
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ)(١٤٢)
قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) فيه قولان :
أحدهما : وهو
اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهرا ، لكنه قد يستعمل في الماضي
أيضا كالرجل يعمل عملا ، فيطعن فيه بعض أعدائه ، فيقول : أنا أعلم أنهم [سيطعنون
عليّ فيما فعلت ، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد] ، فإذا ذكروه مرّة ، فسيذكرونه بعد ذلك مرات ، فصحّ على
هذا التأويل أن يقال : سيقول السّفهاء من الناس ذلك ، وقد وردت الأخبار أنهم لما
قالوا ذلك [نزلت الآية].
[قال القرطبي : «سيقول»
بمعنى : قال ؛ جعل المستقبل موضع الماضي ، دلالة على استدامة ذلك] وأنهم يستمرون على ذلك القول.
و «السفهاء» جمع ،
واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد
تقدم.
والنساء سفائه.
وقال المؤرج : السّفيه : البهات الكاذب المعتمد خلاف ما يعلم.
وقال قطرب :
الظلوم الجهول.
القول الثاني : أن
الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد.
أحدها : أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه ، كان هذا إخبارا عن الغيب فيكون
معجزا.
وثانيها : أنه ـ تعالى
ـ إذا أخبر عن ذلك أولا ، ثم سمعه منهم ، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما
إذا سمعه فيهم أولا.
وثالثها : أن الله
ـ تعالى ـ إذا أسمعه ذلك أولا ، ثم ذكر جوابه معه ، فحين يسمعه النبي ـ عليه
الصلاة والسلام ـ منهم يكون الجواب حاضرا ، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون
الجواب حاضرا.
__________________
فصل في الكلام على السفيه
تقدم الكلام على
السّفه في قوله : (كَما آمَنَ
السُّفَهاءُ) وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه ، فيعدل
عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفّة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب
الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا ، [فإذا كان العادل عن الرأي واضحا في أمر
دنياه يعدّ سفيها ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا
وهو سفيه ، فهذا اللفظ] يمكن حمله على اليهود ، وعلى المشركين ، وعلى المنافقين
وعلى جملتهم ، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين.
قال ابن عباس ومجاهد
: هم اليهود ، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة ،
وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية
، فلما تحول عن ترك القبلة اغتمّوا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على
قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس
والبراء بن عازب والحسن والأصم رضي الله عنهم : إنهم مشركو العرب ، [وذلك لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان متوجها إلى «بيت
المقدس» حين كان ب «بمكة» والمشركون] كانوا يتأذون منه بسبب ذلك ، فلما جاء إلى «المدينة» وتحول
إلى الكعبة قالوا : رجع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به.
وقال السدي : هم
المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية
معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد العبث ، والعمل بالرأي
والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين ، لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال
الله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣].
وقيل : يدخل فيه
الكل ؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم ، ودخل فيه الألف واللام ، وقد بيّنا صلاحيته
لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي ، والنص أيضا يدلّ عليه ، وهو قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].
[فإن قيل :
المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة ، وإن كان كذلك لم يكن
ادعاء العموم فيه بعيدا.
__________________
قلنا : هذا القدر
لا ينافي العموم ، ولا يقتضي تخصيصه ؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك ؛ لأن
الأعداء مجبولون على القدح والطعن ، فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا].
قوله تعالى : (مِنَ النَّاسِ) في محلّ نصب على الحال من «السفهاء» والعامل فيها «سيقول»
، وهي حال مبينة ، فإن السّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان
، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازا ، فرفع المجاز بقوله : «من
النّاس» ذكره ابن عطية وغيره.
قوله : (ما وَلَّاهُمْ) «ما» مبتدأ ، وهي
استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب ، والجملة بعدها خبر عنها و «عن قبلتهم»
متعلّق ب «ولّاهم» ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : «عليها» أي : على توجهها ، أو
اعتقادها ، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله : «عليها» مجاز
، نزّل مواظبتهم على المحافظة عليها منزلة من استعلى على الشيء ، والله أعلم.
فصل في الكلام على التولّي
ولّاه عنه : صرفه
عنه ، وولى إليه بخلاف ولّى عنه ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٦]
وفي هذا التولّي قولان :
المشهور عند
المفسرين : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين ، فقالوا : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) فالضّمير في قوله : «ما ولّاهم» للرسول ـ عليه الصلاة
والسلام ـ والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي «بيت المقدس».
واختلفوا في تاريخ
تحويل القبلة بعد ذهابه إلى «المدينة» فقال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ بعد تسعة
أشهر أو عشرة أشهر وقال معاذ : بعد ثلاثة عشر شهرا ، وقال قتادة : بعد ستة عشر شهرا .
وعن ابن عباس
والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهرا ، [وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال.
__________________
وعن بعضهم ثمانية
عشر شهرا] من مقدمه.
وقال الواقدي :
صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا.
وقال آخرون : بل سنتان.
القول الثاني :
قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله ـ تعالى ـ حوّلها إلى الكعبة وجب
القول به ، ولو لا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله : (كانُوا عَلَيْها) ، أي : السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا
قبلة اليهود والنصارى ، فقبلة اليهود إلى العرب ؛ لأن النداء لموسى عليه الصلاة
والسلام جاء فيه وهو قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] ، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب ، وذلك شبه
الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة ، وهو وقت همود الناس الذي هو الموت الأصغر ،
واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى ، والنّصارى إلى المشرق ؛ لأن
جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما ذهب إلى مريم في جانب المشرق ، لقوله تعالى : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً
شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦] ؛ لأن
المشرق مكان إشراق الأنوار ، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها ، فهو مشتبه بحياة العالم
فاستقبلوه ؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم ، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى
يتوجّهوا إلى شيء من الجهات ، فلما رأوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم متوجها إلى الكعبة استنكروا ذلك ، فقالوا : كيف يتوجه أحد
إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ، فقال تبارك وتعالى ردا عليهم : (قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ).
قال ابن الخطيب : «ولو لا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملا والله
أعلم».
فصل في تحرير معنى القبلة
القبلة هي الجهة
التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة ، وإنما سميت القبلة قبلة ؛ لأن المصلي
يقابلها وتقابله.
وقال قطرب :
يقولون في كلامهم : ليس لفلان قبلة أي : ليس له جهة يأوي إليها ، وهو أيضا مأخوذ
من الاستقبال.
وقال غيره : إذ
تقابل الرجلان ، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر. [قال القرطبي : وجمع القبلة في
التكسير قبل ، وفي التسليم قبلات ، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة ، وتقول : قبلات
، ويجوز أن تحذف الكسرة ، وتسكن الباء].
فصل في بعض شبه اليهود والنصارى
قال ابن الخطيب :
هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام ،
__________________
فقالوا : النسخ
يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وكلاهما لا يليق بالحكيم ، وذلك لأن الأمر إما أن
يكون خاليا عن القيد ، وإما أن يكون مقيدا بلا دوام [وإما أن يكون
مقيدا بقيد الدوام ، فإن كان خاليا عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة ، فلا
يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخا ، وإن كان مقيدا بقيد اللادوام ، فهاهنا
ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخا له ، وإن كان مقيدا بقيد الدوام ،
فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدلّ على] أنه يبقى دائما ، ثم إنه رفعه بعد ذلك ، فهاهنا كان جاهلا
، ثم بدا له ذلك ، [وإن كان عالما بأنه لا يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدلّ على أن
يبقى دائما كان ذلك تجهيلا] فثبت أن النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وهما محالان
على الله تعالى ، فكان النسخ منه محالا ، [فالآتي بالنّسخ في أحكام الله ـ تعالى ـ
يجب أن يكون مبطلا] ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في
الإسلام ، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ
إنما نجوزه عند اختلاف المصالح ، وهنا الجهات متساوية في أنها لله ـ تعالى ـ ومخلوقة
له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثا ، والعبث لا
يليق بالحكيم ، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى ، وقد أجاب الله ـ تعالى
ـ على هذه الشبهة بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
وتقديره : أن
الجهات كلها لله ـ عزوجل ـ ملكا وملكا ، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة ،
بل إنما تصير قبلة ؛ لأن الله عزوجل جعلها قبلة ، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتّحويل من
جهة إلى جهة ؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السّنة.
وأما على قول
المعتزلة فلهم طريقان :
الأول : لا يمتنع
اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه إذا
رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل
إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعظّمه ، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيما
وخشوعا ، وذلك مصلحة مطلوبة.
وثانيها : أن
الكعبة منشأ محمد صلىاللهعليهوسلم ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ
وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل
وأسرع ، والمفضي إلى المطلوب مطلوب].
__________________
وثالثها : أن الله
ـ تعالى ـ بين ذلك في قوله : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣]
فأمرهم الله ـ تعالى ـ حين كانوا ب «مكة» أن يتجهوا إلى «بيت المقدس» ليتميزوا عن
المشركين ، فلما هاجروا إلى «المدينة» وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة
ليتميزوا عن اليهود.
[ورابعها : أن في
أفعاله حكما ، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا ، وتارة تكون مستورة خفية عنا ، وتحويل
القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية ، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في
الإسلام].
فصل في استقبال الرسول صلىاللهعليهوسلم بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد
أم لا؟
اختلفوا هل كان استقباله
بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا؟
فقال الحسن : كان
عن رأي واجتهاد ، وهو قول عكرمة وأبي العالية.
وقال القرطبي :
كان مخيرا بينه وبين الكعبة ، فاختار بيت المقدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم.
وقال الزجاج :
امتحانا للمشركين ، لأنهم ألغوا الكعبة.
وقال ابن عباس :
وجب عليه استقباله بأمر الله ـ تعالى ـ ووحيه لا محالة ، ثم نسخ الله ذلك ، وهو
قول جمهور العلماء نقله القرطبي.
فصل
اختلفوا أيضا حين
فرضت عليه الصّلاة أولا ب «مكة» ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟ على قولين :
فقالت طائفة : إلى
بيت المقدس وب «المدينة» سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله ـ تعالى ـ إلى الكعبة ،
قاله ابن عباس.
وقال آخرون : أول
ما افترضت الصلاة إلى الكعبة ، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب «مكة» على ما كان
عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ستة عشر
شهرا ، أو سبعة عشر شهرا على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى «الكعبة».
قال ابن عمر :
وهذا أصح القولين عندي.
قوله تعالى : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) تقدم الكلام على الهداية ، قالت المعتزلة : إنما هي
الدلالة الموصلة ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ يدلّ على ما هو للعبادة أصلح ، والصراط
المستقيم هو الذي يؤديهم ـ إذ تمسّكوا به ـ إلى الجنة.
__________________
قال أصحابنا : هذه
الهداية : إما أن يكون المراد منها الدعوة ، أو الدلالة ، أو تحصيل العلم فيه ،
والأولان باطلان ؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين ، فوجب حمله على الوجه الثالث ،
وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
قوله تعال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ
إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)
الكاف في قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ) فيها الوجهان المشهوران كما تقدم ذلك غير مرّة : إما النصب
على النعت ، أو على الحال من المصدر المحذوف.
والتقدير : وكذلك
جعلناكم أمّة وسطا جعلا مثل ذلك ، ولكن المشار إليه ب «ذلك» غير مذكور فيما تقدم ،
وإنما تقدم ما يدلّ عليه. واختلفوا في «ذلك» على خمسة أوجه :
أحدها : أن المشار
إليه هو الهدى المدلول عليه بقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
والتقدير :
جعلناكم أمة وسطا مثل ما هديناكم.
الثاني : أنه
الجعل ، والتقدير : جعلناكم أمة وسطا مثل ذلك الجعل القريب الذي فيه اختصاصكم
بالهداية.
الثالث : قيل :
المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطا.
الرابع : قيل :
المعنى كما جعلنا القبلة وسط الأرض جعلناكم أمة وسطا.
الخامس ـ وهو
أبعدها ـ أن المشار إليه قوله : (وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) [البقرة : ١٣٠] أي
: مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطا.
[قال ابن الخطيب :
ويحتمل عندي أن يكون التقدير : ولله المشرق والمغرب ، فهذه الجهات بعد استوائها
لكونها ملكا لله تعالى ، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم ، بأن جعله قبلة فضلا منه
، وإحسانا ؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد
الفضل والعبادة ، فضلا منه وإحسانا لا وجوبا.
وفيه وجه آخر :
وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء ، وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا
معروفا ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] لأن
المعروف عند كل أحد أنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه ،
وإذلال من يشاء ، فقوله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي : ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه
جعلناكم أمة وسطا].
__________________
و «جعل» بمعنى صير
، فيتعدّى لاثنين ، فالضمير مفعول أول ، و «أمة» مفعول ثان ووسطا نعته.
والوسط بالتحريك :
اسم لما بين الطرفين ، ويطلق على خيار الشيء ؛ لأن الأوساط محميّة بالأطراف ؛ قال
حبيب : [البسيط]
٨٢١ ـ كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت
|
|
بها الحوادث
حتّى أصبحت طرفا
|
ووسط الوادي خير
موضع فيه ؛ قال زهير : [الطويل]
٨٢٢ ـ هم وسط ترضى الأنام بحكمهم
|
|
إذا نزلت إحدى
البلايا بمفضل
|
[وقال آخر : [الرجز]
٨٢٣ ـ كن من النّاس جميعا وسطا
وقال تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم : ٢٨] أي
أعدلهم.
[وروى القفال عن
الثورى عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم وشرف وبجل وعظم وكرم «أمّة وسطا» ؛ قال : «عدلا» .
وقال عليه صلوات
الله وسلامه : «خير الأمور أوسطها» ؛ أي : أعدلها. وقيل : كان النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه
ـ أوسط قريش نسبا.
وقال عليه أفضل
الصلاة والسلام : «عليكم بالنّمط الأوسط» .
قال الجوهري في
الصحاح : «أمة وسطا» أي : عدلا ، وهو الذي قاله الأخفش ، والخليل ، وقطرب ،
فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوسط : خيار الشيء].
وأما المعنى فمن
وجوه :
__________________
أحدها : أن الوسط
حقيقة في البعد عن الطرفين ، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان ، فالمتوسّط
في الأخلاق يكون بعيدا عن الطرفين ، فكان معتدلا فاضلا.
وثانيها : إنما
سمي العدل وسطا ؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين ، [والعدل هو المعتدل الذي لا يميل
إلى أحد الطرفين].
وثالثها : أن
المراد بقوله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً) طريقة المدح لهم ؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله ـ تعالى ـ وصفا
، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهودا له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول ، وذلك مدح ،
فثبت أن المراد بقوله : «وسطا» ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح
الله الشّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودا لا بكونهم عدولا ؛ فوجب أن يكون المراد
من الوسط العدالة.
ورابعها : أن
الأوساط محمية بالأطراف ، وحكمها مع الأطراف على حدّ سواء ، والأطراف يتسارع إليها
الخلل والفساد ، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
وقال بعضهم :
تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [أولى من تفسيره بالعدالة ؛ لأن العدالة لا تطلق على
الجمادات ، فكان أولى ، والمراد من الآية : أنهم لم يغلوا ؛ كما غلت النصارى ،
فجعلوه ابنا وإلها ، ولا قصّروا ؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء ، وتبديل الكتب
وغير ذلك]. وفرق بعضهم بين «وسط» بالفتح و «وسط» بالتسكين.
فقال : كلّ موضع
صلح فيه لفظ «بين» يقال بالسكون ، وإلا فالبتحريك.
فتقول : جلست وسط
القوم ، بالسكون.
وقال الراغب : وسط
الشيء ما له طرفان متساويا القدر ، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ،
فتقول : وسطه صلب ، ووسط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة ؛ كشيء يفصل بين جسمين
نحو : «وسط القوم» كذا.
وتحرير القول فيه
هو أن المفتوح في الأصل مصدر ، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره ، والمؤنّث
والمذكّر ، والسّاكن ظرف ، والغالب فيه عدم التصرّف ، وقد جاء متمكّنا في قول
الفرزدق : [الطويل]
٨٢٤ ـ أتته بمجلوم كأنّ جبينه
|
|
صلاءة ورس وسطها
قد تفلّقا
|
روي برفع الطّاء ،
والضمير ل «صلاءة» ، وبفتحها والضمير للجائية.
__________________
فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
احتج الأصحاب بهذه
الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه
الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه ، وهذا صريح في المذهب.
وقالت المعتزلة :
المراد من هذا الجعل فعل الألطاف.
أجيب عنه بوجوه :
الأول : أن هذا
ترك للظاهر ، وذلك محال لا يصار إليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها ،
أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب ، وقد
بيّنا أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي.
والثاني : أنه
تعالى ـ قال قبل هذه الآية (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة: ١٤٢].
وقد بيّنا دلالة
هذه الآية على قولنا في أنه ـ تعالى ـ يخص البعض بالهداية دون البعض ، فهذه الآية
يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى.
والثالث : أن كلّ
ما في مقدور الله ـ تعالى ـ من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله ، وإذا كان كذلك لم
يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة.
والرابع : أن الله
ـ تعالى ـ ذكر ذلك في معرض الامتنان.
فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع حجّة
احتج الجمهور بهذه
الآية على أن الإجماع حجة فقالوا : أخبر الله ـ تعالى ـ عن
__________________
عدالة هذه الأمة ،
وعن خيريتهم ، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت
أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجّة ، فإن قيل : الآية
متروكة الظاهر ؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتّصاف كل واحد منهم بها ، وخلاف
ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمة
المعصومين.
فالجواب : أنها
ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره ، والوجوه التي
ذكرتموها معارضة بوجهين :
الأول : أن عدالة
الرجل عبارة عن أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، وهذا من فعل العبد ، وقد أخبر
الله ـ تعالى ـ أنه جعلهم وسطا ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطا غير كونهم عدولا ،
وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
الثاني : أن الوسط
اسم لما يكون متوسطا بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك
، وهو خلاف الأصل.
__________________
سلّمنا اتصافهم
بالخيرية ، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان
كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ ، لكنه من الصّغائر ، فلا يقدح ذلك
في خيريتهم ، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه ـ تعالى ـ حكم بكونهم عدولا ليكونوا
شهداء على الناس ، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا اجتنابهم عن
الصغائر والكبائر ، ولكن الله ـ تعالى ـ بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النّاس
، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة ، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك ،
لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّل ، وذلك لا نزاع فيه ؛
لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة.
فلم قلت : إنهم في
الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم
عدولا في الدنيا ، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [هم الذين كانوا موجودين عند نزول
هذه الآية ، لأن الخطاب] مع من لم يوجد محال ، وإذا كان كذلك ، فهذه الآية تقتضي
عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم ، فدلّت الآية على
أن إجماع [أولئك] حق ، فيجب ألّا نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل
أولئك فيه.
لكن ذلك لا يمكن [إلا
إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم ، وعلمنا بقاء كل واحد] منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلىاللهعليهوسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ، ولما كان ذلك
كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع.
والجواب عن قولهم
: الآية متروكة الظاهر.
قلنا : لا نسلّم
فإن قوله : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) يقتضي أنه ـ تعالى ـ جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع
غيره بهذه الصفة.
وعندنا أنهم في كل
أمر اجتمعوا عليه ، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلا في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا ،
فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع ؛ لأن
قوله : (جَعَلْناكُمْ) خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا
أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلا ، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل
قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ الباقي ، وهذا معنى ما قاله العلماء :
ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من
يكون بهذه الصفة ، فإذا كنّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على
القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم.
مثاله : أن الرسول
ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قال : إن واحدا من أولاد فلان لا بد
__________________
وأن يكون مصيبا في
الرأي ، فإذا لم نعلمه بعينه ، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّا ؛ لأنه
لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق.
فأما إذا اجتمعوا
سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّا ، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد
المخالف.
ولهذا قال العلماء
: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيبا عمن كان مخطئا كانت الحجة قائمة في قول
المصيب ولم نعتبر ألبتة [بقول المخطىء.
قوله : لو كان
المراد من كونهم وسطا هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقا لله تعالى.
قلنا : هذا
مذهبنا. فإن قيل] قولهم : لم قلتم : إن إخبار الله ـ تعالى ـ عن عدالتهم
وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟
قلنا : خبر الله ـ
تعالى ـ صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخبر ،
فالجمع بينهما متناقض.
ولقائل أن يقول :
الإخبار عن الشّخص بأنه خير أهم من [الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في
بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى] هذين القسمين ، فيقال : الخير إما أن يكون خيرا في بعض
الأمور دون البعض ، أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان
خيرا من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله ـ تعالى ـ عن
خيرية الأمة لا يقتضي إخباره ـ تعالى ـ عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا
ينافي إقدامهم على الكبائر فضلا عن الصغائر ، [وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول
الفقه إلّا أن هذا السؤال وارد عليهم ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)] خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجودا وقت
نزول هذه الآية ، ومن جاء بعدهم إلى [قيام الساعة] ، كما أن قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣]
يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، [وكذلك سائر تكاليف الله ـ تعالى
ـ وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة] فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطابا لجميع من يوجد
إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة ، فمن أين حكمت لأهل كل عصر
بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟
قلنا : لأنه ـ تعالى
ـ لما جعلهم شهداء على الناس ، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها
__________________
بمجموعها في كونها
حجة على غيرها لزالت الفائدة ، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه.
فعلمنا أن المراد
به أهل كلّ عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة الجماعة التي
تؤمّ جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ، ولأنه ـ تعالى ـ قال : (أُمَّةً وَسَطاً) فعبر عنهم بلفظ النكرة ، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
[قال النووي ـ رحمهالله تعالى ـ في «التهذيب» : الأمّة تطلق على معان :
منها من صدق النبي
صلىاللهعليهوسلم وآمن بما جاءه ، واتبعه فيه ، وهذا هو الذي جاء مدحه في
الكتاب والسّنة كقوله تعالى : (كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً) و (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ).
وقوله صلوات الله
وسلامه عليه : «شفاعتي لأمّتي» و «تأتي أمّتي يوم القيامة غرّا محجّلين» وغير ذلك.
ومنها من بعث
إليهم النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مسلم وكافر.
ومنه قوله عليه
أفضل الصلاة والسلام : «والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي من هذه الأمّة يهوديّ
ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» رواه مسلم.
ويأتي باقي الكلام
عن الأمة في آخر «النحل» إن شاء الله ـ تعالى ـ عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] إلى
قوله : (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً)].
فصل في الكلام على قوله : لتكونوا
قوله تعالى : (لِتَكُونُوا) يجوز في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أن تكون
لام «كي» فتفيد العلة.
والثاني : أن تكون
لام الصيرورة ، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر ، وبعدها «أن» مضمرة ، وهي وما
بعدها في محلّ جر ، وأتى ب «شهداء» جمع «شهيد» الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين
وشهود جمعي «شاهد».
وفي «على» قولان :
أحدهما : أنها على
بابها ، وهو الظاهر.
والثاني : أنها
بمعنى «اللام» ، بمعنى : أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي
__________________
والدين ، كما نقله
الرسول ـ عليهالسلام ـ وكذلك القولان في «على» الأخيرة ، بمعنى أن الشهادة
لمعنى التزكية منه ـ عليهالسلام ـ لهم.
وإنما قدم متعلّق
الشهادة آخرا ، وقدم أولا لوجهين :
أحدهما : وهو ما
ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم
بكون الرسول شهيدا عليهم.
والثاني : أن «شهيدا»
أشبه بالفواصل والمقاطع من «عليكم» ، فكان قوله «شهيدا» تمام الجملة ، ومقطعها دون
«عليكم» ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختارا له رادّا على الزمخشري مذهبه من أن تقديم
المفعول يشعر بالاختصاص ، وقد تقدم ذلك.
فصل في الكلام على الشهادة
اختلفوا في هذه
الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم
وجهان :
الأول : أن هذه
الأمة تشهد للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم.
روي أن الأمم
يجحدون تبليغ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فيطالب الله ـ تعالى ـ الأنبياء
بالبيّنة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك
بإخبار الله تعالى في كتابه النّاطق على لسان نبيه الصّادق ، فيؤتى بمحمد ـ عليه
الصلاة والسلام ـ فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] وقد
طعن القاضي رحمهالله تعالى في هذه الرواية من وجوه :
أحدها : أن مدار
هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم ، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون.
وهذا باطل عند
القاضي ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة «الأنعام» عند قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) [الأنعام : ٢٣ ـ ٢٤].
وثانيها : أن
شهادة الأمة ، وشهادة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مستندة في الآخرة إلى شهادة
الله ـ تعالى ـ على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك ، فلم لم يشهد الله ـ تعالى ـ لهم
بذلك ابتداء؟
والجواب : الحكمة
في ذلك تمييز أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة
إلى تصديق الله ـ تعالى ـ وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعا ، فهم
بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق.
وثالثها : أن مثل
هذه الأخبار لا تسمّى شهادة ، وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة
والسلام : «إذا
علمت مثل الشّمس فاشهد» والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس ،
فوجب جواز الشّهادة عليه.
والثاني : قالوا
معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها ، قال ابن زيد رحمهالله تعالى : الأشهاد الأربعة : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال
العباد ، قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١].
وقال : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وقال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً
كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢].
وثانيها : شهادة
الأنبياء ، وهو المراد بقوله حاكيا عن عيسى عليه الصلاة والسلام : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٧].
وقال تعالى في حق
سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم وأمته في هذه الآية : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
وقال في حق ـ محمد
صلىاللهعليهوسلم : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].
وثالثها : شهادة
أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة ، قال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩].
وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١].
ورابعها : شهادة
الجوارح ، وهي بمنزلة الإقرار ، بل أعجب منه.
قال تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ) [النور : ٢٤].
الآية ، وقال : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ) [يس : ٦٥] الآية.
القول الثاني : أن
أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقديره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو
الرؤية يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته.
ولما كان بين
الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي
في القلب : مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء : شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلائل على
الشيء : شاهدا على الشيء ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا ، ولما كان المخبر
عن الشيء والمبيّن لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا ،
ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات
مخصوصة. إذا ثبت هذا فنقول : إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه ،
والله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة : إما أن تكون في
الآخرة ، أو في الدنيا ، ولا جائز أن تكون في الآخرة ؛ لأن الله
ـ تعالى ـ جعلهم
عدولا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا.
وإنما قلنا : إنه
ـ تعالى ـ جعلهم عدولا في الدنيا ؛ لأنه ـ تعالى ـ [قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وهذا إخبار عن الماضي ، فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما
قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهودا في الدنيا ؛ لأنه تعالى] قال : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطا ترتيب الجزاء على الشرط
، فإذا حصل وصف كونهم وسطا في الدنيا [وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا].
فإن قيل : تحمّل
الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهدا ، وإن كان الأداء
لا يحصل إلا في القيامة.
قلنا : الشهادة
المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه ـ تعالى ـ اعتبر العدالة في هذه الشهادة
، والشهادة التي يعتبر فيها العدالة ، هي الأداء لا التحمّل ، فثبت أن الآية تقتضي
كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا
عن شيء أن يكون قولهم حجّة ، ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن
الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [من هذا الوجه أيضا].
واعلم أن هذا
الدليل لا ينافي كونهم شهودا في القيامة أيضا على الوجه الذي وردت الأخبار به ،
ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يعني مؤديا ومبينا ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم
الشّهادة في الآخرة ، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل ، لأنهم إذا
أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [القابل ومن الراد] ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [على أن الشّاهد على العقود
يعرف الذي تم ، والذي لم يتم ، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم.
قال القرطبي رحمهالله : معنى قوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي : بأعمالكم يوم القيامة.
وقيل : «عليكم»
بمعنى لكم أي : يشهد لكم بالإيمان.
وقيل : يشهد عليكم
بالتبليغ لكم].
وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ ...) في هذه الآية خمسة أوجه :
__________________
أحدها : أن «القبلة»
مفعول أول ، و (الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها) مفعول ثان ، فإن الجعل بمعنى التصيير ، وهذا ما جزم به
الزّمخشري فإنه قال : (الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها) ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل ، يريد : وما
جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم كان يصلي ب «مكة» إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة
بيت المقدس ، ثم حول إلى الكعبة.
الثاني : أن «القبلة»
هي المفعول الثاني ، وإنما قدم ، و (الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها) هو الأول ، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّا له بأن التصيير هو
الانتقال من حال إلى حال ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس
بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا ، وجعلت
الجاهل عالما ، والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا القبلة الكعبة التي كانت
قبلة لك أولا ، ثم صرفت عنها إلى «بيت المقدس» قبلتك الآن إلا لنعلم. ونسب
الزمخشري في جعله «القبلة» مفعولا أول إلى الوهم.
الثالث : أن «القبلة»
مفعول أول ، و «التي كنت» صفتها ، والمفعول الثّاني محذوف تقديره : وما جعلنا
القبلة التي كنت عليها منسوخة.
ولما ذكر أبو
البقاء هذا الوجه قدره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته.
الرابع : أن «القبلة»
مفعول أول ، و «إلّا لنعلم» هو المفعول الثّاني ، وذلك على حذف مضاف تقديره : وما
جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، نحو قولك : ضرب زيد للتأديب ، أي :
كائن ، أو ثابت للتأديب.
الخامس : أن «القبلة»
مفعول أول ، والثاني محذوف ، و «الّتي كنت عليها» صفة لذلك المحذوف ، والتقدير :
وما جعلنا القبلة القبلة التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيف.
وفي قوله : «كنت»
وجهان :
أحدهما : أنها
زائدة ، ويروى عن ابن عباس أي : أنت عليها ، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وهو
كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠]
والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل نحو : الجلسة ، وفي التعارف صار
اسما للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة.
وقال قطرب رحمهالله تعالى : يقولون : ليس له قبلة أي جهة يتوجه إليها.
وقال غيره : إذا
تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر.
فصل في الكلام على الآية
في هذا الكلام
وجهان :
الأول : أن يكون
هذا الكلام بيانا للحكمة في جعل الكعبة قبلة ، وذلك لأنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ كان
يصلّي إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى «بيت المقدس» بعد الهجرة تأليفا لليهود ،
ثم حول إلى الكعبة فقال : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ) الجهة (الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها) أولا يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس.
الثاني : يجوز أن
يكون قوله : (الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها) لسانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن
تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك «بيت المقدس» كان أمرا عارضا لغرض ، وإنما جعلنا
القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ، وهي «بيت المقدس» لنمتحن الناس ،
وننظر من يتبع الرسول ، ومن لا يتبعه وينفر عنه.
وذكر أبو مسلم
وجها ثالثا فقال : لو لا الروايات لم تدلّ الآية على قبلة من قبل الرسول ـ عليه
الصلاة والسلام ـ عليها ، لأنه قد يقال : كنت بمعنى : صرت ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨]
فلا يمتنع أن يراد بقوله : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي : التي لم تزل عليها ، وهي الكعبة إلّا كذا وكذا.
قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولا ثانيا.
وأما على غيره فهو
استثناء مفرّغ من المفعول العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلّا
لكذا. وقوله : «لنعلم» ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم ، ونظره في الإشكال قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١].
وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ،
وقوله : (لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٢] ، وقوله
: (فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) [العنكبوت : ٣].
وقوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) [سبأ : ٢١] ، فلا
بد من التأويل وهو من أوجه :
أحدها : لتمييز
التابع من النّاكص إطلاقا للسبب ، وإرادة للمسبّب.
وقيل : على حذف
مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، كما يقول الملك : فتحنا البلدة الفلانية بمعنى :
فتحها أولياؤنا.
ومنه يقال : فتح
عمر السّواد.
ومنه قوله عليه
الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : «استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم يكن
ينبغي له أن يشتمني يقول : وادهراه وأنا الدهر».
وفي الحديث : «من
أهان لي وليّا فقد أهانني».
وقيل : معناه :
إلا لنرى.
فصل
قال القرطبي رحمهالله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب ، تضع العلم مكان
الرؤية ، والرؤية
مكان العلم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ) [الفيل : ١] بمعنى
ألم تعلم ، وعلمت ، وشهدت ، ورأيت ، ألفاظ تتعاقب.
وقيل : حدوث العلم
في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، معناه : لتعلموا.
والغرض من هذا
الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً) [سبأ : ٢٤] فأضاف
الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقا للخطاب ، ورفقا بالمخاطب.
وقيل : يعاملكم
معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم.
وقيل : العلم صلة
زائدة معناه إلّا ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين.
ونظيره قولك في
الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني ، والمعنى :
أنه لو كان لعلمه الله.
قوله : «من يتّبع»
في «من» وجهان :
أحدهما : أنها
موصولة ، و «يتبع» صلتها ، والموصول وصلته في محلّ المفعول ل «نعلم» ؛ لأنه يتعدّى
إلى واحد.
والثاني : أنها
استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «يتبع» خبره ، والجملة في محلّ نصب ؛ لأنها
معلقة للعلم ، والعلم على بابه ، وإليه نحا الزّمخشري في أحد قوليه.
وقد رد أبو البقاء
هذا الوجه ، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق «نعلم» عن العمل ، وإذا علقت عنه لم يبق ل «من»
ما تتعلّق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله ، ولا يصحّ تعلقها ب «يتبع»
؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة ، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب
انتهى.
وهو رد واضح إذ
ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أن يتعلق «ممّن ينقلب» ب «نعلم» نحو : علمت
من أحسن إليك ممّن أساء ، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز ، فإن العلم لا
يتعدى ب «من» إلا إذا أريد به التمييز.
وقرأ الزهري : «إلّا
ليعلم» على البناء للمفعول ، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل ، فإنا لا نقدر
ذلك الفاعل غير الله تعالى.
قوله : (عَلى عَقِبَيْهِ) في محلّ نصب على الحال ، أي ينقلب مرتدّا راجعا على عقبيه
، وهذا مجاز ، [ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر
عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك لما
قال تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ) [المدثر : ٢٣]
وقوله تعالى : (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨]].
وقرىء «على عقبيه»
بسكون القاف ، وهي لغة «تميم».
__________________
فصل
اختلفوا في هذه
المحنة ، هل حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم : إنما حصلت
بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى الكعبة ، فلما
جاء «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم.
قال القرطبي رحمهالله : والآية جواب لقريش في قولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢]
وكانت قريش تألف الكعبة ، فأراد الله ـ عزوجل ـ أن يمتحنهم بغير ما ألفوه.
وقال الأكثرون :
حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه.
روى القفّال عن
ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا ، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا .
وقال السدي رحمهالله تعالى : لما توجه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ نحو
المسجد الحرام واختلف الناس ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟
وقال المسلمون :
ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس.
وقال آخرون :
اشتاق إلى بلد أبيه ومولده.
وقال المشركون :
تحيّر في دينه .
قال ابن الخطيب :
وهذا القول أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين
القبلة [وقد وصفها الله ـ تعالى ـ بالكبر فقال عزوجل : (وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) فكان حمله عليه أولى].
قوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) «إن» هي المخففة
من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر ، وهو أغلب أحوالها ، و «اللام» للفرق
بينها وبين «إن» النافية ، وهل هي لام الابتداء ، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف
مشهور .
__________________
وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية
، وأن «اللام» بمعنى «إلا» ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرة ، نقل ذلك عنهم أبو
البقاء رحمهالله [وفيه نظر. واعلم أن «إن» المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه
:
جزاء ، وهي تفيد
ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن
جئتني أكرمتك.
ومخففة من الثقيلة
، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة ، كقولك : إن زيدا لقائم ، قال
تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] ، (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨].
وللجحد ، لقوله
تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام : ٥٧] (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨] (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) [فاطر : ٤١]. أي :
ما يمسكهما. وزائدة كقوله : ما إن رأيت زيدا] ، والقراءة المشهورة نصب «كبيرة» على خبر «كان» ، واسم كان
مضمر فيها يعود على التولية ، أو الصلاة ، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام.
وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو : برفعها.
وفيه تأويلان :
أحدهما ـ وذكره
الزمخشري ـ : أن «كان» زائدة ، وفي زيادتها عاملة نظر لا يخفى ؛ وقد استدلّ
الزمخشري على ذلك بقوله : [الوافر]
٨٢٥ ـ فكيف إذا مررت بدار قوم
|
|
وجيران لنا
كانوا كرام
|
__________________
فإن قوله : «كرام»
صفة ل «جيران» ، وزاد بينهما «كانوا» ، وهي رافعة للضمير ، ومن منع ذلك تأول «لنا»
خبرا مقدما ، وجملة الكون صفة ل «جيران».
والثاني : أن «كان»
غير زائدة ، بل يكون «كبيرة» خبرا لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإن كانت لهي كبيرة ،
وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبرا لكانت ، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة
خبرا. وهو توجيه ضعيف ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشّاذة بأكثر من ذلك.
[والضمير في «كانت»
فيه وجهان :
الأول : أنه يعود
على القبلة ؛ لأن المذكور السابق هو القبلة.
والثاني : يعود
إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق ، وهو مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية أي : وإن
كانت التولية ؛ لأن قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ) يدل على القولية ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه
الفعلة نظيره «فبها ونعمت».
ومعنى «كبيرة»
ثقيلة شاقّة مستنكرة.
وقوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥]].
قوله : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ) متعلق ب «كبيرة» ، وهو استثناء مفرغ.
فإن قيل : لم
يتقدم هنا نفي ولا شبهة ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك.
فالجواب : أن
الكلام وإن كان موجبا لفظا فإنه في معنى النفي ؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل
إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].
وقال أبو حيان : [هو
استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين] وليس استثناء مفرغا ؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة ، وقد
تقدم جواب ذلك [واستدل الأصحاب رحمهمالله ـ تعالى ـ بهذه الآية على خلق الأعمال].
قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ) في هذا التركيب وما أشبهه [مما ورد في القرآن وغيره] نحو :
(وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩]
، (ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ) [آل عمران : ١٧٩]
قولان :
أحدهما : قول
البصريين ؛ وهو أن خبر «كان» محذوف ، وهذه اللام تسمى لام الجحود ينتصب الفعل
بعدها بإضمار «أن» وجوبا ، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه «اللام» ،
وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف.
__________________
والتقدير : وما
كان الله مريدا لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي.
[واشترط بعضهم مع
ذلك أن يكون كونا ماضيا ، ويفرق بينها وبين «لام» ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون
منفي] ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله : [الوافر]
٨٢٦ ـ سموت ولم تكن أهلا لتسمو
|
|
..........
|
والقول الثاني
للكوفيين : وهو أن «اللام» وما بعدها في محلّ الجر ، ولا يقدرون شيئا محذوفا ،
ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار «أن» ، وأن «اللام» للتأكيد ،
وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد ، لأن «اللام» لام الجر ، و «أن» بعدها
مرادة ، فيصير التقدير على قولهم : وما كان لله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير
لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ، بل يزعمون
النصب بها ، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا.
واعلم أن قولك : «ما
كان زيد ليقوم» ب «لام» الجحود أبلغ من : «ما كان زيد يقوم».
أما على مذهب
البصريين فواضح ، وذلك أن مع «لام» الجحود نفي الإرادة للقيام والتّهيئة ، ودونها
نفي للقيام فقط ، ونفي التّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ؛ إذ لا يلزم من
نفي الفعل نفي إرادته.
وأما على مذهب
الكوفيين فلأن «اللام» عندهم للتوكيد ، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.
وقرأ الضحاك : «ليضيّع» بالتشديد ، وذلك أن : أضاع وضيّع بالهمزة ،
والتضعيف للنقل من «ضاع» القاصر ، يقال : ضاع الشيء يضيع ، وأضعته أي : أهملته ،
فلم أحفظه.
وأما ضاع المسك
يضوع أي : فاح ، فمادة أخرى.
فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه
الآية الكريمة بما قبلها أن رجالا من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد ابن زرارة ،
والبراء بن عازب ، والبراء بن معرور ، وغيرهم ماتوا على القبلة.
__________________
قال عشائرهم : يا
رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم؟
فأنزل الله ـ تعالى
ـ هذه الآية .
[واعلم أنه لا بد
من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم
يجوّزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم
مفسدة] فبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول
كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا حاله ، فإنه لا يضيع أجره.
ونظيره : ما سألوا
بعد تحريم الخمر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) [المائدة : ٩٣]
فعرفهم الله ـ تعالى ـ أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى.
فإن قيل : إذا كان
الشك إنما تولّد من تجويز البداء على الله ـ تعالى ـ فكيف يليق ذلك بالصحابة؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك
الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله ـ تعالى ـ ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك
المنافق.
وثانيها : لعلهم
اعتقدوا أن الصّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر
الله ـ تعالى ـ هذا الكلام جوابا عن ذلك.
وثالثها : لعله ـ تعالى
ـ ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
ورابعها : لعلهم
توهموا أن ذلك لما نسخ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة
كفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ،
فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ؛ قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان
محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً) [البقرة : ٧٢] ، (وَإِذْ فَرَقْنا
بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] ،
ويجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا ، فإنهم أشفقوا على ما كان من
صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء
والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا
: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
__________________
وقال أبو مسلم :
يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم ، وطاعتهم قبل
البعثة ثم نسخ.
وإنما اختار أبو
مسلم هذا القول ، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
قال القرطبي : «وسمى
الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل».
استدلت المعتزلة
بقوله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات ، فإنه ـ تعالى ـ أراد
بالإيمان هاهنا الصلاة.
والجواب : لا نسلم
أن المراد من الإيمان هنا الصلاة ، بل المراد منه التّصديق ، والإقرار ، فكأنه ـ تعالى
ـ قال : إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة.
سلمنا أن المراد
من الإيمان هاهنا الصلاة ، ولكن الصلاة أعظم الإيمان ، وأشرف نتائجه وفوائده ،
فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاستعارة من هذه الجهة.
فصل في الكلام على الآية
قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي : لا يضيع ثواب إيمانكم ؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني ، وما
كان كذلك استحال حفظه وإضاعته ، إلّا أنّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه ، فصح
حفظه وإضاعته ، وهو كقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٩٥].
قوله : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).
قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : «لرؤف» على وزن : «ندس» و
«رعف» مهموزا غير مشبع ، وهي لغة فاشية ، كقوله : [الوافر]
٨٢٧ ـ وشرّ الظّالمين فلا تكنه
|
|
يقاتل عمّه
الرّؤف الرّحيما
|
وقال آخر : [الوافر]
٨٢٨ ـ يرى للمسلمين عليه حقّا
|
|
كحقّ الوالد
الرّؤف الرّحيم
|
وقرأ الباقون : «لرؤوف»
مثقلا مهموزا مشبعا على زنة «شكور».
وقرأ أبو جعفر «لروف» من غير همز
، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة.
__________________
و «الرأفة» : أشد
الرحمة ، فهي أخص منها ، [وقيل بينهما عموم وخصوص ، فلا ترى فيه أكمل من الرحمة
بالكيفية ، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب
الدواء].
وفي «رءوف» لغتان
أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما : «رئف» على وزن «فخذ» ، و «رأف» على وزن «ضعف».
وإنم قدم على «رحيم»
لأجل الفواصل ، والله أعلم.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر
استدلت المعتزلة
بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا : لأنه ـ تعالى ـ بين
أنه بالنّاس لرءوف رحيم ، فوجب أن يكون رءوفا رحيما بهم ، وإنما يكون كذلك لو لم
يخلق فيهم الكفر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم ، والعذاب السّرمدي ، ولو لم
يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإنه ـ تعالى ـ لو كان مع مثل هذا الإضرار رءوفا رحيما ،
فعلى أيّ طريق يتصور ألّا يكون رءوفا رحيما.
واعلم أنّ الكلام
عليه قد تقدّم مرارا ، والله أعلم.
قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)
قال العلماء : هذه
الآية متقدّمة في النزول على قوله تعالى : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ).
ومعنى «تقلّب وجهك»
: تحرّك وجهك إلى السّماء.
اعلم أنّ «قد» هذه
قال فيها بعضهم : إنها تصرف المضارع إلى معنى المضيّ ، وجعل من ذلك هذه الآية
وأمثالها ، وقول الشاعر : [الطويل]
٨٢٩ ـ لقوم لعمري قد نرى أمس فيهم
|
|
مرابط للأمهار
والعكر الدّثر
|
وقال الزّمخشريّ :
«قد نرى» : ربّما نرى ، ومعناه كثرة الرؤية ؛ كقوله : [البسيط]
٨٣٠ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله
|
|
كأنّ أثوابه
مجّت بفرصاد
|
__________________
قال أبو حيّان : وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ؛ لأنه شرح «قد نرى» ب «ربّما
نرى» ، و «ربّ» على مذهب المحققين إنما تكون لتقليل الشّيء في نفسه ، أو لتقليل
نظيره.
ثمّ قال : «ومعناه
كثرة الرّؤية» فهو مضادّ لمدلول «ربّ» على مذهب الجمهور.
ثم هذا الذي
ادّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم توضع للكثرة «قد» مع المضارع ،
سواء أريد به المضي أم لا ، وإنّما فهمت الكثرة من متعلّق الرؤية ، وهو التقلب.
قوله : «في
السّماء» في متعلّق الجار ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه
المصدر ، وهو «تقلّب» ، وفي «في» حينئذ وجهان :
أحدهما : أنها على
بابها من الظرفية ، وهو الواضح.
والثّاني : أنها
بمعنى : «إلى» أي : إلى السّماء ولا حاجة لذلك ، فإنّ هذا المصدر قد ثبت تعديه ب «في»
، قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦].
والثاني من
الأقوال : أنه «نرى» ، وحينئذ تكون «في» بمعنى «من» أي : قد نرى من السّماء ، وذكر
السماء وإن كان تعالى لا يتحيّز في جهة على سبيل التشريف.
والثالث : أنه محل
نصب على الحال من «وجهك» ذكره أبو البقاء ، فيتعلّق حينئذ بمحذوف ، والمصدر هنا
مضاف إلى فاعله ، ولا يجوز أن يكون مضافا إلى منصوبه ؛ لأنه مصدر ذلك التقليب ،
ولا حاجة إلى حذف ، ومن قوله : «وجهك» وهو بصر وجهك ؛ لأن ذلك لا يكاد يستعمل ، بل
ذكر الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء ، وهو الذي يقلبه السّائل في حاجته ، وقيل : كنى
بالوجه عن البصر ؛ لأنه محلّه.
قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) «الفاء» هنا
للتّسبّب وهو واضح ، وهذا جواب قسم محذوف ، أي : فو الله لنولّينّك ، و «نولّي»
يتعدّى لاثنين : الأول الكاف ، والثّاني «قبلة» ، و «ترضاها» الجملة في محلّ نصب
صفة ل «قبلة».
قال أبو حيّان : وهذا ؛ يعني : «فلنولّينك» يدلّ على أن الجملة السابقة
محذوفة تقديره : قد نرى تقلّب وجهك في السّماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها.
__________________
فصل في الكلام على الآية
في الآية قولان :
القول الأول : وهو
المشهور الذي عليه أكثر المفسّرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من «بيت المقدس» إلى
الكعبة ، وذكروا في ذلك وجوها :
أحدها : أنه كان
يكره التوجّه إلى بيت المقدس ، ويحبّ التوجّه إلى الكعبة ، إلّا أنه ما كان يتكلّم
بذلك ، فكان يقلّب وجهه في السّماء لهذا المعنى.
روي عن عباس أنه [صلىاللهعليهوسلم] قال : «يا جبريل وددت أنّ الله ـ تعالى ـ صرفني عن قبلة
اليهود ، إلى عينها فقد كرهتها».
فقال جبريل عليه
الصلاة والسلام «أنا عبد مثلك فاسأل ربّك ذلك».
فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يديم النّظر إلى السماء ؛ رجاء مجيء جبريل بما سأل ، فأنزل
الله تعالى هذه الآية ، وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أمورا :
الأول : أنّ
اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ، ثم إنه يتبع قبلتنا ، ولو لا نحن لم يدر أين
يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم .
الثّاني : أنّ
الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
[الثّالث : أنه ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ كان يقدّر أن يصير ذلك سببا لاستمالة العرب ، ولدخولهم في
الإسلام.
الرّابع : أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ أحبّ] أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد
آخر.
واعترض القاضي على
هذا الوجه ، وقال : إنه لا يليق به ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكره قبلة أمر أن
يصلّي إليها ، ويحبّ أن يحوله ربّه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ، ويميل إليها بحسب
شهوته ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنّ الصّلاح في خلاف الطّبع والميل.
قال ابن الخطيب :
وهذا قليل التحصيل ؛ لأنّ المستنكر من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يعرض عما
أمره الله ـ تعالى ـ به ، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه.
فأما أن يميل قلبه
إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، فذلك مما لا إنكار
__________________
عليه ، لا سيما
إذا لم ينطق به ، [أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن
الله له فيه ، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه].
الوجه الثاني :
أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد استأذن جبريل ـ عليهالسلام ـ في أن يدعو الله ـ تعالى ـ بذلك ، فأخبره جبريل ـ عليه
الصلاة والسلام ـ بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء ، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون
الله تعالى شيئا إلا بإذن منه ، لئلا يسألون ما لا صلاح فيه ، فلا يجابوا إليه ،
فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم ، فلما أذن الله ـ تعالى ـ له في الإجابة ، علم أنه
يستجاب إليه ، فكان يقلّب وجهه في السّماء ينتظر مجيء جبريل ـ عليهالسلام ـ بالوحي في الإجابة.
الوجه الثالث : قال
الحسن : إن جبريل ـ عليهالسلام ـ أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخبره أن الله ـ تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى
قبلة أخرى ، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها ، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول ـ عليه
الصلاة والسلام ـ من الكعبة ، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي ؛
لأنه ـ عليهالسلام ـ علم أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة ، فأتاه جبريل عليهالسلام ، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة.
والقائلون بهذا
الوجه اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه ـ عليهالسلام ـ منع من استقبال «بيت المقدس» ولم يعين له القبلة ، فكان
يخاف أن يرد وقت الصلاة ، ولم تظهر القبلة ، فتتأخر صلاته ، فلذلك كان يقلّب وجهه.
عن الأصم.
وقال آخرون : بل
وعد بذلك ، وقبلة بيت المقدس باقية ، بحيث تجوز الصلاة إليها ، لكن لأجل الوعد كان
يتوقع ذلك ، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن «بيت المقدس» إلى «الكعبة» وجوها كثيرة
من المصالح الدينية :
نحو : رغبة العرب
في الإسلام ، والمباينة عن اليهود ، وتمييز الموافق من المنافق ، لهذا كان يقلّب
وجهه ، وهذا الوجه أولى ، وإلّا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى ، [بل كانت
مبتدأة.
والمفسرون أجمعوا
على أنها ناسخة للأولى] ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلّا مع بيان موضع
التوجّه.
الرابع : أن تقلب
وجهه في السّماء هو الدعاء.
القول الثاني :
وهو قول أبي مسلم الأصفهاني ، قال : لو لا الأخبار التي دلّت على هذا القول ، وإلا
فلفظ الآية يحتمل وجها آخر ، وهو أنه يحتمل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما كان
يقلّب وجهه في أول مقدمه «المدينة».
__________________
فقد روي أنه ـ عليهالسلام ـ كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس»
، وهذه صلاة إلى الكعبة ، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه ، فانتظر أمر الله ـ تعالى
ـ حتى نزل قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
فصل
اختلفوا في صلاته
إلى بيت المقدس ، فقال قوم : كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة
عشر شهرا.
وقال قوم : بل كان
ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.
وقال قوم : بل كان
يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولا سبعة عشر شهرا ، ثم أمره الله تعالى
بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
واختلفوا في توجه
النبي صلىاللهعليهوسلم] إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره ، أو كان مخيرا
في التوجه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيرا في ذلك. وقال ابن
عباس : كان التوجه إليه فرضا.
وعلى كلا الوجهين
صار منسوخا ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله
تعالى : (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].
وذلك يقتضي كونه
مخيرا في التوجه إلى أي جهة شاء.
وأما الخبر فما
روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نفرا قصدوا الرسول ـ عليه الصلاة
والسلام ـ من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهجرة ، وكان فيهم البراء بن معرور
، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرون ، وقالوا : إنه ـ عليه الصلاة
والسلام ـ يتوجّه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبتّ
عليها أجزأك ، ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.
واحتجّ الذاهبون
إلى القول الثّاني بأنه ـ تعالى ـ قال : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) فدلّ على أنه ـ عليهالسلام ـ ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيرا بينها وبين
الكعبة ما كان يتوجّه إليها ، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه
ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة.
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن
التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخا [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.
__________________
ومن الناس من قال
: التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ثم إن ذلك صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ).
واحتجوا عليه
بالقرآن والأثر.
أما القرآن فهو
أنه تعالى ذكر أولا قوله : (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)] ثم ذكر بعده : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها)
[البقرة : ١٤٢] ثم
ذكر بعده : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
وهذا الترتيب
يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ).
فلزم أن يكون قوله
تعالى : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) [متأخرا في النزول
والدرجة عن قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت
ما قلناه.
وأما الأثر فما] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن ،
والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فوجب أن يكون قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ناسخا لذلك ، لا للأمر بالتوجّه إلى «بيت المقدس».
قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا
، إذا جعلته واليا له ، أو فلنجعلنّك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.
قوله : «ترضاها»
فيه وجوه :
أحدها : ترضاها :
تحبّها وتميل إليها ؛ لأن الكعبة كانت أحبّ إليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، وتقدم
كلام القاضي عليه وجوابه.
وثانيها : «قبلة
ترضاها» أي : تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.
وثالثها : قال
الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليها ، فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من
انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
ورابعها : «ترضاها»
أي : ترضى عاقبتها ؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، ممن يتبعك لغير ذلك من دنيا
يصيبها ، أو مال يكتسبه.
قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) «ولّى» يتعدى
لاثنين :
__________________
أحدهما : «وجهك».
والثاني : «شطر».
ويجوز أن ينتصب «شطر»
على الظرف المكاني ، فيتعدى الفعل لواحد ، وهو قول النحاس ، ولم يذكر الزمخشري
غيره.
والأول : أوضح ،
وقد يتعدى إلى ثانيهما ب «إلى». [والمراد من الوجه هاهنا جملة بدن الإنسان ؛ لأن
الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، والوجه قد يراد به
العضو ، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.
قال أهل اللغة : «الشطر»
اسم مشترك يقع على معنيين :
أحدهما : النصف من
الشيء والجزء منه ، يقال : شطرت الشيء ، أي : جعلته نصفين ، ويقال في المثل : اجلب
جلبا لك شطره ، أي : نصفه.
ومنه الحديث : «الطّهور
شطر الإيمان».
وتكون من الأضداد.
ويقال : شطر إلى
كذا إذا أقبل نحوه ، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض ، ويكون بمعنى الجهة والنحو
، واستشهد الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في كتاب «الرسالة» في هذا بأربعة أبيات] قال : [الوافر]
٨٣١ ـ ألا من مبلغ عنّي رسولا
|
|
وما تغني
الرّسالة شطر عمرو
|
وقال : [الوافر]
٨٣٢ ـ أقول لأمّ زنباع أقيمي
|
|
صدور العيس شطر
بني تميم
|
وقال : [البسيط]
٨٣٣ ـ وقد أظلّكم من شطر ثغركم
|
|
هول له ظلم
يغشاكم قطعا
|
وقال ابن أحمر : [البسيط]
__________________
٨٣٤ ـ تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة
|
|
قد قارب العقد
من إيفادها الحقبا
|
وقال : [المتقارب]
٨٣٥ ـ وأطعن بالرّمح شطر الملو
|
|
ك ..........
|
وقال : [البسيط]
٨٣٦ ـ إنّ العسير بها داء يخامرها
|
|
وشطرها نظر
العينين محسور
|
كل ذلك بمعنى : «نحو»
و «تلقاء» [فعلى هذا المراد الجهة ، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين
والمتأخرين ، واختار الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أن المراد جهة المسجد الحرام
وتلقاءه. وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
قال القرطبي : وهو
في حرف ابن مسعود : «تلقاء المسجد الحرام» ، وقال الجبائي : المراد من التشطير
هاهنا وسط المسجد ، ومنتصفه ؛ لأن الشطر هو النصف ، والكعبة لما كانت واقعة في نصف
المسجد حسن أن يقول : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني : النصف من كل جهة ، كأنه عبارة عن بقعة الكعبة ،
وهذا اختيار القاضي ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن المصلي
خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولكن لا يكون متوجها إلى منتصف
المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته.
الثاني : لو فسرنا
الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة ؛ لأنك لو قلت : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) لحصلت الفائدة المطلوبة.
وإذا فسرنا الشطر
بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة].
ويقال : شطر : بعد
، ومنه : الشّاطر ، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله ، ويقال : شطر
شطورا.
والشّطير : البعيد
، ومنه : منزل شطير ، وشطر إليه أي : أقبل.
وقال الراغب :
وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد ، وجمعه : شطر ، والشاطر أيضا لمن يتباعد من الحق ،
وجمعه شطّار.
__________________
[فصل في الكلام على المسجد الحرام
قال الأزرقي : ذرع
المسجد الحرام مقصرا مائة ألف وعشرون ألف ذراع ، وعدد أساطينه من شقّه الشّرقي :
مائة وثلاث أسطوانات. ومن شقّه الغربي : مائة وخمس أسطوانات ، ومن شقّه الشّامي :
مائة وخمس وثلاثون أسطوانة ، ومن شقّه اليمني : مائة وإحدى وأربعون أسطوانة.
وذرع ما بين كل
أسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعا.
وللمسجد الحرام
ثلاثة وعشرون بابا ، وعدد شرفاته مائتا شرفة واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة ، ويطلق
المسجد الحرام ، ويراد به الكعبة.
قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ).
ويطلق ويراد به
المسجد معها.
وقال عليه الصلاة
والسلام : «لا تشدّ الرّحال إلّا لثلاثة مساجد : المسجد الحرام» إلى آخره ، ويطلق ويراد به «مكة» كلها ، قال سبحانه وتعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال المفسرون : كان الإسراء من بيت أمّ هانىء بنت أبي
طالب.
ويطلق ويراد به «مكة»
كلها ، قال سبحانه وتعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
قال البعض : حاضرو
المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر.
وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، وهل تعتبر هذه المسافة من نفس «مكة» أو من طرف الحرم؟
والأصح أنها من طرف الحرم].
فصل في المراد بالمسجد الحرام
اختلفوا في المراد
من المسجد الحرام.
روي عن ابن عباس ،
أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق
والمغرب ، وهذا قول مالك رضي الله عنه.
__________________
وقال آخرون :
القبلة هي الكعبة ، والدليل عليه ما أخرج في «الصحيحين» عن ابن جريج عن عطاء عن
ابن عباس ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال : إنه لمّا دخل النبي صلىاللهعليهوسلم البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ حتى خرج منه ، فلما
خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة ، وقال : هذه القبلة .
قال القفال : وقد
وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة.
وفي خبر البراء بن
عازب : ثم صرف إلى الكعبة ، وكان يحبّ أن يتوجّه إلى الكعبة.
وفي خبر ابن عمر
في صلاة أهل قباء : فأتاهم آت فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حول إلى الكعبة.
وفي رواية ثمامة
بن عبد الله بن أنس : جاء منادي رسول الله ، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة.
هكذا عامة الروايات.
وقال آخرون : بل
المراد المسجد الحرام الحرم كلّه ، قالوا : لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه ،
إلّا إذا منع منه مانع.
وقال آخرون :
المراد من المسجد الحرام الحرم كلّه ، والدليل عليه قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] وهو
ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما أسري به خارج المسجد ، فدلّ هذا على أن الحرم كله
مسمى بالمسجد الحرام.
وقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) في «حيثما» هنا وجهان :
أظهرهما : أنها
شرطية ، وشرط كونها كذلك زيادة «ما» بعدها خلافا للفراء ، ف «كنتم» في محلّ جزم
بها ، و «فولّوا» جوابها ، وتكون هي منصوبة على الظرف ب «كنتم» فتكون هي عاملة فيه
الجزم ، وهو عامل فيها النصب نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا
فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠].
واعلم أن «حيث» من
الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض
بها ، ولكن منع من ذلك مانع ، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال.
قال أبو حيان :
وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية للخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا
يقتضي الجزم ؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ،
كما أن الصلة موضحة ، فينافي اسم الشرط ؛ لأن اسم
__________________
الشرط مبهم ، فإذا
وصلت ب «ما» زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط وجوزي بها ، وصارت من عوامل
الأفعال.
والثاني : أنها
ظرف غير مضمن معنى الشرط ، والناصب له قوله : «فولّوا» قاله أبو البقاء ، وليس
بشيء ، لأنه متى زيدت عليها «ما» وجب تضمّنها معنى الشرط. وأصل «ولّوا» : وليوا ،
فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وهو الياء وضم ما
قبله ليجانس الضمير ، فوزنه «فعوا».
وقوله : «شطره»
فيه القولان ، وهما : إما المفعول به ، وإما الظرفية كما تقدم.
فصل في الصلاة في المسجد الحرام
قال صاحب التهذيب
: الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم
يقفون مستدبرين البيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتدّ
الصف في المسجد ، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة.
وعند أبي حنيفة
تصحّ ؛ لأن عنده الجهة كافية. وحجة الشّافعي رضي الله عنه : القرآن والخبر
والقياس.
أما القرآن فهو
ظاهر هذه الآية ، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه ،
وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له ، وواقعا في سمته ، والدليل عليه أنه لو كان
كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذيا لوجه الآخر ،
لا يقال : إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين
الكعبة واجب.
وأما الخبر فما
روينا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة ،
وقال : «هذه القبلة».
وهذه الكلمة تفيد
الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن
القبلة هي الكعبة.
وأما القياس فهو
أن مبالغة الرسول صلىاللهعليهوسلم في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر
الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ،
فوجب أن يكون مشروعا ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر
مشكوك ، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال
الكعبة.
واحتج أبو حنيفة
بظاهر الآية ؛ لأنه ـ تعالى ـ أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى
وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه ، فقد أتى بما أمر به ،
سواء كان مستقبلا
الكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج على العهدة.
وروى أبو هريرة ـ رضي
الله عنه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .
قال أصحاب الشافعي
رحمهالله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه
بين مشرق ومغرب فهو قبلة ؛ لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق
ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ، ومغرب معين قبلة ، ونحن
نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي ، وبين المغرب الصيفي ، فإن ذلك قبلة ،
وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي
شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سمت «مكة».
قالوا : فهذا
الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الصحابة فمن
وجهين :
الأول : أن أهل
مسجد «قباء» كانوا في صلاة الصبح ب «المدينة» مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين
للكعبة ؛ لأن «المدينة» بينهما.
فقيل لهم : ألا إن
القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصّلاة من غير طلب دلالة ، ولم
ينكر النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم ، وسمى مسجدهم ب «ذي القبلتين» ومقابلة العين من
المدينة إلى «مكة» لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على
البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟
الثاني : أن الناس
من عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندسا
عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
وأما القياس فمن
وجوه :
الأول : لو كان
استقبال عين الكعبة واجبا ، إما علما أو ظنّا ، وجب ألّا تصح صلاة أحد قط ؛ لأنه
إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعا ، فمن المعلوم أن أهل المشرق
والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في
محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير.
ومعلوم أن العبرة
في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب ألّا تصح
__________________
صلاة أحد منهم لا
سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها ، وحيث
اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة.
فإن قيل : الدائرة
وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ،
فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك
الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التّقوّس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت
وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها ، بل نرى كل قطعة منها شبيها
بالخطّ المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها
على أضعاف البيت ، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة.
قلنا : هب أن
الأمر على ما ذكرتموه ، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة ، وإن كانت شبيهة بالخط
المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها ؛ لأنها لو كانت في
نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدّائرة مركبة
من خطوط مستقيمة يتّصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّا
مستقيما ، وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها
منحنية ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلا لعين
الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم ، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء
القليل إلّا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة ، لا يمكن أن
يكون في محلّ التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل
هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟
فلو كان استقبال
عين الكعبة شرطا لكان حصول هذا الشرط مجهولا للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي
الشّك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّا في صحة
صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة ألبتة.
وحيث اجتمعت الأمة
على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علما ولا ظنّا ، وهذا كلام
بيّن.
الثاني : أنه لو
كان استقبال عين الكعبة واجبا لا سبيل إليه إلّا بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى
الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجبا على كل
واحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
فإن قيل : عندنا
استقبال عين الجهة واجب ظنّا لا يقينا ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو
الاستقبال يقينا لا ظنّا.
قلنا : لو كان
استقبال عين الكعبة واجبا لكان القادر على تحصيل اليقين ، لا يجوز له الاكتفاء
بالظن ، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية ، فكان يجب عليه تعلم
تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
الثالث : لو كان
استقبال العين واجبا إما علما أو ظنّا ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع
من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدّى الواجب إلّا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون
تعلم تلك الأمارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن
استقبال العين غير واجب.
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها ،
ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «خير المجالس ما استقبل به القبلة» خرج منه
الصلاة حال المسايفة ، والخوف ، والمطلوب والخائف والهارب من العدود ، ويبقى فيما
عداه على مقتضى الدليل.
فإن قيل : قوله
تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تكرار لقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
فالجواب : أن هذا
ليس بتكرار ، وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن قوله
تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خطاب مع الرسول ـ عليهالسلام ـ لا مع الأمة.
وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خطاب مع الكل.
وثانيهما : أن
المراد بالأولى مخاطبتهم ، وهم ب «المدينة» خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع
الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة لأهل «المدينة» خاصة ، فبيّن الله تعالى أنهم
أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
[قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).
قال السّدّي : هم
اليهود خاصة ، والكتاب : التوراة .
وقال غيره : أحبار
اليهود ، وعلماء النصارى ؛ لعموم اللفظ ، والكتاب التوراة والإنجيل.
فلا بد أن يكون عددا
قليلا ؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان].
قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ) يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون»
عند الجمهور ، ومسدّ أحدهما عند الأخفش ، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين ،
وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العرفان. وفي الضمير ثلاثة أقوال :
__________________
أحدها : يعود على
التولّي المدلول عليه بقوله : «فولّوا».
والثاني : على
الشطر.
والثالث : على
النبي صلىاللهعليهوسلم ، [أي : يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوّته حقّ] ويكون على هذا التفاتا من خطابه بقوله : «فلنولّينّك» إلى
الغيبة.
[قوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف على أنه حال من الحق ، أي كائنا من ربهم].
فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب
اختلفوا في كيفية
معرفتهم فذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن قوما
من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول ، وخبر القبلة ، وأنه
يصلي إلى القبلتين.
وثانيها : أنهم
كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله ـ تعالى ـ قبلة لإبراهيم
وإسماعيل عليهماالسلام.
وثالثها : أنهم
كانوا يعلمون نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته ، فقد علموا
لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ، فكان هذا التحويل حقّا.
قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ) تقدم معناه.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تعملون» بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو
الظاهر أو ل «للذين» على الالتفات تحريكا لهم وتنشيطا ، والباقون بالغيبة ردّا على
الذين أوتوا الكتاب ، أو ردّا على المؤمنين ، ويكون التفاتا من خطابهم بقوله : «وجوهكم
ـ كنتم» فإن جعلناه خطابا للمسلمين ، فهو وعد لهم ، وبشارة أي : لا يخفى عليّ
جدّكم واجتهادكم في قبول الدين ، فلا أخل بثوابكم.
وإن جعلناه كلاما
مع اليهود ، فهو وعيد وتهديد لهم ، ويحتمل أيضا أنه ليس بغافل عن مكافأتهم
ومجازاتهم ، وإن لم يعجلها لهم ، كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢].
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ
بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً
لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٤٥)
قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ) فيه قولان :
__________________
أحدهما : قول
سيبويه وهو أن «اللام» هي الموطّئة للقسم المحذوف ، و «إن» شرطية ، فقد اجتمع شرط
وقسم ، وسبق القسم ، فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر ، فلذلك جاء الجواب للقسم ب «ما» النافية وما بعدها ، وحذف
جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا ؛ لأنه متى حذف
الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة ، و «تبعوا» وإن كان ماضيا لفظا فهو
مستقبل معنى أي : ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون
مضمون الجملة مستقبلا ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي.
الثاني : وهو قول
الفراء ، وينقل أيضا عن الأخفش والزجاج أن «إن» بمعنى «لو» ، ولذلك كانت «ما» في الجواب ، وجعل «ما
تبعوا» جوابا ل «إن» لأنها بمعنى «لو».
أما إذا لم تكن
بمعناها ، فلا تجاب ب «ما» وحدها ، بل لا بد من الفاء ، تقول : إن تزرني فما
أزورك.
ولا يجيز الفراء :
«ما أزورك» بغير فاء.
وقال ابن عطية : وجاء جواب «لئن» كجواب «لو» ، وهي ضدها في أنّ «لو» تطلب
المضي والوقوع ، و «إن» تطلب الاستقبال ؛ لأنهما جميعا يترتب قبلهما القسم ،
فالجواب إنما هو للقسم ؛ لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه.
قال أبو حيان : هذا فيه تثبيج ، وعدم نصّ على المراد ؛ لأن أوله يقتضي
أن الجواب ل «إن» ، وقوله بعد : الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل «إن» ، وتعليله
بقوله : لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون «ما تبعوا» جوابا للقسم
، بل لكونه جوابا ل «إن».
وقوله : «قول
سيبويه» ليس في كتاب سيبويه ذلك ، إنما فيه أن «ما تبعوا» جواب القسم ، ووقع فيه
الماضي موقع المستقبل.
__________________
قال سيبويه وقالوا
: لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.
وتلّخص مما تقدم
أن قوله : «ما تبعوا» فيه قولان :
أحدهما : أنه جواب
للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، ولذلك لم يقترن بالفاء.
والثاني : أنه
جواب ل «إن» إجراء لها مجرى «لو».
وقال أبو البقاء :
«ما تبعوا» أي : لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل ، ودخلت «ما» حملا على لفظ
الماضي ، وحذفت الفاء في الجواب ؛ لأن فعل الشرط ماض.
وقال الفراء : «إن»
هنا بمعنى «لو».
وهذا من أبي
البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضيا ، وهذا منه
غير مرض ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المقالة.
فصل في المراد بالآية
قال الأصم :
المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٤٤] ؛
لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام ، ولو كان المراد الكل لامتنع الكتمان ؛ لأن
الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان ، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية
كذبا ؛ لأن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتبع قبلته.
وقال آخرون : بل
المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم ،
فيتناول الكل.
فصل في لفظ «آية»
«الآية» : وزنها «فعلة»
أصلها : «أيية» ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفا
لانفتاح ما قبلها.
والآية : الحجّة
والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القوم بآيتهم أي : جماعتهم.
وسميت آية القرآن
بذلك ؛ لأنها جماعة حروف. وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.
وقيل : لأنها دالّة
على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن يهود «المدينة»
، ونصارى «نجران» قالوا للرسول صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم ومجد
وبجل وعظم : ائتنا
بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب : «والأقرب
أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة ، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة».
قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ).
«ما» تحتمل
الوجهين أعني : كونها حجازية ، أو تميمية : فعلى الأول يكون «أنت» مرفوعا بها ، و
«بتابع» في محلّ نصب.
وعلى الثاني يكون
مرفوعا بالابتداء ، و «بتابع» في محلّ رفع ، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط ،
وجوابه لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ؛ لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط
لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم ، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) من وجوه :
أحدها : كونها
اسمية متكرر فيها الاسم ، مؤكد نفيها بالباء.
ووحّد القبلة وإن
كانت مثناة : لأن لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين :
إما لاشتراكهما في
البطلان صارا قبلة واحدة ، وإما لأجل المقابلة في اللفظ ؛ لأن قبله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).
وقرىء : «بتابع
قبلتهم» بالإضافة تخفيفا ؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان.
واختلف في هذه
الجملة : هل المراد بها النهي أي : لا تتبع قبلتهم ، ومعناه : الدوام على ما أنت
عليه ؛ لأنه معصوم من اتباع قبلتهم ، أو الإخبار المحض بنفي الاتّباع ، والمعنى أن
هذه القبلة لا تصير منسوخة ، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟
قولان مشهوران.
قوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ
بَعْضٍ).
قال القفال : هذا
يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال.
أما على الحال فمن
وجوه :
الأول : أنهم
ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.
الثاني : أن
اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة ، فكيف يدعونك إلى ترك
قبلتك ، مع أنهم فيما بينهما مختلفون.
الثالث : أن هذا
إبطال لقولهم : إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب ؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما
للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.
وأما حمل الآية
على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : (وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر ، لكن ذلك قد
وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في
ذلك الزمان ، فلم يثبت عندنا أن أحدا منهم تبع قبلة الآخر ، فالخلف غير لازم.
وإن حملناه على
الكل قلنا : إنه عامّ دخله التخصيص.
قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) كقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ).
وقوله : «إنّك» جواب
القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره.
قال أبو حيان : لا
يقال : إنه يكون جوابا لهما لامتناع ذلك لفظا ومعنى.
أما المعنى فلأن
الاقتضاء مختلف ، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ؛ لأن القسم إنما جيء به
توكيدا للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا ،
واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة
طلبه له.
وأما اللفظ فإن
هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط ، فإذا كانت جواب شرط احتاجت
إلى مزيد رابط وهو الفاء ، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها ، فلذلك
امتنع أن تكون جوابا لهما معا.
فصل في الهوى
الهوى المقصور :
هو ما يميل إليه الطبع [وقيل : هو شهوة نتجت عن شبهة ، والممدود هو الجو].
اختلفوا في
المخاطب بهذا الخطاب.
قال بعضهم :
الرسول.
وقال بعضهم :
الرسول وغيره.
وقال آخرون : بل
غيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ عرف أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يفعل ذلك ، فلا
يجوز أن يخصّه بهذا الخطاب ، وهذا خطأ من وجوه :
أحدها : أنه لو
كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه ، لكان ما علم أن يفعله وجب
ألا يأمره به ، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأمورا بشيء ، ولا منهيّا عن شيء ، وإنه
بالاتفاق باطل.
وثانيها : لو لا
تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عنه فلما كان ذلك الاحتراز
__________________
مشروطا بذلك النهي
والتحذير ، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير.
وثالثها : أن يكون
الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ،
ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في
العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
ورابعها : قوله
تعالى في حق الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩]
مع أنه ـ تعالى ـ أخبر عن عصمتهم في قوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠] وقال
في حق محمد صلىاللهعليهوسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].
والإجماع على أنه
عليه الصلاة والسلام ما أشرك ، وما مال إليه ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١]
وقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ،
وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤].
فثبت بما قلنا أنه
ـ عليه الصلاة والسلام ـ منهي عن ذلك وأن غيره أيضا منهي عنه ؛ لأن النهي عن هذه
الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام.
بقي أن يقال : فلم
خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه :
أحدها : أن كل من
كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، فكان أولى بالتخصيص.
وثانيها : أن مزيد
الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
وثالثها : أن
الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم ، فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده
، فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال
هذه الآية.
القول الثاني : أن
قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ) ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله ـ عليه
الصلاة والسلام ـ كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول
والغلظة في الكلام ، طمعا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في استمالتهم ، فنهاه الله
ـ تعالى ـ عن ذلك القدر أيضا ، وآيسه منهم بالكلية على ما قال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤].
القول الثالث : أن
ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنسانا
أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه زجر
العبد.
__________________
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
إنه ـ تعالى ـ لم
يرد بذلك أنه نفس العلم ، بل المراد الدّلائل والآيات والمعجزات ؛ لأن ذلك من طرق
العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر ، والغرض من هذه الاستعارة
هو المبالغة [والتعظيم في] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاها باسم العلم ، وذلك
ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة ، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد
على العلماء أشدّ من توجّهه على غيرهم.
[قوله تعالى : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم ، وظلمهم
أنفسهم].
و «إذا» حرف جواب
وجزاء بنص سيبويه ، وتنصب المضارع بثلاثة شروط :
أن تكون صدرا ،
وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم ، وألا يكون الفعل حالا ، ودخلت هنا
بين اسم «إن» وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر ، فلم
تتقدم ، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم ، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير
النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس
الآي.
قال أبو حيان :
وتحرير معنى «إذا» صعب اضطراب الناس في معناها ، وفي فهم كلام سيبويه فيها ، وهو
أن معناها الجواب والجزاء.
قال : والذي تحصل
فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا ، وما
بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان متسببا عما قبلها فهي في ذلك على وجهين :
أحدهما : أن تدلّ
على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها ، مثال ذلك : أزورك
فتقول : إذا أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك ، وإنشاء السببية في
ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه
تكون عاملة ، ولعملها شروط مذكورة في النحو.
الوجه الثاني : أن
تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم ، أو منبّهة على مسبب حصل في الحال ، وهي في
الحالين غير عاملة ؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عليه ، وذلك ، نحو
: «إن تأتني إذا آتك» ، و «والله إذا لأفعلن» فلو أسقطت «إذا» لفهم الارتباط ،
ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة
نحو : «أزورك» فتقول : «إذا أنا أكرمك» ، وجاز توسطها نحو : «أنا إذا أكرمك»
وتأخرها ، وإذا تقرر هذا فجاءت «إذا» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ،
وإنما
__________________
قررت معناها هنا ؛
لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه
انتهى كلامه.
واعلم أنها إذا
تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها ، وهو الأكثر ، وهي مركبة من «همزة وذال ونون» ،
وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفا ، وكتبوها في الكتاب
على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا
المكان «من بعد ما جاءك» وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي
جاءَكَ) [لبقرة : ١٢٠] وفي «الرعد» : (بَعْدِ ما جاءَكَ) [الرعد : ٣٧] فلم
يأت ب «من» الجارة إلا هنا ، واختص موضعا ب «الذى» ، وموضعين ب «ما» ، فما الحكمة
في ذلك؟ والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاما ، فحيث أتي
ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود
والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث
أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والآخر : بعض الكتاب ؛
لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد : ٣٦].
قال : وأما دخول «من»
ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه ـ عليهالسلام ـ أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا :
إنه من باب التنوع في البلاغة.
قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)
في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) : ستة أوجه :
أظهرها : أنه
مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : «يعرفونه».
الثاني : أنه خبر
مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم.
الثالث : النصب
بإضمار «أعني».
الرابع : الجر على
البدل من «الظّالمين».
الخامس : على
الصفة للظالمين.
السادس : النصب
على البدل من (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) في الآية قبلها.
قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر
ل (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ) كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ).
الثاني : أنه نصب
على الحال على بقية الأقوال المذكورة.
__________________
وفي صاحب الحال
وجهان :
أحدهما : المفعول
الأول ل «آتيناهم».
والثاني : المفعول
الثاني وهو الكتاب ؛ لأن في «يعرفونه» ضميرين يعودان عليهما ، والضمير في «يعرفونه»
فيه أقوال :
أحدها : أنه يعود
على «الحق» الذي هو التحول ، وهو قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقتادة والربيع
وابن زيد.
الثاني : على
النبي صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم وبجل وعظّم ؛ أي : يعرفونه معرفة جليّة كما
يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم .
روي عن عمر ـ رضي
الله تعالى عنه ـ أنه سأل عبد الله بن سلام ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم؟ قال : لأني
لست أشك في محمد أنه نبي ، وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبّل عمر رأسه .
وجاز الإضمار وإن
لم يسبق له ذكر ؛ لأن الكلام يدل عليه ، ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار
فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام.
قالوا : وهذا
القول أولى من وجوه :
أحدها : أن الضمير
إنما يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
والمراد من ذلك
العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ،
وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.
وثانيها : أن الله
ـ تعالى ـ ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل ،
وأخبر فيه أن نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل ،
فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أولى.
وثالثها : أن
المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر
النبوّة أولى.
وعلى هذا القول
أسئلة.
السؤال الأول :
أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.
__________________
والجواب : أنه
تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن اتّباع
اليهود والنصارى بقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٠]
أخبر المؤمنين بحاله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في هذه الآية فقال : اعلموا يا
معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدا ، وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته
لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني :
هذه الآية نظيرها قوله تعالى : (يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]
وقال : (وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] إلا أنّا نقول : من المستحيل أن يعرفوه كما
يعرفون أبناءهم ، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل : إما أن يكون قد أتى مشتملا
على التفصيل التام ، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنّسب
والقبيلة ، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل ، فإن كان الأول وجب أن
يكون بمقدمه في الوقت المعين ، من البلد المعين ، من القبيلة المعينة على الصفة
المعينة معلوما لأهل المشرق والمغرب ؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين
أهل المشرق والمغرب ، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من
إنكار ذلك.
وأما القسم الثاني
: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنا نقول : هب أن التوراة اشتملت على أن رجلا من العرب
سيكون نبيّا إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهيا في التفصيل إلى حدّ اليقين ، لم
يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم.
والجواب : أن هذا
الإشكال إنما يتوجّه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة
والإنجيل على وصفه ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : إنه ادّعى النبوة ، وظهرت
المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا صادقا ، فهذا برهان ، والبرهان يفيد
اليقين ، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أقوى وأظهر من العلم بنبوّة الأبناء ، وأبوة الآباء.
السؤال الثالث :
فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ علما
برهانيا ، غير محتمل للغلط.
أما العلم بأن هذا
ابني فذلك ليس علما يقينيا ، بل ظن ومحتمل للغلط ، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب : ليس
المراد أن العلم بنبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يشبه العلم بنبوّة الأبناء ، بل المراد به تشبيه العلم
بأشخاص الأبناء وذواتهم ، فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده
بغيره فكذا هاهنا ، وعند هذا يستقيم التشبيه ، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري ،
وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
السؤال الرابع :
لم خص الأبناء بالذكر دون البنات.
الجواب : لأن
الذكور أعرف وأشهر ، وهم بصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق.
والضمير في «يعرفونه»
يعود على القرآن الكريم.
وقيل : على العلم.
وقيل : على البيت
الحرام.
[ويعود الضمير إلى
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم. وهو رأي الزمخشري ،
واختاره الزّجاج وغيره ، وقال أبو حيان : هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله :
(فَوَلِّ وَجْهَكَ) إلى الغيبة].
قوله : (كَما يَعْرِفُونَ) «الكاف» في محل
نصب إما على كونها نعتا لمصدر محذوف أي : معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم ، أو في
موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف ، التقدير : يعرفونه معرفة
مماثلة لعرفانهم ، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا. و «ما» مصدرية لأنه ينسبك
منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه.
قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦].
اعلم أن الذين
أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول ، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ،
ومنهم من بقي على كفره ، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق ، وإنما يوصف بذلك من بقي
على كفره ، لا جرم قال الله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً [مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فوصف البعض بذلك ، ودلّ بقوله] : (لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ) على سبيل الذّم ، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا
أمكن إظهاره ، واختلفوا في المكتوم ، فقيل : أمر محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقيل : أمر القبلة كما تقدم.
قوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل «يكتمون» ،
والأقرب فيها أن تكون حالا مؤكدة ؛ لأن لف ظ «يكتمون الحق» يدل على علمه ، إذ
الكتم إخفاء ما يعلم وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي : وهم
يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فتكون إذ ذاك حالا مبينة ، وهذا ظاهر في أن
كفرهم كان عنادا ، ومثله : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤].
قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه
مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، وفي الألف واللام حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون
للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول ـ عليهالسلام ـ أو إلى الحق الذي في قوله : «يكتمون الحقّ» أي : هذا
الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.
__________________
الثاني : أنه خبر
مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق من ربك ، والضمير يعود على الحق المكتوم أي : ما كتموه
هو الحق.
الثالث : أنه
مبتدأ والخبر محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه ، والجار والمجرور على هذين
القولين في محلّ نصب على الحال من «الحقّ» ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر في الوجه
الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب : «الحقّ من ربّك» نصبا ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب
على البدل من الحق المكتوم ، قاله الزمخشري .
الثاني : أن يكون
منصوبا بإضمار «الذم» ، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ).
الثالث : أنه يكون
منصوبا ب «يعلمون» قبله ، وذكر هذين الوجهين ابن عطية ، وعلى هذا الوجه الأخير
يكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي : وهم يعلمونه كائنا من ربك ، وذلك سائغ
حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو : [الخفيف]
٨٣٧ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء
|
|
..........
|
والنهي عن الكون
على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة ، فلذلك جاء التنزيل عليه : نحو (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَفَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥]
دون : لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله : «لا تكن ظالما» نهي عن الكون
بهذه الصفة ، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة ؛ إذ النهي عن
الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة ، والمعنى لا تظلم في
كل أكوانك ، أي : في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم ،
فيصير كأن فيه نصا على سائر الأكوان ، بخلاف: لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان ،
وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و «الامتراء» : افتعال
من المرية وهي الشك ، ومنه المراء. قال : [الطويل]
٨٣٨ ـ فإيّاك إيّاك المراء فإنّه
|
|
إلى الشّرّ
دعّاء وللشّرّ جالب
|
__________________
و «ماريته» :
جادلته وشاكلته فيما يدعيه ، و «افتعل» فيه بمعنى «تفاعل» ، يقال : تماروا في كذا
، وامتروا فيه نحو : تجاوروا ، واجتوروا.
وقال الراغب : المرية : التردّد في الأمر ، وهي أخصّ من الشّك ،
والامتراء والمماراة المحاجّة فيما فيه مرية ، وأصله من مريت النّاقة إذا مسحت
ضرعها للحلب.
ففرق بين المرية
والشّك كما ترى ، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشّك.
وأنشد الطبري قول
الأعشى : [الطويل]
٨٣٩ ـ تدرّ على أسؤق الممتري
|
|
ن ركضا إذا ما
السّراب ارجحن
|
شاهدا على أن
الممترين الشاكون.
قال : ووهم في ذلك
؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يمرّون الخيل بأرجلهم
همزا لتجري كأنهم يتحلبون الجري منها.
[فصل فيمن نزلت فيه الآية
قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) قال الحسن : من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم .
وقيل : بل يرجع
إلى أمر القبلة.
وقيل : بل يرجع
إلى صحة نبوته وشرعه ، وهو أقرب ؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله : (مِنْ رَبِّكَ) ؛ وظاهره يقتضي النبوة ، فوجب أن يرجع إليه ، ونهيه عن
الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكا فيه كما تقدم القول في هذه المسألة].
قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً
إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(١٤٨)
جمهور القراء على
تنوين «كلّ» ، وتنوينه للعوض من المضاف إليه ، والجار خبر مقدم ، و «وجهة» مبتدأ
مؤخر.
واختلف في المضاف
إليه «كل» المحذوف.
فقيل : تقديره :
ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني : أن الله يفعل ما يعلمه صلاحا ، فالجهات من الله
تعالى وهو الذي ولّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى ، فإن انقيادكم
خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء ، وقولهم : «ما ولّاهم عن قبلتهم أي التي
كانوا عليها» فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة].
__________________
وقيل : ولكل أهل
موضع من المسلمين وجهته إلى جهة الكعبة يمينا وشمالا ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة
، ولا يخفى على الله نيّاتهم ؛ فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم]. وفي «وجهة» قولان :
أحدهما : ويعزى
للمبرد ، والفارسي ، والمازني في أحد قوليه : أنها اسم المكان المتوجه إليه ، وعلى
هذا يكون إثبات «الواو» قياسا إذ هي غير مصدر.
قال سيبويه ولو
بنيت «فعلة» من الوعد لقلت : وعدة ، ولو بنيت مصدرا لقلت : عدة.
والثاني : أنه
مصدر ، ويعزى للمازني ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذكر حذف «الواو» من
المصادر : «وقد أثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة» وعلى هذا يكون إثبات «الواو» شاذّا
منبهة على ذلك الأصل المتروك في «عدة» ونحوها ، والظاهر أن الذي سوغ إثبات «الواو»
وإن كانت مصدرا أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد ؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة
توجّه واتّجه ، ومصدرهما التوجه والاتجاه ، ولم يسمع في فعله : «وجه يجه» ك «وعد
يعد» ، وكان الموجب لحذف «الواو» من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين
ياء وكسرة ، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه ، فلذلك قلت : إن «وجهة» مصدر
على حذف الزوائد ل «توجه» أو «اتجه» ، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.
قال القرطبي :
الوجهة وزنها فعلة من المواجهة.
والوجهة والجهة
والوجه بمعنى واحد ، والمراد القبلة ، أي : أنهم لا يتبعون قبلتك ، وأنت لا تتبع
قبلتهم ، ولكل وجهة : إما بحق ، وإما بهوى.
فصل في لفظ الوجه
قال أبو العباس
المقرىء : ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب :
الأول : بمعنى
الملّة ، قال تبارك وتعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها) أي : ملّة.
الثاني : بمعنى
الإخلاص في العمل ، قال تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ) [الأنعام : ٧٩] أي
: أخلصت عملي ، ومثله : (وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء : ١٢٢] أي : أخلص عمله لله.
الثالث : بمعنى
الرّضا ، قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] أي
: رضاه ، ومثله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) [الكهف : ٢٨]
الآية الكريمة ، ومثله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما
آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٢٩] أي :
رضاه.
__________________
الرابع : الوجه هو
الله تعالى كقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ،
ومثله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ،
وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي :
إلّا إياه.
قوله تعالى : (هُوَ مُوَلِّيها) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ رفع ؛ لأنها صفة ل «وجهة» [وهي
قراءة الجمهور] واختلف في «هو» على قولين :
أحدهما : أنه يعود
على لفظ «كلّ» لا على معناها ، ولذلك أفرد [قال القرطبي : ولو كان على المعنى لقال
: هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول]. والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره : هو موليها
وجهه أو نفسه ، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر : «مولّاها» على ما لم يسم فاعله.
والثاني : أنه
يعود على الله ـ تعالى ـ أي : الله مولّي القبلة إياه ، أي ذلك الفريق.
وقرأ الجمهور : «موليها»
على اسم فاعل ، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه ، وقرأ ابن عامر ـ ويعزى لابن عباس ـ
«مولّاها» على اسم المفعول ، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني : هو
الضمير المتصل به وهو «ها» العائد على الوجهة.
وقيل : على
التولية ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود «هو» إلى الفريق ؛ إذ
يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان :
أحدهما : ما وليته
فقد ولّاك ؛ لأن معنى وليته أي : جعلته بحيث يليه ، وإذا صار بحيث يلي ذاك ، فذاك
أيضا يلي هذا ، فإذا قد يفيد كل واحد منهما الآخر.
فهو كقوله تعالى :
(فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧]
فهذا قول الفراء.
الثاني : «هو
مولّيها» أي : قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها].
وقرأ بعضهم : «ولكلّ وجهة» بالإضافة ، ويعزى لابن عامر ، واختلفوا
فيها على ثلاثة أقوال :
أحدها ، وهو قول
الطبري : أنها خطأ ، وهذا ليس بشيء ؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا
يسهل.
__________________
[قال ابن عطية :
وخطأها الطبري وهي متّجهة أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا
فيما أمركم من هذه وهذه أي : إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) على الأمر في قوله : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول.
وذكر أبو عمرو
الدّاني هذه القراءة عن ابن عبّاس ].
والثاني : وهو قول
الزمخشري وأبي البقاء أن «اللام» زائدة في الأصل.
قال الزمخشري :
المعنى وكلّ وجهة الله مولّيها ، فزيدت «اللام» لتقدم المفعول ، كقولك : لزيد ضربت
، ولزيد أبوه ضاربه.
