث فيه أبسط وأطول ، وسرّه أخفى
وأشكل ، وعن كنه ربّك فلا تسأل ، فقد منعت الخوض فيه وأويست فلا تطل فسر بعد وألق
عصا التسيار «فما بعد العشيّة من عرار» ، ولعمر الله إن جمعت بالك ممّا نبّهتك
عليه ، واستحضرت ما مرّ ذكره ، وأضفت هذا الفصل والذي يليه إليه ، رأيت العجب
العجاب ، وعرفت السرّ الذي حيّر أولي الألباب.
__________________
فصل في خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم
والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة
وهو آخر فصول
الكتاب والله متمّ نوره ، فمن ذلك خاتمة تكون لمعظم أسرار الحقّ وأسمائه وأسرار
الفاتحة موضحة وفاتحة ، فنقول ـ مبتدئين من بسم الله إلى آخر السورة إن شاء الله ـ
:
اعلم ، أنّ
الأسماء ـ على اختلاف ضروبها ومفهوماتها في الحقيقة ـ هي أسماء للأحوال ، ولذي
الحال ـ من حيث هو ذو حال ، ومن حيث هو مدرك نفسه وما فيها في كلّ حال بحسبه ـ مبدأ
تعيّن الجمع وهو مقام أحديّة الجمع الذي نبّهتك عليه غير مرّة ،
وأخبرتك أنّه ليس وراءه اسم ولا رسم ، ولا تعيّن ولا صفة ولا حكم ، لكن تعيّن
الأسماء من هذا المقام على نحوين :
النحو الواحد هو
بحسب أحكام الكثرة التي يشتمل عليها هذا المقام وهي الأسماء المنسوبة إلى الكون ، ولهذا
نقول وقتا : الكثرة وصف العالم من كونه عالما وسوى ، وفي تجلّي الكثرة وأحكامها
تتلاشى العقول النظريّة وتفشّ عن درك سرّ الوحدة والحسن المستجنّ فيها ، فتجبن عن إضافة
شيء من أحكام إلى الحقّ المتعيّن عندها ، وترد بأحكام الكثرة عليها ولا تدري.
وسبب ذلك كونها لم
تشهد الوحدة الحقيقيّة التي لا تضادّها الكثرة ولا تقابلها ، بل هي
__________________
نسبة الوحدة
المعلومة عندهم وعند غيرهم من المحجوبين وأكثر العارفين والكثرة أيضا إلى هذه
الوحدة المشار إليها على السواء ، لأنّها منبع لهما ولأحكامهما ، مع عدم التقيّد
بالمنبعيّة وغيره.
ثم نرجع ونقول :
ومعقوليّة النسبة الجامعة لأحكام الكثرة من حيث وحدتها عبارة عن حقيقة العالم ،
وتعيّن الحقّ من حيثها عبارة عن وجود العالم.
ثم إنّ هذا الوجود
بعد ظهوره بشئونه انقسم بالقسمة الأولى من حيث التعيّن إلى ثلاثة أقسام : إلى ما
غلب عليه طرف الوحدة والبطون كالأرواح على اختلاف مراتبها بحسب درجات هذا القسم ،
وإلى ما ظهر وغلب عليه أحكام الكثرة كالأجسام المركّبة على اختلاف مراتبها أيضا
بحسب الدرجات ، وإلى ما توسّط بينهما.
ثم إنّ المتوسّط
انقسم إلى ما غلب عليه حكم الروحانيّة وحكم مجمل الظهور الأوّل كالعرش والكرسي ،
وإلى ما غلب عليه نسبة الجمع بكمال الظهور التفصيلي آخرا كالمواليد الثلاث على ما بينها من التفاوت في الدرجات ، مع دخولها
تحت قسم واحد يسمّى «بعالم الشهادة» ، فإنّه هو المقابل لعالم الأرواح وعالم الغيب
على ما ذكر في أوّل الكتاب عند الكلام على الحضرات الخمس. وبقي الوسط الذي تفرّع
منه ما تفرّع مشتملا على درجات لكلّ منها أهل ، كالسماوات السبع ، والأسطقسات
الأربع.
وظهر الإنسان آخرا
بصورة الكلّ مقام الجمع الأحدي ، الذي لا يتعيّن قبله أوّليّة ولا غيرها ، وله
العماء ، وقد مرّ حديثه في صدر الكتاب فاذكر.
والخلافة للإنسان
بهذه الصورة هي من حيث صحّة المحاذاة والمحاكاة والمطابقة لما ظهر من صورته في الحكم والجمع والمحاكاة لما عداهما
وغيرهما لما بطن منه ، والاستخلاف لما بطن هو من حيث السببيّة الأولى في تعيّن
صورة نفسه الجامعة لما اشتملت عليه ذاته ، والاستعلاء بعد التحقّق بالكمال على
الخلافة والخروج عنها بردّها إلى الأصل أو إلى المثل بمزيد من الحسن والبهاء ، كما
مثّل لك في ماء الورد وغيره من قبل ،
__________________
واستحضار قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، هو بخصوصيّة حكم مقام أحدية الجمع المتنزّه عن التقيّدات
بوصف وحال معيّن من خلافة ونيابة وغيرهما ، لاستيعابه كلّ حال ومقام ووصف ،
واشتماله وقبوله كلّ حكم واسم وفعل وحرف. ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل.
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)
ثم نقول :
المسمّيات موجودات هي ـ كما ذكر لك ـ تعيّنات شؤونه سبحانه وهو ذو الشؤون ، فحقائق
الأسماء ، والأعيان عين شؤونه التي لم تتميّز عنه إلّا بمجرّد تعيّنها منه ، من حيث هو غير متعيّن.
والوجود المنسوب إليها عبارة عن تلبّس شؤونه بوجوده ، وتعدّدها واختلافها عبارة عن
خصوصياته المستجنّة في غيب هويّته ، ولا موجب لتلك الخصوصيّات ؛ لأنّها غير مجعولة
، ولا يظهر تعدّدها إلّا بتنوّعات ظهوره ، لأنّ تنوّعات ظهور ذاته في كلّ منها هو المظهر لأعيانها ؛ ليعرف
البعض منها من حيث تميّزه البعض ومن أيّ وجه يتّحد فلا يغايره ، ومن أيّه يتميّز فيسمّى غيرا وسوى ، وإن شئت فقل : كان ذلك ليشهد هو
خصوصيّات ذاته في كلّ شأن من شؤونه.
ومثال هذا التقلّب
في الشؤون ـ ولله المثل الأعلى ـ : تقلّب الواحد في مراتب الأعداد ؛ لإظهار
أعيانها ، ولإظهار عينه من حيثها ، فأوجد الواحد العدد ، وفصّل العدد الواحد ،
بمعنى أنّ ظهوره في كلّ مرتبة ـ ممّا نسمّيه في حقّ الحقّ شأنا كما أخبر عن نفسه
سبحانه ـ يخالف ظهوره في المرتبة الأخرى ، ويتبع كلّ ظهور من حيثيّة كلّ شأن من
الأسماء والأوصاف والأحوال والأحكام بمقدار سعة دائرة ذلك الشأن وتقدّمه على غيره
من الشؤون.
وكلّ ما يرى ويدرك
ـ بأيّ نوع كان من أنواع الإدراك ـ فهو حقّ ظاهر بحسب شأن من
__________________
شؤونه القاضية
بتنوّعه وتعدّده ظاهرا ، من حيث المدارك التي هي أحكام تلك الشؤون مع كمال أحديّته
في نفسه ، أعني الأحديّة التي هي منبع لكلّ وحدة وكثرة ، بساطة وتركيب ، وظهور
وبطون ، فافهم.
وانظر إلى أحديّة
الصورة الجسميّة التي يدركها بصرك ، وكون الفواصل المتعدّدة لمطلق الصورة الجسميّة
أمورا غيبيّة غير مدركة ، كالمعنى الفاصل بين الظلّ والشمس ، والسواد والبياض ،
واللطيف والكثيف ، والصلب والرخو ، وكلّ برزخ بين أمرين مميّز بينهما يرى حكمه ظاهرا ، وهو غيب لا يظهر.
ألا وإن الفواصل
البرزخيّة هي الشؤون الإلهيّة ، وهي على قسمين : تابعة ، ومتبوعة. والمتبوعة على قسمين :
متبوعة تامّة الحيطة ، وغير تامّة.
فالتابعة أعيان
العالم. والمتبوعة ـ التي ليست تامّة الإحاطة ـ هي أجناس العالم وأصوله وأركانه ،
وإن شئت فسمّها الأسماء التالية التفصيلية وأنت صادق. والمتبوعة التامّة الحيطة
والحكم أسماء الحقّ وصفاته ، وفي التحقيق الأوضح فالجميع شؤونه وأسماء شؤونه
وأسماؤه من حيث هو ذو شأن أو ذو شؤون كما مرّ ، فلا تغلط واذكر.
فتسميته واحدا هي
باعتبار معقوليّة تعيّنه الأوّل بالحال الوجودي بالنسبة إليه إذ ذاك ، لا بالنسبة
إليه من حيث تعيّن ظهوره في شأن من شؤونه وبحسبه.
وتسميته ذاتا هي باعتبار ظهوره في حالة من الأحوال التي تستلزم تبعيّة الأحوال الباقية لها ، وأحواله وإن كان
ـ كما قلنا ـ بعضها تابعا وبعضها متبوعا ، وحاكما ومحكوما ، فإنّ كلّا منها من وجه
له الكلّ ، بل هو عينه.
[وتسميته «الله» هي باعتبار
تعيّنه في شأنه الحاكم فيه على شؤونه] القابلة به منه أحكامه وآثاره.
__________________
وتسميته «الرحمن»
عبارة عن انبساط وجوده المطلق على شؤونه الظاهرة بظهوره ؛ فإنّ الرحمة نفس الوجود.
والرحمن الحقّ من كونه وجودا منبسطا على كلّ ما ظهر به ومن حيث كونه أيضا باعتبار
وجوده له كمال القبول لكلّ حكم في كلّ وقت بحسب كلّ مرتبة وحاكم على كلّ حال.
وتسميته رحيما هي
من كونه مخصّصا ومخصّصا ؛ لأنّه خصّص بالرحمة العامّة كلّ موجود ، فعمّ تخصيصه
وظهوره سبحانه.
ومن حيث الحالة
المستلزمة الاستشراف على الأحكام المتّصلة من بعضها بالبعض تبعيّة ومتبوعيّة ،
وتأثيرا وتأثّرا كما قلنا ، واجتماعا وافتراقا ، بتناسب وتباين ، واتّحاد واشتراك
سمّي علما. وهو من تلك الحيثيّة وباعتبار كونه مدركا نفسه وما انطوت عليه في كلّ
حال وبحسبه سمّى نفسه عالما.
والسريان الذاتي
الشرطي من حيث التنزّه عن الغيبة والحجبة ، ودوام الإدراك المتعدّي حكمه إلى سائر
الشؤون يسمّى حياة ، وهو الحيّ بهذا الاعتبار.
والميل المتصل من
بعض الشؤون بسرّ الارتباط بشئون أخر بموجب حكم المناسبة الثابتة في البين المرجّحة
تغليب حكم بعض الشؤون على البعض ، وإظهار التخصيص الثابت في الحالة المسمّاة علما لتقدّم
ظهور بعض الشؤون على البعض يسمّى إرادة ، وهو من حيثها يكون مريدا.
والحالة التي من
حيثها يظهر أثره في أحواله بترتيب يقتضيه التخصيص المذكور والنسب المتفرّعة عن كلّ
حال منها تسمّى قدرة ، وهو من حيثها قادر.
و انتظم أمر الوجود وارتبط ، وزهق الباطل وسقط.
وها أنا قد فتحت
لك بابا لا يلجه ولا يطرقه إلّا النّدر من أهل العناية الكبرى ، فإن كنت ممّن
يستحقّ مثل هذا ، فلج وافتح بهذا المجمل مفصّله ، وكن بكلّيّتك لله «فمن كان لله
كان الله له»
__________________
وصل منه بلسان جمع الجمع
اعلم ، أنّ تقديم
الشيء على سواه ، وتصدير الأمور به يؤذن بتهمّم المقدّم لذلك الأمر ، المصدّر له
به ، فتقديم الحقّ ثناءه في صدر كلامه دليل على أمور منها : التهمّم به والتعريف
بمزيّته ؛ فإنّه المفتاح المشير إلى المقصد الغائي ، الذي هو عبارة عن الحال
الكلّي الأخير ، الذي يستقرّ عليه أمر الكلّ من حيث الجملة ، وإنّه ناتج من بين
معرفتهم التامّة بالحقّ وبكلّ ما يسمّى «سوى» وبين شهودهم الذاتي الخصوصي ،
المتفرّعين عن الهداية الخاصّة ، المحرّض على طلبها والمتكفّل بإنالتها طالبيها ،
لكن بعد حسن التوسّل بجزيل الذكر وجميل الثناء وتجريد التوحيد حال التوجّه
بالعبادة ، وكمال الاعتراف بالعجز والقصور والاستناد مع الإذعان. كلّ ذلك بمعرفة الاستحقاق وتعيّن موجبات الرغبة المنبّه عليها في (رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) وموجبات الرهبة المندرجة في (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) والتنبيه أيضا على أنّ من لم يتّسم بسمة الهداية المعنيّة
بحيث يسري حكمها في أحوال المهتدي وأفعاله ، وعاجل أمره وآجله ومآله ، حتى ينتهي
به الأمر إلى الاحتظاء بما حظي به الكمّل من ربّهم قبله ، أو السعداء مثله ، وإلّا
فهو بصدد الانصباغ بحكم الغضب ، والوقوع في مهواة الحيرة وبيداء التيه.
والغاية القصوى ما
سبق الإشارة إليه من حال الكمّل ؛ لأنّ السبب الأوّل في إيجاد العالم هو حبّ الحقّ أن يعرف و يعبد كما أخبر ، ويشهد كماله بظهوره ووجوده.
__________________
والمراتب
الوجوديّة والعلميّة إنّما تقوم وتدوم في كلّ زمان بالكامل المستناب والمستندب
لتكميل ذلك وحفظ نظامه في ذلك الزمان ، فلا جرم وقع الأمر كما هو عند من يعرفه.
وقد تكرّرت التنبيهات الإلهيّة على ذلك في الكتب المنزلة ، وبلسان الكمّل.
فمن ذلك قوله
سبحانه في التوراة : «يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي» ومثله قوله لموسى ـ
على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ : (وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي) وقوله لمجموع الكمّل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ، بعد التعديد والتفصيل غير مرّة ، ونحو هذا ممّا يطول
ذكره ، ولم يختلف فيه أحد من أهل الاستبصار.
ولمّا كان الثناء
من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه تعريفا للمثنى عليه ، ومتضمّنا دعوى المثني أنّه
عارف بمن يثني عليه من حيث هو مثنى عليه ، وكانت الحجّة البالغة لله ، أراد سبحانه
أن يظهر كمال الحجّة ـ الّتي بها كمال المعرفة المطلوبة ـ كتعلّق إرادته بإظهار
كمال باقي شؤونه ، فإنّ ثبوت معرفته بنفسه وبكلّ شيء عند نفسه يكون حجّة من حيث
كمال العلم ، وزوال التهمة ، لكن لا تكون بالغة إلّا إذا تمّ ظهورها في كلّ مرتبة
، وعند جميع من كان من أهل تلك المرتبة ، أو ظهر بها وفيها ، كظهورها ووضوحها في
نفس المبرهن الحقّ المحقّ. وتذكّر قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، وما ورد عنه صلىاللهعليهوآله من «أنّ الله لا يؤاخذ أحدا يوم القيامة حتى يعذر من نفسه»
يعني : حتى تتركّب حجّة
الله عليه ويفلج ، ومن ذلك قوله أيضا صلىاللهعليهوآله : «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك أرسل
الرسل ، وأنزل الكتب» و ، فافهم.
فقد عرّفتك في هذه
الخاتمة أشرف أسرار البسملة من حيث أصل الأسماء ، ثم عرّفتك سرّ «الحمد لله»
وتصدير الكلام العزيز بها.
__________________
وأمّا سرّ إضافة «الحمد»
إلى «الله» فهو من حيث إنّه أوّل التعيّنات المرتبيّة الجامعة ، وقد نبّهت عليه
منذ قريب.
وسرّ إضافة
الربوبيّة إلى الاسم «الله» هو تأنيس المخاطبين لما تعطيه حضرة الألوهيّة من الأحكام المتضادّة الظاهرة والمغيبة ، وما يلازمها من فرط جلال الهيبة والعظمة بخلاف الربوبيّة المستلزمة للشفقة ، وحسن الاشتمال
على المربوبين بالتغذية ، والتربية و ، الإصلاح ونحو ذلك.
وسرّ الشمول
بالإضافة هو لفتح باب مطامع الكلّ فيه إذا أطاعوا ، وليرهبوا أيضا بأجمعهم إذا
أفرطوا أو قصّروا ، للمعنى المدرج في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو المجازاة.
وسرّ إيّاك كما مر
، هو : أنّ المتعيّن من علمك فيك أوّلا هو في ثاني حال هدف أسهم إشاراتك ، ومقصد
تتعيّن عنده مراداتك ، وتستجلي فيه شؤونك كلّها ، وتفاصيل أحكام إرادتك ، فظهر
الفرع بصورة الأصل ، وهذا أمر إن عرفته عرفت الكلّ.
وسرّ (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هو عطف على الإشارة المتقدّمة بوجه يخالف الوجه الأوّل ،
كما مرّ بيانه ، وتصريح بما أجمل في باء البسملة من حكم الفقر ، وعدم الاستقلال ، والإقرار بالانقياد ، والتوجّه إليه ، والتعويل في
المهامّ عليه. و (اهْدِنَا) إلى آخر السورة هو طلب أدرج فيه سرّ المحاكاة من الفرع
للأصل ، وسيّما في المقصود الأوّل من الإيجاد ، الذي حاصله التعريف والتمييز المشار
إليه : «بأحببت أن أعرف» ، فافهم ؛ فإنّه لو لا الإيجاد ، لم يظهر تمييز مرتبة
الحدوث من القدم ، ولا مرتبة الوحدة ـ من حيث اشتمالها على الأحكام المتعدّدة
الكثيرة ـ من الوحدة الصرفة التي لا حكم يقيّدها ، ولا وصف يعيّنها ، ولا لسان
يوضّحها ويبيّنها ، وقد مرّ بيان ذلك في صدر الكتاب.
وأمّا سرّ
المغضوبيّة فهو نفس الانحرافات الظاهرة الصوريّة ، والباطنة الروحانيّة والمعنويّة
، المتعيّنة بين بداية أمر الوجود وغايته بسبب تداخل الأحكام والأحوال
__________________
المضافة إلى
الأسماء والأعيان ، وغلبة بعض تلك الأحكام للبعض غلبة تخرج جمعيّتها عن نقطة
الاعتدال الخصيص بتلك الجمعيّة أيّ جمعيّة كانت ، فافهم.
وقد عرفت سرّ
البدايات والغايات ، وأنّ الحقّ هو الأوّل والاخر ، وأنّ شؤونه هي المتعيّنة في
البين فلا تنس.
ولمّا كانت
الفاتحة أمّ الكتاب ـ أي أصله ـ وقد عرّفتك في أوّل الكتاب مرتبتها ، وأنّها
الأنموذج الشريف الأخير ، وكان غيب الذات من حيث اللاتعيّن ـ حال لا حكم ولا صفة
ولا اسم ـ متقدّما على جميع التعيّنات الظاهرة والباطنة ، العلميّة والوجوديّة ،
وكان مصير الأمور كلّها ومنتهاها إلى ما تعيّنت منه أوّلا ، والحقّ هو الأوّل ،
اقتضى الأمر السرّ العدلي الكمالي العيني ختم الفاتحة بلفظ يدلّ على الحيرة التي كان آخر مراتبها من
حيث حال المتّصفين بها متّصلا بغيب الذات ، ولهذا كان منتهى الأكابر ؛ فإنّ حيرتهم في الله هي في أعلى خصوصيّات ذاته من ذاته ،
بعد تعدّي سائر مراتب أسمائه وصفاته.
وكما كان أوّل
الحضرات الوجوديّة المتعيّنة من غيب الذات هي حضرة التهيّم ، وفيه تعيّن المهيّمون المستغرقون بما هم فيه عن الشعور
بأنفسهم ، وبمن هيّمهم شهوده وفرط قربه ، وبالسوى كان الآخر نظير الأوّل ، كما
بيّنّا ، فإنّ الخاتمة عين السابقة ، فختم سبحانه أحوال الصفوة من عباده بما بدأ
به ، وإن كان بين أهل الحيرة الأخيرة هنا وبين من هناك فرقان عزيز لا يعرفه إلّا
النّدر من الأكابر وقد نبّهتك عليه تعريضا وتمثيلا فتذكّر.
وكذلك ختم سبحانه
شؤونه مع خلقه من الوجه الكلّي بالحال الذي بدأهم بحكمه وهو الرضا ؛ فإنّه لمّا
كانت الرحمة نفس الوجود ـ كما بيّنّا ـ ، كان وصفه الذاتي هو الرضا ، ولهذا قابله
الغضب ، ووقعت بينهما المجاراة الشريفة التي ذكرها سبحانه ، ثم سبقت الرحمة الغضب ،
وغلبته بالرضا الذي هو وصفها الذاتي ؛ لأنّه سبحانه لو لم يرض لنفسه من نفسه
الإيجاد ، و لأعيان الممكنات الاتّصاف بالوجود الذي سمح به ورضيه لهم ، ما وجد
__________________
ما وجد. وكون
الرضا له مراتب كثيرة لا ينافي ما ذكرنا ، فصورة الرضا العامّة نفس الإيجاد وبذل الوجود لكلّ موجود ، ثم
تعيّنت خصوصيّاته بحسب أحكامه ، وعددها مائة عدد ، عدد الرحمات ، فافهم.
فلا جرم كان آخر
أحكامه الكلّيّة في السعداء من خلقه ـ كما أخبر ـ رضاه عنهم ، فلا يسخط عليهم أبدا
، فختم تعريفه لهم من الوجه الكلّي بما تعيّن لهم منه آخرا ، وهو المتعيّن أوّلا ، والسلام.
وختم آخر أحوالهم ـ
من حيث هم ـ بالدعاء الذي هو السؤال ، وهو كان أوّل أحوالهم ؛ لأنّ أوّل أمر
انصبغوا به حكم سؤال الحقّ نفسه بنفسه ، وتعلّق طلبه بكمالي الظهور والإظهار ، فسرى حكم ذلك السؤال في حقائقهم ؛
لكونهم إذ ذاك في عين القرب الذي هو عبارة من ارتسامهم في نفسه سبحانه ، فسألوا الإيجاد بألسنة
الاستعدادات من حيث حقائقهم ، فكانت إجابة الحقّ لهم إيجادهم ، كما نبّهتك عليه في
صدر الكتاب عند الكلام على سرّ البدء ، فختمت أحوالهم آخرا بالسؤال ، وكان ذلك
بصيغة (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ، كما أخبر سبحانه بقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ لأنّ المقصود من السؤال الأوّل المذكور إنّما ظهر كماله
حينئذ ، لا جرم تعيّن الحمد ، كالآكل والشارب ونحوهما إنّما شرع له التحميد إذا
قضى وطره ممّا يباشره ، فافهم.
وختم سبحانه
القرآن ـ العزيز المنزل ـ بآية الميراث ؛ لأنّ آخر الأسماء حكما ـ وخصوصا
في الدنيا ـ الاسم الوارث (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) .
وسأمثّل لك في سرّ
الميراث مثالا إن أمعنت النظر فيه أشرفت على علم كبير عزيز جدّا ، وذلك أنّ أشعّة
الشمس وكلّ صورة نيّرة لا تنبسط إلّا إذا قابلها جسم كثيف ، وفي التحقيق الأوضح لو
لم يكن ثمّة جسم كثيف لم يظهر للشمس نور منبسط ، فالشعاع تعيّن بين
__________________
الشمس وبين الصورة
الكثيفة ، فكلّما كثرت ظهر انتشار الشعاع وانبسط ، وكلّما قلّت تقلّص ذلك الشعاع في الأمر الذي انتشر منه ،
فتقلّصه بالوصف المتحصّل له من كلّ ما انبسط عليه هو عودة الورث ، نوره المنبسط
عنه أوّلا متزايد الحسن مما استفاده من كلّ ما اقترن به ، فانطبع فيه ، كما مرّ في
ماء الورد ، وذهب ما لم يكن ثابتا لذاته ، ولا مرادا لعينه ، بل كان ثباته بالنور
المنبسط عليه ، والأمر الساري فيه الثابت آخرا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .
وقد عرّفتك في صدر
الكتاب : أنّ الكمال الذاتي وإن لم يزل فأكمليّته إنّما ظهرت بالكمال الأسمائي ،
والأسماء إنّما تعيّنت بالأعيان علما ووجودا ، فلو لا الأعيان لم يكن الكمال
الأسمائي المرتبي ، كما أنّه لو لا الحقّ ، لم يحصل للأعيان الكمال الوجودي ، فكلّ
وارث ، وهذان الحالان هما الموروثان آخرا ، والمتماثلان أوّلا (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) .
والأمر في أحد
الجانبين قد استبان بما ذكرنا ، وفي الجانب الآخر عبارة عن الشأن الذي أعقبه
الاستخلاف بعد كمال الحضور والمباشرة للتصرّف والإيجاد والاستخلاف ، فمع البطون لا
محالة ، ومدار الورث وما ذكرنا على البطون والظهور ، والغيبة الأخيرة التي هي من
لوازم الأكمليّة بالاستهلاك الأتمّ في الحقّ تقضي باستخلاف الخليفة ربّه المستخلف
له ، وتوكيله التوكيل الأتمّ ، وقد مرّ حديثهما من قبل ، فتذكّر.
وأمّا حكم ما عدا
الكمّل من الخلفاء في الورث فبمقدار حظّهم في الخلافة ، وبحسب نسبتهم إليها وكلّ
ذو حظّ منها ونصيب وإن قلّ ، فاستحضر ما أسلفت في ذلك ، وافهم ، ومن الغرائب أن
تفهم ما نريد ، والسلام.
واعلم ، أنّ البحر
يرث الأنهار ، والأرض ترث ما انفصل منها بوجه ، وكذا الهواء والنار مع الأوليين يرثون ما تولّد عنهم ، والعلويات ترث القوى المنبثّة منها
في القوابل ، وورث
__________________
كلّ وارث ، فبحسب
أصالته وكلّيّته بالنسبة إلى ما تفرّع منه ، والله ـ من حيث إنّه الجامع والأصل ـ
خير الوارثين بالنسبة إلى المواريث والإرث الأسمائي ، فتنبّه.
ثم نقول : إنّ
الله ختم العبادة الصفاتيّة بالسجود الواقع في الحشر من النبي صلىاللهعليهوآله حال فتح باب الشفاعة ، وممّن شاء من الشفعاء ، والذين يؤذن
لهم في السجود ، كما ثبت في الشريعة ، وليس بعد تلك السجدة إلّا العبادة الذاتيّة
التي لا يقترن معها أمر ولا تكليف.
وختم إتيانه بصفة
ظاهريّته من حضرة غيبه الذاتي ، وتوجّهه إلى كافّة خلقه بإتيانه في ظلل من الغمام يوم القيامة للفصل والقضاء ، فإنّه كإتيانه
الأوّل من غيب هويّته في العماء للظهور والإظهار ، وفصل الأعيان القابلة للوجود بالرحمة
الشاملة من الأعيان الباقية في حضرة الثبوت ، والحكم على كلّ منها بما يستحقّه
لذاتها بموجب استعداداتها وعلمه بها (كَفى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) فافهم ، فقد كشف لك ما لا ينكشف إلّا للنّدر.
وختم القرآن العزيز
من حيث الإنزال بسورة «براءة» المميّزة بين المقبولين والمردودين ؛ لأنّ آخر حكم
يتنزّل هو التمييز ، ولهذا كان يوم القيامة يوم الفصل ، فيميّز الله فيه الخبيث من
الطيّب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعا ، فيجعله في جهنّم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وختم أحكام الشرائع بشريعتنا كما ختم الأنبياء بنبيّنا صلىاللهعليهوآله.
وختم حكم شريعتنا
بطلوع الشمس من مغربها ، نظير طلوع الروح الحيواني وتقلّص نور الروح الإلهي من
مغرب البدن ، فإنّ نسبة الشمس إلى الصورة العاميّة الكونيّة نسبة الروح الحيواني إلى أبداننا ، ونسبة القلم
الأعلى من حيث الإنسان الكامل نسبة الروح الإلهي المدبّر لنشأتنا ، فكما أنّه لا اعتبار لإيمان أحد بعد طلوع الشمس من
مغربها ، ولا لعلمه ، كما قال سبحانه : (لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) وفسّر ذلك نبيّه صلىاللهعليهوآله بهذا ، كذلك لا اعتبار لعمل حال إعراض روح الإنسان
__________________
عن تدبير بدنه ،
ومفارقة روحه الحيواني ، كما قال صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» ، فافهم.
وختم الخلافة
الظاهرة في هذه الأمّة عن النبي صلىاللهعليهوآله بالمهديّ عليهالسلام.
وختم مطلق الخلافة
عن الله تعالى بعيسى بن مريم على نبيّنا وعليهالسلام.
وختم الولاية
المحمديّة بمن تحقّق بالبرزخيّة الثابتة بين الذات والألوهيّة ؛ لأنّ ختميّة
النبوّة تختصّ بحضرة الألوهيّة ، ولها السيادة في عين العبوديّة ، ولختميّة
الولاية العامّة سرّ باطن ربوبيّة العالمين بالملك والتربية والإصلاع وغير ذلك ،
ونسبته إلى الصورة الوجوديّة نسبة النفس ، فافهم. فكلّ ممّن ذكرنا ـ صورة مرتبة الإلهيّة من أمّهات المراتب.
وختم الكمّل من
عبيد الاختصاص الوارثين بعبد له جمع الجمع ، لا جامع بعده مثله ولا حائز لكلّ المواريث غيره ، وله كمال الآخريّة المستوعبة كلّ حكم
دون سواه ، فلهذا لا يعرفه غير مولاه.
وختم التجلّيات ـ الحاصلة
للسائرين ـ بالتجلّي الذاتي الذي انختم بظهوره أيضا سير السائرين إلى الله.
وختم الحجّ ـ الذي
هو نظيره ـ بالطواف حول المقام الذي كان وجهة السائرين.
ولكلّ مقام من
المقامات الكلّيّة ختم يخصّه الله ، وسرّ يكمّله به ويبديه وينصّه ، ولو لا التطويل ، لعيّنت لك أمّهات
المقامات ، وبمن ختمت أو تختم ، ولكن قد أوردت أنموذجا من ذلك للتنبيه والتذكير وفيه غنية للألبّاء من أكابر المشاركين وما شاء الله كتمه
، فلا حيلة في إظهاره (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) .
__________________
وصل في وصل يتضمّن نبذا من
الأسرار الشرعيّة الأصليّة والقرآنيّة
اعلم ، أنّ خطاب
الحقّ عباده بألسنة الشرائع ـ وسيّما الخطاب المختصّ بشريعتنا ـ ينقسم بنحو من
القسمة إلى سبعة أقسام كلّيّة تحت كلّ قسم منها أقسام.
فالقسم الأوّل من
السبعة يتضمّن الإنباء عن الحقائق ، ويبيّن المضارّ الجليّة والخفيّة والمنافع ، وينقسم إلى قسمين :
قسم تستقلّ العقول بإدراكه ابتداء ، أو بعد تنبيه وتذكير ، وقسم لا تستقلّ العقول بإدراكه ، بل تفتقر في إدراكه إلى نور إلهي كاشف.
والمراد من ذكر ما
هذا شأنه تنبيه النفوس المستعدّة وإمداد الهمم للتشوّق إلى نيله ، والسعي في
تحصيله ، كيلا تقنع بالحاصل لها في أوّل وهلة ، فتظنّه الغاية ، وأن ليس وراءه أمر
آخر ، فتفتر وتتقاعد عن طلب المزيد.
وربما وقع الإخبار
عن بعض ما يتضمّنه هذا القسم بألفاظ توهم بعدا وعظمة مفرطة ، مع أنّ المخبر عنه قد
يكون مشهودا حاضرا ولا يشعر به ، ولا يعرف أنّه المسمّى بذلك الاسم ، أو الموصوف
بتلك العظمة.
والسرّ فيه إبقاء
حرمة الأسرار لتوفّر الرغبات إلى التحقّق بمعرفتها ، ولا تفتر عن الجدّ في الطلب
الذي ربما أفاد بعون الله الاطّلاع عليها وعلى غيرها ، بل على الأصل الذي قرنت
السعادة بمعرفته.
__________________
فإنّ من جملة فقه
النفوس أنّه متى عرفت شيئا من هذا النوع من حيث فرعيّته قبل التحقّق بمعرفة أصله ،
سقطت عظمة ذلك الأمر عندها ، وازدرته بعد ذلك ، وربما قاست بقيّة ما سمعته من
أسرار الحقّ بصفة التعظيم على ما تنبّهت له ، فتفتر بالكلّيّة وتهلك ، بل ربما تقف عند الفترة ،
وربما عادت مستحقرة شعائر الله سبحانه ، مستخفّة بحرماته ، بخلاف من سمعها بسمع الإيمان الظاهر ، واستحضرها بصفة التعظيم إلى
أن يطلعه الحقّ عليها ، فيعرفها من أصلها ، فيعظّمها أكثر من تعظيم المؤمن المحجوب
بما لا نسبة ، فإنّ هذا التعظيم نتيجة العلم الذي لا يزول ، والتعظيم
الأوّل تعظيم وهمي بصدد الزوال ، فكان الشارع ومن تحقّق بتبعيّته ، وشاركه في أصل مأخذه لو صرّح بمثل هذا كان سببا في شقاء
المستحقر المزدري ، وحاشا من بعث رحمة للعالمين أن يكون كذلك.
وأصحاب الآفة
المذكورة هم أصحاب الفطرة البتراء ، واللوائح الأولى الذين لم يبقوا على طهارة الإيمان الصحيح ، ولا فازوا بحقيقة الشهود
الذاتي والكشف الصريح ، فإنّ أهل الكشف المحقّق والشهود يعظّمون الأشياء ، ويرونها
شعائر الحقّ ومظاهره وصور أسمائه ، والمضطرّين وقفوا عند أسماء الأسماء لم يعرفوا حقائق الأسماء ولا
المسمّى بها ، فتعظيمهم وسمي وهمي يزيله الحسّ وفقه النفس فاعتبر الشارع صلىاللهعليهوآله ما ذكرنا امدادا للهمم ، وتحريضا على طلب المزيد بالتشويق
المدرج فيما ذكرنا ، وليعلم الألبّاء كمال قوّته في التبليغ حيث لم يكتم ولم يوضح
، بل عبّر عن الأسرار بعبارة تامّة مؤدّية للمقصود بيانه بالنسبة إلى الفطن اللبيب
والتسمية المطابقة مع السلامة من بشاعة التصريح ، وآفاته وعدم تفطّن
الغبيّ المراد ، فجمع بين الكشف والكتم ؛ ليرتقي الضعيف النفس بالتشويق إلى حضرة
القدس ، وليزداد اللبيب استبصارا ، فجزاه الله وإخوانه عنّا وعن سائر المسترشدين
أفضل الجزاء ، آمين.
__________________
والقسم الآخر ما
هو ضرب مثال لأمر آخر يعلمه بالإرشاد الإلهي أهل النهي وهو على ضربين أيضا :
الضرب الواحد هو
ما كان المثال نفسه فيه مرادا بالقصد الأوّل أيضا كالأمر الذي لأجله وقع التمثيل ،
وذلك لشرف المثال وتضمّنه الفوائد العزيزة.
والضرب الآخر هو
أن يكون المراد بالقصد الأوّل ما لأجله ضرب المثال وقصد به التنبيه عليه. وأمّا ما
يتضمّن المثال من الفوائد فيقع مرادا بالقصد الثاني لا بالقصد الأوّل.
ولو لا الخوف من
العقول الضعيفة ، ورعاية الحكمة التي راعاها الشارع ويلزمنا الوقوف عندها ، لذكرنا
من كلّ قسم مسألة شرعيّة ، ونبّهنا على أصلها في الجناب الإلهى ، لكن نذكر أنموذجا
يكتفي به اللبيب ، وهو أنّ المراد بالقصد الأوّل ينقسم إلى قسمين : مطلق ، ومقيّد
:
فالمطلق الكمال
المتحصّل من تكميل مرتبة العلم والوجود ، وقد نبّهت عليه غير مرّة ، ومنذ قريب
أيضا.
والمقيّد في كلّ
زمان وعصر كامل ذلك العصر ، وما سواه مراد له وواقع بالقصد الثاني من تلك الحيثيّة
وإن كان واقعا باعتبار آخر بالقصد الأوّل ؛ لما أشرنا إليه ، ويتلو هذا ـ أعني
المراد بالقصد الأوّل ـ فيما ذكرنا أوائل المخاطبين ؛ فإنّهم أوّل هدف تعيّن لسهام الأحكام
الشرعيّة وخصوصا من كان سببا لنزول حكم مشروع لم يقصد الشارع تقريره ابتداء ،
فافهم ترشد إن شاء الله تعالى.
والقسم الآخر ما
قصدت به مصلحة العالم من حفظه ، وصلاح حال أهله آجلا كالعلوم ، والأعمال النافعة
في الدنيا والآخرة ، وعند الله ومن شاء من عباده نفعا يعمّ صور المنتفعين وأرواحهم
، وعاجلا كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) ، وكأخذ الزكاة من الأغنياء وردّها على الفقراء ، وترك قتال الرهبان لما لم يتعلّق بذلك مصلحة ،
وأخذ الجزية وغير ذلك ممّا ذكر في سرّ النبوّة والسبل والفوائد المتعيّنة منها .
__________________
والقسم السابع هو
ما أريد من الجميع بالقصد المطلق الأوّل الذي ذكرته آنفا ، وله سراية في جميع الأقسام ، ومن تحقّق
بميراث المصطفى صلىاللهعليهوآله ، وذاق سرّ التنزّل القرآني من أمّ الكتاب الأكبر بالذوق
الاختصاصي عرف أسرار الكتاب العزيز ، وانحصار أقسامه الكلّيّة فيما ذكرناه ، ورأى
أنّ فيه التحقّق التامّ ، وفيه ما قصد به رعاية حال المخاطبين وفهومهم ، وما تواطؤوا عليه ، وفيه
أيضا ما روعيت به حكمة الموطن والزمان والمكان ، وحال المخاطبين الأوّل ، لحرمة
المرتبة الأوّليّة كالسدر المخضود ، والطلح المنضود ، والماء المسكوب ، والظلّ
الممدود وغير ذلك مما تكرّر ذكره في الكتاب والسّنة ، ولا حظّ لأكثر الأمّة من
ظاهر ذلك في الترغيب وغيره ، ومثله وأساور من فضّة للرجال ، وأنّه تبلغ الحلية من
المؤمن حيث يبلغ الوضوء ، فافهم وتذكّر.
ولنذكر الآن
أمّهات الأحكام الشرعيّة الكلّيّة فنقول : الحلال على قسمين : مطلق ، ومقيّد ،
فالحلال المطلق هو الوجود ؛ لأنّه لم يحجر على قابل له أصلا ، والمقيّد من وجه هو كلّ أمر يباشره
الإنسان المكلّف ، أو يتقلّب فيه بصفة الفعل أو القول أو الحال ، مما لم يحجر عليه
هنا ، ولم يتوجّه عليه المطالبة فيما بعد أو العقوبة عاجلا وآجلا.
والحرام حرامان :
مطلق وهو الإحاطة بكنه الحقّ بحيث أن يشهد ويعرف كشهود نفسه بنفسه وكمعرفته بها. والحرام المقيّد من وجه كلّ ما
لم يتغيّر حكم الحقّ فيه لتغيّر حال المكلّف ، ولازمه المطالبة و المؤاخذة كالشرك وكنكاح الوالدة والولد ونحو ذلك ؛ فإنّ
هذا النوع ليس كتحريم الميتة ومثلها ؛ فإنّه متى انصبغ المكلّف بالحالة
الاضطراريّة عادة حلال فهذا النوع من الحكم يتنوّع بتنوّع حال المكلّف ، فهو
يعيّنه أوّلا بحالة وينسخه ثانيا بحالة أخرى ، وأكثر الأحكام المشروعة هذا شأنها ولا حاجة إلى التعديد
والتطويل ، وما سوى ما نذكره فجزئيّات بالنسبة إلى هذه ، فافهم.
__________________
والمباح أيضا مطلق
ومقيّد ، فالمطلق كالتنفّس والتحيّز والحركة من حيث الجملة ، والمقيّد كشرب الماء
والتغذّي بما لا يستغني البدن عنه ، وكذلك ضرورة التدثّر والاستكنان وغيرهما مما
يحرس به الإنسان نفسه ضرورة.