قال أبو حيان :
وهذا فاسد ؛ لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب «اللام»
لا تقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه ، لئلا يلزم أحد محذورين ، وهما :
إما لأنه يكون العامل قويا ضعيفا. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّا
ومن حيث تعدى للظاهر ب «اللام» يكون ضعيفا] ، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعديا لاثنين ، ولذلك
تأول النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله : [البسيط]
٨٤٠ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه
|
|
والمرء عند
الرّشا إن يلقها ذيب
|
على أن الضمير في «يدرسه»
للمصدر أي : يدرس الدرس لا للقرآن ؛ لأن الفعل قد تعدى إليه.
وأما تمثيله بقوله
: «لزيد ضربت» ، فليس نظير الآية ؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميره ، ولا
يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، فتقدر عاملا في : «لكل وجهة» يفسره «موليها»
؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق
العامل الظاهر في المعنى ، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف
تقول : زيدا مررت به ، أي : لا بست زيدا مررت به ، ولا يجوز : لزيد مررت به.
قال تعالى : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) [الإنسان : ٣١] ،
وقال : [الوافر]
٨٤١ ـ أثعلبة الفوارس أم رياحا
|
|
عدلت بهم طهيّة
والخشابا
|
__________________
فأتى بالمشتغل عنه
منصوبا ، وأما تمثيله بقوله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي.
الثالث : أن «لكلّ
وجهة» متعلق بقوله : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ، وإنما قدم على العامل
للاهتمام به ، كما تقدم المفعول ، كما ذكره ابن عطية.
ولا يجوز أن توجه
هذه القراءة على أن «لكل وجهة» في موضع المفعول الثاني ل «مولّيها» ، والمفعول
الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو «مولّ» ، وهو «ها» ، وتكون عائدة على
الطوائف ، ويكون التقدير : وكلّ وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات ، وزيدت «اللام»
في المفعول لتقدمه ، ويكون العامل فرعا ؛ لأن النحويين نصّوا على أنه لا يجوز
زيادة «اللام» للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط ، و «مولّ» مما يتعدّى لاثنين ،
فامتنع ذلك فيه ، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به
أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر ، فلا يتعدى لضميره ، وهو أنه كان
يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب «مول» ليس بضمير المفعول ، بل ضمير المصدر
وهو التّولية ، ويكون المفعول الأول محذوفا والتقدير : الله مولي التولية كلّ وجهة
أصحابها ، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب «اللام» لو لا أنهم نصوا على المنع
من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.
قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) «الخيرات» منصوبة
على إسقاط حرف الجر ، التقدير : إلى الخيرات ، كقول الراعي : [الطويل]
٨٤٢ ـ ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل
|
|
سواكم فإنّي
مهتد غير مائل
|
أي : إلى سواكم ،
وذلك لأن «استبق» : إما بمعنى سبق المجرد ، أو بمعنى : تسابق [لا جائز أن يكون
بمعنى : سبق ؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات ، فبقي أن يكون بمعنى : تسابق] ولا يتعدى بنفسه.
و «الخيرات» جمع :
خيرة ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أن تكون
مخففة من «خيّرة» بالتشديد بوزن «فيعلة» نحو : ميت في ميّت.
والثاني : أن تكون
غير مخففة ، بل تثبت على «فعلة» بوزن «جفنة» ، يقال : رجل خير وامرأة خير ، وعلى
كلا التقديرين فليسا للتفضيل.
والسبق : الوصول
إلى الشيء أولا ، وأصله التقدم في السير ، ثم تجوز به في كل ما تقدم.
__________________
فصل في المسابقة إلى الصلاة
من قال : إنّ
الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) ؛ قال : لأن الصلاة خير لقوله عليه الصلاة والسلام «خير
أعمالكم الصّلاة» وظاهر الأمر بالسبق للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من
الندب.
وأيضا قوله تعالى
: (سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١]
ومعناه : إلى ما يوجب المغفرة ، والصلاة مما يوجب المغفرة ، فوجب أن تكون المسابقة
إليها مندوبة.
وأيضا قوله تعالى
: (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ـ ١١].
والمراد منه :
السابقون في الطاعات ، والصلاة من الطاعات ، وأيضا أنه مدح الأنبياء المقدمين
بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [الأنبياء : ٩٠] ،
والصلاة من الخيرات ، كما بيّنا.
وأيضا أنه تعالى
ذم إبليس في ترك المسارعة فقال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢].
وأيضا قوله تعالى
: (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨]
والمحافظة لا تحصل إلا بالتّعجيل ، ليأمن الفوت بالنسيان.
وأيضا قوله تعالى
حكاية عن موسى عليهالسلام : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤] فثبت أن
الاستعجال أولى.
وأيضا قوله تعالى
: (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً) [الحديد : ١٠] فبين
أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة ، وأيضا ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الصّلاة في أوّل الوقت رضوان الله وفي آخره عفو
الله» .
قال الصديق رضي
الله عنه : رضوان الله أحب إلينا من عفوه.
قال الشافعي رضي
الله عنه : رضوان الله إنما يكون للمحسنين ، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين.
فإن قيل : هذا
احتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم ، فلم يبق
__________________
إلا أن يكون معناه
: أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه
يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجبا للعفو والرضوان ، فكان التأخير أولى.
فالجواب : أنه لو
كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل ، وذلك لم يقله أحد ، وأيضا عدم المسارعة
إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلّا أنه لما أتى بالفعل
بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء ، وأيضا أن تفسير أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يبطل
هذا التأويل ، [وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ـ أي الأعمال أفضل؟ قال : «الصّلاة
لميقاتها الأوّل» ].
وأيضا قال عليه
الصلاة والسلام : «إنّ الرّجل ليصلّي الصّلاة وقد فاته من أوّل الوقت ما هو خير له
من أهله وماله» .
وأيضا إنا توافقنا
على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصّحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف
الشّديد بين أهل السّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاما أم عليّا رضي الله عنهما ،
وما ذاك إلا لاتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل.
[وقال عليه الصلاة
والسلام في خطبة له : «بادروا بالأعمال الصّالحة قبل أن تشتغلوا» والصّلاة من
الأعمال الصالحة ].
__________________
وأيضا تعجيل حقوق
الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله ـ تعالى ـ كذلك
لرعاية التعظيم.
وأيضا المبادرة
والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة ، والولوع بها ، والرغبة فيها وفي
التأخير كسل عنها ، فيكون الأول أولى.
[وأيضا فإن
المبادرة احتياط ، لأنه إذا أدّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته ، وإذا أخّرها ربما
حصل له شغل ، فمنعه من أدائها ، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى.
فإن قيل : تنتقض
هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر ، وبما إذا حصل له إدراك الجماعة ، أو وجود
الماء.
قلنا : التأخير في
هذه المواضع لأمور عارضة ، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل].
فصل في التغليس في صلاة الفجر
قال الشافعي ـ رضي
الله تعالى عنه ـ التّغليس في صلاة الفجر أفضل ، وهو مذهب أبي بكر وعمر ، وقول
مالك وأحمد رضي الله عنهم.
وقال أبو محمد :
يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس.
واحتج الأولون بما
تقدم من الآية ، وبما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح ، فينصرف والنساء
متلفّعات بمروطهنّ ما يعرفهنّ أحد من الغلس.
فإن قيل : كان هذا
في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات ، فكان النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي بالغلس كيلا يعرفن.
وهكذا كان عمر رضي
الله عنه يصلي بالغلس ، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك.
قلنا : الأصل عدم
النسخ ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة.
وروى أنس عن زيد
بن ثابت قال : تسحّرنا مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ـ ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس
: قلت لزيدكم كان قدر ذلك؟ قال : قدر خمسين آية ، وهذا يدلّ أيضا على التّغليس ، وروي عن أبي مسعود
الأنصاري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم غلّس بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى
قبضه الله تعالى.
__________________
وأيضا فإن النوم
في ذلك الوقت أطيب ، فيكون تركه أشقّ ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله عليهالسلام : «أفضل العبادات أحمزها» أي : أشقّها.
واحتج أبو حنيفة
بوجوه :
أحدها : قوله عليهالسلام : «أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر» .
وروى عبد الله بن
مسعود أنه صلى الفجر ب «المزدلفة» فغلس ، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.
ويروى عن أبي بكر
ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الفجر ، فقرأ «آل عمران» ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع
، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عمر أنه قرأ
البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وأيضا فإن تأخير
الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.
وقال عليهالسلام : «المنتظر للصّلاة كمن هو في الصّلاة» ، فمن [أخر الصلاة
عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولا ، ثم بها ثانيا] ، ومن صلّاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.
وأيضا : فإن
التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أولى.
والجواب عن الأول
أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام] المشرق ، فالفجر إنما يكون فجرا لو كانت الظلمة باقية في
الهواء.
فأما إذا زالت
الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجرا.
وأما الإسفار فهو
عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه] ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء
الظلام في الهواء ، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك
الظلام أشد.
فقوله : «أسفروا
بالفجر» يجب أن يكون محمولا على التّغليس ، أي : كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر
كان] أكثر ثوابا.
وقد بينا أن ذلك
لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله
__________________
عنه : إن الإسفار
المذكور في الحديث محمول على تيقّن طلوع الفجر ، وزوال الشك عنه ، والذي يدل على
ما قلنا : أن الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثوابا.
وأما تأخير الصلاة
إلى وقت التنوير ، فهو عادة أهل الكسل ، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضا وأما
باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.
قوله : (أَيْنَما تَكُونُوا) «أين» اسم شرط
تجزم فعلين ك «إن» ، و «ما» مزيدة عليها على سبيل الجواز ، وهي ظرف مكان ، وهي هنا
في محلّ نصب خبرا ل «كان» ، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام.
و «تكونوا» أيضا
مجزوم بها على الشرط ، وهو الناصب لها ، و «يأت» جوابها ، وتكون أيضا استفهاما فلا
تعمل شيئا ، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.
[ودلت الآية على
أنه قادر على جميع الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على الإعادة ؛ لأنها ممكنة ،
وهذا وعد لأهل الطاعة ، ووعيد] لأهل المعصية.
قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ
إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(١٥٠)
«من حيث» متعلق
بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) و «خرجت» في محلّ
جر بإضافة «حيث» إليها ، وقرأ عبد الله بالفتح ، وقد تقدم أنها إحدى اللغات ، ولا تكون هنا شرطية
، لعدم زيادة «ما» ، والهاء في قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ) الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم.
وقرىء «تعلمون»
بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدم.
فصل في الكلام على الآية
اعلم أنه ـ تبارك
وتعالى ـ قال أولا : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] ، وذكر هاهنا ثانيا قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
ثم ذكر ثالثا قوله
: (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا
__________________
وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال :
أحدها : أن
الأحوال ثلاثة :
أولها : أن يكون
الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها : أن يخرج
عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها : أن يخرج
عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى
محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ؛ لأنه
قد يتوهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله ـ تعالى
ـ هذه الآيات.
والجواب : أنه علق
بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وأمر هذه القبلة حقّ ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة
والإنجيل.
وفي الثانية بين
أنه ـ تعالى ـ يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّا مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّا].
وفي الثالثة بين [فعل
ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة] ، فلما اختلفت هذه الفوائد
حسنت إعادتها لأجل
أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩].
وثالثها : لما قال
في الأولى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فربما توهم متوهم أن هذا التحويل لمجرد رضاه فأزال هذا
الوهم الفاسد بقوله عزوجل ثانيا : (وَمِنْ حَيْثُ) ما (خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [وإنّه للحقّ من
ربّك» أي : إن التحويل ليس لمجرد رضاك ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ،
فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها
بمجرّد الهوى والميل.
ثم قال تعالى
ثالثا : (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)] والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة
والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخا.
ورابعها : أنه قرن
كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا
يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرن الآية الثانية
__________________
بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى
أشرف الجهات التي يعلم الله أنها حقّ ، وقرن الثالثة بقطع الله ـ تعالى ـ حجّة من
خاض من اليهود في أمر القبلة ، فكانت هذه عللا ثلاثا قرن بكل واحدة منها أمرا
بالتزام القبلة.
نظيره أن يقال :
الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ،
فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ) ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع
حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٦]
وكذلك ما كرر في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٨].
وخامسها : أن هذه
الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار
لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات.
أما قوله سبحانه
وتعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم
يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢]
وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد
تقدم الكلام على نفي الغفلة وعدم ذكر العلم].
قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع ، و «لا»
نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه ، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ) [الأنفال : ٧٣] و
«أن» هنا واجبة الإظهار ، إذ لو أضمرت لثقل اللّفظ بتوالي لامين ، ولام الجر متعلقة
بقوله سبحانه وتعالى : (فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ).
وقال أبو البقاء :
متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا ، ولا حاجة إلى ذلك ، و «للناس» خبر ل «يكون»
مقدّم على اسمها ، وهو «حجّة» ، و «عليكم» في محل نصب على الحال ؛ لأنه في الأصل
صفة النكرة ، فلما تقدم عليها انتصب حالا ، ولا يتعلق ب «حجة» لئلّا يلزم تقديم
معمول المصدر عليه ، وهو ممتنع ؛ لأنه في تأويل صلة وموصول ، وقد قال بعضهم :
يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف ، ويجوز أن يكون «عليكم» خبرا ل «يكون» ، ويتعلق «للناس»
ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه ، وذكر الفعل في
قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي ، وحسن ذلك الفصل أيضا. [وقال أبو روق :
المراد ب «النّاس» : أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة
والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحوّل إلى القبلة ،
فلما حوّلت بطلت حجّتهم.
__________________
(إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا) ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.
وقيل : لما أوردوا
تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة ، بناء على معتقدهم ، أو لعله ـ تعالى
ـ سمّاها حجّة تهكّما بهم.
وقيل : أراد
بالحجة المحاجّة ، فقال : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فإنهم يحاجونكم بالباطل].
قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ) قرأ الجمهور «إلّا» بكسر «الهمزة» وتشديد «اللام».
وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، وابن زيد بفتحها ، وتخفيف «اللام»
على أنها للاستفتاح.
فأما قراءة
الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال :
أظهرها : وهو
اختيار الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.
قال الزمخشري :
معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا
إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه ، وحبّا لهم ، وأطلق على قولهم : «حجّة» ؛ لأنهم
ساقوه مساق الحجة.
والحجّة كما أنها
تكون صحيحة ، فقد تكون أيضا باطلة ، قال الله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦].
وقال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [آل عمران : ٦١]
والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة ، وهذا يقتضي أن
الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة ، ولأن الحجّة اشتقاقها من حجّة إذا علا عليه ،
فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.
وقال بعضهم : إنها
مأخوذة من محجّة الطريق ، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكا لنفسه في إثبات أو إبطال
فهو حجّة.
وقال ابن عطية :
المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم
الذين تكلموا في النازلة ، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.
الثاني : أنه
استثناء منقطع ، فيقدر ب «لكن» عند البصريين ، وب «بل» عند الكوفيين ؛ لأنه
استثناء من غير الأول ، والتقدير : لكن الذين ظلموا ، فإنهم يتعلقون عليكم
__________________
بالشبهة يضعونها
موضع الحجة [نظيره قوله : (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ـ ١١].
وقال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣].
ويقال : ما له
عليّ من حقّ إلّا التعدي ، أي : لكنه يتعدى].
ومثار الخلاف هو :
هل الحجّة هي الدليل الصحيح ، أو الاحتجاج صحيحا كان أو فاسدا؟
فعلى الأولى يكون
منقطعا ، وعلى الثاني يكون متصلا.
الثالث : وهو قول
أبي عبيدة أن «إلا» بمعنى «الواو» العاطفة وجعل من ذلك قوله : [الوافر]
٨٤٣ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك إلّا
الفرقدان
|
يعني : والفرقدان.
وقول الآخر : [البسيط]
٨٤٤ ـ ما بالمدينة دار غير واحدة
|
|
دار الخليفة
إلّا دار مروانا
|
تقدير ذلك عنده : «ولا
الذين ظلموا ، والفرقدان ، ودار مروان» وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.
الرابع : أن «إلا»
بمعنى بعد ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قول الله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].
وقوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢]
تقديره : بعد الموتة ، وبعد ما قد سلف ، وهذا من أفسد الأقوال ، وأنكرها ، وإنما
ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.
و «الذين» في محل
نصب على الاستثناء على القولين اتّصالا وانقطاعا ، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جرّ
بدلا من ضمير الخطاب في «عليكم» ، والتقدير : لئلا تثبت حجّة للناس على غير
الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القبلة.
ونقل عنه أنه كان يقرأ : «إلّا على الذين» كأنه يكرر العامل في البدل على
حدّ
__________________
قوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥].
وهذا عند جمهور
البصريين ممتنع ؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل ، ولم يجزه
من البصريين إلا الأخفش ، وتأول غيره ما ورد من ذلك.
وأما قراءة ابن
عباس ب «ألا» للاستفتاح ، ففي محل «الذين» حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه
مبتدأ ، وخبره قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) ، وإنما دخلت «الفاء» في الخبر ؛ لأن الموصول تضمن معنى
الشرط ، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل : من يظلم الناس فلا تخشوهم ،
ولو لا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال ، أي : لا تخشوا الذين ظلموا لا
تخشوهم.
الثاني : أن يكون
منصوبا بإضمار فعل على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش ، فإنه يجيز زيادة الفاء.
الثالث : نقله ابن
عطية أن يكون منصوبا على الإغراء.
ونقل عن ابن مجاهد
أنه قرأ : «إلى الّذين ظلموا» وجعل «إلى» حرف جر متأولا لذلك بأنها
بمعنى «مع» ، والتقدير : لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين ، والظاهر أن هذا
الراوي وقع في سمعه «إلا الذين» بتخفيف «إلا» فاعتقد ذلك فيها ، وله نظائر مذكورة
عندهم.
و «فهم» في محل
نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف ، ويحتمل أن تكون «من» للتبعيض ، وأن تكون للبيان.
فصل في الكلام على هذه الحجة
اعلم أن هذا
الكلام يوهم حجاجا وكلاما تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن
يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة.
وفي كيفية تلك
الحجة روايات :
إحداها : أن
اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.
وثانيها : قالوا :
ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟
وثالثها : أن
العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم ، والآن ترك التوجه إلى الكعبة
، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة ، فقد ترك دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فصارت
هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام ، إلّا أن الله ـ تعالى
ـ لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من
__________________
المصلحة في الدين
؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تمييز من
اتبعه ب «مكة» ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلّا بهذا الجنس
ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة ، فاقتضت الحكمة تحويل
القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ،
ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول
بعض العرب : إن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى
ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة ، والاستمرار عليها سببا للبقاء على
الجهل والكفر ، وذلك ظلم [للنفس] على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فلا
جرم ، قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ [فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ) اخشون».
أي : لا تخشوا من
يتعنّت ويجادل ، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم ، فإنهم لا يضرونكم ، واخشوني ،
واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم ، وفرضت عليكم.
و «الخشية» :
أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف ، و «الخوف» : فزع في القلب تخف
له الأعضاء ، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفا ، ومعنى التحقير لكل من سوى الله تعالى
، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم : الخوف
أوّل المراتب ، وهو الفزع ، ثم بعده الوجل ، ثم الخشية ، ثم الرّهبة].
قوله : «ولأتمّ»
فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه
معطوف على قوله : «لئلّا يكون» كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ،
والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معلّلا
بهاتين العلّتين :
[إحداهما :
لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية : لإتمام
النعمة. وقد بيّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا
يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون ، فلما حوّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى
«بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى
الكعبة ، لما فيها من شرف البقعة ، فهذا موضع النعمة] ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل إذ هو من متعلق
العلة الأولى.
الثاني : أنه
معطوف على علّة محذوفة ، وكلاهما [معلولها] الخشية السابقة ،
__________________
فكأنه قيل :
واخشوني [لأوفقكم] ولأتم نعمتي عليكم.
الثالث : أنه
متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم أمر قبلتكم».
الرابع : وهو
أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها ، و «الواو» زائدة ، تقديره : واخشوني لأتم
نعمتي.
وهذه لام «كي» و «أن»
مضمرة بعدها ناصبة للمضارع ، فينسبك منهما مصدر مجرور باللام وتقدم تحقيقه ، و «عليكم»
فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق
ب «أتمّ».
الثاني : أن يتعلق
بمحذوف على أنه حال من «نعمتي» ، أي : كائنة عليكم.
فإن قيل : إنه ـ تعالى
ـ أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فبين
أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه
الآية (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)؟!
فالجواب : أنا
قلنا تمام النعمة اللّائقة في كل وقت هو الذي خصه به.
وعن عليّ رضي الله
عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فيه سؤال ، وهو أن لفظه التّرجّي ، وهو في حق الله ـ تعالى
ـ محال ؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه.
وأجيب عن ذلك
بوجهين :
الأول : أن الترجي
في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي : بإتمام النعمة ترجون الثّواب
والاهتداء إلى دلائل التوحيد.
الثاني : قال بعض
المفسرين : كل لفظ «لعلّ» في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب
منه حاجة وأراد ذلك قضاها ، فنقول لطالب الحاجة : لعلّ حاجتك تقضى.
والاهتداء يطلق ،
ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦]
الآية ، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق.
قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً
مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(١٥١)
قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا) : الكاف من قوله : «كما» فيها قولان :
__________________
أظهرهما : أنها
للتشبيه.
والثاني : أنها
للتعليل ، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف.
واختلفوا في
متعلقها حينئذ على خمسة أوجه :
أحدها : أنها
متعلقة بقوله : «ولأتم» تقديره : ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام الرسول فيكم
، ومتعلّق الإتمامين مختلف ، فالأول بالثواب في الآخرة ، والثاني بإرسال الرسول في
الدنيا ، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) [البقرة : ١٣٨].
والثاني بإجابة
الدعوى الثانية في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] [قاله
ابن جرير] ، ورجحه مكي ؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى : ولأتم
نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم
رسولا منكم.
الثاني : أنها
متعلّقة ب «تهتدون» ، تقديره : يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولا ، ويكون
تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي : اهتداء متحققا كتحقيق إرسالنا.
الثالث : وهو قول
أبي مسلم : أنها متعلقة بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، أي : جعلا مثل إرسالنا.
وهذا بعيد جدا ؛
لطول الفصل المؤذن بالانقطاع.
الرابع : أنها
متعلقة بما بعدها وهو «اذكروني» [قال مجاهد وعطاء والكلبي : وروي عن علي رضي الله
عنه ، واختاره الزّجاج : كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق ، فاذكروني
بالتوحيد والتصديق به ، وعلى هذا فالوقف على «تهتدون» جائز].
قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسل ، فاذكروني بالطاعة أذكركم
بالثواب ، فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف أي : اذكروني ذكرا مثل
ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار : مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف
إليه مقامه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، و «الفاء» غير مانعة من
ذلك.
قال أبو البقاء : «كما»
لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها.
وقد ردّ مكي هذا
بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، و «اذكروني» قد
أجيب بقوله : «أذكركم» فلا يتعلق به ما قبله.
قال : ولا يجوز
ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين ، نحو : إذا أتاك فلان فأكرمه ترضه ،
فيكون «كما» ، و «فأذكركم» جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر ،
__________________
وتقول : «كما
أحسنت إليك فأكرمني» فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب «أكرمني» إذ لا جواب له.
وهذا الشرط منعه
مكّي قال أبو حيان : «لا نعلم خلافا في جوازه».
وأما قوله : إلا
أن يشبه بالشرط ، وجعله «كما» جوابا للأمر ، فليس بتشبيه صحيح ، ولا يتعقل ،
وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب.
قال أبو حيان :
وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء ، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد
زيادتها. انتهى
وقد تقدم [قول] أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.
الخامس : أنها
متعلقة بمحذوف على أنها حال من «نعمتي» والتقدير : ولأتم نعمتي مشبهة إرسالنا فيكم
رسولا ، أي : مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف. [وقال مكي : في «إعراب
المشكل» : فإن شئت جعلت «الكاف» في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في «عليكم»].
وأما على القول
بأنها للتعليل ، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله : «فاذكروني» أي : اذكروني لأجل
إرسالنا فيكم رسولا ، وكون «الكاف» للتعليل واضح ، وجعل بعضهم منه : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ،
وقول الآخر : [الرجز]
٨٤٥ ـ لا تشتم النّاس كما لا تشتم
أي : لا تشتم
لامتناع النّاس من شتمك.
وفي «ما» المتّصلة
بهذه «الكاف» ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها
مصدرية ، وقد تقدم تحريره.
والثاني : أنها
بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، و «رسولا» بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولا
، وهذا بعيد جدا.
وأيضا فإن فيه قوع
«ما» على آحاد العقلاء ، وهو قول مرجوح.
الثالث : أنها
كافة «للكاف» كهي في قوله : [الوافر]
٨٤٦ ـ لعمرك إنّني وأبا حميد
|
|
كما النّشوان
والرّجل الحليم
|
__________________
ولا حاجة إلى هذا
، فإنه لا يصار إلى ذلك إلّا حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر ، كما إذا
اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم.
و «منكم» في محلّ
نصب ؛ لأنه صفة ل «رسولا» ، وكذلك ما بعده من الجمل ، ويحتمل أن تكون الجمل بعده
حالا لتخصيص النكرة بوصفها بقوله : «منكم» ، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع ؛
لأنه يدل على التجدد والحدوث ، وهو مقصود هاهنا ، بخلاف كون «منهم» ، فإنه وصف
ثابت له ، [وقوله : «فيكم» و «منكم» ، أي : من العرب ، وفي إرساله فيهم رسولا ،
ومنهم نعم عليهم عظيمة ؛ لما لهم فيه من الشّرف ، وأن المشهور من حال العرب الأنفة
الشديدة من الانقياد إلى الغير ، فبعثه الله ـ تعالى ـ من واسطتهم ليقرب قبولهم.
وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ) فيه نعم عليكم عظيمة ؛ لأنه معجزة باقية تتأدّى به
العبادات ، ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة.
واعلم أنه إن كان
المراد بالآيات القرآن ، فالتلاوة فيه ظاهرة.
وإن كان المراد
بالآيات المعجزات ، فمعنى التلاوة لها تتابعها ؛ لأنّ الأصل في التلاوة التتابع ،
يقال : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي بعضهم إثر بعض] ، وهنا قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم
بالعكس.
والفرق أن المراد
بالتزكية هنا التطهير من الكفر ، وكذلك فسروه.
وهناك المراد بها
الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. [وقال الحسن
: «يزكّيكم» يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء.
وقال أبو مسلم : «التزكية»
عبارة عن التّنمية ، كأنه قال : يكثركم ؛ كقوله تعالى : (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦] ،
وذلك بأن يجمعهم على الحق ، فيتواصلوا ويكثروا].
وقوله : (يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ) بعد قوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قليل بخلاف عكسه. [وقوله
عزوجل : (وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ) بعد قوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ
آياتِنا) ليس بتكرار ؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.
وأما الحكمة فهي
العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها.
وقال الشافعي رضي
الله عنه : الحكمة هي سنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وفي قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ) تنبيه على أنه ـ تعالى ـ أرسله على حين فترة من الرسل ،
وجهالة الأمم].
__________________
قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا
لِي وَلا تَكْفُرُونِ)
(١٥٢)
اعلم أن الله ـ تعالى
ـ كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر ، والشكر.
أما الذكر فقد
يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح.
فذكر اللسان الحمد
، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتابه.
وذكر القلب
التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، والتفكر في الجواب على الشبهة
العارضة في تلك الدلائل ، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره
ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفية التّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد
وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم ، والتفكر في أسرار مخلوقاته.
وأما الذكر
بالجوارح ، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية
عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكرا ، بقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩]
فقوله : «اذكروني» يتضمن جميع الطاعات ، ولهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال :
اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه.
فصل في ورود الذكر في القرآن
الذكر ورد على
ثمانية أوجه :
الأول : بمعنى
الطاعة كهذه الآية أي : أطيعوني أغفر لكم.
الثاني : العمل ،
قال تعالى : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [البقرة : ٦٣] أي
: اعملوا بما فيه.
الثالث : العظة ،
قال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥]
أي : العظة ، ومثله (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ) [الأنعام : ٤٤] أي
: ما وعظوا به.
الرابع : الشّرف
قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤]
ومثله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) [المؤمنون : ٧١]
أي : بشرفهم ، وقوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [الأنبياء : ٢٤]
أي : شرف.
الخامس : القرآن
قال تعالى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] أي :
القرآن ، ومثله : (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠].
السادس : التوراة
قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣] أي :
التوراة.
__________________
السابع : البيان ،
قال تعالى : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٦٣].
الثامن : الصلاة ،
قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩].
قوله : «أذكركم»
هذا خطاب لأهل «مكة» والعرب.
قال ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي .
وقيل : اذكروني في
النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء.
بيانه قوله سبحانه
وتعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤].
وقيل : اذكروني
بالدعاء أذكركم بالإجابة.
قال تبارك وتعالى
: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قاله
أبو مسلم.
وقيل : اذكروني في
الدنيا أذكركم في الآخرة ، وقيل : اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي.
روى الحسن عن أنس
بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ يقول : يا ابن آدم إن ذكرتني في
نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم ، وإن دنوت منّي
شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت منّي ذراعا دنوت منك باعا ، وإن مشيت إليّ هرولت
إليك ، وإن هرولت إليّ سعيت إليك ، وإن سألتني أعطيتك ، وإن لم تسألني غضبت عليك» .
وقال أبو عثمان
النهدي : إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها.
قيل : ومن أين
تعلمها؟ قال : اتقوا الله عزوجل : (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ).
قوله : (وَاشْكُرُوا لِي).
تقدم أن «شكر»
يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح.
وقال بعضهم : إذا
قلت : شكرت لزيد ، فمعناه شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه متعديا لاثنين :
أحدهما : بنفسه ،
والآخر بحرف الجر ، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : «واشكروا لي ما أنعمت
به عليكم».
وقال ابن عطية : «واشكروا
لي ، واشكروني بمعنى واحد».
و «لي» أفصح وأشهر
مع الشّكر ، ومعناه : نعمتي وأياديّ ، وكذلك إذا قلت :
__________________
شكرتك ، فالمعنى
شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد ، وذكر مسديها معا ،
فما حذف من ذلك ، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف.
وأصل الشكر في
اللغة : الظهور ، فشكر العبد لله ـ تعالى ـ ثناؤه عليه بذكر إحسانه ، وشكر الله
سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له ، إلا أن شكر العبد نطق باللسان ، وإقرار
بالقلب بإنعام الرب.
وقوله تعالى : (وَلا تَكْفُرُونِ) نهي ولذلك حذفت منه نون الجماعة ، وهذه نون المتكلم ،
وحذفت الياء ؛ لأنها رأس آية وإثباتها أحسن في غير القرآن ، أي : لا تكفروا نعمتي
، فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١٥٣)
أعلم أنه ـ تعالى
ـ لما أوجب بقوله : «فاذكروني» جميع العبادات ، وبقوله : (وَاشْكُرُوا لِي) ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما ، فقال : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات.
أما الصبر فهو قهر
النفس على احتمال المكاره في ذات الله ـ تعالى ـ وتوطينها على تحمّل المشاقّ ، ومن
كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات ، وتحمل مشاق العبادات ، وتجنّب المحظورات.
وأما الصلاة
فلقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].
ومن الناس من حمل
الصبر على الصوم.
ومنهم من حمله على
الجهاد ، لقوله تعالى بعده : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) ولأنه ـ تعالى ـ أمره بالتثبت في الجهاد ، فقال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥]
وبالتثبّت في الصلاة وفي الدعاء ، فقال تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٧].
فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة
والقول الأول أولى
لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة ، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا
يستعان.
فظاهره يدل على أن
الاستعانة في كل الأمور ، وذكر الصبر ، وهو ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : الصبر
على الطاعات.
والثاني : الصبر
على الشدائد فهو يشملهما وتقدم الكلام على المراد بالصلاة.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
فالمعيّة على
قسمين :
أحدهما : معيّة
عامة ، وهي المعيّة بالعلم والقدرة ، وهذه عامة في حق كل أحد.
والثاني : معيّة
خاصة وهي المعيّة بالعون والنصر ، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين ، ولهذا
قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨]
وقال هاهنا : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) أي : بالعون والصبر.
قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)
قال ابن عباس رضي
الله عنهما : نزلت الآية في قتلى «بدر» ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا :
ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار.
فمن المهاجرين :
عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وعمرو بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن
نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله ، ومن الأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس
بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلى ، وحارثة بن
سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون :
مات فلان ومات فلان ، فنهى الله ـ تعالى ـ أن يقال فيهم : إنهم ماتوا. وقال بعضهم
: إن الكفار والمنافقين قالوا : إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير
فائدة فنزلت هذه الآية.
فصل في المراد بحياة الشهداء
اختلفوا في هذه
الحياة.
فقال أكثر
المفسرين : إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم ، وهذا
دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور.
فإن قيل : نحن
نشاهد أجسادهم ميتة في القبور ، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟
فالجواب : قال ابن
الخطيب : أما عندنا فالبنية ليست شرطا في الحياة ، ولا امتناع في أن يعيد الله
الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب
والتأليف.
وأما عند المعتزلة
فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي ، ولا
يعتبر بالأطراف.
ويحتمل أيضا أن
يحييهم إذا لم يشاهدوا.
وقال الأصم : يعني
لا تسمّوهم بالموتى ، وقولوا لهم : الشهداء الأحياء ، ويحتمل أن المشركين قالوا :
هم أموات في الدين كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)
[الأنعام : ١٢٢]
فقال : ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ، ولكن قولوا : هم أحياء في الدين ،
ولكن لا يشعرون [يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه
عليه حيّ في الدين] وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن المشركين كانوا
يقولون : إن أصحاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقتلون أنفسهم ، ويخسرون حياتهم ، فيخرجون من الدنيا بلا
فائدة ، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء. وهؤلاء الذين قالوا ذلك ، يحتمل أنهم كانوا
دهرية ينكرون المعاد ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين
لنبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلذلك قالوا هذا الكلام ، فقال الله تعالى : ولا
تقولوا كما قال المشركون : إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من
الشدائد في الدّنيا ، ولكن اعلموا أنهم أحياء ، أي : سيحيون فيثابون وينعمون في
الجنة ، وتفسير قوله : «أحياء» بأنهم سيحيون غير بعيد ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤]
، وقال : (أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩].
وقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥]
وقال (فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الحج : ٥٦].
والقول الأول هو
المشهور ويدل عليه وجوه :
أحدها : الآيات
الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ، [والموتتان
لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر] وقال الله تعالى : (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] و «الفاء»
للتعقيب.
وقال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] وإذا
ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضا ؛ لأن العذاب حقّ الله ـ تعالى ـ على
العبد ، والثواب حق للعبد على الله تعالى.
وثانيها : أن
المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) معنى ؛ لأن الخطاب للمؤمنين ، وقد [كانوا يعلمون أنهم
ماتوا على هدى وكون أنهم] كانوا لا يعلمون ؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة.
وثالثها : أن قوله
تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) [آل عمران : ١٧٠]
دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث.
ورابعها : قوله
عليه الصلاة والسلام أعوذ بك من عذاب القبر وقوله : القبر روضة من رياض الجنّة أو
حفرة من حفر النيران .
__________________
وخامسها : أنه لو
كان المراد من قوله : «إنهم أحياء» أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا
فائدة.
قال القرطبي :
والشهداء أحياء كما قال الله تعالى ، وليس معناه أنهم سيحيون ، إذ لو كان كذلك لم
يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا.
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى : (وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ) والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون.
وأجاب عنه أبو
مسلم بأنه ـ تعالى ـ إنما خصهم بالذكر ؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع ، ومنزلتهم أعلى
وأشرف لقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩]
فأرادهم بالذكر تعظيما.
قال ابن الخطيب : هذا الجواب ضعيف ؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع
أن الله ـ تعالى ـ ما خصهم بالذكر.
وفي هذا الجواب
نظر ؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين ، إنما هي في الشهداء.
واحتج أبو مسلم
بأنه ـ تعالى ـ ذكر هذه الآية في «آل عمران» فقال : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩]
وهذه العندية ليست بالمكان ، بل بالكون في الجنة ، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون
الجنة إلا بعد القيامة.
وقال ابن الخطيب : لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة ، بل
بإعلاء الدرجات ، وإيصال البشارات إليه ، وهو في القبر ، أو في موضع آخر.
وقال بعضهم : ثواب
القبر وعذابه للروح لا للقالب ، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان.
[قال الحسن : إن
الشهداء هم أحياء عند الله ـ تعالى ـ تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح
والفرج ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية ، فيصل إليهم الوجع].
قوله تعالى : (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) خبر مبتدأ محذوف أي : لا تقولوا : هم أموات ، وكذلك «أحياء»
خبر مبتدأ محذوف أي : بل هم أحياء.
__________________
[وقد راعى لفظ «من»
مرة فأفرد في قوله : «يقتل» ، ومعناها أخرى ، فجمع في قوله: (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ)] و «اللام» هنا
للعلة ، ولا تكون للتبليغ ؛ لأنهم لم يبلّغوا الشهداء قوله هذا.
والجملة من قوله :
«هم أموات» في محلّ نصب بالقول ؛ لأنها محكية به.
وأم ا «بل هم
أحياء» فيحتمل وجهين :
أحدهما : ألا يكون
له محل من الإعراب ، بل هو إخبار من الله ـ تعالى ـ بأنهم أحياء ، ويرجحه قوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم.
والثاني : أن يكون
محلّه النصب بقول محذوف تقديره ، بل قولوا : هم أحياء ، ولا يجوز أن ينتصب بالقول
الأول لفساد المعنى ، وحذف مفعول «يشعرون» لفهم المعنى : أي بحياتهم ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ)(١٥٥)]
قال القفال [رحمهالله :] هذا متعلق بقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فإنما نبلوكم بالخوف وبكذا ، وفيه مسائل.
فإن قيل : إنه
تعالى قال : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢]
والشكر يوجب المزيد ، لقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧]
فكيف أردفه بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)؟.
[قال ابن الخطيب] : والجواب من وجهين :
الأول : أنه ـ تعالى
ـ أخبر أنّ إكمال الشرائع إتمام النعمة ، فكأنه كذلك موجبا للشّكر ، ثم أخبر أن
القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمّل المحن ، فلا جرم أمر فيها بالصّبر.
الثاني : أنه ـ تبارك
وتعالى ـ أنعم أولا فأمر بالشكر ، ثم ابتلى وأمر بالصّبر ، لينال [الرجل] درجة الشاكرين والصّابرين معا ، فيكمل إيمانه على ما قال
عليه الصلاة والسلام : «الإيمان نصفان نصف صبر ، ونصف شكر» .
__________________
قال بعضهم :
الخطاب لجميع أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقال عطاء
والرّبيع بن أنس : المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد الهجرة وهذا الابتلاء لإظهار المطيع من المعاصي لا
ليعلم شيئا ، ولم يكن عالما به ، وقد يطلق الابتلاء على الأمانة ؛ كهذه الآية
الكريمة ، والمعنى : وليصيبنكم الله بشيء من الخوف ، وقد تقدّم الكلام فيه ، في
قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤].
وفي حكمة هذا
الابتلاء وجوه :
أحدها : ليوطّنوا
أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع ، وأسهل عليهم بعد
الورود.
وثانيها : أنهم
إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن ، اشتدّ خوفهم فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء ، فيستحقّون به مزيد
الثّواب.
وثالثها : أن
الكفار إذا شاهدوا محمدا وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرّين عليه ، مع ما كانوا
عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع ، يعلمون أن القوم إنّما اختاروا هذا
الدّين لقطعهم بصحّته ، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمّل في دلائله.
ومن المعلوم
الظّاهر أنّ التّبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ،
ثم رأوه مع ذلك مصرّا على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتّباعه مما إذا رأوه
مرفّه الحال ، لا كلفة عليه في ذلك المذهب.
ورابعها : أنه
تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه ،
فكان ذلك إخبارا عن الغيب ، فكان معجزا.
وخامسها : أنّ من
المنافقين من أظهر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعا منه في المال ، وسعة
الرزق ، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق ؛
لأنّ المنافق إذا سمع ذلك ، نفر منه ، وترك دينه ، فكان في هذا الاختبار هذه
الفائدة.
وسادسها : أن
إخلاص الإنسان حالة [البلاء ، ورجوعه إلى باب الله تعالى] أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه.
قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) هذا جواب قسم محذوف ، ومتى كان جوابه مضارعا مثبتا مستقبلا
، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافا للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا
__________________
يجيز البصريون ذلك
إلا في الضرورة ، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون ، وقد تقدم تحقيق ذلك وما فيه من الخلاف.
[قال القرطبيّ : وهذه
«الواو» مفتوحة عند سيبويه ؛ لالتقاء السّاكنين. وقال غيره : لمّا ضمّتا إلى
النّون الثّقيلة بني الفعل مضارعا بمنزلة خمسة عشر ، والبلاء يكون حسنا ويكون
سيّئا ، وأصله : المحنة ، وقد تقدّم].
قوله تعالى : (بِشَيْءٍ) متعلق بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) و «الباء» معناها
الإلصاق ، وقراءة الجمهور على إفراد «شيء» ، ومعناها الدلالة على التقليل ؛ إذ لو
جمعه لاحتمل أن يكون ضربا من كل واحد.
وقرأ الضحاك بن مزاحم : «بأشياء» على الجمع.
وقراءة الجمهور لا
بد فيها من حذف تقديره : وبشيء من الجوع ؛ وبشيء من النقص.
وأما قراءة الضحاك
فلا تحتاج إلى هذا.
وقوله : (مِنَ الْخَوْفِ) في محلّ جرّ صفة لشيء ، فيتعلّق بمحذوف.
فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره
اعلم أنّ كلّ ما
يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال ، وإلى ما كان موجودا
في الماضي ، وإلى ما سيوجد في المستقبل.
فإذا خطر بالبال [وجود
شيء] فيما مضى سمي ذكرا وتذكرا ، وإن كان موجودا في الحال يسمى ذوقا ووجدا ، وإنما
سمي وجدا ؛ لأنها حالة تجدها من نفسك.
وإن خطر بالبال
وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على القلب سمّي انتظارا وتوقّعا.
فإن كان المنتظر
مكروها يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا ، وإن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا
في القلب.
فصل في الفرق بين الخوف والجوع والنّقص
قال ابن عباس رضي
الله عنهما : الخوف خوف العدوّ والجوع القحط والنقص من الأموال بالخسران والهلاك
والأنفس بمعنى القتل.
__________________
وقيل : بالمرض
والسبي.
وقال القفال رحمهالله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب
الدّين ، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف وقعة «الأحزاب»
ما كان ، قال الله تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١].
وأما الجوع فقد
أصابهم في أول مهاجرة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى «المدينة» لقلّة أموالهم ، حتى أنه عليه الصلاة
والسلام [كان يشدّ الحجر على بطنه.
وروى أبو الهيثم
بن التّيهان أنه ـ عليهالسلام] ـ لما خرج التقى بأبي بكر قال : ما أخرجك؟ قال : الجوع ،
قال : أخرجني ما أخرجك [وأما نقص الأموال والأنفس ، فقد يحصل ذلك عند محاربة العدوّ
، بأن ينفق ماله في الاستعداد والجهاد ، وقد يقتل ؛ فهناك يحصل النّقص في المال
والنفس] وقال الله تعالى : (وَجاهِدُوا
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ٤١] وقد
يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزّاد ؛ قال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠].
وأما نقص الثمرات
فقد يكون بالجدب ، وقد يكون بترك عمارة الضّياع للاشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون
ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الوفود.
قال الشافعي رضي
الله عنه : الخوف : خوف الله عزوجل ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : بالزكوات
والصدقات ، ومن الأنفس بالأمراض ، ومن الثمرات ، موت الأولاد.
قوله تعالى : (وَنَقْصٍ) فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
معطوفا على «شيء» ، والمعنى : بشيء من الخوف وبنقص.
والثّاني : أن
يكون معطوفا على الخوف ، أي : شيء من نقص الأموال.
والأول أولى ؛
لاشتراكهما في التنكير.
قوله : «من
الأموال» فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون
متعلقا ب «نقص» ؛ لأنه مصدر «نقص» ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص
شيء من كذا.
الثّاني : أن يكون
في محلّ جرّ صفة لذلك المحذوف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : ونقص شيء كائن من كذا.
__________________
الثّالث : أن يكون
في محلّ نصب صفة لمفعول محذوف نصب بهذا المصدر المنون ، والتقدير : ونقص شيء كائن
من كذا ، ذكره أبو البقاء.
ويكون معنى «من»
على هذين الوجهين التّبعيض.
الرّابع : أن يكون
في محل جرّ صفة ل «نقص» ، فيتعلق بمحذوف أيضا ، أي : نقص كائن من كذا ، وتكون «من»
لابتداء الغاية.
الخامس : أن تكون «من»
زائدة عند الأخفش ، وحينئذ لا تعلّق لها بشيء.
قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولمن أتى بعده من أمته ، أي : الصابرين على البلاء
والرّزايا ، أي بشرهم بالثواب على الصبر ، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر ،
ولكن لا يكون ذلك إلا بالصّبر عند الصّدمة الأولى [لقوله عليه الصلاة والسّلام : «إنّما
الصّبر عند الصّدمة الأولى» ] أي الشاقة على النفس الذي يعظم الثواب عليه ، إنما هو عند
هجوم المصيبة ومرارتها.
والصّبر صبران ؛
صبر عن معصية الله تعالى فهذا مجاهد ، والصبر على طاعة الله فهذا عابد.
قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)
في قوله : «الّذين» أربعة أوجه.
أحدها : أن يكون
منصوبا على النّعت للصابرين ، وهو الأصحّ.
الثّاني : أن يكون
منصوبا على المدح.
الثّالث : أن يكون
مرفوعا على خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، وحنيئذ يحتمل أن يكون على القطع ، وأن
يكون على الاستئناف.
الرّابع : أن يكون
مبتدأ ، والجملة الشرطية من «إذا» وجوابها صلة ، وخبره ما بعده من قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ).
__________________
قوله تعالى : (أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ).
والمصيبة : [كلّ
ما يؤذي المؤمن ويصيبه] ، يقال : أصابه إصابة ومصابة ومصابا.
والمصيبة : واحدة
المصائب.
والمصوبة «بضم
الصّاد» مثل المصيبة.
وأجمعت العرب على
همز المصائب ، وأصله «الواو» ، كأنّهم شبّهوا الأصلي بالزائد ويجمع على «مصاوب» ،
وهو الأصل ، والمصاب الإصابة. قال الشاعر : [الكامل]
٨٤٧ ـ أسليم إنّ مصابكم رجلا
|
|
أهدى السّلام
تحيّة طلم
|
وصاب السّهم
القرطاس يصيبه صيبا لغة في أصابه.
والمصيبة :
النّكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت ، وتستعمل في الشر.
قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ) إنّ واسمها وخبرها في محلّ نصب بالقول ، والأصل : إنّنا
بثلاث نونات ، فحذفت الأخيرة من «إنّ» لا الأولى ؛ لأنه قد عهد حذفها ، ولأنها طرف
من الأطراف الأولى بالحذف ، لا يقال : إنها لو حذفت الثانية لكانت مخفّفة ،
والمخففة لا تعمل على [الأفصح] فكان ينبغي أن تلغى ، فينفصل الضمير المرفوع حينئذ ، إذ لا
عمل لها فيه ، فدل عدم ذلك على أن المحذوف النّون الأولى لأن هذا الحذف حذف لتوالي
الأمثال لا ذلك الحذف المعهود في «إن» وأصابتهم مصيبة من التّجانس المغاير ؛ إذ إحدى كلمتي
المادّة اسم والأخرى فعل ، ومثله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم : ٥٧] (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١].
__________________
فصل في الكلام على الآية
قال بعضهم : (إِنَّا لِلَّهِ) إقرار منّا له بالملك ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) إقرار على أنفسنا بالهلاك ، لا بمعنى الانتقال إلى مكان أو
جهة فإن ذلك على الله محال ، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم سواه ،
وذلك هو الدّار الآخرة ؛ لأنّ عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرّا ، وما داموا
في الدنيا ، قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر ، فجعل الله ـ تعالى ـ هذا
رجوعا إليه تعالى ، كما يقال : إن الملك والدولة ترجع إليه لا بمعنى الانتقال بل
بمعنى القدرة ، وترك المنازعة.
وقال بعضهم : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الآخرة.
[روي عن النّبيّ ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ،
وأحسن عقباه ، وجعل الله له خلفا صالحا يرضاه» .
وروي أنه طفىء
سراج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). فقال: (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فقيل : مصيبة هي؟ قال : «نعم ، كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو
مصيبة» .
وقالت أمّ سلمة :
حدثني أبو سلمة ، أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما من مسلم يصاب مصيبة فيفزع إلى
ما أمره الله به من قوله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللهمّ أجرني في مصيبتي ،
وأخلف لي خيرا منها» قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث ، وقلت هذا القول
، فأخلف الله لي محمدا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشرف ، وكرم ، ومجد وبجل ،
وعظم .
وقال ابن عبّاس :
أخبر الله ـ تعالى ـ أن المؤمن إذا أسلم أمره لله ، واسترجع عند مصيبته كتب الله
له ثلاث خصال : الصّلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى .
__________________
وقال ابن مسعود :
لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه الله : ليته لم يكن].
قال أبو بكر
الرازي : اشتملت الآية الكريمة على حكمين فرض ونفل.
أمّا الفرض فهو
التّسليم لأمر الله تعالى ، والرّضا بقضائه ، والصبر على أداء فرائضه ، لا يصرف
عنها مصائب الدنيا.
وأما النّفل
فإظهارا لقول : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).
[ذكروا من قول هذه
الكلمة فوائد.
منها : الاشتغال
بهذه الكلمة عن كلام لا يليق.
ومنها : أنها
تسلّي قلب المصاب ، وتقلّل حزنه.
ومنها : تقطع طمع
الشّيطان في أن يوافقه في كلام لا يليق.
ومنها : أنّه إذا
سمعه غيره اقتدى به.
ومنها : أنه إذا
قال بلسانه يذكر في قلبه الاعتقاد الحسن ، فإنّ الحساب عند المصيبة ، فكان هذا القول
مذكرا له التّسليم لقضاء الله وقدره].
فإن في إظهاره
فوائد جزيلة :
منها أن غيره
يقتدي به إذا سمعه.
ومنها غبط الكفار
، وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله ، والثبات عليه وعلى طاعته.
وحكي عن بعضهم أنه
قال : الزهد في الدنيا ألّا يحبّ البقاء فيها ، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ، ولا
ينبغي للمسلم أن يحزن ؛ لأنه يعلم أنّ لكلّ مصيبة ثوابا.
قوله تعالى : «أولئك»
مبتدأ ، و «صلوات» مبتدأ ثان ، و «عليهم» خبره مقدّم عليه ، والجملة خبر قوله : «أولئك».
ويجوز أن تكون «صلوات»
فاعلا بقوله : «عليهم».
قال أبو البقاء :
لأنه قد قوي بوقوعه خبرا.
والجملة من قوله «أولئك»
وما بعده خبر «الذين» على أحد الأوجه المتقدمة ، أو لا محلّ لها على غيره من
الأوجه.
و «قالوا» هو
العامل في «إذا» ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟
__________________
قوله تعالى : (وَرَحْمَةٌ) عطف على الصلاة ، وإن كانت بمعناها ، فإن الصلاة من الله
رحمة ؛ لاختلاف اللفظين كقوله : [الوافر]
٨٤٨ ـ وقدّمت الأديم لراهشيه
|
|
وألفى قولها
كذبا ومينا
|
وقوله : [الطويل]
٨٤٩ ـ ألا حبّذا هند وأرض بها هند
|
|
وهند أتى من
دونها النّأي والبعد
|
قوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «صلوات» و «من» للابتداء ، فهو في محلّ رفع ، أي :
صلوات كائنة من ربّهم.
والثّاني : أنه
يتعلق بما تضمنه قوله : «عليهم» من الفعل إذا جعلناه رافعا ل «صلوات» رفع الفاعل ،
فعلى الأول ، يكون قد حذف الصفة بعد «رحمة» أي : ورحمة منه.
وعلى الثّاني : لا
يحتاج إلى ذلك.
وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) نظير : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] وفيه
وجوه :
أحدها : أنهم هم
المهتدون لهذه الطّريقة الموصّلة بصاحبها إلى كل خير.
وثانيها :
المهتدون إلى الجنّة الفائزون بالثواب.
وثالثها :
المهتدون لسائر ما لزمهم.
فصل في الكلام على الآية
قال أبو البقاء : (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هم : مبتدأ أو توكيد أو فصل.
فإن قيل : لم أفرد
الرحمة وجمع الصّلوات؟
فالجواب : قال
بعضهم : إن الرحمة مصدر بمعنى التعطّف والتحنّن ، ولا يجمع و «التّاء» فيها
بمنزلتها في الملّة والمحبّة والرأفة ، والرحمة ليست للتحذير ، بل منزلتها في مرية
وثمرة ، فكما لا يقال : رقات ولا خلات ولا رأفات ، لا يقال : رحمات ، ودخول الجمع
يشعر بالتحذير والتقييد بعده ، والإفراد مطلقا من غير تحديد ، فالإفراد ـ هنا ـ أكمل
وأكثر معنى من الجمع ؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع ، ولهذا كان
قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩]
أعمّ وأتمّ معنى من أن يقال : لله الحجج البوالغ ، وكذا قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]
أتمّ معنى
__________________
من أن يقال : وإن
تعدّوا نعم الله لا تحصوها ، وقوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١]
أتمّ معنى من قوله : حسنات ، وقوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٧٤] ، أتمّ معنى من قوله : بنعم. ونظائره
كثيرة.
وأما الصّلوات
فالمراد بها درجات الثّواب ، وهي إنما تحصل شيئا بعد شيء ، فكأنه دلّ على الصّفة
المقصودة.
قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)
في تعلّق هذه
الآية بما قبلها وجوه.
أحدها : أنّه
سبحانه وتعالى بيّن أنّه إنّما حوّل القبلة إلى الكعبة ؛ ليتمّ إنعامه على محمّد
[صلوات البرّ الرّحيم وسلامه عليه] وأمّته بإحياء شريعة إبراهيم ـ عليه الصّلاة
والسلام ـ لقوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٥٠] ،
وكان السّعي بين الصّفا والمروة من شريعة إبراهيم [عليه الصّلاة والسّلام] فذكر
هذا الحكم عقب تلك الآية.
وقيل : إنّه تبارك
وتعالى [لمّا] أمر بالذّكر مطلقا في قوله تعالى : «فاذكروني» بيّن الأحوال الّتي
يذكر فيها وإحداها الذّكر مطلقا.
والثّانية : الذكر
في حال النّعمة ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢].
الثالثة : الذّكر
في حال الضّرّاء ، فقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) إلى قوله تعالى : (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ثم
بيّن في هذه الآية المواضع الّتي يذكر فيها ، ومن جملتها عند الصّفا والمروة ،
وبقيّة المشاعر.
وثانيها : أنّه
لمّا قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [الآية] إلى قوله
سبحانه : (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ ،) ثم قال [عزوجل] : (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، وإنما جعلها كذلك ، لأنّها من أثار «هاجر ، وإسماعيل» ،
وما جرى [عليهما] من البلوى ويستدلّ بذلك على أنّ من صبر على البلوى ، لا
بدّ وأن يصل إلى أعظم الدّرجات.
وثالثها : أنّ [أقسام] التّكليف ثلاثة :
أحدها : ما يحكم
العاقل [بحسنه] في أوّل الأمر ، فذكره أوّلا ، وهو قوله تعالى : «اذكروني
أذكركم ، (وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ؛) فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ ذكر المنعم بالمدح ، والشّكر ، أمر
مستحسن في العقل.
__________________
وثانيها : ما يحكم
العقل [بقبحه] في أوّل الأمر ، إلّا أنّه لمّا ورد الشّرع به ، وبيّن
الحكمة فيه ، [وهي] الابتلاء ، والامتحان ؛ على ما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) ، فحينئذ يعتقد المسلم حسنه ، وكونه حكمة وصوابا.
[وثالثها] : ما لا
يهتدي العقل إلى حسنه ، ولا إلى [قبحه] ، بل [يراها] كالعبث الخالي عن المنفعة
والمضرّة ، وهو مثل أفعال الحجّ من السّعي بين الصّفا والمروة ، فذكر الله تعالى
هذا القسم عقيب القسمين الأوّلين ؛ ليكون قد نبّه على جميع أقسام التكاليف.
قوله [تعالى] : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ:) [الصّفا :] اسم «إنّ»
، و «من شعائر الله» خبرها.
قال أبو البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ : وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره «طواف الصّفا ، أو
سعي الصّفا». وألف «الصّفا» [منقلبة] عن واو ؛ بدليل قلبها في التثنية واوا ؛
قالوا : صفوان ؛ والاشتقاق يدلّ عليه أيضا ؛ لأنّه من الصّفو ، وهو الخلوص ، [والصّفا
: الحجر الأملس].
وقال القرطبيّ : «والصّفا مقصور» جمع صفاة ، وهي الحجارة الملس.
وقيل : الصّفا اسم
مفرد ؛ وجمعه «صفيّ» ـ بضمّ الصاد ـ [وأصفاء] ؛ على [وزن]
أرجاء.
قال [الرّاجز] : [الرجز]
٨٥٠ ـ كأنّ متنيه من النّفيّ
|
|
مواقع الطّير
على الصّفيّ
|
وقيل : من شروط
الصّفا : البياض والصّلابة ، واشتقاقه من : «صفا يصفو» ، أي : [أخلص من] التّراب
والطّين ، والصّفا : الحجر الأملس.
وفي كتاب الخليل : الصّفا : الحجر الضّخم الصّلب الأملس ، وإذا [نعتوا]
الصّخرة ، قالوا : صفاة صفواء ، وإذا ذكّروا ، قالوا : «صفا صفوان» ، فجعلوا
الصّفا [والصّفاة] كأنّهما في معنى واحد.
قال المبرّد : «الصّفا» : كلّ حجر أملس لا يخالطه غيره ؛ من طين أو
تراب ،
__________________
ويتّصل به ،
ويفرّق بين واحده وجمعه تاء التأنيث ؛ نحو : صفا كثير ، وصفاة واحدة ، وقد يجمع
الصّفا على : فعول ، وأفعال ؛ قالوا : صفيّ ، بكسر الصاد ، وضمّها ؛ كعصيّ ، [وأصفاء]
، والأصل صفوو ، وأصفاو ، وقلبت الواو في «صفوو» ياءين ، والواو في «أصفاو» همزة ؛
ك «كساء» وبابه].
والمروة : الحجارة
الصّغار ، فقيل : اللّينة.
وقال الخليل : البيض الصّلبة ، الشّديدة [الصّلابة].
وقيل : المرهفة
الأطراف. وقيل : البيض.
وقيل : السّود.
وهما في الآية علمان لجبلين معروفين ، والألف واللّام فيهما للغلبة ؛ كهما في
البيت ، والنّجم ، وجمعها مرو ؛ كقوله [في ذلك] : [الرمل]
٨٥١ ـ وترى المرو إذا ما هجّرت
|
|
عن يديها
كالفراش المشفتر
|
وقال بعضهم : جمعه
في القليل : مروات ، وفي الكثير : مرو. قال أبو ذؤيب : [الكامل]
٨٥٢ ـ حتّى كأنّي للحوادث مروة
|
|
[بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع ]
|
فصل في حد الصفا
والمروة
قال الأزرقيّ : [ذرع] ما بين الصّفا والمروة : [سبعمائة ذراع وستّة وستّون
ذراعا] ونصف ذراع.
قال القرطبيّ :
وذكر الصّفا ؛ لأنّ آدم [المصطفى ـ [صلوات الله ، وسلامه عليه] ـ وقف عليه ، فسمّي
به ؛ ووقفت حوّاء على المروة ، فسمّيت باسم المرأة ، فأنثت لذلك ، والله أعلم].
قال الشّعبيّ :
كان على الصّفا صنم يدعى «إسافا» ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة ، فاطّرد ذلك في [التذكير والتأنيث] ، وقدّم المذكّر ، وما
كان كراهة من كره الطّواف بينهما إلّا من أجل هذا ، حتّى رفع الله الحرج من ذلك ،
وزعم أهل الكتاب :
__________________
أنّهما كانا
آدميّين زنيا في الكعبة ، فمسخهما الله حجرين ، فوضعهما على الصّفا ، والمروة ؛
ليعتبر بهما ؛ فلمّا طالت المدّة ، عبدا من دون الله ، والله ـ تعالى ـ أعلم.
فصل في معنى «الشعائر»
و «الشّعائر» :
جمه شعيرة ، وهي العلامة ، فكلّ شيء جعل علما من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر
الله تعالى. قال تبارك وتعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، أي
: علامة [للقربة] ، ومنه : إشعار السّنام [وهو أن تعلم بالمدية] ومنه : الشّعار في
الحرب ، [وهي العلامة الّتي يتبيّن يها إحدى الفئتين من الأخرى] ومنه : قولهم : شعرت بكذا ، أي : علمت به ، وقيل :
الشّعائر جمع [شعيرة] ، والمراد بها في الآية الكريمة مناسك الحجّ ، ونقل الجوهريّ
أنّ الشّعائر هي العبادات ، والمشاعر أماكن العبادات ، ففرّق بين الشّعائر
والمشاعر.
وقال الهرويّ :
الأجود : لا فرق بينهما ، والأجود شعائر بالهمز ؛ لزيادة حرف المدّ ، وهو عكس «معايش»
و «مصايب».
فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات
الشّعائر : إمّا
أن نحملها على العبادات ، أو النّسك ، أو نحملها على موضع العبادات والنّسك؟!
[فإن قلنا بالأوّل
: حصل في الكلام حذف ؛ لأنّ نفس الجبلين لا يصحّ وصفهما بأنّهما دين ونسك ؛
فالمراد به أنّ الطّواف بينهما أو السّعي من دين الله تعالى.
وإن قلنا بالثاني
: استقام ظاهر الكلام ؛ لأنّ هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادة والنّسك].
وكيف كان ؛
فالسّعي بينهما من شعائر الله ، ومن أعلام دينه ، وقد شرعه الله [تعالى] لأمّة
محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ [ولإبراهيم عليه الصلاة والسلام] ، قبل ذلك ، وهو
من المناسك الّتي علّمها الله [تعالى] لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إجابة
لدعوته في [قوله تعالى] : (وَأَرِنا مَناسِكَنا). واعلم أنّ [السّعي ليس] عبادة تامّة في نفسه ، بل إنما يصير عبادة إذ صار بعضا من
أبعاض الحجّ والعمرة ، فلهذا بيّن الله تبارك وتعالى الموضع الّذي يصير فيه السّعي
عبادة ، فقال [سبحانه] : (فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).
والحكمة في شرع
هذا السّعي : ما حكي أن هاجر حين ضاق بها الأمر في عطشها ، وعطش ابنها إسماعيل ،
سعت في هذا المكان إلى أن صعدت الجبل ، ودعت ، فأنبع الله
__________________
لها زمزم ، وأجاب
دعاءها ، وجعل فعلها طاعة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة.
قوله [تعالى] : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ).
«من» : شرطيّة في
محلّ رفع بالابتداء و «حجّ» : في موضع جزم بالشرط ، و «البيت» نصب على المفعول به
، لا على الظّرف ، والجواب قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ).
و «الحجّ» : قال
القفّال ـ رحمهالله ـ فيه أقوال :
أحدها : أنّ الحجّ
في اللغة كثرة الاختلاف إلى الشّيء والتردّد إليه ، فإنّ الحاجّ يأتيه أوّلا ؛
ليزوره ، ثمّ يعود إليه للطّواف ، ثم ينصرف إلى منى ، ثم يعود إليه ؛ لطواف الزّيارة
، [ثم يعود لطواف الصّدر].
وثانيها : قال
قطرب [الحجّ] الحلق ، يقال : احجج شجّتك ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي
الشّجّة ؛ ليدخل القدح في الشّجّة .
وقال الشاعر : [الطويل]
٨٥٣ ـ وأشهد من عوف حلولا كثيرة
|
|
يحجّون سبّ
الزّبرقان المعصفرا
|
«السّبّ» : لفظ مشترك ، قال أبو عبيدة : السّبّ ، بالكسر : السّباب ، وسبّك أيضا
: الذي يسابّك ؛ قال الشاعر : [الخفيف]
٨٥٤ ـ لا تسبّنّني فلست بسبّي
|
|
[إنّ سبّي] من الرّجال الكريم
|
والسّبّ أيضا :
الخمار والعمامة.
قال المخبّل
السّعديّ : [الطويل]
٨٥٥ ـ ..........
|
|
يحجّون سبّ
الزّبرقان المعصفرا
|
والسّبّ أيضا :
الحبل في لغة هذيل ؛ قال أبو ذؤيب : [الطويل]
٨٥٦ ـ تدلّى عليها بين سبّ وخيطة
|
|
بجرداء مثل
الوكف يكبو غرابها
|
__________________
والسّبوب : الحبال
، والسّبّ : شقّة كتان رقيقة والسّبيبة مثله ، والجمع : السّبوب والسّبائب ، قاله
الجوهريّ ؛ فيكون المعنى : حجّ فلان ، أي : حلّق.
قال القفّال ـ رحمهالله تعالى ـ : وهذا محتمل ؛ كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧] ، أي
: حجّاجا وعمّارا ؛ فعبّر عن ذلك بالحلق ، فلا يبعد أن يكون الحجّ مسمّى بهذا
الاسم لمعنى الحلق.
وثالثها : الحجّ :
القصد.
ورابعها : الحجّ
في اللغة : القصد مرّة بعد أخرى.
قال الشاعر : [البسيط]
٨٥٧ ـ يحجّ مأمومة في قعرها لجف
|
|
..........
|
اللّجف : الخسف
أسفل البئر ، نقله القرطبيّ .
يقال : رجل محجوج
، أي : مقصود ، بمعنى : أنّه يختلف إليه مرّة بعد أخرى.
قال الراغب : [الرجز]
٨٥٨ ـ لراهب يحجّ بيت المقدس
|
|
في منقل وبرجد
وبرنس
|
وكذلك محجّة
الطّريق : وهي التي كثر فيها السّير ، وهذا شبيه بالقول الأوّل.
قال القفّال : «والأول
أشبه بالصّواب».
والاعتمار :
الزّيارة.
وقيل : مطلق القصد
، ثم صارا علمين بالغلبة في المعاني ؛ كالبيت [والنّجم] في الأعيان.
وقال قطرب : العمرة في لغة [عبد] القيس : المسجد والبيعة والكنيسة.
قال القفّال :
والأشبه بالعمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزّيارة ؛ لأنّ المعتمر يطوف
بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، ثم ينصرف كالزّائر .
__________________
قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) الظاهر : أنّ «عليه» خبر «لا» ، و «أن يطّوّف» : أصله [«في
أن يطّوّف»] ، فحذف حرف الجرّ ، فيجيء في محلّها القولان النصب ، أو الجرّ ،
والوقف في هذا الوجه على قوله «بهما» ، وأجازوا بعد ذلك أوجها ضعيفة :
منها : أن يكون
الكلام قد تمّ عند قوله : (فَلا جُناحَ) ؛ على أن يكون خبر «لا» محذوفا ، وقدّره أبو البقاء «فلا جناح في الحج»
، ويبتدأ بقوله (عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ) فيكون «عليه» خبرا مقدما وأن يطوف في تأويل مصدر مرفوع
بالابتداء ؛ فإنّ الطواف واجب.
قال أبو البقاء ـ رحمهالله ـ : والجيد أن يكون «عليه» في هذا الوجه خبرا ، و «أن
يطّوّف» مبتدأ.
ومنها : «أن يكون (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ) من باب الإغراء ؛ فيكون «أن يطّوّف» في محلّ النصب ؛ كقولك
: «عليك زيدا» أي : «الزمه» ، إلّا أنّ إغرار الغائب ضعيف ، حكى سيبويه : «عليه رجلا ليسني» قال : وهو شاذّ.
ومنها : أنّ «أن
يطّوّف» في محلّ رفع خبرا ثانيا ل «لا» ، [والتقدير : فلا جناح عليه في الطّواف
بهما.
ومنها : «أن
يطّوّف» : في محلّ نصب على الحال من الهاء في «عليه» ، والعامل في الحال العامل في
الخبر]. والتقدير : «فلا جناح عليه في حال طوافه بهما» ، وهذان القولان ساقطان
ذكرتهما تنبيها على غلطهما.
وقراءة الجمهور : «أنّ
يطّوّف» بغير «لا» ، وقرأ أنس ، وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وابن سيرين ، وشهر بن
حوشب : «أن لا يطّوّف» ، قالوا : وكذلك في مصحفي أبيّ ، وعبد الله ، وفي هذه
القراءة احتمالان :
أحدهما : أنها
زائدة ؛ كهي في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ،
وقوله : [الرجز]
٨٥٩ ـ وما ألوم البيض ألّا تسخرا
|
|
لمّا رأين
الشّمط القفندرا
|
وحينئذ يتّحد معنى
القراءتين.
والثّاني : أنّها
غير زائدة. بمعنى : أنّ رفع الجناح في فعل الشيء ، هو رفع في تركه ؛ إذ هو تمييز
بين الفعل والتّرك ؛ نحو : (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) فتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطّواف نصّا
، وفي هذه رفع الجناح في التّرك نصّا.
__________________
والجناح : أصله من
الميل ؛ من قولهم : جنح إلى كذا ، أي : مال إليه ؛ قال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها) [الأنفال : ٦١]
وجنحت السّفينة : إذا لزمت الماء ، فلم تمض.
وقيل للأضلاع : «جوانح»
؛ لاعوجاجها ، وجناح الطّائر من هذا ؛ لأنّه يميل في أحد شقّيه ، ولا يطير على
مستوى خلقته.
قال بعضهم : وكذلك
أيضا عرف القرآن الكريم ، فمعناه : لا جناح عليه ، أي : لا ميل لأحد عليه بمطالبة
شيء من الأشياء.
ومنهم من قال : بل
هو مختصّ بالميل إلى الباطل ، وإلى ما يؤلم به.
و «أن يطّوّف» أي
: «يتطوّف» ، فأدغمت التّاء في الطاء ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١] ، و (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١]
ويقال : طاف ، وأطاف : بمعنى واحد.
وقرأ الجمهور «يطّوّف» بتشديد الطاء ، والواو ، والأصل «يتطّوّف»
، وماضيه كان أصله «تطوّف» ، فلما أرد الإدغام تخفيفا ، قلبت التاء طاء ، وأدغمت
في الطاء ، فاحتيج إلى همزة وصل ؛ لسكون أوّله ؛ لأجل الإدغام ، فأتى بها فجاء
مضارعه عليه «يطّوّف» ، فانحذفت همزة الوصل ؛ لتحصّن الحرف المدغم بحرف المضارعة
ومصدره على «التّطوّف» ؛ رجوعا إلى أصل «تطوّف». وقرأ أبو السّمّال : «يطوف» مخفّفا من : طاف يطوف ، وهي سهلة ، وقرأ ابن عباس
: «يطّاف» بتشديد الطاء ، [مع الألف ، وأصله «يطتوف» على وزن «يفتعل» ، وماضيه على
«اطتوف» افتعل ، تحرّكت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، ووقعت تاء
الافتعال بعد الطاء ؛ فوجب قلبها طاء ، وإدغام الطاء] فيها ؛ كما قالوا : اطّلب يطّلب ، والأصل : «اطتلب ، يطتلب»
، فصار «اطّاف» ، وجاء مضارعه عليه : «يطّاف» هذا هو تصريف هذه اللفظة من كون تاء
الافتعال تقلب طاء ، وتدغم فيها الطاء الأولى.
وقال ابن عطيّة : فجاء «يطتاف» أدغمت [التاء بعد الإسكان في الطاء على
مذهب من أجاز إدغام الثّاني] في الأوّل ، كما جاء في «مدّكر» ومن لم يجز ذلك ، قال :
قلبت التاء طاء ، ثم أدغمت الطاء في الظّاء ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ الأصليّ أدغم في
الزائد ، وذلك ضعيف. وقول ابن عطيّة فيه خطأ من وجهين :
__________________
أحدهما : كونه
يدّعي إدغام الثّاني في الأوّل ، وذلك لا نظير له ، إنّما يدغم الأوّل في الثّاني.
والثاني : قوله :
كما جاء في «مدّكر» ؛ لأنّه كان ينبغي على قوله : أن يقال : «مذّكر» بالذّال
المعجمة ، لا الدّال المهملة [وهذه لغة رديئة ، إنّما اللّغة الجيّدة بالمهملة ؛
لأنّا قلبنا تاء الافتعال بعد الذّال المعجمة دالا مهملة] ، فاجتمع متقاربان ، فقلبنا أوّلهما لجنس الثّاني ،
وأدغمنا ، وسيأتي تحقيق ذلك.
ومصدر «اطّاف» على
«الاطّياف» بوزن «الافتعال» ، والأصل «اطّواف» فكسر ما قبل الواو ، فقلبت ياء ،
وإنّما عادت الواو إلى أصلها ؛ لزوال موجب قلبها ألفا ؛ ويوضّح ذلك قولهم : اعتاد
اعتيادا والأصل : «اعتواد» ففعل به ما ذكرت [لك].
قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قرأ حمزة والكسائيّ : «يطّوّع» هنا وفي الآية الّتي بعدها بالياء
وجزم العين فعلا مضارعا.
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله ـ : وهذا أحسن أيضا ؛ لأنّ المعنى على الاستقبال والشرط ،
والجزاء ، والأحسن فيهما الاستقبال ، وإن كان يجوز أن يقال : «من أتاني ، أكرمته».
وقرأها الباقون بالتاء فعلا ماضيا ، فأما قراءة حمزة ، فتكون «من» شرطيّة
، فتعمل الجزم ، وافق يعقوب في الأولى ، وأصل «يطّوّع» «يتطوّع» فأدغم على ما
تقدّم في «تطوّف» ، و «من» في محل رفع بالابتداء ، والخبر فعل الشّرط ؛ على ما هو
الصحيح ؛ كما تقدّم تحقيقه.
وقوله : «فإنّ
الله» جملة في محلّ جزم ، لأنّها جواب الشّرط ، ولا بدّ من عائد مقدّر ، أي : فإنّ
الله شاكر له.
فصل
قال أبو البقاء : وإذا جعلت «من» شرطا ، لم يكن في الكلام حذف ضمير ؛ لأنّ
ضمير «من» في «تطوّع» وهذا يخالف ما تقدّم عن النّحاة ؛ من أنّه إذا كان أداة
الشّرط اسما ، لزم أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، وتقدّم تحقيقه.
وأما قراءة
الجمهور ، فتحتمل وجهين :
__________________
أحدهما : أن تكون
شرطيّة ، والكلام فيها كما تقدّم.
والثاني : أن تكون
موصولة ، و «تطوّع» صلتها ، فلا محلّ لها من الإعراب حينئذ ، وتكون في محلّ رفع
بالابتداء أيضا ، و «فإنّ الله» خبره ، ودخلت الفاء ؛ لما تضمّن «من» معنى الشّرط
، والعائد محذوف كما تقدّم ، أي : شاكر له. وانتصاب «خيرا» على أحد أوجه :
أحدها : إمّا على
إسقاط حرف الجرّ ، أي : تطوّع بخير ، فلمّا حذف الحرف ، انتصب ؛ نحو قوله : [الوافر]
٨٦٠ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا
|
|
..........
|
وهو غير مقيس.
والثاني : أن يكون
نعت مصدر محذوف ، أي : «تطوّعا خيرا».
والثالث : أن يكون
حالا من ذلك المصدر المقدّر معرفة.
وهذا مذهب سيبويه ، وقد تقدّم [غير مرّة] ، أو على تضمين «تطوّع» فعلا
يتعدّى ، أي : من فعل خيرا متطوّعا به.
وقد تلخّص مما
تقدّم أنّ في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ
عَلِيمٌ) وجهين :
أحدهما : الجزم
على القول بكون «من» شرطيّة.
والثاني : الرّفع
؛ على القول بكونها موصولة.
فصل في ظاهر قوله : «لا جناح عليه»
ظاهر قوله ـ تبارك
وتعالى ـ : «لا (جُناحَ عَلَيْهِ) : أنه لا إثم عليه ، [وأن الذي يصدق عليه : أنّه لا إثم
عليه] في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب ، والمباح ، فلا يتميّز أحدهما ، إلّا
بقيد زائد ، فإذن : ظاهر الآية لا يدلّ على أنّ السّعي بين الصّفا والمروة واجب ،
أو مسنون ؛ لأنّ اللّفظ الدّالّ على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة
على خصوصيّة كلّ واحد من تلك الأقسام ، فإذن : لا بدّ من دليل خارجيّ ، يدلّ على
وجوب السّعي ، أو مسنونيّته ، فذهب بعضهم إلى أنه ركن ، ولا يقوم الدّم مقامه.
وعند أبي حنيفة ـ رضي
الله عنه ـ : أنه ليس بركن ، ويجبر بالدم ، وعن ابن الزّبير ، ومجاهد ، وعطاء :
أنّ من تركه ، فلا شيء عليه .
__________________
احتجّ الأوّلون
بقوله عليه [أفضل] الصّلاة والسّلام ـ «إنّ الله كتب عليكم السّعي ، فاسعوا» .
فإن قيل : هذا
متروك الظّاهر ، لأنّه يقتضي وجوب السّعي ، وهو العدو ، وذلك غير واجب .
قلنا : لا نسلّم
أنّ السّعي عبارة عن العدو ؛ [بدليل قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩]
والعدو فيه غير واجب] وقال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وليس
المراد منه العدو ، بل الجدّ ، والاجتهاد ، سلّمنا أنه العدو ، ولكنّ العدو مشتمل
على صفة ترك العمل به في هذا الصّفات ، فيبقى أصل المشي واجبا.
واحتجّوا أيضا :
بأنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما دنا من الصّفا ، قال : «إنّ الصّفا والمروة
من شعائر الله ، ابدءوا بما بدأ الله به» فبدأ بالصّفا فرقي عليه ، ثم سعى ، وقالصلىاللهعليهوسلم : «خذوا عنّي مناسككم» ، وقال تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨]
وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١]
وقالوا : إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ويؤتى به في إحرام كامل ، فكان
جنسها ركنا ؛ كطواف الزّيارة ، ولا يلزم طواف الصّدر ، لأنّ الكلام للجنس ؛ لوجوبه
مرة.
واحتجّ أبو حنيفة
ـ رضي الله عنه ـ بوجوه :
منها : قوله تعالى
: «لا (جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِما) وهذا لا يقال في الواجبات ، وأكّد ذلك بقوله : «ومن تطوّع»
فبيّن أنه تطوّع وليس بواجب.
ومنها : [قوله] : «الحجّ
عرفة فمن أدرك عرفة ، فقد تمّ حجّة» ، وهذا يقتضي التمام
__________________
من [جميع] الوجوه ؛ ترك العمل به في بعض الأشياء ؛ فيبقى معمولا به
في السّعي.
والجواب عن الأوّل
من وجوه :
الأوّل : ما
بيّنّا [أن قوله] : «لا (جُناحَ عَلَيْهِ) [ليس فيه إلّا أنه
لا إثم على فاعله] وهذا القدر مشترك بين الواجب ، وغيره ؛ فلا يكون فيه دلالة
على نفي الوجوب ، وتحقيق ذلك قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١]
والقصر عند أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ واجب ، مع أنّه قال فيه : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ذا ههنا.
الثاني : أنه رفع
الجناح عن الطّواف [بهما لا عن الطّواف بينهما].
والأوّل عندنا غير
واجب ، والثاني هو الواجب.
الثالث : قال ابن
عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان على الصّفا صنم ، [وعلى المروة صنم ، وكان الذي على
الصّفا] اسمه : «إساف» ، والذي على المروة صنم اسمه «نائلة» وكان
أهل الجاهليّة يطوفون بهما ، فلمّا جاء الإسلام ، كره المسلمون الطّواف بهما ؛
لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا ، فنقول :
انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطّواف ، لا إلى نفس الطّواف ؛ كما لو كان
في الثّوب نجاسة يسيرة عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جناح عليكم أن
تصلوا فيه ، فإنّ رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة ، لا إلى نفس الصلاة.
الرابع : كما أن
قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ؛ ولا شكّ
في أنّ السّعي مندوب ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر ، والعمل بظاهرها ، وأما
التمسّك بقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة : ١٨٤]
فضعيف ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطّواف المذكور ، بل يجوز
أن يكون المراد منه شيئا آخر ؛ كقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) [البقرة : ١٨٤] ثم
قال : (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) فأوجب عليهم الطّعام ، ثم ندبهم إلى التّطوّع بالخير ،
فكان المعنى : فمن تطوّع ؛ فزاد على طعام مسكين ، كان خيرا له ، فكذا ههنا يحتمل
أن يكون هذا التطوّع مصروفا إلى شيء آخر ؛ وهو من وجهين :
أحدهما : أنه يزيد
في الطّواف ، فيطوف أكثر من الطّواف الواجب ، مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.
__________________
والثاني : أن
يتطوّع بعد فرض الحجّ وعمرته بالحجّ والعمرة مرة أخرى ؛ حتى طاف بالصّفا والمروة
تطوّعا.
وقال الحسن وغيره
: أراد سائر الأعمال ، يعني : فعل غير الفرض ؛ من صلاة ، وزكاة ، وطواف ، وغيرها
من أنواع الطّاعات. وأصل الطاعة الانقياد.
وأما الحديث :
فنقول فيه إنه عام ، وحديثنا خاص ، والخاصّ مقدّم على العامّ.
قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).
قال ابن الخطيب : اعلم أنّ الشاكر في اللّغة هو المظهر للإنعام عليه ،
وذلك في حقّ الله محال ، فالشاكر في حقّه ـ تبارك وتعالى ـ مجاز ، ومعناه المجازيّ
على الطاعة ، وإنما سمى المجازاة على الطّاعة ، شكرا ؛ لوجوه :
الأول : أن اللفظ
خرج مخرج التلطّف للعباد ، ومبالغة في الإحسان إليهم ؛ كما قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥]
وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء ؛ كأنه قيل : من ذا
الذي يعمل عمل المقرض ؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم.
الثاني : أنّ
الشّكر لما كان مقابلا [للإنعام أو الجزاء] عليه ، سمّي كلّ ما كان جزاء شكرا ؛ على سبيل التشبيه.
الثالث : أن الشكر
اسم لما يجازى به ، والله تعالى هو المجازي ، فسمّي شاكرا ، لعلاقة المجازاة.
[وقال غيره :] بل هو حقيقة ؛ لأنّ الشكر في اللّغة : هو الإظهار ؛ لأنّ
هذه المادّة ، وهي الشين ، والكاف ، والراء تدلّ على الظّهور ، ومنه : كشر البعير
عن نابه ، إذا أظهره ؛ فإنّ الله تعالى يظهر ما خفي من أعمال العبد من الطّاعة ،
ويجازي عليه.
وقيل : الشّكر :
الثناء ، والله تعالى يثني على العبد ، حين يفعل الطاعة.
وقوله : «عليم»
بذات المعنى أنّه يعلم قدر الجزاء ، فلا يبخس المستحقّ حقّه ؛ لأنّه عالم بقدره ،
ويحتمل أنه يريد أنّه عليم بما يأتي العبد ، فيقوم بحقّه من العبادة والإخلاص.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(١٥٩)
في «الكاتمين»
قولان :
__________________
أحدهما : أنه كلام
مستأنف يتناول كلّ من كتم شيئا من الدين.
الثاني : عن ابن
عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والرّبيع ، والسّدّيّ ، والأصمّ : أنها نزلت
في أهل الكتاب من اليهود والنّصارى .
الثالث : نزلت في
اليهود والّذين كتموا ما في التّوراة من صفة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
قال ابن الخطيب :
والأوّل أقرب إلى الصّواب ؛ لوجوه :
الأوّل : أن اللفظ
عامّ ، وثبت في «أصول الفقه» أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.
الثاني : ثبت أيضا
في «أصول الفقه» أن العبرة بعموم اللّفظ ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [مشعر
بالعلّيّة] ، وكتمان الدّين يناسب استحقاق اللّعن ؛ فوجب عموم الحكم
عند عموم الوصف.
الثالث : أن جماعة
من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حملوا هذا اللّفظ على العموم ؛ كما روي عن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ أنها قالت : «من زعم أنّ محمّدا صلىاللهعليهوسلم كتم شيئا من الوحي ، فقد أعظم الفرية على الله تعالى» ،
والله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) [البقرة : ١٥٩]»
فحملت الآية على العموم.
وعن أبي هريرة ـ رضي
الله تعالى عنه ـ قال [لو لا آية] من كتاب الله ، ما حدّثت حديثا بعد أن قال النّاس : أكثر
أبو هريرة ، وتلا : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ).
احتجّ من خصّ
الآية بأهل الكتاب : أنّ الكتمان لا يصحّ إلّا منهم في شرع نبوّة محمّد ـ صلوات
الله ، وسلامه عليه ـ وأمّا القرآن ، فإنّه متواتر ، فلا يصحّ كتمانه.
والجواب : أنّ
القرآن الكريم قبل صيرورته متواترا يصحّ كتمانه ، والكلام إنّما هو فيما يحتاج
المكلّف إليه.
__________________
فصل في تفسير «الكتمان»
قال القاضي : الكتمان ترك إظهار الشّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي
إلى إظهار ؛ لأنّه متى لم يكن كذلك ، لا يعدّ من الكتمان ، فدلّت الآية على أنّ ما
يتّصل بالدّين ، ويحتاج المكلّف إليه ، لا يجوز كتمانه.
ونظير هذه الآية
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً) [البقرة : ١٧٤]
وقوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧]
فهذه كلّها زواجر عن الكتمان.
ونظيرها في بيان
العلم ، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه ، قوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢].
وروى أبو هريرة عن
النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم قال : «من كتم علما يعلمه جيء يوم القيامة بلجام من نار» .
__________________
واعلم أن العالم ،
إذا قصد كتمان العلم ، عصى ، وإن لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره
، وأما من سئل ، فقد وجب عليه التبليغ ؛ لهذه الآية ، وللحديث.
واعلم أنه لا يجوز
تعليم الكافر القرآن ، ولا العلم ؛ حتى يسلم ، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال ،
والحجاج ، ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجّة ، ليقتطع بها ماله ،
ولا السّلطان تأويلا يتطرّق به على مكاره الرّعيّة ، ولا ينشر الرّخص من السّفهاء
، فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ، ونحو ذلك. [وقال ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ : «لا تمنعوا الحكمة أهلها ؛ فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير
أهلها ، فتظلموها» ].
وقال ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ : «لا تعلّقوا الدّرّ في أعناق الخنازير» يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
قوله تعالى : «ما
أنزلنا» مفعول ب «يكتمون» ، و «أنزلنا» صلته ، وعائده محذوف ، أي : أنزلناه ، و «من
البيّنات» [يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها حال
من «ما» الموصولة ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا من البيّنات.
الثاني : أن
يتعلّق ب «أنزلنا» فيكون مفعولا به ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر من حيث إنّه إذا كان مفعولا به ، لم يتعد الفعل
إلى ضمير ، وإذا لم يتعدّ] إلى ضمير الموصول ، بقي الموصول بلا عائد.
الثالث : أن يكون
حالا من الضمير العائد على الموصول ، والعامل فيه «أنزلنا» ؛ لأنه عامل في صاحبها.
فصل في المراد من «البيّنات»
والمراد من «البيّنات»
ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي ، دون أدلّة العقل.
__________________
وقوله «والهدى»
يدخل فيه الدّلالة العقليّة ، والنّقليّة ؛ لما تقدّم في دليل قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٣] أنّ
الهدى عبارة عن الدلائل ، فيعمّ الكلّ. فإن قيل : فقد قال : (وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فعاد إلى الوجه الأوّل.
قلنا : الأوّل :
هو التنزيل ، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
وهذه الآية
الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدّين بالدلائل العقليّة لمن كان محتاجا
إليها ، ثم تركها ، أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه ، فقد لحقه هذا
الوعيد.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلّق ب «يكتمون» ، ولا يتعلّق ب «أنزلنا» لفساد المعنى ؛
لأنّ الإنزال لم يكن بعد التّبيين ، وأمّا الكتمان فبعد التّبيين ، والضمير في
[«بيّنّاه» يعود على «ما» الموصولة.
وقرأ الجمهور «بيّنّاه»
، وقرأ طلحة بن مصرّف «بيّنه» على ضمير الغائب ، وهو التفات من التكلّم
إلى الغيبة ، و «للنّاس» متعلّق بالفعل قبله.
وقوله : (فِي الْكِتابِ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه
متعلّق بقوله : «بيّنّاه».
والثاني : أنه
يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الضّمير المنصوب في] «بيّنّاه» أي : بيّنّاه
حال كونه مستقرّا كائنا في الكتاب ، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.
فصل في حكم هذا «البيان»
قال بعضهم : هذا
الإظهار فرض على الكفاية ، لأنّه إذا أظهره البعض ، صار بحيث يتمكنّ كلّ أحد من
الوصول إليه ، فلم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان ، لم يجب على الباقين
إظهاره مرةّ أخرى ، والله أعلم .
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجّ
بهذه الآيات على قبول خبر الواحد ، لأنّ إظهار هذه الأحكام واجب ، [ولو لم يجب
العمل] ، لم يكن إظهارها واجبا ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا) [البقرة : ١٦٠]
فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
__________________
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّا عن الكتمان ، ومأمورا بالبيان ؛ [ليكثر المخبرون] ؛ فيتواتر الخبر.
فالجواب : هذا غلط
؛ لأنّهم ما نهوا عن الكتمان ، إلّا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم
التّواطؤ على الكتمان ، جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم
موجبا للعلم ، والمراد من [الكتاب] قيل : التّوراة والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : أراد
بالمنزل الأوّل ما في كتب المتقدّمين ، والثّاني ما في القرآن.
قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يجوز في «أولئك» وجهان :
أحدهما : أن يكون
مبتدأ ، و «يلعنهم» خبره ، والجملة خبر «إنّ الّذين».
والثاني : أن يكون
بدلا من «الّذين» و «يلعنهم» الخبر ؛ لأن قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما قبله ، وهو (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) وأن يكون مستأنفا ، وأتى بصلة «الّذين» فعلا مضارعا ،
وكذلك بفعل اللّعنة ؛ دلالة على التجدّد والحدوث ، وأن هذا يتجدّد وقتا فوقتا ،
وكرّرت اللعنة ؛ تأكيدا في ذمّهم. وفي قوله (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) التفات ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام ، لقال : «نلعنهم» ؛
لقوله : «أنزلنا» ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.
فصل في معنى اللعنة ، والمراد باللاعنين
اللّعنة في أصل
اللّغة : هي الإبعاد ، وفي عرف الشّرع : الإبعاد من الثّواب ، واختلفوا في
الّلاعنين ، من هم؟ فقيل : دوابّ الأرض وهوامّها ؛ فإنّها تقول : منعنا القطر
بمعاصي بني آدم ، نقله مجاهد ، عن عكرمة .
وقال : «اللّاعنون»
، ولم يقل «اللاعنات» ؛ لأنّه تعالى وصفها بصفة من يعقل ، فجمعها جمع من يعقل ؛
كقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] و (يا أَيُّهَا النَّمْلُ])(ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا) [فصلت : ٢١].
و (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقيل : «كلّ
شيء إلّا الإنس والجنّ» قاله ابن عبّاس .
فإن قيل : كيف
يصحّ اللعن من البهائم ، والجمادات؟
فالجواب من وجهين
:
__________________
الأول : على سبيل
المبالغة ، وهي أنّها لو كانت [عاقلة] ، لكانت تلعنهم.
الثاني : أنها في
الآخرة ، إذا أعيدت ، وجعلت من العقلاء فإنّها تلعن من فعل ذلك في الدّنيا ، ومات
عليه.
وقيل : إنّ أهل
النّار يلعنونهم وقيل يلعنهم الإنس والجنّ .