والمكروه هو عبارة
عن التغليب في ذكر كلّ أمر ممتزج من خير وشرّ وكلّ متشابه لأحد الجانبين ميلا
بهوى ، أو عادة أو استحسان عقلي غير مستند إلى نصّ صريح مشروع. فإنّ الحزم
والاحتياط المرعيّ في التقوى يقضي بالاحتراز منه لما يتوقّع من حصول ضرر خفي
بالنسبة إلى الأكثرين بسببه ، وسلامة البعض نادرا من ضرره للعناية أو لخاصّيّة
الإكسير العلمي والحالي لا يحتجّ بها كحال أهل الأمزجة والنفوس القوية مع الأغذية
الرديّة المضرّة من السمومات وغيرها ، وكالطبيب المتدارك ضرر الأغذية الرديّة
وغيرها بما يردع ضررها من معجون وترياق وغير ذلك ، ولسان هذا المقام فيما نحن
بصدده قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله صلىاللهعليهوآله : «أتبع السيّئة بالحسنة تمحها» فاعلم ذلك.
والمندوب أصله كلّ
أمر هو مظنّة للنفع من وجه ضعيف أو خفيّ ؛ لكونه ممتزجا ممّا لا ضرر فيه ، وما
يرجى نفعه غالبا وممّا عساه يكون بليغ النفع أحيانا بالنسبة إلى البعض ، وكأنّه
عكس المكروه. وقد نبّه رسول الله صلىاللهعليهوآله على قاعدة جامعة بين الأمرين فقال : «إنّ الرجل ليتكلّم
بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها في النار سبعين خريفا ، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من
رضوان الله ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب بها في علّيّين ـ وفي أخرى ـ فيكتب
الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه» .
وأمّا سرّ الناسخ
والمنسوخ : فالناسخ هو حكم الاسم الثابت الدولة الذي إذا تعيّنت سلطنته في شريعة ، دامت الشريعة دوام سلطنة ذلك الاسم ويستمرّ
ترجمتها عن أحوال الأعيان التي تحويها دائرته.
__________________
والمنسوخ كلّ لسان
وحكم متعيّن من الحقّ لطائفة خاصّة من حيث سلطنة الاسم يكون فلكه أصغر من فلك
الشريعة يظهر حكمه فيها ، وقد قدّر الحقّ انتهاء حكم ذلك الاسم قبل
انتهاء دولة الشريعة التي تعيّن فيها ذلك الحكم والزمان ، فإذا ظهر سلطان ذلك الاسم المقابل للاسم الحاكم في الأمر المقابل للنسخ مع
اندراجهما في حيطة الاسم الذي تستند إليه تلك الشريعة ، اندرج حكم الاسم المتقدّم من الاسمين
المخاطبين في الاسم الآخر المتأخّر ، وظهرت سلطنة المتأخّر ودامت دوام دولته كما
نبّه الحقّ على أصالة ذلك على لسان الرسول صلىاللهعليهوآله بقوله «إنّ رحمتي
تغلب غضبي» .
والمحكم هو البيّن
بنفسه وما يقتضيه الحقّ لكونه إلها ، وما يقتضيه الكون ، لكونه مألوها.
والمتشابه ما يصحّ
إضافته إلى الحقّ من وجه وإلى الكون من وجه آخر ، ويختلف الحكم باختلاف النسب
والإضافات ، فافهم ، فقد نبّهتك على أصول الأحكام المشروعة في الحضرات الإلهيّة
وعرّفتك بسرّ خطاب الحقّ عباده بألسنة الشرائع وبلسان شريعتنا المهيمنة على كلّ شريعة ، وذوق كلّ نبي ، فاعرف قدر ما نبّهت عليه ،
وقدر النبيّ الذي انتسبت إليه ، وقم بحقوق شريعته ، فإنّه من قام بحقوق الشريعة
المحمديّة القيام التامّ ، واستعمله الحقّ في وفاء آدابها ورعاية ما جاءت به على ما ينبغي ، جلّى له
الحقّ ما استبطنه من الأسرار في جميع الشرائع المتقدّمة ، وتحقّق بها وبسرّ أمر
الله فيها ، فحكم بها ، وظهر بأيّ حالة ووصف شاء من أوصافها مع عدم خروجه من حكم الشريعة المحمديّة المستوعبة المحيطة ، فإن ارتقى من آدابه وآداب شريعته الظاهرة إلى
آدابه وآدابها الباطنة ، والتحم بروحانيّته ، والتحق بالصفوة من عترته والكمّل من
إخوانه ، استطعم ما استطعموا ، وحكم في الأشياء وبها بما به حكموا ، و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
__________________
وصل من جوامع الحكم المناسبة
لأن تكون في خاتمة الكتاب
اعلم ، أنّ من
الأشياء ما يحصى علما من حيث أحكامه ومراتبه وصفاته ، ولا يشهد ولا يرى. ومن
الأشياء ما يشهد ويرى من حيث هو قابل للشهود ، ومن حيث تعلّقه وتقيّده بشئونه
المسمّاة باعتبار صفات وباعتبار أسماء ومراتب ، ونحو ذلك. هذا مع تعذّر الإحاطة به
، والحكم بالحصر عليه ، وحظّنا من الحقّ هذا القسم ، ولقد أحسن بعض التراجم بقوله
:
وجد العيان ساك و تحقيقا ولم
|
|
تحظ العقول
بكنهه تصحيحا
|
واعلم ، أنّ كلّ
ما له عدّة وجوه باعتبار شؤونه المختلفة و غير ذلك ، فإنّ التفاضل في معرفته إنّما يكون بحسب شرف
الوجوه وعلوّها أو نزولها بالنسبة عن الدرجة التي يثبت بها الشرف ، أو بكثرة
الوجوه والنسب والأحكام التفصيلية بمعنى أنّ علم زيد ـ مثلا ـ يتعلّق بخمسة أوجه ، وعلم بكر
بعشرة ، وأمّا في معرفة الحقيقة من حيث هي في نفس الأمر فلا يقع فيها تفاضل ولا
تفاوت بين العارفين بها أصلا إلّا إذا كان من معرفة الحقّ ، فإنّه ليس كذلك ؛ إذ المدرك من الحقّ
علما وشهودا ليس إلّا ما تعيّن منه ، وتقيّد بحسب الأعيان ، أو قل بحسب شؤونه
الظاهر بعضها للبعض ، أو التي هو بها أو بحسبها ، وأدرك منها البعض البعض ،
__________________
وأدركته من حيثها ، وهذا القدر هو المتعيّن من الغيب الذي لا يتعيّن لنفسه ، ولا يتعيّن فيه لنفسه شيء ،
والتعيّن دائم البروز من الغيب غير المتعيّن ؛ لأنّه لا نهاية للممكنات القابلة
لتجلّيه ، والمعيّنة له ، أو قل : لشئونه التي يتعيّن ويتنوّع ظهوره فيها ، والحقّ
تابع للمجلى وصفته ومرتبته كما تقرّر ، فافهم وأمعن التأمّل ، وانظر ما دسست لك في
هذه الكلمات ، تر العجب.
__________________
وصل
اعلم ، أنّه لمّا
يسّر الله تكميل هذا الكتاب ـ المودع فيه من جوامع الحكم ولطائف الكلم ما لا
يستخلص المقصود منه إلّا من انتظم في سلك أكابر المحقّقين ، فضلا عن الاطّلاع على
معدنه ومنبعه ومكتنزه ومشرعه ـ ، تعيّن للعبد أن يشكر ربّه بلسان عبوديّته .
وأعلى مراتب الشكر
معرفة حقيقته وكون الحقّ هو المولى المنعم لا سواه ، فأنا أنبّه على سرّ الشكر
وموجباته بتنبيه عامّ الحكم في جميع الصفات ؛ مشيرا إلى الذوق الكمالي ، ثم أضرع
إلى ربّي بما أظهر بي وعلّم وأوضح وفهّم. فنقول :
الشكر : هو من
نعوت الحقّ سبحانه ؛ فإنّه الشكور ، ويتعيّن به ـ أي بالشكر ـ التعريف والثناء
المقيّد ، وله موجبان : أحدهما : النعمة الواصلة من عين المنّة ابتداء ، ومن حيث
ملاحظة سرّ (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) والآخر الإحسان الوارد في مقابلة الصبر الظاهر والواصل
لامتحان العبد ، واستخلاص زبد نشأته بمخضات الشؤون التي تقلّب فيها. وهذا الإحسان هو ثمرة شكر الحقّ
عبده يثمر في العبد شكرا آخر يستوجب به العبد المزيد ، فلا يزال الأمر دائرا أبدا بين المرتبة الإلهيّة
والعبديّة ، حتى تكمل حقيقة الشكر بظهور أحكامها كلّها في مقام العبد بهذا التردّد
، والمخض الواقع على النحو المذكور ، فيظهر حال الكمال العبدي
والوصفي بصورة الكمال الإلهي.
__________________
وهكذا الأمر في
كلّ وصف وحال يضاف إلى الحقّ وإلى العبد على الوجه الذي يسمّى اشتراكا في مقام
الجمع والسوى ، وفي مقام الحجاب بالنسبة إلى الكون ، فإنّ الصفة تتردّد بين الرتبة
الربوبيّة ، والكونيّة تبدأ من حضرة الحقّ وجودا ، ومن حضرة الكون تعيّنا ، وهي
طاهرة مقدّسة مطلقة القبول وقد تعيّنت أولا بحكم العين في الكون ، وليس إذ ذاك من العين إلّا نفس التعيّن.
فإذا دخلت الوجود
الكوني وقعت في دائرة المغالبة بين حكم طهارتها الأصليّة وبين الانصباغ الذي تقتضيها الأحكام الكونيّة ، من حيث حقائقها المختلفة أخذا وردّا ،
وتأثيرا وتأثّرا ، وقيدا وإطلاقا ببطون وظهور ، فلا تزال كذلك إلى أن تكمل تلك الصفة الإلهيّة بظهور أثرها في الطور
والمقام الإنساني الذي هو المجلى المقصود ، ويستفيد الإنسان أيضا من حيث تلك الصفة كمالا حاليا
وصفيّا يتّحد به ويترقّى إلى الطور الإلهي ، الذي هو حضرة أحديّة الجمع ، فإذا ظهر
سرّ الكمال من حيث كلّ اسم وصفة وحال ومظهر ومرتبة وزمان وموطن في المقامين : الإلهي
، والكوني ، وتحقّق العبد بحكم الطورين : الإطلاق من حيث حضرة الحقّ ، والتعيّنات
من حيث الرتبة العبدية ، فانطلق العبد في قيد ، وتقيّد الحقّ في إطلاق ، فقد ظهر
الكامل الجامع المقصود ، ونعم الرفد المرفود ، والمقام المحمود.
__________________
والثناء الذي به الختام
اللهمّ إنّك قد
علمت وعلّمت أنّ الثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه تعريف للمثنى عليه ، فإمّا
من حيث الذات أو الصفات أو الأحوال أو المجموع ، وظهور كلّ ذلك أو بعضه بحسب ما
يليق بجلالك منّا متعذّر إلّا بك ؛ لأنّك غير معلوم لغيرك كما تعلم نفسك ، فإن
أصبنا في أمر من تعريف أو غيره فأنت المصيب فيما أبديته لنا من صور مدحك وحقائق ثنائك وأحكام شؤونك وأسمائك ونحو ذلك ،
والمظهر ما اخترت ظهوره من أحوال ذاتك وملابس بقائك. وإن أخطأنا أو قصرنا فلسنا
الملومين حيث رشحنا بما انطوينا عليه. وما أدع فينا بموجب استعدادنا ومبلغ علمنا
وبحسب زعمنا : إنّما نثبته لك أو ننفيه عنك هو كمال لائق بك ، أو أمر صالح نسبته
إليك.
اللهمّ فلك الحمد
الجامع لكمال المحامد كلّها ، المطلق عن قيود النعوت والأحكام والتصوّرات ، حسب ما ترضاه لنفسك منك
وممّن اخترت ظهور ثنائك به ، أو تكميله بما أظهرت به وله ، على ما أصبنا من
الأحكام والتعريفات المضافة في ظاهر المدارك منّا وبنا إليك.
ولك الحمد أيضا
على ما قبلنا منك من حيث إقامتك لنا في مقام القبول منك ولك العقبى ، ومنك نرجو
العفو في مقام الأدب التامّ وبلسانه عمّا أخللنا من واجب حقّ عظمتك وجلالك عجزا
وقصورا عن الإحاطة بكنهك ، والاطّلاع على سرّك ، والاستشراف على
__________________
أمرك ؛ إذ لا نعلم
من حيث إضافة العلم وغيره من الأوصاف إلينا ، ولا نستطيع حالة التعريف الحمد
والثناء ـ الذي هذا لسانه ـ أكثر مما ظهر بنا.
فإن ازددنا سعة
وحيطة واستشرافا (ظهرت منّا وبنا ؛ إذ ما من كوامن الزيادات إلّا ما شئت ظهوره) ، ولك أوّل الأمر وآخره ، وباطنه المجمل وظاهره ، وإن اتّصفنا
بعد بالحصر ووقفنا ، فلنا النهاية لا لك ، إلّا من حيث نحن ، ولا غرو ؛ إذ جملة ما اطّلعنا عليه أنّه ما من معلوم تعيّنت صورته تماما في
علمك إلّا ولا بدّ أن يظهر حكمه بك وفي حضرتك ، ومن جملة ذلك ظهور معنى النهاية
وثبوتها لموصوف مّا بها ، وحيث لم تجسر العقول على نسبته إليك لجلالك ، فنحن له أهل ؛ إذ لا ثالث ، فلا عتب ، ولنا
العذر أيضا إن نحن ظهرنا بما لا يصحّ نسبته لغيرنا ، وهذا عذرنا وحالنا ، مع كلّ
ما يجزي عليه لسان ذمّ ، ويوسم بالنقص من حيث الاسم والوصف ، ومع ذلك كلّه فمنّا الإقرار بألسنة المراتب
والأحوال والأسرار ، بل لنا العلم بما علّمتنا ، والحكم أنّ الحجّة البالغة لك على من جعلته سواك في كلّ
موطن ومقام ؛ إذ لا شيء لشيء منك إلّا ما أضفته لتكميل مراتب ظهوراتك ،
وبسط أنوار تجلّياتك ، بتعيّنات مراداتك ، لا أنّ أحدا منّا يستحقّ دونك إضافة شيء
إليه إضافة حقيقيّة بنسبة جزئيّة أو كلّيّه.
وكيف يصحّ ذلك
والأمر كلّه لك؟! بل أنت هو الظاهر في صور أحوالك التي هي تفصيل شأنك ، ونشر بساط
سعة علمك الذاتي ، وحيطتك بالأشياء التي جعلتها مكنوناتك ، فاقتضى كمالك الحاكم على جلالك وجمالك تخصيص كلّ حال
واسم ، وإضافة كلّ متعيّن بحكم خصوصيّته المميّزة له من مطلق شأنك ، ونعته وتعريفه
برسم ، ليظهر التعدّد ، ويكمل ظهور السعة المستجنّة في غيب الذات بدوام تنوّعات
ظهورك والتجدّد.
فمن غلب عليه حكم
حصّة من شأنك ، على حكم أحديّة ذاتك ؛ لانحرافه ـ وإن عدّ من
__________________
العلماء ـ نسب ما
أدرك إلى الشأن ، بل إلى خاصّة وتوهّم من اسمه ورسمه غير الحقيقة لحد عن الطريق ، فعاد حكم ذلك في ملابس ابتلاءاتك المرضيّة وغير المرضيّة
عليه ، حيث كان وكيف كما أخبرت في كتابك المجيد بقولك : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ومن بقي بحكم ذاتك ولم تستهلكه وتقهره أصباغ ظهوراتك ، ثبت
شهوده ومعرفته من حيث هما لك حالة اختلاف أحكام شؤونك التي هي عند من شئت أسماؤك
وصفاتك ، فلم ينحرف إلى طرف من الوسط ، وكان ممّن استوطن بالذات مركز الدائرة
الوجوديّة وأقسط.
اللهمّ وأنت
المسؤول من حيث مبلغ العلم الحالي ـ أن لا تنظمنا في سلك ، ولا تقرّنا بأهل صدق ولا إفك ، بل إن اخترت تعيّننا ولا بدّ بأمر أو
أمور ، فليكن تعيّنك لنا بحسب تعيّنك إذ ذاك ، وعلى نحو ما تختاره لنفسك من نفسك ،
وممن شئت من المتعيّنين باعتبار نسبة التعيّن إليك ، أو إليه لك.
وإذ قد أهّلتنا
لهذا الأمر ، وأطلعتنا على هذا السرّ ، فلا تقمنا بعد في حال ولا مقام يقتضي
ثبوتنا ، وثبوت شيء مّا لنا ، أو طلبه منّا إلّا وكن الكفيل بالقيام بحقّك في ذلك
، والمنسوب إليه ما هنالك ، لتحصل السلامة من كلّ شوب ، والطهارة والخلاص من كلّ
ريب ، وخذنا منّا وكن لنا عوضا عن كلّ شيء ، وأعنّا على ما تحبّه وترضاه لك منّا ، ولنا منك ، كلّ الحبّ
والرضا ، في أكمل مراتب محبّتك ، وأعلى درجات رضاك ، آمين.
تمّ الكتاب (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) و (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) والأمر كله لله. هو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن.
تمّت
وقد وقع الفراغ من
تسطير هذه النسخة الشريفة المسمّاة بإعجاز البيان في تفسير
__________________
أمّ القرآن من
مصنّفات شيخ المحقّقين وزبدة الأكملين برهان المدقّقين وأبي الأولاد الإلهيّين صدر
الملّة والحقّ والدين وأبي المعالي محمّد بن إسحاق القونوي الرومي تلميذ الشيخ
الأكبر محيي الدين بن العربي قدسسرهما ونوّر ضريحهما ، آمين.
خاتمة التحقيق
بعد حمد الله
تبارك وتعالى على توفيقه لإتمام هذا العمل ، يجب علينا أن نلفت نظر القارئ الكريم
إلى أنّه لم يكن عندنا في تصحيح هذا الكتاب أيّة نسخة خطّية ، فاعتمدنا على النسخة
المطبوعة بمصر بتحقيق الأستاذ عبد القادر أحمد عطا ونسخة الأستاذ العلّامة السيد
جلال الدين الآشتياني المصحّحة والتي قوبلت باهتمام الأستاذ دام ظله على نسختين
مخطوتتين ، وما أدّى إليه النظر وفكري الفاتر.
والحمد لله أولا وآخرا.