وقال ابن مسعود ـ رضي
الله تعالى عنه ـ : ما تلاعن اثنان من المسلمين إلّا رجعت تلك اللّعنة على اليهود
والنّصارى الّذين كتموا أمر محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وصفته . وعن ابن عبّاس : أنّ لهم لعنتين لعنة الله ، ولعنة
الخلائق ، قال : وذلك إذا وضع الرّجل في قبره ، فيسأل ما دينك؟ وما نبيّك؟ وما
ربّك؟ فيقول : لا أدري فيضرب ضربة يسمعها كلّ شيء إلّا الثّقلين ، فلا يسمع شيء
صوته إلّا لعنه ، ويقول الملك : لا دريت ولا تليت ، كذلك كنت في الدّنيا .
وقال أبو مسلم : «اللّاعنون هم الّذين آمنوا به ، ومعنى اللّعنة : مباعدة
الملعون ، ومشاقّته ، ومخالفته مع السّخط عليه.
وقيل : الملائكة ،
والأنبياء ، والصالحون ؛ ويؤكّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وقال قتادة : «الملائكة»
.
قال الزّجّاج :
والصواب قول من قال : «اللّاعنون الملائكة والمؤمنون» ، فأمّا أن يكون ذلك لدوابّ
الأرض فلا يوقف على حقيقته إلّا بنصّ أو خبر لازم ، ولم يوجد شيء من ذلك.
قال القرطبيّ : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب ، قال : قال رسول
الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله ، وسلّم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم
ـ في قوله تعالى : (يَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ) قال : دوابّ الأرض أخرجه ابن ماجة.
__________________
وقال الحسن : «جميع
عباد الله» .
قال القاضي : «دلّت
الآية على أنّ هذا الكتمان من الكبائر لأنّه تعالى أوجب فيه اللّعن.
قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)
في الاستثناء وجهان
:
أحدهما : أن يكون
متّصلا ، والمستثنى منه هو الضّمير في «يلعنهم».
والثاني : أن يكون
منقطعا ؛ لأنّ الّذين كتموا ، لعنوا قبل أن يتوبوا. وإنّما جاء الاستثناء ؛ لبيان
قبول التّوبة ؛ لأنّ قوما من الكاتمين لم يلعنوا ، نقل ذلك أبو البقاء .
قال بعضهم : «وليس
بشيء».
فصل
اعلم أنّه تعالى
لمّا بيّن عظيم الوعيد ، فكان يجوز أن يتوهّم أنّ الوعيد يلحقهم على كلّ حال ،
فبيّن تعالى أنّهم إذا تابوا ، تغيّر حكمهم ، ودخلوا في أهل الوعد. والتّوبة عبارة
عن النّدم على فعل القبيح لقبحه ، لا لغرض سواه ؛ لأنّ من لم يردّ الوديعة ، ثم
ندم للوم الناس وذمّهم ، أو لإنّ الحاكم ردّ شهادته لم يكن تائبا ، وكذلك ، لو عزم
على ردّ الودائع والقيام بالواجبات ؛ لكي تقبل شهادته أو يمدح بالثّناء عليه ، لم
يكن تائبا وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بيّن تعالى أنه لا بدّ له بعد التوبة من
إصلاح ما أفسده مثلا ، لو أفسد على رجل دينه بإيراد شبهة عليه ، يلزمه إزالة تلك
الشّبهة ، ثمّ بيّن بأنه يجب عليه بعد ذلك أن يفعل ضدّ الكتمان ، وهو البيان بقوله
«وبيّنوا» فدلّت الآية على أنّ التّوبة لا تحصل إلّا بترك كلّ ما ينبغي.
وقيل : بيّنوا
توبتهم وصلاحهم. قال ابن الخطيب : قالت المعتزلة : الآية تدلّ على أنّ التّوبة عن بعض
المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصحّ ؛ لأن قوله «وأصلحوا» عامّ في الكلّ.
والجواب : أنّ
اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده.
وقوله : (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أتجاوز عنهم ، وأقبل توبتهم. (وَأَنَا التَّوَّابُ) الرّجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عنّي إليّ ، القابل لتوبة
كلّ ذي توبة ، الرحيم بهم بعد إقبالهم عليّ.
__________________
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)
اعلم أنّ ظاهر
الآية يعمّ كلّ كافر مات على كفره.
وقال أبو مسلم : يجب حمله على الّذين تقدّم ذكرهم ، وهم الذين يكتمون
الآيات ، واحتجّ بأنّه تعالى لمّا ذكر حال الّذين يكتمون ، ثمّ ذكر حال التّائبين
منهم ، ذكر أيضا حال من يموت منهم من غير توبة ، وأيضا : فإنه تعالى لمّا ذكر أنّ
أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة ، بيّن أنّهم ملعونون بعد الموت. وجوابه :
إنّما يصحّ هذا ، لو كان الّذين يموتون منهم من غير توبة دخلوا تحت الآية ، وإلّا
لاستغنى عن ذكرهم فوجب حمل الكلام على أمر مستأنف.
فإن قيل : كيف
يلعنه النّاس أجمعون ، وأهل [دينه لا يلعنونه].
فجوابه من وجوه :
أحدها : أنّ أهل
دينه يلعنونه في الآخرة ؛ لقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥]
قال أبو العالية : «يوقف الكافر يوم القيامة ، فيلعنه الله ، ثمّ تلعنه الملائكة ،
ثم تلعنه النّاس» .
وثانيها : قال
قتادة ، والرّبيع : أراد بالنّاس أجمعين المؤمنين ؛ كأنه لم يعتدّ بغيرهم ، وحكم بأنّ المؤمنين هم النّاس لا
غير.
وثالثها : أنّ كلّ
أحد يلعن الجاهل ، والظّالم ؛ لأنّ قبح ذلك مقرّر في العقول فإذا كان في نفسه [هو جاهلا ، أو ظالما ، وإن كان لا يعلم
هو من نفسه كونه كذلك] كانت لعنته على الجاهل والظّالم تتناول نفسه.
ورابعها : أنّ
يحمل وقوع اللّعنة على استحقاق اللّعن ، وحينئذ يعمّ ذلك.
فصل في بيان جواز لعن من مات كافرا
قال أبو بكر
الرّازيّ ـ رضي الله عنه ـ : الآية الكريمة تدلّ على أنّ للمسلمين
__________________
لعن من مات كافرا
، وأنّ زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه اللّعنة ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أمر لنا بلعنه بعد موته ؛ وهذا يدلّ على أنّ الكافر ، لو
جنّ ، لم يكن زوال التّكليف عنه مسقطا اللّعنة والبراءة منه ، وكذلك السّبيل فيما
يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصّلاح ، فموت من كان كذلك أو [جنونه لا يغيّر] حكمه عمّا كان عليه قبل حدوث الحال به.
قوله تعالى : (وَماتُوا) الواو هذه واو الحال ، والجملة في محلّ نصب على الحال ،
وإثبات الواو هنا أفصح ؛ خلافا للفرّاء ، والزّمخشريّ ، حيث قالا : إنّ حذفها
شاذّ. وقوله (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللهِ) : «أولئك» : مبتدأ ، [و (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللهِ) : مبتدأ وخبره ، خبر عن أولئك»] و «أولئك» وخبره :
خبر عن «إنّ» ، ويجوز في «لعنة» الرفع بالفاعليّة بالجار قبلها ؛ لاعتمادها ؛
فإنّه وقع خبرا عن «أولئك» وتقدّم تحريره في (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٥٧].
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابن العربيّ :
قال لي كثير من أشياخي : إنّ الكافر المعيّن لا يجوز لعنه ؛ لأنّ حاله عند
الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية الكريمة في إطلاق اللّعنة : الموافاة
على الكفر.
وأمّا ما روي عن
النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ، وشرّف وكرّم ، ومجّد ، وبجّل وعظّم ـ أنّه
لعن أقواما بأعيانهم من الكفّار ، فإنما كان ذلك ؛ لعلمه بمآلهم .
قال ابن العربيّ :
والصحيح عندي : جواز لعنه ؛ لظاهر حاله ، ولجواز قتله وقتاله.
وقد روي عن النبيّ
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ أنه
قال : «اللهمّ ، إنّ عمرو بن العاص هجاني ، وقد علم أنّي لست بشاعر ، فالعنه ،
واهجه عدد ما هجاني» [فلعنه ، وإن كان
الإيمان والدّين والإسلام مآله ، وانتصف بقوله «عدد ما هجاني»] ولم يزد ؛ لتعليم العدل والإنصاف ، وأضاف الهجو إلى الله
تعالى في باب الجزاء ، دون الابتداء بالوصف بذلك ؛ كما يضاف إليه المكر والاستهزاء
والخديعة ، تعالى الله عن ذلك.
__________________
قال القرطبيّ : أما لعن الكفّار جملة من غير تعيين ، فلا خلاف فيه ؛ لما
روى مالك ، عن داود بن الحصين ، أنّه سمع الأعرج يقول : «ما أدركت النّاس إلّا وهم
يلعنون الكفرة في رمضان ، وسواء كانت لهم ذمّة أو لم تكن ، وليس ذلك بواجب ،
ولكنّه مباح».
قوله تعالى : «والملائكة»
الجمهور على جرّ الملائكة ؛ [نسقا على اسم الله تعالى] ، وقرأ الحسن بالرّفع ، «والملائكة والنّاس أجمعون» وخرّجها النحاة على
العطف على موضع اسم الله تعالى ، فإنه وإن كان مجرورا بإضافة المصدر ، فموضعه رفع
بالفاعلية ؛ لأنّ هذا المصدر ينحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل ، والتقدير : «أن لعنهم» ،
أو «أن يلعنهم الله» ، فعطف الملائكة على هذا التّقدير.
قال أبو حيان : وهذا ليس بجائز على ما تقرّر من العطف على الموضع ، فإنّ
من شرطه: أن يكون ثمّ محرز للموضع ، وطالب ، والطالب للرفع وجود التّنوين في
المصدر ، هذا إذا سلّمنا أن «لعنة» تنحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل ؛ لأنّ الانحلال لذلك
شرطه أن يقصد به العلاج ؛ ألا ترى أنّ قوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨] ليس
المعنى على تقدير : أن يلعن الله على الظالمين ، بل المراد اللّعنة المستقرّة ،
وأضيفت لله على سبيل التّخصيص ، لا على سبيل الحدوث. ونقل عن سيبويه : أنّ قولك : هذا ضارب زيد غدا وعمرا ، بنصب «عمرا» : أنّ
نصبه بفعل محذوف ، وأبى أن ينصبه بالعطف على الموضع ، ثم بعد تسليمه ذلك كلّه ،
قال : المصدر المنوّن لم يسمع بعده فاعل مرفوع ، ومفعول منصوب ، إنّما قاله
البصريّون قياسا على «أن والفعل» ومنعه الفرّاء ، وهو الصحيح ثم إنّه خرّج هذه
القراءة الشّاذّة على أحد ثلاثة أوجه :
الأول : أن تكون
الملائكة مرفوعة بفعل محذوف ، أي : «وتلعنهم الملائكة» ؛ كما نصب سيبويه «عمرا» في
قولك «ضارب زيدا وعمرا» بفعل محذوف.
الثاني : أن تكون
الملائكة عطفا على «لعنة» بتقدير حذف مضاف ، أي : «ولعنة الملائكة» فلمّا حذف
المضاف ، أقيم المضاف إليه مقامه.
الثالث : أن يكون
مبتدأ قد حذف خبره تقديره «والملائكة والنّاس أجمعون تلعنهم» وهذه أوجه متكلّفة ،
وإعمال المصدر المنوّن ثابت ؛ غاية ما في الباب : أنه قد يحذف فاعله ؛ كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ـ ١٥]
وأيضا : فقد أتبعت
__________________
العرب المجرور
بالمصدر على موضعيه رفعا ؛ قال : [البسيط]
٨٦١ ـ ..........
|
|
مشي الهلوك
عليها الخيعل الفضل
|
برفع «الفضل» وهي
صفة ل «الهلوك» على الموضع ؛ وإذا ثبت ذلك في النّعت ، ثبت في العطف ؛ لأنّهما
تابعان من التوابع الخمسة ، و «أجمعين» : من ألفاظ التأكيد المعنويّ بمنزلة كلّ.
قال ابن الخطيب : والآية تدلّ على جواز التّخصيص مع التّوكيد ؛ لأنّه
تعالى قال : (وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ) مع أنّه مخصوص على مذهب من قال : المراد بالنّاس بعضهم.
قوله تعالى : «خالدين»
حال من الضّمير في «عليهم» والعامل فيها الظرف من قوله «عليهم» ؛ لأنّ فيه معنى
الاستقرار للّعنة ، والخلود : اللّزوم الطّويل ، ومنه قوله تعالى : «أخلده» أي :
لزمه ، وركن إليه.
قال بعضهم : «خالدين
في اللّعنة».
وقيل : في النّار
، أضمرت ؛ تفخيما وتهويلا ؛ كقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١].
والأول أولى ؛
لوجوه :
الأول : أنّ ردّ
الضّمير [إلى المذكور السّابق أولى من ردّه ، إذا لم يذكر.
الثاني : أنّ حمل
هذا الضّمير على اللّعنة] أكثر فائدة؟ لأنّ اللّعن هو الإبعاد من الثّواب بفعل
العقاب في الآخرة ، وإيجاده في الدّنيا ، فيدخل في اللعن النّار وزيادة [فكان حمل
اللّفظ عليه أولى].
[الثالث : أن حمل
الضمير على اللّعن يكون حاصلا في الحال وبعده ، وحمله على النّار لا يكون حالا
حاصلا في الحال ، بل لا بدّ من تأويل].
قوله تعالى : «يخفّف»
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
مستأنفا.
الثاني : أن يكون
حالا من الضّمير في «خالدين» فيكون حالان متداخلان.
الثالث : أن يكون
حالا ثانية من الضّمير في «عليهم» ، وكذلك عند من يجيز تعدّد
__________________
الحال. وقد منع
أبو البقاء هذا الوجه ، بناء منه على مذهبه في ذلك.
وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).
قال مكّيّ رحمهالله : هو ابتداء وخبر في موضع الحال من الضّمير في «خالدين» أو
من الضّمير في «عنهم».
فصل في وصف العذاب
اعلم أنه تعالى
وصف هذا العذاب بثلاثة أمور :
أحدها : الخلود ، وهو
المكث الطّويل عندنا ، أو المكث الدّائم عند المعتزلة .
وثانيها : عدم
التخفيف ، ومعناه أنّ العذاب في الأوقات كلّها متشابه ؛ لا يكون بعضه أقلّ من بعض.
فإن قيل : هذا
التّشبيه ممتنع ؛ لوجوه :
أحدها : أنّه إذا
تصوّر حال غيره في شدّة العذاب ، كان ذلك كالتّخفيف عنه.
وثانيها : أنّه
تعالى يزيد عليهم في أوقات ، ثمّ تنقطع تلك الزّيادة فيكون ذلك تخفيفا.
وثالثها : أنه حين
يخاطبهم بقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨]
لا نشكّ أنّه يزاد عنهم في ذلك الوقت.
فالجواب أنّ
التفاوت في هذه الأمور قليل ، فالمستغرق في العذاب الشّديد لا ينتبه لهذا القدر
القليل من التّفاوت ، وهذه الآية تدلّ على دوام العذاب ، وأبديته ، فإنّ الواقع في
[محنة] عظيمة [وشدّة] في الدّنيا ، إذا بشّر بالخلاص ، وقيل له : إنّك تخلص من
هذه الشّدّة بعد أيّام ، فإنّه يفرح ويسهل عليه موقع هذه المحنة.
الصفة الثانية :
قوله (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) والإنظار : هو التأجيل والتأخير ؛ قال سبحانه (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠]
والمعنى : أن عذابهم لا يؤجّل ، بل يكون حاضرا متّصلا بعذاب مثله ؛ ووجه اتّصال
هذه الآية بها قبلها : أنّه تعالى لمّا حذّر من كتمان الحقّ بين أن أوّل ما يجب
إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلّم طريق النّظر
، وهو الفكر في عجائب الصّنع ؛ ليعلم أنّه لا بدّ من فاعل لا يشبهه شيء.
ويحتمل أن يكون من
النّظر ؛ كقوله : (لا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
__________________
قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)
قوله : (إِلهٌ واحِدٌ) خبر المبتدأ ، و «واحد» صفة ، وهو الخبر في الحقيقة ؛
لأنّه محطّ الفائدة ، ألا ترى أنّه لو اقتصر [على ما قبله ، لم يفد ، وهذا يشبه
الحال الموطّئة ؛ نحو : «مررت بزيد رجلا صالحا» ف «رجلا» حال] وليست مقصودة ، إنّما المقصود وصفها.
قال أبو عليّ :
قولهم واحد : اسم جرى على وجهين في كلامهم .
أحدهما : أن يكون
اسما.
والآخر : أن يكون
وصفا ، فالاسم قولهم في العدد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، فهذا اسم ليس بوصف ، كما
أنّ سائر أسماء العدد كذلك ، وأمّا كونه صفة ؛ فقولك : مررت برجل واحد ، وهذا شيء
واحد ، فإذا جرى هذا الاسم على الحقّ سبحانه وتعالى ، جاز أن يكون الذي هو الوصف
كالعالم والقادر ، وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولك شيء ويقوّي الأوّل قوله تعالى
: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ).
فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد
قال الجبّائيّ : وصف الله بأنّه واحد من وجوه أربعة : لأنّه ليس بذي
أبعاض ، ولا بذي أجزاء ؛ ولأنّه منفرد [بالقدم ؛ ولأنّه منفرد] بالإلهيّة ؛ ولأنه منفرد بصفات ذاته ؛ نحو كونه [عالما
بنفسه ، قادرا بنفسه.
قوله تعالى : «إلا
هو» : رفع «هو» على أنه] بدل من اسم «لا» على المحلّ ؛ إذ محلّه الرفع على الابتداء
، أو هو بدل من «لا» وما عملت فيه ، لأنّها وما بعدها في محلّ رفع بالابتداء ، وقد
تقدّم تقرير ذلك ، ولا يجوز أن يكون «هو» خبر «لا» التّبرئة ، لما تقرّر من أنّها
لا تعمل في المعارف ، بل الخبر محذوف ، أي : «لا إله لنا» هذا إذا فرّعنا على أنّ «لا»
المبنيّ معها اسمها عاملة في الخبر ، أمّا إذا جعلنا الخبر مرفوعا بما كان عليه
قبل دخول «لا» وليس لها فيه عمل وهو مذهب سيبويه فكان ينبغي أن يكون «هو» خبرا إلّا
__________________
أنّه منع منه كون
المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو ممنوع إلّا في ضرائر الشّعر في بعض الأبواب.
واستشكل الشّيخ
أبو حيّان كونه بدلا من «إله».
[قال : لأنّه لم
يمكن تكرير العامل ؛ لا نقول : «لا رجل إلّا زيد» والذي يظهر أنه ليس بدلا من «إله»
] ولا من «رجل» في قولك : «لا رجل إلّا زيد» ، إنما هو بدل من الضّمير
المستكنّ في الخبر [المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلّا زيد ، فالتقدير : «لا رجل
كائن ، أو موجود إلّا زيد» ، ف «زيد» بدل من الضمير المستكنّ في الخبر] لا من «رجل» ، فليس بدلا على موضع اسم «لا» ، وإنّما هو
بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، وذلك الضّمير هو عائد على اسم «لا» ، ولو لا تصريح
النّحويّين : أنّه بدل على الموضع من اسم «لا» ، لتأوّلنا كلامهم على ما تقدّم
تأويله.
قال شهاب الدين : والّذي قالوه غير مشكل ؛ لأنهم لم يقولوا : هو بدل من
اسم «لا» على اللّفظ ؛ حتى يلزمهم تكرير العامل ، وإنّما كان يشكل لو أجازوا
إبداله من اسم «لا» على اللّفظ ، وهم لم يجيزوا ذلك لعدم تكير العامل ، ولذلك
منعوا وجه البدل في قولهم «لا إله إلّا الله» وجعلوه انتصابا على الاستثناء ،
وأجازوه في قولك : «لا رجل في الدّار إلّا صاحبا لك» لأنّه يمكن فيه تكرير العامل.
قوله تعالى : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون
بدلا من «هو» بدل ظاهر من مضمر ، إلا أن هذا يؤدّي إلى البدل بالمشتقّات وهو قليل
؛ ويمكن أن يجاب بأنّ هاتين الصفتين جرتا مجرى الجوامد ولا سيّما عند من يجعل [الرّحمن] علما ، وقد تقدّم تحقيقه في «البسملة».
الثاني : أن يكون
خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الرّحمن ، وحسّن حذفه توالي اللفظ ب «هو» مرّتين.
الثالث : أن يكون
خبرا ثالثا لقوله : (وَإِلهُكُمْ) أخبر عنه بقوله : (إِلهٌ واحِدٌ) وبقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وبقوله : «الرّحمن الرّحيم» ، وذلك عند من يرى تعدّد الخبر
مطلقا.
الرابع : أن يكون
صفة لقوله «هو» ، و [ذلك] عند الكسائيّ ؛ فإنّه يجيز وصف الضّمير الغائب بصفة المدح
، فاشترط في وصف الضّمير هذين الشّرطين : أن يكون غائبا ، وأن تكون الصفة صفة مدح
؛ وإن كان ابن مالك أطلق عنه جواز وصف ضمير
__________________
الغائب ، ولا يجوز
أن يكون خبرا ل «هو» هذه المذكورة ؛ لأنّ المستثنى ليس بجملة.
فصل في سبب النّزول
قال ابن عبّاس :
سبب نزول هذه الآية أنّ كفّار قريش قالوا : يا محمّد ، صف وانسب لنا ربّك فأنزل
الله تعالى سورة الإخلاص ، وهذه الآية .
قال أبو الضّحى :
لمّا نزلت هذه الآية ، قال المشركون : إنّ محمّدا يقول : إلهكم إله واحد ، فليأتنا
بآية ، إن كان من الصّادقين ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [والمراد بالخلق
هنا المخلوق.
قال أبو مسلم : وأصل الخلق التقدير ؛ قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].
قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)
ذكر ابن جرير في
سبب نزول هذه الآية عن عطاء أيضا ما ذكرناه آنفا.
وعن سعيد بن مسروق
، قال : سألت قريش اليهود ، فقالوا : حدّثونا عمّا جاءكم به موسى ـ عليهالسلام ـ من الآيات. فحدّثوهم بالعصا وباليد البيضاء ، وسألوا
النّصارى عمّا جاءهم به عيسى ، فحدّثوهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ؛
فقالت قريش عند ذلك للنّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : ادع الله لنا أن يجعل الصّفا ذهبا ، فنزداد يقينا ،
ونتقوّى على عدوّنا [فسأل ربّه ذلك] فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ، ولكن إن كذّبوا بعده ،
عذّبتهم عذابا شديدا لا أعذّبه أحدا من العالمين فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام : ـ
ذرني وقومي ، أدعوهم يوما فيوما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبيّنا لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصّفا ذهبا
؛ ليزدادوا يقينا ؛ فخلق السّموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم وأكبر.
__________________
وقيل : لمّا نزل
قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) ، قالوا : هل من دليل على ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ؛ فبيّن لهم الدّليل وقد تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً وَالسَّماءَ) [البقرة : ٢٢].
قال البغوي : ذكر «السموات» بلفظ الجمع ، لأنّ كلّ سماء من جنس آخر ،
وأفرد الأرض ؛ لأن الأرضين كلّها من جنس واحد ، وهو التراب ، والآية في السّموات
سمكها وارتفاعها من غير عمد ، ولا علاقة ، وما يرى فيها من الشّمس ، والقمر ،
والنّجوم ، واختلاف أحوالها من الطّلوع ، والغروب ، وغير ذلك ، والآية من الأرض :
مدّها ، وبسطها وسعتها ، وما يرى فيها من الأشجار ، والأثمار ، والأنهار ، والجبال
، والبحار ، والجواهر ، والنبات ، وقد تقدّم طرف من هذا.
قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ذكروا للاختلاف تفسيرين :
أحدهما : أنّه
افتعال من قولهم : «خلفه يخلفه» إذا ذهب الأوّل ، وجاء الثّاني ، فاختلاف اللّيل
والنّهار تعاقبهما في الذّهاب والمجيء ؛ يقال : فلان يختلف إلى فلان ، إذا كان
يذهب إليه ويجيء من عنده ، فذهابه يخلف مجيئه ، ومجيئه يخلف ذهابه ، وكلّ شيء يجيء
بعد شيء آخر ، فهو خلفة ، وبهذا فسّروا قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ؛ ومنه قول زهير : [الطويل]
٨٦٢ ـ بها العين والأرآم يمشين خلفة
|
|
وأطلاؤها ينهضن
من كلّ مجثم
|
وقال آخر : [المديد]
٨٦٣ ـ ولها بالماطرون إذا
|
|
أكل النّمل
الّذي صنعا
|
خلفة حتّى إذا
ارتبعت
|
|
سكنت من جلّق
بيعا
|
الثاني : اختلاف
الليل والنهار ، في الطول والقصر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقصان.
__________________
قال الكسائي : «يقال
لكلّ شيئين اختلفا : هما خلفان».
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه ثالث ، [وهو] أنّ اللّيل والنهار كما يختلفان بالطّول والقصر في الأزمنة
، فهما يختلفان في الأمكنة فإنّ من يقول : إنّ الأرض كرة ، فكلّ ساعة عنيتها ،
فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح ، وفي موضع آخر ظهر ، وفي آخر عصر وفي آخر مغرب
، وفي آخر عشاء ، وهلمّ جرّا ، هذا إذا [اعتبرنا البلاد المختلفة في الطّول ، أما
البلاد المختلفة] في العرض ، فكلّ بلد يكون عرضه الشماليّ أكثر ، كانت
أيّامه الصيفيّة أطول ولياليه الصّيفيّة أقصر ، وأيّامه الشتويّة بالضّدّ من ذلك ،
فهذه الأحوال المختلفة في الأيّام واللّيالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر
عجيب مختلف.
وأيضا : فإنّ
إقبال الخلق في أوّل الليل على النّوم يشبه موت الخلائق عند النّفخة الأولى في
الصّور ، ويقظتهم آخر اللّيل يشبه عودة الحياة إليهم عند النّفخة الثانية ، وهذا
أيضا من الآيات العظيمة.
وأيضا : انشقاق
ظلمة الليل بظهور الصّبح المستطيل كأنّه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا
يتكدّر الصّافي بالكدر ، ولا الكدر الصافي ، وهو المراد بقوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً) [الأنعام : ٩٦].
قال علماء الهيئة : إنّ الموضع الذي يكون القطب فيه على سمت الرأس تكون
السّنة فيه [ستّة أشهر نهارا] وستّة أشهر ليلا ، وهناك لا يتمّ النّضج ، ولا يصلح لمسكن
الحيوان ولا يتهيأ فيه سبب من أسباب المعيشة.
فصل في أصل الليل
اختلفوا ؛ قيل :
الليل : اسم جنس ، فيفرق بين واحده وجمعه بتاء التأنيث ؛ فيقال : ليلة وليل ؛
كتمرة وتمر ، واللّيالي جمع الجمع ، والصحيح : أنّه مفرد ، ولا يحفظ له جمع ؛
وكذلك خطأ الناس من زعم أنّ «الليالي» جمع «ليل» ، بل الليالي جمع «ليلة» وهو جمع
غريب ، ولذلك قالوا : هو جمع «ليلاة» تقديرا ، وقد صرّح بهذا المفرد في قول
الشّاعر : [السريع أو الرجز]
٨٦٤ ـ في كلّ يوم ما وكلّ ليلاه
|
|
حتّى يقول كلّ
راء إذ رآه
|
__________________
يا ويحه من جمل ما أشقاه
ويدلّ على ذلك
تصغيرهم لها على «لييلة» ونظير «ليلة» و «وليال» : «كيكة وكياك» ؛ كأنّهم توهّموا
أنّها «كيكات» في الأصل ، والكيكة : البيضة.
وأمّا النّهار :
فقال الرّاغب : «هو في الشّرع : اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشّمس».
قال ابن فارس : «والنّهار»
: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال القرطبي : وهو الصحيح ؛ ويدلّ عليه ما ثبت في «صحيح مسلم» : عن
عديّ بن حاتم ، قال : لمّا نزلت : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧]
قال له عديّ : يا رسول الله ، إنّي جعلت تحت وسادتي عقالين ؛ عقالا أبيض ، وعقالا
أسود ، أعرف بهما اللّيل من النّهار ، فقال رسول الله ـ صلوات الله البرّ الرّحيم
وسلامه عليه ـ : «إنّ وسادك لعريض» يعني إنّما هو سواد الليل وبياض النهار ، وبهذا يقضي الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام.
وظاهر اللّغة أنّه
من وقت الإسفار.
وقال ثعلب والنّضر
بن شميل : «هو من طلوع الشّمس» زاد النّضر : ولا يعدّ ما قبل ذلك من النّهار.
وقال الزّجّاج : «أوّل
النّهار ذرور الشّمس».
ويجمع على نهر
وأنهرة ؛ نحو : قذال ، وقذل ، وأقذلة.
وقيل : لا يجمع ؛
لأنه بمنزلة المصدر ، [والصحيح : جمعه على ما تقدّم].
قال : [الرجز]
٨٦٥ ـ لو لا الثّريدان لمتنا بالضّمر
|
|
ثريد ليل ،
وثريد بالنّهر
|
وقد تقدّم اشتقاق
هذه المادّة ، وأنّها تدلّ على الاتّساع ، ومنه «النّهار» لاتّساع ضوئه
__________________
عند قوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥]
قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ. قال ابن فارس : ويقال : «إنّ [النّهار] فرخ الحبارى» وقدم اللّيل على النّهار لأنّه سابقه ؛ وقال
تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وهذا
أصحّ القولين.
وقيل : النّور
سابق الظلمة ، وينبني على هذا الخلاف فائدة ، وهي أنّ الليلة ، هل هي تابعة لليوم [قبلها
، أو لليوم بعدها.
فعلى الصّحيح :
يكون الليل لليوم بعدها ، فيكون اليوم تابعا لها ، وعلى الثاني : تكون لليوم قبلها
، فتكون اللّيلة تابعة له].
فيوم عرفة ؛ على
الأوّل : مستثنى من الأصل ؛ فإنّه تابع للّيلة الّتي بعده ، وعلى الثاني : جاء على
الأصل.
قال القرطبي : وقسّم ابن الأنباريّ الزّمن ثلاثة أقسام :
قسما جعله ليلا
محضا ؛ وهو من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر ، وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع
الشّمس إلى غروبها ، وقسما جعله مشتركا بين النّهار واللّيل ؛ وهو من طلوع الفجر
إلى طلوع الشّمس ؛ لبقايا ظلمة اللّيل ، [ومبادىء ضوء النّهار].
قوله تعالى : «والفلك»
عطف على «خلق» المجرور ب «في» لا على «السّموات» المجرور بالإضافة ، و «الفلك»
يكون واحدا ؛ كقوله : (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] ، وجمعا
كقوله : (فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فإذا أريد به الجمع ، ففيه أقوال :
أصحّها ـ وهو قول
سيبويه ـ : أنّه جمع تكسير ، وإن قيل : جمع التكسير لا بدّ فيه من
تغيّر ما ، فالجواب : أنّ تغييره مقدّر ، فالضمة في حال كونه جمعا ، كالضمة في «حمر»
و «ندب» وفي حال كون مفردا ، كالضّمّة في «قفل» ، وإنّما حمل سيبويه على هذا ، ولم
يجعله مشتركا بين الواحد والجمع ؛ نحو : «جنب» و «شلل» [فلمّا ثنّوه ، وقالوا :
فلكان ، علمنا] أنّهم لم يقصدوا الاشتراك الّذي قصدوه في «جنب» و «شلل»
ونظيره ناقة هجان ونوق هجان ، ودرع دلاص ، ودروع دلاص ، فالكسرة في المفرد كالكسرة
في «كتاب» وفي الجمع كالكسرة في «رجال» ؛ لأنهم قالوا في التّثنية : هجانان ودلاصان.
الثاني : مذهب
الأخفش : أنّه اسم جمع ، كصحب ، وركب.
الثالث : أنّه جمع
«فلك» بفتحتين ، كأسد وأسد ، واختار أبو حيّان أنه مشترك بين
__________________
الواحد والجمع ،
وهو محجوج بما تقدّم من التثنية ، ولم يذكر لاختياره وجها ، وإذا أفرد «فلك» ، فهو
مذكّر ؛ قال تعالى : (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١]. وقال
جماعة ، منهم أبو البقاء : يجوز تأنيثه ؛ مستدلّين بقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) فوصفه بصفة التأنيث ، ولا دليل في ذلك ؛ لاحتمال أن يراد
به الجمع ؛ وحينئذ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحدة.
قال الواحديّ : وأصله من الدّوران ، فكل مستدير فلك ، ومنه «فلك السّماء»
؛ لدوران النّجوم فيه ، و «فلكة المغزل» [وفلكت الجارية : استدار نهدها] ، وسمّيت السّفينة فلكا لأنّها تدور بالماء أسهل دور.
وجاء بصلة «الّتي»
فعلا مضارعا ؛ ليدلّ على التجدّد والحدوث ، وإسناد الجري إليها مجاز ، وقوله : (فِي الْبَحْرِ) توكيد ؛ إذ المعلوم أنّها تجري في غيره ؛ كقوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].
فصل في عدد البحور
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله ـ قيل : إنّ البحور المعروفة [خمسة] : بحر الهند ، وهو بحر
الصّين ، وبحر المغرب ، وبحر الشّام ، وبحر الرّوم [ومصر] وبحر نيطش وبحر جرجان.
فالأوّل يمتدّ
طوله [من المغرب إلى المشرق] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند ، ويخرج منه
خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر ، يسمّى البربريّ ، وخليج بحر أيلة ،
وهو بحر القلزم ، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض
الحبشة ، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران ، وعلى
غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة ، وخليج فارس الحجاز واليمن ، وبلاد
المغرب وخليج رابع إلى أقصى الهند يسمّى الأخضر ، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة
وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال
وأنهار ، ومنها يخرج الياقوت الأحمر.
وأمّا بحر المغرب
، فهو المحيط ويسمّيه اليونانيّون : أوقيانوس ، ويتّصل به بحر الهند ، وطرفه في
ناحية المغرب والشمال محاذيا لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذيا لأرض
السّودان مارّا على [حدود السّوس ، وطنجة وتاهرت] ، ثم الأندلس والجلالقة
والصّقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو
بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السّفن إلا بقرب ساحله ، وفيه
__________________
ستّ جزائر تسمى
الخالدات ، تقابل أرض الحبشة ، ويخرج منه خليج عظيم يمتد إلى أرض بلغار.
وأما بحر الرّوم
وإفريقية [ومصر والشّام :] فيخرج منه إلى أرض البربر ، وفي هذا البحر مائة واثنتان
وستّون جزيرة.
وأما بحر نيطش :
فيمتدّ من اللاذقيّة إلى خلف قسطنطينيّة ، وأرض الرّوم والصّقالبة.
وأمّا بحر جرجان ،
ويعرف ب «بحر السّكون» فيمتدّ إلى طبرستان والدّيلم ، وباب الأبواب ، وليس يتصل
ببحر آخر ، فهذه هي [البحور] العظام ، وأما غيرها : فهي بطائح ؛ كبحيرة خوارزم ،
وبحيرة طبريّة.
فصل في سبب تسمية البحر بالبحر
قال اللّيث : سمي
البحر بحرا ؛ لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ، ويقال : استبحر فلان [في العلم] ، إذا اتّسع فيه ؛ وتبحّر الرّاعي في الرّعي كثر ، وتبحّر
فلان في المال.
وقال غيره : سمّي
البحر بحرا ؛ لأنّه شقّ في الأرض ، والبحر الشّقّ ، ومنه البحيرة .
قوله تعالى : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ). [في «ما» قولان :
أحدهما : أنها
موصولة اسميّة ؛ وعلى هذا : الباء للحال ، أي : تجري مصحوبة بالأعيان الّتي تنفع
النّاس.
الثّاني : أنها] حرفيّة ، وعلى هذا تكون الباء للسّبب ، أي : تجري بسبب نفع
النّاس في التّجارة وغيرها.
فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع
فأما كيفيّة
الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصّانع تعالى وتقدّس :
فهو أنّ السّفن ،
وإن كانت من تركيب النّاس إلّا أنّه تعالى [هو الّذي] خلق الآلات الّتي يمكن بها تركيب هذه السّفن ، وتبحر بها
الرياح ، وقوّى قلوب من ركبها ، وخصّ كلّ طرف من أطراف العالم بشيء معيّن ، وأحوج
الكلّ إلى الكلّ ؛ حتّى صار ذلك داعيا يدعوهم إلى اقتحام هذه الأخطار في هذه
الأسفار ، وسخّر البحر لحمل الفلك ، مع قوّة سلطان البحر إذا هاج ، وعظم هوله ،
واضطربت أمواجه ، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يخلّص
السّفن عنها ويوصّلها إلى ساحل السّلامة ، وهذا امر
__________________
لا بد له من مدبّر
يدبّره ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة
الاكتساب ، والتّجارة ؛ لقوله : (بِما يَنْفَعُ
النَّاسَ).
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج ،
لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزّمن الذي الأغلب فيه
عدم السّلامة ؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن يكون الغالب فيه السلامة ـ [نقله
القرطبيّ ].
قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ) [البقرة : ١٦٤] [«من»]
الأولى معناها ابتداء الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، وأما الثانية فتحتمل
ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
لبيان الجنس فإنّ المنزل من السّماء ماء وغيره.
والثاني : أن تكون
للتّبعيض ؛ فإنّ المنزل منه بعض لا كلّ.
والثالث : أن تكون
هي وما بعدها بدلا من قوله : (مِنَ السَّماءِ) بدل اشتمال بتكرير العامل ، وكلاهما أعني «من» الأولى ، و
«من» الثانية متعلّقان ب «أنزل».
فإن قيل : كيف
تعلّق حرفان متّحدان بعامل واحد؟
فالجواب : أنّ
الممنوع من ذلك أن يتّحدا معنى من غير عطف ، ولا بدل ، لا تقول : أخذت من الدّراهم
من الدّنانير ، وأمّا الآية الكريمة : فإنّ المحذور فيها منتف ، وذلك أنّك إن جعلت
«من» الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهر ؛ لاختلاف معناهما ؛ فإنّ الأولى
للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدل ، والبدل يجوز ذلك فيه
، كما تقدّم ، ويجوز أن تتعلّق «من» الأولى بمحذوف على أنّها حال ؛ إمّا من
الموصول نفسه ، وهو «ما» ، أو من ضميره المنصوب ب «أنزل» ، أي : وما أنزل الله حال
كونه كائنا من السّماء.
فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالّة على وجود الصانع
قيل : أراد
بالسّماء السّحاب ؛ فإنّ كلّ ما علاك يسمّى سماء ، ومنه قيل : سقف البيت سماؤه ،
وقيل : أراد السّماء المعروفة ، وأنّه ينزل من السّماء إلى السّحاب ، ومن السحاب
إلى الأرض ، وفي دلالة إنزال الماء من السّماء على وجود الصّانع : أنّ جسم الماء ،
وما قام به من صفات الرّقّة ، والرّطوبة ، واللّطافة والعذوبة ، وجعله سببا لحياة
الإنسان ، ولأكثر [منافعه] ، وسببا لرزقه ، وكونه من السحاب معلّقا في جوّ السّماء ،
وينزل عند التضرّع ، واحتياج الخلق إليه ـ مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميّت ،
فيحيي به
__________________
ـ من الآيات
العظيمة الدّالّة على وجود الصانع المدبّر القدير.
قوله تعالى : «فأحيا
به» عطف «أحيا» على «أنزل» الّذي هو صلة بفاء التّعقيب ، دلالة على سرعة النبات ، و
«به» متعلّق ب «أحيا» والباء يجوز أن تكون للسّبب ، وأن تكون باء الإله ، وكلّ هذا
مجاز ؛ فإنّه متعال عن ذلك ، والضمير في «به» يعود على الموصول.
فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع
اعلم أنّ «أحيا
الأرض بعد موتها» يدلّ على وجود الصانع من وجوه :
[فإنّ نفس الزّرع
وخروجه على هذا الحدّ ليس في مقدور أحد.
واختلاف ألوانه
على وجه] [لا يحدّ ، ولا
يحصى] ، واختلاف الطّعوم والروائح ، مع كونه يسقى بماء واحد.
واستمرار العادة
بذلك في أوقات مخصوصة ، فإنّ ظهور النّبات من الكلأ ، والعشب ، وغيرهما ، لولاه ما
عاش دوابّ الأرض ، ولما حصلت أقوات العباد [وملابسهم].
وهذا لا بدّ له من
[مدبّر] ، حكيم ، قادر.
ووصف الأرض
بالحياة بعد الموت مجاز ؛ لأنّ الحياة لا تصحّ إلّا على من يدرك ، ويصحّ أن يعلم ،
وكذلك الموت ؛ إلّا أنّ الجسم ، إذا صار حيّا ، حصل فيه أنواع من الحسن ، والنّضرة
، [والبهاء] ، والنّماء ، فكذلك الأرض ، لمّا حصل لها سبب النبات ، حسن
، ونضرة ، ونور ، ورونق ، وذلك لشبهه [بالحياة] ، وموتها [يبسها ، وجدبها] ، وهذا مجاز
أيضا ؛ لشبهه بالموت.
قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها) يجوز في «بثّ» وجهان :
أظهرهما : أنّها
عطف على «أنزل» داخل تحت حكم الصّلة ؛ لأنّ قوله «فأحيا» عطف على «أنزل» فاتصل به
، وصارا جميعا كالشّيء الواحد ، وكأنه قيل : «وما أنزل في الأرض من ماء ، وبثّ
فيها من كلّ دابّة ؛ لأنّهم ينمون بالخصب ، ويعيشون بالحيا» قاله الزمخشري .
والثاني : أنه عطف
على «أحيا».
واستشكل أبو حيّان
عطفه [عليها ؛ لأنّها صلة للموصول ، فلا بدّ من ضمير يرجع
__________________
من هذه الجملة
إليه ، وليس ثمّ ضمير في اللّفظ] ؛ لأن «فيها» يعود على الأرض ، فبقي أن يكون محذوفا ،
تقديره : وبثّ به فيها ، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرور بحرف إلا بشروط :
أن يكون الموصول
مجرورا بمثل ذلك الحرف.
وأن يتّحد
متعلّقهما.
وألّا يحصر
الضّمير.
وأن يتعيّن
للرّبط.
وألا يكون الجارّ
قائما مقام مرفوع.
والموصول هنا غير
مجرور ألبتّة ، ولمّا استشكل هذا بما ذكر ، خرّج الآية على حذف موصول اسميّ ؛ قال
: وهو جائز شائع في كلامهم ، وإن كان البصريّون لا يجيزونه ؛ وأنشد شاهدا عليه : [الخفيف]
٨٦٦ ـ ما الّذي دأبه احتياط وحزم
|
|
وهواه أطاع
يستويان
|
أي : والّذي أطاع
؛ وقوله : [الوافر]
٨٦٧ ـ أمن يهجو رسول الله منكم
|
|
ويمدحه وينصره
سواء
|
أي : ومن [يمدحه]
وينصره.
وقوله : [الطويل]
٨٦٨ ـ فو الله ، ما نلتم وما نيل منكم
|
|
بمعتدل وفق ولا
متقارب
|
أي : «ما الّذي
نلتم» ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [أي : وبالّذي
أنزل إليكم] ؛ ليطابق قوله : (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] ،
ثم قال : وقد يتمشّى التقدير الأوّل ـ يعني : جواز الحذف ـ وإن لم يوجد شرطه. قال
: وقد جاء ذلك في أشعارهم ؛ وأنشد : [الطويل]
٨٦٩ ـ وإنّ لساني شهدة يشتفى بها
|
|
وهوّ على من
صبّه الله علقم
|
__________________
أي : علقم عليه ،
وقوله : [الطويل]
٨٧٠ ـ لعلّ الّذي أصعدتني أن يردّني
|
|
إلى الأرض إن لم
يقدر الخير قادره
|
أي : أصعدتني به.
[قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) يجوز في «كلّ» ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
في موضع المفعول به] ، وتكون «من» تبعيضيّة.
الثاني : [أن تكون
«من» زائدة على مذهب الأخفش ، و «كلّ دابّة» مفعول به ل «بثّ» أيضا.
والثالث] : أن يكون في محلّ نصب على الحال من مفعول «بثّ» المحذوف ،
إذا قلنا : إنّ ثمّ موصولا محذوفا ، تقديره : وما بثّ حال كونه كائنا من كلّ دابّة
؛ وفي «من» حينئذ وجهان :
أحدهما : [أن تكون
للبيان.
والثاني] : أن تكون للتبعيض.
وقال أبو البقاء رحمهالله : ومفعول «بثّ» محذوف ، تقديره : «وبثّ فيها دوابّ من كلّ
دابّة» وظاهر هذا أنّ «من كلّ دابّة» : صفة لذلك المحذوف ، [وهو تقدير لا طائل
تحته].
والبثّ : نشر
وتفريق.
قال : [الطويل]
٨٧١ ـ ..........
|
|
وفي الأرض
مبثوثا شجاع وعقرب
|
ومضارعه : يبثّ ،
بضم العين ، وهو قياس المضاعف [المتعدّي] ، وقد جاء الكسر في أليفاظ ؛ قالوا : «نمّ
الحديث ينمّه» بالوجهين.
والدّابّة : اسم
لكلّ حيوان ، وزعم بعضهم إخراج الطّير منه ، وردّ [عليه] بقول علقمة : [الطويل]
٨٧٢ ـ كأنّهم صابت عليهم سحابة
|
|
صواعقها لطيرهنّ
دبيب
|
__________________
ويقول الأعشى : [الطويل]
٨٧٣ ـ ..........
|
|
دبيب قطا
البطحاء في كلّ منهل
|
وبقوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) [النور : ٤٥] ثمّ
فصّل : بمن يمشي على رجلين ، وهو الإنسان والطّير.
فصل في أنّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع
اعلم أنّ حدوث
الحيوانات قد يكون بالتّوليد ، وقد يكون بالتّوالد :
وعلى التقديرين :
فلا بدّ فيهما من [الافتقار إلى] الصّانع الحكيم ؛ يروى أنّ رجلا قال عند عمر بن الخطّاب ـ رضي
الله عنه ـ : إنّي لأتعجّب من أمر الشّطرنج ، فإنّ رقعته ذراع في ذراع ، وإنّه لو
لعب الإنسان ألف ألف مرّة ، فإنّه لا يتّفق مرّتان على وجه واحد ، فقال عمر بن
الخطّاب ـ رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين ـ : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو
أنّ مقدار الوجه شبر [في شبر] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه ؛ كالحاجبين ،
والعينين ، والأنف ، [والفم] ، لا يتغيّر ألبتّة ، ثم إنّك لا ترى شخصين في الشّرق
والغرب يشتبهان في الصّورة ، وكذا اللّون ، والألسنة ، والطّبائع ، والأمزجة ،
والصّوت ، والكثافة ، واللّطافة ، والرّقّة ، والغلظ ، والطّول ، والقصر ، وبقيّة
الأعضاء ، والبلادة ، والفطنة ، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه
الرّقعة الصّغيرة هذه الاختلافات الّتي لا حدّ لها!
وروي عن عليّ بن
أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ [أنه قال] : «سبحان من أبصر بشحم ، وأسمع بعظم ،
وأنطق بلحم» .
واعلم أنّ أهل
الطبائع ؛ قالوا : أعلى العناصر يجب أن يكون هو النّار ؛ لأنّها حارّة يابسة ،
ودونها في اللّطافة : الهواء ، وهو حارّ رطب ، ودونها : الماء ؛ لأنّه بارد رطب ،
والأرض لا بدّ أن تكون تحت الكلّ ؛ لثقلها ، وكثافتها ، [ويبسها] ، ثمّ إنّهم
قلبوا هذه القضيّة في [تركيب] بدن الإنسان ؛ لأنّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف ،
والعظم وهو بارد يابس ، فطبيعته على طبيعة الأرض ، وتحته الدّماغ ، وهو بارد رطب
على طبع الماء ، وتحته النّفس ، وهو حارّ رطب على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلب
، وهو حارّ يابس
__________________
على طبع النّار ،
فسبحان من [بيده قلب] الطبائع ، وترتيبها كيف يشاء ، وتركيبها كيف أراد.
ومن هذا الباب :
أنّ كلّ صانع يأتي بنقش لطيف ، فإنّه يصونه عن التّراب ؛ لئلّا يكدّره ، وعن النار
؛ لئلّا تحرقه ، وعن الهواء ؛ لئلّا يغيره ، وعن الماء ؛ لئلا تذهب به ، ثم إنّه
سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ؛ فقال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] ،
وقال في النار : (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٥] وقال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها
مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١]
وقال تعالى في الماء : (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ؛
وهذا يدلّ على أن صنعه بخلاف صنع كلّ أحد ؛ وأيضا : انظر إلى الطّفل بعد انفصاله
من أمّه ، لو وضعت على فمه وأنفه ثوبا [فانقطع نفسه] ، لمات في الحال ، ثمّ إنه بقي في الرّحم المنطبق مدّة [مديدة]
، مع تعذّر النّفس هناك ، ولم يمت ، [ثم إنّه] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء
، وأبعدها عن الفهم ؛ بحيث لا يميز بين الماء والنّار ، وبين الأم وغيرها ، وبعد
استكماله يصير أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أنّ ذلك من عظمة
القادر الحكيم ، هذا بعض ما في الإنسان.
وأمّا الكلام على
بقيّة الحيوان ، فبحر لا ساحل له.
قوله تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : «تصريف» : مصدر «صرّف» ، وهو الرّدّ والتّقليب ، ويجوز
أن يكون مضافا للفاعل ، والمفعول محذوف ، تقديره : [وتصريف الرّياح السّحاب ؛
فإنّها تسوق السّحاب ، وأن يكون مضافا للمفعول ، والفاعل محذوف ، أي :] وتصريف الله الرّياح ، والرّياح : جمع «ريح» ، جمع تكسير ،
وياء الرّيح ، والرّياح عن واو ، والأصل «روح» ؛ لأنّه من : راح يروح ، وإنّما
قلبت في «ريح» ؛ لسكونها ، وانكسار ما قبلها ، وفي «رياح» ؛ لأنّها عين [في جمع]
بعد كسرة ، وبعدها ألف ، وهي ساكنة في المفرد ، وهي إبدال مطّرد ؛ ولذلك لمّا زال
موجب [قلبها ، رجعت إلى أصلها] ؛ فقالوا : أرواح ؛ قال : [الطويل]
٨٧٤ ـ أربّت بها الأرواح كلّ عشيّة
|
|
فلم يبق إلّا آل
خيم منضّد
|
ومثله : [الوافر]
٨٧٥ ـ لبيت تخفق الأرواح فيه
|
|
أحبّ إليّ من
قصر منيف
|
__________________
فصل في لحن من قال : الأرياح
وقد لحن عمارة بن
بلال ، فقال «الأرياح» في شعره ، فقال له أبو حاتم : «إنّ الأرياح لا تجوز» فقال
له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح؟ فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال : صدقت ،
ورجع.
قال أبو حيّان :
وفي محفوطي قديما ؛ أنّ «الأرياح» جاء في شعر بعض فصحاء العرب المستشهد بكلامهم ،
كأنّهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علّة القلب مفقودة في الجمع ، كما قالوا : «عيد
وأعياد» والأصل «أعواد» ؛ لأنّه من : «عاد يعود» ، لكنه لما ترك البدل ، جعل
كالحرف الأصليّ.
قال شهاب الدّين :
ويؤيد ما قاله الشّيخ أن التزامهم «الياء» في «الأرياح» ؛ لأجل اللّبس [بينه ،
وبين «أرواح» جمع «روح» ، كما قالوا : التزمت الياء في «أعياد» ؛ فرقا] بينه وبين «أعواد» جمع عود الحطب ؛ كما قالوا في التصغير :
«عبيد» دون «عويد» ؛ وعلّلوه باللّبس المذكور.
وقال أبو عليّ : [يجمع]
في القليل «أرواح» وفي الكثير «رياح» .
قال ابن الخطيب وابن عطيّة : «وجاءت في القرآن مجموعة مع الرّحمة ، مفردة
مع العذاب ، إلّا في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ
بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] وهذا
أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : «اللهمّ ، اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا»
؛ لأنّ ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء ، كأنّها جسم واحد ، وريح الرّحمة ليّنة
متقطّعة ، وإنما أفردت مع الفلك ـ يعني في يونس ـ لأنّها لإجراء السّفن ، وهي
واحدة متّصلة ؛ ثمّ وصفت بالطّيّبة ، فزال الاشتراك بينها ، وبين ريح العذاب».
انتهى.
وردّ بعضهم هذا ؛
باختلاف القرّاء في اثني عشر موضعا في القرآن ، وهذا لا يردّه لأنّ من جمع في
الرّحمة ، فقد أتى بالأصل المشار إليه ، ومن أفرد في الرّحمة ، فقد أراد الجنس ، [وأما
الجمع في العذاب ، فلم يأت أصلا] ، وأما الإفراد فإن وصف ، كما في يونس من قوله : «بريح
طيّبة» فإنّه مزيل للّبس ، وإن أطلق ، كان للعذاب ، كما في الحديث ، وقد تختصّ
اللفظة في القرآن بشيء ، فيكون أمارة له ، فمن ذلك : أن عامّة ما في القرآن من
قوله : (يُدْرِيكَ) [الشورى : ١٧] مبهم غير مبيّن ، قال تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] وما
كان من لفط «أدراك» فإنّه مفسّر ؛ كقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما
هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١٠ ـ ١١].
__________________
وقرأ حمزة ، والكسائيّ هنا «الرّيح» بالإفراد ، والباقون بالجمع ، فالجمع لاختلاف أنواعها : جنوبا ودبورا وصبا وغير
ذلك ، وإفرادها على إرادة الجنس ، وكلّ ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام ، اتفق
القرّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام ، اختلفوا في جمعها ، وتوحيدها ، إلّا
الرّيح العقيم في سورة الذّاريات [٤١] ، اتفقوا على توحيدها ، والحرف الأوّل من
سورة الرّوم (الرِّياحَ
مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦]
اتفقوا على جمعها ، والرّياح : تذكّر ، تؤنّث.
فصل في بيان تصريف الرياح
وأمّا تصريفها : فإنها
تصرّف إلى الشّمال والجنوب والقبول والدّبور ، وما بين كلّ واحد من هذه المهابّ ،
فهي نكباء ، وقيل في تصريفها : إنها تارة تكون ليّنة ، وتارة تكون عاصفة ، [وتارة
حارّة] ، وتارة باردة .
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله تعالى عنهما ـ : أعظم جنود الله تعالى الرّيح ، والماء ، وسمّيت الرّيح ريحا
؛ لأنها تريح النفوس .
قال القاضي شريح :
ما هبّت ريح إلّا لشفاء سقيم ، ولسقم صحيح . والبشارة في ثلاث من الرّياح : في الصّبا ، والشّمال ،
والجنوب ، وأمّا الدّبور ، فهي : الرّيح العقيم ، لا بشارة فيها.
وقيل : الرّياح ثمانية : أربعة للرّحمة : المبشرات ، والنّاشرات
، والذّاريات ، والمرسلات ، وأربعة للعذاب : العقيم ، والصّرصر في البرّ ، والعاصف
والقاصف في البحر.
روى أبو هريرة ـ رضي
الله تعالى عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم [وشرّف ، وكرّم ،
ومجدّ ، وبجّل ، وعظّم :] «الرّيح من روح الله عزوجل» .
[قال أبو سلمة ـ رضي
الله تعالى عنه ـ : فروح الله سبحانه وتعالى] تأتي
__________________
بالرّحمة ، وتأتي
بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها واسألوا الله من خيرها ، واستعيذوا بالله من
شرّها.
قال ابن الأعرابيّ
: النّسيم أوّل هبوب الريح.
فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية
فأما وجه
الاستدلال بها على وحدانيّة الله تعالى الصّانع ، فإنّه صرّفها على وجوه النّفع
العظيم في الحيوان ، فإنّها مادّة النّفس الّذي لو انقطع ساعة عن الحيوان ، لمات.
قيل : إنّ كلّ ما
كانت الحاجة إليه أشدّ ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء
أعظم الحاجات ؛ حتى لو انقطع عنه لحظة ، لمات ؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان
كلّ شيء.
وبعد الهواء الماء
؛ لأنّ الحاجة إلى الماء أيضا شديدة ؛ فلا جرم أيضا سهل وجدان الماء ، ولكنّ وجدان
الهواء أسهل ؛ لأنّ الماء لا بدّ فيه من تكلّف الاغتراف ، بخلاف الهواء ؛ فإنّ
الآلات المهيئة لجذبه حاضرة أبدا.
ثم بعد الماء :
الحاجة إلى الطّعام شديدة ، ولكن دون الحاجة إلى الماء ؛ فلا جرم كان تحصيل
الطّعام أصعب من تحصيل الماء ؛ لأنّه يحتاج إلى تكلّف أكثر ، والمعاجين والأدوية
تقلّ الحاجة إليها ؛ فلا جرم عسرت وقلّت ، ولمّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى
، نرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلّ شيء ، ولو لا تحرّك الرياح ، لما جرت
الفلك ، وذلك ممّا لا يقدر عليه أحد إلّا الله تعالى ، فلو أراد كلّ من في العالم
أن يقلب الرياح من الشّمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكنا ، أن يحركه ، لم
يقدر على ذلك.
قوله تعالى : «والسّحاب»
اسم جنس ، واحدته «سحابة» [سمّي بذلك] ؛ لا نسحابه في الهواء ؛ كما قيل له «حبا»
لأنّه يحبو ، ذكره أبو عليّ.
قال القرطبيّ :
ويقال : سحبت ذيلي سحبا ، وتسحّب فلان على فلان ؛ والسّحب شدة
الأكل والشّرب ؛
وباعتبار كونه اسم جنس ، وصفه بوصف الواحد المنكّر في قوله : «المسخّر» كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ولما
اعتبر معناه تارة أخرى ، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله : (سَحاباً ثِقالاً) ويجوز أن يوصف بما توصف به المؤنّثة الواحدة ؛ كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧]
وهكذا : كلّ اسم جنس فيه لغتان : التذكير باعتبار اللّفظ ، والتأنيث باعتبار
المعنى.
والتّسخير :
التذليل ، وجعل الشّيء داخلا تحت الطّوع ، وقال الرّاغب : هو القهر على الفعل ،
وهو أبلغ من الإكراه.
قوله تعالى : (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في «بين» قولان :
أحدهما : أنه
منصوب بقوله : «المسخّر» فيكون ظرفا للتّسخير.
والثاني : أن يكون
حالا من الضّمير المستتر [في اسم المفعول] ؛ فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا بين السّماء والأرض ، و «لآيات»
اسم «إنّ» ، والجارّ خبر مقدّم ، ودخلت اللّام على الاسم ؛ لتأخّره عن الخبر ، ولو
كان موضعه ، لما جاز ذلك فيه.
وقوله : «لقوم» :
في محلّ نصب ، لأنّه صفة ل «آيات» ، فيتعلّق بمحذوف ، وقوله : «يعقلون» : الجملة
في محلّ جرّ ؛ لأنّها صفة ل «قوم» ، والله أعلم.
فصل في تفسير «السّحاب»
روى ابن عبّاس عن
كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ قال : «السّحاب غربال المطر ، لو لا السّحاب حين
ينزل الماء من السّماء ، لأفسد ما يقع عليه من الأرض».
وقال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ : سمعت كعبا ، يقول : إنّ الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت نباتا عاما
قابلا غيره ، وسمعته يقول : إنّ البذر ينزل من السّماء مع المطر ، فيخرج في الأرض .
فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله
في الاستدلال
بتسخير السّحاب على وحدانيّة الصّانع : أنّ طبع الماء ثقيل يقتضي النّزول فكان
بقاؤه في جوّ الهواء على خلاف الطّبع ، فلا بدّ من قادر قاهر ، يقهر على ذلك ،
فلذلك سمّاه بالمسخّر ، وأيضا : فإنّه لو دام ، لعظم ضرره من حيث إنّه يستر ضوء
الشّمس ، ويكثر [الأمطار ، والابتلال] ، ولو انقطع ، لعظم ضرره ؛ لأنّه يفضي إلى القحط وعدم
العشب ، والزراعة ؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة ، ويزول
عند زوال الحاجة بتقدير مقدّر قاهر أيضا ؛ فإنّه لا يقف في موضع معيّن ، بل الله
تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرّياح إلى حيث شاء وأراد ، وذلك هو التّسخير.
روى مسلم عن أبي
هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : بينما رجل بفلاة من الأرض ، فسمع صوتا من سحابة
: اسق حديقة فلان ، فتنحّى ذلك السّحاب ، فأفرغ ماءه في جرّة ، فإذا بشرجة من تلك
الشّراج ، قد استوعبت ذلك الماء كلّه ، فتتبّع الماء ، فإذا رجل قائم في حديقته
يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ،
__________________
ما اسمك؟ قال :
فلان ؛ للاسم الذي سمع من السّحاب ، فقال له : يا عبد الله ، لم تسألني عن اسمي؟
فقال : إني سمعت صوتا من السّحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان لاسمك ،
فماذا تصنع؟ قال : أمّا إذا قلت هذا ، فإنّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدّق بثلثه
، وآكل أنا وعيالي ثلثا وأردّ فيها ثلثه.
وفي رواية : وأجعل
ثلثه للمساكين ، والسّائلين ، وابن السّبيل .
قوله : «يعقلون» ،
أي : يعلمون لهذه الأشياء خالقا وصانعا.
قال القاضي : دلت الآية على أنّه لو كان الحقّ يدرك بالتقليد ، واتباع
الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صحّ قوله : «لآيات لقوم يعقلون» ، وأيضا
: لو كانت المعارف ضروريّة ، وحاصلة بالإلهام ، لما صحّ وصف هذه الأمور بأنّها
آيات ؛ لأنّ المعلوم بالضّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
قال وهب بن منبّه
: ثلاثة لا يدرى من أين يجيء : الرّعد ، والبرق ، والسّحاب .
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ
الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)
اعلم : أنه ،
سبحانه وتعالى ، لمّا قرّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة ، أردفه بتقبيح ما
يضاده ؛ لأنّ تقبيح ضد الشيء مما يؤكّد حسن الشّيء.
قال الشاعر : [الكامل]
٨٧٦ ـ ..........
|
|
وبضدّها تتبيّن
الأشياء
|
وقالو أيضا :
النّعمة مجهولة ، فإذا فقدت عرفت ، والنّاس لا يعرفون قدر الصّحّة ، فإذا مرضوا ،
ثم عادت الصحّة إليهم ، عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النّعم ، فلهذا السّبب
أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدّالّة على التّوحيد بهذه الآية الكريمة.
قوله تعالى : (مَنْ يَتَّخِذُ) «من» : في محلّ
رفع بالابتداء ، وخبره الجارّ قبله ، ويجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون
موصولة.
والثاني : أن تكون
موصوفة.
فعلى الأوّل : لا
محلّ للجملة بعدها. وعلى الثاني : محلّها الرّفع ، أي : فريق ، أو
__________________
شخص متّخذ ، وأفرد
الضمير في «يتّخذ» ؛ حملا على لفظ «من» و «يتّخذ» : يفتعل ، من «الأخذ» ، وهي
متعدّية إلى واحد ، وهو «أندادا».
قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) : متعلّق ب «يتّخذ» ، والمراد ب «دون» [هنا «غير»] ، وأصلها أن تكون ظرف مكان ، نادرة التصرّف ، وإنما أفهمت
معنى «غير» ؛ مجازا ؛ وذلك أنّك إذا قلت : «اتّخذت من دونك صديقا» ، أصله : اتخذت
من جهة ومكان دون جهتك ، ومكانك صديقا ، فهو ظرف مجازيّ ، وإذا كان المكان المتّخذ
منه الصديق مكانك وجهتك منحطّة عنه ، ودونه ؛ لزم أن يكون غيرا ؛ [لأنه ليس إيّاه
، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، مع كونه غيرا] ، فصارت دلالته على الغيريّة بهذا الطريق ، لا بطريق الوضع
لغة ، وتقدّم تقرير شيء من هذا أوّل السّورة.
فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد
اختلفوا في «الأنداد»
، فقال أكثر المفسّرين : هي الأوثان التي اتّخذوها آلهة ، ورجوا من عندها النفع
والضّرّ ، وقصدوها بالمسائل ، وقرّبوا لها القرابين ؛ فعلى هذا : الأصنام بعضها لبعض
أنداد أي أمثال ، والمعنى : أنّها أنداد لله تعالى ؛ بحسب ظنونهم الفاسدة.
وقال السّدّيّ :
إنّها السّادة الّذين كانوا يطيعونهم ، فيحلون لمكان طاعتهم في أنّهم يحلّون ما
حرّم الله ، ويحرّمون ما أحلّ الله ؛ ويدلّ على هذا القول وجوه :
الأوّل : ضمير
العقلاء في «يحبّونهم».
والثاني : يبعد
أنّهم كانوا يحبّون الأصنام كحبّ الله تعالى ، مع علمهم بأنها لا تضر ، ولا تنفع.
الثالث : قوله بعد
هذه الآية : (إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦] ؛
وذلك لا يليق إلّا بالعقلاء.
وقال الصّوفية : كلّ شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في
قلبك ندّا لله تعالى ؛ ويدلّ عليه قوله تبارك وتعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) [الجاثية : ٢٣].
قوله تعالى : «يحبّونهم»
في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
في محلّ رفع ؛ صفة ل «من» في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها ؛ باعتبار
المعنى ، بعد اعتبار اللّفظ في «يتّخذ».
__________________
والثاني : أن تكون
في محلّ نصب ؛ صفة ل «أندادا» ، والضمير المنصوب يعود عليهم ، والمراد بهم الأصنام
؛ وإنّما جمعوا جمع العقلاء ؛ [لمعاملتهم له معاملة العقلاء ، أو يكون المراد بهم
: من عبد من دون الله من العقلاء] وغيرهم ، ثم غلب العقلاء على غيرهم.
قال ابن كيسان ،
والزّجّاج : معناه : كحبّ الله ، أي : يسوّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى
في المحبّة .
قال أبو إسحاق :
وهذا القول الصحيح ؛ ويدلّ عليه قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) نقله القرطبيّ .
الثالث : أن تكون
في محل نصب على الحال من الضّمير في «يتّخذ» ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد
عليه الضّمير في «يتّخذ» ، وجمع حملا على المعنى ؛ كما تقدّم.
قال ابن الخطيب رحمهالله تعالى : في الآية حذف ، أي : يحبّون عبادتهم ، والانقياد
إليهم.
قوله تعالى : (كَحُبِّ اللهِ) الكاف في محلّ نصب : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : يحبّونهم
حبّا كحبّ الله ، وأمّا على الحال من المصدر المعرّف ؛ كما تقرّر غير مرّة ،
والحبّ : إرادة ما تاه وتظنّه خيرا ، وأصله من : حببت فلانا : أصبت حبّة قلبه ؛
نحو : كبدته ، وأحببته : جعلت قلبي معرّضا بأن يحبّه ، لكن أكثر الاستعمال أن يقال
: أحببته ، فهو محبوب ، ومحبّ قليل ؛ كقول القائل : [الكامل]
٨٧٧ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره
|
|
منّي بمنزلة
المحبّ المكرم
|
والحبّ في الأصل :
مصدر «حبّه» وكان قياسه فتح الحاء ، ومضارعه يحبّ بالضم ، وهو قياس فعل المضعّف ،
وشذّ كسره ، و «محبوب» أكثر من «محبّ» ، و «محبّ» أكثر من «حابّ» وقد جمع الحبّ ؛
لاختلاف أنواعه ؛ قال : [الطويل]
__________________
٨٧٨ ـ ثلاثة أحباب فحبّ علاقة
|
|
وحبّ تملّاق
وحبّ هو القتل
|
والحبّ مصدر مضاف
لمنصوبه ، والفاعل محذوف ، تقديره : كحبّهم الله أو كحبّ المؤمنين الله ؛ بمعنى :
أنّهم سوّوا بين الحبّين : حبّ الأنداد ، وحبّ الله.
وقال ابن عطيّة : «حبّ»
: مصدر مضاف للمفعول في اللّفظ ، وهو في التقدير مضاف للفاعل المضمر ، يريد به :
أنّ ذلك تقديره : كحبّكم الله أو كحبّهم الله ، حسبما قدّر كلّ وجه منهما فرقة
انتهى.
وقوله : «للفاعل
المضمر» يريد به أنّ ذلك الفاعل من جنس الضمائر ، وهو «كم» أو «هم» أو يسمّى الحذف
إضمارا وهو اصطلاح شائع ولا يريد أنّ الفاعل مضمر في المصدر كما يضمر في الأفعال ؛
لأنّ هذا قول ضعيف لبعضهم ؛ مردود بأن المصدر اسم جنس واسم الجنس لا يضمر فيه
لجموده.
وقال الزمخشريّ : «كحبّ
الله» كتعظيم الله ، والخضوع ، أي : كما يحبّ الله ؛ على أنه مصدر مبنيّ من
المفعول ، وإنما استغني عن ذكر من يحبّه ؛ لأنه غير ملتبس انتهى.
أما جعله المصدر
من المبنيّ للمفعول ، فهو أحد الأقوال الثلاثة ؛ أعني : الجواز مطلقا.
والثاني : المنع
مطلقا ، وهو الصحيح.
والثالث : [التفصيل
بين الأفعال التي لم تستعمل إلّا مبنيّة للمفعول ، فيجوز ؛ نحو : عجبت من جنون] زيد بالعلم ، ومنه الآية الكريمة ؛ فإنّ الغالب من «حبّ»
أن يبنى للمفعول وبين غيرها ، فلا يجوز ، واستدلّ من أجازه مطلقا بقول عائشة ـ رضي
الله تعالى عنها ـ نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل وعظّم ـ عن قتل الأبتر ،
وذو الطّفيتين برفع «ذو» ؛ عطفا على محل «الأبتر» ؛ لأنّه مفعول لم يسمّ
فاعله تقديرا ، أي : أن يقتل الأبتر ، ولتقرير هذه الأقوال موضع غير هذا.
وقد رد الزّجّاج
تقدير من قدّر فاعل المصدر «المؤمنين» أو ضميرهم.
وقال «ليس بشيء»
والدليل على نقضه قوله بعد : «والّذين آمنوا أشدّ حبّا لله» ورجّح أن يكون فاعل
المصدر ضمير المتّخذين ، أي : يحبّون الأصنام ، كما يحبّون الله ؛ لأنّهم اشركوها
مع الله ، فسوّوا بين الله تعالى ، وبين أوثانهم في المحبّة ، وهذا الذي قاله
الزّجّاج واضح ؛ لأن التسوية بين محبّة الكفّار لأوثانهم ، وبين محبّة المؤمنين
لله ينافي
__________________
قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) فإنّ فيه نفي المساواة. وقرأ أبو رجاء : «يحبّونهم» بفتح الياء من «حبّ» ثلاثيّا ، و «أحبّ» أكثر
، وفي المثل : «من حبّ طبّ».
فصل في المراد من قوله كحب الله
في قوله : كحبّ
الله قولان :
الأول : كحبّهم
لله.
والثاني : كحبّ
المؤمنين لله ، وقد تقدّم ردّ هذا القول.
فإن قيل : العاقل
يستحيل أن يكون حبّه للأوثان كحبّه لله ؛ وذلك لأنه بضرورة العقل يعلم أنّ هذه
الأوثان ينار لا تسمع ، ولا تعقل ، وكانوا مقرّين بأنّ لهذا العالم صانعا مدبّرا
حليما ؛ كما قال تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] فمع
هذا الاعتقاد ، كيف يعقل أن يكون حبّهم لتلك الأوثان كحبّهم لله تعالى ، وقال
تعالى ؛ حكاية عنهم أنّهم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فكيف يعقل الاستواء في الحبّ؟
والجواب : كحبّ
الله تعالى في الطّاعة لها ، والتّعظيم ، فالاستواء في هذه المحبّة لا ينافي ما
ذكرتموه.
قوله تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ:) المفضّل عليه محذوف وهم المتّخذون [الأنداد ، أي : أشدّ
حبّا لله من المتّخذين] الأنداد لأوثانهم ؛ وقال أبو البقاء : ما يتعلّق به «أشدّ» محذوف ، تقديره : أشدّ حبّا لله من
حبّ هؤلاء للأنداد ، والمعنى : أنّ المؤمنين يحبّون الله تعالى أكثر من محبّة
هؤلاء [أوثانهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يحبّون الله تعالى أكثر
ممّا يحبّه هؤلاء] المتّخذون الأنداد ؛ لأنهم لم يشركوا معه غيره ، وأتى ب «أشدّ»
موصّلا بها إلى أفعل التّفضيل من مادّة «الحبّ» ؛ لأنّ «حبّ» مبنيّ للمفعول ،
والمبنيّ للمفعول لا يتعجّب منه ، ولا يبنى منه «أفعل» للتّفضيل ؛ فلذلك أتى بما
يجوز فيه ذلك.
[فأمّا قوله : «ما
أحبّه إليّ» فشاذّ على خلاف في ذلك ، و «حبّا» تمييز منقول من المبتدأ ، تقديره :
حبّهم لله أشدّ].
فصل في معنى قوله (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)
معنى (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، أي : أثبت وأدوم على حبّه ؛ لأنّهم لا يختارون على الله
ما
__________________
سواه ، والمشركون
إذا اتّخذوا صنما ، ثم رأوا أحسن منه ، طرحوا الأوّل ، واختاروا الثّاني قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ.
وقال قتادة : إن
الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ، ويقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى
عنهم ، فقال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] والمؤمن لا يعرض عن الله] في السّرّاء والضّرّاء ، والشّدّة والرّخاء ؛ وقال سعيد بن
جبير : إنّ الله ـ عزوجل ـ يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدّنيا على رؤية
الأصنام : أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم ، فلا يدخلون ؛ لعلمهم أن عذاب جهنّم على
الدوام ، ثم يقول للمؤمنين ، وهم بين أيدي الكفّار : إن كنتم أحبّائي فادخلوا
جهنّم فيقتحمون فيها ، فينادي مناد من تحت العرش (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
وقيل : وإنّما قال
: (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ؛ لأنّ الله تبارك تعالى أحبّهم أوّلا ، ثم أحبّوه ، ومن
شهد له المعبود بالمحبّة ، كانت محبته أتمّ ؛ قال الله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
فإن قيل : كيف
يمكن أن تكون محبّة المؤمن لله أشدّ مع أنّا نرى اليهود يأتون بطاعات شاقّة ، لا
يأتي بمثلها أحد من المؤمنين ، ولا يأتون بها إلا لله تعالى ، ثم يقتلون أنفسهم
حبّا لله؟ والجواب من وجوه :
أحدها : ما تقدّم
من قول ابن عبّاس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير.
وثانيها : أنّ من
أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهّال [قتلوا أنفسهم بغير
إذنه ، إنّما المؤمنون الذي يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد].
وثالثها : أنّ
الإنسان ، إذا ابتلي بالعذاب الشّديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرّبّ ، فالذي
فعلوه باطل.
ورابعها : أنّ
المؤمنين يوحّدون ربّهم ، فمحبتهم مجتمعة لواحد ، والكفّار يعبدون مع الصنم أصناما
، فتنقص محبّة الواحد منهم ، أما الإله الواحد فتنضم محبّة الجمع إليه.
قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) جواب «لو» محذوف ، واختلف في تقديره ، ولا يظهر ذلك إلّا
بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة. قرأ عامر ونافع : «ولو ترى» بتاء الخطاب ، «أنّ القوّة» و «أنّ الله»
بفتحهما. وقرأ ابن عامر : «إذ يرون» بضم الياء ، والباقون بفتحها.
__________________
وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو والكوفيون : «ولو يرى» بياء الغيبة ، «أنّ القوّة» ، «أنّ الله»
بفتحهما. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، ويعقوب ، وأبو جعفر : «ولو ترى» بتاء الخطاب ، «أنّ
القوّة» ، و «إنّ الله» بكسرهما. وقرأ طائفة : «ولو يرى» بياء الغيبة «إنّ القوّة»
و «إنّ الله» بكسرهما. إذا تقرّر ذلك ، فقد اختلفوا في تقدير جواب «لو».
فمنهم من قدّره
قبل قوله : «أنّ القوّة» ومنهم من قدّره بعد قوله : (وَأَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعَذابِ) هو قول أبي الحسن الأخفش. [والمبرّد.
أمّا من قدّره قبل
: «أنّ القوّة» فيكون «أنّ القوّة» معمولا لذلك الجواب] وتقديره على قراءة «ترى» بالخطاب وفتح «أنّ» و «أنّ» : «لعلمت
، أيها السّامع ، أنّ القوّة لله جميعا» والمراد بهذا الخطاب : إمّا النبيّ ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ وإمّا : كلّ سامع ، فيكون معناه: ولو ترى يا محمّد ، أو يا
أيّها السّامع ، الّذين ظلموا ، يعني : أشركوا ، في شدّة العذاب لرأيت أمرا عظيما [وقيل
: معناه : قل ، يا محمّد : أيّها الظالم ، لو ترى الّذين ظلموا من شدّة العذاب ،
لرأيت أمرا فظيعا].
وعلى قراءة الكسر في «إنّ» يكون التقدير : لقلت إنّ القوّة لله جميعا
، والخلاف في المراد من الخطاب كما تقدّم ، أو يكون التقدير : «لاستعظمت حالهم» ،
وإنما كسرت «إنّ» ؛ لأنّ فيها معنى التعليل ؛ نحو قولك : «لو قدمت على زيد ، لأحسن
إليك ؛ إنّه مكرم للضّيفان» فقولك : «إنّه مكرم للضّيفان» علّة لقولك : «أحسن إليك»
وقال ابن عطيّة : تقديره : «ولو ترى الّذين في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم
منه ، واستعظامهم له ، لأقرّوا أنّ القوّة لله جميعا».
وناقشه أبو حيّان ، فقال : كان ينبغي أن يقول : «في وقت رؤيتهم العذاب»
فيأتي بمرادف «إذ» وهو الوقت لا الحال وأيضا : فتقديره لجواب «لو» غير مرتّب على
ما يلي «لو» ؛ لأن رؤية السّامع أو النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الظّالمين في
وقت رؤيتهم [لا يترتّب عليها إقرارهم بأنّ القوّة لله جميعا ؛ وهو نظير قولك : يا
زيد ، لو ترى عمرا في وقت] ضربه ، لأقرّ أنّ الله ـ تعالى ـ قادر عليه. فإقراره بقدرة
الله تعالى ليس مترتّبا على رؤية زيد. انتهى.
__________________
وتقديره على قراءة
«يرى» بالغيبة : «لعلموا
أنّ القوّة لله» [إن كان فاعل «يرى»: الّذين ظلموا ، وإن كان ضميرا يعود على
السّامع ، فيقدّر : «لعلم أنّ القوّة»] وأمّا من قدّره بعد قوله (شَدِيدُ الْعَذابِ) ، فتقديره على قراءة «ترى» بالخطاب : «لاستعظمت ما حلّ بهم» ويكون فتح أنّ على أنّه
مفعول من أجله ، أي : «لأنّ القوّة لله جميعا» وكسرها على معنى التعليل ؛ نحو : «أكرم
زيدا ؛ إنّه عالم ، وأهن عمرا ؛ إنّه جاهل» أو تكون جملة معترضة بين «لو» وجوابها
المحذوف ، وتقديره ؛ على قراءة «ولو يرى» بالغيبة ، إن كان فاعل «يرى» ضمير
السّامع : «لاستعظم ذلك» وإن كان فاعله الّذين ، كان التقدير «لاستعظموا ما حلّ
بهم» ويكون فتح «أنّ» على أنّها معمولة ل «يرى» على أن يكون الفاعل «الّذين ظلموا»
والرؤية هنا تحتمل أن تكون من رؤية القلب ، فتسدّ «أنّ» مسدّ مفعوليها ، وأن تكون
من رؤية البصر ، فتكون في موضع مفعول واحد.
وأمّا قراءة «يرى»
[الّذين] بالغيبة ، وكسر «إنّ» و «إنّ» فيكون الجواب قولا محذوفا ، وكسرتا
لوقوعهما بعد القول ، فتقديره على كون الفاعل ضمير الرّأي ، لقال : «إنّ القوّة»
وعلى كونه «الّذين» : «لقالوا» ويكون مفعول «يرى» محذوفا ، أي : «لو يرى حالهم»
ويحتمل أن يكون الجواب : «لاستعظم ، أو لاستعظموا» على حسب القولين. وقدّر بعضهم :
«لمّا اتّخذوا من دونه أندادا» وإنّما كسرتا ؛ استئنافا ، وحذف جواب «لو» شائع
مستفيض كثير في التنزيل ، قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : ٩٣] (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ) [الرعد : ٣١]
ويقولون : «لو رأيت فلانا ، والسّياط تأخذ منه» قالوا : وهذا الحذف أفخم وأشدّ في
التخويف ممّا إذا عيّن له ذلك الوعيد ، ففائدة الحذف استعظامه وذهاب النّفس كلّ
مذهب فيه ؛ بخلاف ما لو ذكر فإنّ السامع يقصر همّه عليه ، وقد ورد في أشعارهم
ونثرهم حذفه كثيرا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]
٨٧٩ ـ وجدّك لو شيء أتانا رسوله
|
|
سواك ولكن لم
نجد لك مدفعا
|
وقال النّابغة : [الطويل]
٨٨٠ ـ فما كان بين الخير لو جاء سالما
|
|
أبو حجر إلّا
ليال قلائل
|
ودخلت «إذ» ، وهي
ظرف زمان ماض في أثناء هذه المستقبلات تقريبا للأمر ،
__________________
وتصحيحا لوقوعه ؛
كما وقعت صيغة المضيّ موضع المستقبل لذلك ؛ كقوله : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠].
وكما قال الأشتر : [الكامل]
٨٨١ ـ بقّيت وفري وانحرفت عن العلا
|
|
ولقيت أضيافي
بوجه عبوس
|
إن لم أشنّ على
ابن حرب غارة
|
|
لم تخل يوما من
نهاب نفوس
|
فأوقع «بقّيت» و «انحرفت»
ـ وهما بصيغة المضيّ ـ موقع المستقبل ، لتعليقهما على مستقبل ، وهو قوله : «إن لم
أشنّ».
وجاء في التنزيل
كثير من هذا الباب قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) [سبأ : ٥١] ولما
كان وقوع السّاعة قريبا ، أجراه مجرى ما حصل ووقع ، من ذلك قول المؤذّن : قد قامت
الصّلاة ، يقوله قبل إيقاع التّحريم بالصّلاة ؛ لقرب ذلك.
وقيل : أوقع «إذ»
موقع «إذا» ؛ [وقيل : زمن الآخرة متصل بزمن الدنيا ، فقام أحدهما مقام الآخر ؛
لأنّ المجاور للشّيء يقوم مقامه ، وهكذا كلّ موضع وقع مثل هذا ، وهو في القرآن
كثير].
وقرأ ابن عامر «يرون العذاب»
مبنيّا للمفعول من «أريت» المنقولة من «رأيت» بمعنى «أبصرت» فتعدّت لاثنين :
أولهما : قام مقام
الفاعل ، وهو الواو.
والثاني : هو
العذاب.
وقراءة الباقين واضحة.
وقال الراغب :
قوله : «أنّ القوّة» بدل من «الّذين» قال : «وهو ضعيف».
قال أبو حيّان رحمهالله ـ ويصير المعنى : «ولو ترى قوّة الله وقدرته على الّذين
ظلموا» وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التّاء ؛ قال : «لأنّ
النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والمؤمنين قد علموا قدر ما يشاهده الكفّار ،
وأما الكفّار ، فلم يعلموه ؛ فوجب إسناد الفعل إليهم» وهذا أمر مردود ؛ فإن
القراءتين متواترتان.
قوله تعالى : «جميعا»
حال من الضّمير المستكنّ في الجارّ والمجرور ، والواقع
__________________
خبرا ؛ لأنّ
تقديره : «أنّ القوّة كائنة لله جميعا» ولا جائز أن يكون حالا من القوّة ؛ فإن
العامل في الحال ، هو العامل في صاحبها ، وأنّ لا تعمل في الحال ، وهذا مشكل ؛
فإنهم أجازوا في «ليت» أن تعمل في الحال ، وكذا «كأنّ» ؛ لما فيها من معنى الفعل ـ
وهو التمنّي والتّشبيه ـ فكان ينبغي أن يجوز ذلك في «أنّ» لما فيها من معنى
التّأكيد.
و «جميع» في الأصل
: «فعيل» من الجمع ، وكأنه اسم جمع ؛ فلذلك يتبع تارة بالمفرد ؛ قال تعالى : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤]
وتارة بالجمع ؛ قال تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] وينتصب
حالا ، ويوكّد به ؛ بمعنى «كلّ» ويدلّ على الشمول ؛ كدلالة «كلّ» ، ولا دلالة له
على الاجتماع في الزّمان ، تقول : «جاء القوم جميعهم» لا يلزم أن يكون مجيئهم في
زمن واحد ، وقد تقدّم ذلك في الفرق بينها وبين «جاءوا معا».
قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا
مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦)
وَقالَ
الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما
تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما
هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)
اعلم أنّه لما
بيّن حال من يتّخذ من دون الله أندادا بقوله : ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون
العذاب على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بهذه الآية الكريمة ، وبيّن أنّ الذين
أفنوا عمرهم في عبادتهم ، واعتقدوا أنّهم سبب نجاتهم ، فإنّهم يتبّرءون منهم ؛
ونظيره قوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥]
وقوله ـ عزوجل سبحانه ـ : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]
وقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨]
وقول إبليس لعنه الله (إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).[إبراهيم : ٢٢].
وهل هذا التبرّؤ يقع
منهم بالقول ، أو بظهور النّدم على ما فرط منهم من الكفر والإعراض؟ قولان :
أظهرهما الأوّل.
واختلفوا في هؤلاء
المتبوعين ، فقال قتادة ، والرّبيع وعطاء : السّادة والرّؤساء من مشركي الإنس إلّا أنّهم الذين يصحّ منهم الأمر والنّهي ؛ حتى يمكن أن
يتبعوا.
وقال السّدّيّ :
هم شياطين الجنّ .
وقيل : شياطين
الإنس والجنّ .
وقيل : الأوثان
الّتي كانوا يسمّونها بالآلهة ؛ ويؤيد الأوّل قوله تعالى : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧].
__________________
قوله تعالى : «إذ
تبرّأ» في «إذ» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل
من «إذ يرون».
الثاني : أنها
منصوبة بقوله : (شَدِيدُ الْعَذابِ).
الثالث ـ وهو
أضعفها ـ أنها معمولة ل «اذكر» مقدّرا ، و «تبرّأ» في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليه
، والتبرّؤ : الخلوص والانفصال ، ومنه : «برئت من الدّين» وتقدم تحقيق ذلك عند
قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤]
والجمهور على تقديم : «اتّبعوا» مبنيا للمفعول على «اتّبعوا» مبنيا للفاعل.
وقرأ مجاهد بالعكس ، وهما واضحتان ، إلّا أن قراءة الجمهور واردة في
القرآن أكثر.
قوله تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنّها
عطف على ما قبلها ؛ فتكون داخلة في خبر الظّرف ، تقديره : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) ، و «إذ رأوا».
والثاني : أنّ
الواو للحال ، والجملة بعدها حاليّة ، و «قد» معها مضمرة ، والعامل في هذه الحال :
«تبرّأ» أي : «تبرّءوا» في حال رؤيتهم العذاب.
قوله تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ) يجوز أن تكون الواو للعطف ، وأن تكون للحال ، وإذا كانت
للعطف ، فهل عطفت «تقطّعت» على «تبرّأ» ويكون قوله : «ورأوا» حالا ، وهو اختيار
الزمخشري أو عطفت على «رأوا»؟ وإذا كانت للحال ، فهل هي حال ثانية ل «الّذين» أو
حال للضّمير في «رأوا» وتكون حالا متداخلة ، إذا جعلنا «ورأوا» حالا.
والباء في «بهم»
فيها أربعة أوجه :
أحدها : أنّها
للحال ، أي : تقطّعت موصولة بهم الأسباب ؛ نحو : «خرج بثيابه».
الثّاني : أن تكون
للتعدية ، أي : قطّعتهم الأسباب ؛ كما تقول : تفرّقت بهم الطّرق ، أي: فرّقتهم.
الثالث : أن تكون
للسببيّة ، أي : تقطّعت [بسبب كفرهم الأسباب الّتي كانوا يرجون بها النّجاة].
الرابع : أن تكون
بمعنى «عن» [أي : تقطّعت عنهم ، كقوله (فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، أي : عنه] وكقول علقمة في ذلك : [الطويل]
__________________
٨٨٢ ـ فإن تسألوني بالنّساء فإنّني
|
|
بصير بأدواء
النّساء طبيب
|
أي : عن النّساء.
فصل في المراد ب «الأسباب»
والأسباب :
الوصلات التي كانت بينهم ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والرّبيع .
وقال ابن عبّاس ـ رضي
الله تعالى عنهما ـ وابن جريج : الأرحام الّتي يتعاطفون بها ؛ كقوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) [المؤمنون : ١٠١].
وقال ابن زيد ،
والسّدّيّ : الأعمال الّتي كانوا يلزمونها .
وقال ابن عبّاس :
العهود والحلف الّتي كانت بينهم ، يتوادّون عليها .
وقال الضّحّاك ،
والرّبيع بن أنس : المنازل التي كانت لهم في الدّنيا .
وقال السّدّيّ :
الأعمال الّتي كانوا يلزمونها في الدنيا ؛ كقوله تبارك وتعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].
وقيل : أسباب
النجاة تقطعّت عنهم.
قال ابن الخطيب ـ رضي الله عنه ـ والأظهر دخول الكلّ فيه ولأن ذلك كالنّفي
، فيعمّ الكلّ ؛ فكأنّه قال : وزال كلّ سبب يمكن أن يتعلّق به ، وأنهم لا ينتفعون
بالأسباب على اختلافها من منزلة ، وسبب ونسب ، وعهد ، وعقد وذلك نهاية اليأس.
وهذه الأسباب مجاز
فإنّ السّبب في الأصل : الحبل ؛ قالوا : ولا يدعى الحبل سببا ؛ حتى ينزل فيه ويصعد
به ، ومنه قوله تبارك وتعالى : (فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ)
__________________
[الحج : ١٥] ثم
أطلق على كلّ ما يتوصّل به إلى شيء ، عينا كان أو معنى ، وقيل للطّريق : سبب ؛
لأنّك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده ؛ قال تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف : ٨٥] أي :
طريقا ، وأسباب السّموات : أبوابها ؛ قال تعالى مخبرا عن فرعون : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ
السَّماواتِ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧]
وقد تطلق الأسباب على الحوادث ؛ قال زهير : [الطويل]
٨٨٣ ـ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
|
|
ولو نال أسباب
السّماء بسلّم
|
وقد يطلق السّبب
على العلم ؛ قال سبحانه وتعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً) [الكهف: ٨٤] ، أي
؛ علما ، وقد وجد هنا نوع من أنواع البديع ، وهو التّرصيع ، وهو عبارة عن تسجيع
الكلام ، وهو هنا في موضعين.
أحدهما : (اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ؛ ولذلك حذف عائد الموصول الأوّل ، فلم يقل «من الّذين
اتّبعوهم» ؛ لفوات ذلك.
والثّاني : (وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الْأَسْبابُ) ، وكقوله (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة : ٢٧٦].
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، يعني : الأتباع : (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدّنيا ، والكرّة : العودة ، وفعلها كرّ
يكرّ كرّا ؛ قال القائل في ذلك : [الوافر]
٨٨٤ ـ أكرّ على الكتيبة لا أبالي
|
|
أفيها كان حتفي
أم سواها
|
قوله تعالى : (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) منصوب بعد الفاء ب «أن» مضمرة في جواب التمنّي الّذي
أشربته «لو» ولذلك أجيبت بجواب «ليت» الذي في قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣]
وإذا أشربت معنى التمنّي ، فهل هي الامتناعيّة المفتقرة إلى جواب ، أم لا تحتاج
إلى جواب.
الصحيح : أنها
تحتاج إلى جواب ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديره تبرّأنا ونحو ذلك ، وأمّا من
قال بأنّ «لو» الّتي للتمنّي لا جواب لها ؛ فاستدلّ بقول الشّاعر : [الوافر]
٨٨٥ ـ ولو نبش المقابر عن كليب
|
|
فيخبر بالذّنائب
أيّ زير
|
__________________
وهذا لا يدلّ فإنّ
جوابها في البيت بعده ، وهو قوله [الوافر]
٨٨٦ ـ بيوم الشّعثمين ، لقرّ عينا
|
|
وكيف لقاء من
تحت القبور
|
واستدلّ أيضا بأنّ
«أن» تفتح بعد «لو» ؛ كما تفتح بعد ليت في قوله [الرجز]
٨٨٧ ـ يا ليت أنّا ضمّنا سفينه
|
|
حتّى يعود البحر
كيّنونه
|
وهاهنا فائدة
ينبغي أن ينتبه لها ، وهي : أنّ النّحاة قالوا : كلّ موضع نصب فيه المضارع بإضمار «أن»
بعد الفاء [إذا سقطت الفاء ، جزم إلّا في النّفس ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضا
؛ فيقال : و «إلّا» في جواب التّمنّي ب «لو» ؛ فإنّه ينصب المضارع فيه بإضمار «أن»
بعد الفاء الواقعة جوابا له ، ومع ذلك ، لو سقطت هذه الفاء] لم يجزم.
قال أبو حيّان والسّبب في ذلك : أنّها محمولة على حرف التمنّي ، وهو «ليت»
والجزم في جواب «ليت» إنما هو لتضمنها معنى الشّرط ، أو لدلالتها على كونه محذوفا
على اختلاف القولين ؛ فصارت «لو» فرع الفرع ، فضعف ذلك فيها.
وقيل : «لو» في
هذه الآية الكريمة ونظائرها لما كان سيقع لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمنّي ،
والفعل منصوب ب «أن» مضمرة ؛ على تأويل عطف اسم على اسم ، وهو «كرّة» والتقدير : «لو
أنّ لنا كرّة ، فنتبرّأ» ؛ فهو من باب قوله : [الوافر]
٨٨٨ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني
|
|
..........
|
ويكون جواب «لو»
محذوفا أيضا ؛ كما تقدّم.
وقال أبو البقاء رحمهالله تعالى : «فنتبرّأ» منصوب بإضمار «أن» ، تقديره : «لو أنّ
لنا أن نرجع فنتبرّأ» فحلّ «كرّة» إلى قوله : «أن نرجع» ؛ لأنّه بمعناه ، وهو قريب
، إلّا أنّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدر ؛ ليعطفوه على الاسم قبله ،
ويتركون الاسم على حاله ؛ وذلك لأنه قد يكون اسما صريحا غير مصدر ؛ نحو «لو لا زيد
ويخرج ، لأكرمتك» فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدريّ وفعل.
قوله تعالى : «كما»
الكاف في موضعها نصب : إمّا على كونها نعت مصدر محذوف ، أي : «تبرّؤا» وإمّا على
الحال من ضمير المصدر المعرّف المحذوف أي
__________________
«نتبرّأه ، أي :
التّبرّؤ ، مشابها لتبرّئهم» ؛ كما تقرّر غير مرّة.
وقال ابن عطيّة :
الكاف في قوله : «كما» في موضع نصب على النّعت : إمّا لمصدر : أو لحال ، تقديره :
متبرّئين ، كما قال أبو حيّان. أمّا قوله «لحال» تقديره : «متبرّئين كما» فغير
واضح ، لأنّ «ما» مصدرية ، فصارت الكاف الداخلة عليها من صفات الأفعال و «متبرّئين»
: من صفات الأعيان ، فكيف يوصف بصفات الأفعال.
قال : وأيضا لا
حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنّها إذ ذاك تكون حالا مؤكّدة ، وهي خلاف الأصل ، وأيضا
: فالمؤكّد ينافيه الحذف ؛ لأنّ التوكيد يقوّيه ، فالحذف يناقضه.
فصل في معنى التبرؤ
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله ـ قولهم : (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً ، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) ذلك تمنّ منهم للرجعة إلى الدّنيا. وإلى حال التّكليف ،
ويكون الاختيار لهم ؛ حتّى يتبرءوا منهم في الدّنيا ، كما تبرءوا يوم القيامة منهم
ومفهوم الكلام : أنّهم تمنّوا لهم في الدّنيا ما يقارب العذاب ، فيتبرّءون منهم ،
ولا يخلصونهم ، كما فعلوا بهم يوم القيامة ، وتقديره : فلو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ
منهم ، وقد دهمهم مثل هذا الخطب ، كما تبرءوا منّا ، والحال هذه ؛ لأنّهم إن
تمنّوا التبرّؤ منهم ، مع سلامة ، فأيّ فائدة؟.
قال القرطبي :
التبرّؤ : الانفصال .
قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ) في هذه «الكاف» قولان :
أحدهما : أنّ
موضعها نصب : إمّا نعت مصدر محذوف ، أو حالا من المصدر المعرّف ، أي : يريهم رؤية
كذلك ، أو يحشرهم حشرا كذلك ، أو يجزيهم جزاء كذلك ، أو يريهم الإراءة مشبهة كذلك
ونحو هذا.
الثاني : أن يكون
في موضع رفع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، قاله
أبو البقاء .
قال أبو حيّان : وهو ضعيف ؛ لأنّه يقتضي زيادة الكاف ، وحذف مبتدأ ،
وكلاهما على خلاف الأصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقدير : مثل
إراءتهم الأهوال ، يريهم الله أعمالهم حسرات.
وقيل : الإشارة
إلى تبرّؤ بعضهم من بعض والتقدير : كتبرّؤ بعضهم من بعض ، يريهم الله أعمالهم
حسرات عليهم ؛ وذلك لانقطاع الرّجاء من كلّ أحد.
والرؤية تحتمل
وجهين :
__________________
أحدهما : أن تكون
بصريّة ، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهما الضمير ، والثاني «أعمالهم» و «حسرات»
على هذا حال من «أعمالهم».
والثاني : أن تكون
قلبيّة ؛ فتتعدّى لثلاثة ، ثالثها «حسرات» و «عليهم» يجوز فيه وجهان :
أن يتعلّق ب «حسرات»
؛ لأنّ «يحسر» يعدّى ب «على» ويكون ثمّ مضاف محذوف.
أي : على تفريطهم.
والثاني : أن
يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها صفة ل «حسرات» ، فهي في محلّ نصب ؛ لكونها صفة لمنصوب.
فصل في المراد ب «الأعمال» في الآية
اختلفوا في المراد
بالأعمال.
فقال السّدّيّ :
الطاعات ، لم ضيّعوها؟ وقال الربيع وابن زيد : المعاصي والأعمال الخبيثة يتحسّرون
لم عملوها؟
وقال الأصمّ :
ثواب طاعاتهم الّتي أتوا بها ، فأحبطوها بالكفر ، قال السّدّيّ : ترفع لهم الجنّة
، فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله ، فيقال لهم : تلك مساكنكم ،
لو أطعتم الله تعالى ، ثمّ تقسّم بين المؤمنين ، فذلك حين يتحسّرون.
وقيل : أعمالهم
الّتي تقرّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأمرهم ، قال ابن كيسان : إنّهم أشركوا
بالله الأوثان ، رجاء أن تقرّبهم إلى الله تعالى ، فلما عذّبوا على ما كانوا يرجون
ثوابه ، تحسّروا وندموا.
قال ابن الخطيب : والظاهر أنّ الأعمال الّتي اتّبعوا فيها السّادة ، وهو
كفرهم ، ومعاصيهم ، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم ، وأيقنوا بالجزاء عليها
، وكان يمكنهم تركها ، والعدول إلى الطّاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني :
مجاز بمعنى لزومهم ، فلم يقوموا بها. و «الحسرة» واحدة الحسرات ؛ كتمرة وتمرات ،
وجفنة وجفنات وشهوة وشهوات.
هذا إذا كان اسما.
[فإن] نعتّه سكّنت ؛ كقوله ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات نقله القرطبي رحمهالله تعالى قال الزّجّاج : هي شدّة الندامة ، وهو تألّم القلب
بانحساره عمّا تؤلمه واشتقاقها إمّا من قولهم : بعير حسير أي منقطع القوّة والحسور
الإعياء ، وقال تبارك وتعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩]
أو من الحسر وهو
__________________
الكشف يقال : حسر
عن ذراعيه ، والحسرة : انكشاف عن حالة النّدامة ؛ [والمحسرة] المنكسة ؛ لأنها تكشف عن الأرض ؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف
بذهاب الريش.
قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
احتجّ به على أن
أصحاب الكبائر من أهل القبلة يخرجون من النّار ، فقالوا :
لأنّ قوله : «وما
هم» تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر ؛ فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم ،
وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٤ ـ ١٦]
فبيّن أنّ المراد بالفجّار هاهنا الكفّار ؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله
أعلم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ)(١٦٩)
لما بيّن التوحيد
ودلائله وما للموحّدين من الثواب وأتبعه بذكر الشّرك ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على
الفريقين وأنّ معصية من عصاه ، وكفر من كفر به ، لم تؤثّر في قطع نعمه وإحسانه
إليهم.
قال ابن عبّاس رضي
الله عنهما : هذه الآية نزلت في قوم من ثقيف ، وبني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبني
مدلج ، حرّموا على أنفسهم من الحرث ، والبحائر ، والسّوائب ، والوصائل والحام .
قوله تعالى : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) حلالا فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون
مفعولا ب «كلوا» و «من» على هذا فيها وجهان :
أحدهما : أن
تتعلّق ب «كلوا» ويكون معناها ابتداء الغاية.
الثاني : أن
تتعلّق بمحذوف على أنّها حال من «حلالا» [وكانت في الأصل صفة له ، فلمّا قدّمت
عليه ، انتصبت حالا] ويكون معنى «من» التّبعيض.
الثاني : أن يكون
انتصاب «حلالا» على أنّه نعت لمفعول محذوف ، تقديره : شيئا أو رزقا حلالا ، ذكره
مكّيّ واستعبده ابن عطيّة ولم يبيّن وجه بعده ، والذي يظهر في بعده أنّ «حلالا» ليس
صفة خاصّة بالمأكول بل يوصف به المأكول وغيره وإذا لم تكن الصفة خاصّة ، لا يجوز
حذف الموصول.
__________________
الثالث : أن ينتصب
«حلالا» على أنّه حال من «ما» بمعنى : «الّذي» ، أي : كلوا من الّذي في الأرض حال
كونه حلالا.
الرابع : أن ينتصب
على أنه نعت لمصدر محذوف ، [أي : أكلا حلالا ، ويكون مفعول «كلوا» محذوفا ، و «ما (فِي الْأَرْضِ) صفة لذلك المفعول المحذوف] ، ذكره أبو البقاء وفيه من الرّدّ ما تقدّم على مكّيّ ، ويجوز على هذا الوجه
الرابع ألا يكون المفعول محذوفا ، بل تكون «من» مزيدة على مذهب الأخفش ، تقديره : «كلوا
ما في الأرض أكلا حلالا».
الخامس : أن يكون
حالا من الضّمير العائد على «ما» قاله ابن عطيّة ، يعني ب «الضّمير» الضّمير
المستكنّ في الجارّ والمجرور ، الواقع صلة.
و «طيّبا» فيه
ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
صفة ل «حلالا» أمّا على القول بأنّ «من» للابتداء ، متعلّقة ب «كلوا» فهو واضح ؛
وأمّا على القول بأن «ممّا في الأرض» حال من «حلالا» ، فقال أبو البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ : ولكن موضعها بعد الجارّ والمجرور ، لئلّا يفصل
الصّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيف ، فإنّ الفصل بالصفة بين الحال
وصاحبها ليس بممنوع ؛ تقول : «جاءني زيد الطّويل [راكبا» ، بل لو قدّمت الحال على
الصّفة ، فقلت : «جاءني زيد راكبا الطّويل»] ـ كان في جوازه نظر.
الثاني : أن يكون
صفة لمصدر محذوف ، أو حالا من المصدر المعرفة المحذوف : أي أكلا طيّبا.
الثالث : أن يكون
حالا من الضّمير في «كلوا» تقديره : مستطيبين ـ قال ابن عطيّة.
قال أبو حيّان : وهذا فاسد في اللّفظ أمّا اللّفظ ؛ فلأنّ «الطّيّب» اسم
فاعل فكان ينبغي أن تجمع ؛ لتطابق صاحبها ؛ فيقال : طيّبين ، وليس «طيّب» مصدرا ؛
فيقال : إنّما لم يجمع لذلك ، وأمّا المعنى ؛ فلأنّ «طيّبا» مغاير لمعنى مستطيبين
، لأنّ «الطّيّب» من صفات المأكول ، و «المستطيب» من صفات الآكلين ، تقول : «طاب
لزيد الطّعام» ولا تقول : «طاب زيد الطّعام» بمعنى استطابه.
و «الحلال» :
المأذون فيه ضدّ الحرام الممنوع منه ، حلّ يحلّ ، بكسر العين في المضارع ، وهو
القياس ، لأنه مضاعف غير متعدّ ، يقال : حلال ، وحلّ ؛ كحرام وحرم وهو في الأصل
مصدر ، ويقال : «حلّ بلّ» على سبيل الإتباع ؛ ك «حسن بسن» ، وحلّ
__________________
بمكان كذا يحلّ ـ بضم
العين وكسرها ـ وقرىء : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي) [طه : ٨١] بالوجهين
، وأصله من «الحلّ» الذي هو : نقيض العقد ، ومنه : حلّ بالمكان ، إذا نزل به ؛
لأنّه حلّ شدّ الرحال للنّزول ، وحلّ الدّين إذا نزل به ، لانحلال العقدة بانقضاء
المدّة ، وحلّ من إحرامه ، لأنه حلّ عقد الإحرام ، وحلّت عليه العقوبة ، أي : وجبت
لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا : «تحلّة اليمين» : لأن عقدة اليمين تنحلّ به.
والطّيّب [في
اللغة : يكون بمعنى الطّاهر ، والحلال يوصف بأنّه طيّب ؛ قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ
وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠]
والطّيّب في] الأصل : هو ما يستلذّ به ويستطاب ، ووصف به الطّاهر ،
والحلال ؛ على جهة التشبيه ؛ لأنّ النّجس تكرهه النّفس ؛ فلا تستلذّه ، والحرام
غير مستلذّ ، لأنّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد
بالطّيّب في الآية وجهان :
الأول : أنه
المستلذّ ؛ لأنا لو حملناه على الحلال ، لزم التكرار ؛ فعلى هذا يكون إنما يكون
طيّبا ، إذا كان من جنس ما يشتهى ؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه ، عاد حراما ،
وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلّا عند شبهة.
والثاني : أن يكون
المراد ما يكون جنسه حلالا ، وقوله : «طيّبا» المراد منه : ألّا يكون متعلّقا به
حقّ الغير ؛ فإنّ أكل الحرام ، وإن استطابه الآكل ، فمن حيث يؤدّي إلى العقاب :
يصير مضرّة ، ولا يكون مستطابا ؛ كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠].
قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ:) قرأ ابن عامر ، والكسائيّ ، وقنبل ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : «خطوات»
بضم الخاء ، والطاء ، وباقي السّبعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمّ العين
؛ فلأنّ الواحدة «خطوة» فإذا جمعت ، حرّكت العين ؛ للجمع ، كما فعلت في الأسماء
التي على هذا الوزن ؛ نحو : غرفة وغرفات ، وتحريك العين على هذا الجمع ؛ للفصل بين
الاسم والصّفة ؛ لأن كلّ ما كان اسما ، جمعته بتحريك العين ؛ نحو : «تمرة وتمرات ،
وغرفة وغرفات ، وشهوة وشهوات» وما كان نعتا ، جمع بسكون العين ؛ نحو : «ضخمة
وضخمات ، وعبلة وعبلات» ، والخطوة : من الأسماء ، لا من الصفات ، فتجمع بتحريك
العين.
وقرأ أبو السّمّال
«خطوات» بفتحها ،
ونقل ابن عطيّة ، وغيره عنه : أنه قرأ :
__________________
«خطوات» ، بفتح
الخاء ، والطاء ، وقرأ عليّ وقتادة ، والأعمش بضمّها ، والهمز.
فأما قراءة الجمهور ، والأولى من قراءتي أبي السّمّال ؛ فلأن «فعلة»
الساكنة العين ، السّالمتها ، إذا كانت اسما ، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة
أوجه ، وهي لغات مسموعة عن العرب : السّكون ، وهو الأصل ، والإتباع ، والفتح في
العين ، تخفيفا.
وأما قراءة أبي
السّمّال التي نقلها ابن عطيّة ، فهي جمع «خطوة» بفتح الخاء ، والفرق بين الخطوة
بالضّمّ ، والفتح : أنّ المفتوح : مصدر دالّ على المرّة ، من : خطا يخطو ، إذا مشى
، والمضموم : اسم لما بين القدمين ؛ كأنّه اسم للمسافة ؛ كالغرفة اسم للشيء
المغترف.
وقيل : إنّهما
لغتان بمعنى واحد ذكره أبو البقاء .
وأمّا قراءة عليّ
، ففيها تأويلان :
أحدهما ـ وبه قال
الأخفش ـ : أنّ الهمزة أصل ، وأنّه من «الخطأ» ، و «خطؤات» جمع «خطأة» إن سمع ،
وإلّا فتقديرا ، وتفسير مجاهد إياه ب «الخطايا» يؤيّد هذا ، ولكن يحتمل أن يكون
مجاهد فسّره بالمرادف.
والثاني : أنه قلب
الهمزة عن الواو ؛ لأنّها جاورت الضمّة قبلها ؛ فكأنها عليها ؛ لأنّ حركة الحرف
بين يديه على الصّحيح ، لا عليه.
فصل
قال ابن السّكّيت
ـ فيما رواه عن اللّحيانيّ ـ الخطوة والخطوة بمعنى واحد ، وحكى عن الفرّاء الخطوة
ما بين القدمين ؛ كما يقال : حثوت حثوة ، والحثوة : اسم لما تحثّيت ، وكذلك غرفت
غرفة ، والغرفة : هو الشيء المغترف بالكفّ ، فيكون المعنى : لا تتّبعوا سبيله ، ولا
تسلكوا طريقه ؛ لأنّ الخطوة اسم مكان .
قال الزّجّاج وابن
قتيبة : خطوات الشّيطان طرقه ، وإن جعلت الخطوة مصدرا ، فالتقدير : لا تأتمّوا به
، ولا تتّبعوا أثره ، والمعنى : أن الله تعالى ، زجر المكلّف عن تخطّي الحلال إلى
الشّبه ؛ كما زجره عن تخطّيه إلى الحرام ، وبيّن العلّة في هذا التحذير ، وهو كونه
عدوّا مبينا ، أي : متظاهرا بالعداوة ؛ وذلك لأنّ الشيطان التزم أمورا سبعة في
العداوة :
أربعة منها في
قوله تعالى : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩].
__________________
وثلاثة منها في
قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٦ ،
١٧] فلمّا التزم هذه الأمور ، كان عدوا متظاهرا بالعدواة ، وقد أظهر عداوته بإبائه
السّجود لآدم ، وغروره إيّاه ؛ حتّى أخرجه من الجنّة.
قوله : «إنّه لكم»
قال أبو البقاء : إنّما كسر الهمزة ؛ لأنّه أراد الإعلام بحاله ، وهو أبلغ
من الفتح ؛ لأنه إذا فتح الهمزة ، صار التقدير : لا تتّبعوه ؛ لأنّه عدوّ لكم ،
واتباعه ممنوع ، وإن لم يكن عدوّا لنا ، مثله : [منهوك الرجز]
٨٨٩ ـ أ ـ لبّيك ، إنّ الحمد لك
كسر الهمزة أجود ؛
لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلّ حال ، وكذلك التلبية. انتهى.
يعني أن الكسر
استئناف محض فهو إخبار بذلك ، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيّن ؛ لأنّه يجوز
أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة ؛ فإنّهم نصّوا على أنّ «إنّ» المكسورة تفيد
العلّة أيضا ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها ؛ كما تقدم آنفا ، فينبغي أن يقال
: قراءة الكسر أولى ؛ لأنّها محتملة للإخبار المحض بحاله ، وللعلّيّة ؛ وممّا يدلّ
على أنّ المكسورة تفيد العلّيّة قوله ـ عليهالسلام ـ في الرّوثة «إنّها
رجس» وقوله في الهرّة : «إنّها ليست بنجس ؛ إنّها من الطّوّافين عليكم».
وقوله : «لا تنكح
المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها ؛ إنّكم إذا فعلتم ذلك ، قطّعتم أرحامكم» .
وأما المفتوحة :
فهي نصّ في العلّيّة ، لأنّ الكلام على تقدير لام العلّة.
__________________
قوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشاءِ ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فهذه كالتّفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثة :
أولها : السّوء ،
وهو : متناول جميع المعاصي ، سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح ، أو من
أفعال القلوب.
وسمّي السّوء سوءا
؛ لأنّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ، وهو مصدر : «ساءه يسوءه سوءا ومساءة» إذا أحزنه
، و «سؤته ، فسيء» إذا أحزنته ، فحزن ؛ قال تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك : ٢٧] ؛
قال الشّاعر : [السريع]
٨٨٩ ب ـ وإن يك هذا الدّهر قد ساءني
|
|
فطالما قد سرّني
الدّهر
|
ألأمر عندي
فيهما واحد
|
|
لذاك شكر ولذا
صبر
|
وثانيها : الفحشاء
، وهو مصدر من الفحش ؛ كالبأساء من البأس ، والفحش : قبح المنظر.
قال امرؤ القيس : [الطويل]
٨٩٠ ـ وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش
|
|
إذا هي نصّته
ولا بمعطّل
|
وتوسّع فيه ، حتّى
صار يعبر به عن كلّ مستقبح معنى كان أو عينا.
والفحشاء : نوع من
السّوء ، كأنّها أقبح أنواعه ، وهي : ما يستعظم ، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها : (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) فكأنّه أقبح الأشياء ؛ لأنّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي
من أعظم أنواع الكبائر ، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).
فدلّت الآية
الكريمة على أنّ الشيطان يدعو إلى الصّغائر والكبائر ، والكفر ، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبّاس
ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : «الفحشاء» من المعاصي : ما فيه حدّ ، والسّوء من
الذّنوب ما لا حدّ فيه.
وقال السّدّيّ :
هي الزّنا .
__________________
وقيل : هي البخل ،
(وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مقاتل : كلّ
ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فإنّه الزّنا ، إلّا قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٨]
فإنه منع الزكاة.
وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا) عطف على قوله : «بالسّوء» ، تقديره : «وبأن تقولوا» فيحتمل
موضعها الجرّ والنصب ؛ بحسب قول الخليل ، وسيبويه .
قال الطّبريّ :
يريد ما حرّموا من البحيرة والسّائبة ونحوهما ، مما جعلوه شرعا.
فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح
دلّت الآية على
أنّ الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح ؛ لأنّ الله تعالى ذكره بكلمة «إنّما» وهي
للحصر.
وقد قال بعضهم :
إن الشيطان قد يدعو إلى الخير ؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشّرّ ؛ وذلك على أنواع
: إمّا أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل ، ليتمكّن من أن يجره من الفاضل الشّرّ ،
وإمّا أن يجرّه من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشقّ ؛ ليصير ازدياد المشقّة سببا
لحصول النّفرة عن الطّاعات بالكلّيّة.
وتناولت الآية
الكريمة جميع المذاهب الفاسدة ، بل تناولت مقلّد الحقّ ؛ لأنّه قال ما لا يعلمه ؛
فصار مستحقّا للذّمّ ؛ لاندراجه تحت هذا الذّمّ.
وتمسّك بهذه الآية
نفاة القياس ، [وجوابهم : أنه متى قامت الدّلالة على أنّ العمل بالقياس واجب ، كان
العمل بالقياس] قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ
كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)
(١٧٠)
الضمير في «لهم»
فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه يعود
على «من» في قوله (مَنْ يَتَّخِذُ) [البقرة : ١٦٥].
الثاني : قال بعض
المفسّرين : نزلت في مشركي العرب ، فعلى هذا : الآية متّصلة بما قبلها ، ويعود
الضمير عليهم ؛ لأنّ هذا حالهم.
الثالث : أنه يعود
على اليهود ؛ لأنّهم أشدّ الناس اتّباعا لأسلافهم.
روي عن ابن عبّاس
قال : دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال رافع بن خارجة ، ومالك بن عوف :
«بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منّا ، وأعلم منّا» ، فأنزل الله
هذه الآية الكريمة .
__________________
وقال بعضهم : هذه
قصّة مستأنفة ، والهاء والميم في «لهم» كناية عن غير مذكور.
الرابع : أنه يعود
على «النّاس» في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قاله الطبريّ ، وهو ظاهر إلّا أن ذلك من باب الالتفات من
الخطاب إلى الغيبة ، وحكمته : أنّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجّب من فعله ،
حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنّور والهدى ، فأجاب باتّباع شريعة أبيه.
قوله : «بل نتّبع»
«بل» ههنا : عاطفة هذه الجملة على جملة محذوفة قبلها ، تقديره : «لا نتّبع ما أنزل
الله ، بل نتّبع كذا» ولا يجوز أن تكون معطوفة على قوله : «اتّبعوا» لفساده ، وقال
أبو البقاء : «بل» هنا للإضراب [عن الأوّل ، أي : «لا نتّبع ما أنزل
الله» ، وليس بخروج من قصّة إلى قصّة ، يعني بذلك : أنه إضراب إبطال] ، لا إضراب انتقال ؛ وعلى هذا ، فيقال : كلّ إضراب في
القرآن الكريم ، فالمراد به الانتقال من قصّة إلى قصّة إلّا في هذه الآية ، وإلّا
في قوله : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُ) [السجدة : ٣] فإنه
محتمل للأمرين ؛ فإن اعتبرت قوله : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) ، كان إضراب انتقال ، وإذا اعتبرت «افتراه» وحده ، كان
إضراب إبطال.
والكسائيّ يدغم لام «هل» و «بل» في ثمانية أحرف :
التاء ؛ كقوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ) [الأعلى : ١٦]
والنّون : «بل نتّبع» والثّاء : (هَلْ ثُوِّبَ) [المطففين : ٣٦]
والسّين : (بَلْ سَوَّلَتْ) [يوسف : ١٨] ،
والزّاي : (بَلْ زُيِّنَ) [الرعد : ٣٣] ،
والضّاد : (بَلْ ضَلُّوا) [الأحقاف : ٢٨]
والظّاء : (بَلْ ظَنَنْتُمْ) [الفتح : ١٢]
والطّاء : (بَلْ طَبَعَ اللهُ) [النساء : ١٥٥] ،
وأكثر القرّاء على الإظهار ، ووافقه حمزة في التاء والسين ، والإظهار هو الأصل.
قوله : «ألفينا» :
في «ألفى» هنا قولان :
أحدهما : أنّها
متعدّية إلى مفعول واحد ، لأنها بمعنى «وجد» التي بمعنى «أصاب» ؛ بدليل قوله في
آية أخرى : (بَلْ نَتَّبِعُ ما
وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [لقمان : ٢١]
وقوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها
لَدَى الْبابِ) [يوسف : ٣٥]
وقولهم : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ) ، فعلى هذا : يكون «عليه» متعلّقا بقوله : «ألفينا».
والثاني : أنها
متعدّية إلى اثنين :
أولهما : «آباءنا»
، والثاني : «عليه» ، فقدّم على الأول.
وقال أبو البقاء ـ رحمهالله ـ : [«هي محتملة للأمرين ـ أعني كونها متعدّية لواحد
__________________
أو لاثنين» ـ ؛
قال أبو البقاء :] و «لام «ألفينا»
واو ؛ لأن الأصل فيما جهل من اللّامات أن تكون واوا ، يعني : فإنه أوسع وأكثر ؛
فالرّدّ إليه أولى.
ومعنى الآية : أنّ
الله ـ تبارك وتعالى ـ أمرهم بأن يتّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرّموا على أنفسهم
من الحرث ، والأنعام ، والبحيرة ، والسّائبة. أو ما أنزل الله من الدّلائل الباهرة
، قالوا : لا نتّبع ذلك ، وإنما نتبع آباءنا ، وأسلافنا ، فعارضوه بالتّقليد ،
فأجابهم الله تعالى بقوله : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ) ، فالهمزة في «أو لو» للإنكار ، وأما الواو ، [ففيها قولان
:
أحدهما ـ قاله
الزمخشريّ ـ : أنّها واو الحال.
والثاني ـ قال به
أبو البقاء ، وابن عطيّة ـ : أنّها للعطف ، وقد تقدّم الخلاف في هذه
الهمزة الواقعة قبل «الواو» و «الفاء» و «ثمّ» ، هل] بعدها جملة مقدّرة ، وهو رأي الزمخشري ؛ ولذلك قدّر ههنا :
«أيتّبعونهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدّين ، ولا يهتدون للصّواب؟» أو
النية بها التأخير عن حرف العطف؟
وقد جمع أبو حيّان
بين قول الزمخشريّ ، وقول ابن عطيّة ، فقال : والجمع بينهما : أنّ هذه الجملة المصحوبة ب «لو» في مثل
هذا السّياق جملة شرطية ، فإذا قال : «اضرب زيدا ، ولو أحسن إليك» ، فالمعنى : «وإن
أحسن إليك» وكذلك : «أعطوا السّائل ، ولو جاء على فرس» «ردّوا السّائل ،
ولو بشقّ تمرة» ، المعنى فيهما «وإن» وتجيء «لو» هنا ؛ [تنبيها] على أنّ
ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنّها جازت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها
الفعل ، ولتدلّ على أن المراد بذلك وجود الفعل في كلّ حال ؛ حتّى في هذه الحال
الّتي لا تناسب الفعل ؛ ولذلك لا يجوز : «اضرب زيدا ، ولو أساء إليك» ، ولا «أعطوا
السّائل ، ولو كان محتاجا» فإذا تقرّر هذا ، فالواو في «ولو» في الأمثلة التي
ذكرناها عاطفة على حال مقدّرة ، والمعطوف على الحال حال ؛ فصحّ أن يقال : إنّها
__________________
للحال من حيث
عطفها جملة حاليّة على حال مقدّرة ، وصحّ أن يقال : إنّها للعطف من حيث ذلك العطف
، فالمعنى ـ والله أعلم ـ : أنها إنكار اتّباع آبائهم في كلّ حال ؛ حتى في الحالة
الّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها ، وهي تلبّسهم بعدم العقل والهداية ؛ ولذلك لا
يجوز حذف هذه الواو الداخلة على «لو» إذا كانت تنبيها على أنّ ما بعدها لم يكن
مناسبا ما قبلها ، وإن كانت الجملة الحاليّة فيها ضمير عائد على ذي الحال ؛ لأنّ
مجيئها عارية من هذه الواو مؤذّن بتقييد الجملة السّابقة بهذه الحال ، فهو ينافي
استغراق الأحوال ؛ حتى هذه الحال ، فهما معنيان مختلفان ؛ ولذلك ظهر الفرق بين : «أكرم
زيدا ، لو جفاك» ، وبين : «أكرم زيدا ، ولو جفاك». انتهى. وهو كلام حسن.
وجواب «لو» محذوف
، تقديره : «لاتّبعوهم» وقدره أبو البقاء : «أفكانوا يتّبعونهم؟» وهي تفسير معنى لأن «لو» لا تجاب
بهمزة الاستفهام ، قال بعضهم : ويقال لهذه الواو أيضا واو التّعجّب دخلت عليها ألف
الاستفهام للتوبيخ .
فصل في بيان «معنى التقليد»
قال القرطبيّ : التقليد عند العلماء : «حقيقة قبول قول بلا حجّة» ؛ وعلى
هذا فمن قبل قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم من غير نظر في معجزته ، يكون مقلّدا ، وأمّا من نظر فيها ،
فلا يكون مقلّدا.
وقيل : «هو اعتقاد
صحّة فتيا من لا يعلم صحّة قوله» ، وهو في اللّغة مأخوذ من قلادة البعير ، تقول
العرب : قلّدت البعير ؛ إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به ؛ فكأنّ المقلّد يجعل أمره
كلّه لمن يقوده حيث شاء ؛ ولذلك قال شاعرهم : [البسيط]
٨٩١ ـ وقلّدوا أمركم لله درّكم
|
|
ثبت الجنان بأمر
الحرب مضطلعا
|
فصل في المراد بالآية
والمعنى : «أيتّبعون
آباءهم ، وإن كانوا جهّالا لا يعقلون شيئا» ، لفظه عامّ ، ومعناه الخصوص ؛ لأنهم
كانوا لا يعقلون كثيرا من أمور الدنيا ؛ فدلّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئا من
الدّين ، ولا يهتدون إلى كيفيّة اكتسابه.
وقوله «شيئا» فيه
وجهان :
أحدهما : أنه
مفعول به ؛ فيعمّ جميع المعقولات ؛ لأنّها نكرة في سياق النفي ، ولا يجوز أن يكون
المراد نفي الوحدة ، فيكون المعنى : لا يعقلون شيئا «بل أشياء من العقل» وقدّم نفي
العقل على نفي الهداية ؛ لأنّه يصدر عنه جميع التصرّفات.
__________________
الثاني : أن ينتصب
على المصدريّة ، أي : (لا يَعْقِلُونَ
شَيْئاً).
فصل في تقرير هذا الجواب
في تقرير هذا
الجواب وجوه :
الأوّل : أنه يقال
للمقلّد : هل تعترف بأنّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه محقّا ، أم لا؟
فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده ، إلّا بعد أن تعلم كونه محقّا ، فكيف عرفت
أنه محقّ ؛ فإن عرفته بتقليد آخر ، لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل ، فذاك كاف ،
ولا حاجة إلى التّقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّا ،
فإذن : قد جوّزت تقليده ، وإن كان مبطلا ، فإذن : أنت على تقليدك لا تعلم أنّك
محقّ ، أم مبطل .
وثانيها : هب أن
ذلك المتقدّم كان عالما بهذا إلّا أنّا لو قدّرنا أن ذلك المتقدّم ما كان عالما بذلك
الشّيء قطّ ، ولا اختار فيه ألبتة مذهبا ، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا
تعلم ذلك المتقدّم ، [ولا مذهبه ، كان لا بدّ من العدول إلى النّظر فكذا ههنا.
وثالثها : أنك إذا
قلّدت من قبلك ، فذلك المتقدّم] : إن كان عرفه بالتقليد ، لزم إما الدّور ،
__________________
وإمّا التسلسل ، وإن عرفه بالدليل ، وجب أن تطلب العلم بالدليل ، لا
بالتّقليد ؛ لأنّك لو
__________________
طلبته بالتقليد ،
لا بالدّليل ، مع أنّ ذلك المتقدّم طلبه بالدليل لا بالتقليد ، كنت مخالفا له ،
فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلا ، وإنّما ذكرت هذه
الآية الكريمة عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشّيطان ؛ تنبيها على أنه لا فرق بين
متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابعة التّقليد ، وفيه أقوى دليل على وجوب النّظر ،
والاستدلال ، وترك التّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أو على ما يقوله
الغير من غير دليل.
فصل في بيان ما يستثنى من التّقليد
قال القرطبيّ :
ذمّ الله تعالى الكفّار ؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر ، والمعصية ، وهذا الذّمّ في
الباطل صحيح ، وأما التقليد في الحقّ ، فأصل من «أصول الدّين» ، وعصمة من عصم
المسلمين ، يلجأ إليها الجاهل المقصّر عن درك النّظر ، واختلف العلماء ـ رضي الله
عنهم ـ في جوازه في مسائل الأصول ، وأمّا جوازه في مسائل الفروع ، فصحيح.
فصل في وجوب التّقليد على العامّي
قال القرطبيّ ـ رضي
الله عنه ـ : فرض العامّيّ الذي لا يستقلّ باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم
أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه ـ أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده
؛ فيسأله عن نازلته ، فيتمثّل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣]
وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه ؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه ، وعلى
العالم أيضا أن يقلّد عالما مثله في نازلة خفي عليه وجه الدليل فيها.
قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)
لما حكى عن
الكفّار أنّهم عند الدّعاء إلى اتّباع ما أنزل الله تعالى ، تركوا النّظر ،
__________________
وأخلدوا إلى
التّقليد ، وقالوا : (بَلْ نَتَّبِعُ ما
أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ـ ضرب لهم هذا المثل ؛ تنبيها للسّامعين لهم : أنهم إنما
وقعوا فيه ؛ بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الاهتمام بالدّين ، فصيرهم من هذا الوجه
بمنزلة الأنعام ، وضرب مثل هذا المثل يزيد السّامع اجتهادا في معرفة أحوال نفسه ،
ويحقّر إلى الكافر نفسه ، إذا سمع ذلك ، فيكون كسرا لقلبه ، وتضييقا لصدره ؛ حيث
صيّره كالبهيمة ، فكان ذلك في نهاية الرّدع والزّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل
طريقة التقليد.
وقد اختلف النّاس
في هذه الآية اختلافا كثيرا ، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلّا بعد معرفة المعنى
المذكور في الآية الكريمة ، وقد اختلفوا في ذلك :
فمنهم من قال :
معناها : أنّ المثل مضروب بتشبيه الكافر بالنّاعق ، ومنهم من قال : هو مضروب
بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكفر بالنّاعق
، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الدّاعي والكافر بالنّاعق ، والمنعوق به ، فهذه
أربعة أقوال.
فعلى القول الأول
: يكون التقدير : «ومثل الّذين كفروا في قلّة فهمهم ، كمثل الرّعاة يكلّمون البهم
والبهم لا تعقل شيئا».
وقيل : يكون
التقدير : «ومثل الّذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل
النّاعق بغنمه ؛ لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنّه في عناء» ؛ وكذلك الكافر ليس له
من دعائه آلهته إلّا العناء ؛ كما قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤].
قال الزّمخشريّ لمّا ذكر هذا القول : «إلّا أنّ قوله : «إلّا دعاء ونداء»
، لا يساعد عليه ؛ لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا».
قال أبو حيّان ـ رحمهالله ـ : «ولحظ الزمخشريّ في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة
، فكما أنّ المنعوق به لا يسمع إلّا دعاء ونداء ، فكذلك مدعوّ الكافر من الصّنم ،
والصّنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول» قال : «ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق
الدّعاء في خصوصيّات المدعوّ ، فتشبيه الكافر في دعائه الصّنم بالنّاعق بالبهيمة ،
لا في خصوصيّات المنعوق به» ، وقال ابن زيد في هذا القول ـ أعني : قول من قال :
التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم ـ : إنّ الناعق هنا ليس المراد به
الناعق بالبهائم ، وإنّما المراد به الصائح في جوف الجبل ، فيجيبه الصّدى ،
فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلّا دعاء نفسه ، ونداءها ، فعلى هذا القول :
يكون فاعل «يسمع» ضميرا عائدا على «الّذي ينعق» ويكون العائد على «ما» الرابط
للصّلة بالموصول محذوفا ؛ لفهم المعنى ، تقديره : «بما لا يسمع منه» وليس فيه شرط
__________________
جواز الحذف ؛ فإنه
جرّ بحرف غير ما جرّ به الموصول ، وأيضا : فقد اختلف متعلّقاهما إلّا أنه قد ورد
ذلك في كلامهم ، وأمّا على القولين الأوّلين ، فيكون فاعل «يسمع» ضميرا يعود على «ما»
الموصولة ، وهو المنعوق به.
وقيل : المراد ب «الّذين
كفروا» المتبوعون ، لا التابعون ، والمعنى : «مثل الّذين كفروا في دعائهم أتباعهم
، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلّا الخيبة ، كمثل النّاعق بالغنم» فعلى هذه
الأقوال كلّها : يكون «مثل» مبتدأ و «كمثل» خبره ، وليس في الكلام حذف إلّا جهة التّشبيه.
وعلى القول الثاني
من الأقوال الأربعة المتقدّمة : فقيل : معناه : «ومثل الّذين كفروا في دعائهم إلى
الله تعالى ، وعدم سماعهم إيّاه ، كمثل بهائم الّذي ينعق» فهو على حذف قيد في
الأوّل ، وحذف مضاف في الثاني.
وقيل : التقدير : «ومثل
الّذين كفروا في عدم فهمهم عن الله ورسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم الّتي لا
تفقه من الأمر والنّهي غير الصّوت» فيراد بالذي ينعق : الذي ينعق به ، ويكون هذا
من القلب ، وقال قائل : «هذا كما تقولون : «دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي»
وتقولون : «فلان يخافك ؛ كخوف الأسد» ، أي : كخوفه الأسد ، وقال تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ) [القصص : ٧٦]
وإنّما العصبة تنوء بالمفاتح». وإلى هذا ذهب الفرّاء ، وأبو عبيدة ، وجماعة إلّا
أنّ القلب لا يقع على الصّحيح إلّا في ضرورة أو ندور.
وأمّا على القول
الثّالث ، وهو قول الأخفش ، والزّجّاج ، وابن قتيبة : فتقديره : «ومثل داعي الّذين
كفروا كمثل النّاعق بغنمه ؛ في كون الكافر لا يفهم ممّا يخاطب به داعيه إلّا دويّ
الصّوت ، دون إلقاء فكر وذهن ؛ كما أنّ البهيمة كذلك ، فالكلام على حذف مضاف من
الأوّل.
فصل في المراد ب «ما لا يسمع»
قال الزّمخشريّ : ويجوز أن يراد ب «ما لا يسمع» الأصمّ الأصلج الذي لا
يسمع من كلام الرّافع صوته بكلامه إلّا النّداء والصّوت ، لا غير ؛ من غير فهم
للحرف ، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق «ما» على العقلاء ، أو لما تنزّل هذا منزلة من
لا يسمع من البهائم ، أوقع عليه «ما».
وأما على القول
الرابع ـ وهو اختيار سيبويه في هذه الآية ـ : فتقديره عنده : «مثلك يا محمّد ، ومثل
الذين كفروا ، كمثل النّاعق والمنعوق به» ، واختلف النّاس في
__________________
فهم كلام سيبويه ،
فقائل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعراب ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من
الأوّل ، وهو حذف «داعيهم» ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثّاني ، وهو
حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبّه داعي الكفّار براعي الغنم في
مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبّه الكفّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه
، إلّا أصواتا لا يعرفون ما وراءها ، وفي هذا الوجه حذف كثير ؛ إذ فيه حذف معطوفين
؛ إذ التقدير الصناعيّ : «ومثل الّذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق بالمنعوق به».
وقد ذهب إليه
جماعة ، منهم : أبو بكر بن طاهر ، وابن خروف ، والشّلوبين ؛ قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها ؛ ومثله
قوله : [(وَأَدْخِلْ يَدَكَ
فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢]] تقديره : «وأدخل يدك في جيبك ، تدخل ، وأخرجها تخرج» ؛
فحذف «تدخل» ؛ لدلالة «تخرج» وحذف «وأخرجها» ؛ لدلالة «وأدخل» ، قالوا : ومثله
قوله :
٨٩٥ ـ وإنّي لتعروني لذكراك فترة
|
|
كما انتفض
العصفور بلّله القطر
|
لم يرد أن يشبّه
فترته بانتفاض العصفور حين بلّله القطر ؛ لأنّهما ضدّان ؛ إذ هما حركة وسكون ،
ولكنّ تقديره : إنّي إذا ذكرتك ، عراني انتفاض ، ثمّ أفتر ؛ كما أن العصفور إذا
بلّله القطر ، عراه فترة ، ثم ينتفض ، غير أنّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ،
وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال
كلّها ، إنّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السّابق
بجزء من الكلام المشبّه به.
أمّا إذا كان
التشبيه من باب تشبيه جملة بجملة ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ،
بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب ؛ قال الرّاغب : «فلمّا شبّه
قصّة الكافرين في إعراضهم عن الدّاعي لهم إلى الحقّ ، بقصّة النّاعق قدّم ذكر
النّاعق ؛ لينبني عليه ما يكون منه ، ومن المنعوق به».
__________________
والكاف ليست
بزائدة ؛ خلافا لبعضهم ؛ فإنّ الصّفة ليست عين الصّفة الأخرى ، فلا بدّ من الكاف ؛
حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف ، اعتقدنا وجودها تقديرا تصحيحا للمعنى.
وقد تلخّص ممّا
تقدّم : أنّ «مثل الّذين» مبتدأ ، و «كمثل الّذي» خبره : إمّا من غير اعتقاد حذف ،
أو على حذف مضاف من الأوّل ، أي : مثل : «داعي الّذين» ، أو من الثّاني: أي : «كمثل
بهائم الّذي» ، أو على حذفين : حذف من الأوّل ما أثبت نظيره في الثّاني ، ومن
الثّاني ما أثبت نظيره في الأوّل ؛ كما تقدّم تحريره.
والنعيق دعاء
الرّاعي ، وتصويته بالغنم ؛ قال الأخطل في ذلك : [الكامل]
٨٩٦ ـ فانعق بضأنك يا جرير فإنّما
|
|
منّتك نفسك في
الخلاء ضلالا
|
قال القتيبيّ : لم يكن جرير راعي ضأن ، وإنّما أراد أنّ بني كليب
يعيّرون برعي الضأن ، وجرير منهم ؛ فهو من جهلتهم ، والعرب تضرب المثل في الجهل
براعي الضّأن ، ويقولون : أجهل من راعي ضأن.
يقال : نعق ، بفتح
العين ، ينعق ، بكسرها ، والمصدر النّعيق والنّعاق ، والنّعق ، وأما «نغق الغراب»
، فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملة أيضا في الغراب ، وهو غريب.
قال بعضهم : إنّ
الياء والنّون من قوله : «ينعق» من نصف هذه السّورة الأوّل ، والعين والقاف من
النصف الثّاني.
«إلّا دعاء» : هذا
استثناء مفرّغ ؛ لأن قبله «يسمع» ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن «إلّا» زائدة ،
فليس من الاستثناء في شيء ، وهذا قول مردود ، وإن كان الأصمعيّ قد قال بزيادة «إلّا»
في قوله : [الطويل]
٨٩٧ ـ حراجيج لا تنفكّ إلّا مناخة
|
|
على الخسف أو
نرمي بها بلدا قفرا
|
فقد ردّ النّاس
عليه ، ولم يقبلوا قوله ، وفي البيت كلام تقدّم.
وأورد بعضهم هنا
سؤالا معنويّا ، وهو أن قوله : (لا يَسْمَعُ إِلَّا
دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١]
ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمّهم بأنّهم لا يسمعون إلا الدعاء ؛
وكأنّه قيل: لا يسمعون إلّا المسموع ، وهذا لا يجوز؟
__________________
فالجواب : أن في
الكلام إيجازا ، وإنّما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم ؛ كما لا تميّز
البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوّت بها ، وإنّما تفهم شيئا يسيرا ، قد أدركته
بطول الممارسة ، وكثرة المعاودة ؛ فكأنه قيل لهم : إلّا سماع النّداء دون إدراك
المعاني ، والأغراض.
قال شهاب الدّين : وهذا السّؤال من أصله ليس بشيء ، ولو لا أنّ الشّيخ ذكره
، لم أذكره.
وهنا سؤال ذكره
عليّ بن عيسى ، وهو هل هذا من باب التّكرار لمّا اختلف اللّفظ ، فإنّ
الدعاء والنّداء واحد؟ والجواب : أنه ليس كذلك ؛ فإن الدعاء طلب الفعل ، والنداء
إجابة الصّوت.
وقال القرطبيّ ـ رحمهالله ـ : النداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، وكذلك قيل للأذان
بالصلاة نداء ؛ لأنه للأباعد ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ النبيّ ـ عليهالسلام ـ قال : «الخلافة في قريش ، والحكم في الأنصار ، والدّعوة
في الحبشة» .
قال ابن الاثير في
«النّهاية» : أراد بالدّعوة الأذان ، وجعله في الحبشة ؛ تفضيلا
لمؤذّنه بلال ، وقال شاعر الجاهليّة : [الوافر]
٨٩٨ ـ فلست بصائم رمضان عمري
|
|
ولست بآكل لحم
الأضاحي
|
ولست بقائم
كالعير يدعو
|
|
قبيل الصّبح حيّ
على الفلاح
|
أراد أذان الصّبح
، وقد تضمّ النون في النّداء ، والأصل الكسر.
قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٧١]
لمّا شبّههم بالبهائم ، زاد في تبكيتهم ، فقال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)
؛ لأنّهم صاروا
بمنزلة الأصمّ ؛ في أنّ الذي سمعوه ، كأنّهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البكم ؛ في ألّا
يستجيبوا لما دعوا إليه ، ومن حيث العمي ؛ من حيث إعراضهم عن الدّلائل ؛ فصاروا
كأنّهم لم يشاهدوها ، قال النّحاة : «صمّ» ، أي : هم صمّ ، وهو رفع على الذّمّ.
__________________
وقوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فالمراد : العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثّلاثة
، فلمّا أعرضوا عنها ، فقد فقدوا العقل الكسبيّ ، ولهذا قيل : من فقد حسّا ، فقد
فقد علما ، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ)(١٧٢)
قال بعض المفسّرين
: إنّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوّل السّورة إلى هنا دلائل للتّوحيد والنّبوّة ،
واستقصى في الرّدّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : «كلوا»
واعلم : أنّ الأكل قد يكون واجبا ، وذلك عند دفع الضرر عن النّفس ، وقد يكون
مندوبا ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، إذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، إذا
سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحا ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان
مسمّى الأكل مباحا ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع «كلوا» لا يفيد
الإيجاب ، والنّدب ، [بل الإباحة ، ومفعول «كلوا» محذوف ، أي : «كلوا رزقكم حال
كونه بعض طيّبات ما رزقناكم» ويجوز في رأي الأخفش : أن تكون «من» زائدة في المفعول
به ، أي : «كلوا طيّبات ما رزقناكم» .
فصل في بيان حقيقة الرّزق
استدلّوا على أنّ
الرزق قد يكون حراما ؛ بقوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ)؛ فإنّ الطّيّب هو الحلال ، فلو كان كلّ رزق حلالا ؛ لكان
قوله : «كلوا من] طيّبات ما رزقناكم» معناه : من محلّلات ما أحللنا لكم ،
فيكون تكرارا ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه ؛ بأن الطّيّب في أصل اللّغة : عبارة
عن المستلذّ المستطاب ، فلعلّ أقواما ظنّوا أنّ التوسّع في المطاعم ، والاستكثار
من طيّباتها ممنوع منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك ؛ لقوله تعالى : «كلوا» من
لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذّكر لهذا المعنى.
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطّيّب» في القرآن
قالوا : «والطّيّب»
ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجه :
أحدها : الطّيّبات
بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٢] ، أي : لا تتبدّلوا الحرام بالحلال.
الثاني : الطيّب
بمعنى الطّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) [النساء :
__________________
٤٣] ، وقال تعالى
: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠].
الثالث : الطّيّب
: معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين.
قوله : «واشكروا
الله» أمر ، وليس بإباحة ، بمعنى أنه يجب اعتقاد كونه مستحقّا إلى التعظيم ،
وإظهار الشّكر باللّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمة.
[الرابع : ذكر
الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ٣٥].
قوله : «إن كنتم»
شرط ، وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له ، وقول من قال من الكوفيّين : إنّها بمعنى «إذ»
ضعيف ، و «إيّاه» : مفعول مقدّم ؛ ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ،
وانفصاله واجب ، ولأنه متى تأخّر ، وجب اتصاله إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الرجز]
٨٩٩ ـ إليك حتّى بلغت إيّاك]
وفي قوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) التفات من ضمير المتكلّم إلى الغيبة إذ لو جرى على الأسلوب
الأوّل ، لقال : «واشكرونا».
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية
وجوه :
أحدها : «واشكروا
الله ، إن كنتم عارفين بالله ونعمه» فعبّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقا
لاسم الأثر على المؤثر.
وثانيها : معناه :
«إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله ، فاشكروه ؛ فإنّ الشّكر رأس العبادات».
وثالثها : «واشكروا
الله الّذي رزقكم هذه النّعمة ، إن كنتم إيّاه تعبدون» ، أي : إن صحّ أنّكم
تخصّونه بالعبادة ، وتقرّون أنّه هو إلهكم لا غيره ، قال ـ عليه الصلاة والسلام عن
الله ـ : «إنّي والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري؟!»
.
__________________
فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء
احتجّ من قال بأنّ
المعلّق بلفظ «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشّيء ؛ بهذه الآية ، فإنّه تعالى
علّق الأمر بالشّكر بكلمة «إن» على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات
يجب عليه الشكر أيضا.
قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)
لما أمر في الآية
المتقدّمة بأكل الحلال ، فصّل في هذه الآية [أنواع] الحرام.
قوله : «إنّما
حرّم» : الجمهور قرءوا «حرّم» مشدّدا مبنيّا للفاعل «الميتة» نصبا على أنّ «ما»
كافّة مهيّئة ل «إنّ» في الدّخول على هذه الجملة الفعليّة ، وفاعل «حرّم» ضمير
الله تعالى ، و «الميتة» : مفعول به ، وابن أبي عبلة برفع «الميتة» وما بعدها ، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن
تكون «ما» موصولة ، و «حرّم» صلتها ، والفاعل ضمير الله تعالى ، والعائد محذوف ؛
لاستكمال الشّروط ، تقديره : «حرّمه» ، والموصول وصلته في محلّ نصب اسم «إنّ» ، و
«الميتة» : خبرها.
وقرأ أبو جعفر ، وحمزة مبنيّا للمفعول ، فتحتمل «ما» في هذه القراءة
وجهين :
أحدهما : أن تكون «ما»
مهيئة ، و «الميتة» مفعول ما لم يسمّ فاعل.
والثاني : أن تكون
موصولة ، فمفعول «حرّم» القائم مقام الفاعل ضمير مستكنّ يعود على «ما» الموصولة ، و
«لميتة» خبر «إنّ».
وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ : «حرم» ، بضمّ الراء مخفّفة ، و «الميتة» رفعا و «ما» تحتمل
الوجهين أيضا ، فتكون مهيّئة ، و «الميتة» ؛ فاعل ب «حرم» ، أو موصولة ، والفاعل
ضمير يعود على «ما» وهي اسم «إنّ» ، و «الميتة» : خبرها ، والجمهور على تخفيف «الميتة»
في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدّم في أنّ «الميت»
مخفّف من «الميّت» ، وأن أصله «ميوت» ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل
عمران عند قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) [آل عمران : ٢٧].
ونقل عن قدماء
النحاة : أنّ «الميت» بالتّخفيف : من فارقت روحه جسده ،
__________________
وبالتشديد : من
عاين أسباب الموت ، ولم يمت ، [وحكى ابن عطيّة ـ رحمهالله ـ عن أبي حاتم : أنّ ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت] بعد ، لا يقال فيه بالتخفيف ، ثم قال : ولم يقرأ أحد
بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزّيّ عن ابن كثير : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ،
وأما قوله : [الوافر]
٩٠٠ ـ إذا ما مات ميت من تميم
|
|
فسرّك أن يعيش
فجىء بزاد
|
فقد حمل على من
شارف الموت ، وحمله على الميّت حقيقة أبلغ في الهجاء.
وأصل «ميتة» ميوتة
، فأعلّت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، وقال الكوفيّون : أصله «مويت» ،
ووزنه «فعيل».
قال الواحديّ : «الميتة»
: ما فارقته الرّوح من غير ذكاة ممّا يذبح .
فصل في بيان أن الآية عامّة مخصّصة بالسّنّة
هذه الآية الكريمة
عامّة دخلها التخصيص ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أحلّت لنا
ميتتان : السّمك والجراد ، ودمان : الكبد والطّحال» وكذلك حديث جابر في العنبر ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام
ـ في البحر : «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته» وهذا يدلّ على تخصيص الكتاب بالسّنة.
__________________
وقال عبد الله بن
أبي أوفى : «غزونا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سبع غزوات ، نأكل الجراد» وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاج ، أو حتف أنفه] ،
والله أعلم.
فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر
إذا وقع طائر
ونحوه في قدر ، فمات ، فقال مالك : لا يؤكل كل ما في القدر.
وقال ابن القاسم :
يغسل اللّحم ويؤكل ، ويراق المرق ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما .
فصل في بيان حكم الدّم
وأما الدّم :
فكانت العرب تجعل الدم في النّار ، وتشويها ، ثم تأكلها ، فحرّم الله تعالى الدّم
، واتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به.
قال بعضهم : يحرم ، إذا لم تعم به البلوى ، ويعفى عنه ، إذا عمّت به
البلوى ، كالذي في اللّحم والعروق ، واليسير في الثّوب والبدن يصلّى فيه ، وأطلق
الدّم هنا ، وقيّده بالمسفوح في «الأنعام» ، فيحمل المطلق على المقيّد ، وأمّا لحم الخنزير ، فاللّحم
معروف ، وأراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خصّ اللحم ؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل
، واللّحم جمعه لحوم ولحمان ، يقال : لحم الرّجل ، بالضم ، لحامة ، فهو لحيم ، أي
: غلظ ، ولحم ، بالكسر يلحم ، بالفتح ، فهو لحم : اشتاق إلى اللّحم ، ولحم النّاس
، فهو لاحم ، أي : أطعمهم اللحم ، وألحم : كثر عنده اللّحم [والخنزير : حيوان
معروف ، وفي نونه قولان :
أصحهما : أنّها
أصليّة ، ووزنه : «فعليل» ؛ كغربيب.
والثاني : أنها
زائدة ، اشتقوه من خزر العين ، أي : ضيقها ؛ لأنه كذلك ينظر ، وقيل : الخزر :
النّظر بمؤخّر العين ؛ يقال : هو أخزر ، بيّن الخزر].
فصل في بيان تحريم الخنزير
أجمعت الأمّة على
تحريم لحم الخنزير ، قال مالك : إن حلف لا يأكل الشّحم ، فأكل لحما لم يحنث بأكل
اللحم ، ولا يدخل اللحم في اسم الشّحم ؛ لأنّ اللحم مع الشّحم يسمّى لحما ، فقد
دخل الشّحم في اسم اللّحم ، واختلفوا في إباحة خنزير الماء ؛
__________________
قال القرطبيّ : لا خلاف في أنّ جملة الخنزير محرّمة ، إلّا الشّعر ،
فإنّه يجوز الخرازة به.
قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ) : «ما» موصولة بمعنى «الّذي» ، ومحلّها : إمّا النصب ،
وإمّا الرفع ؛ عطفا على «الميتة» والرّفع : إما خبر «إنّ» ، وإما على الفاعلية ؛
على حسب ما تقدم من القراءات ؛ و «أهلّ» مبنيّ للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو
الجار والمجرور في «به» والضمير يعود على «ما» والباء بمعنى «في» ولا بد من حذف
مضاف ، أي : «في ذبحه» ؛ لأن المعنى : «وما صيح في ذبحه لغير الله» ، والإهلال :
مصدر «أهلّ» ، أي : صرخ.
قال الأصمعيّ :
أصله رفع الصّوت ، وكلّ رافع صوته ، فهو مهلّ. ومنه الهلال ؛ لأنّه يصرخ عند رؤيته
، واستهلّ الصبيّ ؛ قال ابن أحمر : [السريع]
٩٠١ ـ يهلّ بالغرقد ركبانها
|
|
كما يهلّ
الرّاكب المعتمر
|
وقال النّابغة : [الكامل]
٩٠٢ ـ أو درّة صدفيّة غوّاصها
|
|
بهج متى يرها
يهلّ ويسجد
|
وقال القائل : [المديد]
٩٠٣ ـ تضحك الضّبع لقتلى هذيل
|
|
وترى الذّئب لها
يستهلّ
|
وقيل للمحرم :
مهلّ ؛ لرفع الصوت بالتّلبية ، و «الذّابح» مهلّ ؛ لأنّ العرب كانوا يسمّون
الأوثان عند الذّبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ، فمعنى قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، يعني : ما ذبح للأصنام ، والطّواغيت ، قاله مجاهد ،
والضّحّاك وقتادة ، وقال الرّبيع ابن أنس ، وابن زيد : يعني : ما ذكر عليه
غير اسم الله .
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله ـ : وهذا القول أولى ؛ لأنّه أشدّ مطابقة للّفظ.
قال العلماء : لو
ذبح مسلم ذبيحة ، وقصد بذبحها التقرّب إلى [غير] الله تعالى ، صار مرتدّا ،
وذبيحته ذبيحة مرتدّ ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب.
__________________
أمّا ذبائح أهل
الكتاب ، فتحلّ لنا ، لقوله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥].
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال
اختلفوا في
التّحريم المضاف إلى الأعيان ، [هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكرخيّ :
إنّه يقتضي الإجمال ، لأنّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة ، فلا بد من صرفها إلى فعل من
الأفعال فيها ، وهو غير محرّم ، فلا بدّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصّ ، وليس
بعض الأفعال أولى من بعض ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملة.
وأمّا أكثر
العلماء ، فقالوا : إنّها ليست بمجملة ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرّف
؛ قياسا على هذه الأجسام ؛ كما أنّ الذوات لا تملك ، وإنّما تملك التصرّفات فيها ،
فإذا قيل : «فلان يملك جارية» ، فهم كلّ أحد أنه يملك التصرّف فيها ؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل : لم لا
يجوز تخصيص هذا التّحريم بالأكل ؛ لأنّه المتعارف من تحريم الميتة ، ولأنّه ورد
عقيب قوله : (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خبر شاة ميمونة : «إنّما
حرّم من الميتة أكلها» .
فالجواب عن الأوّل
: لا نسلّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثّاني :
بأنّ هذه الآية الكريمة مسألة بنفسها ؛ فلا يجب قصرها على ما تقدّم ، بل يجب
إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثّالث : أنّ
ظاهر القرآن مقدّم على خبر الواحد ، هذا إذا لم نجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد ،
فإن جوّزناه ، يمكن أن يجاب عنه ؛ بأن المسلمين ، إنّما يرجعون في معرفة وجوه
الحرمة إلى هذه الآية ؛ فدلّ انعقاد إجماعهم على أنّها غير مختصّة ببيان حرمة
الأكل ، وللسّائل أن يمنع هذا الإجماع ، والله تعالى أعلم.
فإن قيل : كلمة «إنّما»
تفيد الحصر ، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة ، وقد ذكر في سورة المائدة هذه
المحرمات ، وزاد فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنّطيحة ، وما أكل
السّبع ، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب : أنّ هذه
الآية متروكة العمل بظاهرها ، وإن قلنا : إنّ كلمة «إنّما» لا تفيد الحصر ،
فالإشكال زائل.
__________________
فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ
للفقهاء سبعة
مذاهب في أمر الدباغ :
فأولها : قول
الزّهريّ : يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدّباغ ، ويليه داود ، قال :
تطهر كلّها بالدّباغ ، ويليه مالك ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلّها دون باطنها ،
ويليه أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : يطهر كلها بالدّباغ إلا جلد الخنزير ،
ويليه قول الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ قال : تطهر كلّها بالدّباغ إلّا جلد
الكلب والخنزير ، ويليه الأوزاعي ، وأبو ثور ، قالا : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ،
ويليه أحمد بن حنبل ، قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ ؛ واحتجّ بالآية الكريمة ،
والخبر ؛ أما الآية : فقوله تبارك وتعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] فأطلق التحريم ، ولم يقيّده بحال دون حال ،
وأمّا الخبر : فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث عبد الله بن عكيم ، لأنه قال
: «أتانا كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل وفاته بشهر ، أو شهرين : إنّي كنت رخّصت لكم في جلود
الميتة ، فإذا أتاكم كتابي هذا ، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب» .
واختلفوا في أنّه
، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيّ ، والبهيمة؟ فمنهم : من منع منه ؛ وقال
: لأنّه انتفاع بالميتة ، والآية الكريمة دالّة على تحريم الانتفاع بالميتة ،
فأمّا إذا أقدم البازيّ من عند نفسه على أكل الميتة ، فهل يجب عليه منعه ، أم لا؟
فيه احتمال.
فصل اختلافهم في حرمة الدّماء غير المسفوحة
حرّم جمهور
العلماء الدّم ، سواء كان مسفوحا ، أو غير مسفوح ، وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه
ـ : [دم السّمك ليس بمحرّم.
حجّة الجمهور :
ظاهر هذه الآية الكريمة ، وتمسّك أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ] بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥]
فصرّح بأنّه لم يجد من المحرّمات شيئا ، إلّا ما ذكر ، فالدّم الذي لا يكون مسفوحا
، وجب ألّا يكون محرّما ؛ لأنّ هذه الآية الكريمة خاصّة ، وتلك عامّة ، والخاصّ
مقدّم على العامّ.
وأجيب بأنّ قوله «لا
أجد» ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في
__________________
هذه الآية ، بل
على أنّه تعالى ما بيّن له إلّا تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبيّن له
بعد ذلك تحريم شيء آخر ، فلعلّ قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣]
نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بيانا لتحريم الدّم مسفوحا ، أو غير مسفوح.
وإذا ثبت هذا ،
وجب الحكم بحرمة جميع الدّماء ، ونجاستها ، فيجب إزالة الدّم عن اللّحم ما أمكن ،
وكذا في السّمك ، وأيّ دم وقع في الماء ، أو الثّوب ، فإنه ينجس ذلك المورود.
واختلفوا في قوله
ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «أحلّت لنا ميتتان ودمان» ، هل تسمية الكبد والطّحال
دما حقيقة ، أم تشبيه .
فصل في شراء الخنزير ، وأكل خنزير الماء
أجمعت الأمّة على
أنّ الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه ؛ لأن معظم
الانتفاع متعلّق به ، واختلفوا في أنّه هل يجوز أن يشترى؟
فقال أبو حنيفة ،
ومحمد : يجوز ، وقال الشافعيّ : لا يجوز ، وكره أبو يوسف ـ رحمهالله تعالى ـ الخزز به ، وروي عنه الإباحة.
واختلفوا في خنزير
الماء ، فقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعيّ : لا بأس بأكل شيء
يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل.
حجّة الشافعيّ
قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة : ٩٦]
وحجّة أبي حنيفة : أنّ هذا خنزير ، فيدخل في آية التّحريم.
قال الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : إذا أطلق الخنزير ، لم يتبادر إلى
الفهم لحم السّمك ، بل غير السّمك بالاتّفاق ، ولأنّ خنزير الماء لا يسمّى خنزيرا
على الإطلاق ، بل يسمّى خنزير الماء.
فصل
من الناس : من زعم
أنّ المراد ب (ما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) ذبائح عبدة الأوثان على النصب ، قال ابن عطيّة ـ رضي الله
عنه ـ : رأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن : أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها
عرسا ، فذبحت جزورا ، فقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : لا يحلّ أكلها ، فإنها نحرت
لصنم ، وأجازوا ذبيحة النّصارى ، إذا سمّوا عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ،
ومكحول ، والحسن ، والشّعبيّ ، وسعيد بن المسيّب. وقال مالك ، والشافعيّ وأحمد
وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك ، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم.
__________________
قال عليّ بن أبي
طالب ـ كرم الله وجهه ـ : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلّون لغير الله ، فلا
تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم ، فكلوا ، فإنّ الله تبارك وتعالى ، قد أحلّ ذبائحهم ،
وهو يعلم ما يقولون ؛ واحتجّ المخالف بقوله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] وهذا عامّ ، وبقوله : «وما ذبح على النّصب»
فدلّت هذه الآية الكريمة على أنّ المراد بقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) هو المراد ب «ما ذبح على النّصب» ، ولأن النّصارى ، إذا
سمّوا الله تعالى ، فإنّما يريدون به المسيح ، فإذا كانت إرادتهم لذلك ، لم تمنع
حلّ ذبيحتهم ، مع أنّه يهلّ به لغير الله تعالى ، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه ، إذ
ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح.
والجواب عن الأوّل
: أن قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: ٥] عامّ ، وقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ.
وعن الثاني أن
قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) لا يقتضي تخصيص قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) ؛ لأنهما آيتان متباينتان.
وعن الثالث :
إنّما كلّفنا بالظّاهر ، لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى ، وجب أن يحلّ
، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) في «من» وجهان :
أحدهما : أن تكون
شرطية.
والثاني : أن تكون
موصولة بمعنى «الذي».
فعلى الأوّل :
يكون «اضطرّ» في محلّ جزم بها ، وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) جواب الشرط ، والفاء فيه لازمة.
وعلى الثاني : لا
محلّ لقوله «اضطرّ» من الإعراب ، لوقوعه صلة ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ تشبيها
للموصول بالشّرط ، ومحلّ (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) الجزم على الأوّل ، والرفع على الثاني. والجمهور على «اضطرّ»
بضمّ الطاء ، وهي أصلها ، وقرأ أبو جعفر بكسرها ؛ لأنّ الأصل «اضطرر» بكسر الراء الأولى ،
فلمّا أدغمت الراء في الرّاء ، نقلت حركتها إلى الطّاء بعد سلبها حركتها ، وقرأ ابن محيصن : «اطّرّ» بإدغام الضّاد في الطّاء ، وقد تقدّم
الكلام في المسألة هذه عند قوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ
إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦].
وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة بكسر نون «من» على أصل التقاء الساكنين ،
وضمّها الباقون ؛ إتباعا لضمّ الثالث.
__________________
وليس هذا الخلاف
مقصور على هذه الكلمة ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ؛ وضمّ الثالث ضمّا لازما
نحو : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) [الأنعام : ١٠] (قُلِ ادْعُوا) [الإسراء : ١١٠] ،
(وَقالَتِ اخْرُجْ) [يوسف : ٣١] ، جرى
الخلاف المذكور ، إلّا أنّ أبا عمرو خرج عن أصله في (أَوِ) [المزمل : ٣] و (قُلِ ادْعُوا) [الإسراء : ١١٠]
فضمّهما ، وابن ذكوان خرج عن أصله ، فكسر التنوين خاصّة ؛ نحو (مَحْظُوراً انْظُرْ) [الإسراء : ٢٠ ،
٢١] واختلف عنه في (بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا) [الأعراف : ٤٩] (خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) [إبراهيم : ٢٦]
فمن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضمّ ، فللإتباع ، وسيأتي بيان الحكمة في
ذلك عند ذكره ، إن شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم.
قوله : «غير باغ»
: «غير» : نصب على الحال ، واختلف في صاحبها :
فالظاهر : أنه
الضمير المستتر [في «اضطرّ»] ، وجعله القاضي ، وأبو بكر الرازيّ من فاعل فعل محذوف بعد
قوله «اضطرّ» ؛ قالا : تقديره : «فمن اضطرّ فأكل غير باغ» ؛ كأنهما قصدا بذلك أن
يجعلاه قيدا في الأكل لا في الاضطرار.
قال أبو حيّان : ولا يتعيّن ما قالاه ؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدّر بعد
قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) بل هو الظاهر والأولى ؛ لأنّ في تقديره قبل «غير باغ» فصلا
بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : «غير باغ».
و «عاد» : اسم
فاعل من : عدا يعدو ، إذا تجاوز حدّه ، والأصل : «عادو» فقلب الواو ياء ؛ لانكسار
ما قبلها ؛ كغاز من الغزو ، وهذا هو الصحيح ؛ وقيل : إنّه مقلوب من : عاد يعود ،
فهو عائد ، فقدّمت اللام على العين ، فصار اللّفظ «عادو» فأعلّ بما تقدّم ، ووزنه «فالع»
؛ كقولهم : «شاك» في «شائك» من الشّوكة ، و «هار» ، والأصل «هائر» ، لأنّه من :
هار يهور.
قال أبو البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ : «ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوبا ؛ عطفا
على موضع «غير» جاز» ، يعني : فكان يقال : «ولا عاديا».
قوله : «اضطرّ»
أحوج وألجىء ، فهو : «افتعل» من الضّرورة ، وأصله : من الضّرر ، وهو الضّيق ، وهذه
الضّرورة لها سببان :
أحدهما : الجوع
الشّديد ، وألّا يجد مأكولا حلالا يسدّ به الرّمق ، فيكون عند ذلك مضطرا.
والثاني : إذا
أكره على تناوله.
__________________
واعلم أنّ
الاضطرار ليس من فعل المكلّف ؛ حتى يقال : إنّه لا إثم عليه ، فلا بدّ من إضمار ،
والتقدير : «فمن اضطرّ ، فأكل ، فلا إثم عليه» ونظيره : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] ، فحذف «فأفطر» ، وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦]
وإنما جاز الحذف ؛ لعلم المخاطب به ، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي : أصله في
اللغة الفساد.
قال الأصمعيّ :
يقال : بغى الجرح بغيا : إذا بدأ في الفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها ،
والبغي : الظلم ، والخروج عن الإنصاف ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : ٣٩]
وأصل العدوان : الظّلم ، ومجاوزة الحد.
فصل
اختلفوا في معنى
قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) فقال بعضهم : «غير باغ» أي
غير خارج على السّلطان ، و «لا عاد» أي : متعدّ بسفره ، أعني : عاص بأن خرج لقطع
الطّريق ، والفساد في الأرض ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير.
وقالوا : لا يجوز
للعاصي بسفره أن يأكل الميتة ، إذا اضطر إليها ، ولا أن يترخّص في السّفر بشيء من
الرّخص ؛ حتى يتوب ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل ،
واختلفوا في معناه.
فقال الحسن ،
وقتادة ، والرّبيع ، ومجاهد ، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة أي : بغي في أكله «ولا عاد» ، أي : ولا يعدو لشبعه.
وقيل : «غير باغ»
أي : غير طالبها ، وهو يجد غيرها ، «ولا عاد» ، أي : غير متعدّ ما حد له ، فيأكل
حتّى يشبع ، ولكن يأكل ما يسدّ رمقه .
وقال مقاتل : «غير
باغ» أي : مستحلّ لها ، «ولا عاد» أي : يتزوّد منها ، وقيل : «غير باغ» ، أي :
مجاوز للحدّ الذي أحلّ له ، «ولا عاد» ، أي : لا يقصّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروق : من
اضطرّ إلى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، فلم يأكل ، ولم يقرب ، حتى مات ، دخل
النّار.
وقال سهل بن عبد
الله : «غير باغ» : مفارق للجماعة ، «ولا عاد» ، أي : ولا مبتدع مخالف السنة ، ولم
يرخّص للمبتدع تناول المحرّم عند الضرورة.
فإن قيل : الأكل
في تلك الحالة واجب ، وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أيضا يفيد الإباحة ،
__________________
وأيضا : فإنّ المضطرّ
كالملجأ إلى الفعل ، والملجأ لا يوصف بأنّه لا إثم عليه.
فالجواب : أنّا قد
بينّا عند قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] : أنّ
نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، وأيضا : قوله تبارك وتعالى
: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)
: معناه : رفع
الحرج والضّيق.
واعلم : أنّ هذا
الجائع ، إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل له فيه النّفرة الشّديدة ، فإنّه
يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرّمق ، وكما يصير ملجأ إلى الهرب من السّبع ، إذا
أمكنه ذلك ، أمّا إذا حصلت النّفرة ، فإنّه بسبب تلك النّفرة ، يخرج عن أن يكون
ملجأ ، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النّفار.
فإن قيل : قوله
تبارك وتعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يناسب أن يقال بعده : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) فإنّ الغفران ، إنّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن
المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدّم إلّا أنه زالت الحرمة ؛ لقيام المعارض ،
فلمّا كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضي للحرمة ، عبّر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر
بعده أنّه رحيم ، يعني : لأجل الرحمة عليكم ، أبحت لكم ذلك.
وثانيها : لعل
المضطرّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها : أن الله
تعالى ، لمّا بيّن هذه الأحكام ، عقّبها بقوله تعالى : «غفور» للعصاة ، إذا تابوا
، «رحيم» بالمطيعين المستمرّين على منهج الحكمة.
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيّ ـ رضي
الله عنه ـ : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) معناه : أن كل من كان مضطرّا ، ولا يكون موصوفا بصفة البغي
، ولا بصفة العدوان ألبتّة ، فأكل ؛ فلا إثم عليه .
وقال أبو حنيفة :
معناه : «فمن اضطرّ ، فأكل غير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فلا إثم عليه» فخصّص صفة
البغي والعدوان بالأكل ، ويتفرّع على هذا الخلاف ، هل يترخّص العاصي بسفره ، أم لا؟
فقال الشافعيّ :
لا يترخّص ؛ لأنّه يوصف بالعدوان ؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة .
وقال أبو حنيفة :
يترخّص ؛ لأنّه مضطرّ ، وغير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فيندرج تحت الآية .
__________________
احتجّ الشافعي ـ رضي
الله عنه ـ بأنّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكلّ ، ثم أباحها للمضطرّ
الموصوف بأنّه غير باغ ، ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة ؛ لأنّ
قولنا : «فلان ليس بمتعدّ» نقيض لقولنا : «فلان متعدّ» ، وقولنا : «فلان متعدّ»
يكفي في صدقه كونه متعدّيا لأمر من الأمور ، سواء كان في سفر ، أو أكل ، أو غيرهما
، وإذا صدق عليه اسم التعدّي بكونه متعدّيا في شيء من الأشياء فإن قولنا (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) لا يصدق إلّا إذا انتفى عنه صفة التعدّي من جميع الوجوه ،
والعاصي بسفره متعدّ بسفره ، فلا يصدق عليه كونه (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) ، فيجب بقاؤه تحت التّحريم.
فإن قيل : يشكل
بالعاصي في سفره ؛ فإنّه يترخّص مع أنّه موصوف بالعدوان.
والجواب : أنّه
عامّ دخله التخصيص في هذه الصّورة ، ثم الفرق بينهما : أنّ الرخصة إعانة على
السّفر ، فإذا كان السّفر معصية ، كانت الرخصة إعانة على المعصية ، وإذا لم يكن السّفر
معصية في نفسه ، لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية ، فافترقا.
فإن قيل : قوله
تعالى (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) شرط ، والشرط بمنزلة الاستثناء ؛ في أنه لا يستقلّ بنفسه ،
فلا بدّ من تعلّقه بمذكور ، ولا مذكور إلّا الأكل ؛ لأنّا بيّنّا أنّ قوله تعالى :
(غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) لا يصدق عليه إلّا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور
، فيدخل فيه نفي العدوان بالسّفر ضمنا ، ولا نقول : اللفظ يدلّ على التعيين .
وأمّا تخصيصه
بالأكل : فهو تخصيص من غير ضرورة ، ثمّ الذي يدلّ على أنّه لا يجوز صرفه إلى الأكل
وجوه :
أحدها : أنّ قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حال من الاضطرار ؛ فلا بدّ وأن يكون وصف الاضطرار باقيا ،
مع بقاء كون : (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) حالا من الاضطرار ، فلو كان المراد بقوله : (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) كونه كذلك في الأكل ـ لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه ؛
لأنّه حال الأكل ، لا يبقى معه حال الاضطرار.
ثانيها : أن
الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى
النهي ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.
وثالثها : أن كونه
غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما
تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية ،
__________________
وكذلك العدوان
بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات
، فتخصيصه بالأكل غير جائز.
وثالثها : قوله
تبارك وتعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣] ،
فبيّن في هذه أن المضطرّ إنما يترخّص ، إذا لم يكن متجانفا لإثم ، وهذا يؤيّد ما
قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألّا يكون موصوفا بالبغي والعدوان في أمر من
الأمور.
احتجّ أبو حنيفة ـ
رضي الله عنه ـ ، بوجوه :
أحدها : قوله
تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩].
وهذا مضطرّ ؛ فوجب
أن يترخّص .
وثانيها : قوله
تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: ٢٩] ، (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ،
والامتناع من الأكل سبب في قتل النّفس ، وإلقاء بها إلى التهلكة ؛ فوجب أن يحرّم.
وثالثها : أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ رخّص للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاث أيّام ولياليهنّ ، ولم
يفرق بين العاصي وغيره.
رابعها : أنّ
العاصي بسفره ، إذا كان نائما ، فأشرف على غرق ، أو حرق ، يجب على الحاضر الّذي
يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه ، فلأن يجب عليه في هذه الصورة : أن يسعى في
إنقاذ مهجته أولى.
وخامسها : أن
العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك ؛ من الحيوانات الصّائلة عليه ،
والحيّة ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا.
سادسها : أنّ
العاصي بسفره ، إذا اضطرّ ، فلو أباح له رجل شيئا من ماله ، فله أخذه ، بل يجب دفع
الضّرر عن النّفس.
[سابعها : أنّ
التوبة أعظم في الوجوب وما ذاك إلا لدفع ضرر النّار عن النّفس] ، وهي أعظم من كلّ ما يدفع المؤمن من المضار عن نفسه ؛
فلذلك دفع ضرر الهلاك عن نفسه لهذا الأكل ، وإن كان عاصيا.
وثامنها : أنّ
الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون رضاه ، بل على سبيل القهر ، وهذا التناول
يحرم لو لا الاضطرار ، فكذا ههنا.
وأجيب عن التمسّك
بالعمومات ؛ بأنّ دليلنا النّافي للترخّص أخصّ دلائلهم
__________________
المرخّصة والخاصّ
متقدّم على العامّ ، وعن الوجوه القياسيّة بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتّوبة ، فإذا لم يتب ، فهو الجاني على نفسه ، ثم
تعارض هذه الوجوه : بأنّ الرخصة إعانة على السّفر ، فإذا كان السّفر معصية ، كانت
الرخصة إعانة على المعصية ، والمعصية ممنوع منها ، والإعانة سعي في تحصيلها ؛
فالجمع بينهما متناقض .
فصل في اختلافهم في اختيار المضطرّين المحرّمات
اختلفوا في المضطرّ
، إذا وجد كلّ ما يضطرّ من المحرّمات.
فالأكثرون على
أنّه مخيّر بين الكلّ ، ومنهم من قال : يتناول الميتة ، دون لحم الخنزير ويعد لحم
الخنزير أعظم في التّحريم.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤)
قال ابن عبّاس :
نزلت في رؤوس اليهود : كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، وحييّ بن
أخطب ، وأبي ياسر بن أخطب ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا ، وكانوا يرجون أن
يكون النبيّ المبعوث منهم ، فلما بعث محمّد عليه الصّلاة والسّلام من غيرهم خافوا
انقطاع تلك المنافع ؛ فكتموا أمر محمّد صلىاللهعليهوسلم بأن غيّروا صفته ، ثم أخرجوها إليهم ، فإذا ظهرت السفلة
على النّعت المغيّر ، وجدوه مخالفا لصفته صلىاللهعليهوسلم ، فلا يتبعونه ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية .
قال القرطبيّ : ومعنى «أنزل» : أظهر ؛ كما قال تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما
أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] أي
: سأظهر وقيل : هو على بابه من النّزول ، أي : ما أنزل به ملائكته على رسله.
قوله : «من الكتاب»
: في محلّ نصب ، على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنّه
العائد على الموصول ، تقديره : «أنزله الله» حال كونه «من الكتاب» فالعامل فيه «أنزل».
والثاني : أنه
الموصول نفسه ، فالعامل في الحال «يكتمون».
قوله : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) : الضمير في «به» يحتمل أن يعود على «ما» الموصولة ، وأن
يعود على الكتم المفهوم من قوله : «يكتمون» ، وأن يعود على الكتاب ، والأوّل أظهر
،
__________________
ويكون ذلك على حذف
مضاف ، أي : «يشترون بكتم ما أنزل».
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنه ـ وقتادة والسّدّيّ ، والأصمّ وأبو مسلم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يكتمون صفة
محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ونعته .
وقال الحسن :
كتموا الأحكام ، وهو قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ
الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤].
فصل في حقيقة الكتمان
اختلفوا في كيفيّة
الكتمان.
فروي عن ابن عبّاس
أنّهم كانوا يحرّفون ظاهر التّوراة ، والإنجيل .
قال المتكلّمون :
وهذا ممتنع ؛ لأنّ التوراة والإنجيل كتابان ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدّ التواتر
؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما ، وإنّما كانوا يكتمون التأويل ، لأنّه قد كان منهم من
يعرف الآيات الدالّة على نبوة محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ، ويحرّفونها عن
محاملها الصحيحة ، والدّالّة على نبوّة محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهذا هو المراد من الكتمان ، فيصير المعنى : الذين
يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب.
(وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) كقوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١]
لأنّه في نفسه قليل ولأنّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليل ، ولما ذكر عنهم هذه
الحكاية ، ذكر الوعيد عليهم ؛ فقال : (أُولئِكَ ما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
قال بعضهم : ذكر
البطن هنا زيادة بيان ؛ كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]
وقال بعضهم : بل فيه فائدة ؛ وقوله (فِي بُطُونِهِمْ) ، يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه.
فصل في أكلهم النّار في الدنيا أم في الآخرة
قال الحسن ،
والرّبيع ، وجماعة من أهل العلم إنّ أكلهم في الدنيا وإن كان طيّبا في الحال ،
فعاقبته النّار ؛ لأنّه أكل ما يوجب النار ؛ فكأنه أكل النّار ؛ كما روي في حديث
الشّارب من آنية الذّهب والفضّة : «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم».
وقوله تبارك
وتعالى : (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] أي :
عنبا ؛ فهذا كلّه من تسمية الشيء بما يؤول إليه. وقال الأصمّ إنّهم في الآخرة
يأكلون النّار ؛ لأكلهم في الدنيا الحرام.
قوله : «إلّا
النّار» استثناء مفرّغ ؛ لأنّ قبله عاملا يطلبه ، وهذا من مجاز الكلام ،
__________________
جعل ما هو سبب
للنّار نارا ؛ كقولهم : «أكل فلان الدّم» ، يريدون الدية الّتي بسببها الدّم ؛ قال
القائل في ذلك : [الطويل]
٩٠٤ ـ فلو أنّ حبّا يقبل المال فدية
|
|
لسقنا إليه
المال كالسّيل مفعما
|
ولكن أبى قوم
أصيب أخوهم
|
|
رضا العار
واختاروا على اللّبن الدّما
|
وقال القائل : [الطويل]
٩٠٥ ـ أكلت دما إن لم أرعك بضرّة
|
|
بعيدة مهوى
القرط طيّبة النّشر
|
وقال : [الرجز]
٩٠٦ ـ يأكلن كلّ ليلة إكافا
يريد : ثمن إكاف .
وقوله : (فِي بُطُونِهِمْ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن
يتعلّق بقوله «يأكلون» فهو ظرف له ، قال أبو البقاء : وفيه حذف مضاف ، أي «طريق بطونهم» ولا حاجة إلى ما قاله
من التّقدير.
والثاني : أن يتعلّق
بمحذوف ، على أنّه حال من النّار.
قال أبو البقاء : والأجود : أن تكون الحال هنا مقدّرة ؛ لأنّها وقت الأكل
ليست في بطونهم. وإنّما تؤول إلى ذلك ، والتقدير : ثابتة وكائنة في بطونهم.
قال : ويلزم من
هذا تقديم الحال على حرف الاستثناء.
وهو ضعيف ، إلّا
أن يجعل المفعول محذوفا و «في بطونهم» حالا منه ، أو صفة له ، أي : في بطونهم شيئا
، يعني فيكون : «إلّا النّار» منصوبا على الاستثناء التّامّ ؛ لأنّه مستثنى من ذلك
المحذوف إلّا أنّه قال بعد ذلك : وهذا الكلام من المعنى على المجاز وللإعراب حكم
اللفظ.
والثالث : أن يكون
صفة أو حالا من مفعول «كلوا» محذوفا ؛ كما تقدم تقديره.
قوله : في ذكر
البطون تنبيه على أنّهم باعوا آخرتهم بدنياهم ، وهو حظّهم من المطعم الّذي لا خطر
له ومعنى «إلّا النّار» ، أي : أنّه حرام يعذّبهم الله عليه ، فسمّى ما
__________________
أكلوه من الرّشا
نارا ؛ لأنّه يؤدّيهم إلى النار ، قاله أكثر المفسّرين .
وقيل : إنّه
يعاقبهم على كتمانهم بأكل النّار في جهنم حقيقة فأخبر عن المآل بالحال ؛ كما قال
تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً) [النساء : ١٠] ،
أي عاقبتهم تئول إلى ذلك ، ومنه قول القائل : [الوافر]
٩٠٧ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب
|
|
..........
|
وقال القائل [المتقارب]
٩٠٨ ـ ..........
|
|
فللموت ما تلد
الوالده
|
وقال آخر : [البسيط]
٩٠٩ ـ ..........
|
|
ودورنا لخراب
الدّهر نبنيها
|
وهذه الآية تدلّ
على تحريم الرّشوة على الباطل.
قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) ظاهره : أنّه لا يكلّمهم أصلا ، لكنه لما أورده مورد
الوعيد ، فهم منه ما يجري مجرى العقوبة وذكروا فيه ثلاثة أوجه :
الأوّل : قد دلّ
الدّليل على أنّه سبحانه وتعالى يكلّمهم ؛ وذلك قوله (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢].
وقوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦]
فعرفنا أنّه يسأل كلّ واحد من المكلّفين ، والسؤال لا يكون إلّا بكلام ، فقالوا :
وجب أن يكون المراد من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلّمهم بتحيّة وسلام وخير ،
وإنما يكلّمهم بما يعظم عندهم من الحسرة والغمّ ؛ من المناقشة والمساءلة كقوله
تعالى (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].
الثاني : أنّه
تبارك وتعالى لا يكلّمهم أصلا ، وأمّا قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى ، وإنّما كان
عدم تكليمهم في معرض
__________________
التّهديد ؛ لأنّ [يوم
القيامة هو اليوم الذي يكلّم الله تعالى فيه كلّ الخلائق بلا واسطة ، فيظهر] عند كلامه السّرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ويتميّز
أهل الجنّة بذلك ، من أهل النار. فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد.
الثالث : أن قوله
: (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) استعارة عن الغضب ؛ لأنّ عادة الملوك أنّهم عند الغضب
يعرضون عن المغضوب عليه ، ولا يكلّمونه ؛ كما أنّهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه
والحديث.
وقوله (وَلا يُزَكِّيهِمْ) فيه وجوه :
الأوّل : لا
ينسبهم إلى التّزكية ، ولا يثني عليهم.
الثاني : لا يقبل
أعمالهم ؛ كما يقبل أعمال الأولياء.
الثالث : لا
ينزلهم منازل الأولياء.
وقيل : لا يصلح
أعمالهم الخبيثة ، فيطهرهم.
قوله «ولهم عذاب
أليم» ، اعلم : أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول ؛ كالجريح والقتيل ، بمعنى
المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى «المفعل» ؛ كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى
المؤلم.
واعلم أنّ العبرة
بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب ، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود ، لكنّها
عامّة في حقّ كلّ من كتم شيئا من باب الدّين.
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)
اعلم أنّ أحسن
الأشياء في الدّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضّلال والجهل فلمّا تركوا
الهدى في الدّنيا ، ورضوا بالضّلال والجهل ، فلا شكّ أنّهم في نهاية الخسارة في
الدنيا ، وأمّا في الآخرة ، فأحسن الأشياء المغفرة ، وأخسرها العذاب ، فلمّا صرفوا المغفرة ،
ورضوا بالعذاب ، فلا جرم : أنهم في نهاية الخسارة ، ومن كانت هذه صفته ، فهو أعظم
النّاس خسارة في الدّنيا والآخرة.
قوله (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) في «ما» هذه خمسة أقوال :
أحدها : وهو قول
سيبويه ، والجمهور : أنّها نكرة تامّة غير موصولة ، ولا
__________________
موصوفة ، وأنّ
معناها التعجّب ، فإذا قلت : «ما أحسن زيدا» ، فمعناه : شيء صيّر زيدا حسنا.
الثاني : قول
الفراء ـ رحمهالله تعالى ـ أنّها استفهاميّة صحبها معنى التعجّب ؛ نحو (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ).
قال عطاء ،
والسّدّيّ : هو «ما» الاستفهام ، معناه : ما الّذي صبّرهم على النّار؟ وأيّ شيء
صبّرهم على النّار ؛ حتى تركوا الحقّ ، واتبعوا الباطل .
قال الحسن ،
وقتادة : «والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على العمل الّذي يقرّبهم
إلى النار» وهي لغة يمنية معروفة.