الفهارس
فهرس
الآيات
فهرس
الاصطلاحات
فهرس
المواضع
فهرس الآيات
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
الفاتحة (١)
|
فاستبقوا
الخيرات
|
١٤٨
|
٢٣٠
|
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
|
١
|
٤٩
|
فهدى الله
الّذين آمنوا
|
٢١٣
|
٢٦٢
|
ايّاك نعبد ...
|
٥
|
٨٣،٢٢٧
|
قل لله المشرق
والمغرب ...
|
١٤٢
|
٢٦٦
|
الحمد لله ربّ
العالمين
|
٢
|
١٤٠
|
كذلك جعلناكم
امّة وسطا
|
١٤٣
|
٢٦٦
|
أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم
|
٧
|
١٧٧
|
فأينما تولّوا
فثمّ وجه الله
|
١١٥
|
٢٦٦
|
مالك يوم الدّين
|
٤
|
١٧٩
|
ولا يحيطون بشيء
من علمه ...
|
٢٥٥
|
٢٧٨
|
اهدنا الصّراط المستقيم
|
٦
|
٢٧، ٤٧ ، ٢٩٧
|
تلك الرّسل
فضّلنا بعضهم على بعض
|
٢٥٣
|
٢٨٧
|
صراط الّذين
أنعمت عليهم غير المغضوب ...
|
٧
|
٢٨٤، ٢٨٥، ٢٩٧
|
لا نفرّق بين
احد من رسله
|
٢٨٥
|
٢٨٧
|
أولئك هم
الخاسرون
|
٢٧
|
٣٤١
|
البقرة (٢)
|
ولكم في القصاص
حياة
|
١٧٩
|
٣٤٥
|
هل ينظرون الّا
ان يأتيهم الله ...
|
٢١٠
|
٤٣
|
آل عمران (٣)
|
ولا يحيطون بشيء
من علمه
|
٢٥٥
|
٥٥
|
قل اللهمّ مالك
الملك ...
|
٢٦
|
١٨١
|
ويهدى من يشاء
إلى صراط مستقيم
|
٢١٣
|
١٦٨، ٢٢٧
|
والرّاسخون في
العلم يقولون ...
|
٧
|
٢٥٠
|
اقيموا الصّلوة
|
٤٣
|
٢٠٠
|
والى الله
المصير
|
٢٨
|
٢٥١
|
كلوا من طيّبات
ما رزقناكم
|
٥٧
|
٢٠٢
|
وآتنا ما وعدتنا
على رسلك
|
١٩٤
|
٢٩٠
|
انّ الله يحب
التّوّابين
|
٢٢٢
|
٢٠٤
|
ويحذّركم الله
نفسه
|
٣٠
|
٣١٩
|
واشكروا لي
|
١٥٢
|
٢٢٤
|
النساء (٤)
|
ولكلّ وجهة هو
مولّيها
|
١٤٨
|
٢٢٩
|
من يعمل سوء
يحزبه
|
١٢٣
|
٢٠٠
|
|
|
|
انّ الله لا
يظلم مثقال ذرّة ...
|
٤٠
|
٢٤٠
|
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
ويؤت من لدنه
اجرا عظيما
|
٤٠
|
٢٤٠
|
وزكريّا ويحيى
|
٨٥
|
٢٨٧
|
خلقكم من نفس
واحدة
|
١
|
٢٥٩
|
ومن آبائهم
وذرّيّاتهم و...
|
٨٧
|
٢٨٧
|
ومن يطع الله
ورسوله
|
٦٩
|
٢٨٦
|
ذلك هدى الله
يهدى به ...
|
٨٨
|
٢٨٧
|
ذلك الفضل من
الله ...
|
٧٠
|
٢٨٦
|
أولئك الّذين
آتيناهم الكتاب
|
٨٩
|
٢٨٧
|
ان الله يأمركم
ان تؤدوا الأمانات الى أهلها
|
٨٥
|
٣٣٢
|
أولئك الّذين
هدى الله ...
|
٩٠
|
٢٨٧
|
لئلا يكون للناس
على الله حجة ...
|
١٦٥
|
٣٣٦
|
ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى ...
|
٣٥
|
٣٢٠
|
المائدة (٥)
|
لا ينفع نفسا
إيمانها ...
|
١٥٨
|
٣٤١
|
ولا تحرموا
طيّبات ما احلّ الله لها
|
٨٧
|
٢٠٢
|
الأعراف (٧)
|
ليس على الّذين
آمنوا ...
|
٩٣
|
٢٤٩
|
ولله الأسماء
الحسنى
|
١٨٠
|
١٥٣
|
تعلم ما في نفسي
ولا اعلم ما في نفسك
|
١١٦
|
٣٢٠
|
قل من حرّم زينة
الله
|
٣٢
|
١٧٧
|
الانعام (٦)
|
انّ الّذين
تدعون من دون الله
|
١٩٤
|
٢٣٠
|
الذين يدعون
ربّهم ...
|
٥٢
|
١٨
|
قل من حرّم زينة
الله
|
٣٢
|
٢٨٩
|
وسيجزيهم وصفهم
|
١٣٩
|
٩٤،٢٢٤
|
ولو كنت اعلم
الغيب لاستكثرت من الخير
|
١٨٨
|
٣٢٠
|
وعنده مفاتيح
الغيب
|
٥٩
|
١٣٩
|
الأنفال (٨)
|
وربّك الغنى ذو
الرّحمه
|
١٣٣
|
١٦٨
|
ويجعل الخبيث
بعضه على بعض
|
٣٧
|
١٩٤
|
فالق الإصباح
|
٩٦
|
١٨٣
|
وما رميت إذ
رميت ...
|
١٧
|
٢٠٦
|
ما فرّطنا في
الكتاب من شيء
|
٥٩
|
١٨٧
|
وما كان الله
ليعذّبهم وأنت فيهم
|
٣٣
|
٣٠٠
|
ولا رطب ولا
يابس
|
٣٨
|
١٨٧
|
ليميّز الله
الخبيث من الطيّب
|
٣٧
|
٣٠٥
|
فلله الحجّة
البالغة
|
١٤٩
|
٢٠٥
|
يونس (١٠)
|
كتب ربّكم على
نفسه الرّحمة
|
٥٤
|
٢١٤، ٢٢٤، ٢٨٩
|
يدبّر الأمر
|
٣١
|
١٢٨
|
أولئك الّذين
هدى الله ...
|
٩٠
|
٢٤٩
|
انّ الّذين
آمنوا وعملوا الصّالحات
|
٩
|
٢٦٢
|
ووهبنا له اسحق
ويعقوب
|
٨٤
|
٢٨٧
|
انّ الظنّ لا
يغنى من الحقّ شيئا
|
٣٦
|
٣١٩
|
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
هود (١١)
|
وما بكم من نعمة
فمن الله
|
٥٣
|
٣٥١
|
اليه يرجع الأمر
كلّه
|
١٢٣
|
١٣٦
|
الإسراء (١٧)
|
انّى توكلت على
الله ربي
|
٥٦
|
٢٥٣
|
سبحان الّذى
اسرى بعبده
|
٣١
|
٨٧
|
فاستقم كما أمرت
|
١١٢
|
٢٥٥
|
قل ادعوا الله
...
|
١١٠
|
١٠٠، ١٧٤
|
ان الحسنات
يذهبن السيئات
|
١١٤
|
٣٤٧
|
ولا تقتلوا
النّفس الّتى ...
|
٣٣
|
٢٠٠
|
يوسف (١٢)
|
وما كنّا
معذّبين حتّى ...
|
١٥
|
٢٠٥
|
وفوق كلّ ذي علم
عليم
|
٧٦
|
١٦
|
قل كلّ يعمل على
شاكلته
|
٨٤
|
٢١٣
|
والله غالب على
امره
|
٢١
|
٥١
|
وان من شيء الا
يسبّح بحمده
|
٤٤
|
٢١٣
|
من وجد في رحله
فهو جزاءه
|
٧٥
|
٢٠٦
|
وقضى ربّك الّا
تعبدوا ...
|
٢٣
|
٢٤٥
|
ان الحكم الّا
لله ...
|
٤٠
|
٢٤٥
|
ولا تجهر بصلاتك
|
١١٠
|
٢٥٦
|
قل هذه سبيلي ...
|
١٠٨
|
٢٥٦
|
ولا تجعل يدك
مغلولة
|
٢٩
|
٢٥٦
|
فوق كلّ ذي علم
عليم
|
٧٦
|
٣١٦
|
كلّا نمدّ هؤلاء
وهؤلاء من عطاء ربّك
|
٢٠
|
٣٠٢
|
الرعد (١٣)
|
وما أوتيتم من
العلم الّا قليلا
|
٨٥
|
٣١٩، ٣٤٢
|
لا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرّا
|
١٦
|
٢٣١
|
كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبا
|
١٤
|
٣٤١
|
لا معقّب لحكمه
|
٤١
|
٢٤٥
|
الكهف (١٨)
|
انزل من السّماء
ماء فسالت ...
|
١٧
|
٣٠٥
|
قل الحقّ من
ربكم ...
|
٢٩
|
١٩
|
فنعم عقبى الدار
|
٢٤
|
٣٢٧
|
انّهم فتية
آمنوا بربّهم
|
١٣
|
٢٤٩
|
يدبّر الأمر
|
٢
|
١٢٨
|
مريم (١٩)
|
الله خالق كلّ
شيء ...
|
١٦
|
٩٤،٢١٣ ، ٢٤٦
|
هل تعلم له
سميّا
|
٦٥
|
١٥٣
|
الحجر (١٥)
|
فو ربّك
لنحشرنّهم
|
٦٨
|
٢٤٥، ٢٦٩، ٣٠٥
|
وما هم منها
بمخرجين
|
٤٨
|
٢٠٥
|
يا أبت انّى
أخاف ...
|
٤٥
|
١٧٨
|
فإذا سوّيته
ونفخت فيه من روحي
|
٢٩
|
٢٩٢
|
انّ كلّ من في
السّموات ...
|
٩٣
|
٢١٣
|
نحل (١٦)
|
وكان على ربّك
حتما مقضيّا
|
٧١
|
٢١٤
|
لتبيّن للنّاس
ما نزل إليهم
|
٤٤
|
١١
|
وان منكم الّا
واردها
|
٧١
|
٣٠١
|
|
|
|
انا نحن نرث
الأرض ومن عليها
|
٤٠
|
٣٣٩
|
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
طه (٢٠)
|
النمل (٢٧)
|
الله لا إله
إلّا هو له الأسماء الحسنى
|
٨
|
٤٢
|
قل لا يعلم من
السّموات والأرض الغيب
|
٦٥
|
٣٢٠
|
اعطى كلّ شيء
خلقه
|
٥٠
|
١٢٨
|
القصص (٢٨)
|
اعطى كلّ شيء
خلقه ثمّ هدى
|
٥٠
|
٢٣٣، ٢٦٠
|
وكلّ شيء هالك
الّا وجهه
|
٨٨
|
٣٣٢، ٣٤٠
|
وانّى لغفّار
لمن تاب ...
|
٨٢
|
٢٤٩، ٢٦٢
|
العنكبوت (٢٩)
|
واصطنعتك لنفسي
|
٤١
|
٣٣٦
|
وما كنت تتلوا
من قبله
|
٤٨
|
٢٠
|
الأنبياء (٢١)
|
لقمان (٣١)
|
لو كان فيهما
آلهة الّا الله ...
|
٢٢
|
١٨٥
|
والى الله عاقبة
الأمور
|
٢٢
|
٢٧٨
|
وكلّا آتيناه
حكما وعلما
|
٧٩
|
٣١٦
|
والى الله عاقبة
الأمور
|
٢٢
|
٣٤٠
|
ونبلوكم بالشرّ
والخير ...
|
٣٥
|
٣٥٥
|
السجدة (٣٢)
|
المؤمنون (٢٣)
|
يدبّر الأمر
|
٥
|
١٢٨
|
ثم انشأناه خلقا
آخر
|
١٤
|
٧٥
|
الأحزاب (٣٣)
|
[ما] خلقناكم
عبثا
|
١١٥
|
١٨٩
|
والله يقول الحق
|
٤
|
١٦٨، ٢٢٧
|
النور (٢٤)
|
ولن تجد لسنّة
الله تبديلا
|
٦٢
|
٢١٨
|
نور السّموات
والأرض ...
|
٣٥
|
٥٢
|
سبأ (٣٤)
|
كلّ قد علم
صلاته وتسبيحه
|
٤١
|
٢١٣
|
وهل تجازى الّا
الكفور
|
١٧
|
٢٠٨
|
نور على نور
يهدى الله لنوره من يشاء
|
٣٥
|
٥٢
|
الفاطر (٣٥)
|
الفرقان (٢٥)
|
ما يفتح الله
للنّاس من رحمة
|
٢
|
١٢٩
|
وقد منا الى ما
عملوا
|
٢٣
|
٤٢
|
اليه يصعد الكلم
الطيّب
|
١٠
|
٢٧٠
|
فجعلناه هباء
منثورا
|
٢٣
|
٤٢
|
والعمل الصالح
يرفعه
|
١٠
|
٢٧٠
|
يومئذ خير
مستقرّا ...
|
٤٢
|
٢٤، ٢٥
|
ولو يؤاخذ الله
النّاس ...
|
٤٥
|
٣٠٢
|
يوم تشقّق
السماء بالغمام
|
٢٥
|
٤٢
|
يس (٣٦)
|
الملك يومئذ
الحقّ للرّحمن
|
٢٦
|
٣٣
|
اعبدوني
|
٦١
|
٢٢٤
|
أساطير الأوّلين
...
|
٥
|
١٢٩
|
صافّات (٣٧)
|
والّذين إذا
أنفقوا لم يسرفوا
|
٦٧
|
٢٤٣
|
وما تجزون الّا
ما كنتم تعملون
|
٢٠٨
|
٣٩ و ٤٠
|
|
|
|
وما منّا الّا
له مقام معلوم
|
١٦٤
|
٢٣٢
|
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
ص (٣٨)
|
ويعلم ما تفعلون
|
٢٥
|
٢٦٩
|
وما خلقنا
السّموات والأرض ...
|
٢٧
|
١٨٩
|
وما كان لبشر ان
يكلّمه الله الّا وحيا
|
٥١
|
٣١٥
|
ما منعك ان تسجد
لما خلقت بيدي
|
٧٥
|
٢٩٣
|
الزخرف (٤٣)
|
فإذا سوّيته
ونفخت فيه من
|
٢٩
|
٢٩٢
|
ما ضربوه لك
إلّا جدلا
|
٥٨
|
١٨
|
الزمر (٣٩)
|
فلما آسفونا
انتقمنا ...
|
٥٥
|
٢٠٤
|
يستمعون القول
...
|
١٨
|
١٨
|
الجاثية (٤٥)
|
والسّموات
مطويّات بيمينه
|
٦٧
|
٣٠١
|
وسخر لكم ما في
السموات وما في الأرض
|
١٣
|
٣٣٦
|
الله خالق كلّ
شيء ...
|
٦٢
|
٩٤، ٢١٣، ٢٤٦
|
الأحقاف (٤٦)
|
الغافر (٤٠)
|
قل ما كنت بدعا
من الرسول
|
٩
|
٣١٥
|
لمن الملك اليوم
...
|
١٦
|
٤١، ١٨٧
|
فلمّا رأوه
عارضا مستقبل أوديتهم ...
|
٢٤٠
|
٣١٥
|
وسع كلّ شيء
رحمة وعلما
|
٧
|
٥٣
|
محمّد (٤٧)
|
وحقّت كلمة ربّك
|
٦
|
٢١٤
|
ولنبلونّكم حتى
نعلم
|
٣١
|
٨٩
|
فصّلت (٤١)
|
ان تنصروا الله
ينصركم
|
٧٠٠
|
٩٤، ٢٤٦
|
انّه بكلّ شيء
محيط
|
٥٤
|
٥٣
|
الفتح (٤٨)
|
تنزيل من حكيم
حميد
|
٤٢
|
١٢٨
|
ليغفر لك الله
|
٢
|
٢٠٨،٢١
|
الشورى (٤٢)
|
ليزدادوا ايمانا
مع ايمانهم
|
٤
|
٢٤٩
|
ما كنت تدرى ما
الكتاب ...
|
٥٢
|
٢٠
|
ق (٥٠)
|
ليس كمثله شيء
|
١١
|
٣٥، ١٨٧، ٢٣٥
|
وما يبدّل القول
لدى
|
٢٩
|
٢١٤
|
الا الى الله
تصير الأمور
|
٥٣
|
١٣٥
|
الذّاريات (٥١)
|
وما كان لبشر ان
يكلّمه الله
|
٥١
|
١٥٠
|
وما خلقت الجنّ
والانس ..
|
٥٦
|
٩٩، ١١٨ ، ٢٤٣
|
ما أصابكم من
مصيبة ...
|
٣٠
|
١٧٢
|
نجم (٥٣)
|
الله لطيف
بعباده
|
١٩
|
١٧٩
|
وانّ الى ربك
المنتهى
|
٤٢
|
١٦٨
|
انّك لتهدى الى
صراط مستقيم
|
٥٢
|
٢٥١
|
ما زاغ البصر
وما طغى
|
١٧
|
٢٥٦
|
|
|
|
انّ الظنّ لا
يغنى من الحقّ شيئا
|
٢٨
|
٣١٩
|
|
الآية
|
الصفحة
|
|
الآية
|
الصفحة
|
القمر (٥٤)
|
الملك (٦٧)
|
وما أمرنا الّا
واحدة ...
|
٥٠
|
١٨٦
|
ما ترى في خلق
الرّحمن من تفاوت
|
٣
|
٢٥١
|
الرحمن (٥٥)
|
الجن (٧٢)
|
كلّ يوم هو في
شأن
|
٢٩
|
١٨٦
|
الّا من ارتضى
من رسول ...
|
٢٧
|
٣٠٦
|
الحديد (٥٧)
|
المدثر (٧٤)
|
هو الأوّل والآخر
...
|
٣
|
٩٤، ٢٤٦
|
يضلّ الله من
يشاء ويهدى من يشاء
|
٣١
|
٣١٨
|
وهو معكم أينما
كنتم
|
٤
|
١٨٦
|
الضحى (٩٣)
|
ما أصابكم من
مصيبة في الأرض
|
٢٢
|
٢٧٠
|
ووجدك ضالًّا
فهدى
|
٧
|
٢٥٩
|
ما أصاب من
مصيبة في الأرض
|
٢٢
|
٣٠٩
|
الزلزلة (٩٩)
|
المجادلة (٥٨)
|
فمن يعمل مثقال
...
|
٧
|
٢٠٠
|
إذا ناجيتم
الرّسول ...
|
١٢
|
٢٢٨
|
الناس (١١٤)
|
الحشر (٥٩)
|
قل أعوذ بربّ
النّاس
|
١
|
١٨٢
|
هو الله الذي لا
إله الّا هو
|
٢٣
|
١٠٢
|
|
|
|
الطلاق (٦٥)
|
|
|
|
أحاط بكلّ شيء
علما
|
١٢
|
٢٥٣
|
|
|
|
فهرس الاصطلاحات
«آ»
آثار الأسماء
٢٤١ ؛ الأسمائية ١٦٦ ، ١٨٤ ؛ العنصرية ١٩٥ ؛ المضافة الى الوجود ٢١٨ آخر درجات
الإيمان ٢٧١ ؛ الغيب ١٢٦ ؛ مراتب الغيب ١٢٣ ؛ مرتبة الشهادة ١٠٤ ؛ مرتبة الغيب
٤٨ ؛ الموجودات (الذي تحقق بالنعم الإلهية وهو عيسى بن مريم) ٢٩٧ الآفاق ٢٦٢
آيات الآفاق
والأنفس ٢٦٢
«ا»
ابتهاج الإلهي
بالكمال الذاتي : ٣٠٧
الاتحاد ٤٣ ، ٥١
، ١١٣ ، ١٣٥
إحاطة الوجودية
٢٤٧ ، ٢٧٤ ؛ الوجودية والعلمية ٩١
الأحدي ١٤ ، ١٥
، ٦٤ ، ٩٦ ، ٩٨ ، ١٠٥ ، ١١١ ، ١١٥ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٤٤ ، ١٨٦ ، ١٩٤ ، ١٩٨ ،
٢١٦ ، ٢٢٦ ، ٢٦٠ ؛ الأمر ٩٨ ، ٢٠٢ ؛ تجلى ٣٨ ، ٤٠ ، ٤٤ ؛ تجلي الوجودي ١٩٤ ؛
تجلي الالهي الجمعي ١٤٣ ؛ المجمع ٣٢ ، ٨٦ ، ٩٦ ، ١٣٧ ، ١٤٤ ؛ حكم الذاتي ١١١ ؛
الذوق الجمعي ٥٥ ؛ الكلام الغيبي ١٤
|
|
الأحديات ٤٠ ،
٤٤ ، ٥١
احدية : ٧ ، ٣٦
، ٣٩ ، ٤١ ـ ٤٣ ، ٥٠ ـ ٥٢ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٣ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٩٦ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١١٥ ،
١١٧ ، ١١٩ ، ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٥ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٥١ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ٢١٤ ،
٢٣٣ ، ٢٣٥. الأحدية (نعت مرتبة إنسان الكامل) ١١٣ ؛ الإلهية الأولى ٦٤ ؛ التجلي
٥٥ ، ١٥٠ ؛ التجلي الأول ٣٩ ؛ الجمع ٦٢ ، ٦٦ ، ٧٦ ، ٨٢ ، ١١٠ ، ١١٥ ، ١١٨ ، ١٢٧
، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٦٨ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٩٣ ، ٢١١ ، ٢١٩ ، ٢٣٥ ، ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، ٢٤٦ ، ٢٥٢
، ٢٥٨ ، ٢٦١ ، ٢٧١ ، ٢٧٤ ، ٢٩٩ ، ٣١٨ ، ٣٣٠ ، ٣٣٢.
الجمع الإلهي ٤٢
، ٨٤ ، ٨٦ ؛ الجمع الذاتي ٤١ ؛ الجمع والوجود ٤٨ ، ١٧١ ؛ جمع الجمع ٢٣٢ ؛ الحق
١٤٨.