قال الفراء :
أخبرني الكسائيّ قال : أخبرني قاضي «اليمن» أنّ خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين
على أحدهما ، فحلف ، فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله؟ أي : ما أجرأك عليه .
وحكى الزّجّاجّ :
ما أبقاهم على النّار ، من قولهم : «ما أصبر فلانا على الحبس» ، أي : ما أبقاه فيه
.
والثالث : ويعزى
للأخفش [أنّها موصولة.
الرابع : ويعزى له
أيضا : أنها نكرة موصوفة وهي على الأقوال الأربعة في محلّ رفع بالابتداء ، وخبرها
على القولين الأولين : الجملة الفعليّة بعدها ، وعلى قولي الأخفش] : يكون الخبر محذوفا فإنّ الجملة بعدها إما أن تكون صلة ،
أو صفة. وكذلك اختلفوا في أفعل الواقع بعدها ، أهو اسم؟ وهو قول الكوفيّن ، أم فعل؟
وهو الصحيح ، ويترتّب على هذا الخلاف خلاف في نصب الاسم بعده ، هل هو مفعول به ،
أو مشبّه بالمفعول به ، ولكلّ من المذهبين دلائل ، واعتراضات وأجوبة ليس هذا
موضعها.
والمراد بالتعجّب
هنا ، وفي سائر القرآن : الإعلام بحالهم ؛ أنّها ينبغي أن يتعجّب منها ، وإلا
فالتعجب مستحيل في حقّه تعالى ، ومعنى على النّار ، أي : على عمل أهل النار ، قاله
الكسائيّ ، وهذا من مجاز الكلام.
الخامس : أنّها
نافية ، أي : «فما أصبرهم الله على النّار». نقله أبو البقاء .
__________________
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ:) اختلفوا في محلّ : «ذلك» من الإعراب : فقيل : رفع ، وقيل :
نصب والقائلون بأنّه رفع ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّه فاعل
بفعل محذوف ، أي : وجب لهم ذلك.
الثاني : أن «ذلك»
مبتدأ ، و «بأنّ الله» خبره ، أي : ذلك العذاب مستحقّ بما أنزل الله في القرآن من
استحقاق عذاب الكافر.
والثالث : أنّه
خبر ، والمبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، والإشارة إلى العذاب. ومن قال بأنّه نصب
، قدّره : «فعلنا ذلك» [والباء متعلّقة بذلك المحذوف ، ومعناها السببية.
فصل في اختلافهم في الإشارة ب «ذلك»
اختلفوا في
الإشارة بقوله «ذلك»] إلى ماذا؟ على قولين.
الأوّل : أنّه
إشارة إلى ما تقدّم من الوعيد على الكتمان ، أي : إنّما كان لأنّ الله أنزل الكتاب
بالحقّ في صفة محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإنّ هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقّة الرّسول عليه
الصّلاة والسّلام يخفونه ، ويوقعون التّهمة فيه ، فلا جرم ، استحقّوا ذلك الوعيد
الشديد ، ثم تقدّم في الوعيد أمور :
أقربها : أنّهم
اشتروا العذاب بالمغفرة.
ثانيها : اشتروا
الضّلالة بالهدى.
ثالثها : أنّ لهم
عذابا أليما.
رابعها : أنّ الله
لا يزكّيهم.
خامسها : أنّ الله
لا يكلّمهم.
فقوله : «ذلك»
يصلح أن يكون إشارة إلى [كلّ واحد منها ، وأن يكون إشارة إلى المجموع.
والقول الثاني :
أنّ ذلك إشارة إلى] ما يفعلونه من جراءتهم على الله تعالى في مخالفتهم أمر
الله ، وكتمانهم ما أنزل الله فبيّن تبارك وتعالى أنّ ذلك إنّما هو من أجل الكتاب
بالحقّ وقد نزل فيه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون ، ولا ينقادون ، ولا يكون منهم
إلّا الإصرار على الكفر ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٦ ـ ٧] وقوله : «بالحقّ» ، أي : بالصّدق ، وقيل
: ببيان الحقّ ، والمراد من «الكتاب» : يحتمل أن يكون التّوراة ، والإنجيل ،
ويحتمل أن يكون
__________________
القرآن ، فإن كان
الأوّل ، كان المعنى وإن الّذين اختلفوا في تأويله ، وتحريفه ، لفي شقاق بعيد وإن
كان الثّاني ، كان المعنى : وإن الذين اختلفوا في كونه حقّا منزّلا من عند الله
تعالى لفي شقاق بعيد.
فصل في المراد باختلافهم
والمراد باختلافهم
:
إن قلنا المراد ب «الكتاب»
هو القرآن ، كان اختلافهم فيه : أنّ بعضهم قال : هو كهانة ، وقال آخرون هو سحر ،
وآخرون قالوا : هو رجز ، ورابع قال هو أساطير الأوّلين وخامس قال : إنّه كلام
مختلق. وإن قلنا : المراد ب «الكتاب» هو التوراة والإنجيل ، فالمراد باختلافهم
يحتمل وجوها .
أحدها : اختلافهم
في دلالة التّوراة على نبوّة المسيح ، فاليهود قالوا : إنّها دالّة على القدح في عيسى ؛
والنصارى قالوا : إنّها دالّة على نبوّته.
وثانيها :
اختلافهم في الآيات الدالّة على نبوّة محمّد ـ عليهالسلام ـ فذكر كلّ واحد منهم له تأويلا فاسدا.
وثالثها : قال أبو
مسلم : قوله : «اختلفوا» من باب «افتعل» الذي يكون مكان «فعل» ، كما يقال كسب
واكتّسب ، وعمل واعتمل ، وكتب واكتتب ، وفعل وافتعل ، ويكون معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) أي : توارثوه وصاروا خلفاء فيه ؛ كقوله تبارك وتعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [الأعراف : ١٦٩]
وقوله (إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [يونس : ٦] أي :
كل واحد منهما يأتي خلف الآخر ، [وقوله (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ،
أي كلّ واحد منهما يخلف الآخر] ، وفي الآية الكريمة تأويلات ثلاث أخر.
أحدها : أن يكون
المراد ب «الكتاب» جنس ما أنزل الله ، والمراد ب (الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) الذين اختلف قولهم في الكتاب ، فقلبوا بعض كتب الله ، وهي
التوراة والإنجيل ؛ لأجل عداوتك ، وهم فيما بينهم في شقاق بعيد ، ومنازعة شديدة ،
فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتّفاقهم على العداوة ؛ فإنه ليس بينهم مؤالفة وموافقة.
وثانيها : كأنه
تعالى يقول : هؤلاء ، وإن اختلفوا فيما بينهم ، فإنّهم كالمتفقين على عداوتك ،
وغاية المشاقّة لك ، فلهذا خصّهم الله بذلك الوعيد.
وثالثها : أنّ
هؤلاء الّذين اتّفقوا على أصل التّحريف ، فإن كلّ واحد منهم يكذّب
__________________
صاحبه ، ويشاقّه ،
وينازعه ، وإذا كان كذلك ، فقد عرفت كذبهم بقولهم ، فلا يكون قدحهم فيك قدحا
ألبتّة.
قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)
قرأ الجمهور برفع «البرّ»
وحمزة ، وحفص عن عاصم بنصبه ، فقراءة الجمهور على أنّه اسم «ليس» و «أن تولّوا»
خبرها في تأويل مصدر ، أي : ليس البرّ توليتكم ، ورجّحت هذه القراءة من حيث إنّه
ولي الفعل مرفوعة قبل منصوبه ، وأمّا قراءة حمزة وحفص ف «البرّ» خبر مقدّم ، و «أن تولّوا» اسمها في
تأويل مصدر ، ورجّحت هذه القراءة بأنّ المصدر المؤوّل أعرف من المحلّى بالألف
واللام ؛ لأنّه يشبه الضّمير ، من حيث إنّه لا يوصف ؛ ولا يوصف به ، والأعرف ينبغي
أن يجعل الاسم وغير الأعرف الخبر ؛ وتقديم خبر «ليس» على اسمها قليل ؛ حتى زعم
منعه جماعة [منهم ابن درستويه ، قال : لأنّها تشبه «ما» المجازيّة ولأنّها حرف على قول
جماعة ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبقول الشاعر [الطويل]
٩١٠ ـ سلي إن جهلت النّاس عنّا وعنهم
|
|
فليس سواء عالم
وجهول
|
وقال آخر : [الطويل]
٩١١ ـ أليس عظيما أن تلمّ ملمّة
|
|
وليس علينا في
الخطوب معوّل
|
وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله «بأن تولّوا» بزيادة الباء ، وهي واضحة ؛ فإن
الباء تزاد في خبر «ليس» كثيرا.
__________________
فصل في الاختلاف في أصل ليس
الجمهور على أن «ليس»
فعل وقال بعضهم إنه حرف حجّة القائلين بأنّها فعل : اتصال الضمائر بها الّتي لا
تتصل إلّا بالأفعال ؛ كقولك ، «لست ، ولسنا ، ولستم» ، و «القوم ليسوا قائمين» ،
وهذا منقوض بقوله : «إنّني ، وليتني ، ولعلّني».
وحجّة من قال
بأنّها حرف أمور :
الأوّل : أنّها لو
كانت فعلا ، لكانت فعلا ماضيا ولا يجوز أن تكون فعلا ماضيا ؛ لاتفاق الجمهور على
أنّه لنفي الحال ، والقائلون بأنّه فعل قالوا : إنه فعل ماض.
وثانيها : أنّه
يدخل على الفعل ، فنقول : «ليس يخرج زيد» ، والفعل لا يدخل على الفعل عقلا ونقلا.
وقول من قال : «إن
ليس» داخل على ضمير القصّة ، والشأن ، وكون هذه الجملة تفسيرا لذلك الضّمير ضعيف ؛
فإنّه لو جاز ذلك ، جاز مثله في «ما».
وثالثها : أنّ
الحرف «ما» يظهر في معناه في هذه الكلمة ، فإنك لو قلت : «ليس زيد» لم يتمّ الكلام
، لا بدّ أن تقول : «ليس زيد قائما».
ورابعها : أن «ليس»
لو كان فعلا ، لكان «ما» فعلا ، وهذا باطل ، فذاك باطل ، بيان الملازمة : أن «ليس»
لو كان فعلا لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السّلب مقترنا بزمان مخصوص ، وهو
الحال ، وهذا المعنى قائم في «ما» ، فيجب أن تكون «ما» فعلا ، فلمّا لم يكن هذا
فعلا ، فكذلك القول في ذلك أو تكون في عبارة أخرى : «ليس» كلمة جامدة ، وضعت لنفي
الحال ، فأشبهت «ما» في نفي الفعليّة بذلك.
وخامسها : أنّك
تصل «ما» بالأفعال الماضية ، فتقول : «ما أحسن زيدا» ، ولا يجوز أن تصل «ما» ب «ليس»
فلا تقول : «ما ليس زيد يذكرك».
وسادسها : أنّه
على غير أوزان الفعل.
وأجاب القاضي ،
والقائلون بالفعليّة عن الأوّل بأنّ «ليس» قد يجيء لنفي الماضي بمعناه ؛ كقولهم : «جاءني
القوم ليس زيدا».
وعن الثّاني أنه
منقوض بقولهم : «أخذ يفعل كذا».
وعن الثّالث : أنه
منقوض بسائر الأفعال النّاقصة.
وعن الرّابع : أنّ
المماثلة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة من كلّ الوجوه.
وعن الخامس : أنّ
ذلك إنّما امتنع من قبل أنّ : «ما» للحال و «ليس» للماضي ، فلا يمكن الجمع بينهما.
__________________
وعن السّادس : أن
تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل ، لكنّه يجب المصير إليه ؛ لدلالة العمل بما
ذكر ، وذكروا وجوها أخر مخالفة للنّحو.
قوله : «قبل»
منصوب على الظّرف المكانيّ بقوله : «تولّوا» ، وحقيقة قولك : «زيد قبلك» أي في
المكان الذّي يقابلك فيه وقد يتّسع فيه ، فيكون بمعنى «عند» ؛ نحو قولك : «قبل زيد
دين» ، أي «عنده دين».
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه
اختلفوا : هل هذا
الخطاب عامّ ، أو خاصّ؟ فقال قتادة ، ومقاتل بن حيّان : لمّا شددوا أهل الكتاب
بالثبات على التوجّه نحو بيت المقدس ، قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا) هذه الطريقة ، (لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ).
وقال مجاهد وعطاء
والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ : المراد مخاطبة المؤمنين ، لمّا ظنّوا هذا الكلام.
وقال بعضهم : هو
خطاب للكلّ ؛ لأنّه لما حوّلت القبلة ، حصل للمؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل
منهم التشديد في هذه القبلة ؛ حتّى ظنّوا أنّه الغرض الأكبر في الدّين ، فبعثهم
الله تعالى بهذا الخطاب استيفاء جميع الطاعات والعبادات ، وليس البرّ بأن تولّوا
وجوهكم شرقا وغربا ، وإنّما البرّ كيت ، وكيت ، وكيت ، فكأنّه تبارك وتعالى قال : ليس
البرّ المطلوب هو أمر القبلة ، بل البرّ المطلوب هذه الخصال الّتي عدّدتّها.
فصل في المشار إليه بالضمير
قال القفّال : والذي عندنا أنّه إشارة إلى السّفهاء الذين طعنوا في
المسلمين ، وقالوا : ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها؟ مع أنّ اليهود كانوا
يستقبلون المغرب ، والنّصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إنّ صفة
البرّ لا تحصل باستقبال المشرق والمغرب ، بل البرّ يحصل بأمور.
منها : الإيمان
بالله تعالى ، وأهل الكتاب أخلّوا بذلك ، فأمّا اليهود ، فلقولهم بالتّجسيم ،
ولقولهم بأنّ عزيرا ابن الله ، وأمّا النصارى ؛ فلقولهم : المسيح ابن الله ،
واليهود وصفوا الله تعالى بالبخل.
وثانيها : الإيمان
باليوم الآخر ، واليهود أخلّوا بذلك ، وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠]
والنصارى أنكروا المعاد الجسمانيّ ، وكلّ ذلك تكذيب باليوم الآخر.
__________________
وثالثها : الإيمان
بالملائكة ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ حيث أظهروا عداوة جبريل.
ورابعها : الإيمان
بكتب الله تعالى ، واليهود أخلّوا بذلك ، لأن مع قيام الدّلائل على أنّ القرآن
كتاب الله تعالى ردّوه ولم يقبلوه ؛ قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥].
وخامسها : الإيمان
بالنّبيّين ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ حيث قتلوا الأنبياء ؛ على ما قال تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِ) [البقرة : ٦١] ،
وطعنوا في نبوّة محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
وسادسها : بذل
الأموال على وفق أمر الله تعالى ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ لأنّهم يلقون الشّبهات ؛
لطلب المال القليل ؛ قال تبارك وتعالى : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).
وسابعها : إقامة
الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، واليهود كانوا يمنعون النّاس منها.
وثامنها : الوفاء
بالعهد ، واليهود نقضوا العهد ؛ قال تبارك وتعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠].
وتاسعها : قوله : (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ،
وَحِينَ الْبَأْسِ) والمراد بذلك المحافظة على الجهاد ، واليهود أخلّوا بذلك ؛
حيث كانوا في غاية الخوف ، والجبن ؛ قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر : ١٤].
فإن قيل : نفى
تبارك وتعالى أن يكون التوجّه إلى القبلة برّا ، ثم حكم بأنّ البرّ بمجموع أمور :
أحدها : الصّلوات ، ولا بدّ فيها من الاستقبال ، فيلزم التناقض.
فالجواب : أنّ
المفسّرين اختلفوا على أقوال :
منها : أنّ قوله
تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ) نفي لكمال البرّ وليس نفيا لأصله ؛ كأنه قال : «ليس البرّ
كلّه هو هذا» ؛ فإنّ البرّ اسم من أسماء الخصال الحميدة ، واستقبال القبلة واحد
منها ، فلا يكون ذلك تمام البرّ.
الثاني : أن يكون
هذا نفيا لأصل كونه برّا ؛ لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحينما نسخ الله تبارك وتعالى ذلك ؛ بل كان ذلك ممّا لا
يجوز ؛ لأنّه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه ، وما كان كذلك ، فهو لا يعدّ من البرّ.
الثالث : أنّ
استقبال القبلة لا يكون برّا ؛ إذ البرّ يتقدّمه معرفة الله تعالى ، وإنّما يكون
برّا ، إذا أتى بها مع الإيمان بالله ورسوله ، فالإتيان بها دون هذا الشّرط ، لا
يكون من أفعال البرّ ، إلّا إذا أتي بها مع شرطه ، كما أنّ السّجدة لا تكون من أفعال
البرّ ، إلّا إذا أتى بها مع الإيمان بالله ورسوله.
__________________
وروي أنّه لمّا
حوّلت القبلة ، كثر الخوض في نسخها ، كأنه لا يراعى بطاعة الله تعالى إلّا
الاستقبال ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ كأنه تبارك وتعالى قال : «ما هذا الخوض
الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين».
قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في هذه الآية خمسة أوجه :
أحدها : أن «البرّ»
اسم فاعل من : برّ يبرّ ، فهو «برّ» والأصل : «برر» بكسر الراء الأولى بزنة «فطن»
فلمّا أريد الإدغام ، نقلت كسرة الرّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها ؛ فعلى هذه
القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويل ؛ لأنّ البرّ من صفات الأعيان ؛ كأنه
قيل: «ولكنّ الشخص البرّ من آمن».
الثاني : أنّ في
الكلام حذف مضاف من الأوّل ، تقديره : «ولكنّ ذا البرّ من آمن» ؛ كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] أي :
لذي التقوى ؛ وقوله (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) [آل عمران : ١٦٣]
أي : ذوو درجات ، قاله الزّجّاج .
الثالث : أن يكون
الحذف من الثاني ، أي : «ولكنّ البرّ برّ من آمن» وهذا تخريج سيبويه ، واختياره ، وإنّما اختاره ؛ لأنّ السابق ، إنّما هو نفي
كون البرّ هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدرك ، إنّما هو من جنس ما
ينفى ؛ ونظير ذلك : «ليس الكرم أن تبذل درهما ، ولكنّ الكرم بذل الآلاف» ولا يناسب
: «ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف» وحذف المضاف كثير في الكلام ، كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ،
أي : حبّ العجل ، ويقولون : الجود حاتم ، والشعر زهير ، والشجاعة عنترة ، [وقال
الشاعر : [الطويل]
٩١٢ ـ ..........
|
|
فإنّما هي إقبال
وإدبار
|
أي : ذات إقبال ،
وذات إدبار.
وقال النّابغة : [المتقارب]
٩١٣ ـ وكيف نواصل من أصبحت
|
|
خلالته كأبي
مرحب
|
__________________
أي : كخلالة أبي
مرحب] ، وهذا اختيار الفرّاء ، والزّجّاج ، وقطرب.
وقال أبو عليّ :
ومثل هذه الآية الكريمة قوله : (أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ ،) ثم قال : (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) [التوبة : ١٩] ؛
ليقع التمثيل بين مصدرين ، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدر ، وفاعل.
الرابع : أن يطلق
المصدر على الشّخص مبالغة ؛ نحو : رجل عدل.
ويحكى عن المبرّد
: «لو كنت ممّن يقرأ القرآن ، لقرأت «ولكنّ البرّ» بفتح الباء» وإنّما قال ذلك ؛
لأن «البرّ» اسم فاعل ، نقول برّ يبرّ ، فهو بارّ ، وبرّ ، فتارة تأتي به على فاعل
، وتارة على فعل.
الخامس : أن
المصدر وقع موقع اسم الفاعل ، نحو : رجل عدل ، أي : عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل
موقعه ، نحو : أقائما ، وقد قعد الناس ؛ في قول ، هذا رأي الكوفيين ، والأولى فيه
ادّعاء أنه محذوف من فاعل ، وأن أصله : بارّ ، فجعل «برّا» ، وأصله ك «سرّ» ، و «ربّ»
أصله «رابّ» ، وقد تقدم.
وجعل الفراء «من آمن» واقعا
موقع الإيمان ، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ؛ كأنه قال : «ولكنّ البرّ
الإيمان بالله» قال : والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل ؛ وأنشد في ذك : [الطويل]
٩١٤ ـ لعمرك ما الفتيان أن تنبت
اللّحى
|
|
ولكنّما الفتيان
كلّ فتى ندي
|
جعل نبات اللحية
خبرا للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوّة أن تنبت اللّحى.
وقرأ نافع ، وابن عامر : «ولكن البرّ» هنا وفيما بعد بتخفيف «لكن»
وبرفع «البرّ» ، والباقون بالتّشديد ، والنّصب ، وهما واضحتان ممّا تقدّم في قوله
: (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ١٠٢].
وقرىء : «ولكنّ البارّ» بالألف ، وهي تقوّي أنّ «البرّ» بالكسر
المراد به اسم الفاعل ، لا المصدر.
قال أبو عبيدة : «البرّ»
هاهنا بمعنى البارّ ، كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] أي :
للمتّقين ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ أَصْبَحَ
ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] أي :
غائرا ، وقالت الخنساء : [البسيط]
__________________
٩١٥ ـ وإنّما هي إقبال وإدبار
أي : مقبلة ومدبرة
والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال
تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ) [الإنسان : ١٣].
ووحّد الكتاب لفظا
، والمراد به الجمع ؛ وحسّن ذلك كونه مصدرا في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد
به القرآن ، فإنّ من آمن به ، فقد آمن بكل الكتب ، فإنه شاهد لها بالصّحّة.
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرّ
اعلم أنّ الله
تعالى اعتبر في تحقيق البرّ أمورا :
أحدها : الإيمان
بخمسة أشياء :
أولها : الإيمان
بالله ؛ ولا يحصل ذلك إلّا بالعلم بذاته المخصوصة ، وبما يجب ، ويجوز ، ويستحيل
عليه ، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلّا بالعلم بالدلائل الدالّة عليها ، فيدخل
فيه العلم بحدوث العالم ، والعلم بالأصول التي يتفرّع عليها حدوث العالم ،
ويدخل فيه العلم
__________________
بوجوده ، وقدرته ،
وبقائه ، وكونه عالما بكلّ المعلومات قادرا على كلّ الممكنات.
__________________
وثانيها : الإيمان
باليوم الآخر ، وهذا متفرّع على الأوّل ؛ لأنّا إن لم نعلم قدرته على جميع
الممكنات ، لا يمكننا أن نعلم صحّة الحشر والنّشر.
__________________
وثالثها : الإيمان
بالملائكة.
__________________
ورابعها : الإيمان
بالكتب.
__________________
وخامسها : الإيمان
بالرسل.
__________________
فإن قيل : لا طريق
لنا إلى العلم بوجود الملائكة ، ولا إلى العلم بصدق الكتب ، إلّا بواسطة صدق
الرّسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب ، فلم قدّم الملائكة
والكتب في الذّكر على الرّسل؟
فالجواب : أنّ
الأمر ، إن كان كذلك في عقولنا ، إلّا أنّ الترتيب على العكس ؛ لأنّ الملك يوجد
أوّلا ، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل ، فالمراعى في هذه
__________________
الآية ترتيب
الوجود الخارجيّ ، لا الترتيب الذّهنيّ ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته ، ودخل
تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب ، والثّواب ، والمعاد ،
ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء ؛ ليؤدّوها
إلينا إلى غير ذلك ممّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الإيمان بالكتاب
القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت الإيمان بالنّبيّين الإيمان
بنبوّتهم ، وصحّة شريعتهم ، فلم يبق شيء مما يجب الإيمان به ، إلّا دخل تحت هذه
الآية.
وتقرير آخر : وهو
أنّ للمكلّف مبتدأ ووسطا ، ونهاية ، ومعرفة المبدأ والنهاية ؛ هو المراد من
الإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر.
وأمّا معرفة الوسط
، فلا يتمّ إلّا بالرّسالة ، وهي لا تتمّ إلا بثلاثة أمور :
الملك الآتي
بالوحي ، ونفس الوحي ، وهو الكتاب ، والموحى إليه ، وهو الرسول ـ عليه الصلاة
والسلام ـ.
وفي تقديمه
الإيمان على أفعال الجوارح ؛ من إيتاء المال ، والصلاة ، والزّكاة ـ تنبيه على أن
أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح.
الأمر الثاني من
الأمور المعتبرة في تحقيق البرّ قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] ،
فالجار والمجرور في محلّ نصب على الحال العامل فيه «آتى» أي : آتى المال حال
محبّته له ، واختياره إيّاه ، والحبّ : مصدر «حببت» ، لغة في «أحببت» ؛ كما تقدّم
، ويجوز أن يكون مصدر الرّباعيّ على حذف الزوائد ، ويجوز أن يكون اسم مصدر ، وهو
الإحباب ؛ كقوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].
والضمير المضاف
إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أنه يعود
على المال ؛ لأنّه أبلغ من غيره
قال ابن عبّاس ،
وابن مسعود : «هو أن تؤتيه ، وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر ، ولا تهمل حتّى إذا بلغت الحلقوم ،
قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا» ، وهذا بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أمّا من حيث اللفظ
: رواية أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ، أيّ الصّدقة أعظم أجرا؟ قال : «أن
تصّدّق وأنت صحيح شحيح» وذكره.
__________________
الثاني : أنه يعود
على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى : «آتى» ، أي : على حبّ الإيتاء ؛ كأنه قيل :
يعطي ، ويحبّ الإعطاء ؛ رغبة في ثواب الله .
قال شهاب الدّين : وهذا بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ
: فإنّ عود الضمير على غير مذكور ، بل مدلول عليه بشيء ـ خلاف الأصل.
وأمّا من حيث
المعنى : فإنّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان ، لأنّ هواه يساعده على
ذلك.
قال زهير : [الطويل]
٩١٦ ـ تراه إذا ما جئته متهلّلا
|
|
كأنّك تعطيه
الّذي أنت سائله
|
الثالث : أن يعود
على الله تعالى ، يعني : «يعطون المال على حبّ الله» ؛ وعلى هذه الأقوال الثّلاثة
يكون المصدر مضافا للمفعول ، وعلى هذا ، فالظاهر أنّ فاعل هذا المصدر هو ضمير
المؤتي ، وقيل : هو ضمير المؤتون ، أي : «حبّهم له» ، واحتياجهم إليه ، وليس بذلك
، و «ذوي القربى» على هذه الأقوال الثلاثة : منصوب ب «آتى» فقط ، لا بالمصدر ؛
لأنّه قد استوفى مفعوله.
الرابع : أن يعود
على «من آمن» ، وهو المؤتي للمال ، فيكون المصدر على هذا مضافا للفاعل ، وعلى هذا
: فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفا ، أي : «حبّه المال» ، وأن يكون ذوي
القربى ، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.
قال ابن عطيّة : ويجيء قوله «على حبّه» اعتراضا بليغا في أثناء القول.
قال أبو حيّان ـ رحمهالله ـ : فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه ، فليس بجيّد ، فإنّ
ذلك من خصوصيّات الجملة الّتي لا محلّ لها ، وهذا مفرد ، وله محلّ ، وإن أراد به
الفصل بالحال بين المفعولين ، وهما «المال» ، و «ذوي» ، فيصحّ ، إلا أنه فيه
إلباس.
فصل في معنى الإيتاء
اختلفوا في المراد
من هذا الإيتاء ، فقال قوم : إنّها الزكاة ، وهذا ضعيف ؛ لأنّه عطف الزكاة عليه ،
بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) [البقرة : ١٧٧]
ومن حق المعطوف ، والمعطوف عليه المغايرة ، ثم لا يخلو : إمّا أن يكون تطوّعا ، أو
واجبا ، ولا
__________________
جائز أن يكون
تطوّعا ؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة : (أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] ،
وقف التقوى عليه ، ولو كانه تطوّعا ، لما وقف التقوى عليه ، وإذا ثبت أنّه واجب ،
وأنه غير الزكاة ، ففيه أقوال :
أحدها : أنه عبارة
عن دفع الحاجات الضّروريّة ؛ مثل : إطعام المضطرّ ؛ ويدل عليه قوله ـ عليه الصلاة
والسلام ـ : «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا ، وجاره طاو إلى جنبه».
وروي عن فاطمة بنت
قيس : «إنّ في المال حقّا سوى الزّكاة» ثم تلت (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ).
وحكي عن الشّعبيّ
أنّه سئل عمّن له مال ، فأدى زكاته ، فهل عليه سواه؟ فقال : نعم ، يصل القرابة ،
ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وأيضا : فلا خلاف
أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضّرورة ، وجب على النّاس أن يعطوه مقدار دفع الضّرورة.
فإن قيل : الزّكاة
نسخت الحقوق الماليّة.
فالجواب : أنّه ـ عليهالسلام ـ قال : «في المال حقوق سوى الزّكاة» ؛ وقول الرسول أولى ، وأجمعت الأمّة على أنه يجب أن يدفع
إلى المضطرّ ما يدفع به الضّرورة ، وإن سلّمنا أن الزكاة نسخت كلّ حقّ ، فالمراد
أنّها نسخت الحقوق المقدّرة ، أمّا الذي لا يكون مقدّرا ، فغير منسوخ ؛ بدليل أنه
يلزم النفقة على الأقارب ، والمماليك.
__________________
فإن قيل : إذا صحّ
هذا التأويل ، فما الحكمة في هذا التّرتيب؟!
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تبارك
وتعالى قدّم الأولى فالأولى ؛ لأنّ الفقير القريب أولى بالصّدقة من غيره ، لأنّه
يجمع فيه بين الصلة ، والصّدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ،
ولذلك يستحقّ بها الإرث ، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيّة ، حتى لا يتمكّن من
الوصية ، إلا في الثّلث ، ولذلك كانت الوصيّة للأقارب من الواجبات ؛ لقوله تعالى :
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠].
وإن كانت نسخت عند
بعضهم ؛ فلهذه الوجوه ، قدّم ذوي القربى ، ثم أتبعه باليتامى ؛ لأنّ الصغير الفقير
الذي لا والد له ، ولا كاسب ، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم
بالمساكين ؛ لأنّ الحاجة قد تشتدّ بهم ، ثم ذكر السّائلين ، وفي الرقاب ؛ لأن
حاجتهما دون حاجة من تقدّم.
وثانيها : أن علم
المرء بشدّة حاجة قريبه أقوى ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا النّسق.
وثالثها : أن ذا
القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصّه ؛ لأن شدّة حاجته تغمّ صاحب المال ، وتؤذي
قلبه ، ودفع الضّرر عن النّفس مقدّم على دفع الضرر عن الغير ؛ فلذلك بدأ الله بذي
القربى ، ثم باليتامى ؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصّغار عن الطّعام والشّراب
أشدّ من الغمّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، ثم المساكين ؛ لأنّ الغمّ
الحاصل بسببهم أخفّ من الغم الحاصل بسبب الصّغار.
وأمّا ابن السّبيل
، فقد يكون غنيّا ، وقد تشتدّ حاجته في الوقت ، والسّائل قد يكون غنيّا ، ويظهر
شدّة الحاجة ، وأخّر المكاتب ؛ لأنّ إزالة الرق ليست في محلّ الحاجة الشّديدة.
القول الثاني :
أنّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند ذكره الإبل ،
قال : «إنّ فيها حقّا ؛ وهو إطراق فحلها ، وإعارة دلوها» ، وهذا بعيد ؛ لأن الحاجة
إلى إطراق الفحل أمر لا يختصّ به ابن السّبيل ، والسائل والمكاتب.
القول الثالث : أن
إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا ، ثم نسخ بالزّكاة ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه تبارك
وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء ، وبين الزكاة.
وقال بعضهم :
المراد صدقة التطوّع.
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذوي»
قوله «ذوي» فيه
وجهان :
__________________
أحدهما ـ وهو
الظاهر ـ : أنه مفعول ب «آتى» وهل هو الأول ، و «المال» هو الثاني ؛ كما هو قول
الجمهور ، وقدّم للاهتمام ، أو هو الثاني ، فلا تقديم ، ولا تأخير ؛ كما هو قول
السّهيليّ؟
والثاني : أنه
منصوب ب «حبّه» ؛ على أن الضمير يعود على «من آمن» ؛ كما تقدّم.
فصل في المراد ب «ذوي القربى»
من النّاس من حمل
ذوي القربى على المذكور في آية النفل والغنيمة ، وأكثر المفسّرين على ذوي القربى
للمعطين ، وهو الصحيح ؛ لأنّهم به أخصّ ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأبوين ،
أو بولادة الجدّين ، أو أبي الجدّين ، ولا يقتصر على ذوي الرّحم المحرم كما حكي عن
قوم ؛ لأنّ المحرميّة حكم شرعيّ ، والقرابة لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النّسب ،
وأن تفاوتوا في القرب والبعد.
قوله «واليتامى» :
ظاهره أنه منصوب ، عطفا على ذوي.
وقال بعضهم : هو
عطف على «القربى» ، أي : «آتى ذوي اليتامى» ، أي : أولياءهم ؛ لأن الإيتاء إلى
اليتامى لا يصحّ ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميّز ، ولا يعرف وجوه
المنفعة يكون مخطئا ، ولا حاجة إلى هذا ، فإنّ الإيتاء يصدق ، وإن لم يباشر من
يؤتيه بالإيتاء ، يقال : «آتيت السّلطان الخراج» ، وإنّما أعطيت أعوانه.
وأيضا : إذا كان
اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظّه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ، ويلبس ، ولا
يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به ، جاز دفعها إليه ، هذا على قول من قال : إن
اليتيم هو الذي لا أب له مع الصّغر .
وقال بعضهم : إن
هذا الاسم قد يقع على الصّغير ، وعلى البالغ ؛ لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] وهم
لا يؤتون إلّا إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسمّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه ؛ فعلى هذا : إن كان اليتيم
بالغا ، دفع إليه ، وإلّا دفع إلى وليه ، والمساكين أهل الحاجة ، وهم ضربان : من
يكفّ عن السؤال ، وهو المراد هاهنا ، ومنهم من يسأل وينبسط ، وهم السائلون ، وإنما
فرق بينهما ؛ من حيث يظهر على المساكين المسكنة ممّا يظهر من حاله ، وليس كذلك
السائل لأنه يظهر حاله.
وابن السبيل اسم
جنس أو واحد أريد به الجمع ، وسمّي «ابن السّبيل» ، أي : الطريق ، لملازمته إيّاها
في السّفر ، أو لأنّ الطريق تبرزه ، فكأنها ولدته.
وقيل : هو الضعيف .
__________________
فصل
من جعل الآية
الكريمة في غير الزّكاة ، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي بن
أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «للسّائل حقّ ،
ولو جاء على فرس» ، وقال تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات : ١٩].
الأمر الثالث في
تحقيق مسمّى البرّ ، قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) وقد تقدّم.
قوله (وَفِي الرِّقابِ) متعلّق ب «آتى» وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد ؛ كأنه قال : وضع المال في الرّقاب.
والثاني : أن يكون
مفعول «آتى» الثاني محذوفا ، أي : آتى المال أصحاب الرّقاب في فكّها ، أو تخليصها
؛ فإنّ المراد بهم المكاتبون ، أو الأسارى ، أو الأرقّاء يشترون ، فيعتقون ، وكلّ
قد قيل به.
والرّقاب : جمع «رقبة»
، وهي من مؤخّر أصل العنق ، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن
مكان الرّقيب المشرف على القوم ؛ وبهذا المعنى : يقال : «أعتق الله رقبته» ، ولا
يقال : «أعتق الله عنقه» ؛ لأنها لما سمّيت رقبة ؛ كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا
يقال للتي لا يعيش ولدها «رقوب» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.
قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) عطف على صلة «من» ، وهي : «آمن ، وآتى» وإنما قدم الإيمان
، لأنه رأس الأعمال الدينيّة ، وثنّى بإيتاء المال ؛ لأنه أجلّ شيء عند العرب ،
وبه يمتدحون ، ويفتخرون بفكّ العاني ، وقرى الضّيفان ، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.
قوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ...) في رفعه ثلاثة أوجه :
أحدها : ذكره
الزمخشري : أنه عطف على «من آمن» ، أي : ولكنّ البرّ المؤمنون والموفون.
والثاني : أن
يرتفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون ، وعلى هذين الوجهين : فنصب الصابرين
على المدح ؛ بإضمار فعل ، وهو في المعنى عطف على «من آمن» ، ولكن لما تكرّرت
الصّفات ، خولف بين وجوه الإعراب.
قال الفارسيّ :
وهو أبلغ ؛ لأن الكلام يصير مشتملا على جمل متعددة ، بخلاف اتّفاق الإعراب ؛ فإنه
يكون جملة واحدة ، وليس فيها من المبالغة ما في الجمل المتعدّدة.
وقال أبو عبيدة :
ومن شأن العرب ، إذا طال الكلام : أن يغيّروا الإعراب والنّسق ؛ كقوله تعالى في
سورة النساء : (وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) [النساء : ١٦٢]
وفي المائدة : (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩]
وقال الفرّاء : إنما رفع «الموفون» ، ونصب «الصّابرين» ؛
لطول الكلام
بالمدح ، والعرب تنصب الكلام على المدح والذّمّ ، إذا طال الكلام في الشّيء الواحد
، وقالوا فيمن قرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد : ٣] بنصب «حمّالة»
: إنه نصب على الذّمّ.
فإن قيل : لم لا
يجوز على هذين الوجهين : أن يكون معطوفا على ذوي القربى ، أي : وآتى المال
الصابرين ، قيل : لئلّا يلزم من ذلك محذور ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه
الذي هو في حكم الصّلة بأجنبيّ ، وهو «الموفون» ، فإن قيل : أليس جاز الفصل بين
المبتدأ والخبر بالجملة ؛ كقوله : (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف: ٣٠] ثم
قال «أولئك» ففصل بين المبتدأ والخبر.
قلنا : لا يلزم من
جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصّلة.
الثالث : أن يكون «الموفون»
عطفا على الضّمير المستتر في «آمن» ولم يحتج إلى التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل
، لأنّ طول الكلام أغنى عن ذلك ؛ وعلى هذا الوجه : يجوز في «الصّابرين» وجهان :
أحدهما : النّصيب
؛ بإضمار فعل ؛ لما تقدّم ، قال الخليل : المدح والذمّ ينصبان على معنى «أعني الظريف» وأنكر
الفراء ذلك لوجهين :
أحدهما : أنّ «أعني»
إنما يقع تفسيرا للمجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف.
الثاني : أنه لو
صحّ ما قاله الخليل ، لصحّ أن يقال : «قام زيد أخاك» ؛ على معنى «أعني أخاك» ،
وهذا مما لم تقله العرب أصلا.
والثاني : العطف
على ذوي القربى ، ولا يمنع من ذلك ما تقدّم من الفصل بالأجنبيّ ، لأن «الموفون»
على هذا الوجه داخل في الصّلة ، فهو بعضها لا أجنبيّ منها.
قوله «إذا عاهدوا»
إذا منصوب ب «الموفون» ، أي : الموفون وقت العهد ، من غير تأخير الوفاء عن وقته ،
وقرأ الجحدريّ : «بعهودهم».
فصل في معنى قوله «بعهدهم»
في هذا العهد
قولان :
أحدهما : هو ما
أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان ، والقيام بحدوده ، والعمل بطاعته
؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنّهم نقضوا العهود والمواثيق ،
فجحدوا أنبياءه ، وقتلوهم ، وكذّبوا بكتابه. واعترض القاضي على هذا القول ، وقال : إنّ قوله تبارك وتعالى : (الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) صريح في إضافة العهد
__________________
إليهم ، ثم إنه
تعالى أكّد ذلك بقوله : «إذا عاهدوا» ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء
من قبله تعالى.
وأجيب : بأنه
تعالى ، وإن ألزمهم هذه الأشياء ، لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام ،
والتزموه ، فصحّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه .
القول الثاني : أن
يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلّف ابتداء من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا
العهد إمّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى ؛ كاليمين والنّذر ، وما أشبهه ، أو
بينه وبين رسول الله ؛ كالبيعة ؛ من القيام بالنّصرة والمجاهدة ، والمظاهرة ،
وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، أو بينه وبين النّاس ، وقد يكون ذلك واجبا
؛ مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التّسليم والتّسلّم ، والشرائط التي
يلتزمها في السّلم ، والرّهن وغيره ،
__________________
وقد يكون مندوبا ؛
مثل : الوفاء بالعهد في بذل المال ، والإخلاص في المناصرة.
فقوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا
عاهَدُوا) يتناول كل هذه الأقسام ؛ فلا تقتصر الآية على بعضها ، وهذا
هو الذي عبر عنه المفسّرون ، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا ، إنجزوا ، وإذا حلفوا
ونذروا ، وفّوا ، وإذا قالوا ، صدقوا ، وإذا ائتمنوا ، أدّوا.
فصل في بلاغة قوله «والموفون» دون «وأوفى»
قال الرّاغب :
وإنّما لم يقل «وأوفى» ؛ كما قال «وأقام» ؛ لأمرين :
أحدهما : اللفظ ،
وهو أن الصّلة ، متى طالت ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ، دون الصلة ؛ لئلّا
يطول ويقبح.
والثاني : أنّه
ذكر في الأول ما هو داخل في حيّز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليّة
تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر وفاء العهد ، وهو مما تقضي به العقول المجرّدة
، صار عطفه على الأوّل أحسن ، ولما كان الصّبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه :
جامعا للفضائل ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصّبر فيها أثر بليغ ـ غيّر إعرابه تنبيها على
هذا المقصد ؛ وهذا كلام حسن.
وحكى الزّمخشريّ قراءة «والموفين» ، «والصّابرين» وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : «والموفون» ، «والصّابرون».
__________________
فصل في الأحكام المستفادة من الآية
قال القرطبيّ : تضمّنت هذه الآية الكريمة ستّ عشرة قاعدة من أمّهات
الأحكام :
الإيمان بالله
وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشّفاعة ، والجنة ،
والنار ، والملائكة ، والرّسل ، والكتب المنزلة ، وأنّها حقّ من عند الله ؛ كما
تقدم ، والنّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنّ له من الواجب ، والمندوب ، وإيصال
القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن
السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيل : الضعيف ، والسّؤّال ، وفكّ الرقاب ،
والمحافظة على الصّلوات ، وإيتاء الزّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصّبر في الشّدائد
، وكلّ قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.
وقوله (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : قال ابن عبّاس : يريد الفقر بقوله : «البأساء» ، والمرض
بقوله : «والضّرّاء» ، وفيهما قولان :
أحدهما : وهو
المشهور أنّهما اسمان مشتقّان من البؤس والضّرّ وألفهما للتأنيث ، فهما اسمان على «فعلاء»
ولا «أفعل» لهما ؛ لأنّهما ليسا بنعتين.
والثاني : أنهما
وصفان قائمان مقام موصوف ، والبؤس ، والبأساء : الفقر ؛ يقال : بئس يبأس ، إذا
افتقر ؛ قال الشاعر : [الطويل]
٩١٧ ـ ولم يك في بؤس إذا بات ليلة
|
|
يناغي غزالا
ساجي الطّرف أكحلا
|
قوله : (وَحِينَ الْبَأْسِ) منصوب ب الصّابرين ، [أي] : الذين صبروا وقت الشّدّة ،
والبأس : شدّة القتال خاصّة ، بؤس الرّجل ، أي : شجع. قال ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ : يريد القتال في سبيل الله ، وأصل البأس في اللغة : الشّدّة ؛ يقال : لا
بأس عليك في هذا ، أي : لا شدّة و (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥]
أي : شديد ، ثم يسمّى الحرب بأسا ، لما فيه من الشّدّة ، والعذاب يسمّى بأسا ؛
لشدّته ، قال تبارك وتعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا) [غافر : ٨٤] (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) [الأنبياء : ١٢] (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ
إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩].
قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) مبتدأ وخبر ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولا بصلة ، وهي
فعل ماض ؛ لتحقّق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم ، واستقرّ ، وأتى بخبر الثانية
بموصول صلته اسم فاعل ، ليدلّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدّدا ، بل صار كالسّجيّة
لهم ، وأيضا : فلو أتى به فعلا ماضيا ، لما حسن وقوعه فاصلة.
قال الواحديّ ـ رحمهالله ـ : إن الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ،
__________________
فمن شرائط البرّ ،
وتمام شرط البارّ : أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحد منها ، لم يستحقّ
الوصف بالبرّ ؛ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام
بالبرّ ، وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائما بالبرّ إلّا عند استجماع هذه
الخصال ، ولذلك قال بعضهم : هذه الصفة خاصّة للأنبياء ؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه
الأوصاف كلّها.
وقال آخرون : هي
عامّة في جميع المؤمنين ، والله أعلم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)
قوله «في القتلى»
، أي : بسبب القتلى و «في» تكون للسّببية ؛ كقوله ـ عليهالسلام ـ «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة» ، أي : بسببها ، و «فعلى»
يطّرد أن يكون جمعا لفعيل ، بمعنى مفعول ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) [البقرة : ٨٥].
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول
وجوه :
أحدها : إزالة
الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ،
والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، والعرب تارة كانوا يوجبون القتل ، وتازة يوجبون
الدّية ، لكنّهم كانوا يظهرون التعدّي ، فأما القتل ؛ فكانوا إذا وقع القتل بين
قبيلتين : أحدهما أشرف من الأخرى ، فكان الأشراف يقولون : «لنقتلنّ بالعبد منّا
الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرّجل منهم ، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم» وربما
زادوا على ذلك ، وينكحون نساءهم بغير مهور ؛ قاله سعيد بن جبير .
يروى أن واحدا من
الأشراف قتل له ولد ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، فقالوا له : ما تريد؟
فقال : إحدى ثلاث ، فقالوا : ما هي؟ قال : إما تحيون لي ولدي ، أو تملئون داري من
نجوم السّماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم ؛ حتّى أقتلهم ، ثم لا أرى أنّي أخذت
عوضا.
وأمّا أمر الدّية
، فربّما جعلوا دية الشّريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث الله
__________________
تعالى محمّدا صلىاللهعليهوسلم أوجب رعاية العدل ، وسوّى بين عباده في حكم القصاص ، وأنزل
الله هذه الآية.
الوجه الثاني :
قال السّدّيّ : إن قريظة والنّضير كانوا مع تديّنهم بالكتاب ، سلكوا طريقة العرب ،
فنزلت الآية.
الوجه الثالث :
نزلت في واقعة قتل حمزة ـ رضي الله عنه ـ.
الوجه الرابع :
روى محمّد بن جرير الطبريّ ، عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، وعن الحسن
البصريّ : أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحرّين والعبدين
والأنثيين في القصاص ، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّا ، أو للحرّ عبدا ، فإنه يجب
مع القصاص التراجع ، وأما حرّ قتل عبدا ، فهو قوده ، فإن شاء أولياء العبد أن
يقتلوا الحرّ ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء
الحر بقيّة ديته ، وإن قتل عبد حرا ، فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ ، قتلوا
العبد ، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحرّ ، وأدّوا بعد ذلك إلى أولياء الحرّ بقيّة
ديته ، وإن شاءوا أخذوا كلّ الدية ، وتركوا كل العبد ، وإن قتل رجل امرأة ، فهو
بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة ، قتلوه ، وأدّوا نصف الدية ، وإن شاءوا ، أعطوا
كلّ الدية ، وتركوها ، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين
الحرّين ، [والعبدين والأنثيين ، والذكرين ، فأما عند اختلاف الجنس ، فالاكتفاء
غير مشروع فيه].
فصل في اشتقاق كلمة «القصاص»
و «القصاص» : مصدر
قاصّه يقاصّه قصاصا ، ومقاصّة ؛ نحو : قاتلته قتالا ، ومقاتلة ، وأصله من : قصصت
الشيء ، اتّبعت أثره ؛ لأنّه اتباع دم المقتول.
قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف : ٦٤] ، (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص : ١١] ، أي
: اتبعي أثره ، وسمّيت القصّة قصّة ؛ لتتبّع الخبر المحكيّ ، والقصص تتبّع أخبار
النّاس ، وسمّي المقصّ مقصّا ؛ لتعادل جانبيه ، هذا أصل المادّة.
فمعنى القصاص :
تتبّع الدم بالقود ، ومنه التقصيص ، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه ، والقصّ أيضا :
الجصّ ، ومنه «نهيه ـ عليهالسلام ـ عن تقصيص القبور» أي : تجصيصها.
فصل
روى البخاريّ ،
والنّسائيّ ، والدّار قطنيّ ، عن ابن عبّاس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاص ،
ولم يكن فيهم الدّية ، فقال الله لهذه الأمّة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ
__________________
بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٧٨].
والعفو : أن يقبل
الدية في العبد : (فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) تتبع بالمعروف ، وتؤدي بإحسان ، «ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة»
مما كتب على من كان قبلكم ، (فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ ، فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فمن قتل بعد قبول الدّية ، هذا لفظ البخاريّ.
وقال الشّعبيّ في
قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلا قتال عمية ،
فقالوا : نقتل بعبدنا فلان ، ابن فلان ، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، ونحوه عن قتادة .
فصل في المراد بقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ)
قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) : معناه : «فرض عليكم» ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين
:
أحدهما : أن قوله
كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب. قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣]
وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠]
وقد كانت الوصية واجبة ، ومنه الصلوات المكتوبات أي : المفروضات قال عليهالسلام «ثلاث كتبت عليّ
ولم تكتب عليكم».
والثاني : لفظة «عليكم»
مشعرة بالوجوب ؛ لقوله (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].
والقصاص : أن يفعل
بالإنسان مثل ما فعل ، فهو عبارة عن التّسوية ، والمماثلة في الجراحات ، والدّيات.
وقيل «كتب» هنا
إخبار عمّا كتب في اللّوح المحفوظ ، وقوله «في القتلى» ، أي : بسبب القتلى ، كما
تقدّم ؛ فدلّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى
، إلّا أنّهم أجمعوا على أنّ غير القاتل خارج عن هذا الفارق ، أمّا القاتل ، فقد
دخله التخصيص أيضا في صور كثيرة ؛ وهي ما إذا قتل الوالد ولده ، والسّيّد عبده ،
وفيما إذا قتل مسلم مسلما خطأ ، إلّا أنّ العامّ إذا دخله التخصيص ، يبقى حجّة
فيما عداه.
__________________
فإن قيل : قولكم :
هذه الآية تقتضي وجوب القصاص ، فيه إشكالان :
الإشكال الأول :
لو وجب القصاص ، لوجب إمّا على القاتل ، أو على وليّ الدّم ، أو على ثالث ،
والأقسام الثلاثة باطلة ؛ لأنّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه
ذلك ، وأمّا وليّ الدم ، فلا يجب عليه ؛ لأنّ وليّ الدم يخيّر في الفعل ، والتّرك
، بل هو مندوب إلى التّرك ؛ كقوله (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧]
وأمّا الثالث : فإنه أجنبيّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلّق له به.
الثاني : أنّا
بيّنا أن القصاص عبارة عن التّسوية ، وكان مفهوم الآية إيجاب التّسوية ؛ وعلى هذا التقدير :
لا تكون الآية دالّة على إيجاب القتل ألبتّة ، بل تدلّ على وجوب رعاية التّسوية في
القتل الذي يكون مشروعا بسبب القتل.
__________________
والجواب عن الأول
من وجهين :
أحدهما : أن
المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام ، ومن يجري مجراه ؛ لأنّ متى حصلت شرائط
وجوب القود ، فإنّه لا يحلّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين ، والتقدير : يا
أيها الأئمّة ، كتب عليكم استيفاء القصاص ، إن أراد وليّ الدّم استيفاءه.
والثاني : أنه
خطاب مع القاتل ، والتقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة
الوليّ بالقصاص ؛ وذلك لأنّ القاتل ليس له أن يمتنع ؛ خلاف الزّاني والسارق ، فإنّ
لهما الهرب من الحدود ، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ، فلا يعرفان ، والفرق
بينهما : أن ذلك حقّ لآدميّ.
والجواب عن الثاني
: أن ظاهر الآية يقتضي التّسوية في القتل ، والتّسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب
الصفة يقتضي إيجاب الذّات ، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه.
قوله «الحرّ
بالحرّ» مبتدأ وخبر ، والتقدير : الحرّ مأخوذ بالحرّ ، أو مقتول بالحرّ ، فتقدّر
كونا خاصّا ، حذف ؛ لدلالة الكلام عليه ؛ فإنّ الباء فيه للسّبب ، ولا يجوز أن
تقدّر كونا مطلقا ؛ إذ لا فائدة فيه ، لو قلت : «الحرّ كائن بالحرّ» إلّا أن تقدّر
مضافا ، أي : قتل الحرّ كائن بالحرّ ، وأجاز أبو حيان : أن يكون الحرّ مرفوعا بفعل
محذوف ، تقديره : «يقتل الحرّ بالحرّ» ؛ يدلّ عليه قوله تعالى : (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى؛) فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدّر ، وفيه بعد ، والحر
وصف ، و «فعل» الوصف ، جمعه على «أفعال» لا يقاس ، قالوا : حرّ وأحرار ، ومرّ
وأمرار ، والمؤنّثة حرّة ، وجمعها على «حرائر» محفوظ أيضا ، يقال : «حرّ الغلام
يحرّ حرّيّة».
فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر
قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فيه قولان :
الأول : أنّها
تقتضي ألّا يكون القصاص مشروعا إلّا بين الحرّين ، وبين العبدين ، وبين الأنثين.
واحتجّ عليه بوجوه
:
الأول : أن الألف
واللام في «الحرّ» تفيد العموم ؛ فقوله : «الحرّ بالحرّ» يفيد أن يقتل كلّ حرّ
بالحر ، فلو كان قتل حرّ بعبد مشروعا ، لكان ذلك الحرّ مقتولا بغير حرّ ، وذلك
ينافي إيجاب أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ.
الثاني : أن «الباء»
من حروف الجرّ ، فتتعلّق بفعل ، فيكون التقدير : يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون
أعمّ من الخبر ، بل إمّا مساويا له ، أو أخصّ منه ، وعلى هذا التقدير ، فهذا يقتضي
أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ ، وذلك ينافي كلّ حرّ مقتولا بالعبد.
الثالث : أنه
تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة ، وهو قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى ..) ، فلما ذكر عقيبه قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ
، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، دلّ على أن رعاية التّسوية في الحرّيّة والعبوديّة
معتبرة ؛ لأن قوله : «الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد» خرج مخرج التّفسير لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى) ، فإيجاب القصاص على الحرّ بقتل العبد إهمال لرعاية
التّسوية ؛ فوجب ألّا يكون مشروعا ؛ ويؤيّد ما ذكرنا قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يقتل حرّ بعبد ، ولا مؤمن بكافر» ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : هذه
الآية شرع من قبلنا وليس شرعا لنا ، والآية التي نحن فيها شرعنا ، فهذا أقوى في
الدّلالة.
والثاني : أن هذه
الآية الكريمة مشتملة على أحكام النّفوس على التفصيل والتّخصيص ، وتلك عامّة ،
والخاصّ متقدّم على العامّ ، ثم قال أصحاب هذا القول إنّ ظاهر الآية يقتضي ألّا
يقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثى بالذّكر ، إلّا إذا خالفنا هذا الظاهر ؛
للإجماع وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية الكريمة ، وذلك المعنى غير موجود في
الحرّ بالعبد ؛ فوجب أن يبقى هاهنا على ظاهر اللّفظ ، أمّا الإجماع فظاهر ، وأمّا
المعنى المستنبط ، فهو أنه لمّا قتل العبد بالعبد ، فلأن يقتل بالحرّ الذي هو فوقه
أولى ، بخلاف الحر ، فإنّه لمّا قتل بالحرّ ، لا يلزم : أن يقتل بالعبد الّذي هو
دونه ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذّكر ، وأمّا قتل الذّكر بالأنثى ، فليس فيه
إلّا الإجماع.
القول الثاني :
أنّ قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لا يفيد الحصر ، بل يفيد شرع القصاص بين الذّكور من غير أن
يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ؛ واحتجّوا عليه بوجهين :
الأول : أنّ قوله
: (وَالْأُنْثى
بِالْأُنْثى) يقتضي قصاص المرأة الحرّة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ ..) مانعا من ذلك ، لوقع التناقض.
الثاني : أنّ قوله
تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) جملة تامّة مستقلّة بنفسها.
وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) تخصيص لبعض الجزئيّات بالذّكر ، وتخصيص بعض الجزئيّات
بالذّكر لا يمنع من ثبوت الحكم ؛ كسائر الجزئيّات ، وذلك التخصيص يمكن أن يكون
لفائدة سوى نفي الحكم عن سائر الصّور ، ثم اختلفوا في تلك الفائدة ، فذكروا فيها
وجهين :
__________________
الأول : وعليه
الأكثرون : أنّ فائدته إبطال ما كان عليه الجاهليّة من أنهم كانوا يقتلون بالعبد
منهم الحرّ من قبيل القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك ، وللقائلين بالقول
الأوّل : أن يقولوا : قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) يمنع من جواز قتل الحرّ بالعبد ، لأنّ القصاص عبارة عن
المساواة ، وقتل الحرّ بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة ، لأنّه زائد عليه في
الشّرف ، وفي أهليّة القضاء ، والإمامة ، والشهادة ؛ فوجب ألّا يشرع ، أقصى ما في
الباب أنه ترك العمل بهذا النّصّ في قتل العالم بالجاهل ، والشّريف بالخسيس
بالإجماع إلّا أنّه يبقى في غير محلّ الإجماع على الأصل ، ثم إن سلّمنا أنّ قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى ..) يوجب قتل الحر بالعبد ، إلّا أنّا بينّا أنّ قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ) يمنع من جواز قتل الحرّ بالعبد ؛ لأنّ هذا خاصّ ، وما قبله
عامّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ ، ولا سيّما إذا كان الخاصّ متّصلا بالعامّ في
اللّفظ ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناء ، ولا شكّ في وجوب تقديمه على العامّ.
الوجه الثاني من
بيان فائدة التّخصيص : نقله محمّد بن جرير ، عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
والحسن البصريّ : أنّ هذه الصّور هي التي يكتفي فيها بالقصاص ، وفي باقي الصّور ، أعني
: القصاص بين الحرّ والعبد ، وبين الذّكر والأنثى ، لا يكتفي فيها بالقصاص ، بل لا
بدّ من التراجع ، إلّا أنّ أكثر المحقّقين زعم أنّ هذا النّقل لم يصحّ عن عليّ ـ رضي
الله عنه ـ وهو أيضا ضعيف عند النّظر لأنّه قد ثبت أنّ الجماعة تقتل بالواحد ، ولا
تراجع ، فكذلك يقتل الذّكر بالأنثى ، ولا تراجع.
قوله (فَمَنْ عُفِيَ) يجوز في «من» وجهان :
أحدهما : أن تكون
شرطيّة.
والثاني : أن تكون
موصولة ، وعلى كلا التقديرين ، فموضعها رفع بالابتداء ؛ وعلى الأوّل : يكون «عفي»
في محلّ جزم بالشّرط ؛ وعلى الثّاني : لا محلّ له ، وتكون الفاء واجبة في قوله : «فاتّباع»
على الأوّل ، ومحلّها وما بعدها الجزم وجائزة في الثّاني ، ومحلّها وما بعدها
الرفع على الخبر ، والظاهر أنّ «من» هو القاتل ، والضمير في «له وأخيه» عائد على «من»
و «شيء» هو القائم مقام الفاعل ، والمراد به المصدر ، وبني «عفي» للمفعول ، وإن
كان قاصرا ؛ لأن القاصر يتعدّى للمصدر ؛ كقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ) [الحاقة : ١٣] ،
والأخ هو المقتول ، أو وليّ الدم ، وسمّاه أخا للقاتل ؛ استعطافا عليه ، وهذا
المصدر القائم مقام الفاعل المراد به الدّم المعفوّ عنه ، و «عفي» يتعدّى إلى
الجاني ، وإلى الجناية ب «عن» ؛ تقول: «عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد» فإذا عدي
إليهما معا ، تعدّى إلى الجاني ب «اللام» ، وإلى الجناية ب «عن» ؛ تقول «عفوت لزيد
عن ذنبه» ، والآية من هذا الباب ، أي : «فمن عفي له عن جنايته» وقيل : «من» هو
وليّ الدم أي من جعل له من دم أخيه بدل الدم ، وهو القصاص ، أو الدّية ،
والمراد ب «شيء»
حينئذ : ذلك المستحقّ ، والمراد ب «الأخ» المقتول ، ويحتمل أن يراد على هذا القول
أيضا : القاتل ، ويراد بالشيء الدية ، و «عفي» بمعنى : [«يسّر» على هذين القولين ،
وقيل : بمعنى «ترك».
وشنّع الزّمخشريّ
على من فسّر «عفي»] بمعنى «ترك» قال : فإن قلت : هلّا فسّرت «عفي» بمعنى «ترك»
؛ حتى يكون شيء في معنى المفعول به.
قلت : لأنّ : «عفا
الشّيء» بمعنى تركه ، ليس يثبت ، ولكن «أعفاه» ، ومنه : «وأعفوا اللّحى» ، فإن قلت : قد ثبت قولهم : «عفا أثره» إذا محاه وأزاله ،
فهلّا جعلت معناه : «فمن محي له من أخيه شيء» قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو
في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسّنة ، واستعمال النّاس ، فلا
يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم
يجترىء إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله تعالى على اختراع لغة ،
وإدّعاء على العرب ما لم تعرفه ، وهذا جرأة يستعاذ بالله منها.
قال أبو حيّان : إذا ثبت أنّ «عفا» بمعنى «محا» فلا يبعد حمل الآية عليه
، ويكون إسناد «عفا» لمرفوعه [إسنادا حقيقيا ؛ لأنّه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا
كان لا يتعدّى كان إسناده لمرفوعه] مجازا ؛ لأنّه مصدر مشبّه بالمفعول به ، فقد يتعادل
الوجهان ؛ أعني : كون «عفا» اللّازم لشهرته في الجنايات ، و «عفا» المتعدّي بمعنى «محا»
لتعلّقه بمرفوعه تعلّقا حقيقيا.
فإن قيل : تضمّن «عفا»
معنى ترك.
فالجواب : أنّ
التّضمين لا ينقاس ، وقد أجاز ابن عطيّة ـ رحمهالله ـ أن يكون «عفا» بمعنى «ترك».
وقيل إنّ «عفي»
بمعنى فضل ، والمعنى : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الدّيات ؛
من قولهم : عفاء الشّيء إذ كثر ، وأظهر هذه الأقوال أوّلها.
فصل
اعلم أنّ الّذين
قالوا : يوجب العهد أحد أمرين : إمّا القصاص ، وإمّا الدّية : تمسكوا بهذه الآية ،
فقالوا : الآية تدلّ على أنّ فيها عافيا ومعفوّا عنه ، وليس هاهنا إلّا وليّ الدم
،
__________________
والقاتل ، فيكون
العافي أحدهما ، ولا يجوز أن يكون القاتل لأنّ ظاهر العفو هو إسقاط الحقّ ، وذلك
إنّما يتأتّى من الوليّ الذي له الحقّ على القاتل ، فصار تقدير الآية : فإذا عفا
وليّ الدّم عن شيء يتعلّق بالقاتل ، فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف. وقوله «شيء»
مبهم ، فلا بدّ من حمله على المذكور السّابق ، وهو وجوب القصاص ؛ إزالة للإبهام ،
فصار تقدير الآية : إذا حصل العفو للقاتل عن شيء فليتبع القاتل العافي بالمعروف ،
والأداء إليه بالإحسان. وبالإجماع لا يجب أداء غير الدّية ؛ فوجب أن يكون ذلك
الواجب ، هو الدّية ؛ وهذا يدلّ على أنّ موجب العمد هو القود ، أو المال ؛ إذ لو
لم يكن كذلك ، لما كان واجبا عند العفو عن القود ، والله تعالى أعلم.
ومما يؤكّد هذا
قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ، أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية ، والقصاص ؛ رحمة عليكم
، لأنّ الحكم في اليهود حتم القصاص ، والحكم في النّصارى حتم العفو ؛ فخفّف عن هذه
الأمّة ، وشرع لهم التخيير بين القصاص ، والعفو ، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حقّ
هذه الأمّة ؛ لأنّ وليّ الدم قد تكون الدية عنده آثر من القود ، إذا كان محتاجا ،
وقد يكون القود عنده آثر ، إذا كان راغبا في التشفّي ، ودفع شر القاتل عن نفسه ،
فجعل الخيرة فيما أحبّه ؛ رحمة من الله في حقّه.
فإن قيل : لا
نسلّم أنّ العافي هو وليّ الدم ، والعفو إسقاط الحقّ ، بل المراد من قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي فمن سهل له من أخيه شيء ، يقال : أتاني هذا المال
عفواصفوا ، أي : سهلا ، ويقال : خذ ما عفي ، أي : ما سهل ؛ قال تبارك وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ،
فتقدير الآية : فمن كان من أولياء الدّم ، وسهل له من أخيه الّذي هو القاتل شيء من
المال ، أو سهل له من جهة أخيه المقتول ، أي : بسبب أخيه المقتول ، فإمّا أن يكون
أخاه حقيقة ، وإمّا أن تكون قرابته غير الأخوّة ، فسمّاه أخا مجازا ؛ كما سمّى
المقتول أخا للقاتل ، والمراد : فمن كان من أولياء الدم وسهّل ، فليتبع وليّ الدم
ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال ، وليؤدّ القاتل إلى وليّ الدّم ذلك المال
بالإحسان ؛ من غير مطل ، ولا مدافعة ، فيكون معنى الآية ؛ على هذا التقدير : «إنّ
الله تعالى حثّ الأولياء ، إذا دعوا إلى الصّلح من الدّم على ديته كلّها ، أو
بعضها : أن يرضوا به ؛ ويعفوا عن القود.
سلّمنا أن العافي
هو وليّ الدم ، لكن لا يجوز أن يقال : المراد هو أن يكون القصاص مشتركا بين شريكين
؛ فيعفوا أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر إلى الدّية ، والله تعالى أمر الشريك
السّاكت باتّباع القاتل بالمعروف ، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.
سلّمنا أن العافي
هو وليّ الدم ، سواء كان له شريك ، أو لم يكن لم لا يجوز أن يقال إن هذا مشروط
برضا القاتل إلّا أنّه تبارك وتعالى لم يذكر رضا القاتل ؛ لأنه ثابت معروف لا
محالة ، لأنّ الظاهر من كلّ عاقل أنّه يبذل كلّ الدنيا لغرض دفع القتل عن
نفسه ؛ لأنّه إذا
قتل لا يبقى له نفس ولا مال ، وبذل المال فيه إحياء النّفس ، فلمّا كان هذا الرضا
حاصلا في الأعمّ الأغلب ، لا جرم ترك ذكره ، وإن كان معتبرا في نفس الأمر.
فالجواب أنّ حمل
لفظ «العفو» هنا على إسقاط القصاص أولى من حمله على دفع القاتل المال إلى وليّ
الدم ؛ من وجهين :
الأوّل : أنّ
حقيقة العفو إسقاط الحقّ ؛ فوجب ألّا يكون حقيقة في غيره ؛ دفعا للاشتراك ، وحمل
اللفظ هنا على إسقاط الحقّ أولى من حمله على ما ذكرتم ؛ لأنّه لمّا قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى) ، كان حمل قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) على إسقاط حقّ القصاص أولى ؛ لأنّ قوله «شيء» لفظ مبهم ،
وحمل هذا المبهم على ذلك المعيّن المذكور السّابق أولى.
الثاني : لو كان
المراد ب «العفو» ما ذكرتم ، لكان قوله (فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) عبثا ؛ لأنّ بعد وصول المال إليه في السّهولة واللّين ، لا
حاجة به إليه ، ولا حاجة بذلك المعطى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.
والجواب عن الثاني
من وجهين :
الأول : أنّ ذلك
الكلام ، إنّما يتمشّى بفرض صورة مخصوصة ، وهي ما إذا كان حقّ القصاص مشتركا بين
اثنين ، فعفا أحدهما وسكت الآخر ، والآية دالّة على شرعيّة هذا الحكم على الإطلاق
، فحمل اللّفظ المطلق على صورة خاصّة مقيّدة خلاف الظّاهر.
الثاني : أن الهاء
في قوله (وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ) ضمير عائد إلى مذكور سابق ، وهو العافي ، فوجب أداء هذا
المال إلى العافي ، وعلى قولكم : يكون أداؤه إلى غير العافي فيكون باطلا.
والجواب عن
الثّالث : أنّ توقيف ثبوت أخذ الدّية وقبول ذلك لوليّ الدم ، على اعتبار رضا
القاتل يخالف الظّاهر ، وهو غير جائز.
فصل
قد تقدّم أن تقدير
الآية الكريمة يقتضي شيئا من العفو ، وهذا يشكل إذا كان الحقّ ليس إلا القود فقط ،
فإنّه يقال : القود لا يتبعّض ، فأما إذا كان مجموع حقّه ، إمّا القود وإمّا المال
؛ كان مجموع حقّه متبعّضا ؛ لأنّ له أن يعفو عن القود دون المال وله أن يعفو عن
الكلّ.
وتنكير الشّيء
يفيد فائدة عظيمة ؛ لأنّه كان يجوز أن يتوهم أنّ العفو لا يؤثّر في سقوط القود ،
وعفو بعض الأولياء عن حقّه ؛ كعفو جميعهم عن حقّهم ، فلو عرّف الحقّ ، كان لا يفهم
منه ذلك ، فلمّا نكّره ، صار هذا المعنى مفهوما منه.
فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمنا
نقل أن ابن عبّاس
تمسّك بهذه الآية في كون الفاسق مؤمنا من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه
تعالى سمّاه مؤمنا ، حال ما وجب القصاص عليه ، وإنّما وجب القصاص عليه إذا صدر
القتل العمد العدوان ، وهو بالإجماع من الكبائر ؛ فدلّ على أن صاحب الكبيرة مؤمن.
وثانيها : أنّه
أثبت الأخوّة بين القاتل ، وبين وليّ الدم ، ولا شكّ أنّ هذه الأخوّة تكون بسبب
الدّين ، قال تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فلو لا أنّ الإيمان باق مع الفسق ، وإلّا لما بقيت الأخوّة
الحاصلة بسبب الدين.
وثالثها : أنه
تبارك وتعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والندب إلى العفو ، إنّما يليق بالمؤمن.
أجابت المعتزلة عن الأوّل : فقالوا : إن قلنا : المخاطب بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى) هم الأئمّة ، فالسّؤال زائل ، وإن قلنا : هم القاتلون ،
فجوابه من وجهين :
أحدهما : أن
القاتل قبل إقدامه على القتل ، كان مؤمنا فسمّاه الله تعالى مؤمنا بهذا التأويل.
الثاني : أن
القاتل قد يتوب ، وعند ذلك يكون مؤمنا ، ثم إنّه تعالى أدخل فيه غير التائب
تغليبا.
وأجابوا عن
الثّاني بوجوه :
الأوّل : أنّ
الآية نزلت قبل أن يقتل أحد أحدا ، ولا شكّ أنّ المؤمنين إخوة قبل الإقدام على
القتل.
والثاني : الظاهر
أنّ الفاسق يتوب ، أو نقول : المراد الأخوّة بين وليّ المقتول والقتيل ؛ كما
تقدّم.
الثالث : يجوز أن
يكون جعله أخا له في الكتاب ؛ كقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً) [الأعراف : ٦٥].
الرابع : أنّه حصل
بين وليّ الدم ، وبين القاتل نوع تعلّق واختصاص ، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم
الأخوّة ، كما نقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، إذا كان بينهما أدنى تعلّق.
الخامس : ذكر لفظ
الأخوّة ؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكره ما هو ثابت بينهما من الجنسيّة.
__________________
وعن الثّالث :
أنّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد.
والجواب : أنّ هذه
الوجوه كلّها تقتضي تقييد الأخوّة بزمان دون زمان ، وبصفة دون صفة ، والله تعالى
أثبت الأخوّة على الإطلاق ، وهذا الجواب لا يردّ ما ذكروه في الوجه الثاني من
قولهم : المراد بالأخوّة الّتي بين وليّ الدم والمقتول ؛ كأنه قيل : «فمن عفي له
بسبب أخيه المقتول شيء والمراد : الدّية ، فليتّبع وليّ الدّم القاتل بالمعروف ،
وليؤدّ القاتل الدية إلى وليّ الدّم بإحسان ؛ وحينئذ يحتاج هذا إلى جواب.
أحدها : أن يكون
خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطيّة ـ رحمهالله تعالى ـ والواجب الاتباع وقدّره الزمخشريّ : «فالأمر
اتّباع».
قال ابن عطيّة : وهذا سبيل الواجبات ، وأمّا المندوبات ، فتجيء منصوبة ؛
كقوله (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] قال
أبو حيّان : ولا أدري ما الفرق بين النّصب والرفع ، إلّا ما ذكروه من
أنّ الجملة الاسمية أثبت وآكد ؛ فيمكن أن يكون مستند ابن عطيّة هذا ، كما قالوا في
قوله : (قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) [هود : ٦٩].
الثاني : أن يرتفع
بإضمار فعل ، وقدره الزمخشري : «فليكن اتباع» قال أبو حيّان : هو ضعيف ؛ إذ «كان» لا تضمر غالبا إلّا بعد «إن»
الشّرطيّة و «لو» ؛ لدليل يدلّ عليه.
الثالث : أن يكون
مبتدأ محذوف الخبر ، فمنهم : من قدّره متقدّما عليه ، أي : «فعليه اتباع» ومنهم :
من قدّره متأخّرا عنه ، أي : «فاتّباع بالمعروف عليه».
قوله «بالمعروف»
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلّق
ب «اتّباع» فيكون منصوب المحلّ.
الثاني : أن يكون
وصفا لقوله «اتّباع» فيتعلّق بمحذوف ويكون محلّه الرفع.
الثالث : أن يكون
في محلّ نصب على الحال من الهاء المحذوفة ، تقديره : «فعليه اتّباعه عادلا»
والعامل في الحال معنى الاستقرار.
قوله (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) في رفعه أربعة أوجه ، الثلاثة المقولة في قوله : فاتّباع ؛
لأنّه معطوف عليه.
[والرابع : أن
يكون مبتدأ خبره الجارّ والمجرور بعده ، وهو «بإحسان» ، وهو بعيد ، و «إليه» في
محلّ نصب ؛ لتعلّقه ب «أداء» ، ويجوز أن يكون في محلّ رفع ؛ صفة ل «أداء» فيتعلّق
بمحذوف ، أي : و «أداء كائن إليه».
__________________
و «بإحسان» فيه
أربعة أوجه : الثلاثة المقولة في «بالمعروف»].
والرابع : أن يكون
خبر الأداء ، كما تقدّم في الوجه الرابع من رفع «أداء». والهاء في «إليه» ، تعود
إلى العافي ، وإن لم يجر له ذكر ، لأنّ «عفا» يستلزم عافيا ، فهو من باب تفسير
الضمير بمصاحب بوجه ما ، ومنه (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ، أي : الشمس
؛ لأن في ذكر «العشيّ» دلالة عليها ؛ ومثله : [الطويل]
٩١٨ ـ فإنّك والتّأبين عروة بعدما
|
|
دعاك وأيدينا
إليه شوارع
|
لكّالرّجل
الحادي وقد تلع الضّحى
|
|
وطير المنايا
فوقهنّ أواقع
|
فالضمير في «فوقهنّ»
للإبل ؛ لدلالة لفظ «الحادي» عليها ؛ لإنّها تصاحبه بوجه مّا.
فصل
قال ابن عبّاس ،
والحسن وقتادة ، ومجاهد : على العافي الاتباع بالمعروف ، وعلى المعفوّ عنه الأداء
إليه بإحسان .
وقيل هما على
المعفوّ عنه ، فإنّه يتبع عفو العافي بمعروف ، فهو أداء المعروف إليه بإحسان ،
والاتباع بالمعروف : ألّا يشتدّ في المطالبة ، بل يجري فيها على العادة المألوفة
فإن كان معسرا ، أنظره ، وإن كان واجدا لغير المال ، فلا يطالبه بزيادة على قدر
الحقّ ، وإن كان واجدا لغير المال الواجب ، فيمهله إلى أن يبيع ، وأن يستبدل وألّا
يمنعه تقديم الأهمّ من الواجبات ، فأمّا الأداء إليه بإحسان فالمراد به : ألّا
يدّعي الإعدام في حال الإمكان ، ولا يؤخّره مع الوجود ، ولا يقدّم ما ليس بواجب
عليه ، وأن يؤدي المال ببشر ، وطلاقة ، وقول جميل.
ومذهب أكثر
العلماء ، والصحابة ، والتابعين : أنّ وليّ الدم ، إذا عفا عن القصاص على الدّية ،
فله أخذ الدية ، وإن لم يرض القاتل.
وقال الحسن ،
والنّخعيّ ، وأصحاب الرأي : لا دية له ، إلّا برضى القاتل.
حجّة القول الأوّل
: قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من قتل له قتيل ، فهو بخير النّظرين ، إمّا أن يقتل
وإمّا أن يفدي».
قوله : «ذلك تخفيف»
الإشارة بذلك إلى ما شرعه من العفو ، والدية ؛ لأنّ العفو ، وأخذ
__________________
الدّية محرّمان
على أهل التّوراة ، وفي شرع النّصارى العفو فقط ، ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله
تعالى هذه الأمّة بين القصاص ، وبين العفو على الدّية تخفيفا منه ورحمة.
وقيل إنّ قوله : «ذلك»
راجع إلى قوله (فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) و (مِنْ رَبِّكُمْ) في محلّ رفع ؛ لأنّه صفة لما قبله ، فيتعلّق بمحذوف.
ورحمة صفتها
محذوفة أيضا ، أي : «رحمة من ربّكم».
قوله (فَمَنِ اعْتَدى) يجوز في «من» الوجهان الجائزان في قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) من كونها شرطيّة وموصولة ، وجميع ما ذكر ثمّة يعود هنا.
فصل
قال ابن عبّاس : «اعتدى»
، أي : جاوز الحدّ إلى ما هو أكثر منه ، قال ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن : هو أن
يقتل بعد العفو ، وأخذ الدّية ، وذلك أنّ الجاهليّة كانوا إذا عفوا ، وأخذوا الدية ، ثم
ظفروا بالقاتل ، قتلوه ، فنهى الله عن ذلك في قوله (فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) ، وفيه قولان :
أشهرهما : أنه نوع
من العذاب شديد الألم في الآخرة.
والثاني : روي عن
قتادة ، والحسن ، وسعيد بن جبير : هو أن يقتل لا محالة ، ولا يعفو عنه ، ولا يقبل
منه الدّية ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدّية».
قال القرطبيّ من قتل بعد أخذ الدّية ؛ كمن قتل ابتداء ، إن شاء الوليّ
قتله وإن شاء ، عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وهذا قول مالك ، والشافعيّ وجماعة.
وقال قتادة وعكرمة
، والسّدّيّ ، وغيرهم : عذابه أن يقتل البتّة ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو.
قال ابن الخطيب وهذا القول ضعيف ؛ لأن المفهوم من العذاب الأليم عند
الإطلاق هو عذاب الآخرة ، وأيضا : فإنّ القود تارة يكون عذابا ؛ كما هو في حقّ غير
التائب ، وتارة يكون امتحانا ؛ كما في حقّ التائب ، فلا يصحّ إطلاق العذاب عليه
إلّا في وجه دون وجه.
__________________
قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا
أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)
اعلم أن كيفيّة
النّظم أنّه تعالى لما أوجب القصاص في الآية المتقدّمة توجّه أن يقال : كيف يليق
برحمته إيلام العبد الضّعيف ، فذكر عقيبه حكمة شرع القصاص ؛ دفعا لهذا السؤال.
قوله «لكم» : يجوز
أن يكون الخبر ، و «في القصاص» متعلّق بالاستقرار الّذي تضمنّه «لكم» ويجوز أن
يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من حياة ، لأنّه كان في الأصل صفة لها ، فلما قدّم
عليها نصب حالا ، ويجوز أن يكون «في القصاص» هو الخبر ، و «لكم» متعلّق بالاستقرار
المتضمّن له ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في قوله (وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [البقرة : ٣٦]
وهناك أشياء لا تجيء هنا.
فصل في معنى كون القصاص حياة
في معنى كون
القصاص حياة وجوه :
أحدها : أنّه ليس
المراد أنّ نفس القصاص حياة ؛ لأنّ القصاص إزالة للحياة ، وإزالة الشيء يمتنع أنّ
تكون نفس ذلك الشّيء ، بل المراد أنّ شرع القصاص يفضي إلى الحياة.
أمّا في حقّ من
يريد القتل فإنّه إذا علم أنّه إذا قتل قتل ترك القتل ؛ فلا يقتل ، فيبقى حيّا ،
وأمّا في حقّ المقتول : فإنّ من أراد قتله ، إذا خاف من القصاص ؛ ترك قتله فيبقى
غير مقتول ، وأمّا في حقّ غيرهما : فلأنّ في شرع القصاص بقاء من همّ بالقتل ومن
يهمّ به ، وفي بقائهما بقاء من يتعصّب لهما ؛ لأنّ الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدّي
إلى المحاربة الّتي تنتهي إلى قتل عالم من النّاس ، وفي شرع القصاص زوال لكلّ ذلك
، فيصير حياة للكلّ.
وثانيها : أنّ نفس
القصاص سبب الحياة ؛ لأنّ سافك الدّم ، إذا أقيد منه ، ارتدع من كان يهمّ بالقتل ، فلم يقتل ، فكان القصاص
نفسه سببا للحياة من هذا الوجه.
وثالثها : معنى
الحياة سلامته من قصاص الآخرة ، فإنّه إذا اقتصّ منه في الدّنيا ، حيي في الآخرة ،
وإذا لم يقتصّ منه في الدّنيا اقتصّ منه في الآخرة وهذا الحكم غير مختصّ بالقصاص
في النّفس ، بل يدخل فيه القصاص في الجراح والشّجاج.
ورابعها : قال
السّدّيّ : المراد من القصاص إيجاب التّوبة.
وقرأ أبو الجوزاء في القصص والمراد به القرآن.
__________________
قال ابن عطيّة ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص ، أي أنّه إذا قصّ أثر
القاتل قصصا ، قتل.
ويحتمل أن يكون
قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي فيما أقصّ عليكم من حكم القتل والقصاص.
فصل في الردّ على احتجاج المعتزلة بالآية
قالت المعتزلة :
دلّت هذه الآية على أنّ القصاص سبب للحياة ؛ لقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) ، فدلّ ذلك على أنّه لو لم يشرع القصاص ، لكان ذلك سببا
للموت قبل حلول وقته ، وكذلك كلّ ما نتج من الحيوان ، فإنّ هلاكه قبل أجله ؛ بدليل
أنّه يجب على القاتل الضّمان والدّية.
وأجيب بقوله تعالى
: (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥]
وقوله : (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: ٣٤] (إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤] (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] فمتى
قتل العبد علمنا أنّ ذلك أجله ، ولا يصحّ أن يقال : إنّه لو لم يقتل ، لعاش ؛ لما ذكرنا
من الآيات.
أمّا وجوب الضمان
والدّية ، فللإقدام على القتل وللزجر عن الفعل.
فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة
اتفق علماء البيان
على أنّ هذه الآية في الإيجاز مع جميع المعاني باللّغة بالغة أعلى
__________________
الدّرجات ؛ فإنّه
قول العرب في هذا المعنى «القتل أوقى للقتل» ، ويروى «أنفى للقتل» ، ويروى «أكفّ
للقتل» ، ويروى «قتل البعض أحيا الجميع» ، ويروى : «أكثروا القتل ليقلّ القتل»
فهذا وإن كان بليغا فقد أبدت العلماء بينه وبين الآية الكريمة وجوها عديدة في
البلاغة ، وجدت في الآية الكريمة دونه :
منها : أنّ في
قولهم تكرار الاسم في جملة واحدة.
ومنها : أنّه لا
بدّ من تقدير حذف ؛ لأنّ «أنفى» و «أوقى» و «أكفّ» أفعل تفضيل فلا بدّ من تقدير
المفضّل عليه ، أي : أنفى للقتل من ترك القتل.
ومنها : أنّ
القصاص أعمّ ؛ إذ يوجد في النّفس وفي الطّرف ، والقتل لا يكون إلّا في النّفس.
ومنها : أنّ ظاهر
قولهم كون وجود الشيء سببا في انتفاء نفسه.
ومنها : أنّ في
الآية نوعا من البديع يسمّى الطباق ، وهو مقابلة الشيء بضدّه ، فهو يشبه قوله
تعالى : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣].
قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) منادى مضاف وعلامة نصبه الياء ، واعلم أنّ «أولي» اسم جمع
؛ لأنّ واحده ، وهو «ذو» من غير لفظه ، ويجري مجرى جمع المذكّر السّالم في رفعه
بالواو ونصبه وجرّه بالياء المكسور ما قبلها ، وحكمه في لزوم الإضافة إلى اسم جنس
حكم مفرده ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) ويقابله في المؤنث «أولات» وكتبا في المصحف بواو بعد
الهمزة ؛ قالوا : ليفرّقوا بين «أولي كذا» في النّصب والجرّ ، وبين «إلى» الّتي هي
حرف جرّ ، ثم حمل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدّم في الفرق بين «أولئك» اسم
إشارة ، و «إليك» جارا ومجرورا وقد تقدّم ، وإذا سمّيت ب «أولى» ، من «أولي كذا»
قلت : «جاء ألون ، ورأيت ألين» بردّ النّون ؛ لأنّها كالمقدّرة حالة الإضافة ، فهو
نظير «ضاربو زيد وضاربي زيد».
والألباب : جمع
لبّ ، وهو العقل الخالي من الهوى ؛ سمّي بذلك لأحد وجهين :
إما لبنائه من لبّ
بالمكان : أقام به وإمّا من اللّباب ، وهو الخالص ؛ يقال : لببت بالمكان ، ولببت
بضمّ العين ، وكسرها ، ومجيء المضاعف على «فعل» بضم العين شاذّ ، استغنوا عنه ب «فعل»
مفتوح العين ؛ وذلك في ألفاظ محصورة ؛ نحو عززت ، وسررت ، ولببت ، ودممت ، ومللت
فهذه بالضمّ وبالفتح ، إلّا «لببت» فبالضمّ والكسر ؛ كما تقدّم.
قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : قال الحسن والأصمّ : لعلّكم تتّقون نفس القتل ؛ بخوف القصاص .
__________________
وقيل : المراد هو
التقوى من كلّ الوجوه.
قال الجبّائيّ : هذا يدلّ على أنّه تعالى أراد التّقوى من الكلّ ، سواء
كان في المعلوم أنهم يتّقون أو لا يتّقون بخلاف قول المجبرة ، وقد سبق جوابه.
فإن قيل «لعلّ»
للتّرجّي ، وهو في حقّ الله تعالى محال ، فجوابه ما سبق في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١].
قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(١٨٠)
قال القرطبيّ في الكلام تقدير واو العطف ، أي : «و (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، فلما طال الكلام ، سقطت الواو ، ومثله في بعض الأقوال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٥ ، ١٦]
، أي : والذي تولّى فحذف.
وقوله : «كتب»
مبنيّ للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى ، وللاختصار.
وفي القائم مقام
الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
الوصيّة ، أي : «كتب عليكم الوصيّة» وجاز تذكير الفعل لوجهين :
أحدها : كون
القائم مقام الفاعل مؤنّثا مجازيا.
والثاني : الفصل
بينه وبين مرفوعه.
والثاني : أنّه
الإيصاء المدلول عليه بقوله : (الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ) أي : كتب هو أي : الإيصاء ، وكذلك ذكر الضّمير في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) [البقرة : ١٨١]
وأيضا : أنّه ذكر الفعل ، وفصل بين الفعل والوصيّة ؛ لأنّ الكلام ، لمّا طال ، كان
الفاصل بين المؤنّث والفعل ، كالمعوّض من تاء التّأنيث ، والعرب تقول : حضر القاضي
امرأة فيذكرون ؛ لأنّ القاضي فصل بين الفعل وبين المرأة.
والثّالث : أنه
الجارّ والمجرور ، وهذا يتّجه على رأي الأخفش ، والكوفيين ، و «عليكم» في محلّ رفع
على هذا القول ، وفي محلّ نصب على القولين الأوّلين.
قوله تعالى : (إِذا حَضَرَ) العامل في «إذا» «كتب» على أنّها ظرف محض وليس متضمّنا
للشّرط ، كأنّه قيل : «كتب عليكم الوصيّة وقت حضور الموت» ولا يجوز أن يكون العامل
فيه لفظ «الوصيّة» ؛ لأنّها مصدر ، ومعمول المصدر لا يتقدّم عليه لانحلاله لموصول
وصلة ، إلّا على مذهب من يرى التّوسّع في الظّرف وعديله ، وهو أبو الحسن ؛ فإنّه
لا يمنع ذلك ، فيكون التّقدير : «كتب عليكم أن توصوا وقت حضور الموت».
__________________
وقال ابن عطيّة ويتّجه في إعراب هذه الآية الكريمة : أن يكون «كتب» هو
العامل في «إذا» ، والمعنى : «توجّه عليكم إيجاب الله ، ومقتضى كتابه ، إذا حضر»
فعبّر عن توجّه الإيجاب ب «كتب» لينتظم إلى هذا المعنى : أنّه مكتوب في الأزل ، و
«الوصيّة» مفعول لم يسمّ فاعله ب «كتب» وجواب الشّرطين «إن» و «إذا» مقدّر يدلّ
عليه ما تقدّم من قوله «كتب».
قال أبو حيان وفي هذا تناقص ؛ لأنّه جعل العامل في «إذا» «كتب» ، وذلك
يستلزم أن يكون إذا ظرفا محضا غير متضمّن للشّرط ، وهذا يناقض قوله : «وجواب» إذا و
«إن» محذوف ؛ لأنّ إذا الشّرطية لا يعمل فيها إلّا جوابها ، أو فعلها الشرطيّ ، و
«كتب» : ليس أحدهما ، فإن قيل : قوم يجيزون تقديم جواب الشّرط ، فيكون «كتب» هو
الجواب ، ولكنّه تقدّم ، وهو عامل في «إذا» ، فيكون ابن عطيّة يقول بهذا القول.
فالجواب : أنّ ذلك
لا يجوز ؛ لأنّه صرّح بأنّ جوابها محذوف مدلول عليه ب «كتب» ، ولم يجعل «كتب» هو
الجواب ، ويجوز أن يكون العامل في «إذا» الإيصاء المفهوم من لفظ «الوصيّة» ، وهو
القائم مقام الفاعل في «كتب» ؛ كما تقدّم.
قال ابن عطيّة في
هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدّر الذي يدلّ عليه ذكر الوصيّة بعد هو العامل
في «إذا» ، وترتفع «الوصيّة» بالابتداء ، وفيه جواب الشّرطين ؛ على نحو ما أنشده
سيبويه : [البسيط]
٩١٩ ـ من يفعل الصّالحات الله يحفظه
|
|
..........
|
ويكون رفعها
بالابتداء ، أي : فعليه الوصيّة ؛ بتقدير الفاء فقط ؛ كأنّه قال : «فالوصيّة
للوالدين» ، وناقشه أبو حيّان من وجوه :
أحدها : أنّه
متناقض من حيث إنّه إذا جعل «إذا» معمولة للإيصاء المقدر ، تمحّضت للظّرفية ، فكيف
يقدّر لها جواب ؛ كما تقدّم تحريره.
والثاني : أنّ هذا
الإيصاء إما أن تقدّر لفظه محذوفا ، أو تضمره ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا يعمل ؛
لأنّ المصدر شرط إعماله ألّا يحذف ، ولا يضمر عند البصريّين ، وأيضا : فهو قائم
مقام الفاعل ؛ فلا يحذف.
الثّالث : قوله «جواب
الشّرطين» والشيء الواحد لا يكون جوابا لاثنين ، بل جواب كلّ واحد مستقلّ بقدره.
الرابع : جعله حذف
الفاء جائزا في القرآن ، وهذا نصّ سيبويه على أنّه لا يجوز إلا ضرورة ، وأنشد : [البسيط]
__________________
٩٢٠ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها
|
|
والشّرّ بالشّرّ
عند الله سيّان
|
وإنشاده : «من
يفعل الصالحات الله يحفظه» يجوز أن يكون رواية إلّا أنّ سيبويه لم ينشده كذا ، بل كما تقدّم ، والمبرّد روى عنه : أنّه لا
يجيز حذف الفاء مطلقا ، لا في ضرورة ، ولا غيرها ، ويرويه : «من يفعل الخير ،
فالرّحمن يشكره» وردّ النّاس عليه بأنّ هذه ليست حجّة على رواية سيبويه.
ويجوز أنّ تكون «إذا»
شرطيّة ؛ فيكون جوابها وجواب «إن» محذوفين ، وتحقيقه أنّ جواب «إن» مقدر ، تقديره
: «كتب الوصيّة على أحدكم إذا حضره الموت ، إن ترك خيرا ، فليوص» ، فقوله : «فليوص»
جواب ل «إن» ؛ حذف ، لدلالة الكلام عليه ، ويكون هذا الجواب المقدّر دالّا على
جواب «إذا» فيكون المحذوف دالّا على محذوف مثله.
وهذا أولى من قول
من يقول : إنّ الشّرط الثّاني جواب الأوّل ، وحذف جواب الثّاني ، وأولى أيضا من
تقدير من يقدّره في معنى «كتب» ماضي المعنى ، إلّا أن يؤوّله بمعنى : «يتوجّه
عليكم الكتب ، إن ترك خيرا».
قوله «الوصيّة»
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
مبتدأ ، وخبره «للوالدين».
والثاني : أنّه
مفعول «كتب» ، وقد تقدّم.
والثالث : أنّه
مبتدأ ، خبره محذوف ، أي : «فعليه الوصيّة» ، وهذا عند من يجيز حذف فاء الجواب ،
وهو الأخفش ؛ وهو محجوج بنقل سيبويه .
فصل في المراد من حضور الموت
قوله «إذا حضر
أحدكم الموت ..» ليس المراد منه معاينة الموت ؛ لأنّ ذلك الوقت يكون عاجزا عن
الإيصاء ، ثم ذكر في ذلك وجهين :
أحدهما : وهو
المشهور أنّ المراد حضور أمارة الموت ؛ كالمرض المخوف ؛ كما يقال فيمن يخاف عليه
الموت حضره الموت ويقال لمن قارب البلد : «وصل» ؛ قال عنترة : [الوافر]
٩٢١ ـ وإنّ الموت طوع يدي إذا ما
|
|
وصلت بنانها
بالهندواني
|
وقال جرير ، يهجو
الفرزدق : [الوافر]
٩٢٢ ـ أنا الموت الّذي حدّثت عنه
|
|
فليس لهارب منّي
نجاء
|
__________________
والثاني : قال
الأصمّ : إنّ المراد : فرضنا عليكم الوصيّة في حال الصّحّة بأن
تقولوا : «إذا حضرنا الموت ، فافعلوا كذا».
فصل في المراد بالخير في الآية
المراد بالخير هنا
المال ؛ كقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ) [البقرة : ٢٧٢] (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] (مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] قال
أبو العبّاس المقرىء : وقد ورد لفظ «الخير» في القرآن بإزاء ثمانية معان :
الأوّل : الخير :
المال ؛ كهذه الآية.
الثاني : الإيمان
؛ قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] أي
: إيمانا ، وقوله (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) [الأنفال : ٧٠] ،
يعني : إيمانا.
الثالث : الخير
الفضل ؛ ومنه قوله : (خَيْرُ
الرَّازِقِينَ* خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* خَيْرُ الْحاكِمِينَ).
الرابع : الخير :
العافية ؛ قال تعالى : (وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ) [يونس : ١٠٧] ، أي
: بعافية.
الخامس : الثّواب
قال تعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) [الحج : ٣٦] ، أي : ثواب وأجر.
السادس : الخير :
الطّعام ؛ قال : (إِنِّي لِما
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤].
السابع : الخير :
الظّفر والغنيمة ؛ قال تعالى : (وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب : ٢٥].
الثامن : الخير :
الخيل ؛ قال تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [ص : ٣٢] ، يعني :
الخيل.
ثم اختلفوا هنا
على قولين :
فقال الزهريّ : لا فرق بين القليل ، والكثير ، فالوصيّة واجبة في الكلّ
؛ لأن المال القليل خير ؛ لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] (إِنِّي لِما
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤]
والخير : ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، وأيضا : قوله تعالى في المواريث : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) [النساء : ٧]
فتكون الوصية كذلك.
__________________
الثاني : أن الخير
هو المال الكثير ؛ لأن من ترك درهما لا يقال ترك خيرا ، ولا يقال : فلان ذو مال ،
إلّا أن يكون ماله مجاوزا حدّ الحاجة ، ولو كانت الوصيّة واجبة في كلّ ما يترك ،
سواء كان قليلا أو كثيرا ، لما كان التقييد بقوله : «إن ترك خيرا» كلاما مفيدا ؛
لأنّ كلّ أحد لا بدّ وأن يترك شيئا ، وأمّا من يموت عريانا ، ولا يبقى منه كسرة
خبز ، فذلك في غاية النّدرة ، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير ، فهل
هو مقدّر ، أم لا؟ فيه قولان :
الأول : أنه مقدّر
، واختلفوا في مقداره ؛ فروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ : أنه دخل على مولى لهم في
الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي؟ فقال : لا ؛ إنّما قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير : هو المال الكثير ، وليس لك مال.
وعن عائشة : أنّ
رجلا قال لها : إنّي أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم
عيالك؟ قال أربع ، قالت : قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا يسير ، فاتركه لعائلتك ، فهو أفضل .
وعن ابن عبّاس : «إذا
ترك سبعمائة درهم ، فلا يوصي ، فإن بلغ ثمانمائة درهم ، أوصى» وعن قتادة : ألف درهم ، وعن النّخعيّ : من ألف وخمسمائة درهم .
وقال قوم : إنه
غير مقدّر بمقدار معيّن بل يختلف باختلاف حال الرجال .
فصل في تحرير معنى «الوصيّة»
قال القرطبيّ : و «الوصيّة» عبارة عن كلّ شيء يؤمر بفعله ، ويعهد به في
__________________
الحياة ، وبعد
الموت ، وخصّصها العرف بما يعهد بفعله ، وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا ،
كالقضايا جمع قضيّة ، والوصيّ يكون الموصي ، والموصى إليه ؛ وأصله من وصى مخفّفا
وتواصى النّبت تواصيا ، إذا اتصل ، وأرض واصية : متّصلة النّبات ، وأوصيت له بشيء
، وأوصيت إليه ، إذا جعلته وصيّك ، والاسم الوصاية والوصاية بالكسر والفتح ،
وأوصيته ، ووصّيته أيضا توصية بمعنى ؛ والاسم الوصاة ، وتواصى القوم أوصى بعضهم
بعضا ، وفي الحديث «استوصوا بالنّساء خيرا ؛ فإنهنّ عوان عندكم» ووصّيت الشيء بكذا
، إذا وصّلته به.
فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين
اعلم : أن الله
تعالى بيّن أن الوصية الواجبة للوالدين والأقربين. قال الأصمّ : وذلك أنّهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشّرف ،
ويتركون الأقارب في الفقر ، والمسكنة ؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيّة
لهؤلاء.
وقال ابن عبّاس ،
وطاوس ، وقتادة ، والحسن : إنّ هذه الوصيّة كانت واجبة قبل آية المواريث للوالدين
والأقربين من يرث منهم ، ومن لا يرث ، فلما نزلت آية المواريث ، نسخت وجوبها في
حقّ الوارث ، وبقي وجوبها في حقّ من لم يرث ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصيّة لوارث» .
وقال طاوس : من
أوصى لقوم ، وترك ذوي قرابة محتاجين ، انتزعت منهم ، وردت في ذوي قرابته.
وذهب الأكثرون إلى
أن الوجوب صار منسوخا في حقّ الكافّة ، وهي مستحبّة في حقّ الذين لا يرثون.
روى مالك ، عن
نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما حقّ امرىء مسلم
__________________
له شيء يريد أن
يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده» .
وقال بعضهم : إن
الوصيّة لم تكن واجبة ، وإنما كانت مندوبة ، وهي على حالها لم تنسخ ، وسيأتي
الكلام عليه قريبا ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قوله : «بالمعروف»
: يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن
يتعلّق بنفس الوصيّة.
والثاني : أن
يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من الوصيّة ، أي : حال كونها ملتبسة بالمعروف ، لا
بالجور.
فصل
يحتمل أن يكون
المراد منه قدر ما يوصى به ، فيسوّى بينهم في العطيّة ، ويحتمل أن يكون المراد من
المعروف ألّا يعطي البعض ، ويحرم البعض ؛ كما إذا حرم الفقير ، وأوصى للغنيّ ، لم
يكن ذلك معروفا ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما ، وبين بني العمّ ، لم يكن
معروفا ، فالله تعالى كلّفه الوصيّة ؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش ، ونقل
عن ابن مسعود : أنه جعل هذه الوصيّة للأفقر فالأفقر من الأقرباء .
وقال الحسن
البصريّ : هم والأغنياء سواء .
وروي عن الحسن
أيضا ، وجابر بن زيد ، وعبد الملك بن يعلى : أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته ، وله قرابة لا ترثه ،
قالوا : نجعل ثلثي الثّلث لذوي قرابته ، وثلث الثّلث للموصى له ، وتقدّم النّقل
عند طاوس أنّ الوصيّة تنزع من الأجنبيّ ، وتعطى لذوي القرابة .
وقال بعضهم : قوله
: «بالمعروف» : هو ألّا يزيد على الثّلث ، روي عن سعد بن مالك ، قال : جاءني
النبيّ صلىاللهعليهوسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى
، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلّا ابنتي ، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي رواية : «أوصي
بمالي كلّه» قال : لا ، قلت : بالشّطر ؛ قال : لا ، قلت : فالثّلث ، قال : الثّلث
، والثّلث كثير ؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس .
__________________
وقال [عليّ : لأن
أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي
بالثّلث ، فلم أوصى بالثّلث ، فلم يترك»].
وقال الحسن : نوصي
بالسّدس ، أو الخمس ، أو الرّبع.
وقال الفارسيّ :
إنما كانوا يوصون بالخمس والرّبع.
وذهب جمهور
العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثّلث ، إلّا أصحاب الرأي ، فإنهم
قالوا : إن لم يترك الوصيّ ورثة ، جاز له أن يوصي بماله كله.
وقالوا : إنّما
جاز الاقتصار على الثّلث في الوصيّة ؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء.
قوله «حقّا» في
نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
نعتا لمصدر محذوف ، ذلك المصدر المحذوف : إما مصدر «كتب» ، أو مصدر «أوصى» ، أي : «كتبا
حقّا» أو «إيصاء حقّا».
الثاني : أنه حال
من المصدر المعرّف المحذوف ، إما مصدر «كتب» ، أو «أوصى» ؛ كما تقدّم.
الثالث : أن ينتصب
على أنّه مؤكّد لمضمون الجملة ؛ فيكون عامله محذوفا ، أي : حقّ ذلك حقّا ، قاله
الزّمخشريّ ، وابن عطيّة ، وأبو البقاء .
قال أبو حيّان : وهذا تأباه القواعد النّحويّة ؛ لأن ظاهر قوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) أن يتعلّق ب «حقّا» أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا
التقديرين لا يجوز.
أما الأول ؛ فلأنّ
المصدر المؤكّد لا يعمل ، وأما الثاني ؛ فلأنّ الوصف يخرجه عن التّأكيد.
قال شهاب الدّين : وهذا لا يلزمهم ؛ فإنهم ، والحالة هذه ، لا يقولون : إنّ
(عَلَى الْمُتَّقِينَ) متعلّق به ، وقد نصّ على ذلك أبو البقاء ـ رحمهالله ـ ؛ فإنه قال : وقيل : هو متعلّق بنفس المصدر ، وهو ضعيف ؛
لأنّ المصدر المؤكّد لا يعمل ، وإنّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف ، إذا
ناب عنه ؛ كقولك «ضربا زيدا» ، أي : «اضرب» إلّا أنه جعله صفة ل «حقّ» فهذا يرد
عليه ، وقال بعض المعربين : إنه مؤكد لما تضمّنه معنى المتقين : كأنّه قيل «على
المتّقين حقّا» ؛ كقوله : (أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٧٤]
__________________
وهذا ضعيف ؛
لتقدمه على عامله الموصول ، ولأنه لا يتبادر إلى الذّهن.
قال أبو حيّان : والأولى عندي : أن يكون مصدرا من معنى «كتب» ؛ لأن معنى
«كتب الوصيّة» ، أي : حقّت ووجبت ، فهو مصدر على غير الصدر ، نحو : «قعدت جلوسا».
فإن قيل : ظاهر
هذا التّكليف يقتضي تخصيص هذا التّكليف بالمتّقين ، دون غيرهم؟ فالجواب أن المراد
بقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) أنّه لازم لمن آثر التقوى ، وتحرّاه ، وجعله طريقة له
ومذهبا ، فيدخل الكل فيه.
وأيضا : فإن الآية
الكريمة وإن دلّت على وجوب هذا المعنى على المتقين ، فالإجماع دلّ على أنّ
الواجبات والتّكاليف عامّة في حقّ المتّقين وغيرهم ، فبهذا الطّريق يدخل الكلّ تحت
هذا التّكليف.
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القرطبيّ : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيّر وصيّته ، ويرجع فيما شاء
منها ، إلّا أنهم اختلفوا في المدبر .
فقال مالك : الأمر
المجمع عليه عندنا : أن الموصي ، إذا أوصى في صحّته ، أو مرضه بوصيّة ، فيها عتق
رقيق ، فإنه يغيّر من ذلك ما بدا له ، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت ، وإن أحبّ
أن يطرح تلك الوصيّة ، ويسقطها فعل ، إلّا أن يدبّر ، فإن دبّر مملوكا ، فلا سبيل
له إلى تغيير ما دبّر.
قال أبو الفرج
المالكيّ : المدبّر في القياس كالمعتق إلى شهر ؛ لأنه أجل آت لا محالة ، وأجمعوا
على أنّه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجل ؛ فكذلك المدبّر ، وبه قال
أبو حنيفة ، وقال الإمام الشافعيّ وإسحاق وأحمد : هو وصيّة.
فصل
اختلفوا في الرّجل
، يقول لعبده : «أنت حرّ بعد موتي» ، وأراد الوصيّة ، فله الرّجوع عند مالك ، وإن
قال : «فلان مدبّر بعد موتي» لم يكن له الرّجوع فيه ، فإن أراد التدبير لقوله
الأول ، لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ،
__________________
وأبو ثور ، فهذا
كلّه عندهم وصيّة ؛ لأنّه في الثّلث ، وكلّ ما كان في الثّلث ، فهو وصيّة ، إلا أن
الشافعيّ قال : لا يكون له الرّجوع في المدبّر إلّا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة
، وليس قوله : «فقد رجعت» رجوعا.
فصل
اختلفوا في رجوع
المجيزين للوصيّة للوارث في حياة الموصي ، وبعد وفاته.
فقالت طائفة : ذلك
جائز عليهم ، وليس لهم الرجوع ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وطاوس ، والحسن ، وابن
سيرين ، وابن أبي ليلى ، والزهريّ ، وربيعة ، والأوزاعي ، وقيل : لهم الرجوع ، إن أحبّوا ، وهو قول ابن مسعود ،
وشريح ، والحكم ، والثوريّ ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وأبي
ثور ، وابن المنذر .
وقال مالك : إن
أذنوا في صحته ، فلهم الرجوع ، وإن أذنوا في مرضه ، فذلك جائز عليهم ، وهو قول
إسحاق.
فصل في الحجر على المريض في ماله
وذهب الجمهور إلى
أنّه يحجر على المريض في ماله .
وقال أهل الظاهر :
لا يحجر عليه ، وهو كالصّحيح.
فصل في توقّف الوصيّة على إجازة الورثة
إذا أوصى لبعض
ورثته بمال ، وقال في وصيّته : إن أجازها الورثة ، فهي لك ، وإن لم يجيزوها ، فهو
في سبيل الله ، فلم يجزها الورثة ، فقال مالك : مرجع ذلك إليهم.
وقال أبو حنيفة ،
ومعمر ، والشافعي في أحد قوليه : يمضي في سبيل الله ، والله أعلم.
فصل
من النّاس من قال
: إن الوصيّة كانت واجبة ؛ واستدلّ بقوله كتب وبقوله «عليكم» وأكد الإيجاب بقوله :
«على المتّقين» ، وهؤلاء اختلفوا : فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة.
وقال أبو مسلم : إنها لم تنسخ من وجوه.
أحدها : أن هذه
الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث ، ومعناه : «كتب عليكم ما وصّى به الله ؛
من توريث الوالدين والأقربين ، ومن قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] أو
كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين ؛ بتوفير ما وصّى به الله عليهم ،
وألّا ينقص من أنصبائهم».
__________________
وثانيها : أنه لا
منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين.
وثالثها : لو
قدرنا حصول المنافاة ، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الوارث ، ويبقى
القريب الذي لا يكون وارثا داخلا تحت هذه الآية ؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث ،
ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدّين أو الرّقّ ، أو القتل ، ومن الأقارب الذين لا
يسقطون في فريضة : من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم : من يسقط في حال ،
ويثبت في حال ، ومنهم : من يسقط في كل حال.
فمن كان من هؤلاء
وارثا ، لم تجز الوصيّة له ، ومن كان منهم غير وارث ، صحّت الوصيّة له ، وقد أكّد
الله تعالى ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] ،
وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [النحل : ٩٠] ،
والقائلون بالنسخ : اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة ، فقال بعضهم : بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقّ حقّه.
قال ابن الخطيب وهذا بعيد ؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب
قدر آخر بالوصيّة ، وأكثر ما يوجبه ذلك التّخصيص ، والنّسخ .
فإن قيل : لا بدّ
وأن تكون منسوخة في حقّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلّ المال حقّا لهم ؛
بسبب الإرث ، فلا يبقى للوصيّة شيء؟!
فالجواب : أن هذا
تخصيص ، لا نسخ.
وقال بعضهم أيضا : إنها نسخت بقوله ـ عليهالسلام ـ ، «لا وصيّة لوارث» ، وفيه إشكال ؛ من حيث إنّه خبر واحد
، فلا يجوز نسخ القرآن به ، فإن قيل : بأنه ، وإن كان
__________________
خبر واحد ، إلّا أن
الأمّة تلقّته بالقبول ، فالتحق بالمتواتر.
فالجواب : سلّمنا
أن الأمّة تلقّته بالقبول ، لكن على وجه الظّنّ ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على
وجه الظّنّ ، فمسلّم إلّا أن ذلك يكون إجماعا منهم على أنه خبر واحد ، فلا يجوز
نسخ القرآن به ، وإن كان على وجه القطع فممنوع ؛ لأنهم لو قطعوا بصحّته ، مع أنه
من باب الآحاد ، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وإنه غير جائز.
وقال آخرون : إنها
نسخت بالإجماع ، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن ؛ لأن الإجماع يدلّ على أن
الدّليل النّاسخ كان موجودا إلّا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدّليل ،
ولقائل أن يقول : لمّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ ؛ فحينئذ : لم يثبت
الإجماع.
__________________
وقال قوم : نسخت
بدليل قياسيّ ، وهو أن نقول : هذه الوصية ، لو كانت واجبة ، لكانت ، إذا لم توجد
هذه الوصيّة ، يجب ألّا يسقط حقّ هؤلاء الأقربين ، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى
في آية المواريث (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] فظاهره
يقتضي أنه إذا لم يكن وصيّة أو دين ، فالمال أجمع للوارث.
ولقائل أن يقول :
نسخ القرآن بالقياس غير جائز.
قال القرطبيّ : قوله تعالى «حقّا» أي : ثابتا ثبوت نظر ، وتحصين ، لا
ثبوت فرض ووجوب ؛ بدليل قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ) وهذا يدل على كونه مندوبا ؛ لأنه لو كان فرضا ، لكان على
جميع المسلمين ، فلما خصّ الله تعالى المتّقي ، وهو من يخاف التّقصير ، دلّ على
أنه غير لازم لغيره.
فصل «في حقّ من نسخت الآية»
قال أكثر المفسرين
إنها نسخت في حقّ من يرث ومن لا يرث.
وقال بعض
المفسّرين من الفقهاء : إنّها نسخت في حقّ من يرث ، وثابتة في حقّ من لا يرث ، وهو
مذهب ابن عبّاس والحسن ، ومسروق ، وطاوس ، والضّحّاك ، ومسلم بن يسار ، والعلاء بن
زياد.
قال طاوس : إن من
أوصى للأجانب ، وترك الأقارب ، نزع منهم ، وردّ إلى الأقارب ؛ لوجوب الوصيّة عند
هؤلاء ، والباقي للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلّوا بأنّ
هذه الآية دالّة على وجوب الوصيّة للقريب ، سواء كان وارثا ، أو غير وارث ، ترك
العمل به في حقّ القريب الوارث ، إما بآية المواريث ، أو بقوله ـ عليه الصلاة
والسلام ـ : «لا وصيّة لوارث» ، وهاهنا الإجماع غير موجود ، لأن الخلاف فيه قديم وحديث ؛
فوجب أن تبقى الآية دالّة على وجوب الوصيّة للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلوا أيضا
بقوله ـ عليهالسلام ـ : «ما حقّ امرىء مسلم له ملك يبيت ليلتين ، إلّا ووصيّته
مكتوبة عنده» وقد أجمعنا على أن الوصيّة غير واجبة لغير الأقارب ؛ فوجب
أن تكون هذه الوصيّة واجبة للأقارب ، فأمّا الجمهور ، فأجود ما استدلّوا به على
أنها منسوخة في حقّ الكلّ قوله : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] وقد
ذكرنا تقريره.
قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ
فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٨١)
يجوز في «من» أن
تكون شرطيّة وموصولة ، والفاء : إمّا واجبة ، إن كانت شرطا ، وإمّا جائزة ، إن
كانت موصولة ، والهاء في «بدّله» يجوز أن تعود على الوصيّة ، وإن كان
__________________
بلفظ المؤنّث ؛
لأنّها في معنى المذكّر ، وهو الإيصاء ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] أي وعظ ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول
عليه بالوصيّة ، إلّا أنّ اعتبار المذكّر في المؤنّث قليل ، وإن كان مجازيّا ؛ ألا
ترى أنه لا فرق بين قولك : «هند خرجت ، والشّمس طلعت» ، ولا يجوز : «الشّمس طلع»
كما لا يجوز : «هند خرج» إلا في ضرورة.
وقيل : تعود على
الأمر ، والفرض الذي أمر الله به وفرضه.
وقيل : تعود إلى
معنى الوصيّة ، وهو قول ، أو فعل ، وكذلك الضّمير في «سمعه» والضّمير في «إثمه»
يعود على الإيصاء المبدّل ، أو التّبديل المفهوم من قوله : «بدّله» ، وقد راعى
المعنى في قوله : «على الّذين يبدّلونه» ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول ، لقال :
«فإنّما إثمه عليه ، أو على الذي يبدّله» ، وقيل : الضّمير في «بدّله» يعود على
الكتب ، أو الحقّ ، أو المعروف ، فهذه ستّة أقوال ، و «ما» في قوله : «بعدما سمعه»
يجوز أن تكون مصدريّة ، أي : بعد سماعه ، وأن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، فالهاء
في «سمعه» على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في «بدّله» ؛ وعلى الثاني : تعود
على الموصول ، أي : «بعد الّذي سمعه من أوامر الله».
فصل في بيان المبدّل
في المبدّل قولان
:
أحدهما : أنه
الوصيّ ، أو الشاهد ، أو سائر النّاس.
أما الوصيّ : فبأن
يغيّر الموصى به : إمّا في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وأمّا الشاهد : فبأن
يغيّر شهادته ، أو يكتمها ، وأما غير الوصي والشاهد ؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك
المال إلى مستحقّه ، فهؤلاء كلّهم داخلون تحت قوله : «فمن بدّله».
الثاني : أن
المبدّل هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصيّة عن مواضعها التي بيّن الله تعالى الوصية
إليها ؛ وذلك أنا بيّنّا أنهم كانوا في الجاهليّة يوصون للأجانب ، ويتركون الأقارب
في الجوع والضّر ، فأمرهم الله تعالى بالوصيّة إلى الأقربين ، ثم زجر بقوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي : من أعرض عن هذا التّكليف ، وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، أي : سميع لما أوصى به الموصي ، عليم بنيّته ، لا تخفى
عليه خافية من التّغيير الواقع فيها.
فصل في تبديل الوصيّة بما لا يجوز
قال القرطبيّ : لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ؛ مثل : أن يوصي بخمر
، أو
__________________
خنزير ، أو شيء من
المعاصي ، فإنه لا يجوز إمضاؤه ، ويجوز تبديله.
قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ
إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)
يجوز في «من»
الوجهان الجائزان في «من» قبلها ، والفاء في «فلا إثم» هي جواب شرط ، أو الدّاخلة
في الخبر.
و «من موص» يجوز
فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
متعلّقة ب «خاف» على أنها لابتداء الغاية.
الثاني : أن
تتعلّق بمحذوف على أنها حال من «جنفا» ، قدمت عليه ؛ لأنها كانت في الأصل صفة له ،
فلما تقدّمت ، نصبت حالا ، ونظيره : «أخذت من زيد مالا» ، إن شئت ، علّقت «من زيد»
ب «أخذت» ، وإن شئت ، جعلته حالا من «مالا» ؛ لأنه صفته في الأصل.
الثالث : أن تكون
لبيان جنس الجانفين ، وتتعلّق أيضا ب «خاف» فعلى القولين الأولين : لا يكون الجانف
من الموصين ، بل غيرهم ، وعلى الثالث : يكون من الموصين ، وقرأ أبو بكر ، وحمزة والكسائي ، ويعقوب «موصّ» بتشديد الصّاد ؛ كقوله :
(ما وَصَّى بِهِ
نُوحاً) [الشورى : ١٣] و (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) [لقمان : ١٤]
والباقون بتخفيفها ، وهما لغتان ؛ من «أوصى» ، و «وصّى» ؛ كما قدّمنا ، إلا أن
حمزة ، والكسائيّ ، وأبا بكر من جملة من قرأ (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ) [البقرة : ١٣٢]
ونافعا ، وابن عامر يقرءان «أوصى» بالهمزة ، فلو لم تكن القراءة سنّة متبعة لا
تجوز بالرّأي ، لكان قياس قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وحفص هناك : «ووصّى»
بالتضعيف ـ أن يقرءوا هنا «موصّ» بالتّضعيف أيضا ، وأمّا نافع ، وابن عامر ،
فإنهما قرءا هنا : «موص» مخفّفا ؛ على قياس قراءتهما هناك ، و «أوصى» على «أفعل»
وكذلك حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر قرءوا : «ووصّى» ـ هناك بالتضعيف ؛ على القياس.
و «الخوف» هنا
بمعنى الخشية ، وهو الأصل.
فإن قيل : الخوف
إنما يصحّ في أمر سيصير ، والوصيّة وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟!
والجواب من وجوه :
أحدها : أن المراد
منه أن المصلح ، إذا شاهد الموصي ، يوصي ، وظهر منه أمارة
__________________
الحيف ، عن طريق
الحقّ مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل ، أو شاهد من التّعمّد في الميل ، فعند
ظهور الأمارة قبل تحقيق الوصيّة ، يأخذ في الإصلاح ؛ لأنّ إصلاح الأمر عند ظهور
أمارات فساده ، وقبل تقرير فساده يكون أسهل ؛ فلذلك علّقه ـ تعالى ـ بالخوف دون
العلم.
الثاني : الموصي
له الرجوع عن الوصيّة ، وفسخها ، وتغييرها بالزّيادة والنّقصان ، ما لم يمت ، وإذا
كان كذلك ، لم يصر الجنف والإثم معلومين ؛ فلذلك علّقه بالخوف.
الثالث : يجوز أن
يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف ، وإذا كان ذلك منتظرا ،
لم يكن الجنف ، والإثم مستقرّا ؛ فصحّ تعليقه بالخوف.
وقيل : [الخوف]
بمعنى العلم ، وهو مجاز ، والعلاقة بينهما هو أنّ الإنسان لا يخاف شيئا ؛ حتى يعلم
أنه ممّا يخاف منه ، فهو من باب التعبير عن السّبب بالمسبّب ؛ ومن مجيء الخوف
بمعنى العلم قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] ،
وقول أبي محجن الثقفيّ : [الطويل]
٩٢٣ ـ إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة
|
|
تروّي عظامي في
الممات عروقها
|
ولا تدفننّي في
الفلاة فإنّني
|
|
أخاف إذا ما متّ
أن لا أذوقها
|
فعلى هذا يكون
معنى الآية الكريمة أن الميّت إذا أخطأ في وصيّته ، أو جنف فيها متعمّدا ، فلا حرج
على من علم ذلك أن يغيّره ، بعد موته ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والرّبيع ، وأصل «خاف» «خوف» تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت
ألفا ، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف.
و «الجنف» فيه
قولان :
أحدهما : الميل ؛
قال الأعشى : [الطويل]
٩٢٤ ـ تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
|
|
وما قصدت من
أهلها لسوائكا
|
وقال آخر : [الوافر]
__________________
٩٢٥ ـ هم المولى وإن جنفوا علينا
|
|
وإنّا من لقائهم
لزور
|
قال أبو عبيدة :
المولى هاهنا في موضع الموالي ، أي : ابن العمّ ؛ لقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] ،
وقيل : هو الجسور.
قال القائل : [الكامل]
٩٢٦ ـ إنّي امرؤ منعت أرومة عامر
|
|
ضيمي وقد جنفت
عليّ خصوم
|
يقال : جنف بكسر
النّون ، يجنف ، بفتحها ، فهو جنف ، وجانف ، وأجنف : جاء بالجنف ، ك «ألأم» أي :
أتى بما يلام عليه.
والفرق بين الجنف
والإثم : أن الجنف هو الميل مع الخطأ ، والإثم : هو العمد.
فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيّة
روي عن أبي هريرة
، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ الرّجل ، أو المرأة ، ليعمل بطاعة الله
سبعين سنة ، ثمّ يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصيّة ؛ فتجب لهما النّار» ، ثم قرأ أبو هريرة : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ) إلى قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ
وَصِيَّةً) [النساء : ١٢].
فصل
والضمير في «بينهم»
عائد على الموصي ، والورثة ، أو على الموصى لهم ، أو على الورثة والموصى لهم ،
والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدلّ على ذلك لفظ «الموصي» ، وهو نظير «وأداء
إليه» في أنّ الضّمير يعود للعافي ؛ لاستلزام «عفي» له ؛ ومثله ما أنشد الفراء : [الوافر]
٩٢٧ ـ وما أدري إذا يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيّهما يليني
|
فالضمير في «أيّهما»
يعود على الخير والشّرّ ، وإن لم يجر ذكر الشّرّ ، لدلالة ضده عليه ، والضمير في «عليه»
وفي «خاف» وفي «أصلح» يعود على «من».
فصل في بيان المراد من المصلح
هذا المصلح [من هو؟]
الظاهر أنه الوصي ، وقد يدخل تحته الشاهد ، وقد يكون
__________________
المراد منه من
يتولّى ذلك بعد موته ؛ من وال ، أو وليّ ، أو وصيّ ، أو من يأمر بمعروف ، فلا وجه
للتخصيص ، بل الوصيّ أو الشاهد أولى بالدّخول ؛ لأن تعلقهم أشدّ ، وكيفيّة الإصلاح
أن يزيل ما وقع فيه الجنف ، ويردّ كلّ حقّ إلى مستحقه.
قال القرطبيّ : الخطاب في قوله : «فمن خاف من موص» لجميع المسلمين ، أي
: إن خفتم من موص جنفا ، أي : ميلا في الوصيّة ، وعدولا عن الحقّ ، ووقوعا في إثم
، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته ؛ لينصرف
المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى
لبعيد] ، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصّلح ،
سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن
الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل.
فإن قيل : هذا
الإصلاح طاعة عظيمة ، ويستحقّ الثّواب عليه ، فكيف عبّر عنه بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)؟
فالجواب : من وجوه
:
أحدها : أنه تعالى
، لما ذكر إثم المبدّل في أوّل الآية وهذا أيضا من التّبديل ، بيّن مخالفته للأوّل
، وأنه لا إثم عليه ؛ لأنّه ردّ الوصيّة إلى العدل.
وثانيها : أنه إذا
أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثما ، فأزال ذلك الوهم ،
فقال : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).
وثالثها : أن
مخالفة الموصي في وصيّته ، وصرفها عمن أحبّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيّن
تعالى أن ذلك حسن ؛ بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).
ورابعها : أن
الإصلاح بين جماعة يحتاج إلى إكثار من القول ، ويخاف أن يتخلّله بعض ما لا ينبغي
من القول والفعل ؛ فبيّن تعالى أنّه لا إثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في
الإصلاح جميلا.
فإن قيل : قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة
الطّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا من
باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : أنا الذي أغفر للذّنوب ، ثم أرحم
المذنب ؛ فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا
المهمّ كان أولى.
__________________
وثانيها : يحتمل
أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم ، متى أصلحت وصيّته ؛
فإن الله غفور رحيم يغفر له ، ويرحمه بفضله.
وثالثها : أن
المصلح ، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال ، كان الأولى تركها ، فإذا علم
الله تعالى منه أنّه ليس غرضه إلا الإصلاح ، فإنه لا يؤاخذه بها ؛ لأنه غفور رحيم.
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة
قال القرطبيّ رحمهالله تعالى : والصّدقة في حال الصّحّة أفضل منها عند الموت ؛
لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد سئل : أيّ الصدقة أفضل؟ فقال : «أن تصّدّق ،
وأنت صحيح شحيح» ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لأن يتصدّق المرء في
حياته بدرهم خير له من أن يتصدّق عند موته بمائة» . وقال ـ عليهالسلام ـ : «مثل الّذي ينفق ، ويتصدّق عند موته مثل الّذي يهدي
بعد ما يشبع» .
فصل
ومن لم يضرّ في
وصيّته ، كانت كفّارة لما ترك من زكاته ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من
حضرته الوفاة ، فأوصى ، فكانت وصيّته على كتاب الله ؛ كانت كفّارة لما ترك من
زكاته».
__________________
وقال ـ عليه
الصلاة والسلام ـ : «الإضرار في الوصيّة من الكبائر» وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ الرّجل ليعمل أو
المرأة بطاعة الله ستّين سنة ، ثمّ يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصيّة ، فتجب
لهما النّار» . وروى عمران بن حصين ، أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته
، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فغضب من ذلك ، وقال : لقد هممت ألّا أصلي عليه [ثم دعا
مملوكيه] ، فجزّأهم ثلاثا ، وأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرقّ أربعة.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ)(١٨٣)
«الصّيام» : مفعول
لم يسمّ فاعله ، وقدّم عليه هذه الفضلة ، وإن كان الأصل تأخيرها عنه ؛ لأن البداءة
بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلّق الكتب بمن يؤدي ، والصّيام مصدر صام
يصوم صوما ، والأصل : «صواما» ، فأبدلت الواو ياء ، والصّوم مصدر أيضا ، وهذان
البناءان ـ أعني : فعل وفعال ـ كثيران في كلّ فعل واويّ العين صحيح اللام ، وقد
جاء منه شيء قليل على فعول ؛ قالوا : «غار غوورا» ، وإنما استكرهوه ؛ لاجتماع
الواوين ، ولذلك همزه بعضهم ، فقال : «الغئور».
قال أبو العباس
المقرىء : وقد ورد في القرآن «كتب» بإزاء أربعة معان :
الأول : بمعنى فرض
؛ قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) ، أي : فرض.
الثاني : بمعنى
قضى ؛ قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ،
ومثله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) [التوبة : ٥١].
الثالث : بمعنى
جعل ؛ قال تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١] ، أي : جعل لكم ، ومثله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] ،
أي : جعل.
الرابع : بمعنى
أمر ؛ قال تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ،
أي : أمرناهم.
والصيام لغة :
الإمساك عن الشيء مطلقا ، ومنه صامت الرّيح : أمسكت عن
__________________
الهبوب ، والفرس :
أمسكت عن العدو ؛ قال : [البسيط]
٩٢٨ ـ وخيل صيام وخيل غير صائمة
|
|
تحت العجاج
وأخرى تعلك اللّجما
|
وقال تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] ، أي
: سكوتا ؛ لقوله : (فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] وصام
النهار ، اشتدّ حرّه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]
٩٢٩ ـ فدعها وسلّ الهمّ عنها بجسرة
|
|
ذمول إذا صام
النّهار وهجّرا
|
وقال : [الرجز]
٩٣٠ ـ حتّى إذا صام النّهار واعتدل
|
|
ومال للشّمس
لعاب فنزل
|
كأنهم توهّموا ذلك
الوقت إمساك الشمس عن المسير ، ومصام النّجوم : إمساكها عن السّير ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]
٩٣١ ـ كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها
|
|
بأمراس كتّان
إلى صمّ جندل
|
ويقال : بكرة
صائمة ، إذا قامت فلم تدر.
قال الراجز : [الرجز]
٩٣٢ ـ والبكرات شرّهنّ الصّائمه
وفي الشّريعة : هو
الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات ؛ حال العلم بكونه صائما ، [مع
اقترانه بالنّيّة].
قوله : «كما كتب»
فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن محلّها
النصب على نعت مصدر محذوف ، أي : كتب كتبا ؛ مثل ما كتب.
الثاني : أنه في
محل نصب حال من المصدر المعرفة ، أي : كتب عليكم الصّيام الكتب مشبها ما كتب ، و «ما»
على هذين الوجهين مصدرية.
الثالث : أن يكون
نعتا لمصدر من لفظ الصيام ، أي : صوما مثل ما كتب ، ف «ما» على هذا الوجه بمعنى «الذي»
، أي : صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم ، و «صوما» هنا مصدر مؤكّد في
المعنى ؛ لأن الصّيام بمعنى : «أن تصوموا صوما» قاله أبو البقاء ـ رحمهالله ـ ، وفيه أن المصدر المؤكّد يوصف ، وقد تقدّم منعه عند
قوله تعالى :
__________________
(بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال أبو حيّان ـ بعد أن حكى هذا عن ابن عطية ـ : وهذا فيه بعد ؛ لأنّ
تشبيه الصّوم بالكتابة لا يصحّ ، [هذا إن كانت «ما» مصدريّة ، وأمّا إن كانت
موصولة ، ففيه أيضا بعد ؛ لأنّ تشبيه الصّوم بالصّوم لا يصحّ] ، إلا على تأويل بعيد.
الرابع : أن يكون
في محل نصب على الحال من «الصّيام» وتكون «ما» موصولة ، أي : مشبها الذي كتب ،
والعامل فيها «كتب» ؛ لأنّه عامل في صاحبها.
الخامس : أن يكون
في محلّ رفع ؛ لأنه صفة للصيام ، وهذا مردود بأن الجارّ والمجرور من قبيل النّكرات
، والصّيام معرفة ؛ فكيف توصف المعرفة بالنّكرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك ؛ بأن الصّيام غير معين ؛ كأنّه يعني أن «أل» فيه للجنس
، والمعرّف بأل الجنسيّة عندهم قريب من النّكرة ؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرّة ،
ومعناه أخرى ؛ قالوا : «أهلك النّاس الدّينار الحمر والدّرهم البيض» ، ومنه :
٩٣٣ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
|
|
فمضيت ثمّت قلت
: لا يعنيني
|
(وَآيَةٌ
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقد
تقدّم الكلام على مثل قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] كيف
وصل الموصول بهذا ؛ والجواب عنه في قوله : (خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١].
فصل في المراد بالتشبيه في الآية
في هذا التشبيه
قولان :
أحدهما : أنه عائد
إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني : هذه العبادة كانت مكتوبة على الأنبياء والأمم من ولد
آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى عهدكم لم تخل أمّة من وجوبها عليهم.
وفائدة هذا الكلام
: أنّ الشّيء الشاقّ إذا عمّ ، سهل عمله.
القول الثاني : أنه
عائد إلى وقت الصّوم ، وإلى قدره ، وذكروا فيه وجوها :
أحدها : قال سعيد
بن جبير «كان صوم من قبلنا من العتمة إلى اللّيلة القابلة ؛ كما كان في ابتداء
الإسلام» .
ثانيها : أن صوم
رمضان كان واجبا على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركته
__________________
وصامت يوما في
السّنة ، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون ، وكذبوا في ذلك أيضا ؛ لأن ذلك اليوم
يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ وأما النصارى ، فإنهم صاموا رمضان زمانا طويلا ، فصادفوا
فيه الحرّ الشديد ، فكان يشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم ، فاجتمع رأي علمائهم على
أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف ، فجعلوه في الرّبيع ،
وحوّلوه إلى وقت لا يتغيّر ، ثم قالوا عند التّحويل : زيدوا فيه عشرة أيّام كفّارة
لما صنعوا ؛ فصار أربعين يوما ، ثم إنّ ملكا منهم اشتكى ، فجعل لله عليه ، إن برىء
من وجعه : أن يزيد في صومهم أسبوعا ، فبرىء ، فزادوه ، ثمّ جاء بعد ذلك ملك آخر ؛
فقال : ما هذه الثلاثة ، فأتمّه خمسين يوما ، وهذا معنى قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١].
قاله الحسن.
وثالثها : قال
مجاهد : أصابهم موتان ، فقالوا : زيدوا في صيامكم ، فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد .
ورابعها : قال
الشعبي : إنهم أخذوا بالوثيقة ، وصاموا قبل الثلاثين يوما ، وبعدها يوما
، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرن الذي قبله ، حتى صاروا إلى خمسين يوما ، ولهذا
كرّه صوم يوم الشّكّ .
__________________
قال الشعبي : لو
صمت السّنة كلّها ، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال : من شعبان ، ويقال : من
رمضان .
وخامسها : أن وجه
التّشبيه أن يحرم الطّعام والشّراب والجماع بعد اليوم ؛ كما كان قبل ذلك حراما على
سائر الأمم ؛ لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧]. فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم ، ولا دليل
يدلّ عليه إلّا هذا التّشبيه ، وهو قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ فوجب أن يكون هذا التّشبيه دالّا على ثبوت هذا المعنى.
قال أصحاب القول
الأول : إن تشبيه شيء بشيء لا يدلّ على مشابهتهما من كلّ الوجوه ، فلم يلزم من
تشبيه صومنا بصومهم : أن يكون صومهم مختصّا برمضان ، وأن يكون صومهم مقدّرا
بثلاثين يوما ، ثم إنّ مثل هذه الرّواية مما ينفّر من قبول الإسلام ، إذا علم
اليهود والنصارى كونه كذلك.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني : بالصّوم ؛ لأنّ الصّوم وصلة إلى التّقوى ؛ لما فيه
من قهر النّفس ، وكسر الشّهوات ، وقيل : لعلّكم تحذرون عن الشّهوات من الأكل ،
والشّرب ، والجماع ، وقيل : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) إهمالها ، وترك المحافظة عليها ، بسبب عظم درجتها ، وقيل:
لعلّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم.
قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ
مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)
في نصب أيّاما
أربعة أوجه :
أظهرها : أنّه
منصوب بعامل مقدّر يدلّ عليه سياق الكلام ، تقديره صوموا أيّاما ويحتمل النّصب
وجهين : إما الظرفيّة ، وإما المفعول به ، اتّساعا.
الثاني : أنّه
منصوب بالصيام ، ولم يذكر الزّمخشري غيره ؛ ونظّره بقولك «نويت الخروج يوم الجمعة»
، وهذا ليس بشيء ؛ لأنّه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبيّ ، وهو قوله «كما
كتب» ؛ لأنّه ليس معمولا للمصدر على أيّ تقديره قدّرته.
فإن قيل : يجعل «كما
كتب» صفة للصّيام ، وذلك على رأي من يجيز وصف المعرّف «بأل» الجنسيّة بما يجرى
مجرى النّكرة ، فلا يكون أجنبيّا.
قيل : يلزم من ذلك
وصف المصدر قبل ذكر معموله ، وهو ممتنع.
__________________
الثالث : أنه
منصوب بالصّيام على أن تقدّر الكاف نعتا لمصدر من الصّيام ؛ كما قد قال به بعضهم ،
وإن كان ضعيفا ؛ فيكون التّقدير : «الصّيام صوما ؛ كما كتب» ؛ فجاز أن يعمل في «أيّاما»
«الصّيام» ؛ لأنه إذ ذاك عامل في «صوما» الذي هو موصوف ب «كما كتب» ، فلا يقع
الفصل بينهما بأجنبيّ ، بل بمعمول المصدر.
الرابع : أن ينتصب
ب «كتب» إمّا على الظّرف ، وإمّا على المفعول به توسّعا ، وإليه نحا الفرّاء ، وتبعه على ذلك أبو البقاء .
قال أبو حيّان : وكلا القولين خطأ : أمّا النّصب على الظرفيّة ، فإنّه
محلّ للفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيّام ، لكنّ متعلّقها هو الواقع في
الأيّام ، وأمّا [النّصب على المفعول اتساعا ، فإنّ ذلك مبنيّ على كونه ظرفا ل «كتب»
، وقد تقدّم أنّه خطأ ، وقيل : نصب على] التّفسير.
و «معدودات» صفة ،
وجمع صفة ما لا يعقل بالألف والتّاء مطّرد ؛ نحو هذا ، وقوله : «جبال راسيات» ، و
«أيّام معلومات».
فصل في اختلافهم في المراد بالأيّام
اختلفوا في هذه
الأيام على قولين :
أحدهما : أنها غير
رمضان ، قاله معاذ ، وقتادة ، وعطاء ، ورواه عن ابن عبّاس ، ثم اختلف هؤلاء : فقيل
ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وصوم يوم عاشوراء ، قاله قتادة ، ثمّ اختلفوا أيضا : هل
كان تطوعا أو مرضا ، واتفقوا على أنّه منسوخ برمضان.
واحتجّ القائلون
بأنّ المراد بهذه الأيّام غير رمضان بوجوه :
أحدها : قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إنّ صوم رمضان نسخ كلّ صوم» فدلّ هذا على أنّ قبل رمضان كان صوما آخر واجبا.
وثانيها : أنّه
تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمها أيضا في الآية الّتي
بعدها الدالّة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصّوم هو صوم رمضان ، لكان ذلك تكريرا
محضا من غير فائدة ، وهو لا يجوز.
وثالثها : قوله
تعالى هنا (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة : ١٨٤]
تدلّ على أنّ
__________________
هذا واجب على
التخيير ، إن شاء صام ، وإن شاء أعطى الفدية ، وأما صوم رمضان ، فواجب على التعيين
؛ فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني وهو
اختيار المحقّقين ، وبه قال ابن عبّاس ، والحسن ، وأبو مسلم أن المراد بهذه
الأيّام المعدودات هو صوم رمضان ، لأنّه قال في أوّل الآية الكريمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهذا محتمل ليوم ويومين ، وأيّام ، ثم بينه بقوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فزال بعض الاحتمال ، ثم بيّنه بقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]
فعلى هذا التّرتيب يمكن أن نجعل الأيّام المعدودات بعينها صوم رمضان ، وإذا أمكن
ذلك ، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النّسخ فيه ؛ لأنّ كل ذلك زيادة لا يدلّ
عليها اللّفظ ، وأمّا تمسّكهم بقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «صوم رمضان نسخ كلّ
صوم» ، فليس فيه أنّه نسخ عنه ، وعن أمّته كلّ صوم ، بل يجوز أنّه نسخ كلّ صوم وجب
في الشّرائع المتقدّمة ؛ فكما يصحّ أن يكون بعض شرعه ناسخا للبعض ، فيجوز أن يكون
شرعه ناسخا لشرع غيره.
سلّمنا أنّ صوم
رمضان نسخ صوما ثبت في شرعه ، فلم لا يجوز أن يكون نسخ صوما وجب غير هذه الأيام.
وأمّا تمسّكهم
بحكم المريض والمسافر وتكرّره فجوابه : أنّ صوم رمضان كان في ابتداء الإسلام غير
واجب ، وكان التّخيير فيه ثابتا بين الصّيام والفدية ، فلّما رخص للمسافر الفطر ،
كان من الجائز أن يصير الواجب عليه الفدية ، ويجوز أن لا فدية عليه ، ولا قضاء ؛
للمشقّة. وإذا كان ذلك جائزا ، بيّن تعالى أنّ إفطار المسافر والمريض في الحكم
خلاف [التخيير في المقيم ؛ فإنّه يجب عليهما القضاء من عدّة أيّام أخر ، فلما نسخ
الله تعالى ذلك التّخيير عن] المقيم الصّحيح ، وألزمه الصّوم حتما ، كان من الجائز أن
يظن أنّ حكم الصّوم ، كمّا انتقل عن التخيير إلى التّضييق في حقّ المقيم الصّحيح
أن يتغيّر حكم المريض والمسافر عن حكم الصّحيح ، كما كان قبل النّسخ ، فبيّن تعالى
في الآية الثّانية : أنّ حال المريض والمسافر كحالها الأولى لم يتغيّر بالنّسخ في حق
المقيم الصّحيح ، فهذه هي الفائدة في الإعادة ، وإنّما تمسّكهم بأنّ صوم هذه
الأيّام على التّخير وصوم رمضان واجب على التّعيين ، فتقدّم جوابه من أنّ رمضان
كان واجبا مخيّرا ، ثم
صار معّينا ، وعلى
كلا القولين ، فلا بدّ من تطرّق النسخ إلى الأيّام أمّا على القول الأوّل فظاهر ،
وأما على الثاني : فلأنّ هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيّرا ، والآية
الكريمة التي بعدها تدلّ على التّضييق ؛ فكانت ناسخة للأولى.
فإن قيل : كيف
يصحّ أن يكون قوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة :
__________________
١٨٥] ناسخا
للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحّ.
والجواب : أنّ
الاتّصال في التّلاوة لا يوجب الاتّصال في النّزول ؛ وهذا كما قيل في عدّة
المتوفّى عنها زوجها ؛ أنّ المقدّم في التلاوة هو النّاسخ والمنسوخ متأخّر ، وهذا
عكس ما يجب أن يكون عليه حال النّاسخ والمنسوخ ، فقالوا : إنّ ذلك في التّلاوة ،
أمّا في الإنزال ، فكان الاعتداد بالحول هو المتقدّم ، والآية الدّالّة على أربعة
أشهر وعشر هي المتأخّرة ، وكذلك في القرآن آيات كثيرة مكّيّة متأخّرة في التّلاوة
عن الآيات المدنيّة ، والله أعلم.
فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ أوّل ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصّوم ، ويقال نزل صوم شهر
رمضان قبل بدر بشهر وأيام ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان يوم عاشوراء
تصومه قريش في الجاهليّة ، وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يصومه في الجاهليّة فلمّا قدم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ المدينة ، صامه ، وأمر بصيامه ، فلمّا فرض رمضان كان هو
الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه .
فصل في المراد بقوله «معدودات»
في قوله تعالى : (مَعْدُوداتٍ) وجهان :
أحدهما : أنها
مقدّرات بعدد معلوم.
والثاني : قلائل ؛
كقوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠].
وقوله : (فَمَنْ كانَ [مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
فالمراد أنّ فرض
الصّوم في الأيّام المعدودات ، إنما يلزم الأصحّاء المقيمين ، فأمّا من كان] مسافرا ، أو مريضا ، فله تأخير الصّوم عن هذه الأيّام إلى
أيّام أخر.
قال القفّال رحمهالله : انظروا إلى عجيب ما نبّه الله تعالى من سعة فضله ورحمته
في هذا التّكليف ، وأنّه تعالى بيّن في أوّل الآية أن لهذه الأمّة في هذا التكليف
أسوة بالأمم المتقدّمة ، والغرض منه ما ذكرناه من أنّ الأمر الشّاقّ ، إذا عمّ خفّ
، ثم بيّن ثانيا وجه الحكمة في إيجاب الصّوم ، وهو أنّه سبب لحصول التّقوى ، ثمّ
بيّن ثالثا : أنّه
__________________
مختصّ بأيّام معدودات
، فلو جعله أبدا ، أو في أكثر الأوقات ، لحصلت المشقّة العظيمة ، ثمّ بيّن رابعا :
أنه خصّه من الأوقات بالشّهر الذي أنزل فيه القرآن ؛ لكونه أشرف الشّهور ؛ بسبب
هذه الفضيلة ؛ ثم بيّن خامسا : إزالة المشقّة في إلزامه ، فأباح تأخيره لمن به مرض
، أو سفر إلى أن يصير إلى الرّفاهية والسّكون ، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا
الصّوم هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمد على نعمه.
قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً :) فيه معنى الشّرط والجزاء ، أي : من يكن مريضا ، أو مسافرا
، فأفطر ، فليقض ، وإذا قدّرت فيه الشّرط ، كان المراد بقوله : كان الاستقبال لا
الماضي ؛ كما تقول : من أتاني ، أتيته.
قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في محلّ نصب ؛ عطفا على خبر كان ، و «أو» هنا للتّنويع ،
وعدل عن اسم الفاعل ، فلم يقل : أو مسافرا ، إشعارا بالاستعلاء على السّفر ، لما
فيه من الاختيار للسفر ؛ بخلاف المرض ، فإنه قهريّ ،
فصل في المرض المبيح للفطر
اختلفوا في المرض
المبيح للفطر ؛ فقال الحسن ، وابن سيرين : أيّ مرض كان ، وأيّ سفر كان ؛ تنزيلا للّفظ المطلق على أقلّ الأحوال ، وروي أنّهم
دخلوا على ابن سيرين في رمضان ، وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه ، وقال الأصمّ ـ رحمهالله ـ : هذه الرخصة مختصّة بالمرض الّذي لو صام فيه ، لوقع في
مشقّة ، ونزّل اللّفظ المطلق على أكمل أحواله.
وقال أكثر الفقهاء
: المرض المبيح للفطر الّذي يؤدّي إلى ضرر في النفس ، أو زيادة في العلّة.
قالوا : وكيف يمكن
أن يقال : كلّ مرض مرخّص ، مع علمنا أنّ في الأمراض ما ينقصه الصّوم .
__________________
فصل في أصل السّفر واشتقاقه
أصل السّفر من
الكشف ، وذلك أنه يكشف عن أحوال الرّجال وأخلاقهم ،
__________________
والمسفرة :
المكنسة ؛ لأنّها تكشف التّراب عن الأرض ، والسّفير : الدّاخل بين اثنين للصلح ؛
لأنّه يكشف المكروه الّذي اتّصل بهما ، والمسفر المضيء ؛ لأنه قد انكشف وظهر ،
ومنه : أسفر الصّبح ، والسّفر : الكتاب ؛ لأنه يكشف عن المعاني ببيانه. وسفرت
المرأة عن وجهها ، إذا كشفت النقاب.
قال الأزهري :
وسمّي المسافر مسافرا ؛ لكشف قناع الكنّ عن وجهه ، وبروزه إلى الأرض الفضاء ،
وسمّي السّفر سفرا أيضا ؛ لأنّه يسفر عن وجوه المسافرين ، وأخلاقهم ، ويظهر ما كان
خافيا منهم ، والله أعلم.
فصل في السفر المبيح للقصر والفطر
اختلفوا في السّفر
المبيح للقصر والفطر بعد إجماعهم على سفر الطّاعة ؛ كالحجّ والجهاد ، ويتصل بهذين
سفر صلة الرّحم ، وطلب المعاش الضروريّ ، وأمّا سفر التجارات والمباحات ، فمختلف
فيه ، والأرجح الجواز ، وأمّا سفر المعاصي ؛ فمختلف فيه ، والمنع فيه أرجح.
فصل
قال القرطبيّ : اتّفق العلماء على أنّ المسافر في رمضان لا يجوز له أن
يبيّت الفطر ؛ لأنّ المسافر لا يكون مسافرا بالنّيّة ؛ بخلاف المقيم ، وإنما يكون مسافرا بالعمل ، والنّهوض ،
والمقيم لا يفتقر إلى عمل ؛ لأنه إذا نوى الإقامة ، كان مقيما في الحين ؛ لأن
الإقامة لا تفتقر إلى عمل ، فافترقا.
فصل في قدر السّفر المبيح للرّخص
اختلفوا في قدر
السّفر المبيح للرّخص ، فقال داود : كلّ سفر ، ولو كان فرسخا ، وتخصيص عموم القرآن
بخبر الواحد غير جائز .
__________________
وقال الأوزاعيّ : السّفر المبيح للفطر
هو مسافة القصر ، ومذهب الشافعيّ ومالك ،
__________________
وأحمد ، وإسحاق ؛
أنه مقدّر بستة عشر فرسخا ، وهي أربعة برد كلّ فرسخ ثلاثة أميال
__________________
بأميال هاشم جدّ
الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وهو الّذي قدّر أميال البادية كلّ ميل اثنا عشر
ألف قدم ، وهي أربعة آلاف خطوة ، كلّ خطوة ثلاثة أقدام.
وقال أبو حنيفة ـ رضي
الله عنه ـ والثوريّ : مسافة القصر ثلاثة أيام.
قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) َ.
الجمهور على رفع «عدّة»
، وفيه وجوه :
أحدها : أنّه
مبتدأ وخبره محذوف ، إما قبله ، تقديره : «فعليه عدّة» أو بعده ، أي : فعدّة أمثل
به.
الثاني : أنه خبر
مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب عدّة.
الثالث : أن يرتفع
بفعل محذوف ، أي : «تجزئه عدّة» .
وقرىء «فعدّة» ؛
نصبا بفعل محذوف ، تقديره : «فليصم عدّة» ، وكأنّ أبا البقاء ـ رحمهالله ـ لم يطّلع على هذه القراءة ؛ فإنّه قال : لو قرىء بالنّصب
، لكان مستقيما ، ولا بدّ من حذف مضاف ، تقديره : «فصوم عدّة» ومن حذف جملة بعد
الفعلية ؛ ليصحّ
__________________
الكلام ، تقديره :
«فأفطر ، فعدّة» ؛ ونظيره (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠]
وقوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ،
أي : «فضرب فانفلق».
و «عدّة» «فعلة»
من العدد ، بمعنى : معدودة ، كالطّحن والذّبح ، ومنه يقال للجماعة المعدودة من
النّاس عدّة ، وعدّة المرأة من هذا ، ونكّر «عدّة» ، ولم يقل : «فعدّتها» ؛
اتّكالا على المعنى ؛ فإنّا بيّنّا أنّ العدّة بمعنى المعدود ، فأمر بأن يصوم
أيّاما معدودة والظّاهر : أنّه لا يأتي إلّا بمثل ذلك العدد ، فأغنى ذلك عن
التعريف بالإضافة.
و «من أيّام» : في
محلّ رفع ، أو نصب على حسب القراءتين صفة ل «عدّة».
قوله «أخر» صفة ل «أيّام»
؛ فيكون في محلّ خفض ، و «أخر» على ضربين.
أحدهما : جمع «أخرى»
تأنيث «آخر» الّذي هو أفعل تفضيل.
والثاني : جمع «أخرى»
بمعنى «آخرة» تأنيث «آخر» المقابل لأوّل ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٩]
فالضرب الأوّل لا ينصرف للوصف والعدل ، واختلفوا في كيفيّة العدل : فقال الجمهور :
إنه عدل عن الألف واللّام ؛ وذلك أنّ «أخر» جمع «أخرى» ، و «أخرى» تأنيث «آخر» و «آخر»
أفعل تفضيل لا يخلو عن أحد ثلاثة استعمالات.
إما مع «أل» وإمّا
مع «من» ، وإما مع «الإضافة» ، لكن من ممتنعة ؛ لأن معها يلزم الإفراد والتذكير
والإضافة في اللفظ ؛ فقدّرنا عدله عن الألف واللّام ، وهذا كما قالوا في «سحر»
إنّه عدل عن الألف واللام ، إلّا أنّ هذا مع العلميّة ، ومذهب سيبويه : أنه عدل من صيغة إلى صيغة ؛ لأنه كان حقّ الكلام في قولك
: «مررت بنسوة أخر» على وزن «فعل» أن يكون «بنسوة آخر» على وزن «أفعل» ؛ لأن
المعنى على تقدير «من» فعدل عن المفرد إلى الجمع.
وأمّا الضرب
الثّاني : فهو منصرف ؛ لفقدان العلّة المذكورة ، والفرق بين «أخرى» التي للتفضيل ،
و «أخرى» التي بمعنى متأخّرة ـ أنّ معنى الّتي للتفضيل معنى «غير» ، ومعنى تيك
معنى «متأخّرة» ؛ ولكون الأولى بمعنى «غير» لا يجوز أن يكون ما اتّصل بها إلّا [من
جنس ما قبلها ؛ نحو : «مررت بك ، وبرجل آخر» ولا يجوز «اشتريت هذا الجمل وفرسا آخر»
؛ لأنه من] غير الجنس ، فأما قوله في ذلك البيت : [البسيط]
٩٣٤ ـ صلّى على عزّة الرّحمن وابنتها
|
|
ليلى وصلّى على
جاراتها الأخر
|
فإنّه جعل ابنتها
جارة لها ، ولو لا ذلك ، لم يجز ، ومعنى التفضيل في «آخر» و «أوّل» ، وما تصرّف
منهما قلق مذكور في كتب النّحو ، وإنّما وصفت الأيّام ب «أخر»
__________________
من حيث إنّها جمع
ما لا يعقل ، وجمع ما لا يعقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنّثة ، ومعاملة
جمع الإناث ، فمن الأول (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ
أُخْرى) [طه : ١٨] وفي
الثاني هذه الآية الكريمة ، ونظائرها ، فإنما أوثر هنا معاملته معاملة الجمع ؛
لأنه لو جيء به مفردا ، فقيل : «عدّة من أيّام أخرى» لأوهم أنّه وصف فيفوت
المقصود.
فصل
ذهب بعض العلماء ـ
رضي الله عنهم ـ إلى أنّه يجب على المريض والمسافر : أن يفطرا أو يصوما عدّة أيام
أخر وهو قول ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ وابن عمر ، ونقل الخطّابيّ في «أعلام التّنزيل» عن ابن عمر ، أنّه
قال : «إن صام في السّفر ، قضى في الحضر» وهذا اختيار داود بن عليّ الاصفهانيّ ،
وأكثر الفقهاء على أنّ هذا الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر ، وإن شاء صام.
حجّة الأوّلين ما
تقدّم من القراءتين أنّا إن قرأنا «عدّة» ، فالتقدير : «فليصم عدّة من أيّام أخر»
والأمر للوجوب ، وأنا إن قرأنا بالرّفع ، فالتقدير : «فعليه عدّة» وكلمة «على»
للوجوب ، وإذا كان ظاهر القرآن الكريم يقتضي إيجاب صوم أيام أخر ، فوجب أن يكون
فطر هذه الأيام واجبا ؛ ضرورة أنّه لا قائل بالجمع.
وقوله عليه
الصّلاة والسّلام «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» ولا يقال : هذا الخبر ورد على سبب خاصّ ، وهو أنّه ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ مرّ على رجل ، جلس تحت مظلّة ، فسأل عنه ، فقالوا : هذا صائم
أجهده العطش ، فقال : «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» ، فإنا نقول : العبرة
بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «الصّائم في
السّفر كالمفطر في الحضر».
وحجّة الجمهور :
أنّ في هذه الآية إضمارا ؛ لأنّ التّقدير : «فأفطر فعدّة من أيّام أخر» والإضمار
في كلام الله تعالى جائز ؛ كما في قول الله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] ،
أي : «فضرب ، فانفجرت» ، وقوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)
__________________
[الشعراء : ٦٣] ،
أي : «فضرب فانفلقت» ، وقوله : (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ) [البقرة : ١٩٦]
إلى قوله : (أَذىً مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ ،) أي : «فحلق».
قال القفّال ـ رحمهالله ـ : قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) يدلّ على وجوب الصّوم.
قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : هذا ضعيف من وجهين :
الأول : أنّا إن
أجرينا ظاهر قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) على العموم ، لزمنا الإضمار في قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ،) وإن أجرينا هذه الآية على ظاهرها ، لزمنا تخصيص عموم قوله
: (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وقد ثبت في أصول الفقه أنّه متى وقع التعارض بين التخصيص
، وبين الإضمار ، كان الحمل على التّخصيص أولى.
الثّاني : أنّ
ظاهر قوله تعالى : «فليصمه» يقتضي الوجوب عينا ، وهذا الوجوب منتف في حقّ المريض
والمسافر ، فالآية مخصوصة في حقّهما على كلّ تقدير ، سواء أجرينا قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) على ظاهره أولا ، وإذا كان كذلك ، وجب إجراء هذه الآية على
ظاهرها من غير إضمار.
الوجه الثاني :
ذكره الواحدي في «البسيط» قال : وقال القاضي : إنّما يجب القضاء
بالإفطار ، لا بالمرض والسّفر ، فلما أوجب الله القضاء ، والقضاء مسبوق بالفطر ،
دلّ على أنّه لا بدّ من إضمار الإفطار.
قال ابن الخطيب وهذا ساقط ؛ لأنه لم يقل : فعليه قضاء ما مضى ، بل قال : «فعليه
عدّة من أيّام أخر» ، وإيجاب الصّوم عليه في أيّام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقا
بالإفطار.
الوجه الثالث :
روى أبو داود عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة الأسلميّ سأل
النّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله ، هل أصوم في السّفر؟ قال «إن شئت
صم ، وإن شئت فأفطر» .
__________________
ولقائل أن يقول :
هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ؛ لأن ظاهر القرآن يقتضي
وجوب الصّوم ،
فرفع هذا الحكم بهذا الخبر غير جائز ، وإذا ضعّفت هذه الوجوه ، فالاعتماد على قوله
تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره
اختلفوا هل الصّوم
للمسافر أفضل أم الفطر؟
فقال أنس بن مالك
، وعثمان بن أبي أوفى : الصّوم أفضل ، وبه قال الشافعيّ ، وأبو حنيفة ، ومالك ،
والثوريّ ، وأبو يوسف ، ومحمّد.
وقال سعيد بن
المسيّب ، والشّعبيّ ، والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق : الفطر أفضل.
وقالت طائفة :
أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجّة الأوّلين : قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) وقوله (وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ).
حجّة الفرقة
الثانية : قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه ؛ كما تؤتى عزائمه» وقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «ليس من البرّ الصّيام في
السّفر» ، وأيضا : فالقصر أفضل ؛ فيجب أن يكون الفطر أفضل.
وفرّق بعضهم بين
القصر والفطر من وجهين :
الأوّل : أنّ
الصّلاة المقصورة تبرأ الذمّة بها ، والفطر تبقى الذّمّة فيه مشغولة.
الثاني : أنّ
فضيلة الوقت تفوت بالفطر ، ولا تفوت بالقصر.
حجّة الفرقة
الثالثة : قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].
فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟
مذهب عليّ ، وابن
عمر ، والشّعبيّ : أنّه يقضيه متتابعا ؛ لوجهين :
__________________
الأوّل : قراءة
أبي «فعدّة من أيّام أخر متتابعات» ، فكذا القضاء .
وقال بعضهم :
التّتابع مستحبّ ، وإن فرق ، جاز ؛ فيكون أمرا بصوم أيام على عدد تلك الأيّام
مطلقا ، فالتقدير بالتتابع مخالف لهذا التّعميم ، ويروى عن أبي عبيدة بن الجرّاح
أنه قال : «إنّ الله لم يرخّص لكم في فطره ، وهو يريد أن يشقّ عليكم في قضائه ؛ إن
شئت فواتر ، وإن شئت ففرّق» ، وروي أنّ رجلا قال للنبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : عليّ أيّام من رمضان ، أفيجزيني أن أقضيها متفرقا فقال
له : «لو كان عليك دين ، فقضيته الدّرهم والدّرهمين ، أما كان يجزيك؟» فقال : نعم
، قال «فالله أحقّ أن يعفو ويصفح» .
قوله «يطيقونه» الجمهور
على «يطيقونه» من أطاق يطيق ، مثل أقام يقيم ، وقرأ حميد «يطوقونه» من «أطوق» كقولهم أطول في أطال ، وأغول في
أغال ، وهذا تصحيح شاذّ ، ومثله في الشّذوذ من ذوات الواو أجود بمعنى أجاد ، ومن
ذوات الياء أغيمت السّماء ، وأجبلت ، وأغيلت المرأة وأطيبت ، وقد جاء الإعلال في
الكلّ ، وهو القياس ، ولم يقل بقياس نحو أغيمت وأطول إلا أبو زيد. وقرأ ابن عبّاس وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأيّوب
السّختياني ، وعطاء «يطوّقونه» مبنيّا للمفعول من «طوّق» مضعّفا ، على وزن «قطّع»
، وقرأت عائشة ، وابن دينار : «يطّوّقونه» بتشديد الطاء والواو من «أطوق» ، وأصله «تطوّق»
، فلما أريد إدغام التّاء في الطاء ، قلبت طاء واجتلبت همزة الوصل ؛ ليمكن
الابتداء بالسّاكن ، وقد تقدّم تقرير ذلك في قوله تعالى : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨]
وقرأ عكرمة وطائفة «يطّيّقونه» بفتح الياء ، وتشديد الطّاء ، والياء ، وتروى عن
مجاهد أيضا ، وقرىء أيضا هكذا لكن ببناء الفعل للمفعول.
وقد ردّ بعضهم هذه
القراءة ، وقال ابن عطيّة تشديد الياء في هذه اللّفظة ضعيف وإنّما قالوا ببطلان هذه
؛ لأنّها عندهم من ذوات الواو ، وهو الطّوق ، فمن أين تجيء الياء ، وهذه القراءة
ليست باطلة ، ولا ضعيفة ، ولها تخريج حسن ، وهو أن هذه القراءة ليست من «تفعّل» ؛
حتى يلزم ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من «تفعيل» ، والأصل «تطيوق» من «الطّوق»
ك «تديّر» و «تحيّر» من «الدّوران» و «الحور» ، والأصل «تديور» ، و «تحيور»
فاجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسّكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء
في الياء ، فكان الأصل «يتطيوقونه» ، ثم أدغم بعد القلب ، فمن قرأ
__________________
«تطّيّقونه» بفتح
الياء بناء للفاعل ، ومن ضمّها بناه للمفعول ، ويحتمل قراءة التشديد في الواو ، أو
الياء أن تكون للتكلّف ، أي : يتكلّفون إطاقته وذلك مجاز من الطّوق الذي هو
القلادة في أعناقهم ، وأبعد من زعم أنّ «لا» محذوفة قبل «ويطيقونه» ، وأنّ التقدير
: لا يطيقونه ، ونظّره بقوله : [الطويل]
٩٣٥ ـ فخالف فلا والله تهبط تلعة
|
|
من الأرض إلّا
أنت للذّلّ عارف
|
وقوله : [الكامل]
٩٣٦ ـ آليت أمدح مغرما أبدا
|
|
يبقى المديح
ويذهب الرّفد
|
وقوله : [الطويل]
٩٣٧ ـ فقلت : يمين الله أبرح قاعدا
|
|
ولو قطعوا رأسي
لديك وأوصالي
|
المعنى : لا تهبط
، ولا أمدح ، ولا أبرح ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ حذفها ملتبس ، وأما الأبيات
المذكورة ؛ فلدلالة القسم على النّفي.
والهاء في «يطيقونه»
للصّوم ، وقيل : للفداء ؛ قاله الفراء .
و «فدية» مبتدأ
خبره في الجارّ والمجرور قبله ، والجمهور على تنوين «فدية» ورفع «طعام» وتوحيد «مسكين»
وهشام كذلك إلّا أنه قرأ «مساكين» جمعا ،
ونافع وابن ذكوان بإضافة «فدية» إلى «مساكين» جمعا ، فالقراءة الأولى يكون «طعاما»
بدلا من «فدية» بيّن بهذا البدل المراد بالفدية ، وأجاز أبو البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هي طعام» ، وأما
إضافة الفدية للطّعام ، فمن باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والمقصود به البيان ؛
كقولك : «خاتم حديد ، وثوب خزّ ، وباب ساج» لأنّ الفدية تكون طعاما وغيره ، وقال
بعضهم : يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصّفة ، قال : لأنّ
الفدية لها ذات وصفتها أنّها طعام ، وهذا فاسد ؛ لأنّه : إمّا أن يريد ب «طعام»
المصدر بمعنى الإطعام ؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أو يريد به المفعول ؛ وعلى كلا
التّقديرين ، فلا يوصف به ؛ لأنّ المصدر لا يوصف عند المبالغة إلّا به وليست مرادة
هنا ، والذي بمعنى المفعول ليس جاريا على فعل ، ولا ينقاس ، لا
__________________
تقول : ضراب بمعنى
مضروب ، ولا قتال بمعنى مقتول ، ولكونها غير جارية على فعل ، لم تعمل عمله ، لا
تقول : «مررت برجل طعام خبزه» وإذا كان غير صفة ، فكيف يقال : أضيف الموصوف لصفته؟
وإنّما أفردت «فدية»
؛ لوجهين :
أحدهما : أنّها
مصدر ، والمصدر يفرد ، والتاء فيها ليست للمرة ، بل لمجرد التأنيث.
والثاني : أنه
لمّا أضافها إلى مضاف إلى الجمع ، أفهمت الجمع ، وهذا في قراءة «مساكين» بالجمع ،
ومن جمع «مساكين» ، فلمقابلة الجمع بالجمع ، ومن أفرد ، فعلى مراعاة إفراد العموم
، أي : وعلى كلّ واحد ممّن يطيق الصّوم ؛ لكلّ يوم يفطره إطعام مسكين ؛ ونظيره : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤].
وتبيّن من إفراد «المسكين»
أنّ الحكم لكلّ يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع ، والطّعام : المراد
به الإطعام ، فهو مصدر ، ويضعف أن يراد به المفعول ، قال أبو البقاء : «لأنّه
أضافه إلى المسكين ، وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه ، فلو حمل على ذلك ،
لكان مجازا ؛ لأنه يصير تقديره : فعليه إخراج طعام يصير للمساكين ، فهو من باب
تسمية الشيء بما يؤول إليه ، وهو وإن كان جائزا ، إلا أنّه مجاز ، والحقيقة أولى
منه».
قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ
شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨]
فليلتفت إليه ، والضمير في قوله : «فهو» ضمير المصدر المدلول عليه بقوله : «فمن
تطوّع» ، أي : فالتّطّوع خير له ، و «له» في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «خير» ؛
فيتعلّق بمحذوف ، أي : خير كائن له.
فصل في نسخ الآية
ذهب أكثر العلماء
إلى أنّ الآية منسوخة ، وهو قول ابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما ؛ وذلك أنّهم
كانوا في ابتداء الإسلام مخيّرين بين أن يصوموا ، وبين أن يفطروا ، ويفتدوا ، خيّرهم
الله تعالى ؛ لئلا يشقّ عليهم ؛ لأنّهم كانوا لم يتعوّدوا الصّوم ، ثم نسخ
التّخيير ، ونزلت العزيمة بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقال قتادة : هي خاصّة بالشّيخ الكبير الّذي يطيق الصّوم ، ولكن يشقّ عليه
، رخّص له أن يفطر ويفدي [ثمّ نسخ.
وقال الحسن : هذا
في المريض الّذي به ما يقع عليه اسم المرض ، وهو يستطيع ،
__________________
خيّر بين أن يصوم
وبين أن يفطر ويفدي] ثم نسخ بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وتثبت الرّخصة للّذين لا يطيقونه ، وذهب جماعة إلى أنّ
الآية الكريمة محكمة غير منسوخة ، معناه : وعلى الّذين كانوا يطيقونه في حال
الشّباب ، فعجزوا عنه بعد الكبر ، فعليهم الفدية بدل الصّوم ، وقراءة ابن عباس «يطوّقونه»
بضم الياء ، وفتح الطّاء مخففة ، وتشديد الواو ، أي : يكلّفون الصوم ، فتأوّله على
الشّيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان الصّوم ، والمريض الذي لا يرجى
برؤه ، فهم يكلّفون الصّوم ، ولا يطيقونه ، فلهم أن يفطروا ، ويطعموا مكان كلّ يوم
مسكينا ، وهو قول سعيد بن جبير ، وجعل الآية محكمة.
فصل في المراد بالفدية ومقدارها
«الفدية» في معنى
الجزاء ، وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وهي عند أبي حنيفة نصف صاع من برّ ،
أو صاعا من غيره وهو مدّان ، وعن الشّافعي «مدّ» بمدّ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو رطل وثلث من غالب أقوات البلد ، وهو قول فقهاء
الحجاز.
وقال بعض فقهاء
العراق : نصف صاع لكلّ يوم يفطر .
وقال بعض الفقهاء
: ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي أفطره .
وقال ابن عباس :
يعطي كلّ مسكين عشاءه وسحوره .
فصل في احتجاج الجبائي بالآية
احتجّ الجبّائيّ
بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) على أن الاستطاعة قبل الفعل ؛ فقال : الضمير في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) عائد إلى الصّوم ، فأثبت القدرة على الصّوم حال عدم الصّوم
؛ لأنّه أوجب عليه الفدية ، وإنّما تجب عليه الفدية إذا لم يصم ؛ فدلّ هذا على أن
القدرة على الصّوم حاصلة قبل حصول الصّوم.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الفدية؟
قلنا : لا يصحّ
لوجهين :
أحدهما : أن
الفدية متأخّرة ، فلا يعود الضّمير إليها.
والثاني : أنّ
الضّمير مذكّر ، والفدية مؤنّثة.
فإن قيل : هذه
الآية منسوخة ، فكيف يجوز الاستدلال بها؟!
__________________
قلنا : إنّما كانت
قبل أن صارت منسوخة دالّة على أنّ القدرة حاصلة قبل الفعل ، والحقائق لا تتغيّر.
قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ
لَهُ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قال مجاهد
وعطاء ، وطاوس : أي : زاد على مسكين واحد ؛ فأطعم مكان كل يوم مسكينين ، فأكثر .
الثاني : أن يطعم
المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
الثالث : قاله
الزّهريّ : من صام مع الفدية ، فهو خير له.
قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء ، تقديره : «صومكم» ، و «خير»
خبره ، ونظيره : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧].
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شرط حذف جوابه ، تقديره : فالصّوم خير لكم ، وحذف مفعول
العلم ؛ إما اقتصارا ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصارا ، أي : تعلمون
ما شرعيته وتبيينه ، أو فضل ما علمتم.
من ذهب إلى النّسخ
، قال : معناه : الصّوم خير له من الفدية ، وقيل : هذا في الشّيخ الكبير ، لو
تكلّف الصّوم ، وإن شقّ عليه ، فهو خير له من أن يفطر ويفدي.
وقيل : هذا خطاب
مع كل من تقدّم ذكره ، أعني : المريض ، والمسافر ، والذين يطيقونه.
قال ابن الخطيب : وهذا أولى ؛ لأنّ اللفظ عامّ ، ولا يلزم من اتّصاله
بقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ) أن يكون حكمه مختصّا بهم ، لأنّ اللفظ عامّ ، ولا منافاة
في رجوعه إلى الكلّ ، فوجب الحكم بذلك ، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلّف في إفطار
شهر رمضان ، إلّا لثلاثة :
أحدهم ـ يجب عليه
القضاء والكفّارة : هو الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما يفطران ، ويقضيان ،
وعليهما مع القضاء الفدية ، وهو قول ابن عمر ، وابن عبّاس ، وبه قال مجاهد ، وإليه
ذهب الشافعيّ وأحمد .
وقال قوم : لا
فدية عليهما ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وإليه ذهب
الأوزاعيّ والثوريّ وأصحاب الرّأي.
الثاني ـ عليه
القضاء دون الكفّارة : وهو المريض والمسافر.
__________________
الثالث ـ عليه
الكفّارة دون القضاء : الشّيخ الكبير ، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه.
قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)
قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ :) فيه قراءتان :
المشهورة الرفع ،
وفيه أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ
، وفي خبره حينئذ قولان :
الأول : أنه قوله (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ويكون قد ذكر هذه الجملة منبّهة على فضله ومنزلته ، يعني
أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.
قال أبو عليّ :
والأشبه أن يكون «الّذي» وصفا ؛ ليكون لفظ القرآن نصّا في الأمر بصوم شهر رمضان ؛
لأنّك إن جعلته خبرا ، لم يكن شهر رمضان منصوصا على صومه بهذا اللفظ ، وإنما يكون
مخبرا عنه بإنزال القرآن الكريم فيه ، وإذا جعلنا «الّذي» وصفا ، كان حقّ النظم أن
يكني عن الشّهر لا أن يظهر ؛ كقولك : «شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه».
والقول الثاني :
أنه قوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش ، وليست هذه الفاء التي
تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] وليس
كذلك ؛ لأن قوله : (الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ) يتوهّم فيه عموم ؛ بخلاف شهر رمضان ، فإن قيل : أين الرابط
بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل : تكرار المبتدأ بلفظه ؛ كقوله : [الخفيف]
٩٣٨ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء
|
|
..........
|
وهذا الإعراب ـ أعني
كون «شهر رمضان» مبتدأ ـ على قولنا : إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان ، أمّا
إذا قلنا : إنها نفس رمضان ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
خبر مبتدأ محذوف.
فقدّره الفرّاء : ذلكم شهر رمضان ، وقدّره الأخفش : المكتوب شهر رمضان.
__________________
والثاني : أن يكون
بدلا من قوله «الصّيام» ، أي : كتب عليكم شهر رمضان ، وهذا الوجه ، وإن كان ذهب
إليه الكسائيّ بعيد جدّا ؛ لوجهين :
أحدهما : كثرة
الفصل بين البدل والمبدل منه.
والثاني : أنّه لا
يكون إذ ذاك إلّا من بدل الإشمال ، وهو عكس بدل الاشتمال ؛ لأنّ بدل الاشتمال
غالبا بالمصادر ؛ كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ،
وقول الأعشى : [الطويل]
٤٣٩ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته
|
|
تقضّي لبانات
ويسأم سائم
|
وهذا قد أبدل فيه
الظرف من المصدر ، ويمكن أن يوجّه قوله بأنّ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : صيام
شهر رمضان ؛ وحينئذ : يكون من باب بدل الشّيء من الشّيء ، وهما لعين واحدة ، ويجوز
أن يكون الرّفع على البدل من قوله (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) في قراءة من رفع «أيّاما» ، وهي قراءة عبد الله ، وفيه
بعد.
والقراءة الثانية
: النصب ، وفيه أوجه :
أجودها : النصب
بإضمار فعل ، أي : صوموا شهر رمضان.
الثاني ـ وذكره
الأخفش والرّمّانيّ ـ : أن يكون بدلا من قوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، وهذا يقوّي كون الأيام المعدودات هي رمضان ، إلا أن فيه
بعدا من حيث كثرة الفصل.
الثالث : نصبه على
الإغراء ؛ ذكره أبو عبيدة والحوفيّ.
الرابع : أن ينتصب
بقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) ؛ حكاه ابن عطية ، وجوّزه الزمخشريّ ، واعترض عليه ؛ بأن قال : فعلى هذا التقدير يصير النّظم :
«وأن تصوموا رمضان الّذي أنزل فيه القرآن خير لكم».
فهذا يقتضي وقوع
الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير ، وهو غير جائز ؛ لأنّ المبتدأ
والخبر جاريان مجرى شيء واحد ، وإيقاع الفصل بين الشّيء الواحد غير جائز. وغلّطهما
أبو حيان : «بأنّه يلزم منه الفصل بين الموصول وصلته بأجنبيّ ؛ لأنّ الخبر ، وهو «خير»
أجنبيّ من الموصول ، وقد تقدّم أنه لا يخبر عن الموصول ، إلّا بعد
__________________
تمام صلته ، و «شهر
رمضان» على رأيهم من تمام صلة «أن» ، فامتنع ما قالوه ، وليس لقائل أن يقول :
يتخرّج ذلك على الخلاف في الظّرف ، وحرف الجرّ ، فإنه يغتفر فيه ذلك عند بعضهم ؛
لأنّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعول به لا ظرف».
الخامس : أنه
منصوب ب «تعلمون» ؛ على حذف مضاف ، تقديره : تعلمون شرف شهر رمضان ، فحذف المضاف ،
وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب.
وأدغم أبو عمرو راء «شهر» في راء «رمضان» ، ولا يلتفت إلى من استضعفها ؛
من حيث إنّه جمع بين ساكنين على غير حدّيهما ، وقول ابن عطيّة : «وذلك لا تقتضيه
الأصول» غير مقبول منه ؛ فإنّه إذا صحّ النقل ، لا يعارض بالقياس.
والشهر لأهل
اللّغة فيه قولان :
أشهرهما : أنه اسم
لمدّة الزمان التي يكون مبدأها الهلال خافيا إلى أن يستسرّ ؛ سمّي بذلك لشهرته في
حاجة الناس إليه من المعاملات ، والصوم ، والحجّ ، وقضاء الدّيون ، وغيرها.
والشّهر مأخوذ من
الشّهرة ، يقال : شهر الشّيء يشهره شهرا : إذا أظهره ، ويسمّى الشّهر: شهرا ،
لشهرة أمره ، والشّهرة : ظهور الشيء ، وسمي الهلال شهرا ؛ لشهرته.
والثاني ـ قاله
الزّجّاج ـ : أنه اسم للهلال نفسه ؛ قال : [الكامل]
٩٤٠ ـ ..........
|
|
والشّهر مثل
قلامة الظّفر
|
سمّي بذلك ؛
لبيانه ؛ قال ذو الرّمّة : [الطويل]
٩٤١ ـ ..........
|
|
يرى الشّهر قبل
النّاس وهو نحيل
|
يقولون : رأيت
الشهر ، أي هلاله ، ثم أطلق على الزمان ؛ لطلوعه فيه ، ويقال : أشهرنا ، أي : أتى
علينا شهر ، قال الفرّاء : «لم أسمع فعلا إلّا هذا».
__________________
فصل
قال الثّعلبي : «يقال
: شهر الهلال ، إذا طلع» ، ويجمع في القلّة على أشهر ، وفي الكثرة على شهور ، وهما
مقيسان.
ورمضان : علم لهذا
الشّهر المخصوص ، وهو علم جنس ، وفي تسميته برمضان أقوال :
أحدها : أنّه وافق
مجيئه في الرّمضاء ـ وهي شدّة الحرّ ـ فسمّي هذا الشّهر بهذا الاسم : إما
لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ، أو مقاساة شدّته ؛ كما سمّوه تابعا ؛ لأنه يتبعهم
فيه إلى الصّوم ، أي : يزعجهم لشدّته عليهم ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «صلاة
الأوّابين ، إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم ، ورمض الفصال ، إذا حرّق الرّمضاء أحقافها ، فتبرك من
شدّة الحرّ.
يقال : إنّهم لما
نقلوا أسماء الشّهور عن اللّغة القديمة ، سمّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها ، فوافق
هذا الشّهر أيّام رمض الحرّ ، [فسمّي به ؛ كربيع ؛ لموافقته الربيع ، وجمادى ؛
لموافقته جمود الماء ، وقيل : لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها ، بمعنى يمحوها].
روي عن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «إنّما سمّي رمضان ، لأنّه يرمض ذنوب عباد الله».
وقيل : لأنّ
القلوب تحترق فيه من الموعظة ، وقيل : من رمضت النّصل أرمضه رمضان إذا دققته بين
حجرين ، ليرقّ يقال : نصل رميض ومرموض.
وسمّي هذا الشّهر
رمضان ؛ لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ؛ ليقضوا منها أوطارهم ؛ قاله الأزهريّ .
قال الجوهريّ :
ورمضان : يجمع على «رمضانات» و «أرمضاء» وكان اسمه في الجاهلية ناتقا ، أنشد
المفضّل : [الطويل]
٩٤٢ ـ وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى
|
|
وولّت على
الأدبار فرسان خثعما
|
وقال الزمخشري : «الرّمضان مصدر رمض ، إذا احترق من الرّمضاء» قال أبو
حيّان : «ويحتاج في تحقيق أنّه مصدر إلى صحّة نقل ، فإن فعلانا ليس مصدر فعل
اللازم ، بل إن جاء منه شيء كان شاذا» ، وقيل : هو مشتقّ من الرّمض ـ بكسر الميم ـ
وهو مطر
__________________
يأتي قبل الخريف
يطهّر الأرض من الغبار ، فكذلك هذا الشهر يطهّر القلوب من الذّنوب ويغسلها.
وقال مجاهد : إنه
اسم الله تعالى ، ومعنى قول لقائل : «شهر رمضان» ، أي : شهر الله ، وروي
عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : لا تقولوا : جاء رمضان ، وذهب رمضان ، ولكن
قولوا : جاء شهر رمضان ؛ وذهب شهر رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى .
قال القرطبيّ : «قال أهل التّاريخ : إنّ أوّل من صام رمضان نوح ـ عليهالسلام ـ لمّا خرج من السّفينة» ، وقد تقدّم قول مجاهد : «كتب
الله رمضان على كلّ أمّة» ومعلوم أنّه كان قبل نوح ـ عليهالسلام ـ أمم ؛ فالله أعلم .
والقرآن في الأصل
مصدر «قرأت» ، ثم صار علما لما بين الدّفّتين ؛ ويدلّ على كونه مصدرا في الأصل قول
حسّان في عثمان ـ رضي الله عنهما ـ : [البسيط]
٩٤٢ ب ـ ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به
|
|
يقطّع اللّيل
تسبيحا وقرآنا
|
وقيل : القرآن من
المصادر ، مثل : الرّجحان ، والنّقصان ، والخسران ، والغفران ، وهو من قرأ بالهمز
، أي : جمع ؛ لأنه يجمع السّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ ، والجمهور على همزة
، وقرأ ابن كثير من غير همز ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين :
أظهرهما : أنه من
باب النّقل ؛ كما ينقل ورش حركة الهمزة إلى السّاكن قبلها ، ثم يحذفها في نحو : (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١] ،
وهو وإن لم يكن أصله النّقل ، إلا أنّه نقل هنا لكثرة الدّور ، وجمعا بين
اللّغتين.
__________________
والثاني : أنه
مشتقّ عنده من قرنت بين الشيئين ، فيكون وزنه على هذا «فعالا» وعلى الأول «فعلانا»
وذلك أنه قد قرن فيه بين السّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ.
وقال الفرّاء :
أظنّ أنّ القرآن سمّي من القرائن ، وذلك أنّ الآيات يصدّق بعضها بعضا على ما قال
تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
وأما قول من قال :
إنّه مشتقّ من قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فغلط ؛ لأنّهما مادّتان
متغايرتان.
وروى الواحديّ في «البسيط»
عن محمّد بن عبد الله بن الحكم ، أنّ الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ كان يقول
القرآن اسم ، وليس بمهموز ، ولم يؤخذ من «قرأت» ، وإنما هو اسم لكتاب الله ؛ مثل
التوراة والإنجيل ، قال : ويهمز قراءة ، ولا يهمز القرآن ، كما يقول : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [الإسراء : ٤٥]
قال الواحديّ ـ رحمهالله ـ : وقول الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه اسم لكتاب الله
تعالى ، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقّ ، والذي قال بأنّه مشتقّ من القرء ، وهو
الجمع ، أي : جمعته ، هو الزّجّاج وأبو عبيدة ، قالا : إنّه مأخوذ من القرء وهو الجمع.
قال عمرو بن كلثوم
:
٩٤٣أ ـ ..........
|
|
هجان اللّون لم
تقرأ جنينا
|
أي : لم تجمع في
رحمها ولدا ، ومن هذا الأصل : قرء المرأة ، وهو أيّام اجتماع الدّم في رحمها ،
فسمّي القرآن قرآنا ، لأنه يجمع السّور وينظمها.
وقال قطرب : سمّي قرآنا ؛ لأنّ القارىء يكتبه ، وعند القراءة كأنّه
يلقيه من فيه أخذا من قول العرب : ما قرأت النّاقة سلى قطّ ، أي : ما رمت بولد ،
وما أسقطت ولدا قطّ ، وما طرحت ، وسمّي الحيض قرءا بهذا التّأويل ، فالقرآن [يلفظه
القارىء] من فيه ، ويلقيه ، فسمّي قرآنا.
و «القرآن» مفعول
لم يسمّ فاعله ؛ ثم إنّ المقروء يسمّى قرآنا ؛ لأن المفعول يسمّى بالمصدر ؛ كما
قالوا للمشروب شراب ، وللمكتوب كتاب. واشتهر هذا الاسم في العرف ؛ حتّى جعلوه اسما
لكتاب الله تعالى على ما قاله الشّافعيّ ـ رضي الله عنه.