الذات ٢٥١ ـ ٢٥٣
، ٣٥٤ ؛ الغيبية ١١٠ ؛ المتجلي ١٧٠ المرتبة الإلهية ١٩٤ ؛ الوجود : ١٦٧ ، ٣٢٧
الإحسان (مقام)
٢٧١ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٣٠٦ ؛ ايمان و (روح النعمة) ٢٨٦ ؛ أول درجات ٢٧١ ؛ ملاحظات
الاحسانيه ١٨٨
احكام الأسماء
١٨٥ ، ٢١٩ ، ٢٦٠ ؛ ـ الأسماء
|
المتعينة ٩٣ ؛
الاسمائيه ٢٣٣ ؛ الاسما والصفات ٣١٨ ، الأعيان ٩٤ ؛ الإلهية ٩٣ ؛ الإمكانية ٢١٧
؛ التجلي ١٥٠ ؛ التجليات ١٠٩
التقييديه ٢١٨ ؛
التقييديه الإمكانية ٢١٦ ؛ الحضرات الخمس ٢٢٦ ؛ الخمسة ٢١٩ ؛ الدهر والزمان ١٨٦
؛ الشوقية ١٣٥ ؛ الربوبية ١٦٨ ؛ العبودية والربوبية ٢٤٧ ؛ القيود : ٢١٦ ؛ الكثرة
: ١١٠ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ؛ الكثرة التركيبية : ١٣٧ ؛ الكونيه : (المظهرة حكم الكثرة من
حيث ظهورها بالإنسان) ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٥ ، ٤٧ ؛ النكاحات الخمسة ١٨٨
احوال الإمكانية
: ٨١ ؛ الشهية الندسيه : ٢٨٨ ؛ الوجودية المعنوية : ٢٨٨ ؛ التكوينية : ٢٨٦
الأخبارات الإلهية : ٣٢٧
الأدلة النظرية
٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ ؛ الذوقية ١٨
أذواق التامة
الجلية : ١٧ ؛ الصحيحة ١٩
الإذعان : ٢٨٦ ؛
الإسلام و (صورة النعمة) ٢٨٦
الإرث الاسمائي
: ٣٤١
ارشاد الالهي :
٣٤٥
الأرواح : ٢٣٢ ؛
العلوية : ٥٥ ؛ النورية : ٧٥ ؛ الإنسانية : ١٠٢ ، ١٠٩ ، المهيّمه : ١١٨ ، ٢٦٠ ؛
المجردة : ١٧٦ ؛ النورية : ١٩٠ ؛ النورية والنارية : ١٩٠ ، القدسية : ٢٢٦ ، ٢٣٢
؛ العليه : ٢٦٨ ؛ الطاهرة : ٢٧٠ اسباب الكونيه : ٢٣٧
|
|
استحضار البرزخي
: ٢٨٦
استعداد الكلى
الغيبى : ٢٨٨
الاستقامة : ٢٧٧
، ٢٧٩ ؛ الوسطية : ٢٦٥ ؛ سنن الاعتدال و ٢٦١ ؛ المطلقة (مرتبة عامه شاملة من
مراتب الهداية) ٢٥٥
اسرار الأسماء :
١٥٧ ؛ الإلهية ٢٠٤ ؛
الإلهية
القرآنيه والفرقانيه : ٣٣٠ ؛ الإلهية والكونيه : ١٧٠ ، ٢٠٢ ؛
الحق : ٣٣٠ ؛
الربانية والكونيه : ١٥٩ ؛ الربوبية : ٢٠٧ ؛ الشريعة ؛ ٢٨٦ ؛ الشريعة والحقيقة :
٢٩٣ ؛ القران : ٢٣٩
الإسلام : (أول
مرتبه الرشاد) ٢٨٦ ؛ والإذعان (صورة النعمة) ٢٨٦ ؛ الإستواء : ٤١ ، ١٧٣ ؛ الالهي
٤١ ؛ الالهي الجمعي الكمالي : ٤١ ؛ الرحماني : ٤١
الاسم : ٤٢ ، ٤٩
، ٦٨ ، ١٢٢ ، ١٣٣ ، ١٤٠ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ٣٤٥ ، ١٥٢ ، ٢٥٢ ، ٢٧٦ ، ٣٤٨
؛ الإلهي ٢٧٤ ؛ الجامع للأسماء (الله) ١٤٧
أسماء : ٧ ، ٩ ،
١٥ ، ١٩ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٤٠ ـ ٤٤ ، ٤٦ ، ٤٨ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٦٨ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٥ ، ٧٧ ، ٨٤
، ٩٦ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٤ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١١٧ ، ١٢٠ ، ١٢٥ ، ١٣٠ ، ١٣٢ ، ١٣٦ ،
١٤٢ ، ١٤٤ ، ١٥٢ ، ١٥٥ ، ١٦٠ ، ١٨٣ ، ٢١٣ ، ٢٢١ ، ٢٥٢ ، ٢٨٣ ، ٢٩٩ ، ٣٠٢ ، ٣١٦ ،
٣٣٠ ، ٣٤٩ ، ٣٥٣ ، ٣٥٥ ؛ الأسماء : ١٥ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ١٢١ ، ٣٤٤ ؛ الأصلية الاول
١٧٨ ؛ الإلهية : ١٨٤ ، ٢٣١ ، ٢٦٨ ، ٢٨٤ ؛ الاول :
|
١١٩ ، ٢٣١ ؛ الحق :
٢٣٢ ، ٢٣٤ ، ٣٠٢
؛ الحق وصفاته : ٣٣٣ ؛ الذاتية : ١١١ ، ١١٣ ، ٢٦٠
الصفات : ٩٧ ،
١٣٢ ؛ الكلية : ١٢٩ ، ١٧٤ ؛ المتعينة : ٩٣ ؛ المنسوبة الى الكون : ٣٣٠ ، مراتب
٢٣٣ ؛ النسب الاسمائية العلمية : ١٠ ، احكام الاسمائيه ٢٣٣
إشارات الربانية
: ٢٥٦ ، ٣١٥
الأشكال
المعنويّة الكلية المجردة : ٧٨ ؛ الكلية الغيبية : ٧٨
اصحاب الاعتدال
الاسمائي الغيبي الإلهي (الكمّل المقربون) ٢٦١ ؛ المكاشفات الظاهرة : ٤٧ ؛
الإظهار : ٩٤ ؛ الايجادي : ٩٣ اطلاق الغيبى ١٢٢ ، التام ٢١٥ الاعتبارات
العرفانيه : ١١٦ الوجودية ٢٨٣ ؛ الاعتدال : ٨١ ، ١٦١ ، ١٦٤ ، ٢١٧ ، ٢٥٦ ، ٢٦٠ ،
٢٦٨ ، ٢٩٥ ، ٣٣٨ ؛ الالهي الاسمائي الكمالي ٢٦١ ؛ التام : ٨٦ ، ١٦٣ ؛ الحقيقي :
٢٨٩ ؛ الحسي والروحاني والمثالي ٣٠٧ ، الحالي الجمعي الوسطي الرباني ٢٩٤ ؛
الروحاني : ٢٣٨ ، ٢٦١ ؛ الغيبي : ٢٦١ ؛ المعنوي : ١٦٤ ، ١٦٥ ؛ الوجودي : ٨٦ ؛
اصحاب الاسمائى الغيبى الإلهي (الكمّل المقربون) ٢٦١ ؛ سنن ٢٦١ ؛ ميزان
الاعتدالى : الإلهي ٢٥٦ ؛ ٢٧٤ ، حالة الاعتداليه الحقه : ٢٥٥ ؛ حاله الوسطى
الاعتداليه : ٢٦٥
أعلى مراتب
الشكر : ٣٥١
|
|
اعمال الروحانية
: ٢٨٨
الأعيان : ٩٩ ،
١٠١ ، ١٣٥ ، ١٧٤ ، ٣٤٠
الأسماء ٢٤٢ ،
الثابتة : ٥٠ ، ١١٨ ؛ الخارجيه ١٥٢ العالم : ٣٣٣ ؛ الكائنات : ١١٠ ؛ الكونيه :
١٥ ، ٢٨ ، ٩٢ ؛ الكونيه المجردة ٧٠ ؛ المتصفة بالوجود ١٦٩ ؛ المجردة ٧٧ ؛
الممكنات : ٢١٥ ، الممكنات الثابته : ٥٢ ؛ الممكنة : ١٠٠ ، ١٢٤ ، الموجودات :
١٠٠ ؛ الوجودية : ١٤ ، ٩٦ ، ٩٩
افتقار التام :
٢٦ ؛ إفناء : ١٦٨
أكابر المحققين
: ٣٥١
أكوان : ١٨٤ ،
١٨٦ ، ٢٧٦ ألست : (ميثاق) ١٩٤ ، ٢٩٦
الله : (الاسم)
١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٤٠ ، ١٧٣
الألوهة : ٢٦٣ ،
٢٨٤ ، ٣٠١ ، ٣٠٢
الألوهيه : ٢٩ ،
٣٥ ، (نعت الألوهية بالوحدانية الثانية) ، ٣٦ ، ٦٤ ، ٧٣ ، ١٠٤ ، ٢٢١ ، ١٢٠ ، ١٢٣
، ١٢٦ ، ١٣١ ، ١٤١ ، ١٧٣ ، ١٨٤ ، ٢٣١ ، ٣٤٢ ، الجامعة للأسماء والنسب : ١٦٩
الأماني الشهية
: ٣٠٨
الأمر : (العالم)
٥١ ، ١١٩ ، الاحدي ٩٨ ؛ الاحدي الجمعي الالهي ٢٠٢ ؛ التفصيلي ٢٥٩ ؛ التكويني ٢٣٧
؛ الجامع (المرتبة الخامسه من حضرات الخمس) ٨١ ، الجامع بين الظاهر والباطن :
١١٣ ؛ الجامع لمراتب الأسماء والصفات : ٢٣٢ ؛ الالهي : ٨٦ ؛
|
الالهي الوحداني
: ١٨١ ، الاول : ١٩٣ ؛ الذاتي الالهي : ١١٤ ؛ العرشي الوحداني الوصف : ٢٥٩ ؛
القلمي ٢٥٩ ؛ الوجودي ١٩٦ ؛ القول الامري ٩٥
الإمداد : ١٥٧ ،
١٥٨ ؛ الالهي ٣٩ ؛ العلمي : ٢٩٨ ؛ الوجودي الاحدي (افتقار العالم في بقائه اليه)
٣٨
اماما حاويا
مبينا : (خازنا أمينا على حضرة الجمع والأسرار) ٧
أم الكتاب : ٦١
، ٧٥ ، ١٣٨ ، ١٩٥ ؛ الأكبر : (الامام) ٧ ، ١٤ ، ٢٤٧ ، ٢٦٠ ، ٣٤٦
أم القران : (الفاتحة)
١٣ ؛ أمهات الأسماء : ١٨٤ ؛ الحقائق : ١٧ ، ٩٥ ؛ العلوم أمهات الأسماء : ١٨٤ ؛
الحقائق : ١٧ ، ٩٥ ؛ العلوم والحقائق : ١٠١
الإنسان الكامل
: ١٠ ، ١٤ ، ٦٤ ، ٨١ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١٥٧ ، ١٦١ ، ١٦٩ ، ٢٤٣ ؛ الجامع الكامل ١٦٨
انبساط وجود المطلق ٣٣٤
أنوار الإيمانية
: ٢٨٨
أدنى : (مقام)
١٧ ، ٨٦
الاول (الاسم)
الأولية : ٩٤ ، ١٠٠
أول الاسفار ١٣٦
؛ الإنشاء ١٧٤ درجات الإحسان ٢٧١ ؛ الحضرات الوجودية المتعينة من غيب الذات (حضرة
التهيم) ٣٣٨ ؛ الشهاده : ١٢٦
عالم التدوين
والتسطير (القلم الأعلى) ٢٩٧ ؛ العوالم المتعينة من العماء (عالم
|
|
المثال المطلق)
١٧٠ ؛ مراتب التعين ٤٨ ؛ مراتب التعيين ٦٤ ؛ مراتب الظهور ١١٦ ؛ مرتبة الشهاده :
٤٨ ، ١٠٤ ؛ مرتبة الرشاد (الإسلام) ٢٦٨ ؛ مقامات السالكين (التوبة) ٢٦٨
اهل الله : ١٨ ،
٢٠ ، ٢٥ ، ٣٠ ، ٤٦ ، ٥٤ ، ١٤٩ ، ٢٠٩ ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، ٣٠٣ ؛ الأذواق : ٢٤ ، ٢٥ ،
١٢٩ ، ١٦٢ ، ١٨٧ ؛ الأذواق المقيدة ٣١٧ ؛ الاستبصار : ٦١ ، ٢٧٦ ؛ الأفكار : ١٩ ،
١٨٧ ؛ الاطلاع ٢٦٥ ، الاعتقادات ٣١٤ ؛ الاعتقادات الظنيه والتقييديه : ٤٦ ؛
الإنابة ٢٧٠
البدايه ٤٧ ؛
البصائر والعقول السليمة ٢٦ ؛ التسنيم ٢٦١ ؛ التحقيق ٢٥
الجدل والفكر ١٨
، الخبر ٢٦١ ، ٢٧٠ ؛ الحضور : ٢٠٧ ؛ الحضور والشهور : ٢٠٢ ؛ الذوق : ٤٨ ، ٤٩ ؛
الستر الإلهي الغيبي ٤٢ ؛ السعادة ١٧٧ ، السعادة والشقاء ٢٦١ ؛ الشهود ٢١٦ ، ٢٧٦
؛ الصراط المستقيم ١٣٢ ، الصحو ٢١٦ ؛ الطلب الفكري ١٨ ؛ الطريق ١٨ ؛ الطريق الله
٣٢٣ ؛ الظاهر ١٨٠ ، ٢٤٩ ؛ العقل النظري ٢٢ ؛ العقول السليمة ٣٠ ؛ العقائد : ٣١٧
العلوم الرسميه : ٢٤٢ العناية الكبرى : ٥٩ ، ٣٣٤
القلوب المنورة
الصافية ١٨
الكشف : ٥٣ ،
٣١٤ ، ٣٤٥ ؛ الكشف والشهود ١٦٦ ، الكشف والوجود : ٢٤٢ ، ٢٤٩ ؛
|
النار : ٢٧٠ ؛
النفوس الآبيه : ١٥٧ ؛ النقل ١٨١ ؛ النظر : ٢٤ ، ٣٢٨ ؛ النهي : ٣٤٥
الهمم العاليه :
١٧٩ ؛ اليقظة واليقين ٢٥٣ ؛ اليمين والجمال : ١٣١
الإيقان : ٢٨٦
الايمان : (مقام)
٢٧١ ، ٢٨٦ ؛ والإحسان (روح النعمة) ٢٨٦
«ب»
ب : الباري (الاسم)
١٥٢
الباسط (الاسم)
٢٤٢
الباطن : ١٢ ،
٢٠ ، ٢٦ ، ٣٦ ، (الاسم) ٤٠ ، ٤٣ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٩٠ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١٢١ ،
١٢٣ ، ١٢٥ ، ١٦٠ ـ ١٦٢ ، ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٩٦ ، ٢٢٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٦ ، ٢٥٧ ، ٢٦٦ ، ٣٢٢ ،
٣٢٣ ؛ الإنسان : ٢٨٨ ، الدنيا ٢٨٦ ، النشأة الظاهرة ٢٨٦
البراهين
الذوقية الكشفيه ١٧ ؛ النظرية ٢٠
البرازخ : ١٥ ،
٨٣ ، ١٢٢ ، ٢٤٤
برزخ : (مقام
الإنسان الكامل الذي هو برزخ بين الحضرة الإلهية والكونيه) ٤٤ ، ٩١ ـ ٩٤ ، ١٢٢ ،
١٦١ ، ١٩١ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٢٢٤ ، ٢٤٣ ، ٢٩٧ ، ٣٢٣ ، ٣٣٣
الاول : ٤٨ ، ٩٢
؛ بين الغيب والشهاده (مرتبة انسان الكامل) ١١٣ ؛ بين الأسماء وبين الذات : ١٢٢
؛
الجامع : ٨٨ ،
١٣١ ، الحضرتين : الإلهية والكونيه : ٢٤٤ ، الحضرتين (الإنسان الكامل) ٢٩٩
|
|
استحضار البرزخي
: ٢٨٦ ؛ تجلي ١٣٥ ؛ تعين الوسطى ؛ حكم ٢٨٦ ، مقام ٩٣ ؛ المكث ٢٠٥
البرزخيه
الثابتة بين الذات والألوهية ٣٤٢ ؛ عبادات ٩٣ ؛ المرتبة ٩٢ ؛ نشأة ٢٩٦ ؛ نشآت
الدنياوية والأخروية و ١٦٧
البسط الاول ١٣٥
البواعث العشقية
١١٠
البصير (الاسم)
١٠٨
بطن : ١٤ ، ١٢٨
، ١٨٨
بطون : ٤٨ ، ٩١
، ٢٥٩ ، ٢٨٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٣ ، ٣٤٠ ، القران ١٢٨
بروز العالم من
الغيب الى الشهادة : ٩٥
«ت»
تأويل : ١٦ ،
١٢٨ ، ١٨٧ ، ٢٤٩ ، ٢٧٥
تجريد : ٢١٥ ؛
التام : ١٥٠
التجلي : ٣٣ ـ
٣٥ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٥٦ ، ٥٩ ، ٦٦ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ١٠٤ ، ١١٧ ، ١٣٨ ، ١٤٥ ، ١٦٠ ،
٢٨٣ ؛ الاحدى : ٣٨ ؛ الاحدى الجمعى ٤٠ ، ٤٤ ؛ الإلهي ٥٤ ، ٧٣ ، ٧٥ ، الإلهي
الجمعى الاحدى ١٤٣ ؛ الاول : ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ؛ الايجادى : ٧٣ ؛ البرزخى ٢٣٧ ؛
الثاني :
٣٩
الحبى الإلهي
١٢٥ ؛ الحق ١٥٠ ، ١٧٠ ، ١٧٤ ؛ الذاتي ٤١ ، ٤٤ ، ٥٦ ، ٧٣ ، ٩٦ ، ٣١٧ ، ٣٤٢ ، ذاتى
غيبي ٥٠
الغيبى ١٥١ ؛
الكثيبى : ٢٣٥ ؛ الكمالي ١٣٩
|
المتعين : ٣٦ ،
١٢٢ ، المطلق : ٢٥١ ؛ الوجودي : ٥١ ، ٧٣ ، ١٣٥ ، ٢١٩
الوجودي الاحدى
١٩٤ ؛ الوجودي السارى ٦١ ؛ الوجودي المقتضى إيجاد العالم : ٢١٥ ؛ الوجودي
الوحدانى : ٣٨
النوري ٥١ ، ٥٥
؛ النوري العلمي ٥٤ ؛ النوري العلمي الذاتي : ٣٤ ؛ الوحدانى ٤٠ تجليات : ٧ ، ٢٢
، ٣٨ ، ٥٢ ، ٥٥ ، ١٥١ ، ١٦٠ ، ١٦٧ ، ١٧٠ ، ١٨٤ ، ٢٨٣ ، ٣١٦ ، ٣٢٢ ؛ الأسماء ٤٠ ؛
الاسمائيه : ٢٢ ، ٣٧ ؛ الإلهية ٣٩ ، المتعينة ١٠٩ ؛ النورية المظهريه ١٠٤
ختم ٣٤٢
التحلّى : ٢٧٠
التخلّى للتجلّى
: ٢٩٦
التدبير الوجودي
: ١٥٩
الترجيح
الايجادى : ١٧٣ ، ١٧٩ التربيع : ١٥٤ تسويلات الخيالية الشيطانية : ٢٨٩
تشبيه : ١٣٥ ،
٢٦٦ ، ٢٨٣ ؛ التنزيه و ٢٨٢ التصرف في الموجودات بأسرار الأسماء : ١٥٧ ، تصفيه
الباطن : ٢٠ ، ٢٦
التطابق بين
الحقائق : ١٥٤ ؛
تطورات الوجودية
: ٢٦٨ ، ٢٩٢
تعشق : ١١٤ ،
٢٨٣ ؛ تام ١٠٨ التعرية : ٢٦
التعلقات
الكونيه : ٣٩
التعين : ٩٦ ؛
الأسمى الاحدى ١٠٥ ؛ الأسماء ٣٣٠
الاول : (مرتبه
الأحدية) ٦٤ ، ١١٥ ، ١٢١ ـ
|
|
١٢٢ ، ١٢٦ ، ١٨٤
، ٢٥٨
الاول الأسمى ٩٦
؛ الاول الأسمى الاحدى ١٢٠
الايجادى ١١٣ ؛
الجمع ٣٣٠ ؛ الحق ٣٣١ ؛ غيبي ١٠٨ ؛ التعينات : ٣٥٢ ؛ الروحانية والجسمانيه ٢٩٦ ؛
الظاهرة والباطنة ٣٣٨ ؛ المرتبية الجامعة ٣٣٧ تفاصيل الاسمائيه : ٩٠
التفريغ التام :
٦٨ ، ٧٥ ، ١٧٠ ؛ القلب : ٢٦
التقييدات
الاسمائيه والصفاتيه : ٤٧
التكوين : ٢٣٧ ؛
التلوين ٢٣٧
تميز العلمي
الأزلي : ٤٣
التنبيهات
الإلهية : ٣٣٦
التنزلات
العلوية : ٢٧٤ التنزل القرآني : ٣٤٦ تنزيه : ١١٢ ، ١٣٥ ، ١٤٥ ، ٢٦٦ ، ٢٨٣ ،
والتشبيه ٢٨٢
التوبة (أول
مقام السالكين) ٢٦٨ ؛ مقام ٢٦٩ ، ٢٧٠
التوجهات : ٢٧٧
؛ الباطنة ١٥٧ ؛ الغيبية ٢٤٣ ؛ الملكيه ١٦٦ ؛ توجه الإرادي : ١٩٦
الإلهي : ١١٨ ؛
الإلهي للإيجاد ١١٨ ؛ الجمعى ٢٧٥ ؛ الذاتي : ٢٠٨ ، ٢٨٣
التوحيد (والإيقان
، هما سر النعمة) ٢٨٦
«ث»
الثبوت الامكانى
: ٩٣
«ج»
الجامع (الاسم)
٤٠
|
الجامع بين
التنزيه والتشبيه ٢٩٥ ؛ بين الظاهر والباطن ٢٩٥ بين مراتب النعيم (الإنسان
الكامل) ٣٠٧
جزاء الأبدي :
٢٠٥ ؛ الكلى الاحدى ٢٠٦
جرائد الأعمال (كتب
الفجار والأبرار) ٢٠٨ الجمع الاحدى : ٣٢ ، ٨٦ ، ٩٦ ، ١٣٧ ، ١٤٤ ؛ الإلهي : ٤٢ ،
٨٤ ، ٨٦ ، النكاحى ١٨٨ ؛ احديه ٦٢ ، ٦٦ ، ٧٦ ، ٨٢ ، ١١٠ ، ١١٥ ، ١١٨ ، ١٢٧ ، ١٤٣
، ١٦٨ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٩٣ ، ٢١١ ، ٢١٩ ، ٢٣٥ ، ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، ٢٤٦ ، ٢٥٢ ، ٢٥٨ ، ٢٦١
، ٢٧١ ، ٢٧٤ ، ٢٩٩ ، ٣١٨ ، ٣٣٠ ، ٣٣٢ ؛ احديه الإلهي ٤٢ ، ٨٤ ، ٨٦ ؛ الذاتي : ٤١
؛ احديه والوجود : ٤٨ ، ١٧١ ؛ تعين ٣٣٠ ؛ مقام ١٩٣ ، ٢٢٦ ، لسان ٢٣٨ ، ٢٥٠ ، ٢٥٨
؛ بين الظاهر والباطن : ٢٦٦ ؛ بين التنزيه والتشبيه ٢٦٦
جمع الجمع : ١٢٦
، ٢٣٢ ، ٣٤٢
الوحدانى ٣٨ ؛
جمعية الكبرى ٥٧
جناب الأقدس :
٢٠٥ ؛ جنة اختصاص ٢٢٣ ؛ الأعمال ١٧٦ ، ٢٢٣ ، اختصاص ٢٢٣ ، الميراث ٢٢٣
منازل الجنانية
٢٨٩ ؛ [النشأة] الجنانية : ٢٩٦
جوهريه الأرواح
: ٢٩٩ ؛ جوامع الكلم ١٥ ، ١٩ ، ٣٣٠ ، ٣٤٩ ، ٣٥١
جهات المعنوية
٢٥٧
«ح»
حالة الاعتداليه
الحقه ٢٢٥٥
|
|
الوسطى
الاعتداليه ٢٦٥
حامل سر
الربوبية ١٨١
حب الحق أن يعرف
(السبب الاول في إيجاد العالم) ٣٣٥
الحبى : ١١٠ ،
حركة ١١٠
الحبيه : ١٤ ،
حركة ١١١ ، ١٣٥ ، ١٩٦ ؛ حركه الغيبية ٧١ ؛ الحركات المعنوية ١١٠ ، حجاب : ٦٨ ،
٦٩ ، ٧٧ ، ١٠٧ ؛ غيب ربه ٤٢
الحجب : ١٠١ ،
١٢٩ ، ١٤٦ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٧٨ ، ٢٠٢ ؛ ظلمانية ٥١ ؛ الكون ٦٨ ؛ الكونيه ٥٧ ؛
المانعة من الإدراك ١٥ ، نورية ٥٠ ٢٢٦ ، حجج ٩٣ ؛ حدوث ٣٣٧
الحدّ : ١٤ ، ٧٠
، ١٨٨ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧ ، ٢٥٨ ، ٢٩٠ الفاصل (البرزخ الاول) ٤٨ ، ٢٤٤ حرف وجودى : ٨٠ ـ
غيبي ٨٠.