ومعنى «أنزل فيه
القرآن» ، أي : ظرف لإنزاله.
قيل : «نزلت صحف
إبراهيم في أوّل يوم من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ مضين ،
__________________
والإنجيل لثلاث
عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين» .
فإن قيل : إنّ
القرآن نزل على محمّد صلىاللهعليهوسلم في مدّة ثلاث وعشرين سنة منجّما مبعّضا ، فما معنى تخصيص
إنزاله برمضان؟
فالجواب من وجهين
:
الأول : أنّ
القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما.
روى مقسّم عن ابن
عبّاس أنه سئل عن قوله عزوجل : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] ،
وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وقد
نزل في سائر الشّهور ، وقال عزوجل : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح
المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزّة في السماء الدّنيا ، ثم نزل به
جبريل ـ عليهالسلام ـ على رسول الله صلىاللهعليهوسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة ، فذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥]
وقال داود بن أبي هند : قلت للشّعبيّ : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أما كان ينزل في سائر السنّة؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان
يعارض محمّدا صلىاللهعليهوسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء ، ويثبت ما
يشاء ، وينسيه ما يشاء .
وروي عن أبي ذرّ ،
عن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من شهر رمضان»
ويروى : «في أوّل ليلة من رمضان» وأنزلت توراة موسى في ستّ ليال مضين من شهر
رمضان ، وأنزل إنجيل عيسى في ثلاث عشرة ليلة من رمضان ، وأنزل زبور داود في ثمان
عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمّد صلىاللهعليهوسلم لأربع وعشرين خلت من رمضان ، ولستّ بقين بعدها ، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجما مفرّقا في سورة «الفرقان»
عند قوله : (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].
__________________
والجواب الثاني :
أن المراد منه : أنّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو قول محمّد بن
إسحاق ؛ وذلك لأنّ مبادىء الملل والدّول هي الّتي يؤرّخ بها ؛ لكونها أشرف الأوقات
، ولأنّها أيضا أوقات مضبوطة.
واعلم أن الجواب
الأول حمل للكلام على الحقيقة ، وفي الثاني : لا بدّ من حمله على المجاز ؛ لأنّه
حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [عبد الله
بن] عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ استدلّ بهذه الآية الكريمة ، وبقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) [القدر : ١] على
أن ليلة القدر لا تكون إلّا في رمضان ، وذلك لأنّ ليلة القدر ، إذا كانت في رمضان
، كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا في رمضان ، وهذا كمن يقول : «لقيت فلانا في هذا
الشّهر» ، فيقال له : في أيّ يوم منه؟ فيقول : في يوم كذا ، فيكون ذلك تفسيرا
لكلامه الأول وقال سفيان بن عيينة : «أنزل فيه القرآن» ، معناه : أنزل ، في فضله
القرآن ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ؛ قال : وهذا كما يقال : «أنزل
في الصّدّيق كذا آية» يريدون في فضله .
قال ابن الأنباريّ
: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم ؛ كما يقال أنزل الله في الزّكاة
آية كذا ؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر ، يريدون في تحريمها.
فصل
قد تقدّم في قوله
تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] أنّ
التنزيل مختصّ بالنّزول على سبيل التّدريج ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه
دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣]
إذا ثبت هذا ، فنقول : لمّا كان المراد هاهنا من قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا ـ لا جرم ذكره
بلفظ «الإنزال» دون «التّنزيل» ، وهذا يدلّ على أن هذا القول راجح على سائر
الأقوال.
قوله : «هدى» في
محلّ نصب على الحال من القرآن ، والعامل فيه «أنزل» وهدى مصدر ، فإمّا أن يكون على
حذف مضاف ، أي : ذا هدى ، أو على وقوعه موقع اسم الفاعل ، أي : هاديا ، أو على
جعله نفس الهدى مبالغة.
قوله : «للنّاس»
يحوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق
ب «هدى» على قولنا بأنه وقع موقع «هاد» ، أي : هاديا للناس.
والثاني : أن
يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة للنكرة قبله ، ويكون محلّه النّصب على
__________________
الصفة ، ولا يجوز
أن يكون «هدى» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : «هو هدى» ؛ لأنه عطف عليه منصوب صريح ،
وهو : «بيّنات» ؛ و «بيّنات» عطف على الحال ، فهي حال أيضا وكلا الحالين لازمة ؛
فإنّ القرآن لا يكون إلا هدى وبينات ، وهذا من باب عطف الخاصّ على العامّ ، لأنّ
الهدى يكون بالأشياء الخفيّة والجليّة ، والبيّنات من الأشياء الجليّة.
فإن قيل : ما معنى
قوله (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ) بعد قوله : «هدى».
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه تبارك
وتعالى ذكر أولا أنه هدى ، ثمّ الهدى على قسمين :
تارة : يكون هدى
للنّاس بيّنا جليّا.
وتارة : لا يكون
كذلك.
والقسم الأول : لا
شكّ أنّه أفضل ؛ فكأنه قيل : هو هدى ؛ لأنه هو البيّن من الهدى ، والفارق بين
الحقّ والباطل ، فهذا من باب ما يذكر الجنس ، ويعطف نوعه عليه ؛ لكونه أشرف أنواعه
، والتقدير : كأنه قيل : هذا هدى ، وهذا بيّن من الهدى ، وهذا بيّنات من الهدى ،
وهذا غاية المبالغة.
الثاني : أن يقال
: القرآن هدى في نفسه ، ومع كونه كذلك ، فهو أيضا بيّنات من الهدى والفرقان ،
والمراد : ب (الْهُدى
وَالْفُرْقانِ) التوراة والإنجيل ؛ قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ
قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٣. ٤]
وقال (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨]
فبيّن تعالى أنّ القرآن مع كونه هدى في نفسه ، ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدّمة
التي هي هدى وفرقان.
الثالث : أن يحمل
الأوّل على أصول الدّين ، والهدى الثاني على فروع الدّين ؛ حتّى يزول التّكرار.
قوله : (مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) هذا الجارّ والمجرور صفة لقوله : «هدى وبيّنات» فمحلّه
النصب ، ويتعلّق بمحذوف ، أي : إنّ كون القرآن هدى وبيّنات هو من جملة هدى الله
وبيّناته ؛ وعبّر عن البيّنات بالفرقان ، ولم يأ ت «من الهدى والبيّنات» فيطابق
العجز الصّدر ؛ لأنّ فيه مزيد معنى لازم للبيان ، وهو كونه يفرّق بين الحقّ
والباطل ، ومتى كان الشيء جليّا واضحا ، حصل به الفرق ، ولأنّ في لفظ الفرقان
تواخي الفواصل قبله ؛ فلذلك عبّر عن البينات بالفرقان ، وقال بعضهم : «المراد
بالهدى الأوّل ما ذكرنا من أنّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها». وقال
ابن عطية : «اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأوّل ، يعني أنه تقدّم نكرة ، ثم
أعيد لفظها معرّفا ب «أل» ، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول ؛ نحو قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ)
[المزمل : ١٥ ـ ١٦]
، ومن هنا قال ابن عبّاس : «لن يغلب عسر يسرين» وضابط هذا أن يحلّ محلّ الثاني
ضمير النكرة الأولى ؛ ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه ، لكان كلاما صحيحا»؟
قال أبو حيان : «وما
قاله ابن عطية لا يتأتّى هنا ؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن «هدى» منصوب على الحال ،
والحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه «وبيّنات» ، فلا يخلو قوله «من الهدى» ـ المراد
به الهدى الأول ـ من أن يكون صفة لقوله «هدى» أو لقوله «وبيّنات» أو لهما ، أو
متعلّقا بلفظ «بيّنات» ، لا جائز أن يكون صفة ل «هدى» ؛ لأنه من حيث هو وصف ، لزم
أن يكون بعضا ، ومن حيث هو الأول ، لزم أن يكون إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضا
كلّا بالنسبة لماهيّته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط ؛ لأنّ «وبيّنات» معطوف
على «هدى» و «هدى» حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحالان وصف في ذي الحال ، فمن
حيث كونهما حالين تخصّص بهما ذو الحال ؛ إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت «بيّنات»
بقوله : «من الهدى» خصصناها به ، فتوقّف تخصيص القرآن على قوله : «هدى وبيّنات»
معا ، ومن حيث جعلت «من الهدى» صفة ل «بيّنات» ، وتوقّف تخصيص «بيّنات» على هدى ،
فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يكون صفة لهما ؛ لأنه
يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهدى فقط ، أو بينات فقط.
ولا جائز أن
يتعلّق بلفظ «بيّنات» ؛ لأنّ المتعلّق قيد في المتعلّق به ؛ فهو كالوصف ؛ فيمتنع
من حيث يمتنع الوصف ، وأيضا : فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا ، فقلت : منه ـ أي :
من ذلك الهدى ـ لم يصحّ ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامّين ، حتى يكون
هدى وبينات بعضا منهما».
قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) إلى قوله : (تَشْكُرُونَ) نقل الواحديّ في «البسيط» عن الأخفش والمازنيّ أنهما قالا
: الفاء في قوله (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ) زائدة ؛ قالا : وذلك لأنّ الفاء قد تدخل للعطف ، أو للجزاء
، أو تكون زائدة ، وليس لكونها للعطف ، ولا للجزاء هاهنا وجه ؛ ومن زيادة الفاء
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨].
قال : وأقول :
يمكن أن تكون «الفاء» هاهنا للجزاء ؛ فإنه تعالى لما بيّن رمضان مختصّا بالفضيلة
العظيمة التي لا يشاركه سائر الشّهور فيها ، فبيّن أنّ اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب
اختصاصه بهذه العبادة ، ولو لا ذلك ، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه ،
كأنه قيل : لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة ، فأنتم أيضا خصصتموه بهذه
الفضيلة أي العبادة ، وأما قوله تعالى : (فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨]
الفاء فيه غير زائدة أيضا ، بل هذا من باب مقابلة الضّدّ بالضدّ ؛ كأنه قيل : لمّا
فرّوا من
الموت ، فجزاؤهم
أن يقرب الموت منهم ؛ ليعلموا أنّه لا يغني الحذر عن القدر. و «من» فيها الوجهان :
أعني كونها موصولة ، أو شرطية ، وهو الأظهر ، و «منكم» في محلّ نصب على الحال من
الضمير المستكنّ في «شهد» فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا منكم ، وقال أبو البقاء : «منكم» حال من الفاعل ، وهي متعلقة ب «شهد» ، قال أبو
حيان : «فناقض ؛ لأنّ جعلها حالا يوجب أن يكون عاملها محذوفا ، وجعلها متعلّقة ب «شهد»
يوجب ألّا تكون حالا» ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيّان عليه بأنّ مراده التعلّق
المعنويّ ، فإنّ «كائنا» الذي هو عامل في قوله «منكم» هو متعلّق ب «شهد» وهو الحال
حقيقة.
وفي نصب «الشّهر»
قولان :
أحدهما : أنه
منصوب على الظرف ، والمراد بشهد : حضر ، ويكون مفعول «شهد» محذوفا ، تقديره : فمن
شهد منكم المصر أو البلد في الشّهر.
والثاني : أنه
منصوب على المفعول به ، وهو على حذف مضاف ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف :
فالصحيح أنّ تقديره : «دخول الشّهر» ، وقال بعضهم : «هلال الشّهر» قال شهاب الدين
: وهذا ضعيف ؛ لوجهين :
أحدهما : أنك لا
تقول : شهدت الهلال ، إنما تقول : شاهدت الهلال.
ويمكن أن يجاب
بأنّ المراد من الشّهود : الحضور.
والثاني : أنه كان
يلزم الصوم كل من شهد الهلال ، وليس كذلك ، قال : ويجاب بأن يقال: نعم ، الآية
تدلّ على وجوب الصوم على عموم المكلّفين ، فإن خرج بعضهم بدليل ، فيبقى الباقي على
العموم.
قال الزمخشريّ : «الشّهر»
منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في «فليصمه» ولا يكون مفعولا به ؛ كقولك : شهدت
الجمعة ؛ لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشّهر» وفي قوله : «الهاء منصوبة
على الظرف» نظر لا يخفى ؛ لأن الفعل لا يتعدّى لضمير الظرف إلّا ب «في» ، اللهم
إلّا أن يتوسّع فيه ، فينصب نصب المفعول به ، وهو قد نصّ على أنّ نصب الهاء أيضا
على الظرف.
والفاء في قوله : «فليصمه»
: إمّا جواب الشّرط ، وإمّا زائدة في الخبر على حسب ما تقدّم في «من».
واللام لام الأمر
، وقرأ الجمهور بسكونها ، وإن كان أصلها الكسر ، وإنما
__________________
سكّنوها ؛ تشبيها
لها مع الواو والفاء ب «كتف» ؛ إجراء للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السّلميّ وأبو
حيوة وغيرهما بالأصل ، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة
سليم فيما حكاه الفراء ، وقيّد بعضهم هذا عن الفراء ، فقال : «من العرب من يفتح
اللام ؛ لفتحة الياء بعدها» ، قال : «فلا يكون على هذا الفتح إن انكسر ما بعدها أو
ضمّ : نحو : لينذر ، ولتكرم أنت خالدا».
والألف واللام في
قوله (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ) للعهد ، إذ لو أتى بدله بضمير ، فقال : «فمن شهده منكم»
لصحّ إلا أنّه أبرزه ظاهرا ؛ تنويها به.
فصل في بناء القولين على مخالفة الظاهر
قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني : كون مفعول «شهد» محذوفا أو هو
الشّهر لا يتم إلّا بمخالفة الظاهر.
أما الأوّل :
فإنّما يتم بإضمار زائد ، وأمّا الثاني : فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة
وذلك لأنّ شهود الشّهر حاصل في حقّ الصبيّ والمجنون والمسافر ، مع أنّه لم يجب على
واحد منهم الصّوم إلّا أنا بيّنا في «أصول الفقه» أنه متى وقع التعارض بين التخصيص
والإضمار ، فالتخصيص أولى ، وأيضا ، فلأنّا على القول الأول ، لما التزمنا الإضمار
لا بدّ أيضا من التزام التّخصيص ؛ لأنّ الصبيّ والمجنون والمريض كلّ واحد منهم شهد
الشّهر مع أنه لا يجب عليهم الصّوم.
فالقول الأول : لا
يتمشى إلّا مع التزام الإضمار والتّخصيص.
والقول الثاني :
يتمشى بمجرّد التخصيص ؛ فكان القول الثاني أولى ، هذا ما عندي فيه ، مع أن أكثر
المحقّقين كالواحديّ وصاحب الكشّاف ذهبوا إلى الأوّل.
فصل
قال ابن الخطيب قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) جملة مركّبة من شرط وجزاء ، فالشّرط ه و «من شهد منكم
الشهر» ، والجزاء هو الأمر بالصّوم ، وما لم يوجد الشرط بتمامه ، لم يترتّب عليه
الجزاء ، والشهر اسم للزمان المخصوص من أوّله إلى آخره ، وشهود الشّهر إنما يحصل
عند الجزء الأخير من الشّهر ، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنّ عند شهود الجزء
الأخير من الشّهر يجب عليه صوم كل الشهر ، وهذا محال ؛ لأنه يقتضي إيقاع الفعل في
آخر الزّمان المنقضي ؛ وهو ممتنع ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه
الآية على ظاهرها ، وأنه لا بدّ من صرفها إلى التأويل ، وطريقه : أن يحمل لفظ
الشهر على جزء من أجزاء الشهر ؛ فيصير تقديره : من شهد جزءا من أجزاء
__________________
الشّهر ، فليصم
كلّ الشهر ، فعلى هذا : من شهد هلال رمضان ، فقد شهد جزءا من أجزاء الشّهر ، وعلى
هذا التقدير ، يستقيم معنى الآية ، وليس فيه إلّا حمل لفظ الكل على الجزء ، وهو
مجاز مشهور.
ولقائل أن يقول :
إنّ الزجّاج قال : إنّ الشّهر اسم للهلال نفسه ؛ كما تقدّم عنه ، وإذا كان كذلك ،
فقد زال كلّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيّ : وأعيد ذكر الشّهر ؛ تعظيما له ؛ كقوله (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢]
؛ وأنشد على أنّه اسم للهلال قول الشاعر : [الكامل]
٩٤٣ ب ـ أخوان من نجد على ثقة
|
|
والشّهر مثل
قلامة الظّفر
|
حتّى تكامل في
استدارته
|
|
في أربع زادت
على عشر
|
فصل
روي عن عليّ ـ رضي
الله عنه ـ أنّ من دخل عليه الشهر ، وهو مقيم ثم سافر فالواجب عليه الصّوم ، ولا
يجوز له الفطر ؛ لأنه شهد الشهر .
وأما سائر الفقهاء
من الصّحابة وغيرهم ، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السّفر في رمضان ، جاز له الفطر
، ويقولون : قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وإن كان عامّا يدخل فيه الحاضر والمسافر ، إلّا أن قوله
بعد ذلك : «فمن كان مريضا ، (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ.
ذهب أبو حنيفة ـ رضي
الله عنه ـ إلى أنّ المجنون ، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال : لأنّا دللنا
على أنّ الآية دلّت على أنّ من أدرك جزءا من رمضان ، لزمه صوم رمضان ؛ فيكون صوم
ما تقدّم منه واجبا ؛ فيجب قضاؤه.
فصل في كيفية شهود الشّهر
شهود الشّهر : إما
بالرّؤية أو بالسّماع.
أما الرؤية :
فنقول : إذا رأى إنسان هلال رمضان وحده ، فإما أن يرد الإمام شهادته أو لا ؛ فإن
ردّت شهادته ، وجب عليه الصّوم ؛ لأنّه شهد الشّهر ، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد
بالرّؤية ، فلا شك في وجوب الصّوم.
__________________
وأما السماع :
فنقول : إذا شهد عدلان على رؤية الهلال ، حكم به في الصّوم والفطر جميعا ، وإذا
شهد عدل واحد على رؤية هلال شوّال ، لا يحكم به ، وإذا شهد على رؤية هلال رمضان
يحكم به ؛ احتياطا لأمر الصّوم ، والفرق بينه وبين هلال شوّال : أنّ هلال رمضان
للدّخول في العبادة ، وهلال شوال للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات
العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.
قال ابن الخطيب وعندي : أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا
قول الواحد في هلال رمضان ؛ لكي يصوموا ، ولا يفطروا ؛ احتياطا ؛ فكذلك يقبل قول
الواحد في هلال شوّال ؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطا.
فصل في حدّ الصوم
الصّوم : هو
الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائما من أوّل الفجر الصّادق إلى غروب الشّمس
مع النّيّة.
فقولنا : «إمساك»
هو الاحتزاز عن شيئين :
أحدهما : لو طارت
ذبابة إلى حلقه ، أو وصل غبار الطريق إلى باطنه ، لا يبطل صومه ؛ لأنّ الاحتزاز
عنه شاقّ ، وقد قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
والثاني : لو صبّ
الطعام أو الشراب في حلقه كرها ، أو حال النوم ـ لا يبطل صومه ، والإكراه لا ينافي
الإمساك.
وقولنا : «عن
المفطرات» وهي ثلاثة : دخول داخل ، أو خروج خارج ، والجماع.
وحدّ الدخول : كلّ
عين وصل من الظّاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن ؛ إما إلى الدماغ ، وإما
إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة ، أما الدّماغ فيحصل الفظر بالسّعوط ،
وأما البطن ، فيحصل الفطر بالحقنة ؛ وأما الخروج ، فالقيء [بالاختيار] ،
والاستمناء [يبطلان الصوم] ، وأما الجماع فمبطل للصّوم بالإجماع.
وقولنا «مع العلم
بكونه صائما» فلو أكل أو شرب ناسيا ، لم يبطل صومه عند أبي حنيفة ، والشّافعيّ ،
وأحمد ، وعند مالك يبطل.
وقولنا : «من أوّل
طلوع الفجر الصّادق» ؛ لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧]
وكلمة «حتّى» ؛ لانتهاء الغاية.
__________________
وكان الأعمش يقول
: أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع
الشمس ؛ ويحتج بأنّ انتهاء الصّوم [من وقت] غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون
بطلوعها ، وهذا باطل بالنصّ الذي ذكرناه .
وحكي أن أبا حنيفة
دخل على الأعمش يعوده ، فقال له الأعمش : إنّك لثقيل على قلبي ، وأنت في بيتك ،
فكيف إذا زرتني ، فسكت عنه أبو حنيفة ، فلمّا خرج من عنده ، قيل له : لم سكتّ عنه؟
قال : فماذا أقول في رجل ما صام ولا صلّى عمره ، وذلك لأنه كان يأكل بعد الفجر
الثّاني قبل طلوع الشمس ، فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإنزال ، فلا صلاة له.
وقولنا : «إلى
غروب الشّمس» ؛ لقوله عليهالسلام : «إذا أقبل اللّيل من هاهنا وأدبر النّهار من هاهنا فقد
أفطر الصّائم» ومن الناس من يقول : وقت الإفطار عند غروب ضوء الشّمس ،
قاس الطّرف الثاني على الطّرف الأوّل من النهار ؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع
ضوء الشّمس ، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها ، وهو مغيب الشمس.
وقولنا «مع
النّيّة» ؛ لأنّ الصوم عمل ؛ لقوله عليهالسلام : «الصّوم أفضل الأعمال» ، والعلم لا بدّ فيه من النيّة ،
لقوله ـ عليهالسلام ـ : «إنّما الأعمال بالنّيّات» ، ومن الناس من قال : لا
حاجة لصوم رمضان إلى النيّة ؛ لأن الله تعالى أمر بالصّوم بقوله : «فليصمه»
والصّوم هو الإمساك ، وقد وجد ، فيخرج عن العهدة ، وهذا مردود بقوله ـ عليهالسلام ـ «إنّما الأعمال بالنّيّات» والصوم عمل.
وقوله «ومن (كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد تقدّم الكلام عليها ، وبيان السبب في تكريرها.
قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) تقدّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) [البقرة : ٢٦]. و
«أراد» يتعدّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه ، وقد ينعكس الأمر
؛ قال الشاعر : [الطويل]
٩٤٤ ـ أرادت عرارا بالهوان ومن يرد
|
|
عرارا لعمري
بالهوان فقد ظلم
|
__________________
والباء في «بكم»
قال أبو البقاء : للإلصاق ، أي : يلصق بكم اليسر ، وهو من مجاز الكلام ،
أي : يريد الله بفطركم في حال العذر اليسر ، وفي قوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تأكيد ؛ لأنّ قبل ه «يريد بكم اليسر» وهو كاف عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثّاب وابن هرمز : «اليسر ، والعسر»
بضمّ السين ، والضمّ للإتباع؟ والأظهر الأول ؛ لأنه المعهود في كلامهم.
و «اليسر» في
اللغة السّهولة ، ومنه يقال للغنى والسّعة : اليسار ؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد
اليسرى ، قيل : تلي الفعال باليسر ، وقيل إنه يتسهّل الأمر بمعاونتها اليمنى.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
استدلّوا بهذه
الآية على أنّ تكليف ما لا يطاق غير واقع ؛ لأنه تعالى لمّا بيّن أنه يريد بهم
اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، فكيف يكلّفهم ما لا يقدرون عليه.
وأجيبوا : بأنّ
اللفظ المفرد ، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم ، ولو سلّمنا ذلك ؛
لكنّه قد ينصرف إلى المعهود السّابق في هذا الموضع .
فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة
قالت المعتزلة :
هذه الآية تدلّ على أنّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى ؛ وذلك لأنّ
المريض لو تحمّل الصّوم حتى أجهده ، لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله
تعالى منه ، إذ كان لا يريد غيره.
وأجيبوا بحمل
اللّفظ على أنّه تعالى لا يريد أن يأمر بما فيه عسر ، وإن كان قد يريد منه العسر ؛
وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة .
قالت المعتزلة :
هذه الآية دالّة على أنه تعالى لا يريد بهم الكفر فيصيرون إلى النّار ، فلو خلق
فيهم ذلك الكفر ، لم يكن لائقا به أن يقول (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وجوابه : أنه معارض بمسألة العلم.
قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) في هذه اللام ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها
زائدة في المفعول به ؛ كالتي في قولك : ضربت لزيد ، و «أن» مقدّرة بعدها ، تقديره :
«ويريد أن تكملوا العدّة» ، أي : تكميل ، فهو معطوف على اليسر ؛ ونحوه قول أبي صخر
: [الطويل]
__________________
٩٤٥ ـ أريد لأنسى ذكرها فكأنّما
|
|
تخيّل لي ليلى
بكلّ طريق
|
وهذا قول ابن عطية
والزمخشري وأبي البقاء وإنّما حسنت زيادة هذه اللام في المفعول ـ وإن كان ذلك
إنّما يكون إذا كان العامل فرعا ، أو تقدّم المعمول ـ من حيث إنه لمّا طال الفصل
بين الفعل وبين ما عطف على مفعوله ، ضعف بذلك تعدّيه إليه ، فعدّي بزيادة اللام ؛
قياسا لضعفه بطول الفصل على ضعفه بالتقديم.
الثاني : أنّها
لام التعليل ، وليست بزائدة ، واختلف القائلون بذلك على ستة أوجه :
أحدها : أن يكون
بعد الواو فعل محذوف وهو المعلّل ، تقديره : «ولتكملوا العدّة فعل هذا» ، وهو قول
الفراء . الثاني ـ وقاله الزّجّاج ـ أن تكون معطوفة على علّة
محذوفة حذف معلولها أيضا تقديره : فعل الله ذلك ؛ ليسهّل عليكم ، ولتكملوا.
الثالث : أن يكون
الفعل المعلّل مقدّرا بعد هذه العلة تقديره : «ولتكملوا العدّة رخّص لكم في ذلك»
ونسبه ابن عطيّة لبعض الكوفيين.
الرابع : أنّ
الواو زائدة ، تقديره : يريد الله بكم كذا لتكملوا ، وهذا ضعيف جدا.
الخامس : أن يكون
الفعل المعلّل مقدّرا بعد قوله : (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) ، تقديره : شرع ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصّ كلامه قال
: «شرع ذلك ، يعني جملة ما ذلك من أمر الشاهد بصوم الشّهر ، وأمر المرخّص له
بمراعاة عدّة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : «ولتكملوا» علّة
الأمر بمراعاة العدّة ، و «لتكبّروا» علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة
الفطر و (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللّفّ لطيف المسلك ،
لا يهتدي إلى تبيّنه إلا النّقّاب من علماء البيان».
السادس : أن تكون
الواو عاطفة على علّة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ، ولتكملوا ، قاله
الزمخشريّ ؛ وعلى هذا ، فالمعلّل هو إرادة التيسير.
واختصار هذه
الأوجه : أن تكون هذه اللام علة لمحذوف : إمّا قبلها ، وإمّا بعدها ، أو تكون علة
للفعل المذكور قبلها ، وهو «يريد».
القول الثالث :
أنّها لام الأمر وتكون الواو قد عطفت جملة أمرية على جملة خبريّة ؛ فعلى هذا يكون
من باب عطف الجمل ؛ وعلى ما قبله : يكون من عطف المفردات ؛ كما تقدّم تقريره ،
وهذا قول ابن عطيّة ، وضعّفه أبو حيان بوجهين :
__________________
أحدهما : أنّ أمر
المخاطب بالمضارع مع لامه لغة قليلة ، نحو : لتقم يا زيد ، وقد قرىء شاذّا : فبذلك فلتفرحوا [يونس : ٥٨] بتاء الخطاب.
والثاني : أن القرّاء
أجمعوا على كسر هذه اللام ، ولو كانت للأمر ، لجاز فيها الوجهان : الكسر والإسكان
كأخواتها.
وقرأ الجمهور «ولتكملوا»
مخفّفا من «أكمل» ، والهمزة فيه للتعدية ، وقرأ أبو بكر بتشديد الميم ، والتضعيف للتعدية أيضا ؛ لأنّ
الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالبا ، والألف واللام في «العدّة» تحتمل
وجهين :
أحدهما : أنها
للعهد ، فيكون ذلك راجعا إلى قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا هو الظاهر.
والثاني : أن تكون
للجنس ، ويكون ذلك راجعا إلى شهر رمضان المأمور بصومه ، والمعنى: أنكم تأتون ببدل
رمضان كاملا في عدّته ، سواء كان ثلاثين أم تسعة وعشرين.
قال ابن الخطيب : إنما قال : (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) ولم يقل : «ولتكملوا الشّهر» ؛ لأنه لما قال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) دخل تحته عدة أيّام الشهر ، وأيام القضاء ، لتقدّم ذكرهما
جميعا ؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلا لعدد المقضي ، ولو قال : «ولتكملوا
الشّهر» لدل على حكم الأداء فقط ، ولم يدخل حكم القضاء.
واللام في «ولتكبّروا»
كهي في «ولتكملوا» فالكلام فيها كالكلام فيها ، إلا أن القول الرابع لا يتأتّى
هنا.
قوله : (عَلى ما هَداكُمْ) هذا الجارّ متعلّق ب «تكبّروا» وفي «على» قولان :
أحدهما : أنها على
بابها من الاستعلاء ، وإنما تعدّى فعل التكبير بها ؛ لتضمّنه معنى الحمد. قال
الزّمخشري : «كأنّه قيل : ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم» قال أبو حيان ـ رحمهالله ـ : «وهذا منه تفسير معنى ، لا إعراب ؛ إذ لو كان كذلك ،
لكان تعلّق «على» ب «حامدين» التي قدّرها ، لا ب «تكبّروا» ، وتقدير الإعراب في
هذا هو : «ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم» ؛ كما قدّره الناس في قوله : [الرجز]
٩٤٦ ـ قد قتل الله زيادا عنّي
__________________
أي : صرفه بالقتل
عني ، وفي قوله : [الطويل]
٩٤٧ ـ ويركب يوم الرّوع منّا فوارس
|
|
بصيرون في طعن
الكلى والأباهر
|
أي : متحكّمون
بالبصيرة في طعن الكلى»
والثاني : أنها
بمعنى لام العلّة والأوّل أولى لأنّ المجاز في الحرف ضعيف.
و «ما» في قوله : (عَلى ما هَداكُمْ) فيها وجهان :
أظهرهما : أنها
مصدرية ، أي : على هدايته إيّاكم.
والثاني : أنّها
بمعنى «الذي» قال أبو حيان «وفيه بعد من وجهين :
أحدهما : حذف
العائد ، تقديره : هداكموه ، وقدّره منصوبا ، لا مجرورا باللام ، ولا ب «إلى» لأنّ
حذف المنصوب أسهل.
والثاني : حذف
مضاف يصحّ به معنى الكلام ، على إتباع الذي هداكم أو ما أشبهه».
وختمت هذه الآية
الكريمة بترجّي الشّكر ، لأنّ قبلها تيسيرا وترخيصا ، فناسب ختمها بذلك ، وختمت
الآيتان قبلها بترجّي التقوى ، وهو قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) [البقرة : ١٧٨]
لأنّ القصاص والصوم من أشقّ التكاليف ، فناسب ختمها بذلك ، وهذا أسلوب مطّرد ، حيث
ورد ترخيص عقّب بترجّي الشكر غالبا ، وحيث جاء عدم ترخيص عقّب بترجّي التقوى
وشبهها ، وهذا من محاسن علم البيان والله أعلم.
فصل في المراد بالتكبير في الآية
في المراد بهذا
التكبير قولان :
أحدهما : المراد
منه التّكبير ليلة الفطر.
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ حقّ على المسلمين ، إذا رأوا هلال شوّال أن يكبّروا.
قال مالك
والشّافعي ـ رحمهالله ـ وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد : سنّ التكبير في ليلتي
العيدين.
وقال أبو حنيفة :
يكره في غداة الفطر.
واحتجّ الأوّلون
بقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [قالوا :
__________________
معناه] ولتكملوا
عدّة صوم رمضان ، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطّاعة.
واختلفوا في أي
العيدين أوكد في التّكبير؟ فقال الشّافعيّ في «القديم» : ليلة النّحر أوكد ؛
لإجماع السّلف عليها ، وقال في «الجديد» ليلة الفطر أوكد ؛ لورود النصّ فيها ، وقال مالك : لا
يكبّر في ليلة الفطر ، ولكنه يكبّر في يومه ، وهو مرويّ عن أحمد .
وقال إسحاق : إذا
غدا إلى المصلّى.
واستدلّ الشافعيّ
بقوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) تدلّ على أن الأمر بهذا التّكبير وقع معلّلا بحصول الهداية
، وهي إنما حصلت بعد غروب الشّمس ؛ فلزم التّكبير من ذلك الوقت ، واختلفوا في
انقضاء وقته ، فقيل : يمتدّ إلى تحريم الإحرام بالصّلاة.
وقيل : إلى خروج
الإمام.
وقيل : إلى انصراف
الإمام ، وقال أبو حنيفة ـ رحمهالله تعالى ـ إذا أتى المصلّى ترك التّكبير.
القول الثاني في
المراد بهذا التّكبير : هو التعظيم لله تعالى ؛ شكرا على توفيقه لهذه الطّاعة.
قال القرطبي : (عَلى ما هَداكُمْ) قيل : لما ضلّ فيه النصارى من تبديل صيامهم.
وقيل : بدلا عمّا
كانت الجاهليّة تفعله بالتّفاخر بالآباء ، والتّظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب.
وقيل : لتعظّموه
على ما أرشدكم إليه من الشّرائع.
قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)
في اتصال هذه
الآية بما قبلها وجوه :
أحدها : أنّه لما
قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه : (وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلى ما
__________________
هَداكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فأمر العبد بالتّكبير الذي هو الذّكر وبالشكر ، أعلم العبد
أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره ، فيسمع نداءه ويجيب
دعاءه.
الثاني : أنه أمره
بالتّكبير أولا ، ثم رغبه في الدعاء ثانيا تنبيها على أن الدعاء لا بدّ وأن يكون
مسبوقا بالثناء الجميل ؛ ألا ترى أن الخليل ـ عليهالسلام ـ لمّا أراد الدعاء قدّم أولا الثناء ؛ فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨]
إلى قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢]
فلما فرغ من هذا الثناء ، شرع في الدّعاء ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) [الشعراء : ٨٣]
فكذا هاهنا.
الثالث : أنّه لما
فرض عليهم الصّيام ، كما فرض على الذين من قبلهم ؛ وكانوا إذا ناموا ، حرم عليهم
ما حرم على الصّائم ، فشقّ ذلك على بعضهم ؛ حتّى عصوا في ذلك التكليف ، ثم ندموا
وسألوا النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مخبرا
لهم بقبول توبتهم ، وبنسخ ذلك التّشديد ؛ بسبب دعائهم وتضرّعهم.
فصل في بيان سبب النزول
ذكر في سبب نزول
هذه الآية الكريمة وجوه :
أحدها : ما
قدّمناه.
الثاني : قال ابن
عبّاس : إنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد ، كيف يسمع ربّك دعاءنا ، وأنت تزعم
أنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسائة عام ، وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك؟ فنزلت
الآية الكريمة .
الثالث : قال
الضّحّاك : إنّ أعرابيّا سأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله
تعالى الآية .
الرابع : أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ كان في غزاة خيبر ، وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتّهليل
والدّعاء ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ اربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ،
إنّما تدعون سميعا قريبا وهو معكم .
__________________
الخامس : قال
قتادة وغيره : إنّ الصحابة قالوا : كيف ندعو ربنا ، يا رسول الله ، فنزلت الآية .
السادس : قال عطاء
وغيره : إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعو ربنا فأنزل الله الآية.
السابع : قال
الحسن : سأل أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالوا : أين ربّنا؟ فأنزل الله الآية.
فصل
واعلم أنّ المراد
من الآية الكريمة ليس هو القرب بالجهة ؛ لأنّه تبارك وتعالى ، لو كان في مكان ،
لما كان قريبا من الكلّ ، بل كان يكون قريبا من حملة العرش ، وبعيدا من غيرهم ،
ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي بالشّرق ، كان بعيدا من عمرو الذي بالمغرب ،
فلمّا دلّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريبا من الكلّ ، علمنا أنّ القرب
المذكور في الآية الكريمة ليس قربا بجهة ، فثبت أن المراد منه أنه قريب بمعنى أنه
يسمع دعاءهم. والمراد من هذا القرب العلم والحفظ ؛ على ما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] وقال
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وقال
تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧]
ونظيره : وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم.
قال ابن الخطيب :
وإذا عرف هذا فنقول : لا يبعد أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان
قائلا بالتّشبيه ، فقد كان من مشركي العرب ، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ،
فإذا سألوه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أين ربّنا؟ صحّ أن يكون الجواب : فإنّي قريب ،
فإنّ القريب من المتكلّم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف يدعون ؛ برفع الصّوت أو
بإخفائه؟ صحّ أن يجيب بقوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدّعاء؟ صحّ هذا
الجواب ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تبنا ، فهل يقبل الله توبتنا؟ صحّ أن يجيب
بقوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي : فأنا القريب بالنظر إليهم ، والتجاوز عنهم ، وقبول
التّوبة منهم ؛ فثبت أنّ هذا الجواب مطابق للسّؤال على كلّ تقدير.
قوله تعالى : (أُجِيبُ) فيها وجهان :
أحدهما : أنها
جملة في محلّ رفع صفة ل «قريب».
والثاني : أنها
خبر ثان ل «إنّي» ؛ لأنّ «قريب» خبر أوّل.
__________________
ولا بدّ من إضمار
قول بعد فاء الجزاء ، تقديره : فقل لهم إنّي قريب ، وإنما احتجنا إلى هذا التقدير
؛ لأنّ المترتّب على الشّرط الإخبار بالقرب ، وجاء قوله «أجيب» ؛ مراعاة للضمير
السابق على الخبر ، ولم يراع الخبر ، فيقال : «يجيب» بالغيبة ؛ مراعاة لقوله : «قريب»
؛ لأنّ الأشهر من طريقتي العرب هو الأوّل ؛ كقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : ٥٥] وفي
أخرى (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ) [النمل : ٤٧] ،
وقول الشاعر : [الطويل]
٩٤٨ ـ وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة
|
|
إذا ما رأته
عامر وسلول
|
ولو راعى الخبر ،
لقال : «ما يرون القتل».
وفي قوله : «عنّي»
و «إنّي» التفات من غيبة إلى تكلّم ؛ لأنّ قبله : «ولتكبّروا الله» والاسم الظاهر
في ذلك كالضمير الغائب ، والكاف في «سألك» للنبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإن لم يجر له ذكر ، إلّا أنّ قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) يدلّ عليه ؛ لأنّ تقديره : «أنزل فيه القرآن على الرّسول ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ» وفي قوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) مجاز عن سرعة إجابته لدعوة داعيه ، وإلّا فهو متعال عن
القرب الحسّيّ ، لتعاليه عن المكان.
قال أبو حيّان :
والعامل في «إذا» قوله : «أجيب» يعني «إذا» الثانية ، فيكون التقدير : أجيب دعوته
وقت دعائه ، فيحتمل أن تكون لمجرّد الظرفية ، وأن تكون شرطية ، وحذف جوابها ؛
لدلالة «أجيب» عليه ؛ وحينئذ لا يكون «أجيب» هذا الملفوظ به هو العامل فيها ، بل
ذلك المحذوف ، أو يكون هو الجواب عند من يجيز تقديمه على الشّرط ، وأمّا «إذا»
الأولى ، فإنّ العامل فيها ذلك القول المقدّر ، والهاء في «دعوة» ليست الدالّة على
المرّة ، نحو : ضربة وقتلة ، بل التي بني عليها المصدر ، نحو : رحمة ونجدة ؛ فلذلك
لم تدلّ على الوحدة.
والياءان من قوله
: «الدّاع ـ دعان» من الزوائد عند القرّاء ، ومعنى ذلك أنّ الصحابة لم تثبت لها
صورة في المصحف ، فمن القرّاء من أسقطها تبعا للرسم وقفا ووصلا.
ومنهم من يثبتها
في الحالين ، ومنهم من يثبتها وصلا ويحذفها وقفا ، وجملة هذه الزوائد اثنتان
وستّون ياء ، فأثبت أبو عمرو وقالون هاتين الياءين وصلا وحذفاها وقفا.
فصل في بيان حقيقة الدّعاء
قال أبو سليمان
الخطّابيّ : والدّعاء مصدر من قولك : دعوت الشّيء أدعوه دعاء ، ثم
أقاموا المصدر مقام الاسم ؛ تقول : سمعت الدعاء ؛ كما تقول : سمعت الصّوت ، وقد
__________________
يوضع المصدر موضع
الاسم ؛ كقولك : رجل عدل ، وحقيقة الدعاء : استدعاء العبد ربّه جلّ جلاله العناية
، واستمداده إيّاه المعونة.
والإجابة في
اللّغة : الطاعة وإعطاء ما سئل ، فالإجابة من الله العطاء ، ومن العبد الطاعة.
وقال ابن
الأنباريّ «أجيب» ههنا بمعنى «أسمع» ؛ لأنّ بين السماع والإجابة نوع ملازمة .
فصل في الجواب على من ادّعى أن لا فائدة في الدّعاء
قال بعضهم :
الدعاء لا فائدة فيه لوجوه :
أحدها : أنّ
المطلوب بالدّعاء ، إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى ، كان وقوعه واجبا ؛ فلا
حاجة إلى الدّعاء ، وإن كان معلوم الانتفاء واجب العدم ، فلا حاجة إلى الدّعاء.
وثانيها : أنّ وقوع
الحوادث في هذا العالم إن كان لا بدّ لها من مؤثّر قديم اقتضى وجودها اقتضاء قديما
، كانت واجبة الوقوع ، وكلّ ما لم يقتض المؤثّر القديم وجوده اقتضاء أزليّا ، كان
ممتنع الوقوع ، وإذا كانت هذه المقدّمة ثابتة في الأزل ، لم يكن للدعاء ألبتّة أثر
، وربّما عبّروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة ، والأقضية متقدّمة ،
فالإلحاح في الدّعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص منها شيئا ، فأيّ فائدة في الدعاء
، وقال عليه الصلاة والسلام : «أربع قد فرغ منها : الخلق والخلق والرّزق والأجل» .
وثالثها : أنّه
سبحانه وتعالى قال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] وإذا
كان يعلم ما في الضمير ، فأيّ حاجة إلى الدّعاء.
ورابعها : أنّ
المطلوب بالدعاء ، إن كان من مصالح العبد ، فالجواد المطلق لا يهمله ، وإن لم يكن
من مصالحه ، لم يجز طلبه.
وخامسها : أنّه
ثبت أنّ أجلّ مقامات الصّدّيقين وأعلاها الرّضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي
ذلك ؛ لأنه اشتغال بالالتماس ، وترجيح لمراد النّفس على مراد الله.
وسادسها : أنّ
الدعاء يشبه الأمر والنّهي ، وذلك من العبد في حقّ المولى الكريم سوء أدب.
__________________
وسابعها : قال ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ عن الله تعالى : «من شغله ذكري عن مسئلتي».
وقال الجمهور : الدعاء أفضل مقامات العبوديّة ، واحتجّوا بأدلّة :
الأول : هذه الآية
الكريمة.
الثاني : قوله
تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠].
الثالث : قوله (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا
تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٤٣]
بين أنه تعالى ، إذا لم يسأل يغضب ، وقال ـ عليهالسلام ـ «لا ينبغي لأحدكم أن يقول : اللهمّ ، اغفر لي أن شئت ،
ولكن يجزم فيقول : اللهمّ اغفر لي» وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «الدّعاء هو
العبادة» وقرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، فقوله «الدّعاء هو العبادة» معناه أنه معظم العبادة ،
وأفضل العبادة ؛ كقوله عليه الصّلاة والسّلام : «الحجّ عرفة» ، أي : الوقوف بعرفة هو الرّكن الأعظم.
الرابع : قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥]
وقال : (قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان : ٧٧]
والآيات في هذا الباب كثيرة ، فمن أبطل الدعاء ، فقد أنكر القرآن ، وأمّا الأحاديث
فكثيرة.
والجواب عن شبهتهم
الأولى بالمناقضة ؛ فنقول : إقدام الإنسان على الدعاء ، إن
__________________
كان معلوم الوقوع
، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدّعاء ، وإن كان معلوم العدم ، لم يكن إلى إنكاركم
حاجة.
والجواب عن
الثّانية : علم الله تعالى وكيفيّة قضائه وقدره غائبة عن العقول والحكمة الإلهيّة
تقتضي أن يكون العبد معلّقا بين الرّجاء والخوف اللّذين بهما يتمّ العبودية ،
ولهذا صحّحنا القول بالتّكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله تعالى بالكلّ وجريان
قضائه وقدره في الكلّ ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغ منه ، أم أمر
يستأنفه؟ فقال : «بل أمر فرغ منه» فقالوا : ففيم العمل إذن؟ قال : «اعملوا فكلّ
ميسّر لما خلق له» فانظر إلى لطائف هذا الحديث ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علّقهم
بين أمرين ، فرهّبهم سابق القدر المفروغ منه ، ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة
التعبّد ، فلم يبطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين
للآخر ، وأخبر أنّ فائدة العمل هو المقدّر المفروغ ، فقال : «كلّ ميسّر لما خلق له»
يريد أنّه ميسّر في أيّام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده وكذا القول في
باب الكسب والرّزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطّلب ، ولا ينقصه التّرك.
والجواب عن الثالثة
: أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام بالمطلوب ، بل إظهار العبوديّة والذلّة
والانكسار والرّجوع إلى الله تعالى بالكلّيّة.
والجواب عن
الرابعة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
والجواب عن
الخامسة : إذا كان مقصوده من الدّعاء إظهار الذلّة والمسكنة ، ثم بعده الرضا بما
قدّره الله تعالى وقضاه ، فذلك من أعظم المقامات ، وهذا الجواب أيضا عن بقيّة
الشّبه.
فإن قيل : إنّه
تعالى قال (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) ، وقال هنا «أجيب دعوة الدّاعي إذا دعان» ، وقال (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا
دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ) [النمل : ٦٢] ثم
إنا نرى الداعي يبالغ في الدّعوات والتضرّع ، فلا يجاب.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذه
الآيات ، وإن كانت مطلقة إلّا أنه وردت في آية أخرى مقيّدة ، وهو قوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١]
والمطلق يحمل على المقيّد.
وثانيها : قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «دعوة المسلم لا تردّ إلّا لإحدى ثلاث : ما لم يدع
بإثم ، أو
قطيعة رحم ، أو
يستعجل ، قالوا : وما الاستعجال ، يا رسول الله؟ قال : يقول : قد دعوتك يا ربّ ،
قد دعوتك يا ربّ ، قد دعوتك يا ربّ ، فلا أراك تستجيب لي ، فيستحسر عند ذلك فيدع
الدّعاء» .
وثالثها : أنّ
قوله (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقتضي أنّ الداعي عارف بربّه ، ومن صفات الربّ سبحانه
وتعالى أنه لا يفعل إلّا ما وافق قضاءه وقدره ، وعلمه وحكمته ، فإذا علم العبد أنّ
صفة ربّه هكذا ، استحال منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربّ ، أفعل الشّيء الفلانيّ
، بل لا بدّ وأن يقول : أفعل هذا الفعل ، إن كان موافقا لقضائك وقدرك ؛ وعند هذا
يصير الدّعاء المجاب مشروطا بهذه الشرائط ، فزال السؤال.
ورابعها : أن لفظ
الدعاء والإجابة يحتمل وجوها كثيرة :
فقيل : الدعاء
عبارة عن : التوحيد والثّناء على الله تعالى ؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا
أنت ، فدعوته ، ثم وحّدته وأثنيت عليه فهذا يسمّى دعاء بهذا التأويل ، فسمي قبوله
إجابة للتجانس ، ولهذا قال ابن الأنباريّ : «أجيب» ههنا بمعنى «أسمع» ؛ لأن بين
السماع والإجابة نوع ملازمة ، فلهذا السبب يقام كلّ واحد منهما مقام الآخر ،
فقولنا : «سمع الله لمن حمده» ، أي : أجاب الله ، فكذا هاهنا قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، أي : أسمع تلك الدّعوة ، فإذا حملنا قوله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) على هذا الوجه ، زال الإشكال.
وقيل : المراد من
الدعاء التّوبة من الذّنوب ؛ وذلك لأنّ التائب يدعو الله تعالى بتوبته ، فيقبل
توبته ، فإجابته قبول توبته إجابة الدّعاء ، فعلى هذا الوجه أيضا يزول الإشكال.
وقيل : المراد من
الدّعاء العبادة ، قال عليه الصّلاة والسّلام : الدعاء هو العبادة ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠]
فالدّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثبت ذلك ،
فإجابة الله تعالى للدّعاء عبارة عن الوفاء بالثّواب للمطيع ؛ كما قال (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى : ٢٦] روى
شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «أعطيت أمّتي ثلاثا ، لم تعط إلّا للأنبياء : كان
الله إذا بعث النّبيّ ، قال : «ادعني أستجب لك» ، وقال لهذه الأمّة : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وكان الله إذا بعث النّبيّ ، قال له : «ما جعل عليك في
__________________
الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) وقال لهذه الأمّة : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وكان
الله تبارك وتعالى إذا بعث النّبيّ جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمّة شهداء
على النّاس».
وخامسها : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) إن وافق القضاء ، وأجيب إن كانت الإجابة خيرا له ، أو
أجيبه إن لم يسأل محالا.
وسادسها : روى
عبادة بن الصّامت ؛ أنّ النّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «ما على الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو كفّ عنه من السّوء مثلها
ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» .
وسابعها : إنّ
الله يجيب دعاء المؤمن في الوقت ، ويؤخّر إعطاء من يجيب مراده ، ليدعوه فيسمع صوته
، ويعجّل إعطاء من لا يحبّه ؛ لأنه يبغض صوته.
فصل
قال سفيان بن
عيينة : لا يمنعنّ أحدا من الدّعاء ما يعلمه من نفسه ، فإنّ الله تبارك وتعالى قد
أجاب دعاء شرّ الخلق إبليس ، لعنه الله ؛ قال : (قالَ أَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٤ ـ ١٥].
وللدّعاء أوقات
وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، كالسّحر ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان
والإقامة ، وما بين الظّهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار وحالة السّفر
والمرض ، وعند نزول المطر ، والصّفّ في سبيل الله تعالى كلّ هذا جاءت به الآثار.
وروى شهر بن حوشب
؛ أنّ أمّ الدرداء قالت له : يا شهر ، ألا تجد القشعريرة؟ قلت : نعم قالت فادع
الله فإنّ الدّعاء يستجاب عند ذلك .
قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) في الاستفعال هنا قولان :
أحدهما : أنّه
للطلب على بابه ، والمعنى : فليطلبوا إجابتي ، قاله ثعلب.
والثاني : قال
مجاهد معناه : فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي : الطّاعة والعمل ،
كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤].
__________________
والثاني : أنه
بمعنى الإفعال ، فيكون استفعل وأفعل بمعنى ، وقد جاءت منه ألفاظ ؛ نحو : أقرّ
واستقرّ ؛ وأبلّ المريض واستبلّ وأحصد الزّرع واستحصد ، واستثار الشّيء وأثاره ،
واستعجله وأعجله ، ومنه استجابه وأجابه ، وإذا كان استفعل بمعنى أفعل ، فقد جاء
متعدّيا بنفسه ، وبحرف الجرّ ، إلا أنه لم يرد في القرآن إلّا معدّى بحرف الجرّ
نحو : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) [الأنبياء : ٨٤] (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٩٥]
ومن تعدّيه بنفسه قول كعب الغنوي : [الطويل]
٩٤٩ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى
|
|
فلم يستجبه عند
ذاك مجيب
|
ولقائل أن يقول :
يحتمل هذا البيت : أن يكون ممّا حذف منه حرف الجرّ.
واللام لام الأمر
، وفرّق الرّمّانيّ بين أجاب واستجاب : بأنّ «استجاب» لا يكون إلا فيما فيه قبول
لما دعي إليه ؛ نحو : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ*
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ،) وأمّا «أجاب» فأعمّ ، لأنه قد يجيب بالمخالفة ، فجعل
بينهما عموما وخصوصا.
والجمهور على «يرشدون»
بفتح الياء وضمّ الشين ، وماضيه : رشد بالفتح ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلاف عنهما بكسر الشين ، وقرىء
بفتحها ، وماضيه رشد بالكسر ، وقرىء : «يرشدون» مبنيّا للمفعول ، وقرىء : «يرشدون»
بضم الياء وكسر الشين من «أرشد» ، والمفعول على هذا محذوف ، تقديره : يرشدون غيرهم
«والرّشد» هو الاهتداء لمصالح الدّين والدّنيا ؛ قال تبارك وتعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] وقال
(أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات : ٧ ـ ٨].
قال القرطبي : و «الرّشد» خلاف الغيّ ، وقد رشد يرشد رشدا ورشد ـ بالكسر
ـ يرشد رشدا لغة فيه وأرشده الله والمراشد : مقاصد الطّرق والطريق الأرشد نحو
الأقصد وأمّ راشد كنية للفأرة ، وبنو رشدان بطن من العرب عن الجوهريّ.
وقال الهرويّ :
الرّشد والرّشد والرّشاد : الهدى والاستقامة ؛ ومنه قوله تعالى : «يرشدون».
فإن قيل : إجابة
العبد لله تعالى إن كانت إجابة بالقلب واللّسان ، فذاك هو الإيمان ، وعلى هذا ،
فيكون قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) تكرارا محضا ، وإن كانت إجابة العبد لله تعالى عبارة عن
الطاعات كان الإيمان مقدّما على الطاعات ، وكان حقّ النّظم أن يقول : «فليؤمنوا بي
وليستجيبوا لي» فلم جاء على العكس.
__________________
فالجواب : أن
الإيمان عبارة عن صفة القلب ، وهذا يدلّ على أنّ العبد لا يصل إلى نور الإيمان ،
إلّا بتقديم الطّاعات والعبادات.
قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ
الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ
اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا
تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
(١٨٧)
قوله تعالى : (لَيْلَةَ الصِّيامِ) منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :
أحدها ـ وهو
المشهور عند المعربين ـ : أنه «أحلّ» ، وليس بشيء ؛ لأنّ الإحلال ثابت قبل ذلك
الوقت.
الثاني : أنه مقدر
مدلول عليه بلفظ «الرّفث» ، تقديره : أحلّ لكم أن ترفثوا ليلة الصّيام ؛ كما
خرّجوا قول الشاعر : [الهزج]
٩٥٠ ـ وبعض الحلم عند الجه
|
|
ل للذّلّة إذعان
|
أي : إذعان
للذّلّة إذعان ، وإنما لم يجز أن ينتصب بالرّفث ؛ لأنه مصدر مقدّر بموصول ، ومعمول
الصلة لا يتقدّم على الموصول ، فلذلك احتجنا إلى إضمار عامل من لفظ المذكور.
الثالث : أنه
متعلّق بالرّفث ، وذلك على رأي من يرى الاتساع في الظروف والمجرورات ، وقد تقدّم
تحقيقه.
وأضيفت اللّيلة
للصيام ؛ اتّساعا ، لأنّ شرط صحته ، وهو النية ، موجودة فيها ، والإضافة تحدث
بأدنى ملابسة ، وإلّا فمن حقّ الظّرف المضاف إلى حدث أن يوجد ذلك الحدث في جزء من
ذلك الظّرف ، والصوم في اللّيل غير معتبر ، ولكنّ المسوّغ لذلك ما ذكرت لك أو تقول
: الليلة : عبارة عمّا بين غروب الشّمس إلى طلوعها ، ولمّا كان الصّيام من طلوع
الفجر ، فكان بعضه واقعا في اللّيل فساغ ذلك.
والجمهور على «أحلّ»
مبنيّا للمفعول للعلم به ، وهو الله تعالى ، وقرىء مبنيّا للفاعل ، وفيه حينئذ احتمالان :
__________________
أحدهما : أن يكون
من باب الإضمار ؛ لفهم المعنى ، أي أحلّ الله ؛ لأنّ من المعلوم أنه هو المحلّل
والمحرّم.
والثاني : أن يكون
الضمير عائدا على ما عاد عليه من قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وهو المتكلّم ، ويكون ذلك التفاتا ، وكذلك في قوله «لكم»
التفات من ضمير الغيبة في : «فليستجيبوا ، وليؤمنوا» ، وعدّي «الرّفث» ب «إلى» ،
وإنما يتعدّى بالباء ؛ لما ضمّن من معنى الإفضاء من قوله (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١]
كأنه قيل : أحلّ لكم الإفضاء إلى نسائكم بالرّفث. قال الواحديّ : أراد بليلة الصّيام ليالي الصّيام ، فأوقع الواحد موقع
الجماعة ؛ ومنه قول العبّاس بن مرداس : [الوافر]
٩٥١ ـ فقلنا أسلموا إنّا أخوكم
|
|
فقد برئت من
الإحن الصّدور
|
قال ابن الخطيب : وأقول : فيه وجه آخر ، وهو أنّه ليس المراد من «ليلة
الصّيام» ليلة واحدة ، بل المراد الإشارة إلى اللّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
وقرأ عبد الله «الرّفوث» قال
اللّيث وأصل الرّفث قول الفحش ، والرّفث لغة مصدر : رفث يرفث بكسر الفاء وضمها ،
إذا تكلم بالفحش ، وأرفث أتى بالرّفث ؛ قال العجاج : [الرجز]
٩٥٢ ـ وربّ أسراب حجيج كظّم
|
|
عن اللّغا ورفث
التّكلّم
|
وقال الزّجّاج : ـ
ويروى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ـ «إنّ الرّفث كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل
من المرأة» ، وقيل : الرّفث : الجماع نفسه ، وأنشد : [الكامل]
٩٥٣ ـ ويرين من أنس الحديث زوانيا
|
|
ولهنّ عن رفث
الرّجال نفار
|
وقول الآخر : [المتقارب]
٩٥٤ ـ فظلنا هنالك في نعمة
|
|
وكلّ اللّذاذة
غير الرّفث
|
ولا دليل ؛
لاحتمال إرادة مقدّمات الجماع ؛ كالمداعبة والقبلة ، وأنشد ابن عبّاس ، وهو محرم :
[الرجز]
__________________
٩٥٥ ـ وهنّ يمشين بنا هميسا
|
|
إن يصدق الطّير
ننك لميسا
|
فقيل له : رفثت ،
فقال : إنّما الرّفث عند النساء.
فثبت أنّ الأصل في
الرّفث هو قول الفحش ، ثم جعل ذلك اسما لما يتكلّم به عند النّساء من معاني
الإفضاء ، ثم جعل كناية عن الجماع ، وعن توابعه.
فإن قيل : لم كنّى
هاهنا عن الجماع بلفظ «الرّفث» الدّالّ على معنى القبح بخلاف قوله (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١]
وقوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاها) [الأعراف : ١٨٩] ، وقوله عزوجل : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) [النساء : ٤٣]
وقوله عزوجل : (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] ،
وقوله عزوجل : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧]
وقوله تعالى (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) [النساء : ٢٤] (وَلا تَقْرَبُوهُنَ)
[البقرة : ٢٢٢].
فالجواب : أنّ
السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة ؛ كما سمّاه اختيانا لأنفسهم ؛ قال ابن
عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ إنّ الله سبحانه وتعالى حييّ كريم يكنّي ، كلّ ما ذكر في
القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدّخول والرّفث ، فإنما عنى به الجماع .
فصل في بيان سبب النزول
ذكروا في سبب نزول
هذه الآية : أنه كان في أوّل الشّريعة يحلّ الأكل والشّرب والجماع ليلة الصّيام ،
ما لم يرقد الرجل ويصلّي العشاء الأخيرة ، فإن فعل أحدهما ، حرم عليه هذه الأشياء
إلى اللّيلة الآتية ، فجاء رجل من الأنصار عشيّة ، وقد أجهده الصّوم ، واختلفوا في
اسمه ؛ فقال معاذ : اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن
صرمة ، وقيل صرمة بن أنس.
فسأله النبيّ صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم عن سبب ضعفه ، فقال : يا رسول
الله ، عملت في النّخل نهاري أجمع ، حتّى أمسيت ، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا ،
فأبطأت ، فنمت فأيقظوني ، وقد حرم الأكل ؛ فقام عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا
رسول الله ، إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطية ؛ إنّي رجعت إلى أهلي
بعد ما صلّيت العشاء ، فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي ، فجامعت أهلي ، فقال
النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ،
__________________
وكرّم ومجّد وبجّل
، وعظّم : ما كنت جديرا بذلك يا عمر ، فقام رجال ، فاعترفوا بمثله ، فنزل قوله
تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).
فصل
ذهب جمهور
المفسّرين إلى أنّه كان في أوّل شرعنا ، إذا أفطر الصّائم ، حلّ له الأكل والشّرب
والجماع ، ما لم ينم أو يصلّ العشاء الآخرة ، فإذا فعل أحدهما ، حرم عليه هذه
الأشياء ، ثم إنّ الله تعالى ، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة .
وقال أبو مسلم : هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتّة ، بل كانت
ثابتة في شرع النصارى ، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم.
واحتجّ الجمهور
بوجوه :
أحدها : قوله
تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في
صومهم ؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتا في صومنا ، لقصد أن يكون منسوخا بهذه الآية
الكريمة.
الثاني : قوله
تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ولو كان هذا الحلّ ثابتا لهذه الأمّة من أول الأمر ، لم
يكن لقوله : «أحلّ لكم» فائدة.
الثالث : قوله
سبحانه : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولو كان ذلك حلالا لهم ، لما احتاجوا إلى أن يختانوا
أنفسهم.
الرابع : قوله
تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ
وَعَفا عَنْكُمْ) [ولو لا أنّ ذلك
كان محرّما عليهم ، وأنّهم أقدموا على المعصية ؛ بسبب الإقدام على ذلك الفعل ، لما
صحّ قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ)].
الخامس : قوله
تعالى : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ) ولو كان الحلّ ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله
تعالى : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ) فائدة.
السادس : ما
رويناه في سبب النّزول.
__________________
وأجاب أبو مسلم عن الأوّل : بأنّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل
الوجوب.
وعن الثّاني :
بأنّا لا نسلّم أنّ هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا ، فقوله : «أحلّ لكم»
معناه : أحلّ لكم ما كان محرّما على غيركم.
وعن الثالث : بأنّ
تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى ـ عليهالسلام ـ ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا ، ولم ينقل زوال تلك
الحرمة ، فكان يخطر ببالهم أنّ تلك الحرمة باقية علينا ، لأنّه لم يوجد في شرعنا
ما دلّ على زوالها ، وممّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وكان مما كتب على الذين من قبلنا هذه الحرمة ؛ فلهذا كانوا
يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فشدّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور ، فقال تبارك
وتعالى : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أبيّن لكم إحلال
الأكل والشّرب والمباشرة طوال اللّيل ، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذّاتها
ومصلحتها ؛ بالإمساك عن ذلك بعد النّوم ؛ كسنّة النصارى ، وأصل الخيانة : النّقص.
وعن الرابع : أن
التوبة من العبد : الرّجوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله سبحانه : الرّجوع
إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز ، فبيّن الله تعالى إنعامه
علينا بتخفيف ما كان ثقيلا على من قبلنا ، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛
قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» وقال عليه الصّلاة والسّلام : «في أوّل الوقت رضوان الله ،
وفي آخره عفو الله» والمراد منه التخفيف بتأخير الصّلاة إلى آخر الوقت ؛ ويقال
أتاني هذا المال عفوا ، أي : سهلا.
وعن الخامس :
بأنّهم كانوا بسبب تلك الشّبهة ممتنعين عن المباشرة ، فبيّن الله
__________________
تعالى ذلك ، وأزال
الشّبهة بقوله : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ).
وعن السادس : بأنّ
في الآية الكريمة ما يدلّ على ضعف هذه الرّواية ؛ لأن الرواية أنّ القوم اعترفوا
بما فعلوا عند الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وذلك خلاف قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ؛ لأنّ ظاهره المباشرة ، لأنّه افتعال من الخيانة.
قوله : (كُنْتُمْ تَخْتانُونَ) في محلّ رفع خبر ل «أنّ». و «تختانون» في محلّ نصب خبر ل «كان».
قال أبو البقاء : و «كنتم» هنا لفظها لفظ الماضي ، ومعناها أيضا ، والمعنى
: أنّ الاختيان كان يقع منهم ، فتاب عليهم منه ، وقيل : إنّه أراد الاختيان في
الاستقبال ، وذكر «كان» ليحكي بها الحال ؛ كما تقول : إن فعلت ، كنت ظالما» وفي
هذا نظر لا يخفى.
و «تختانون»
تفتعلون من الخيانة ، وعين الخيانة واو ؛ لقولهم : خان يخون ، وفي الجمع : خونة ،
يقال : خان يخون خونا ، وخيانة ، وهي ضدّ الأمانة ، وتخوّنت الشّيء تنقّصته ؛ قال
زهير في ذلك البيت : [الوافر]
٩٥٦ ـ بآرزة الفقارة لم يخنها
|
|
قطاف في الرّكاب
ولا خلاء
|
وخان السّيف إذا
نبا عن الضّربة ، وخانه الدّهر ، إذا تغيّر حاله إلى الشّرّ ، وخان الرّجل الرّجل
، إذا لم يؤدّ الأمانة ، وناقض العهد خائن ، إذا لم يف ، ومنه قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً) [الأنفال : ٥٨]
والمدين خائن ؛ لأنّه لم يف بما يليق بدينه ؛ ومنه قوله تعالى : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال : ٢٧]
وقال تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) [الأنفال : ٧١]
فسمّيت المعصية بالخيانة.
وقال الزمخشريّ : «والاختيان
: من الخيانة ؛ كالاكتساب من الكسب ، فيه زيادة وشدّة» ؛ يعني من حيث إنّ الزيادة
في اللفظ تنبىء عن زيادة في المعنى ، كما قدّمه في قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقيل هنا : تختانون أنفسكم ، أي : تتعهّدونها بإتيان
النّساء ، وهذا يكون بمعنى التّخويل ، يقال : تخوّنه وتخوّله بالنون واللام ،
بمعنى تعهّده ، إلا أنّ النون بدل من اللّام ؛ لأنه باللام أشهر.
و «علم» إن كانت
المتعدية لواحد ، تكون بمعنى عرف ، فتكون «أنّ» وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعول
واحد ، وإن كانت المتعدية لاثنين ، كانت سادة مسدّ المفعولين على رأي سيبويه ـ رحمهالله ـ ومسدّ أحدهما ، والآخر محذوف على مذهب الأخفش.
__________________
وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) لا محلّ له من الإعراب ؛ لأنه بيان للإحلال ، فهو استئناف
وتفسير.
يعني إذا حصلت
بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلّ صبركم عنهنّ ، وضعف عليكم
اجتنابهنّ ؛ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ. وقدّم قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) على (وَأَنْتُمْ لِباسٌ
لَهُنَّ) ؛ تنبيها على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها ؛
ولأنّه هو البادىء بطلب ذلك ، وكنى باللباس عن شدّة المخالطة ؛ كقوله ـ هو النابغة
الجعديّ ـ : [المتقارب]
٩٥٧ ـ إذا ما الضّجيع ثنى جيدها
|
|
تثنّت عليه
فكانت لباسا
|
وفيها أيضا : [المتقارب]
٩٥٨ ـ لبست أناسا فأفنيتهم
|
|
وأفنيت بعد أناس
أناسا
|
قال القرطبيّ : وشدّدت النّون من «هنّ» لأنها بمنزلة الميم والواو في
المذكّر.
وورد لفظ «اللّباس»
على أربعة أوجه :
الأول : بمعنى
السّكن ؛ كهذه الآية.
الثاني : الخلط ؛
قال تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢] ،
أي : لم يخلطوا.
الثالث : العمل
الصالح ؛ قال تعالى : (وَرِيشاً وَلِباسُ
التَّقْوى) [الأعراف : ٢٦] ،
أي : عمل التقوى.
الرابع : اللّباس
بعينه ؛ قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) [الأعراف : ٢٦].
فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللّباس
في تشبه الزّوجين
باللّباس وجوه :
أحدها : أنه لمّا
انضمّ جسد كلّ واحد منهما إلى الآخر ؛ كالثّوب الذي لبس ، سمّي كلّ واحد منهما
لباسا.
قال الرّبيع : هنّ
فراش لكم ، وأنتم لحاف لهنّ .
__________________
وقال ابن زيد :
إنّ كلّ واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار النّاس.
وقال أبو عبيدة
وغيره : يقال للمرأة : هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل : اللّباس اسم لما يواري
الشّيء ، فيجوز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّا لا يحلّ ؛ كما ورد في
الحديث : «من تزوّج فقد ستر ثلثي دينه».
الثاني : أن كلّ
واحد منهما يخصّ نفسه بالآخر ؛ كما يخصّ لباسه بنصيبه.
قال الواحديّ ـ رحمهالله ـ : إنما وحّد «اللّباس» بعد قوله تعالى : «هنّ» ؛ لأنه
يجري مجرى المصدر ، و «فعال» من مصادر «فاعل» ، وتأويله : وهنّ ملابسات لكم.
فصل في معنى (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ)
قال القرطبيّ : معنى (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع
والأكل بعد النّوم في ليالي الصّوم ؛ كقوله تعالى : (تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] أي
: يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كلّ واحد منهم في نفسه ؛ بأنه يخونها
وسمّاه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ؛ كما تقدّم.
فصل
قال ابن الخطيب : إنّه تعالى ذكر هاهنا أنّهم كانوا يختانون أنفسهم ، ولم
يبيّن تلك الخيانة فيماذا ، فلا بدّ من حملها على شيء له تعلّق بما تقدّم وما
تأخّر ، والذي تقدّم هو ذكر الجماع ، والذي تأخّر هو قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان :
الأول : علم الله
أنّكم كنتم تستترون بالمعصية بالجماع بعد العتمة ، والأكل بعد النّوم ، وترتكبون
المحرّم من ذلك وكلّ من عصى الله ، فقد خان نفسه ؛ وعلى هذا القول : يجب أن يقطع
بأنّ ذلك وقع من بعضهم ؛ فدلّ على تحريم سابق ، لأنّه لا يمكن حمله على وقوعه من
جميعهم للعادة والإخبار ، وإذا صحّ وقوعه من بعضهم ، دلّ على تحريم سابق ، ولأبي
مسلم أن يقول : قد بيّنّا أنّ الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليهم ، فأنتم
حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقّ بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما
هو حقّ للنفس ، وهذا أولى ؛ لأنّ الله تعالى لم يقل : علمك [الله] أنّكم كنتم
تختانونه [أنفسكم] ، وإنما قال : تختانون أنفسكم ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا ،
إن لم يكن أولى ، فلا أقلّ من التساوي ، وبهذا التقدير : لا يثبت النّسخ .
__________________
القول الثاني :
أنّ المراد (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لو دامت تلك الحرمة ، فمعناه : أنّ الله يعلم أنّه لو دام
ذلك التكليف الشّاقّ ، لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التقدير : ما وقعت الخيانة ،
فيمكن أن يقال : التفسير الأوّل أولى ؛ لأنّ لا حاجة فيه إلى إضمار الشّرط ، وأن
يقال : بل الثاني أولى ؛ لأنّه على الأوّل يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ
التكليف ، وعلى الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف ، لحصلت الخيانة ، فنسخ
التكليف رحمة من الله على عباده ، حتى لا يقعوا في الخيانة.
وأمّا قوله تعالى (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فمعناه على قول أبي مسلم : فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتّوسعة عليكم ، وعلى
قول مثبتي النّسخ لا بدّ فيه من إضمار ، تقديره : تبتم ، فتاب عليكم ، وقوله (وَعَفا عَنْكُمْ) على قول أبي مسلم : أوسع عليكم بإباحة الأكل والشّرب والمباشرة في طول
اللّيل ، ولفظ «العفو» يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ كما قدّمناه ، وعلى قول مثبتي
النّسخ ، لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوّي قول أبي مسلم ؛
لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمار ، وتفسير مثبتي النّسخ يحتاج إلى إضمار وتفسير.
قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) قد تقدّم الكلام على «الآن» وفي وقوعه ظرفا للأمر تأويل ،
وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبل أبدا ، وتأويله ما قاله أبو البقاء ؛ قال : «والآن : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على
الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر ، وهو
المراد هنا ، لأنّ قوله : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ) ، أي : فالوقت الذي كان يحرّم عليكم فيه الجماع من اللّيل»
، وقيل : هذا كلام محمول على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم مباشرتهنّ ،
ودلّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حقيقته. وسمّي الوقاع مباشرة ، لتلاصق
البشرتين فيه :
قال ابن العربيّ : وهذا يدلّ على أنّ سبب الآية جماع عمر ، لا جوع قيس ،
لأنه لو كان السّبب جوع قيس ، لقال : «فالآن كلوا» ابتداء به ؛ لأنه المهمّ الذي
نزلت الآية لأجله.
وقرأ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «واتّبعوا» من «الاتّباع»
وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريّ ، وفسّروا (ما كَتَبَ اللهُ) بليلة القدر ، أي : اتّبعوا ثوابها ، قال الزمخشريّ : «وهو
قريب من بدع التّفاسير».
وقرأ الأعمش «وابغوا».
__________________
فصل
دلّت الآية على
أنّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة ، ومن قال بأنّ مطلق الأمر للوجوب ، قالوا : إنما تركنا
الظّاهر هنا للإجماع ، وفي المباشرة قولان :
أحدهما ـ وهو قول
الجمهور : أنّها الجماع ، سمّي بهذا الاسم ؛ لتلاصق البشرتين .
والثاني ـ قول
الأصمّ : أنه محمول على المباشرات ، ولم يقصره على الجماع ، وهذا هو الأقرب إلى
لفظ المباشرة ، لأنها مشتقّة من تلاصق البشرتين ، إلّا أنّهم اتفقوا على أنّ
المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع ؛ لأنّ السبب في هذه الرخصة كان
وقوع الجماع من القوم ، وأمّا اختلافهم في قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فحمله بعضهم على كلّ المباشرات ؛ لأنّ المعتكف ، لمّا منع
من الجماع ، فلا بدّ وأن يمنع مما دونه.
فصل
في قوله تعالى : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وجوه :
أحدها : الولد ،
أي : لا تباشروا لقضاء الشّهوة وحدها ؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النّكاح من
التّناسل.
قال ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ : «تناكحوا تناسلوا ؛ تكثروا».
والثاني : أنّه
نهي عن العزل.
__________________
الثالث : ابتغوا
المحلّ الذي كتبه الله لكم وحلّله ؛ ونظيره (فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢].
الرابع : أنه
للتأكيد ، تقديره : فالآن باشروهنّ وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد
أن كانت محرّمة عليكم.
الخامس : قال أبو
مسلم : فالآن باشروهنّ ، وابتغوا هذه المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم
تظنونها محرّمة عليكم.
السادس : أن
مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات ؛ بسبب الحيض والنّفاس والعدّة والرّدّة ؛
فقوله : (وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني : لا تباشروهنّ إلّا في الأوقات المأذون لكم فيها.
السابع : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) إذن في المباشرة ، وقوله : (وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [يعني : لا تبتغوا
هذه المباشرة إلّا من الزّوجة والمملوكة] بقوله (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦].
الثامن : قال معاذ
بن جبل ، وابن عبّاس في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلة القدر ، وما كتب
الله لكم من الثّواب فيها إن وجدتموها .
وقال ابن عبّاس :
ما كتب الله لنا هو القرآن .
قال الزّجّاج : أي
: ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه ، وأمرتم به . وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة .
قال قتادة : وقيل
: ابتغوا ما كتب الله لكم من الإملاء والزّوجات .
فصل في معاني «كتب»
في «كتب» وجوه :
أحدها : أنّها هنا
بمعنى جعل ؛ كقوله (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢]
أي: جعل ، وقوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٥٣] ،
وقوله سبحانه (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦].
__________________
الثاني : معناه
قضى الله لكم ؛ كقوله عزوجل : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) [التوبة : ٥١] ، أي : قضاه.
الثالث : ما كتب
الله في اللّوح المحفوظ ممّا هو كائن.
الرابع : ما كتب
الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.
قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الفائدة في ذكرهما : أنّه لو اقتصر على قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشّرب ، فذكرهما لتتمّ
الدلالة على إباحتهما ، وهذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب نازلة عمر ، وبدأ بجواب
نازلة عمر ، لأنه المهمّ.
قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) «حتّى» هنا غاية
لقوله : «كلوا واشربوا» بمعنى «إلى» ، ويقال : تبيّن الشّيء ، وأبان ، واستبان ،
وبان كلّه بمعنّى ، وكلّها تكون متعدية ولازمة ، إلّا «بان» فلازم ليس إلّا ، و «من
الخيط» لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها في محلّ نصب ب «يتبيّن» ؛ لأنّ المعنى : حتى
يباين الخيط الأبيض الأسود.
و «من الفجر» يجوز
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
تبعيضية ؛ فتتعلّق أيضا ب «يتبيّن» ؛ لأنّ الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ولا
يضرّ تعلّق حرفين بلفظ واحد ؛ لاختلاف معناهما.
والثاني : أن تتعلّق
بمحذوف ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائنا من
الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون «من» لبيان الجنس ؛ كأنه قيل : الخيط الأبيض الّذي
هو الفجر.
والثالث : أن يكون
تمييزا ، وهو ليس بشيء ، وإنما بيّن قوله (الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ) بقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) ولم يبيّن الخيط الأسود ؛ فيقول : من اللّيل ؛ اكتفاء بذلك
، وإنما ذكر هذا دون ذاك ؛ لأنّه هو المنوط به الأحكام المذكورة في المباشرة
والأكل والشّرب.
وهذا من أحسن
التّشبيهات ، حيث شبّه بياض النّهار بخيط أبيض ، وسواد الليل بخيط أسود ، حتى إنه
لما ذكر عديّ بن حاتم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط ، تعجّب منه ، وقال
: «إنّ وسادك لعريض» ويروى : «إنّك لعريض القفا». وقد روي أنّ بعض الصحابة فعل
كفعل عديّ ، ويروى أن بين قوله «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» وبين قوله : «من
الفجر» عاما كاملا في النزول.
روي عن سهل بن سعد
، قال : أنزلت (كُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل قوله : «من الفجر» وكان رجال إذا أرادوا الصّوم ،
ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض ، والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيّن له
رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) ، فعلموا أنّه إنما عني اللّيل والنّهار ، وسمّي الفجر
خيطا ؛ لأن ما
يبدو من البياض يرى ممتدّا ؛ كالخيط. قال الشّاعر : [البسيط]
٩٥٩ ـ ألخيط الأبيض ضوء الصّبح منفلق
|
|
والخيط الأسود
جنح اللّيل مكتوم
|
والخيط في كلامهم
عبارة عن اللون ، قاله القرطبيّ ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديّ في ذلك فقال : [المتقارب]
٩٦٠ ـ فلمّا أضاءت له سدفة
|
|
ولاح من الصّبح
خيط أنارا
|
وقد تسمّيه العرب
أيضا الصّديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ؛ قال بشر بن أبي خازم ، أو عمرو بن
معديكرب : [الوافر]
٩٦١ ـ ترى السّرحان مفترشا يديه
|
|
كأنّ بياض لبّته
صديع
|
وهذا النوع من باب
التشبيه لا من الاستعارة ؛ لأنّ الاستعارة هي أن يطوى فيها ذكر المشبّه ، وهنا قد
ذكر وهو قوله : «من الفجر» ، ونظيره قولك : «رأيت أسدا من زيد» ، لو لم تذكر : «من
زيد» لكان استعارة ، ولكنّ التشبيه هنا أبلغ ؛ لأنّ الاستعارة لا بدّ فيها من
دلالة حالية ، وهنا ليس ثمّ دلالة ، ولذلك مكث بعض الصحابة يحمل ذلك على الحقيقة
مدة ، حتّى نزل «من الفجر» فتركت الاستعارة ، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.
فإن قيل : إنّ
بياض الصّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب ؛ لأنّه مستطيل كشبه الخيط
، وأما الصّبح الصادق ، فهو بياض مستدير مستطيل في الأفق ، فلزم على مقتضى الآية
أن يكون أوّل النهار من طلوع الصّبح الكاذب ، وليس كذلك بالإجماع.
فالجواب : أنّ
قوله «من الفجر» بيّن أن المراد به الصّبح الصادق ، لا يكون منتشرا ، بل يكون
صغيرا دقيقا ، فالصادق أيضا يبدو دقيقا ، ويرفع مستطيلا. والفجر مصدر قولك فجرت
الماء أفجره فجرا وفجّرته تفجيرا ، قال الأزهريّ : الفجر أصله الشّقّ ، فعلى هذا
هو انشقاق ظلمة اللّيل بنور الصّبح.
فصل
زعم أبو مسلم
الأصفهاني : أنه لا شيء من المفطّرات إلّا أحد هذه الثّلاث ، وما
ذكره الفقهاء من تكلّف القيء والحقنة والسّعوط ، فلا يفطر شيء منها.
قال : لأنّ كلّ
هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصّائم
بعد الفجر ، وبقي ما سواها على الإباحة الأصليّة ، والفقهاء قالوا : خصوا هؤلاء
بالذّكر ؛ لأنّ النّفس تميل إليهما.
__________________
فصل في صوم الجنب
مذهب أبي هريرة
والحسن بن صالح ؛ أنّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم ، وهذه الآية تبطل قولهم ؛ لأنّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى
انفجار الصّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلّا بعد الصّبح.
ويؤيّده ما ورد
عنه صلىاللهعليهوسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنب من أهله ، ثم يغتسل ويصوم
، والله أعلم.
فصل
زعم الأعمش أنه
يحل الأكل والشّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ؛ قياسا لأوّل النهار على
آخره ؛ فكما أن آخره بغروب الشّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشّمس ، قال : إن
المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللّيل والنّهار ، قال
: ووجه التشبيه ليس إلّا في البياض والسّواد ؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع
__________________
الصّبح لا يمكن
تشبيهها بالخيط الأسود في الشّكل ألبتة ؛ فثبت أنّ المراد بالخيط الأسود في الآية
هو اللّيل والنهار.
ثم لو بحثنا عن
حقيقة اللّيل في قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لوجدناها عبارة عن زمن غيبة الشّمس ؛ بدليل أنّ الله تعالى
سمّاها بعد المغرب ليلا مع بقاء الضّوء فيه ؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطّرف
الأوّل من النهار كذلك ؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضا ليلا ، وألا يوجد النّهار إلّا
عند طلوع الشمس ، وإلّا يلزم أن يكون آخر النّهار على زعمهم غياب الشّفق الأحمر ؛
لأنّه آخر آثار الشمس ؛ كما أن طلوع الفجر هو أوّل طلوع آثار الشّمس ، وإذا بطل
هذا ، بطل ذاك ، ومن النّاس من قال : آخر النهار غياب الشّفق ، ولا يجوز الإفطار
إلّا عند طلوع الكواكب ، وكلّها مذاهب باطلة.
قوله : «إلى
اللّيل» في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه
متعلّق بالإتمام ، فهو غاية له.
والثاني : أنه في
محلّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا إلى اللّيل ، و «إلى»
إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل.
فصل في اختلافهم في ماهيّة اللّيل
اختلفوا في اللّيل
ما هو؟ فمنهم : من قاس آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار
الشّمس ؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشّمس.
ثم هؤلاء منهم من
اكتفى بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظّلام التّامّ وظهور الكواكب والحديث
يبطل كلّ ذلك ، وهو قوله ـ عليه أفضل الصّلاة والسّلام ـ : «إذا أقبل اللّيل من
هاهنا ، وأدبر النّهار من هاهنا وغربت الشّمس فقد أفطر الصّائم» وهذا الحديث مع
الآية يدلّ على المنع من الوصال.
فصل
الحنفيّة تمسّكوا
بهذه الآية الكريمة في أنّ صوم النّفل يجب إتمامه بقوله تعالى
__________________
(أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ) والأمر للوجوب فيتناول كلّ صيام.
وأجيبوا بأنّ هذا
إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض ؛ بدليل أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال :
الصائم المتطوّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر .
وعن أمّ هانىء :
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخل عليها فدعا بشراب فشرب ، ثمّ ناولها ، فشربت ، فقالت :
يا رسول الله ، أما إنّي كنت صائمة ، ولكن كرهت أن أردّ سؤرك ، فقال : إن كان قضاء
من رمضان ، فاقضي مكانه ، وإن كان تطوّعا ، فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي.
__________________
قوله : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) جملة حالية من فاعل «تباشروهنّ» ، والمعنى : «لا تباشروهنّ»
، وقد نويتم الاعتكاف في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنّ في المسجد بقيد
الاعتكاف ؛ لأنّ ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف أيضا.
والعكوف : الإقامة
والملازمة له وهو في الشّرع : لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ، يقال : عكف
بالفتح يعكف بالضم والكسر ، وقد قرىء : (يَعْكُفُونَ عَلى
أَصْنامٍ) [الأعراف : ١٣٨]
بالوجهين ، وقال الفرزدق : [الطويل]
٩٦٢ ـ ترى حولهنّ المعتفين كأنّهم
|
|
على صنم في
الجاهليّة عكّف
|
وقال الطّرمّاح : [الطويل]
٩٦٣ ـ فباتت بنات اللّيل حولي عكّفا
|
|
عكوف البواكي
بينهنّ صريع
|
ويقال : الافتعال
منه في الخير ، والانفعال في الشّرّ ، وأمّا الاعتكاف في الشرع : فهو إقامة مخصوصة
بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة ، وقرأ قتادة
: «عكفون» كأنه يقال : عاكف وعكف ؛ نحو : «بارّ وبرّ ورابّ
__________________
وربّ» ، وقرأ الأعمش : «في المسجد» بالإفراد ؛ كأنه يريد الجنس.
فصل
لما بين حكم تحريم
المباشرة في الصيام ، كان يجوز أن يظن بأنّ الاعتكاف حاله كحال الصّوم في أنّ
الجماع يحرم فيه نهارا أو ليلا.
فصل
لو لمس المعتكف
المرأة بغير شهوة ، جاز ؛ لحديث عائشة ، وإن لمسها بشهوة ، أو قبّلها أو باشرها فيما دون الفرج ،
فهو حرام ، وهل يبطل به اعتكافه؟ فيه خلاف.
فصل
اتفقوا على أنّ
شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد ، ثم اختلفوا ، فنقل عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه
قال : لا يجوز إلّا في المسجد الحرام ومسجد المدينة.
وقال حذيفة : يجوز في هذين المسجدين ، وفي مسجد بيت المقدس ؛ لقوله ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ : «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».
وقال الزّهريّ :
لا يصحّ إلّا في الجامع .
وقال أبو حنيفة :
لا يصحّ إلّا في مسجد له إمام راتب ، ومؤذّن راتب.
وقال الشافعيّ
وأحمد : يصحّ في جميع المساجد إلّا أن المسجد الجامع أفضل ؛ حتى لا يحتاج إلى
الخروج إلى الجمعة ، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع ، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة
، فيشهدها ويرجع مكانه ، ويصحّ اعتكافه ؛ لأنه خرج إلى فرض ، وهو من الشّرائع
القديمة.
فصل في الاعتكاف بدون الصوم
يجوز الاعتكاف
بغير صوم ، وبالصّوم أفضل ؛ وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ لا يجوز إلّا
بالصّوم.
واحتجّ الأوّلون :
بأنّ الاعتكاف لو أوجب الصّوم ، لما صحّ في رمضان ؛ لأنّ
__________________
الصّوم الذي أوجبه
الاعتكاف ، إمّا صوم آخر غير صوم رمضان ، وهو باطل ؛ لأن رمضان لا يصحّ فيه غيره ،
وأيضا ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله ، إنّي نذرت في
الجاهليّة أن أعتكف ليلة ، فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «أوف بنذرك» والصّوم لا يجوز في اللّيل.
فصل
روى مسلم عن عائشة
ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه .
وقال مالك
والشافعيّ وأبو حنيفة ـ رضي الله عنهم ـ إذا نذر اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب
الشمس من ليلة ذلك اليوم.
فصل في أقل مدة الاعتكاف
لا تقدير لزمان
الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد ، ولو نذر الاعتكاف مطلقا ، لخرج من نذره
باعتكاف ساعة ؛ كما لو نذر أن يتصدّق مطلقا ، فإنه يتصدق بما شاء من قليل أو كثير
، والأفضل أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف ، فإنّ أبا حنيفة لا يجوّز اعتكاف أقلّ
من يوم ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس.
فصل
قال القرطبيّ ـ رحمهالله تعالى ـ : إذا أتى المعتكف كبيرة ، بطل اعتكافه ؛ لأنّ الكبيرة
ضدّ العبادة ، كما أنّ الحدث ضدّ الطهارة والصّلاة.
قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، واسم الإشارة أخبر عنه بجمع ، فلا جائز أن
يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمّنته
آية الصيام من أوّلها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمّنت عدة أوامر ، والأمر بالشّيء
نهي عن
__________________
ضدّه ، فبهذا
الاعتبار كانت عدّة مناه ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : «ولا تباشروهنّ» فأطلق
على الكل «حدودا» ؛ تغليبا للمنطوق به ، واعتبارا بتلك المناهي الّتي تضمّنتها
الأوامر ، فقيل فيها حدود ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأنّ المأمور به لا
يقال فيه «فلا تقربوها».
وقال أبو مسلم
الأصفهانيّ : «لا تقربوها» أي : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ؛ لقوله
تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٣٤].
قال أبو البقاء : دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف ، تقديره : «تنبّهوا
فلا تقربوها» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] على أحد القولين ؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حدود
الله» على الاشتغال ؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي ، نحو : «زيدا فاضربه ،
وعمرا فلا تهنه» فلمّا أجمعت القرّاء هنا على الرفع ، علمنا أن هذه الجملة التي هي
«فلا تقربوها» منقطعة عمّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحدود : جمع حدّ
، وهو المنع ، ومنه قيل للبوّاب : حدّاد ، لأنّه يمنع من العبور قال اللّيث ـ رحمهالله تعالى ـ : وحدّ الشيء منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحدّ
مانع جامع ، أي : يمنع غير المحدود الدّخول في المحدود.
وقال الأزهريّ :
ومنه يقال للمحروم ، محدود ؛ لأنّه ممنوع عن الرّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها
، وسمّي الحديد حديدا ؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة ؛ لأنّها تمتنع
من الزينة.
والنّهيّ عن
القربان أبلغ من النّهي عن الالتباس بالشيء ؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.
وقال هنا : (فَلا تَقْرَبُوها) وفي مواضع أخر : (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩]
ومثله (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) [النساء : ١٤]
لأنه غلّب هنا جهة النهي ؛ إذ هو المعقّب بقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وما كان منهيّا عن فعله ، كان النهيّ عن قربانه أبلغ ،
وأمّا الآيات الأخر ، فجاء (فَلا تَعْتَدُوها) عقيب بيان أحكام ذكرت قبل ؛ كالطلاق ، والعدّة ، والإيلاء
، والحيض ، والمواريث ؛ فناسب أن ينهى عن التعدّي فيها ، وهو مجاوزة الحدّ الذي
حدّه الله تعالى فيها.
قال السّدّيّ :
المراد بحدود الله شروط الله وقال شهر بن حوشب : فرائض الله .
__________________
قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) الكاف في محلّ نصب : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : بيانا
مثل هذا البيان.
فإنّه لما بيّن
أحكام الصّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانا شافيا وافيا ـ قال
بعده : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.
أو حالا من المصدر
المحذوف ؛ كما هو مذهب سيبويه.
قال أبو مسلم : أراد بالآيات الفرائض الّتي بيّنها ؛ كما قال سبحانه (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها
وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) [النور : ١] ثم
فسّر الآيات بقوله : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) [النور : ٢] إلى
سائر ما بيّنه من أحكام الزّنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبيّن الله آياته للنّاس
ما شرعه لهم ؛ ليتّقوه ، فينجوا من عذاب الله.
قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً
مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)
قوله : (بَيْنَكُمْ :) في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : أن
يتعلّق ب «تأكلوا» بمعنى : لا تتناقلوها فيما بينكم بالأكل.