حركة الايجاديه
٨٦ ؛ الحبيه ١١١ ، ١٣٥ ، ١٩٦ ، العرشية اليوميه ١٣٦ ؛ غيبيه ٧٦ ؛ ١١٠ الغيبية
الإرادية ١٨٩ ؛ الغيبية الحبيه ٧١ ؛ القدسية الشوقية الغيبية ١١٠
الحركات الدورية
الاحاطيه ١١٠ ؛ المعنوية الحبيه ١١٠
حروف النفس
الرحمانى (الموجودات الغيبية) ٨٤
حصص الغيبية ٢٢١
؛ الوجودية ٢٨٩
حضرات : ٦٩ ، ٩٠
، ١٤٤ ، ٢١٣ ، ٢٢٦
اسماء [الحق]
وصفاته ٣١٥ ؛ الأصلية ٢٠٧ ؛ الأصلية الإلهية ٤٦ ؛ الإلهية ٣٤٧ ؛
|
الإلهية العلمية
١٧٦
الاول الأصلية
١٠ الخمس : ١٤ ، ٩٠ ، ١٢٦ ، ١٢٧ ، ١٨٨ ، ٢٢٦ ، ٣٣١ ، الخمس الأصلية ٨٣
الرحمة ١٧٥ ؛
الروحانية ١٦٣
العلوية ١٨٩ ؛
العلى ٢٥٢
غيب الذات ٣٣٨ ؛
القدس ٤٧ ؛ القيديه ٤٧ الكلية ٨١ ؛ الوجودية المتعينة من غيب الذات ٣٣٨
حمزه : ٧ ، ٣٢ ،
٤١ ، ٤٣ ، ٥٥ ، ٣٣٢
الأحدية ٧٠
احديه : ٢٣٥ ،
٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، ٢٤٦ ، ٢٥٨ ، ٣١٨ ، ٣٥٢
احديه الجمع
والوجود : ٤٨ ، ١٧١ ؛ احديه ذات ٢٥٢ ؛ الأسماء : ١٠ ، ٤٨ ، ٦٨ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ١٠٤
، ١٢٠ ، ٢٢٧
الأسماء
والأعيان ٢١٤
الإلهية : ٦٤ ،
٧٦ ، ٩٠ ، ١٣١ ؛ الألوهية ٣٣٧ ، ٣٤٢
الإمكان ٨٨
البطون ١٧٥ ؛
التهيم : ٣٣٨ الجامعة ١٣٠ ؛
الجامعة الكاملة
: ٢١٥ الجمع ٤٣ ، ٧٣ ، ٨٢ ، ١٠٠ ، ١٢٦ ، ١٣٩ ، ١٦٨ ، ١٧٥
الجمع والأسرار
٧ ؛
الجمع والوجود
١٠ ، ٧٦ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٦٢
الحق ٢١٩ ، ٣٥٢
؛ الحقائق والمعاني ٢٦١
|
|
الذات : ٣٥ ،
٢٦٣ ؛ ذات الحق ١٠٣
الذاتية الغيبية
١٩٦ ؛ الذاتية الأحدية ٣٠٦
الظهور ١٧٥ ؛
الظهور والشهاده ١٠
العلم ٦٣ ؛
العلم الإلهي الغيبى ٧٩ ؛ العلم الدنى ٥١
العلمية : ٣٢ ،
٦١ ـ ٦٣ ، ١١٥ ؛ العلمية الأحدية ٦٤
العلمية الذاتية
الغيبية ١١٥ ؛ العلمية الغيبية ٦٢
العلمية النورية
٦٥ ـ العلمية النورية الغيبية ١٠٧
العماء ١٠٤
الغيب : ٦٥ ، ٩٣
، ١١٢ ؛
الغيب الإلهي ٧٩
الغيب الإلهي المطلق ٦٨ ؛ غيب الذات ١٠٦ ، ١٧٠
غيب الذاتي ٣٤١
الغيبية العلمية
النورية ١٠ ؛ الغيبية غير المتعينة ١٠٤
القدس ١١ ، ٢٢
الكون ٣٥٢
الكونيه ٩٠
الكيانيه ٩٢
المختص بالحدّ
الفاصل ٧٠ ؛ المسمى ١٠ النكاح الاول ٢٦٠ ؛ النورية العلمية ٦٤
الوجوب والإمكان
: ٢١٤ ، ٢٧٤ ؛ الوحدانية ١١٤ ، ١٤٠ ؛ الوحدانية الغيبية ١١١ ؛ الحضرتين (الإلهية
والكونيه) : ٨٧ ، ٩٠ ، ١٤٤
|
برزخ ٢٤٤ ، ٢٩٩
؛ مرآة ٢٤٤ ، ٢٩٩
حقايق الأسماء
٢٣٦ ؛ الأسماء الغيبية ١٢١ ؛
الاسمائيه ٧٠ ،
٩٦ ، ١٦٧ الاسمائيه الكلية ٥٢ ؛ الاسمائيه والكونيه ١١٠
الأشياء ٩٤ ،
١٤٨ الإلهية والكونيه ٣٤ الباطنة ١٠٢ العاليه القاهرة ٣٤ ؛
العليه الغيبية
١٣٦ الغيبية ٣٢ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٦٧ ، ١٦٦ ؛
الغيبية المجردة
١٦١
الكلية : ٧٧ ،
١٨٤ الكونيه ٧٥ ، ٩٥ ، ١٣٠ ، ٢٦٨ ؛ المجردة ٣١ ، ٣٢ ، ٤٤ ، ١٠٢ ، ١٤٦ ؛ المجردة
الكلية ١٤٢ ، ٢٢٧ ؛ الممكنات ٢١٥ ؛ الوجودية الإلهية والكونيه ٣٤
حقيقه مجردة
كليه (العلم) ٤٩
الإنسانية
الكمالية ٢٤٤
الحكم (الاسم)
١٦٣
حكم الأحدي
الاول ٨٣ ؛ الأعلى ١٣٦
الأعيان الكونيه
٩٢ ؛ الامكانى ١٧٦
التصديقي ٢٣٠ ؛
التربية ١٥٧ ؛ التعينى ١١٣
الجمع الاحدى :
٨٦ ، ٩٦ ، ١٣٧ ، ١٤٤
الجمعى ٨٦ ، ١٩٤
؛ الجمعى الاحدى ٨٣ ، ٨٥ ؛ الجمعى الاحدى الإلهي ٨٣ الجمع بالأحدية ١٢٣
الحبى ١٩٢
الذاتي الاحدى
الجمعى ٢١١١
|
|
الذوقى ١٥٣
الرحمانى ٢٢١
السيادة ١٥٦
شهود الاحدى ١٩٨
العمائى (تأويل «الغمام»
في آية الشريفه وتطبيقها بالحكم العمائى) ٤٣
الكثرة والإمكان
١٨٥
المختص بالأمر
المتعين ١١٢
حلول : ٤٣ حمد :
٧ ، ١٤٠ ـ ١٤٣ ، ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٧١ ، ٢٢٨ ؛
الحمد : ١٤٤ ـ
١٤٦ ؛ المطلق ١٤٧ ، ١٧٢ الأسنى الأعم الأظهر الاشمل ٧
حيره : ٣١٨ ؛
اهل البدايات (المرتبة الاولى من مراتب الضلال) ٣١٣ ؛ المتوسطين (المرتبة
الثانية من مراتب الضلال) ٣١٣
«خ»
الخالق (الاسم)
٧٢ ، ١٥٢
ختم التجليات
٣٤٢
ختم الخلافة
الظاهرة ٣٤٢ ؛ مطلق الخلافة ٣٤٢ ؛ ختميه النبوه ٣٤٢ ؛ الولاية المحمدية ٣٤٢ ؛
الخزانة الجامعة
(النفس الرحمانى) ٧٥
خزنه مفاتيح
الغيب (اصحاب الاعتدال الاسمائى الغيبى الإلهي) ٢٦١
خطاب الإلهي :
٢٦٢
الخلافة : ٣٤٢ ؛
الظاهرة : ٣٤٢ ؛ العامة ٢٧١ ؛ خلق التقديري ٢٩٥
|
«د»
دائرة الايمان
٢٦٩ ، الغيبية ١٢٤ ؛ الوجود ١٠٧ ؛ الوجودية ٦١ ، ٣٥٥ ؛ نقطه وسط (مقام) ١١ ، ١٦
دار جمع ومزج (دنيا) ١٧٧ درجات : ٢٧٧ ؛ الأكملية : ٢٧١ ، ٢٧٦ ؛ الجنانية ١٧٤ ؛
الظهور ٢٣٥ ؛ العلى ٢٧٠ ؛ الغضب ٢٩٨ ؛ الكمال الايمانى ٢٦٩ ؛ المعرفة والشهود
٢٨٢ ؛ أول الإحسان ١٧٤ أول الايمان ٢٧١
دنيا : ٢٦٩
الدهر : ١٨٥ ،
١٩٣
«ذ»
الذات : ٢٧٦ ،
٣٥٣ ؛ الحق ١٠٣ ، ٢١٧ ؛
المقدسه ٢٣١ ،
احديه ٢٥١ ، ٢٥٢
، ٣٥٤ ؛ حكم ٢٣٧ ؛
خضرة ٣٥ ، ٢٦٣
تعريف ٢٤٨
غيب ١٠٦ ، ١٧٠ ،
٢٤١ ، ٢٤٣ ، ٣٥٤
الربوبية الذاتي
الاحدى : ١١١ ؛ الربوبية المقام الاحدى ١١٥ ؛ السير ٢٦٨ الشأن المطلق الإلهي ٢٥٨
، شهود ٢٩٦ ؛ غيب ٣٤١ ؛ حضرة الذاتية الأحدية : ٣٠٦ ؛ حضرة الغيبية ١٩٦ ؛ حضرة
العلمية ١١٥ رحمة الامتنانيه ٣٠١ ؛ عبادة ٢٦٨ ، المحبة ٢٩٤ ؛ المشاهدة ٢٩٧
المعية ٢٥٣ ، ٢٦٦ ؛ ذوق الأكابر ٧٩ ؛ الصحيح ١٥٨ ؛ الراسخون في العلم ٢٥٠
|
|
الرب (الاسم) :
٩٣ ، ١٤٠ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٦٠ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٦٨ ، ١٧٢ ، ١٨٢ ، ٢٢٢ ، ٢٣٨
ربط العالم
والموجودات بعضها بالبعض ١٨٨ الرتبة العبودية ٣٥٢
الرحمة : ٣٣٤ ؛
الامتنانيه ٢٢٤ ، ٢٨٩ ؛ الذاتية ٢٢٣ ، ٢٢٤ ؛ الذاتية الامتنانيه ٣٠١ ؛ العامة
٣٠٢ ، ٣٣٤ العامة الايجاديه الرحمانية ١٣٦ ؛ الفائضه من الرحمة الذاتية ٢٢٤ ؛
القيديه الشرطية ٢٢٤
الرسالة : ٢٧٣ ؛
العامة ٢٧١ ؛ مرتبه ٢٧١ الرحمن (الاسم) : ١٠٠ ، ١٠٣ ، ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٧ ، ١٢٩ ،
١٣٠ ، ١٧١ ، ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٧٦
الرحيم (الاسم)
: ١٠٣ ، ١٢٠ ، ١٢٧ ، ١٢٩ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٧١ ، ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٧٧ ؛ الرسالة : ٢٧٣ ؛
العامة ٢٧١ ؛ مرتبه ٢٧١
روح القدس
الإلهي : ٢٧٤
روحانية (مرتبة
من مراتب العلم) ٥٦ ؛ الرياضه : ٢٠ ، ١٦٥
«س»
السبب الاول في
إيجاد العالم (حب الحق ان يعرف) ٣٣٥
سدرة المنتهى
١٩٥ ، ٢٦٢ ؛ سرايه الذاتية ٢٣١
سر الإحاطة :
٢٥٣ ؛ الأسماء ٩٥ ، ١٠١ ؛ ارتباط الحق بالإنسان ٢١٦ ؛ ارتباط الإنسان [بالحق]
٢١٦ ؛ ارتباط العالم بالرب ٢٢٢ ؛ الأكبر ٢٧٨ ؛ الألوهية ١٣١ ؛ الأمر الاحدى ٩٨ ؛
الأمر الاحدى الجمعى الإلهي
|
٢٠٢ ؛ الإيجاد
١٢٥ ، الإيجاد والإظهار ٨٨ ؛ الإيجاد وبدئه ١٩٦ ، ٢٥٨ ، الاهتداء ٢٧٨ ، بدء
الأمر ١١٨ ، ١٢٥ ، ١٣٤ ، البدء والإيجاد ١٠١ ؛ تبديل السيئات الحسنات ٢٠٥ ؛
التجليات ١٦٦ ، التجلي الإلهي الجمعى الاحدى ١٤٣ ؛ التسوية الإلهية ٧٤ ؛ التنزل
القرآني ٣٤٦ ؛ التوحيد واليقين ٢٨٦
الجامع ١٠١ ،
١٨٦ ؛ الجمعى الاحدى الإلهي ٨٥ ؛ الحمد ١٥٥ ، ١٥٦ الحيطة والمعية الذاتية ٢٦٦ ؛
الدعا والإجابة ٢٨٠ ؛ الدين : ١٧٩ ، ١٨٦ ؛ الربوبية : ١٠٠ ؛ سبق الرحمة الغضب
١٧٤ ؛ الشهاده ١٤
العرش والكرسي
١٧٣ ، الغنى الذاتي ١٠٨ ؛ الغيبين (المطلق والإضافي) ١٤ ؛ الغيبى الإلهي ٧٨
القران ١٨ ؛ الكتاب والكتابة والكلام ١٤
المراتب الاولى
الأصلية الاسمائيه ١٤ ؛ المعية الإلهية الذاتية ٢٤٧
النبوه ٢٨٠ ،
٢٩٠ ، ٣٤٥ ؛ النونى ٢٥٨
الهداية ٢٩٨
سريان : ١٢٣ ،
١٢٥ ، ١٢٧ ، تجلى الحق ١٢٣ حكم الجمع الاحدى الاحدى ٩٦ ؛ حكم الجمع الاحدى
الوجودي الإلهي ٣٢ ؛ حكم الجمع بالأحدية ١٢٣ ؛ حكم الجمع الاحدى الإلهي ٨٣ ؛ حكم
شهود الاحدى ١٩٨ ؛ الذاتي ١٢٣ ، ٣٣٤
السفر الى الله
٢٧٦ ، ٣٢٣ ؛ [السفر] من [الحق]
|
|
الى الخلق ٢٧٦
سلوك : ٢٥٦ ،
٢٧٤ ، ٢٧٥ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢ ، ٢٩٠ ؛ السير و ٢٦٨
سنن الاعتدال
والاستقامة ٢٦١
السير الذاتي
٢٦٨
«ش»
الشأن المطلق
الإلهي الذاتي ٢٥٩
الشؤون الإلهية
٣٣٣
شجرة الحضرة
الإلهية ٢٣١
طوبى ٢٩٣
الشريعة : ٢٨٠ ،
٢٩٢ ، ٣٤١ ، ٣٤٨ ؛ المحمدية ٣٤٨ اسرار ٢٨٦ ، ٢٩٣
الشكر ١٤٦ ؛
الأسمى الأتم الأخطر الأفضل ٧ أعلى مراتب ٣٥١
الشهاده : ٩ ،
١٠ ، ١٤ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ٥٨ ، ٦٧ ، ٧٠ ، ٧٨ ، ٩٠ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٦
، ١١٣ ، ١١٧ ، ١٢١ ، ١٤٢ ، ٢٢٤
الاولى ١١٧ ؛
التامة ١٢٣
شهود : ٧ ، ٩ ،
٤٥ ، ٥٦ ، ٧٧ ، ٧٩ ، ١١٦ ، ١١٧ ، ١٣٥ ، ١٣٧ ، ١٦٩ ، ١٩٦ ، ٢١٥ ، ٢٢١ ، ٢٦٥ ، ٢٨٣
، ٢٨٦ ، ٣٢٧
الاول الجملي ٣١
الذاتي ١٨٦ ،
٢٩٦
«ص»
صاحب احديه
الجمع : ٢٧١ ؛ الاستعدادات الوجودية الجزئيه ٢٨٨
الذوق الجمعى
الاحدى ٥٥ ؛
|
العلم الحقيقي ٥٨
؛
قرب الفرائض ٢٠٨
مرتبة المضاهاة
٤١
صحبة ذاتية ٣١٠
؛ الصحو ٣١٥
الصفات : ١١ ،
١٣ ، ١٩ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٩ ـ ٤١ ، ٤٣ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ٦١ ، ٦٨ ، ٧٠ ، ٧١
، ٧٥ ، ٧٧ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٧ ـ ٩٩ ، ١٠٦ ، ١١٣ ، ١١٧ ، ١٢٤ ، ١٣٠ ، ١٣٥ ،
١٣٩ ، ١٤١ ، ١٥٠ ، ١٦٥ ، ١٨٧ ، ١٩٣ ، ٢٠٨ ، ٢١٧ ، ٢٢٣ ، ٢٢٦ ، ٢٤٩ ، ٢٥٦ ، ٢٧٦ ،
٢٨٨ ، ٢٩٩ ، ٣٠٢ ، ٣٠٨ ، ٣٢٤ ، ٣٥٥
الإلهية ٣٠٦ ؛
التجلي ٣٩ ؛ التقييديه ٢١٧ الكونيه ٣٩ ؛ الكونيه التقييديه ٣٣
الروحانية
والطبيعة ٢٠٢ ؛ المتعينة ١١٣
المعنوية
النفسانية ١٦٦
«ص»
الصفة : ٢٨ ، ٢٩
، ٣٦ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٢ ، ٤٤ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١١٥ ، ١١٦ ،
١٤٦ ، ٢٧٦
التعين ٤٠ ؛
التعيين ٤١ ؛ الحبيه ١٤
العينية ٧٨ ؛
الكمالية ١١١
صور الاحكام
العلمية الإلهية ٨١ ؛ الأعمال ٣٠٩
البسيطة ٢٣٢ ؛
الذهنية ١٥٢ ؛ الذهنية الاعتقادية ٢٢٩ ؛ الشرائع ٢٧٣ ؛ العلوية ٧٥ ، ١٩٠ ؛
العنصرية ١٩٥ ؛ المتعينة الإنسانية ١٦٤ ؛ الوجودية ٥١
الصورة الإلهية
١١٣ ؛ الإنسان الحقيقي
|
|
الكامل ٣٠١
حضرته ٧ ؛ الحق
٢٤٤ ؛ الذهنيه ٢٣١
الربانية ٢٣٥ ؛
روحانية الكلام ١٦
الإنسان الحقيقي
الكامل ٣٠١
العالم (مثال
لعالم المعاني والحقائق) ٣٣
العلم المحيط
بالأحوال الإمكانية (القران) ٨١ ؛ العلمية الأصلية ٥٧
النبوه (التشريع)
٢٧٣
«ط»
طائفة العرفان
والكشف والشهود ٢٦٩
طبقات السماوات
٢٠٤ ؛ [طبقات] البرزخ ٢٠٤ ؛ الجنه ٢٠٤ ، الحشر ٢٠٤ ، النار ٢٠٤
طلب الاستعدادي
الكونى ١١٠
الاسمائى
والكونى ١٠٨
طلسمات
الروحانية ٣٠٤
السفير (الإنسان
الكامل من حيث الصورة) ١٠ ، الصورة ١٢٠
الطبيعة ١٦١
العلوي ١٩٤ ،
٢٠٩ ، ١٨٩ ؛ العنصري ١٩٥
الغيب ٣٣١ ؛
القلم ١٧٠
الكثيب ١٦١ ؛
الكبير : ٧٦ ، ١٣٤ ، ١٦٩ ؛ الكبير الاول ١٠ ؛ الكثرة ١٠٩
الكشف ١٦٣
المثال ٢٠٩ ،
١٨٨ ؛ المثال الجامع بين الغيب والشهاده ٢٢٧ ؛ المثال المطلق : ١٧٠ ، ١٨٨ ، ٢١٠
المعاني : ١٦٦ ؛
المعاني المجردة ١٦٣
|
المعاني
والحقائق ٣٣ ؛ الملكيه والجبروتية والملكوتية ١١
العبادات
البرزخيه الجامعة ٩٣
عبادة الباطنة
٢٨٨
الذاتية ٢٣٨ ،
٣٤١ ؛ ذاتية مطلقة ٢٣٧
صفاتيه مقيدة
٢٣٧ ، ٢٣٨
العبودية : ١٥٨
، ٢٢٨ ، ٣٠١ ؛ التامة ١٢٣ ؛ لسان ٢٨٥
العجز الكونى
١٨٢ ؛ العدل (الاسم) ١٦٣ ، ٣٠١ عذاب الأخروي ٢٠٤ ؛ الروحاني ٢٨٩ ؛ المعجل ٢٠٥ ؛
[] المتطاول المدة ٢٠٥ العرش (مظهر الوجود المطلق الفائض) ١٢٠ ، ١٧١ ، ١٧٣ ، ١٨٥
، ١٩٥ ، ٢٥١ ، ٢٦٦ ، ٢٩٣ ، ٣٣١
الرحمان : ٢٩٤ ،
المحيط : ١٣٠ ، المحيط بصور العالم ٣٠٢ ، الوحدانى ١٢٧ ، الوحدانى الوصف ٢٥٩ ،
العطايا القدسية ٣١٦
العقل : ٧٩ ،
١٠٤ ، ١١٨ ؛ الاول : ٦٤
العلم الأزلي ٥١
العلم الأسماء
١٥ ، ٢٣٢ ؛ الله (علمه حقيقة وفي مقابله علم العبد مجاز) ٤٤
«ظ»
الظاهر : ١٠ ،
١٤ ، ٢٣ ، ٣٦ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٣ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٩ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٨٦ ، ٩٠ ، ١٠٢ ،
١٠٣ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١٢٣ ، ١٢٦ ، ١٣٥ ، ١٦٠ ، ١٨٠ ، ١٨٥ ، ١٩٦ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٣٣ ،
٢٥٨ ، ٢٨٥ ، ٢٩٨ ، ٣٠٧ ، ٣١٢ ،
|
|
٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٤٩
، ٣٥٤ ، ٣٥٧
النشأة الظاهرة
٢٨٦
طاهريه الأسماء
الأول ١١٩
الظهر : ١٤ ،
٢٢٦
ظهور : ١٠ ، ١١
، ١٥ ، ٣١ ، ٣٤ ، ٣٨ ، ٥٨ ، ٨٤ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١٢٦ ، ١٤٤ ،
١٥٦ ، ٢٢٧ ، ٢٣٢ ، ٢٥٩ ، ٢٩٨ ، ٣٠٨ ، ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٣٣٥ ، ٣٤٠ ، ٣٤١ ، ٣٥٢
الاول ٣٣١ ؛
التعين ٢٠٥
«ع»
عافية الروحانية
٢٨٩
عالم : ٢٩٦
الآخرة : ٦١
الأرواح : ١٠ ،
٦١ ، ٨١ ، ٢٠٩ ، ٣٣١ ؛ الأسفل ٤١
الأعلى : ٤١ ،
٥٢ ؛ الأمر ٥١ ؛ البرزخ ١٧١
التدوين
والتسطير : ١١١ ، ١١٦ ، ١١٨ ، ١٢٢ ، ٢٩٧
التهييم : ١٧٠
الجنان ١٦١ ؛
جهنم : ١٦١
الحس والشهاده
٢٠٩ ؛ الحشر ١٧١
الخلق ٥١ ؛
الخيال الإنساني ٢٠٩
الدنيا ٦١ ، ١٧١
؛ السفلى ١٨٨
الشهادة ٩ ، ١٠٧
، ٢٠٩ ، ٢٢١ ، ٣٣١
الأولين
والآخرين ١٤٩ ؛ الإلهي ٧٢ ، ٩٣
الحقائق ٩
الحق ٢٥ ، ٣٦ ،
٣٧ ، ٤٦ ، ٨٠ ، ٢٣٧ ، ٢٦٣ ، ٣٢٤
|
الحقيقي ٥٨
الذاتي المحيط :
٦٩ الذوقى : ٣٥ ، ٣٧
الشهودى التام
١٩٥
القدر ٢٧٠ ؛
الكونى ٥٣
الكمّل ٢٧٧ ؛
اللدني ٤٤
مكتسب ٢٦٣ ؛
الموهوب ٥٣
علوم المكتسبة ٤٦
، ٣٢٣ ؛ الموهوبة ٣٢٣
العليم (الاسم)
٢٤٢
العماء : ٤٨ ،
٦١ ، ٦٨ ، ٩١ ـ ٩٣ ، ١٠٤ ، (اسم مرتبة الإنسان الكامل بلسان الشريعة) ١١٣ ، ١١٥
، ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٦٢ ، ١٧٠ ، ١٩٥
الحكم العمائى :
٤٣
الحيطة العمائيه
٤٣ ؛ كينونة ٢٥٨ ، ٢٦٠
عوالم : ٢٢٢ ،
٢٢٦ ، ٢٩٦ ؛ العلوية ٢٩٤ ؛ عليين ٢٠٨
العين الثابتة :
٤٠ ، ٦٣ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ١٥١ ، ١٦٩ الممكن الثابتة في العلم ٧٢
«غ»
الغنى الجامع :
١٥٧ ؛ النفسي ١٥٧
الغيب : ٩ ، ١٠
، ١٤ ، ٢٠ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٨ ، ٦٥ ، ٦٨ ، ٧٠ ، ٧٧ ، ٨١ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ٩٥ ،
١٠١ ـ ١٠٣ ، ١٠٦ ، ١٠٨ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١١٧ ، ١١٩ ، ١٣٤ ، ١٣٩ ، ١٤٢ ، ١٨٤ ، ٢٣٢ ،
٣٥٠
غيبه الاحمى : ٧
الأصلي ٩٠ ؛ [آ]
الإضافي ٨١ ، ٩٦ ، ٢٥٩ ؛ الإضافي الاول ٤٨ ؛ الإلهي ٣٧ ، ٨١ ، ٩٦ ، ٩٩ ، ١٠٣ ،
١٠٤ ، ١١١ ، ١١٥ ، ٢٢٧ ؛ الإلهي
|
|
الذاتي ١٤٠ ؛
الإلهي المطلق ٦٨ ، ١٢٠ ؛ الاول ٩٠
الحق : ١٨٤ ،
٢٠٨ ؛ الحق الذاتي ٢٤٢
الذات : ٤٢ ، ٥٩
، ٦١ ، ٧٣ ، ١٢٢ ، ٢٠١ ، ٢١٦ ، ٢٤١ ، ٣٣٨ ، ٣٥٤
ذات ربه ٣٢٧ ؛
الذاتي : ٨٨ ، ٩١ ، ١٠٥ ، ١٦٠ ، ١٨٤ ، ٢٤٣ ، ٣٣٩
الذاتي المطلق :
٣٦ ، ١١٦
المطلق : ٤٨ ،
٤٩ ، ٧٠ ، ٧٢ ، ٩٦ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٥ ، ١١٥ ، ١٢٢ غيبوبة العبد في غيب ذات ربه ٢٧٦
الغيبين (الغيب المطلق والإضافي) ١٤ ، ١٠٣
«ف»
الفتح الاول ١٣٩
الفردية الاولى
: ٩٣ ، ١١٩ ، ١٥٤
الفرقانيه ٣٣٠
الفضيلة الذاتية
الازلية : ٢١٧
الفقر الجامع :
١٥٧ ؛ الفلك الثامن ٨٨ ؛ الفناء :
١٥٩ ، ١٦١ ، ١٦٨
الفواتح الكلية
٣٣٠ ؛ الفواصل البرزخيه ٣٣٣ الفيض الإلهي ١٦٦ ؛ الفيض الغيبى ٣٤
«ق»
قاب قوسين : (مقام)
١٧
القران : ١٤ ، (صورة
العلم المحيط بالأحوال الإمكانية) ٨١ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ٢٨٧ ، ٣٤١
العزيز (النسخة
الشارحة صفات الكمال الظاهر بالإنسان) ١٠ ؛ اسرار ٢٣٩ ، التنزل
|
القرآني : ٣٤٦
اسرار الإلهية
القرآنيه ٣٣٠ ؛ لطائف الشرعية ٢٨٧
قرب الفرائض : (مقام)
٣٣ ، ٤٢ ، ٨٣ ، ٨٦
الفرائض
والنوافل : ٤٧ ، ١٥١ ، ٢٠٨
النوافل : ٤٢ ،
٨٦
القلب الإنساني
: ٤١
القلم : ٩٦ ،
١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢٢ ، ١٢٥ ، ١٢٧ ، ٢٥٩
الأسمى ١٠ ؛
الأعلى ٥٧ ، ٢٢٤ ، ٢٥١ ، ٢٦٠ ، ٢٩٣ ، ٢٩٧ ، ٣٤١ ؛ الإلهي ٨٨
القول الايجادى
٦٨ ؛ الامرى ٩٥
قوى الباطنة :
٣٢٠ ؛ الروحانية ٢٥٦
الطبيعية ٢٠٨ ،
٢٥٦ ؛ الظاهرة ٣٣٠
القلبيه : ٢٠٢
«ك»
كتاب : ١٤ ، ٧٧
، ٢٣٩ الله : ١٨
حاملا صور اسماء
الحق (العالم الكبير الاول من حيث الصورة) ١٠
الصغير ١٣٤
الكبير : ١٠ ،
١٤ ، ٤٩ ، (العالم) ١٠٦ ، ١٣٤ مسطور في رق منشور (تأويل الآية الشريفه وتطبيقها
بالعالم) ٨٠
الكتابة ٨٨ ؛
الإلهية القلميه ٢٩٦
الكتابين (الكبير
والمختصر) ١٥
الكتب : ٨١ ؛
الإلهية : ٢١٥
|
|
الكلية : ١٠ ؛
المنزلة ٣٣٦
الكرسي : (مظهر
الموجودات المتعينة) ١٢٠ ، ١٢٧ ، ١٣٠ ، ١٨٥ ، ١٩٥ ، ٢٥٩ ، ٢٩٣ ، ٣٣١ ، العلى ١٣٧
الكشف : ١٦٤ ،
١٨٥ ، ٢٠٤ ؛ الاجلى ١٠٤
التام : ١٥٨ ،
١٨٢ ؛ الصريح ٣٤٤ العلمي ٥٣ ؛ عن ملابس مثاليه ٤٧ ؛ الكامل ٤٥ ؛ المعنوي الغيبى
٤٦
والشهود ٢٦٩
الكلام : ١٤ ـ
١٦ ، ٢٤ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧١
الحق ١٦ ؛
الغيبى الاحدى ١٤
المجرد الوحدانى
٦٧ ، ٢٣٩ ؛ الوحدانى ٦٩ والكتابة الإلهيين ٤٧
الكلمات الإلهية
: ١٢٠ ؛ الله : (الموجودات بأسرها) ١٤٥ ، (الموجودات) ٩٥
الكلمة : ٢٥٩ ؛
غيبي ٨٠ ، وجودى ٨٠
كمال الاستجلاء
١١٤
الاستهلاك ٣٢٧ ؛
الاسمائى المرتبى ٣٤٠ الإلهي ٣١٨ ، ٣٥١ ؛ الاول الوجودي الذاتي الوجوبي ١٠٨
الجلاء : ١١٤ ؛
الجلاء والاستجلاء ١٠٨ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٨
الذاتي : ٣٠٧ ،
٣٤٠
العبدى : ٣٥١ ؛
العلم : ٣٣٦
المطلق الأتم
٢١٣ ؛ الوجودي ٣٤٠
الوجودي الذاتي
: ١٠٧ ، ١١٦
الكمالات
الإلهية ١١٧
|
الكمّل : ٢٧٧ ،
٢٨١ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، ٢٩٩ ، ٣٠٢ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦
المقربين (اصحاب
الاعتدال الاسمائى الغيبى) ٢٦١
«كن» : ١٠ ، ٣٦
، ٢٣٧
«كنت سمعه وبصره»
: (مقام) ٣٣
كينونة العمائيه
: ٢٥٨
«ل»
لا اسم ، لا نعت
ولا صفة : (الغيب المطلق الذي لا يتعين له مرتبه) ٤٩
لا اسم ولا صفه
ولا حال ولا حكم : (مرتبة غيب الغيوب) ٢٥٨
لا تعين : ٨٨ ،
٢٥٨
لذات الجسمانيه
: ٢٨٩ ؛ الروحانية ٢٨٨
لسان احدية
الجمع : ١٤٤ ، ١٧٦ ؛ الاستعداد الكلى الذاتي الغيبى العيني ٢٨٠
الباطن ١٦٨ ،
٢٨٨ ؛ الثناء ١٤٢
الجمعى : ٢٢٤ ؛
الجمع الجمع ٣٣٥
الجمع والمطلع
٢٤١ ، ٢٥٠ ؛ جمعه ٧
الحال ٢٨٠ ؛
الحجة الإلهية ٢٠ ؛ الحد والمطلع ٢٩٠
الحمد ١٤٦
الذات ١٤٤ ،
الذوق ١٤٧ ؛ الذوقى والعقلي ١٥٣
الربوبية ٢٨٥ ؛
الروح ٢٨٠
الشرعي الذوقى
١٥٠ ؛ الشريعة ١١٣
الظاهر : ١٦٨ ،
٢٢٨٠
|
|
العبودية ٢٨٥ ؛
ما بعد المطلع ٣٢٢
المقام ٢٨٠ ؛
مقام المطلع واحدية الجمع ٢١١
اللوح : ٩٦ ،
١٢٥ ، ١٢٧ ، ١٧١ ، ١٩٥ ، ٢٥٩
المحفوظ : ١٠ ،
١١٩ ، ١٢٠ ، ١٣٦ ، ٢٢٤ ، ٢٩٦
«م»
المانع (الاسم)
٢٤٢
ما بعد المطلع :
٣٢٢
ماهية الثابتة
في العلم : ٨٢
مبدأ تعين الجمع
(مقام احدية الجمع) ٣٣٠ المتجلّى : ٣٤ ، ٢٦٣
المتجلى له : ٣٥
، ٣٧ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٥٠ ، ٥١ ، ١٠٩ ، ١٥١ ، ١٦٠ ، ١٦٣
المتشابه : ٣٤٧
المتعيّن الاول
: ٩٦ ؛ الواقع في مرتبه الغيب ٩٦
المثل : ١٦٧
مجالي اسماء
الحق ٣٠٢
المحكم : ٣٤٧
المحسن (الاسم) ٥٢ ، ١٧٣ المحيط (الاسم) ١٢٠
المحاذات الكلية
: ١٣٦ ؛ المعنوية البرزخيه ٤٥
المحبة الذاتية
٢٩٤
المخاطبات
العليه ٣١٤ ؛ المدبر (الاسم) ١٢٧ ؛ مذهب المتكلمين ٣٢٨
المرآة : (الإنسان
الكامل) ١١٣ ؛ (العالم السفلى مرآة للعالم العلوي) ١٨٨ ؛ ٢٠٤ ، ٢٧٦ التامة و (الإنسان
الكامل الذي هو مظهر الأسماء والصفات) ٤٣ ، ٢١٧ ؛ الجامعة :
|
٢٤١ ؛ الحضرتين
: ٢٤٤
الكلية : ٩٤ ؛
لأحكام الحضرات الخمس ٢٢٦
لحضرة الوجوب
والإمكان ٢٧٤ ؛ للحضرتين (الإلهية والكونيه) ١٤٣
لغيب الذات : (الإنسان
الكامل) ٢٤٣
الكمالية
الإلهية ٢٦٤
مراتب الاستقامة
: ٢٦٤
الأسماء : ٢١٣ ،
٢٣٣ ، ٢٥٣ ، ٣٣٨ ؛ الأسماء الكلية ١٢٩
الأسماء الكلية
١٢٩ ؛ الأسماء والصفات : ٣٢٢
الاسمائيه ٧٥ ،
٩٥
الأرواح
والمعاني ٧٤ ؛ الاعتدال ١٦١ ، ١٦٤ ، ٢٦١
الإلهية
المتعينة ٩٢ ؛ الإلهية والكونيه ٢٧٦
الاولى الأصلية
الاسمائيه ١٤
الباطنة : ١٠٣
الخمس : ١١ ، ٦٠
، ٨٤ ، ٢٠٠
الرضا : ٣٠٦ ،
٣١٠ ؛ الرضا الإنساني ٣٠٩
الروحانية ١٦٦
السير والسلوك
٢٦٨
الظهور : ١١٦
الغنى : ١٥٧ ؛
الغضب ٢٩٨
الفقر ١٥٧ ؛
الكونيه الإمكانية : ٢١٥
الوجود : ٢٣٤ ؛
الوجودية ٩٥ ؛ الوجودية ٢١٠٠
|
|
الوجودية
والاسمائيه ٢٣٣ ؛ الوجودية والعلمية ٣٣٦
النعيم ٣٠٧
الهداية : ٢٥٥ ؛
والاهتداء ٢٦٤ ؛ الهداية الكاملة : ٢٦١
الهداية والضلال
٢٥٨
مرتبه احدية
الجمع ٢٧٤ ، ٢٩٩
الأسماء ١٠٠ ؛
الألوهية : ٢٩ ؛ الأكوان والوسائط ٣٣ ؛ الإمكان ١١٥ ؛ الإنسان الكامل ١١٣ ،
الانسانية الكمالية ٢٤٢ ؛ الأولية الاسمائيه ١٢٢
البرزخيه ٩٢
الجامعة بين
الغيب والشهاده : ٩ ، ٤٠ ؛ الجامعة للأسماء ٩٩
الجامعة للأسماء
والصفات ١٨٦ ؛ حسيه (من مراتب النعيم) ٣٠٧
الخلافة المقيدة
: ٢٧١ ؛ خيالية [من مراتب النعيم] ٣٠٧
الذهنيه : ٧٩
الرسالة : ٢٧١ ؛
الرسالة العامة ٢٧١
روحانية [من
مراتب النعيم] ٣٠٧
الشهاده : ١٠ ،
٨١ ، ٩٦ ، ١١٧ ، ١٩٦
الشرائع الحقه
الربانية (مرتبه وسطى من مراتب الهداية التي تختص بالأمم السالفة من آدم الى
بعثة محمد صلىاللهعليهوآله ٢٥٥
شريعه المحمدية
الجامعة المستوعبه (المرتبة الثالثة من مراتب الهداية) ٢٥٥
|
العبودية ٣١٠
العقل النظري ١٨
الغيب : ٩٢ ؛
الغيب الأصلي ٩٠
غيبية الهيه ٢٦٠
الكمال المختص
بصاحب احديه الجمع ١٧١
الكونيه ١٢٥ ؛ «كنت
سمعه وبصره» ٢٧١
اللوحيه ١١٩
المثل ١٦٣ ؛
المستوي ٤١
المضاهاة ٤١
النكاح الثاني
٧٦
النبوة ٢٧١
الوحدانية ١١٥
مرتبتي الخلق
والأمر ٥١
مركبة مادية (مرتبة
من مراتب العلم) ٥٦
المشاهدات
السنية ٣١٤
الذاتية : ٢٩٧ ؛
الذوقية ١٣٢
مشرع الأسماء
الإلهية والصفات ٢٨٤ ؛ مشكاة الرسالتين : (الملكيه والبشرية) ٢٠
المشيئة الإلهية
١٥٧
مظاهر : ١٤ ، ٥٧
، ٦٠ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ١١٧ ، ١٩١ احكام الأشكال الكلية ٧٨
الأسماء والصفات
٣١٦ ؛ الأسماء السماوية والكوكبيه ١٨٤
التجليات ١٧٠
الجسمانيه ١٣٦
دقائق الأسماء
والصفات ١١
الصفاتيه
والاسمائيه ١٥١
مثاليه ٢٧٥
|
|
المعاني
والحقائق والمراتب ٨٥
مظهر ١١٤ ، ١٨٩
الأسماء
والحقائق ١٧٤
الأكمل الاشمل
الأعم ٤٥
الغيب المطلق
٢٢٤
الوجود البحت ٩٤
؛ المطلق الفائض (العرش) ١٢٠
معدن التجليات
الاسمائيه ٣٧ ؛ الحقائق والمعاني المجردة (الغيب الإلهي) ٨١ ؛ الظلات والأنوار ٧
معرفة التامة
٢٠٢ ؛ تامة احاطيه ٢٩
المعقولات
المعنوية : ٣٤
المعلومات
الغيبية ٣٤
الذاتية ٢٦٦ ؛
الذاتية الأحدية ٢٥٣ ؛ الذاتية المقدسه : ٢٥١ ، ٢٥٢
مفتاح حضرة
الأسماء ١٢٠ ؛ الكتاب الكبير ١٠٦
مقارعة غيبيه ٩
مقام الاحدى :
١٥ ، ١١٩ ؛ الأحدية ١٢٤ ؛ احدية الجمع ٢١٨ ، ٣٣٢
الاستواء ١٣٧ ؛
الاشتراك الواقع بين مرتبتي الحق والكون ١٤
الاعتدال ١٦١
الانبساط ١٨٦ ؛ الإنساني
١٤
الاول الاحدى
الجمعى ٦٦
الأولية ١٢٤
او ادنى ٨٦
|
التقوى ١٩٢
الجمع الاحدى ١٨٦ ، ٢٢٦ ، ٣٣١ ؛
الجمع والمطلع
٢٢٠
الجمعيه ٥٧
الحمد ١٤٤
حسن الظنّ ١٩٢
الخوف ١٩٢
الربوبية ٤١ ،
١٣٧ ، الرجاء ١٩٢ ، الرضا ٣١٠ ؛ السفر الى الله ٢٧٦ ؛ الطلب ١٠٠
العزة والصون ٤٢
، العزة والغنى ٤٨
العلم الحقيقي
٥٨ ؛ العيان ١٩ ؛ العبودية العامة ٢٢٤
الغنى ١٠٤
«فبي يسمع وبي
يبصر» ١٩٨ ؛ الفرديه ٦٤ قاب قوسين او أدنى ١٦٠
«كان الله ولا
شيء معه» ٢٥٨ ؛ الكمالي الاحاطى الجمعى الاحدى الوسطى ٢١٦
الكونى ١٤٤ ؛ «كنت
سمعه وبصره» ٣٣
المحاذات
المعنوية والروحانية ١٨٠ ؛ المحمود ٣٥٢ ؛ المضاهاة : ٤١ ، ١٤٣
النفس الرحمانى
٦٨
المقامات : ٩٣ ،
٢٧٧ ؛ الشهاده ١٠٤ ؛ الكبرى الإلهية ٩٣
المتجليه ٩٥ ؛
المحبه ١٩٢
المقتدر (الاسم)
١٣٧
المقتصد (الاسم)
٩٣
المقصود الاول
من الإيجاد ٣٣٧
|
|
المكاشفات
الصريحة : ١٩ ؛ النورية ٧
المكث البرزخى :
٢٠٥
ملاحظات
الإنسانية : ٢٨٨
ملك القلوب
والبواطن : ١٨٠
الملكيه ١٨١
المميت (الاسم)
٢٤٢
منازل ٢٧٧ ؛
منزل التدلّى النكاحى الغيبى (العما) ١١٥
المنعم (الاسم)
١٧٣ ؛ المنتقم (١٧٤) ، ١٧٨ الموجودات الروحانية ٨٢ ؛ العينية ٢٢١ ؛ الغيبية (حروف
النفس الرحمانى) ٨٤ ؛ الكونيه ٩٦ ؛ المتعينة ٢٥٥
الميزان الأتم
٤٥ ؛ الاعتدالى ٢٥٦
«ن»
النبوه : ٢٧ ؛
احكام ٢٧٣ ؛ سر ٢٧٣ ؛ صور (التشريع) ٢٧٣ ؛ صورة ٢٧٤ ؛ لسان ٣١٨ ،
نسب الاسمائيه
١٨٤ ؛ الكونيه : ٩٣ ، ١٧٠
النسخة : (الإنسان
الكامل) ٤٣ ، ٤٥ ، ١٠٦ ؛ الإنسانية ٨٤ ؛ الجامعة : (الإنسان) ٤٣ ، ٤٤ ، ١٩١ ؛
الجامعة المختصرة من الحضرة الإلهية والكونيه (الإنسان) ١٨٠ ؛ الحضرتين (الإنسان)
٩٥ ؛ الشارحة صفات الكمال الظاهر بالإنسان (القران) ١٠ ؛ صورة الحق ١٦٢ ؛
القرآنيه (الفاتحة) ١٠ النشء الإنساني ١٩٤
النشأة : ٢٤٨ ،
٢٥٥ ، ٢٩٢
|
الإنسانية ٢٤٣ ؛
الباطنة ١٦٢ ؛ البرزخيه ٢٩٦ ؛ الجامعة المحيطة ٢٩٩ ، الجنانية ٢٩٦ ؛ الحشريه ٢٩٦
؛ الدنياوية ٢٩٦ ؛ الطبيعة العنصرية ٢٠٠ ؛ الظاهرة : ١٦٢ ، ٢٨٦ ؛ العنصرية ١٩١ ،
١٩٥ ؛ المتجلى له ٥٥ ، معنويه غيبيه ٢٤٢
النشآت : ١٨٩ ،
٢٠٦ ، ٢١٦
الدنياوية
والأخروية والبرزخيه ١٦٧ ؛ المقيدة ١٨٩
نظّار
المتغلسغين ٣٢٨
النعمة الذاتية
: ٢٨٩ ؛ الذاتية الإلهية ١٤٤
النور العلمي
اليقيني ٢٨٩ ؛ روح ٢٨٦ ؛ سر ٢٨٦ ؛ صورة ٢٨٦
نعم الاسمائيه
٢٨٨ ؛ الإلهية ٢٩٧ ؛ الذاتية ٢٨٨ ؛ الذاتية والاسمائيه ٢٩٢
النعيم الروحاني
١٧٦ ؛ الصوري ١٧٦
النفس الرحمانى
: ١٤ ، ٤٣ ، ٦٨ ، ٧٥ ، ٨٤ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٤ ، ١٢١ ، ٢٢٧ ؛ الوحدانى ١٢٠
النكاح : ١١٠
النكاح الاول :
٧٢ ، ٢٦٠ ؛ الاول الغيبى الاسمائى ٧٦ ؛ الثاني ٧٦ ؛ الغيبى ٩٣
النكاحات : ٢١٤
؛ الخمسة ١٦٦
نور الحق الذاتي
: ٢٧٧ ؛ الذاتي الإلهي ٢٥١ ؛ العلمي اليقيني ٢٨٩ ؛ الوجودي ٨٨ ؛ الوجودي الغيبى
١١٠
|
|
«و»
الوارثين لعلومه
ومقاماته (الائمه المعصومين عليهمالسلام) ٧
الواحد البحت
٣٢٦
وجوب الثبوت :
٩١ ، ٩٢ ؛ الوجود : ٩١ ، ٩٢ الوجود البحت : ٤٣ ، ٤٨ ، ٩٤ ، ٩٦ ، ١٨٥ ، ٣٢٩
العلمية الأصلية ٥٧ ؛ العين ٣١ ؛ الكونى ٣٥٢ ؛ المحض ٣٢٤ ؛ المستفاد من الحق ١٠٠
؛ المنبسط ٨٠ ، ١١٨
الوحدانية : ١٠٣
، ١٠٨ ، ١١٤
الوحدة الحقيقية
٣٣٠ ؛ الحقيقة الصرفة ١١٦ ؛ الصرفة ١٢٧
الوحى : ٢٧٣ ؛
الاول الإلهي : ٢٢
الولاية : ٢٧١ ؛
المحمدية صلىاللهعليهوآله ٣٤٢
الولي : ٢٧١
الهادي (الاسم)
٧٣ ، ٢٧٤ ، ٢٨٨ ، ٢٨٩
هيولاني الوصف
٢٨٣
الهيئة الغيبية
٢٦٠ ؛ الهوية الغيبية الجامعة ١٢٦
«ى»
ينبوع الأنوار
والمصابيح ١٣٩ ؛ جميع العوالم (حضرة احديه الجمع والوجود) ١٧١ ؛ الوحدة : ٢٢ ،
١١٨
يوم الحساب ١٩٥
؛ الحشر : ١٩٤ ؛ الفصل : ٣٠٢ ؛ الكشف ٣٠٢
|
فهرس المواضع
مقدّمة
الناشر................................................................... ٥
رشح
بال بشرح حال............................................................ ٩
الكلام
على فاتحة الكتاب..................................................... ١٣
تمهيد........................................................................ ١٧
منهج البحث................................................................ ١٧
وصل........................................................................ ٢٢
تهافت الأدلّة النظريّة......................................................... ٢٢
القانون الفكري عند أهل النظر................................................ ٢٤
مذهب المحقّقين.............................................................. ٢٥
وصل من هذا الأصل.......................................................... ٢٨
بين طلّاب المعرفة والحقائق العلويّة.............................................. ٢٨
تعذّر معرفة الحقائق المجرّدة..................................................... ٣٢
سرّ الجهل بحقيقة الله تعالى.................................................... ٣٥
وسائل تحصيل العلم الذوقي................................................... ٣٧
وصل من هذا الأصل.......................................................... ٣٨
لا حلول ولا اتّحاد............................................................ ٤٣
علم الله حقيقة وعلم العبد مجاز................................................ ٤٤
سرّ الاستفاضة من العلم اللدنّي................................................ ٤٤
وصل........................................................................ ٤٨
١ ـ الغيب المطلق............................................................ ٤٨
٢ ـ البرزخ الأوّل............................................................. ٤٨
أسرار علم التحقيق........................................................... ٤٩
لا يجوز تعريف العلم......................................................... ٤٩
لم جاء التعريف العلم......................................................... ٤٩
لم جاء التعريف أحيانا؟....................................................... ٥٠
ما في الوجود من العلم........................................................ ٥٠
نعوت العلم................................................................. ٥٣
مراتب العلم................................................................. ٥٦
العلم يصحب التجلّي الذاتي.................................................. ٥٦
أحكام العلم ونسبه.......................................................... ٥٧
وصل من هذا الأصل.......................................................... ٦٠
متعلّقات العلم............................................................... ٦٠
صورة الإدراك بالعلم.......................................................... ٦١
أدوات توصيل المعلومات...................................................... ٦٧
وصل من هذا الأصل.......................................................... ٧٠
سرّ التركيب الستّة في العربيّة.................................................. ٧١
قاعدة كلّيّة.................................................................. ٨٠
قاعدة كلّيّة.................................................................... ٩٠
قاعدة كلّيّة.................................................................... ٩٧
باب...................................................................... ١٠١
سرّ البدء والإيجاد.......................................................... ١٠١
سرّ الوحدة والكثرة......................................................... ١٠٣
سرّ الغيب والشهادة........................................................ ١٠٦
سرّ الإنسان الكامل........................................................ ١١٣
تفصيل لمجمل قوله.......................................................... ١٢٠
النظريّة الدوريّة والحروف العاليات............................................. ١٢١
الهمزة والألف.............................................................. ١٢٢
السين.................................................................... ١٢٣
الميم...................................................................... ١٢٥
بطون القرآن وأسرار الحروف................................................. ١٢٨
الرّحمن الرّحيم.............................................................. ١٢٩
كيف يذكر العبد ربّه....................................................... ١٣١
باب ما يتضمّن ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة بالكتاب
الكبير والكتاب الصغير وما بينهما من الكتب ١٣٤
مفاتيح الغيب.............................................................. ١٣٩
مقدّمه.................................................................... ١٤٠
معنى الحمد................................................................ ١٤١
اشتقاق لفظ الجلالة........................................................ ١٥٤
الحمد لله :................................................................ ١٤٦
تطابق معاني الاسم ظاهرا وباطنا.............................................. ١٥٥
ربّ...................................................................... ١٥٥
صلاحه تعالى.............................................................. ١٥٦
حكم السيادة.............................................................. ١٥٦
حكم الثبات.............................................................. ١٥٧
حكم الملك................................................................ ١٥٧
حكم التربية............................................................... ١٥٧
لوازم الأحكام.............................................................. ١٥٨
سرّ التربية................................................................. ١٥٩
غذاء الروح وغذاء الجسد.................................................... ١٦١
حكمة العارفين............................................................ ١٦٢
تخبط المحجوبين............................................................ ١٦٣
المزاج يغلب قوّة الغذاء....................................................... ١٦٥
لسان الظاهر.............................................................. ١٦٨
لسان الباطن.............................................................. ١٦٨
حضرات الرحمة............................................................ ١٧٥
سرّ الملك................................................................. ١٧٩
سرّ اليوم.................................................................. ١٨٣
سرّ «الدّين» :............................................................ ١٨٦
وصل من هذا الأصل........................................................ ١٩٢
وصل من هذا الأصل........................................................ ١٩٨
وصل من هذا الأصل........................................................ ٢٠٠
سرّ الأوامر والنواهي ........................................................ ٢٠٤
الكلام على أسرار لفظة «الدين»............................................. ٢١١
مقدّمه :.................................................................. ٢١١
أصل التكليف وحكمته..................................................... ٢١٢
لسان جمع هذا القسم وخاتمته............................................... ٢٢٠
وصل....................................................................... ٢٢٦
في الظهر والبطن والحدّ والمطلع................................................ ٢٢٦
وصل....................................................................... ٢٣٥
في قبلة العقول والنفوس والإنسان............................................. ٢٣٥
وصل....................................................................... ٢٣٧
العبادة الذاتيّة ، والصفاتيّة................................................... ٢٣٧
العمل والعبادة............................................................. ٢٣٨
قوله «وإيّاك نستعين»...................................................... ٢٣٩
وصل : من لسان الجمع والمطلع .......................................... . ٢٤١
وصل من هذا الأصل........................................................ ٢٤٦
فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب...................................... ٢٤٧
قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)..................................... ٢٤٧
وصل من هذا الأصل........................................................ ٢٥١
لا شرف في التجلّي المطلق................................................... ٢٥١
فصل في وصل............................................................. ٢٥٥
في مراتب الهداية........................................................... ٢٥٥
وصل....................................................................... ٢٥٨
مراتب الهداية والضلال...................................................... ٢٥٨
مراتب الاعتدال............................................................ ٢٦٠
وصل....................................................................... ٢٦٤
في مراتب الاستقامة........................................................ ٢٦٤
وصل منه................................................................... ٢٦٥
وصل....................................................................... ٢٦٨
في مراتب السير والسلوك.................................................... ٢٦٨
فصل : في بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها
وثمراتها.................. ٢٧٣
أحكام النبوّة............................................................... ٢٧٣
خاتمة وهداية جامعة......................................................... ٢٧٧
فصل في الهداية الموعودة................................................... ٢٨٠
سرّ الدعاء والإجابة........................................................ ٢٨٠
تتمّة الكلام على هذه الآية بمقتضى الوعد السابق............................. ٢٨٢
قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).. ٢٨٤
صورة النعمة وروحها
وسرّها.................................................. ٢٨٦
وصل بلسان الحدّ والمطلع.................................................. ٢٩١
توحيد الوجود.............................................................. ٢٩١
الخلق بيد وبيدين........................................................... ٢٩٣
كيف ينحرف الإنسان..................................................... ٢٩٣
وصل منه................................................................... ٢٩٨
مراتب الغضب............................................................ ٢٩٨
مراتب الرضا............................................................... ٣٠٦
مراتب النعيم.............................................................. ٣٠٧
مراتب الرضا الإنساني....................................................... ٣٠٩
وصل في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ).............................................. ٣١٢
مراتب الضلال............................................................. ٣١٢
وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها............................. ٣١٨
وصل آخر : في بيان أقوى أسباب الحيرة..................................... ٣٢٢
وصل أعلى منه وأجلى وأكشف للسرّ فرعا وأصلا.............................. ٣٢٤
تنزّل إلى الأفهام وتأنيس وإيضاح مبهم بتمثيل نفيس............................ ٣٢٨
فصل في خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم................................ ٣٣٠
«كلّ شيء هالك إلّا وجهه»................................................ ٣٣٢
وصل منه بلسان جمع الجمع................................................ ٣٣٥
وصل في وصل يتضمّن نبذا من الأسرار الشرعيّة الأصليّة
والقرآنيّة.............. ٣٤٣
وصل من جوامع الحكم المناسبة لأن تكون في خاتمة الكتاب.................. ٣٤٩
وصل....................................................................... ٣٥١
والثناء الذي به الختام....................................................... ٣٥٣
تمّت...................................................................... ٣٥٥
خاتمة التحقيق............................................................. ٣٥٦
الفهارس.................................................................... ٣٥٧
فهرس الآيات.............................................................. ٣٥٩
فهرس الاصطلاحات....................................................... ٣٦٥
فهرس المواضيع............................................................. ٣٨٥
|