والثاني : أنه
متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من «أموالكم» أي : لا تأكلوها كائنة بينكم ، وقدّره أبو
البقاء أيضا بكائنة بينكم ، أو دائرة بينكم ؛ وهو في المعنى كقوله
: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ،
وفي تقدير «دائرة» ـ وهو كون مقيّد ـ نظر ، إلّا أن يقال : دلّت الحال عليه.
قوله : «بالباطل»
فيه وجهان :
أحدهما : تعلّقه
بالفعل ، أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل.
الثاني : أن يكون
حالا ؛ فيتعلّق بمحذوف ، ولكن في صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه
المال ؛ كأنّ المعنى : لا تأكلوها ملتبسة بالباطل.
والثاني : أن يكون
الضمير في «تأكلوا» كأنّ المعنى : لا تأكلوها مبطلين ، أي : ملتبسين بالباطل.
فصل في سبب نزول الآية
قيل : نزلت هذه
الآية في امرىء القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرميّ عند
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أرضا ، فقال : إنه غلبني عليها ، فقال النّبيّ ـ صلوات
الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ للحضرميّ : «ألك بيّنة»؟ قال : لا ؛ قال : «فلك
يمينه» فانطلق
__________________
ليحلف ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «أما إن يحلف على
ماله ، ليأكله ظلما ، ليلقينّ الله ، وهو عنه معرض» فأنزل الله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي : من غير الوجه الذي أباحه الله ، و «الباطل» في
اللغة الذّاهب الزائل ، يقال : بطل الشّيء بطولا وبطلانا ، فهو باطل ، وجمع الباطل
: بواطل ، وأباطيل جمع أبطولة ، يقال : بطل الأجير يبطل بطالة ، إذا تعطّل ،
وتبطّل : اتّبع اللهو ، وأبطل فلان ، إذا جاء بالباطل ، وقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) [فصلت : ٤٢] قال
قتادة : هو إبليس ؛ لا يزيد في القرآن ، ولا ينقص ، وقوله عزوجل (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤]
يعني : الشّرك ، والبطلة : السّحرة.
قوله : «لا تأكلوا»
ليس المراد منه الأكل خاصّة ؛ لأنّ غير الأكل من التصرّفات ؛ كالأكل في هذا الباب
، لكنّه لمّا كان المقصود الأعظم من المال ، إنّما هو الأكل ، وصار العرف فيمن
أنفق ماله ، أن يقال : أكله ؛ فلهذا عبّر عنه بالأكل.
فصل فيما يحل ويحرم من الأموال
قال الغزاليّ ـ رحمهالله تعالى ـ في كتاب «الإحياء» : المال إنّما يحرم إما لمعنى
في عينه ، أو لخلل في جهة اكتسابه :
فالقسم الأول :
الحرام لمعنى في عينه.
اعلم أنّ الأموال
: إمّا أن تكون من المعادن ، أو من النبات ، أو من الحيوانات.
أما المعادن وهي
أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منها ، إلّا من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى
السّمّ.
وأما النبات : فلا
يحرم منه إلّا ما يزيل الحياة ، أو الصّحّة ، أو العقل.
فمزيل الحياة :
كالسّموم ، ومزيل الصّحّة : الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل : الخمر ، والبنج
، وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات :
فتقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل.
وما يؤكل : إنّما
يحلّ ، إذا ذكّي ذكاته الشّرعيّة ، ثم إذا ذكّيت ، فلا تحلّ جميع أجزائها ، بل
يحرم منها الدّم ، والفرث.
القسم الثاني : ما
يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه ، فنقول :
أخذ المال : إما
أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره ؛ كالإرث ، والذي باختياره : إما أن يكون
مأخوذا بأمر مالكه ، وإمّا أن يكون قهرا ، أو بالتّراضي.
__________________
والمأخوذ قهرا :
إما أن يكون لسقوط عصمة المالك ؛ كالغنائم ، أو باستحقاق الأخذ ؛ كزكاة الممتنعين
، والنفقات الواجبة عليهم.
والمأخوذ تراضيا :
إما أن يؤخذ بعوض ، كالبيع ، والصّداق ، والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض ؛ كالهبة
، والوصيّة.
فحصل من هذا
التّقسيم أقسام ستة :
الأول : ما يؤخذ
من غير ملك ؛ كنيل المعادن ، وإحياء الموات ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء
من الأنهار ، والاحتشاش ؛ فهذا حلال ، لا يكون المأخوذ مختصّا بذي حرمة من
الآدميّين.
الثاني : المأخوذ
قهرا ممّن لا حرمة له ، وهو الفيء ، والغنيمة وسائر أموال الكفّار والمحاربين ،
فذلك حلال للمسلمين ، إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسّموه بين المستحقّين بالعدل ، ولم
يأخذوه ممّن كان له حرمة بأمان ، أو عهد.
الثالث : ما يؤخذ
قهرا باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه ؛ وذلك حلال ؛ إذا تمّ سبب
الاستحقاق ، وتمّ وصف المستحقّ ، واقتصر على قدر المستحقّ.
الرابع : ما يؤخذ
تراضيا بمعاوضة ، فهو حلال ، إذا روعي شرط العوضين ، وشرط العاقدين ، وشرط
اللّفظين ، أعني : الإيجاب والقبول عند من يشترطهما ، مع ما قيّد الشّرع به من اجتناب
الشّروط المفسدة.
الخامس : ما يؤخذ
بالرّضا من غير عوض ؛ كما في الهبة ، والوصيّة ، والصّدقة ، إذا روعي شرط المعقود
عليه ، وشرط العاقدين ، ولم يؤدّ إلى ضرر.
السادس : ما يحصل
بغير اختياره ؛ كالميراث ، وهو حلال ، إذا كان المورّث قد اكتسب المال من بعض الجهات
الخمس على وجه الحلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدّين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل
القسمة من الورثة ، وإخراج الزّكاة ، والحجّ والكفّارة الواجبة ، فهذه مجامع مداخل
الحلال ، وكلّ ما كان بخلاف ذلك كان حراما.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : المال : إما أن يكون له ، أو لغيره.
فإن كان لغيره :
كانت حرمته لأجل الوجوه السّتّة المذكورة ، وإن كان له ، فأكله بالحرام : إما بأن
يصرفه في شرب الخمر ، أو الزّنا ، أو اللّواط ، أو القمار ، أو الشّرب المحرّم ؛
وكلّ هذه الأقسام داخلة تحت قوله (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ، وَتُدْلُوا بِها).
قوله : (وَتُدْلُوا بِها) في «تدلوا» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مجزوم
عطفا على ما قبله ؛ ويؤيّده قراءة أبيّ : «ولا تدلوا» بإعادة لا الناهية.
والثاني : أنه
منصوب على الصّرف ، وقد تقدّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفيّين ، وأنه لم يثبت بدليل.
والثالث : أنه
منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش ، وجوّزه ابن عطيّة والزّمخشريّ ، ومكّيّ ، وأبو البقاء ، قال أبو حيّان : «وأمّا إعراب الأخفش ، وتجويز الزمخشريّ
ذلك هنا ، فتلك مسألة : «لا تأكل السّمك ، وتشرب اللّبن» قال النحويّون : إذا نصب
، كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحّ في الآية لوجهين :
أحدهما : أنّ
النهي عن الجمع لا يستلزم النّهي عن كلّ واحد منهما على انفراده ، والنّهي عن كلّ
واحد منهما يستلزم النّهي عن الجمع بينهما ؛ لأن الجمع بينهما حصول كلّ واحد منهما
، وكلّ واحد منهما منهيّ عنه ضرورة ؛ إلا ترى أنّ أكل المال بالباطل حرام ، سواء أفرد
أم جمع مع غيره من المحرّمات؟
والثاني ـ وهو
أقوى ـ : أنّ قوله «لتأكلوا» علّة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع ، لم تصحّ
العلّة له ؛ لأنّه مركّب من شيئين ، لا تصحّ العلّة أن تترتّب على وجودهما ، بل
إنما تترتّب على وجود أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام».
والإدلاء مأخوذ من
إدلاء الدّلو ، وهو إرساله إلى البئر ؛ للاستقاء ؛ يقال : «أدلى دلوه» إذا أرسلها
، ودلاها : إذا أخرجها ، ثم جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه يقال للمحتجّ
أدلى بحجّته ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده ؛ كإدلاء المستقي الدلو ؛ ليصل إلى
مطلوبه من الماء ، وفلان يدلي إلى الميّت بقرابة ، أو رحم ؛ إذا كان منتسبا ،
فيطلب الميراث بتلك النّسبة.
و «بها» متعلّق ب «تدلوا»
وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها
للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكّام.
والثاني : أنّها
للسبب ؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال ؛ إمّا لعدم بيّنة
عليها ، أو بكونها أمانة ؛ كمال الأيتام ، والضمير في «بها» : الظاهر أنه للأموال
، وقيل : إنه لشهادة الزّور ؛ لدلالة السّياق عليها ، وليس بشيء.
و «من أموال» في
محلّ نصب صفة ل «فريقا» أي : فريقا كائنا من أموال النّاس.
قوله : «بالإثم»
تحتمل هذه الباء : أن تكون للسّبب ، فتتعلّق بقوله : «لتأكلوا» وأن تكون للمصاحبة
، فتكون حالا من الفاعل في «لتأكلوا» وتتعلق بمحذوف أي : لتأكلوا ملتبسين بالإثم.
__________________
فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء
في تسمية الرّشوة بالإدلاء وجهان :
__________________
أحدهما : أن
الرّشوة تقرّب البعيد من الحاجة ؛ كما أنّ الدّلو المملوء يصل من
__________________
البعيد إلى القريب
بواسطة الرّشاء ، فالمقصود البعيد يصير قريبا ، بسبب الرّشوة.
والثاني : أن
الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبّت ؛ كمضيّ الدّلو في
الرّشاء ، ثم المفسّرون ذكروا وجوها ؟
أحدها : قال ابن
عبّاس ، والحسن ـ رضي الله عنهما ـ وقتادة : المراد منه الودائع ، وما لا يقوم
عليه البيّنة .
وثانيها : أن
المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحكم ، ليبقى لهم بعضه .
وثالثها : قال
الكلبيّ : المراد بالإدلاء إلى الحكّام : هو شهادة الزّور .
ورابعها : قال
الحسن : هو أن يحلف ؛ ليذهب حقّه ؛ كما تقدّم في سبب النّزول.
وخامسها : وهو أن
يدفع إلى الحاكم رشوة ، وهذا أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكلّ ؛
لأنها بأسرها أكل للمال بالباطل.
__________________
وقوله «فريقا» أي
: طائفة من أموال النّاس ، والمراد «بالإثم» الظلم ، وقال ابن عبّاس ـ رضي الله
عنهما ـ «الإثم» هنا هو اليمين الكاذبة .
فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال
قال القرطبيّ : اتّفق أهل السّنّة على أنّ من أخذ ما وقع عليه اسم مال ،
قلّ أو كثر ، فإنّه يفسّق بذلك ، وأنه يحرم عليه أخذه ؛ خلافا لبشر بن المعتمر ،
ومن تابعه من المعتزلة ؛ حيث قالوا : إنّ المكلّف لا يفسّق إلّا بأخذ مائتي درهم ،
ولا يفسّق بدون ذلك. وقال ابن الجبّائيّ : لا يفسّق إلّا بأخذ عشرة دراهم ، ولا
يفسّق بما دونها.
وقال أبو الهذيل :
يفسّق بأخذ خمسة دراهم ، فما فوقه ، ولا يفسّق بما دونها ، وهذا كلّه مردود
بالقرآن ، والسّنّة ، وباتفاق علماء الأمّة بقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّ
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .
وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «لتأكلوا» وذلك على
رأي من يجيز تعدّد الحال ، وأمّا من لا يجيز ذلك ، فيجعل «بالإثم» غير حال.
والمعنى : وأنتم
تعلمون أنّكم مبطلون ، ولا شكّ أن الإقدام على القبيح ، مع العلم بقبحه أقبح ،
وصاحبه بالتّوبيخ أحقّ ، وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : اختصم
رجلان إلى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، عالم بالخصومة ، وجاهل بها ، فقضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم للعالم ، فقال من قضي عليه : يا رسول الله ، والّذي لا إله
إلّا هو ، إنّي محقّ بحقّ فقال : إن شئت أعاوده ، فعاوده ، فقضى للعالم ، فقال
المقضيّ عليه مثل ما قال أوّلا ، ثمّ عاوده ثالثا ، فقال النّبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من اقتطع حقّ امرىء مسلم بخصومته ، فإنّما اقتطع قطعة
من النّار» فقال العالم المقضيّ له : يا رسول الله ، إنّ الحقّ حقّه ، فقال ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ : «من اقتطع بخصومته وجدله حقّ غيره ، فليتبوّأ مقعده من
النّار» .
__________________
وعن أمّ سلمة زوج
النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إنّما أنا بشر مثلكم ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ
بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له
بشيء من حقّ أخيه ، فلا يأخذنّه ؛ فإنّما أقطع له قطعة من النّار .
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٨٩)
نقل عن ابن عبّاس
ـ رضي الله عنهما ـ قال : ما كان قوم أقلّ سؤالا من أمّة محمّد ـ صلوات الله
وسلامه عليه ـ دائما وأبدا ـ سألوه عن أربعة عشر حرفا ، فأجيبوا .
قال ابن الخطيب : ثمانية منها في سورة البقرة أولها : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦].
وثانيها : هذه الآية ، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه
السّورة ، والتّاسع : في المائدة ، قوله تبارك وتعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤] والعاشر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١]
والحادي عشر : في بني إسرائيل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥]
والثاني عشر في الكهف (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف : ٨٣]
والثالث عشر في طه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ) [طه : ١٠٥]
والرابع عشر في النّازعات (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ) [النازعات : ٤٢].
ولهذه الأسئلة
ترتيب عجيب : آيتان :
الأول : منها في
شرح المبدأ ، وهو قول تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وهذا سؤال عن الذّات.
والثاني : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) وهذا سؤال عن حقيقة الخلّاقيّة ، والحكمة في جعل الهلال
على هذا الوجه.
والآيتان
الأخيرتان في شرح المعاد ، وهو قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [النازعات : ٤٢].
__________________
ونظير هذا أنّه
ورد في القرآن الكريم سورتان : أوّلهما (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فالأولى : هي السّورة الرابعة من النّصف الأوّل ؛ فإن
الأولى هي «الفاتحة» ثم «البقرة» ثم «آل عمران» ثم «النّساء» وهي مشتملة على شرح
المبدأ (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١]
والسّورة الثّانية : هي الرابعة أيضا من النّصف الثاني ؛ فإن أوله «مريم» ثم «طه»
ثم «الأنبياء» ثم «الحجّ» وهذه مشتملة على شرح الميعاد (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] فسبحان
من له في هذا القرآن أسرار خفيّة ، وحكم مطويّة [لا يعرفها إلّا الخواصّ من عبيده].
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلّة
روي عن معاذ بن
جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا
مثل الخيط ، ثمّ يزيد ؛ حتّى يمتلىء ويستوي ، ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ
، لا يكون على حالة واحدة ؛ كالشّمس ، فنزلت هذه الآية .
وروي أنّ معاذ بن
جبل قال : إنّ اليهود سألوه عن الأهلّة.
واعلم أنّ قوله
تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) ليس فيه بيان أنّهم عن أيّ شيء سألوا ، إلّا أنّ الجواب
كالدّالّ على موضع السّؤال ؛ لأنّه قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) يدلّ على أنّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيّر
حال الأهلّة في الزيادة والنّقصان.
قوله تعالى : (عَنِ الْأَهِلَّةِ :) متعلّق بالسؤال قبله ، يقال : «سأل به وعنه» بمعنى ،
والضمير في «يسألونك» ضمير جماعة.
فإن كانت القصّة
كما روي عن معاذ : أنّ اليهود سألوه ، فلا كلام ، وإن كانت القصّة أنّ السائل
اثنان ؛ كما روي أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم ، سألوا ، فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أن يقال
: إن أقلّ الجمع اثنان.
والثاني : من نسبة
الشيء إلى جمع ، وإن لم يصدر إلّا من واحد منهم أو اثنين ، وهو كثير في كلامهم.
فصل
قال الزّجّاج ـ رحمهالله ـ : «هلال» يجمع في أقلّ العدد على «أفعلة» نحو : مثال
__________________
وأمثلة ، وحمار
وأحمرة ، وفي أكثر العدد يجمع على «فعل» نحو حمر ، لأنهم كرهوا في التضعيف «فعل» ،
نحو هلل وخلل ، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.
والجمهور على
إظهار نون «عن» قبل لام «الأهلّة» وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن
قبلها ، وقرىء شاذّا : «علّ هلّة» ؛ وتوجيهها : أنه نقل حركة همزة «أهلّة»
إلى لام التّعريف ، وأدغم نون «عن» في لام التعريف ؛ لسقوط همزة الوصل في الدّرج ،
وفي ذلك اعتداد بحركة الهمزة المنقولة ، وهي لغة من يقول : «لحمر» من غير همزة
وصل.
وإنما جمع الهلال
، وإن كان مفردا ؛ اعتبارا باختلاف أزمانه ؛ قالوا من حيث كونه هلالا في شهر غير
كونه هلالا في آخر ، والهلال : هذا الكوكب المعروف.
واختلف اللّغويّون
: إلى متى يسمّى هلالا؟
فقال الجمهور :
يقال له : «هلال» لليلتين ، وقيل : لثلاث ، ثم يكون «قمرا» وقال أبو الهيثم : يقال له : «هلال» لليلتين من أوّل الشهر ، وليلتين من
آخره ، وما بينهما «قمر». وقال الأصمعيّ : يقال له «هلال» إلى أن يحجّر ، وتحجيره
: أن يستدير له ؛ كالخيط الرقيق» ، ويقال له : «بدر» من الثانية عشرة إلى الرابعة
عشرة ، وقيل : «يسمّى «هلالا» إلى أن يبهر ضوءه سواد اللّيل ، وذلك إنما يكون في
سبع ليال».
واعلم أنّ الشّهر
ينقسم عشرة أقسام ، كلّ قسم : ثلاث ليال ، ولكلّ ثلاث ليال اسم ، فالثلاثة الأولى
: تسمّى غرر ، والثانية نقل ، والثالثة تسع ، والرابعة عشر ، والخامسة بيض
والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشرة محاق.
والهلال : يكون
اسما لهذا الكوكب ، ويكون مصدرا ؛ يقال : هلّ الشّهر هلالا ، ويقال : أهلّ الهلال
، واستهلّ مبنيّا للمفعول وأهللناه واستهللناه ، وقيل : يقال : أهلّ واستهلّ
الهلال للفاعل ؛ وأنشد : [الوافر]
٩٦٤ ـ وشهر مستهلّ بعد شهر
|
|
وحول بعده حول
جديد
|
وسمّي هذا الكوكب
هلالا ؛ لارتفاع الأصوات عند رؤيته ، وقيل : لأنه من البيان ، والظهور ، أي :
لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه ، ولذلك يقال : تهلّل وجهه : ظهر فيه بشر وسرور ، وإن
لم يكن رفع صوته ، ومنه قول تأبّط شرّا : [الكامل]
__________________
٩٦٥ ـ وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه
|
|
برقت كبرق
العارض المتهلّل
|
وقد تقدم أنّ
الإهلال : الصّراخ عند قوله (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٢].
«وفعال» المضعّف
يطّرد في تكسيره «أفعلة» كأهلّة ، وشذّ فيه فعل ؛ كقوله : عنن ، وحجج ، في عنان ،
وحجاج.
وقدّر بعضهم مضافا
قبل «الأهلّة» أي : عن حكم اختلاف الأهلّة ، لأنّ السؤال عن ذاتها غير مفيد ؛
ولذلك أجيبوا بقوله : «قل : هي مواقيت للنّاس والحجّ» وقيل : إنهم لمّا سألوا عن
شيء قليل الجدوى ، أجيبوا بما فيه فائدة ، وعدل عن سؤالهم ، إذ لا فائدة فيه ،
وعلى هذا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.
و «للنّاس» متعلّق
بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «مواقيت» أي : مواقيت كائنة للنّاس. ولا يجوز تعلّقه بنفس المواقيت ؛ لما فيها من معنى النقل ؛
إذ لا معنى لذلك. والمواقيت : جمع ميقات ؛ رجعت الواو إلى أصلها ؛ إذ الأصل :
موقات من الوقت ، وإنّما قلبت ياء ؛ لكسر ما قبلها ، فلمّا زال موجبه في الجمع ،
ردّت واوا ، ولا ينصرف ؛ لأنه بزنة منتهى الجموع.
فإن قيل : لم صرفت
قوارير؟ قيل لأنّها فاصلة وقعت في رأس الآية الكريمة فنوّن ، ليجري على طريقة
الآيات كما تنوّن القوافي في مثل قوله : [الوافر]
٩٦٦ ـ أقلّي اللّوم ، عاذل ، والعتابن
|
|
..........
|
و «الميقات» :
منتهى الوقت ؛ قال تبارك وتعالى (فَتَمَّ مِيقاتُ
رَبِّهِ) [الأعراف :١٤٢]
والهلال : ميقات الشّهر ؛ أي : منتهاه ، ومواضع الإحرام : مواقيت الحجّ ؛ لأنّها
مواضع ينتهى إليها ، وقيل : الميقات : الوقت ؛ كالميعاد بمعنى الوعد.
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل : لم خصّ
المواقيت بالأهلّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟
__________________
فالجواب : أنّ
الأهلّة وأشهرها ، إنّما جعلت مواقيت للنّاس ، دون الشمس وأشهرها ؛ لأنّ الأشهر
الهلاليّة يعرفها كلّ أحد من الخاصّ والعام برؤية الهلال ومحاقه ؛ ولذلك علّقت
الأحكام الشّرعيّة بالشّهور العربيّة ، كصوم رمضان ، وأشهر الحجّ ، وهي شوّال ،
وذو القعدة وذو الحجّة. والأشهر المنذورة ، والكفّارات ، وحول الزّكاة وأشهر
الإجارات والمداينات والسلم ، وأشهر الإيلاء ، وأشهر العدد ، ومدّة الرّضاع وما
تتحمّله العاقلة في ثلاث سنين ، وغير ذلك ؛ بخلاف الشّمس ، وأشهرها ؛ فإن الشّمس
لا يتغيّر شكلها بزيادة ، ولا نقص ، ولا يعرف أوّله وآخره ، ولا تختلف رؤيتها ،
وكذلك أشهرها لا يعرف أوّلها وآخرها ، إلّا الخواصّ من الحسّاب ، وليس لها مواقيت
غير الفصول الأربعة ؛ وهي الصّيف ، والشّتاء ، والرّبيع ، والخريف ؛ ولذلك لا
يتعلّق به حكم شرعيّ ؛ فلذلك جعلت الأهلّة وأشهرها مواقيت للنّاس ، دون الشّمس.
فصل
اعلم أنّ الله
سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلّة ؛ فقال تعالى : (قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ) وذكر هذا المعنى في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] واعلم
أنّ تقدير الزمان بالشّهور فيه منافع دينية ، ودنيوية.
فالدينية :
كالصّوم ، والحجّ ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، والنذور المتعلّقة بالأوقات ،
وقضاء الصّوم في أيام لا تعلم إلّا بالأهلّة.
والدنيويّة :
كالمداينات ، والإجارات ، والمواعيد ، ولمدّة الحمل والرّضاع.
قوله : «والحجّ»
عطف على «النّاس» قالوا : تقديره : ومواقيت الحجّ ؛ فحذف الثاني ؛ اكتفاء بالأوّل.
وقيل : فيه إضمار
، تقديره : وللحجّ كقوله (وَإِنْ أَرَدْتُمْ
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) [البقرة : ٢٣٣]
أي : لأولادكم.
ولمّا كان الحجّ
من أعظم ما تطلب مواقيته وأشهره بالأهلّة ، أفرد بالذّكر.
قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧].
فإن قيل : الصّوم
أيضا يطلب هلاله ؛ قال عليه الصّلاة والسّلام ـ : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته»
.
__________________
قلنا : نعم ،
ولكنّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض ، والنّفساء ، والمسافر ، ويوقعون قضاءه في
غيره من الأشهر ؛ بخلاف الحجّ ؛ فإنّه إذا لم يصحّ فعله في وقته ، لا يقضى في غيره
من الأشهر.
واحتجّ مالك ـ رحمهالله تعالى ـ وأبو حنيفة بهذه الآية على أنّ الإحرام بالحجّ في
غير أشهر يصحّ ، فإن الله تعالى جعل الأهلّة كلها ظرفا لذلك.
قال القفّال :
إفراد الحجّ بالذّكر إنّما كان لبيان أن الحجّ مقصور على الأشهر التي عيّنها الله
تعالى لفرضه ؛ وأنه لا يجوز نقل الحجّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر ؛ كما كانت العرب
تفعل ذلك في النسيء ؛ فأفرد بالذّكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم ؛ إذ قوله تعالى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) ليس المعنى لذوات الناس ، بل لا بدّ من مضاف ، أي : مواقيت
لمقاصد النّاس المحتاج فيها للتأقيت ، ففي الحقيقة ليس معطوفا على الناس ، بل على
المضاف المحذوف الذي ناب «النّاس» منابه في الإعراب.
وقرأ الجمهور «الحج»
بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيّ وحفصا عن عاصم ، فقرءوا (حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧]
بالكسر ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنى واحد
، أو مختلفان؟ قال سيبويه : «هما مصدران» ؛ فالمفتوح كالرّدّ
والشّدّ ، والمكسور كالذّكر ، وقيل : بالفتح : مصدر ، وبالكسر : اسم.
فصل في الرد على أهل الظّاهر
قال القرطبيّ : هذه الآية الكريمة تردّ على أهل الظّاهر ، ومن وافقهم في
أنّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ؛ واحتجّوا بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ، عامل أهل خيبر
على شطر الزّرع والنّخل بما بدا لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ من غير توقيت ،
وقال : وهذا لا دليل فيه ؛ لأنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال لليهود : «أقرّكم ما
أقرّكم الله»
__________________
وهذا يدلّ على أنّ
ذلك مخصوص به ، وأنّه كان في ذلك ينتظر القضاء من ربّه ، وليس كذلك غيره.
قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) كقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا) [البقرة : ١٧٧]
وقد تقدم ؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع «البرّ» ؛ لأنّ زيادة الباء في الثاني
عيّنت كونه خبرا ، وقد تقدّم لنا أنّها قد تزاد في الاسم.
وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وورش «البيوت» و «بيوت» و «الغيوب» و «شيوخا»
بضمّ أوّلها ؛ وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر ؛ لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ،
ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم ؛ لأنّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين ؛
فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرة ، قاله أبو البقاء ـ رحمهالله ـ.
و «من» في قوله : (مِنْ ظُهُورِها) و (مِنْ أَبْوابِها) متعلقة بالإتيان ، ومعناها ابتداء الغاية ، والضمير في «ظهورها»
و «أبوابها» للبيوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة ؛ لأنه يجوز فيه ذلك.
وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] يعني : تقديره : برّ من آمن كما مضى ؛
ولمّا تقدّم جملتان خبريتان ، وهما : (وَلَيْسَ الْبِرُّ
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية
للثانية ، وهما : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ) وفي التصريح بالمفعول في قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) دلالة على أنه محذوف من اتّقى ، أي اتّقى الله.
فصل في سبب نزول الآية
قال الحسن ،
والأصمّ : كان الرّجل في الجاهليّة ، إذا همّ بشيء ، فتعسّر عليه مطلوبه ، لم يدخل
بيته من بابه ، بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا ، فنهاهم الله
؛ لأنّهم كانوا يفعلونه تطيّرا ، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة «ليس البر
أن تأتوا البيوت من ظهورها» على وجه التطيّر «ولكنّ البرّ من يتّقي الله ، ولم
يتّق غيره ، ولم يخف شيئا ممّا كان يتطيّر به ، بل توكّل على الله تعالى ، واتّقاه»
ثمّ قال : (وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : لتفوزوا بالخير في الدّين والدّنيا ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤]
وتحقيقه : أن من رجع خائبا يقال : ما أفلح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في
الآية هو أنّ الواجب عليكم أن تتّقوا الله ؛ حتّى تصيروا مفلحين ، وقد وردت
__________________
الأخبار بالنّهي
عن التّطيّر ، قال : «لا عدوى ولا طيرة» وقال : «من ردّه عن سفر تطيّر ، فقد أشرك» و «كان يكره
الطّيرة ، ويحبّ الفأل الحسن» وقد عاب الله قوما تطيّروا بموسى ومن معه ، فقالوا : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ
مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) [النمل : ٤٧].
وقال المفسّرون :
سبب نزول الآية الكريمة : كان الناس في أوّل الإسلام ، إذا أحرم الرّجل منهم ، فإن
كان من أهل المدن ، نقب نقبا في ظهر بيته يدخل منه ، ويخرج ، أو يتّخذ سلّما يصعد
منه إلى سطح داره ، ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط
، ولا يخرج ولا يدخل من الباب ؛ حتى يحلّ من إحرامه ، ويرون ذلك برّا إلا أن يكون
من الحمس ، وهم قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وخيثم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر
بن معاوية ، وهولاء سمّوا حمسا ؛ لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشّدّة.
قال العجّاج : [الرجز]
٩٦٧ ـ وكم قطعنا من قفاف حمس
وهؤلاء متى أحرموا
، لم يدخلوا بيوتهم ألبتّة ، ولا يستظلّون الوبر ، ولا يأكلون السمن ، والأقط ، ثم إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ، دخل ، وهو محرم ،
بيتا لبعض الأنصار ، فاتّبعه رجل محرم من الأنصار ، يقال له رفاعة ابن تابوت ،
فدخل على أثره من الباب ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام دائما وأبدا ـ : «تنحّ عنّي»
فقال : ولم ، يا رسول الله؟ قال : دخلت الباب ، وأنت محرم ، فقال : رأيتك دخلت ،
فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، شرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ،
__________________
وعظّم : «إنّي
أحمس» فقال الرّجل : «إن كنت أحمسيا ، فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ، ودينك» ،
فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة .
قال الزّهريّ : كان
ناس من الأنصار ، إذا أهلّوا بالعمرة ، لم يحل بينهم وبين السّماء شيء ، وكان
الرّجل يخرج مهلّا بالعمرة ، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته ؛ فيرجع ، ولا
يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السّماء ، فيفتح الجدار من
ورائه ، ثمّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ؛ حتى بلغنا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : أهلّ زمن
الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال
النبيّ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : «لم فعلت ذلك؟»
قال : «لأنّي رأيتك دخلت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : «إني أحمسي»
فقال الأنصاريّ : وأنا أحمسي ، وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة .
فصل في اختلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير
الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : ـ وهو قول
أكثر المفسرين ـ وهو حمل الآية الكريمة على ما قدّمناه في سبب النّزول ، ويصعب نظم
الآية الكريمة عليه ؛ فإنّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر ، فذكر الله
تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فأيّ تعلّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين
هذه القصّة ، فذكروا وجوها :
أحدها : أنّ الله
ـ تبارك وتعالى ـ لمّا ذكر أنّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلّة جعلها مواقيت
للنّاس والحجّ ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجّ ، لا جرم ذكرها
الله تعالى.
وثانيها : أنه
تعالى إنّما وصل قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) أن (تَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ ظُهُورِها) بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) ؛ لأنّه إنما اتّفق وقوع القصّتين في وقت واحد ، فنزلت
الآية الكريمة فيهما معا في وقت واحد ، ووصل أحد الأمرين بالآخر.
وثالثها : كأنّهم
لمّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلّة ، فقيل لهم : اتركوا السّؤال عن هذا
الأمر الذي لا يعنيكم ، وارجعوا إلى البحث ، عمّا هو أهمّ لكم ؛ فإنّكم تظنّون أنّ
إتيان البيوت من ظهورها برّ ؛ وليس الأمر كذلك.
الوجه الثاني من تفسير
الآية : أنّ قوله تعالى : «و (لَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
__________________
ظُهُورِها) مثل ضربه الله تعالى ، وليس المراد ظاهره وتفسيره أنّ
الطريق المستقيم هو الطريق المعلوم ، وهو أن يستدلّ بالمعلوم على المظنون ، ولا
ينعكس.
وإذا عرف هذا ،
فنقول : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا ، مختارا ، حكيما ، وثبت أنّ الحكيم لا يفعل
إلّا الصّواب البريء عن العبث والسّفه.
وإذا عرفنا ذلك ،
وعرفنا أنّ اختلاف أحوال القمر في النّور من فعله علمنا أنّ فيه حكمة ومصلحة ،
لأنّا علمنا أنّ الحكيم لا يفعل إلّا الحكمة ، واستدللنا بالمعلوم على المجهول ،
فأمّا أن يستدلّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنّ فاعله ليس بحكيم ، فهو استدلال
باطل ؛ لأنّه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عرف هذا ، فالمراد من
قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) يعني : أنّكم لمّا لم تعلموا الحكمة في اختلاف نور القمر ،
صرتم شاكّين في حكمة الخالق ، وقد أتيتم الشيء من غير طريق ه «إنّما البرّ ان
تأتوا البيوت من أبوابها» وتستدلّوا بالمعلوم المتيقّن ، وهو حكمة خالقها على هذا
المجهول ، وتقطعوا بأنّ فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها. فجعل إتيان البيوت
من ظهورها كناية عن العدول عن الطّريق الصحيح ؛ وإتيانها من أبوابها كناية عن
التّمسّك بالطّريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية ؛ فإنّ من أرشد غيره إلى
الصّواب ، يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه ، وفي ضدّه قالوا : ذهب إلى
الشيء من غير بابه ، قال تعالى (فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧]
وقال عزّ من قائل : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢] وهذا
تأويل المتكلّمين.
قال ابن الخطيب : ولا يصحّ تفسير هذه الآية ؛ لأنّ الوجه الأوّل يغيّر نسق
الترتيب ، وكلام الله تعالى منزّه عن ذلك.
الوجه الثالث :
قال أبو مسلم : إن المراد من هذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء ؛
فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرّمون الحلال ،
ويحلّون الحرام ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلا لمخالفة الواجب في الحجّ
وشهوره.
قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى
يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ
الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا
عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)
قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّق ب «قاتلوا» على أحد معنيين : إمّا أن تقدّر
__________________
مضافا ، أي : في
نصرة سبيل الله تعالى ، والمراد بالسبيل : دين الله ، لأنّ السبيل في الأصل هو
الطريق ، فتجوّز به عن الدّين ، لمّا كان طريقا إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنّ
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، ومجّد ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ سئل عمّن يقاتل
في سبيل الله تعالى ، فقال : من قاتل ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا يقاتل
رياء ولا سمعة ؛ وهو في سبيل الله .
وإمّا أن تضمّن «قاتلوا»
معنى بالغوا في القتال في نصرة دين الله تعالى ، «و (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) مفعول «قاتلوا».
فصل في سياق الآيات
اعلم ، أنّه لمّا
أمر بالتقوى في الآية المتقدّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدّ أقسام التقوى ،
وأشقها على النّفس ، وهو قتل أعداء الله تعالى.
قال الربيع بن أنس
: هذه أوّل آية نزلت في القتال ، وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ يقاتل من قاتله ،
ويكفّ عن قتال من لم يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥]
قاتلوا ، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخة بها.
وقيل : نسخ بقوله
: «اقتلوا المشركين» قريب من سبعين آية ، وعلى هذا ، فقوله : (وَلا تَعْتَدُوا) أي : لا تبدءوهم بالقتال ، وروي عن أبي بكر الصّدّيق ـ رضي
الله عنه ـ أنّ أوّل آية نزلت في القتال قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩]
والأوّل أكثر.
وقال ابن عبّاس
وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ هذه الآية محكمة غير منسوخة ؛ أمر
النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ بقتال المقاتلين .
__________________
ومعنى قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) أي : لا تقتلوا النّساء والصّبيان ، والشيخ الكبير
والرّهبان ، ولا من ألقى إليكم السّلم ؛ قاله ابن عبّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عبّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ؛ وذلك أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ خرج
مع أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ إلى العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة ، فنزلوا الحديبية
، وهو موضع كثير الشّجر ، والماء ، فصدّهم المشركون عن دخول البيت الحرام ، فأقام
شهرا ، لا يقدر على ذلك ، ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ، ويرجع إليهم في العام
الثّاني ، ويتركون له مكّة ثلاث أيام ، حتّى يطوف ، وينحر الهدي ، ويفعل ما يشاء ،
فرضي الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ بذلك ، فلمّا كان العام
المقبل ، تجهّز رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ وأصحابه لعمرة
القضاء ، وخافوا ألّا تفي قريش بما قالوا ، وأن يصدّوهم عن البيت ، وكره أصحاب
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قتالهم في الشهر الحرام ، وفي الحرم ، فأنزل الله تعالى
: (وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) يعنى محرمين (الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ) يعني قريشا (وَلا تَعْتَدُوا) فتبدءوا بالقتال في الحرم محرمين .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله «الذين يقاتلونكم»
اختلفوا في المراد
بقوله : (الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ) : إمّا على وجه الدّفع عن الحجّ ، أو على وجه المقاتلة
ابتداء.
وقيل : قاتلوا كلّ
من فيه أهلية للقتال سوى جنح للسّلم ؛ قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١].
فإن قيل : هب أنه
لا نسخ في الآية ؛ فما السّبب في أنّ الله تبارك وتعالى أمر أوّلا بقتال من يقاتل
، ثمّ في آخر الأمر ، أذن في قتالهم ، سواء قاتلوا ، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب : أنّ في
أوّل الأمر كان المسلمون قليلين ، وكانت المصلحة تقتضي استعمال الرّفق ، والمجاملة
، فلمّا قوي الإسلام ، وكثر الجمع ، وأقام من أقام منهم على الشّرك بعد ظهور
المعجزات ، وتكرّرها عليهم ، وحصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى
بقتالهم على الإطلاق.
قوله تعالى : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] «حيث»
منصوب بقوله : «اقتلوهم»
__________________
و «ثقفتموهم» في
محلّ خفض بالظرف ، و «ثقفتموهم» أي : ظفرتم بهم ، ومنه : «رجل ثقيف» : أي سريع
الأخذ لأقرانه ، قال [الوافر]
٩٦٨ ـ فإمّا تثقفوني فاقتلوني
|
|
فمن أثقف فليس
إلى خلود
|
وثقف الشّيء ثقافة
، إذا حذقه ، ومنه الثّقافة بالسّيف ، وثقفت الشّيء قوّمته ، ومنه الرماح المثقّفة
؛ قال القائل : [الطويل]
٩٦٩ ـ ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا
|
|
وقد نهلت منّا
المثقّفة السّمر
|
ويقال : ثقف يثقف
ثقفا وثقفا ورجل ثقف لقف ، إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور.
قال القرطبي : وفي هذا دليل على قتل الأسير.
قوله : «من حيث»
متعلّق بما قبله ، وقد تصرف في «حيث» بجرّها ب «من» كما جرّت ب «الياء» و «في»
وبإضافة «لدى» إليها ، و «أخرجوكم» في محلّ جرّ بإضافتها إليه ، ولم يذكر «للفتنة»
ولا «للقتل» ـ وهما مصدران ـ فاعلا ولا مفعولا ؛ إذ المراد إذا وجد هذان ، من أيّ
شخص كان بأيّ شخص كان ، وقد تقدّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطاب
للنّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ وأصحابه يعني
اقتلوهم ، حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكّنتم من قتلهم ، حيث كانوا في الحلّ ، أو الحرم
، وفي الشّهر الحرام «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم» وذلك أنّهم أخرجوا المسلمين من
مكّة ؛ فقال : أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم ، ويحتمل أنّه أراد : كما
أخرجوكم من موضعكم الّذي كنتم فيه وهو «مكّة» ويحتمل أنه أراد كما أخرجوكم من
منازلكم ، ففي الآية الأولى : أمر بقتالهم ؛ بشرط إقدامهم على المقاتلة ، وفي هذه
الآية : زاد في التكليف ، وأمر بقتالهم ، سواء قاتلوا ، أو لم يقاتلوا ، واستثنى [عنه]
المقاتلة عند المسجد الحرام ، ونقل عن مقاتل أنه قال : إنّ قوله «وقاتلوا في سبيل الله الّذين
يقاتلونكم» منسوخ بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣]
قال ابن الخطيب :
__________________
وهذا ضعيف ، فإنّ
الآية الأولى دالّة على الأمر بقتال من يقاتلنا ، وهذا الحكم لم ينسخ ، وأمّا
أنّها دالّة على المنع من قتال من لم يقاتل ، فهذا غير مسلّم ، مع ما نقل عن
الرّبيع بن أنس. وأما قوله : إنّ هذه الآية ، هي قوله تبارك وتعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) منسوخة بقوله تعالى (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهو خطأ أيضا ؛ لأنّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ،
وهذا الحكم غير منسوخ.
قوله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) فيه وجوه :
أحدها : نقل ابن عبّاس
ـ رضي الله عنهما ـ أنّ الفتنة هي الكفر .
وروي أنّ بعض
الصحابة قتل رجلا من الكفّار في الشّهر الحرام ، فعابه المؤمنون على ذلك ، فنزلت
هذه الآية الكريمة ، والمعنى : أنّ كفرهم أشدّ من قتلهم في الحرم والإحرام.
وثانيها : أن
الفتنة أصلها عرض الذّهب على النّار ؛ لاستخلاصه من الغشّ ، ثمّ صار اسما لكلّ ما
كان سببا للامتحان ؛ تشبيها بهذا الأصل ، والمعنى : أنّ إقدام الكفّار على الكفر ،
وعلى تخويف المؤمنين ، وإلجائهم إلى ترك الأهل ، والوطن ؛ هربا من إضلال الكفّار ،
فإنّ هذه الفتنة الّتي جعلت للمؤمنين أشدّ من القتل الذي يقتضي التّخليص من غموم
الدّنيا وآفاتها.
وثالثها : أنّ
الفتنة هي العذاب الدّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ؛ فكأنه قيل : اقتلوهم حيث
ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من العذاب ما هو أشدّ منه وإطلاق اسم الفتنة على
العذاب جائز ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السّبب على المسبّب ، قال تبارك وتعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣]
ثم قال عقيبه (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [الذاريات : ١٤]
أي عذابكم (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] أي
عذّبوهم وقال (فَإِذا أُوذِيَ فِي
اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠]
أي : عذابهم كعذابه.
ورابعها : أنّ
المراد : «فتنتهم إيّاكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إيّاهم في الحرم».
وخامسها : أن
الردّة أشدّ من أن يقتلوا بحقّ ، والمعنى : أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، ولو قتلتم ،
فإنّكم إن قتلتم ، وأنتم على الحقّ ، كان ذلك أسهل عليكم من أن ترتدّوا عن دينكم ،
أو تتكاسلوا عن طاعة ربّكم.
__________________
قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة : «ولا تقاتلوهم حتّى
يقاتلوكم ، فإن قاتلوكم» بالألف من القتال ، وقرأها حمزة والكسائيّ من غير ألف من القتل وهو في المصحف بغير
ألف ، وإنما كتبت كذلك ؛ للإيجاز ؛ كما كتبوا الرّحمن بغير ألف ، وما أشبه ذلك من
حروف المدّ واللّين.
فأما قراءة
الجمهور فواضحة ؛ لأنها نهي عن مقدّمات القتل ؛ فدلالتها على النّهي عن القتل
بطريق الأولى ، وأمّا قراءة الأخوين ، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون
المجاز في الفعل ، أي : ولا تقتلوا بعضهم ؛ حتّى يقتلوا بعضكم ؛ ومنه (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) [آل عمران : ١٤٦]
ثم قال «فما وهنوا» أي ما وهن من بقي منهم ، وقال الشاعر : [المتقارب]
٩٧٠ ـ فإن تقتلونا نقتّلكم
|
|
وإن تقصدوا لدم
نقصد
|
أي : فإن تقتلوا
بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك ، إذا صار الرجل مقتولا ، فبعد
ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟!
قال حمزة : إنّ
العرب ، إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا ، وإذا ضرب منهم رجل ، قالوا ضربنا وأجمعوا على «فاقتلوهم» أنّه من القتل ، وفيه بشارة بأنّهم
، إذا فعلوا ذلك ، فإنهم متمكّنون منهم بحيث إنكم أمرتم بقتلهم ، لا بقتالهم ؛
لنصرتكم عليهم ، وخذلانهم ؛ وهي تؤيّد قراءة الأخوين ، ويؤيّد قراءة الجمهور : «وقاتلوا
في سبيل الله».
و «عند» منصوب
بالفعل قبله ، و «حتّى» متعلقة به أيضا غاية له ، بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب
بإضمار «أن» والضمير في «فيه» يعود على «عند» إذ ضمير الظرف لا يتعدّى إليه الفعل
إلّا ب «في» ؛ لأنّ الضمير يردّ الأشياء إلى أصولها ، وأصل الظرف على إضمار «في»
اللهم إلا أن يتوسّع في الظرف ، فيتعدّى الفعل إلى ضميره من غير «في» ولا يقال : «الظّرف
غير المتصرّف لا يتوسّع فيه» ، فيتعدّى إليه الفعل ، فضميره بطريق الأولى ؛ لأنّ
ضمير الظّرف ليس حكمه حكم ظاهره ؛ ألا ترى أنّ ضميره يجرّ ب «في» وإن كان ظاهره لا
يجوز ذلك فيه ، ولا بدّ من حذف في قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ) أي : فإن قاتلوكم فيه ، فاقتلوهم فيه ، فحذف لدلالة
السّياق عليه.
__________________
فصل
وهذا بيان بشرط
كيفيّة قتالهم في هذه البقعة خاصّة ، وكان من قبل شرطا في كلّ قتال وفي الأشهر
الحرم ؛ وقد تمسّك به الحنفيّة في قتل الملتجىء إلى الحرم ، وقالوا : لمّا لم يجز
القتل عند المسجد الحرام ؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام
بسبب الذّنب الذي هو دون الكفر أولى.
قوله : (كَذلِكَ جَزاءُ) فيه وجهان :
أحدهما : أنّ
الكافر في محلّ رفع بالابتداء ، و «جزاء الكافرين» خبره ، أي : مثل ذلك الجزاء
جزاؤهم ، وهذا عند من يرى أن الكاف اسم مطلقا ، وهو مذهب الأخفش.
والثاني : أن يكون
«كذلك» خبرا مقدّما ، و «جزاء» مبتدأ مؤخّرا ، والمعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك
الجزاء ، وهو القتل ، و «جزاء» مصدر مضاف لمفعوله ، أي : جزاء الله الكافرين ،
وأجاز أبو البقاء أن يكون «الكافرين» مرفوع المحلّ على أن المصدر مقدّر من
فعل مبنيّ للمفعول ، تقديره : كذلك يجزى الكافرون ، وقد تقدّم لنا الخلاف في ذلك.
قوله تعالى (فَإِنِ انْتَهَوْا ، فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لهم. ومتعلق الانتهاء محذوف أي : عن القتال ، و «انتهى»
«افتعل» من النّهي ، وأصل «انتهوا» «انتهيوا» فاستثقلت الضّمة على الياء ؛ فحذفت
فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، أو تقول : تحرّكت الياء ،
وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت ألفا ؛ فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدلّ
عليها.
فصل في اختلافهم في متعلّق الانتهاء
هذا البيان لبقاء
هذا الشّرط في قتالهم قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ فإن انتهوا عن القتال ؛ لأنّ المقصود من الإذن في القتال منع الكفّار عن
المقاتلة.
وقال الحسن : فإن
انتهوا عن الشّرك ؛ لأنّ الكافر لا ينال المغفرة والرّحمة بترك القتال ، بل
بترك الكفر.
فصل في دلالة الآية على قبول التّوبة من كلّ ذنب
دلّت الآية على
أنّ التوبة من كلّ ذنب مقبولة ومن قال : إنّ التوبة عن قتل العمد غير مقبولة ، فقد
أخطأ ؛ لأنّ الشرك أشدّ من القتل ، فإذا قبل الله توبة الكافر ، فقبول توبة
__________________
القاتل أولى ،
وأيضا فقد يكون الكافر قاتلا ، فقد انضمّ إلى كفره قتل العمد والآية دلّت على قبول
توبة كلّ كافر ، فدلّ على أنّ توبته ، إذا كان قاتلا مقبولة ؛ قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].
قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) يجوز في «حتّى» أن تكون بمعنى «كي» وهو الظاهر ، وأن تكون
بمعنى «إلى» و «أن» مضمرة بعدها في الحالين ، و «تكون» هنا تامة ، و «فتنة» فاعل
بها ، وأمّا (وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) فيجوز أن تكون تامّة أيضا ، وهو الظاهر ، ويتعلّق «لله»
بها ، وأن تكون ناقصة و «لله» الخبر ؛ فيتعلّق بمحذوف أي : كائنا لله تعالى.
فصل في المراد بالفتنة
قيل : المراد
بالفتنة الشّرك والكفر ؛ قالوا : كانت فتنتهم أنّهم كانوا يرهبون أصحاب النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ بمكة ، حتى ذهبوا
إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء ؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضهم من
إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ، ويرجعوا كفّارا ، فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ
هذه الآية ، والمعنى : قاتلوهم حتّى تظهروا عليهم ؛ فلا يفتنوكم عن
دينكم ، ولا تقعوا في الشّرك (وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) أي : الطّاعة ، والعبادة لله وحده ؛ لا يعبد شيء دونه
ونظيره قوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] قال
نافع : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزّبير فقال ما يمنعك أن تخرج؟ فقال :
يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي ؛ ألّا تسمع ما ذكر الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] قال
: يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبّ لي من أن أعتبر بالآية
الأخرى الّتي يقول الله ـ عزوجل ـ فيها (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] قال
ألم يقل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ قال : قد فعلنا على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ إذ كان الإسلام
قليلا ، وكان الرّجل يفتن عن دينه ، إما يقتلونه ، أو يعذّبونه ؛ حتى كثر الإسلام
، فلن تكن فتنة وكان الدّين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم ، حتّى تكون فتنة ،
ويكون الدّين لغير الله .
وعن سعيد بن جبير
، قال : قال رجل لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان
محمّد صلوات الله وسلامه عليه يقاتل المشركين وكان الدّخول عليهم فتنة ، وليس
قتالكم كقتالهم على الملك.
__________________
فصل في معاني الفتنة في القرآن
قال أبو العبّاس
المقري : ورد لفظ الفتنة في القرآن بإزاء سبعة معان :
الأول : الفتنة :
الكفر ؛ قال تعالى (فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : ٧]
يعني : طلب الكفر.
الثاني : الفتنة
الصرف قال تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ) [المائدة : ٤٩].
الثالث : الفتنة :
البلاء ؛ قال تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [العنكبوت : ٣].
الرابع : الفتنة :
الإحراق ؛ قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) [البروج : ١٠] ،
أي : حرّقوهم ؛ ومثله (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣].
الخامس : الفتنة
الاعتذار قال تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣].
السادس : الفتنة :
القتل ، قال تعالى (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] ،
أي : يقتلوكم.
السابع : الفتنة :
العذاب ؛ قال تعالى (جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠].
قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) ، أي : عن الكفر وأسلموا ، «فلا عدوان» أي : فلا سبيل (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) قاله ابن عبّاس ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص : ٢٨] ، أي
: فلا سبيل عليّ ، وقال أهل المعاني العدوان : الظّلم ، أي : فإن
أسلموا ، فلا نهب ، ولا أسر ، ولا قتل إلّا على الظالمين الّذين بقوا على الشّرك ؛
قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]
وسمّى قتل الكفّار عدوانا ، وهو في نفسه حقّ ، لأنّه جزاء عن العدوان ؛ على طريق
المجاز ، والمقابلة ؛ لقوله (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ
مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩].
وقيل : معنى الآية
الكريمة إن تعرّضتم لهم بعد انتهائهم عن الشّرك والقتال ، كنتم أنتم ظالمين ،
فنسلّط عليكم من يعتدي عليكم.
قوله : إلّا على
الظّالمين» في محلّ رفع خبر «لا» التبرئة ، ويجوز أن يكون خبرها محذوفا ، تقديره :
لا عدوان على أحد ؛ فيكون (إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ) بدلا على إعادة العامل ، وهذا الجملة ، وإن كانت بصورة
النّفي ، فهي في معنى النّهي ؛ لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى والعرب إذا بالغت في
النهي عن الشيء ، أبرزته في صورة النفي المحض ؛ كأنه ينبغي ألّا يوجد البتة ؛
فدلّوا على هذا المعنى بما ذكرت لك ، وعكسه في الإثبات ،
__________________
إذا بالغوا في
الأمر بالشّيء ، أبرزوه في صورة الخبر ؛ نحو : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
فصل قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)
قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ) مبتدأ ، خبره الجارّ بعده ، ولا بدّ من حذف مضاف ، تقديره
: انتهاك حرمة الشّهر الحرام بانتهاك حرمة الشهر ، والألف واللام في الشّهر الأوّل
والثّاني للعهد ؛ لأنّهما معلومان عند المخاطبين ؛ فإنّ الأول ذو القعدة من سنة
سبع ، والثاني من سنة ستّ.
وقرىء . «والحرمات» بسكون الراء ، ويعزى للحسن وقد تقدّم عند قوله
(فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] أنّ
جمع «فعلة» بشروطها يجوز فيه ثلاثة أوجه : هذان الاثنان ، وفتح العين.
فصل في بيان سبب النّزول
في سبب نزول الآية
ثلاثة أوجه :
أحدها : قال ابن
عبّاس ومجاهد ، والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ خرج عام
الحديبية للعمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة ، فصدّه أهل مكة عن ذلك
ثمّ صالحوه أن ينصرف ، ويعود في العام القابل ؛ ويتركوا له «مكّة» ثلاثة أيّام ؛
حتّى يقضي عمرته فانصرف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ عامه ذلك ، ورجع
في العام القابل في ذي القعدة سنة سبع ، ودخل مكّة ، واعتمر ؛ فأنزل الله تعالى
هذه الآية الكريمة يعني إنّك دخلت مكّة في الشهر الحرام ، والقوم كانوا صدّوك في
السنة الماضية في هذا الشّهر ؛ فهذا الشهر الحرام ؛ بذلك الشهر الحرام .
وثانيها : قال
الحسن : إنّ الكفّار سمعوا أنّ الله تعالى نهى الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن
المقاتلة في الأشهر الحرم ؛ وهو قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧]
فأرادوا مقاتلته ، وظنّوا أنّه لا يقاتلهم في الأشهر الحرم ؛ فأنزل الله
__________________
تعالى هذه الآية ؛
لبيان الحكم في هذه الواقعة فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي من استحلّ قتالكم من المشركين من الشّهر الحرام ،
فاستحلّوه أنتم فيه .
وثالثها : قال بعض
المتكلّمين : هو أنّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ،
فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام من جانبكم ؛
والحاصل في هذه الوجوه : أنّ حرمة الشّهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر ،
والأفعال القبيحة ، فكيف جعلوه سببا في منع القتال على الكفر والفساد؟!
قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) الحرمات : جمع حرمة ؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ،
والحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها ؛ لأنّه أراد حرمة الشّهر الحرام والبلد
الحرام ، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المساواة والمماثلة.
والمعنى على الوجه
الأوّل في النّزول أنهم لمّا أضاعوا هذه الحرمات في سنة ستّ ، فقد قضيتموها على
زعمكم في سنة سبع.
وأما على الثّاني
: فالمراد إن أقدموا على مقاتلتكم في الشّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضا فيه.
قال الزّجّاج : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن
ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا
القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ ؛ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) وبما بعدها ؛ وهو قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).
وأما على القول
الثالث : فقوله (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) يعني : حرمة كلّ واحد من الشهرين كحرمة الآخر ، وهما مثلان
، والقصاص هو المثل ، ولمّا لم يمنعكم حرمة الشّهر من الكفر ، والفتنة ، والقتال ،
فكيف يمنعنا عن القتال ؛ فعلى هذا ، فقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) متّصل بما قبله.
وقيل : هو مقطوع
منه ، وهو ابتداء أمر كان في أوّل الإسلام : أن من انتهك حرمتك ، نلت منه بمثل ما
اعتدى عليك ، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة : ما تناولت الآية الكريمة من التعدّي بين أمة محمّد
ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والجنايات ونحوها ـ لم ينسخ ، وجاز لمن تعدّي عليه من
مال ، أو جرح أن يتعدّى بمثل ما تعدّي به عليه.
__________________
وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) يجوز في «من» وجهان :
أحدهما : أن تكون
شرطية ، وهو الظاهر ؛ فتكون الفاء جوابا.
والثاني : أن تكون
موصولة ؛ فتكون الفاء زائدة في الخبر ، وقد تقدّم نظيره.
قوله : (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى) في الباء قولان :
أحدهما : أن تكون
غير زائدة ، بل تكون متعلّقة ب «اعتدوا» والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه.
والثاني : أنها
زائدة ، أي : مثل ما اعتدى به ؛ فتكون : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : اعتداء
مماثلا لاعتدائه ، وإمّا حالا من المصدر المحذوف ، كما هو مذهب سيبويه ـ رحمهالله تعالى ـ أي : فاعتدوا الاعتداء مشبها اعتداءه ، و «ما»
يجوز أن تكون مصدرية ، فلا تفتقر إلى عائد ، وأن تكون موصولة ؛ فيكون العائد
محذوفا ، أي : بمثل ما اعتدى عليكم به ، وجاز حذفه ؛ لأنّ المضاف إلى الموصول قد
جرّ بحرف قد جرّ به العائد ، واتّحد المتعلّقان وقد تقدّم معنى تسمية المجازاة
بالاعتداء.
فصل في اختلافهم في تسمية المكافأة عدوانا
قال القرطبيّ : اختلف النّاس في المكافأة ، هل تسمّى عدوانا ، أم لا؟
فمن قال : ليس في القرآن مجاز ، قال : المقابلة عدوان ، وهو عدوان مباح ، كما أنّ
المجاز في كلام العرب كذب مباح ؛ لأن قوله : [الطويل]
٩٧١ ـ فقالت له العينان سمعا وطاعة
|
|
..........
|
وقوله : [الرجز]
٩٧٢ ـ إمتلأ الحوض وقال قطني
وقوله : [الرجز]
٩٧٣ ـ شكا إليّ جملي طول السّرى
__________________
ومعلوم أنّ هذه
الأشياء لا تنطق ، وحدّ الكذب الإخبار عن الشّيء بخلاف ما هو به.
ومن قال : في
القرآن مجاز : سمّى هذا عدوانا مجازا على طريق المقابلة كقول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
٩٧٤ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل
الجاهلينا
|
وقول الآخر : [الطويل]
٩٧٥ ـ ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
|
|
ولي فرس للجهل
بالجهل مسرج
|
ومن رام تقويمي
فإنّي مقوّم
|
|
ومن رام تعويجي
فإنّي معوّج
|
يريد أكافىء
الجاهل والمعوجّ لا أنّه امتدح بالجهل والاعوجاج.
قوله «واتّقوا» قد
تقدّم معنى «التّقوى».
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ) ، أي : بالمعونة ، والنّصرة ، والحفظ ، وهذا من أقوى
الدّلائل على أنّه ليس بجسم ، ولا في مكان ؛ إذ لو كان جسما ، لكان في مكان معيّن
؛ فكان إمّا أن يكون مع أحد منهم ، ولم يكن مع الآخر ، أو يكون مع كلّ واحد من
المتّقين جزء من أجزائه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥)
اعلم أنّ تعلّق
هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين :
الأول : أنّه
تعالى ، لمّا أمره بالقتال وهو لا يتيسّر إلّا بآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال
، وربّما كان ذو المال عاجزا عن القتال ، وكان الشّجاع القادر على القتال عديم
المال فقيرا ، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الّذين
يقدرون على القتال .
والثاني : يروى
أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) قال رجل من الحاضرين : والله ، يا رسول الله ما لنا زاد ،
وليس أحد يطعمنا ؛ فأمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ أن ينفقوا في سبيل الله ،
وأن يتصدّقوا وألّا يكفّوا أيديهم عن الصّدقة ، ولو بشقّ تمرة تحمل في سبيل الله
فيهلكوا ، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ .
__________________
واعلم : أنّ
الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح ؛ فلذلك لا يقال في المضيّع : إنّه منفق ،
وإذا قيّد الإنفاق بذكر «سبيل الله» ، فالمراد به في طريق الدّين ؛ لأنّ السّبيل
هو الطريق ، وسبيل الله هو دينه ، فكلّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينه ،
فهو داخل في الآية الكريمة ، سواء كان في حجّ ، أو عمرة ، أو كان جهادا بالنّفس أو
تجهيزا للغير أو كان إنفاقا في صلة الرّحم ، أو في الصّدقات ، أو على القتال ، أو
في الزّكاة ، أو الكفّارة ، أو في عمارة السّبيل ، وغير ذلك ، إلّا أنّ الأقرب في
هذه الآية الكريمة ذكر الجهاد ، فالمراد هاهنا الإنفاق في الجهاد ؛ لأنّ هذه الآية
الكريمة ، إنّما نزلت وقت ذهاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ لعمرة القضاء ، وكانت تلك
العمرة لا بدّ من أن تفضي إلى القتال ، إن منعهم المشركون ، فكانت عمرة وجهادا ،
فاجتمع فيها المعنيان ؛ فلا جرم ، قال تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ).
قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ).
في هذه الباء ثلاثة
أوجه :
أحدها : أنها
زائدة في المفعول به ؛ لأن «ألقى» يتعدّى بنفسه ؛ قال تبارك وتعالى (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) [الشعراء : ٤٥] ،
وقال القائل : [الكامل]
٩٧٦ ـ حتّى إذا ألقت يدا في كافر
|
|
وأجنّ عورات
الثّغور ظلامها
|
فزيدت الباء في
المفعول ، كما زيدت في قوله : [الطويل]
٩٧٧ ـ وألقى بكفّيه الفتى استكانة
|
|
من الجوع وهنا
ما يمرّ وما يحلو
|
وهذا قول أبي
عبيدة ، وإليه ميل الزمخشري ، قال : «والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي لا
تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم» ، إلا أنه مردود بأنّ زيادة الباء في المفعول به
لا تنقاس ، إنما جاءت في الضّرورة ؛ كقوله : [البسيط]
٩٧٨ ـ ..........
|
|
سود المحاجر لا
يقرأن بالسّور
|
الثاني : أنها
متعلقة بالفعل غير زائدة ، والمفعول محذوف ، تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ،
ويكون معناها السّبب ؛ كقولك : لا تفسد حالك برأيك.
الثالث : أن يضمّن
«ألقى» معنى ما يتعدّى بالباء ؛ فيعدّى تعديته ، فيكون المفعول به
__________________
في الحقيقة هو
المجرور بالباء ، تقديره : ولا تفضوا بأيديكم إلى التّهلكة ؛ كقولك : أفضيت بجنبي
إلى الأرض ، أي : طرحته على الأرض ، ويكون قد عبّر بالأيدي عن الأنفس كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠]
لأنّ بها البطش والحركة ، وظاهر كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرّد : أن «ألقى» يتعدّى بالباء أصلا ك «مررت
بزيد» ، والأولى حمله على ما ذكرناه.
والهمزة في «ألقى»
للجعل على صفة ، نحو : أطردته ، أي : جعلته طريدا ، الهمزة فيه : ليست للتعدية ؛
لأنّ الفعل متعدّ قبلها ، فمعنى «ألقيت الشيء» : جعلته لقى ، فهو «فعل» بمعنى «مفعول»
؛ كما أن الطريد «فعيل» بمعنى «مفعول» ؛ كأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى
التّهلكة. والتّهلكة : مصدر بمعنى «الهلاك» ، يقال : هلك يهلك هلكا ، وهلاكا ،
وهلكاء ، على وزن فعلاء ، ومهلكا ومهلكة ، مثلّث العين ، وتهلكة ، وقال الزمخشري :
«ويجوز أن يقال : أصلها التّهلكة ؛ بكسر اللام ، كالتّجربة ؛ على أنه مصدر من هلّك
ـ يعني بتشديد اللام ـ فأبدلت الكسرة ضمّة ؛ كالجوار والجوار» ، وردّ أبو حيّان
بأنّ فيه حملا على شاذّ ، ودعوى إبدال ، لا دليل عليها ؛ وذلك أنه أنه جعله تفعلة
بالكسر ، مصدر «فعّل» بالتشديد ، ومصدره ، إذا كان صحيحا غير مهموز على «تفعيل» ، و
«تفعلة» فيه شاذّ ، وأمّا تنظيره له بالجوار والجوار ، فليس بشيء ، لأنّ الضمّ فيه
شاذّ ، فالأولى أن يقال : إنّ الضّمّ أصل غير مبدل من كسر ، وقد حكى سيبويه ممّا جاء من المصادر على ذلك التّضرّة والتّسرّة.
قال ابن عطيّة : «وقرأ
الخليل التّهلكة ، بكسر اللام ، وهي تفعلة ، من هلّك بتشديد اللام» وهذا
يقوّي قول الزمخشري.
وزعم ثعلب
والجارزنجي أنّ «تهلكة» لا نظير لها ، وليس كذلك. قال أبو علي : حكى سيبويه
التّضرّة والتّسرّة قال : «ولا نعلمه جاء صفة» .
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله تعالى ـ إنّي لأتعجّب كثيرا من تكلّفات هؤلاء النّحاة في
أمثال هذه المواضع ، وذلك أنّهم وجدوا نقلا عن أعرابيّ مجهول يكون حجتّهم فيه ،
ففرحوا به ، واتخذوه حجّة قويّة ، ودليلا قاطعا ، وقالوا : قد نقل هذا عن العرب ؛
فكيف ، وقد ورد هذا في كلام الله تعالى المشهور له من كلّ واحد من الموافق والمخالف
__________________
بالفصاحة ، وأعجز
البلغاء والفصحاء ، وتحدّاه م «بأن يأتوا بمثله» و (بِعَشْرِ سُوَرٍ) و (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ])(وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] وقال
: (قُلْ فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقال
في موضع آخر : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] كيف
لا يدلّ ذلك على صحّة هذه اللّفظة ، وفصاحتها ، واستقامتها.
والمشهور : أنه لا
فرق بين التّهلكة ، والهلاك ، وقال قوم : التّهلكة : ما أمكن التحرّز منه ،
والهلاك : ما لا يمكن التحرّز منه ، وقيل : هي نفس الشّيء المهلك ، وقيل : هي ما
تضرّ عاقبته.
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير
الإلقاء بالأيدي إلى التّهلكة.
فقال قوم : إنّه
راجع إلى نفس النّفقة .
وقال آخرون : إنّه
راجع إلى غيرها ، فالأوّلون ذكروا وجوها :
أحدها : قال ابن
عبّاس ، وحذيفة ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، والجمهور ، وإليه ذهب البخاريّ ـ رضي
الله عنهم ـ ولم يذكروا غيره : ألّا ينفقوا في مهمّات الجهاد أموالهم ؛ فيستولي
العدوّ عليهم ، ويهلكهم ؛ فكأنّه قيل : إن كنت من رجال الدّين ، فأنفق مالك في
سبيل الله ، وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدّنيا ، فأنفق مالك في دفع الهلاك
، والضّرر عن نفسك.
وثانيها : أنه
تبارك وتعالى لمّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جميع المال ؛ لأنّ إنفاق الجميع يفضي
إلى التّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، فيكون
المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] ، وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى
عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].
وقيل : الإلقاء في
التّهلكة : هو السّفر إلى الجهاد بغير زاد ، نقله القرطبيّ عن زيد ابن أسلم ، وقد فعل ذلك قوم ، فانقطعوا في الطّريق.
وأما القائلون :
بأنّ المراد منه غير النّفقة ، فذكروا وجوها :
أحدها : أن يخلّوا
بالجهاد ، فيتعرّضوا للهلاك الذي هو عذاب النار.
__________________
ثانيها : لا
تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون إلّا قتل أنفسكم ، فإنّ قتل الإنسان نفسه لا يحلّ
، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمّا إذا كان آيسا من
النّكاية ، وكان الأغلب أنّه مقتول ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقول عن البراء
ابن عازب ، ونقل عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال في هذا :
هو رجل يتنقّل بين الصفين . وطعن بعضهم في هذا التّأويل ؛ وقال : هذا القتل غير محرم
، واحتجّ بأحاديث :
الأول : روي أنّ
رجلا من المهاجرين حمل على صفّ العدوّ ؛ فصاح به الناس ؛ فألقى بيده إلى التّهلكة
؛ فقال أبو أيّوب الأنصاريّ : نحن أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا :
صحبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قوي الإسلام ؛ وكثر أهله ؛
رجعنا إلى أهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا ؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة
في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد . فما زال أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله ؛ حتّى كان آخر
غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفّي هنالك ، ودفن في أصل سور
القسطنطينية ، وهم يستسقون به .
وروي أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ذكر الجنّة ؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله
، إن قتلت صابرا محتسبا؟ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لك الجنة ؛ فانغمس في
العدوّ ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وأنّ رجلا من
الأنصار ألقى درعا كان عليه ، حين ذكر رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما
أبدا ـ الجنة.
وروي أنّ رجلا من
الأنصار تخلّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه ؛ فقال لبعض
من معه : سأتقدم إلى العدوّ ؛ فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ،
ففعل ذلك ؛ فذكروا ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال فيه قولا حسنا .
وروي أنّ قوما
حاصروا حصنا ؛ فقاتل رجل حتى قتل ؛ فقيل : ألقى بيده إلى
__________________
التّهلكة ، فبلغ
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك ؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ
مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧].
ولقائل أن يجيب عن
هذه الآية ؛ فيقول : إنّما حرمنا إلقاء النفس في صفّ العدوّ ، إذا لم يتوقع إيقاع
النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنّه يوجد هذا المعنى في
هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من
تأويل الآية : أن يكون هذا متّصلا بقوله سبحانه : (الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] أي
: فلا تحملنّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ،
فإنّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة.
الوجه الرابع :
أنّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا
، ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا
الفعل والإلقاء الحكم بذلك ؛ كما يقال جعل فلان فلانا هالكا ، وألقاه في الهلاك ؛
إذا حكم عليه بذلك .
الوجه الخامس :
قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السّلمانيّ : هو أنّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا
ينفعه معه عمل ؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة ؛ فحاصله أنّ معناه النّهي عن القنوط من رحمة الله تعالى ؛
لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب .
الوجه السادس :
يحتمل أن يكون المراد (أَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط ؛ وذلك بأن
تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه ، إما بذكر المنّة ، أو بذكر وجوه الرياء
، والسّمعة ؛ ونظيره قوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣].
وروي عن عكرمة : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].
وقال الطّبريّ :
هو عامّ في جميع ما ذكر ، لأن اللفظ يحتمله.
قوله «وأحسنوا»
اختلفوا في اشتقاق «المحسن» ، فقيل : مشتقّ من فعل الحسن ،
__________________
وإنما كثر
استعماله في من نفع غيره بنفع حسن ، من حيث إنّ الإحسان حسن في نفسه ، وعلى هذا [التّقدير]
فالضرب ، والقتل إذا حسنا ، كان فاعلهما محسنا.
وقيل : مشتقّ من
الإحسان ؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنا ؛ إلّا إذا كان فعله حسنا ، وإحسانا
معا ؛ فهذا الاشتقاق إنّما يحصل من مجموع الأمرين.
قال الأصمّ :
أحسنوا في فرائض الله .
وقيل : أحسنوا في
الإنفاق على من يلزمكم نفقته ، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطا من غير
إسراف ، ولا تقتير ، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله ، ويمكن حمل الآية على الجميع.
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) [تقدم تفسيره].
قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)
الحجّ : في اللغة
عبارة عن القصد ، وإنما يقال حجّ فلان الشيء ، إذا قصده مرّة بعد أخرى ، وأدام
الاختلاف إليه ، و «الحجّة» بكسر الحاء : السّنة ، وإنما قيل لها حجّة ؛ لأن الناس
يحجّون في كل سنة ، وفي الشرع : هو اسم لأفعال مخصوصة يشتمل على أركان ، وواجبات ،
وسنن.
فالركن : ما لا
يحصل التحلّل إلّا بالإتيان به ، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم ، والسّنن :
ما لا يجب بتركها شيء ، وكذلك أفعال العمرة.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو بكر ، عن عاصم رحمة الله
تعالى عليهم : «الحجّ» بفتح الحاء في كلّ القرآن الكريم ، وهي لغة أهل الحجاز ،
وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص ، عن عاصم : بالكسر في كلّ القرآن.
قال الكسائيّ :
وهما لغتان بمعنى واحد ؛ كرطل ورطل ، وكسر البيت ، وكسره ، وقيل : بالفتح المصدر ،
وبالكسر الاسم.
وقرأ علقمة ، وإبراهيم النّخعيّ : «وأقيموا الحجّ والعمرة لله» وفي
مصحف ابن
__________________
مسعود : «وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت» وروي عنه : وأقيموا
الحج والعمرة إلى البيت ، وفائدة التخصيص بقوله : «لله» ـ هنا ـ أنّ العرب كانت
تقصد الحج للاجتماع ، والتظاهر ، وحضور الأسواق ؛ وكلّ ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا
قربة ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه ، وقضاء حقّه.
والجمهور على نصب «العمرة»
على العطف على ما قبلها ، و «لله» متعلق بأتمّوا ، واللام لام المفعول من أجله.
ويجوز أن تتعلّق بمحذوف على أنها حال من الحجّ والعمرة ، تقديره : أتمّوها كائنين
لله. وقرأ علي وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والشعبيّ : «والعمرة»
بالرفع على الابتداء. و «لله» الخبر ، على أنها جملة مستأنفة.
قال ابن عباس ،
وعلقمة ، وإبراهيم ، والنخعي : إتمام الحجّ والعمرة : أن يتمّهما بمناسكهما
وحدودهما وسننهما .
وقال سعيد بن جبير
، وطاوس : تمام الحجّ والعمرة : أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من
دويرية أهلك.
ويروى عن أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعا .
وقال عليّ بن أبي
طالب ، وابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ : تمام الحجّ والعمرة : أن تحرم بهما من
دويرية أهلك .
وقال قتادة : تمام
العمرة أن تعمر في غير أشهر الحجّ ، فإن فعلها في أشهر الحج ، ثم أقام حتى حجّ ؛
فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن
يأتي بمناسكه كلّها بحيث لا يلزمه دم ؛ بسبب قران ، ولا متعة .
وقال الضحاك :
إتمامهما : أن تكون النفقة حلالا ، وينتهي عما نهى الله عنه .
__________________
وقال سفيان الثوري
: إتمامهما : أن تخرج من أهلك لهما ؛ لا لتجارة ، ولا لحاجة أخرى .
قال عمر بن الخطاب
ـ رضي الله عنه ـ الوفد كثير ، والحاجّ قليل .
فصل في اختلافهم في وجوب العمرة
اتّفقت الأمّة على
وجوب الحج ، على من استطاع إليه سبيلا ، واختلفوا في وجوب العمرة ؛ فذهب أكثر
العلماء إلى وجوبها ؛ وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ،
قال : والله إنّ العمرة لقرينة الحجّ في كتاب الله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وسعيد بن
جبير ، وإليه ذهب الثوريّ ، وأحمد ، والشافعيّ ، فى أصحّ قوليه.
وذهب قوم إلى أنها
سنّة ، وهو قول جابر ، وبه قال الشعبيّ ، وإليه ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، رضي الله
عنهم أجمعين.
حجة القول الأوّل
أدلة منها : قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تاما ؛ بدليل قوله
سبحانه وتعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤] أي
: فعلهنّ على التمام ، والكمال ، وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ،
أي : فافعلوا الصيام تاما إلى الليل.
فإن قيل يحتمل أن
يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما ، فأتموههما ؛ لأنّها تدلّ على أصل الوجوب ؛
لأنّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آلعمران : ٩٧] ، لا من هذه الآية ، وكذا قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧]
إنّمااستفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] لا
من قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) والحجّ والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، سواء أكانا
فرضا ، أو تطوّعا ، وتقول : الصوم خرج بدليل ، أو تقول : وجب
__________________
إتمامه بالشروع ،
فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطا بالشروع فيهما.
فالجواب : أنّ ما
ذكرناه أولى ؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمار ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى
إضمار ؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلّ عليه : أنّ أهل التفسير ذكروا أنّ
هذه الآية أول آية نزلت في الحجّ ، فحملها على إيجاب الحجّ ، أولى من حملها على
وجوب الإتمام بشرط الشّروع.
وأيضا يؤيّده ما
ذكرناه من قراءة من قرأ «وأقيموا الحجّ والعمرة لله» وإن كانت شاذّة ،
لكنّها تجري مجرى خبر الواحد.
فإن قيل : قراءة
عليّ ، وابن مسعود ، والشّعبي : «والعمرة لله» بالرفع يدلّ على أنهم قصدوا إفراد
العمرة عن حكم الحجّ ، في الوجوب ؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها
شاذّة ؛ فلا تعارض المتواترة.
فإن قيل : قد
استدللتم أنتم بالشاذّة أيضا؟
قلنا : استدللنا
بها حيث هي موافقة ؛ فتكون تقوية للاستدلال ، لا أنّها نفس الدّليل ،
__________________
واستدلالكم
بالشاذّة ؛ نفس الدليل ، وهو معارض بها ؛ فتساقط الاستدلالان ، وسلمت المتواترة عن
المعارض.
وثانيها : أن قوله
: (وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ) معناها : أنّ العمرة عبادة الله ، وذلك لا ينافي وجوبها.
وثالثها : أنّ في
هذه القراءة ضعفا في العربية ؛ لأنّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة
الفعلية.
الدليل الثاني :
قوله تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] ،
يدلّ على وجود حجّ أصغر ، وهو العمرة بالاتفاق.
وإذا ثبت أن
العمرة حجّ ، فتكون واجبة ؛ لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].
الدليل الثالث :
ما ورد في الصّحيح : أنّ جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سأل النبيّ ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ عن الإسلام ، فقال : «أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ
محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصّلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ وتعتمر»
.
وقوله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجلّ وعظّم ـ لأبي رزين ، لمّا سأله ،
فقال : إنّ أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحجّ والعمرة ، ولا الظّعنة ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «حجّ عن أبيك واعتمر» وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «إنّ الحجّ والعمرة
فريضتان ، لا يضرّك بأيهما بدأت» .
__________________
وعن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ قالت : قلت يا رسول الله ، هل على النّساء جهاد؟ فقال ـ عليه الصّلاة
والسّلام ـ «عليهنّ جهاد لا قتال فيه : الحجّ والعمرة» .
وقال ابن عمر ـ رضي
الله عنه ـ : ليس أحد من خلق الله إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك
سبيلا .
وقال الشافعيّ ـ رضي
الله عنه ـ : اعتمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجّل وعظّم قبل الحجّ ، ولو لم تكن
العمرة واجبة ، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجّ الواجب.
القول الثالث : في
قصة الأعرابيّ حين سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أركان الإسلام ، فعلّمه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ،
والحجّ ، فقال الأعرابيّ : هل عليّ غيرها؟ قال : لا إلّا أن تطّوع ، فقال : والله
لا أزيد على هذا ، ولا أنقص. فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح إن صدق .
وقال عليه الصّلاة
والسّلام : «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول
الله ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت» .
وقال ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ : «صلّوا خمسكم ، وزكّوا أموالكم ، وحجّوا بيتكم ؛ تدخلوا جنّة
ربّكم» .
وعن محمد بن
المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنّه سئل عن العمرة : واجبة هي أم لا؟ فقال : «لا ، وأن
تعتمر خير لك» .
__________________
وعن معاوية
الضّرير ، عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجّل وعظّم ـ قال : «الحجّ جهاد ،
والعمرة تطوّع» .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن هذه
أخبار آحاد ؛ فلا تعارض القرآن.
وثانيها : أنّ هذه
الآية الكريمة نزلت في السّنة السابعة من الهجرة ، فيحتمل أنّ هذه الأحاديث حين
وردت ، لم تكن العمرة واجبة ، ثم نزل بعدها : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه.
وثالثها : أن قصة
الأعرابي ، والحديثين اللذين بعده ، ذكر فيهم الحجّ ، وليس فيها بيان تفصيل الحج ،
وقد بينّا أن العمرة حجّ ، فلا تنافي وجوب العمرة ، وأمّا حديث ابن المنكدر ،
فرواه الحجاج بن أرطاة ؛ وهو ضعيف.
فصل
واتفقت الأمة على
أنّه يجوز أداء الحجّ والعمرة على ثلاثة أوجه : الإفراد ، والتمتع ، والقران.
فالإفراد : أن
يحرم بالحجّ منفردا ، ثم بعد الفراغ منه ، يعتمر من أدنى الحلّ.
والتمتع : أن
يعتمر في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ من العمرة ، يحرم بالحجّ من مكة المشرفة في عامه.
والقران : أن يحرم
بالحج والعمرة معا ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحجّ قبل أن يفتتح الطواف ؛
فيصير قارنا ، ولو أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، لم ينعقد إحرامه بالعمرة.
واختلفوا في أيّ
هذه الثّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقه.
قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة : ١٩٦]
قال أحمد بن يحيى : أصل الحصر ، والإحصار : المنع والحبس .
__________________
ومنه قيل للملك :
الحصير ؛ لأنه ممنوع من الناس.
قال لبيد : [الكامل]
٩٧٩ ـ ..........
|
|
جنّ لدى باب
الحصير قيام
|
وهل حصر وأحصر
بمعنى ، أو بينهما فرق؟ خلاف. فقال الفراء ، والزجاج ، والشيباني ؛ إنهما بمعنى ، يقالان في المرض ، والعدوّ جميعا ؛
وأنشدوا على ذلك : [الطويل]
٩٨٠ ـ وما هجر ليلى أن تكون تباعدت
|
|
عليك ولا أن
أحصرتك شغول
|
وهو قول أبي عبيدة
، وابن السّكّيت ، وابن قتيبة . وفرّق بعضهم ، فقال الزمخشري ، وثعلب : في فصيح الكلام :
يقال : أحصر فلان : إذا منعه أمر من خوف ، أو مرض ، أو عجز ؛ قال تعالى : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] ،
وحصر : إذا حبسه عدوّ ، أو سجن ، هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في
كل شيء ، مثل : صدّه وأصدّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضا ؛
فإنه قال : والمشهور من اللّغة : أحصر بالمرض ، وحصر بالعدوّ. وعكس ابن فارس في «مجمله»
، فقال : «حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ» وقال ثعلب : «حصر في الحبس ، أقوى من أحصر»
، ويقال : حصر صدره ، أي : ضاق ؛ ورجل حصر : لا يبوح بسرّه ، قال جرير في ذلك
المعنى : [الطويل]
__________________
٩٨١ ـ ولقد تكنّفني الوشاة فصادفوا
|
|
حصرا بسرّك يا
أميم حصورا
|
والحصير : معروف ؛
لامتناع بعضه ببعض ، وانضمام بعضه إلى بعض ، تشبيها باحتباس الشّيء مع غيره ،
والحصر : احتباس البول ، والغائط.
وقيل : إنّ الحصر
مختصّ بالمنع الحاصل من جهة العدوّ ؛ وهو مرويّ عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وابن
الزّبير ، قالوا : لا حصر إلّا حصر العدوّ ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن
المسيّب ، وإليه ذهب إسحاق ، وأحمد ، والشافعيّ ـ رحمهمالله تعالى ؛ وأكثر أهل اللغة يردّون هذا القول.
وفائدة هذا الخلاف
في أنّه : هل يثبت للمحصر بالمرض وغيره من الموانع حكم المحصر بالعدوّ؟
فقال الشافعيّ :
لا يثبت ، وقال غيره : يثبت ، والقائلون بأنه يثبت ، قال بعضهم : إنّه ثابت بالنصّ
، وقال آخرون : بالقياس الجلي .
حجّة القائلين
بالثبوت : مذهب أهل اللغة ؛ لأن أهل اللغة قائلان :
أحدهما : القائلون
بأن الإحصار مختصّ بالحبس الحاصل بسبب المرض ، فتكون الآية الكريمة نصا صريحا فيه.
والثاني :
القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس ، سواء كان مرض أو عدوّ ؛ فقال صلىاللهعليهوسلم : «من كسر أو عرج ، فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل» .
قال عكرمة : فسألت
ابن عباس ، وأبا هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن ذلك ؛
__________________
فقالا : صدق. فدلّ ظاهر الآية ، والحديث عليه أيضا.
وعلى القول
الثّالث : فهو أنّ الإحصار اسم لمنع العدوّ ، فنقول : هذا باطل باتفاق أهل اللغة ،
وبتقدير ثبوته ، يقيس المرض على العدوّ بجامع دفع الحرج ، وهو قياس جليّ ظاهر.
وأمّا بتقدير مذهب
ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، فلا شكّ أنّ قولهم أقوى ؛ لتقدمهم على هؤلاء
الأدباء ، في معرفة اللغة ، ومعرفة تفسير القرآن. والحديث ضعيف ، ويمكن تأويله
بأنّه إنّما يحل بالكسر ، والعرج ، إذا كان مشروطا في عقد الإحرام.
كما روي : أنّ ضباعة
بنت الزبير كانت وجعة ؛ فقال لها النبيّ صلىاللهعليهوسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم : «حجّي واشترطي ، وقولي
اللهمّ محلّي حيث حبستني» . ويؤكد هذا القول وجوه :
أحدها : أنّ
الإحصار : إفعال من الحصر ، والإفعال تارة يجيء بمعنى التعدية ؛ نحو : ذهب زيد ،
وأذهبته أنا ، ويجيء بمعنى : صار ذا كذا ؛ نحو : أغدّ البعير ، أي : صار ذا غدّة ،
وأجرب الرجل ، إذا صار ذا إبل جربى ، ويجيء بمعنى : وجدته بصفة كذا ؛ نحو : أحمدت
الرجل ، أي وجدته محمودا.
والإحصار لا يمكن
أن يكون للتعدية ؛ فوجب إمّا حمله على الصيرورة ، أو على الوجدان ، والمعنى أنّهم
صاروا محصورين ووجدوا محصورين.
واتفق أهل اللّغة
على أنّ المحصور هو الممنوع بالعدو ، لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار : هو
أنهم صاروا ممنوعين بالعدوّ ، وذلك يؤكّد ما قاله الشافعيّ.
وثانيها : أنّ
الحصر عبارة عن المنع ، وإنما يقال للإنسان : أنّه ممنوع من فعله ، ومحبوس عن
مراده ؛ إذا كان الغير هو فاعل ذلك المنع والحبس.
فالحصر : عبارة عن
الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج ، وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقود في حقّ المريض ؛
لأنّه غير قادر على الفعل ألبتة ؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على
المانع تستدعي حصول المقتضي.
أمّا إذا كان
ممنوعا بالعدو ، ـ فها هنا ـ القدرة حاصلة إلّا أنه تعذّر الفعل ؛ لأجل
__________________
مدافعة العدوّ ،
فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوع من الفعل ؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ،
لا في المرض.
وثالثها : أن قوله
: «أحصرتم» أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدّ له من حابس ، والمنع لا بدّ له من
مانع ؛ لأنّ الحبس ، والمنع فعل ، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا ، لأن المرض
عرض لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلا ، وحابسا ، ومانعا.
وأمّا وصف العدوّ
بأنه حابس ، ومانع ؛ فهو وصف حقيقيّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على
المجاز.
ورابعها : أنّ
الإحصار مشتق من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ؛ فوجب أن يكون خاليا عن
المرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة.
وخامسها : أنّه
تعالى قال بعده : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ). فعطف عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من
يكون المرض داخلا فيه ، لكان عطفا للشيء على نفسه.
فإن قيل : إنما
خصّ المريض بالذكر ؛ لأنّ له حكما خاصا ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية
الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدم ، وإن تأذّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفّرتم.
قلنا : هذا وإن
كان حسنا لهذا الغرض ، إلّا أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر
على غير المريض يوجب خلوّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى.
وسادسها : قوله
تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوّ ، لا في المرض
، فإنّه يقال في المرض : شفي ، وعفي ولا يقال أمن.
فإن قيل : لا
نسلّم أنّ لفظ الأمن لا يستعمل إلّا في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ،
وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوّلها.
قلنا : لفظ الأمن
إذا كان مطلقا غير مقيّد ، فإنّه لا يفيد إلّا الأمن من العدوّ.
وقوله : خصوص آخر
الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوّلها.
قلنا : بل يوجب ؛
لأن قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ليس فيه بيان أنّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدّ وأن يكون
المراد حصول الأمن عن شيء تقدّم ذكره ، وليس إلّا الإحصار ، فكان التقدير: فإذا
أمنتم من ذلك الإحصار.
وإذا ثبت أنّ لفظ
الأمن لا يطلق إلّا في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوّ.
وسابعها : إجماع
المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أن الكفّار أحصروا النبي صلىاللهعليهوسلم بالحديبية ، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه ؛ هل
تتناول غير ذلك السبب؟ إلّا أنهم اتفقوا على أنّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا
عنه ، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوّ ، وأمّا قياس منع المرض
عليه ، فلا يمكن لوجهين :
الأول : أنّ كلمة «إن»
شرط ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهرا ، فيقتضي ألّا يثبت الحكم إلّا
في الإحصار الذي دلّت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياسا ، كان ذلك
نسخا للنصّ بالقياس ، وهو غير جائز.
الثاني : أنّ
الإحرام شرع لازم ، لا يحتمل النسخ قصدا ؛ ألا ترى أنّه لو جامع ، فسد حجّه ولم
يخرج من الإحرام ؛ وكذا لو فاته الحجّ حتى لزمه القضاء ، والمريض ليس كالعدوّ ؛
لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمنا من مرضه ، وأمّا المحصر بالعدو ، فإنّه
خائف من القتل إذا أقام ، فإذا رجع ، فقد أمن ، وتخلص من خوف القتل ، والله أعلم.
فصل
قال القرطبيّ : «الحاصر لا يخلو من أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان
كافرا ، لم يجز قتاله ، ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١]
ولو سأل الكافر جعلا ، لم يجز ؛ لأن ذلك وهن في الإسلام ، وإن كان مسلما لم يجز
قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب جعلا ويتخلّى عن الطريق ، جاز دفعه ، ولم يجز
القتال ؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإنّ الدّين
أسمح ، وأمّا بذل الجعل ، فلما فيه من دفع أعظم الضّررين بالأسهل منهما ، ولأن
الحجّ ممّا ينفق فيه المال ، فيعدّ هذا من النّفقة».
فصل
العدوّ الحاصر :
لا يخلو إمّا أن يتيقّن بقاؤه ، واستيطانه ، لقوته وكثرته ، أو لا ، فإن كان الأول
، حلّ المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني ، فهو مما يرجى زواله ، فهذا لا يكون محصورا ؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم
أنّه إن زال العدو ، لا يدرك الحج ؛ فيحلّ حينئذ.
وقال أشهب : من
حصر عن الحج بعدو ، فلا يقطع التّلبية ، حتى يروح الناس إلى عرفة.
__________________
فصل في الإحصار
الإحصار : إنما
يكون عن البيت ، أو عن عرفة. فأمّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرّمي ، والمبيت
بمزدلفة ، ونحوها ، فلا إحصار فيها ؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجّة بجبرها
بالدّم ، وإذا إحصر عن طريق ، وله طريق غيرها ، يتمكّن في الوصل إلى مكّة ، ويدرك
الحجّ من غير زيادة في النفقة ، أو ميرة لا تجحف به ، فليس بمحصر ، إذا كانت تلك الطّرق أمنا ، [فإن لم تكن
أمنا] ، أو كانت زيادة النّفقة تجحف بماله ، فهو محصر.
فصل في قضاء المحصر
إذا أحصر ، فلا
قضاء عليه بالإحصار ؛ لأنه إن كان محرما بحجّ الفرض ، أو النّذر ، وكان ذلك في
العام الذي وجب عليه الحجّ فيه ، لم يجب القضاء ؛ لأن شروط وجوب الحجّ لم تكمل ؛
لوجود الإحصار ، وإن كان ذلك في العام الثاني ، وجب عليه الحجّ للوجوب السّابق ،
لا للإحصار ، وإن كان الحجّ تطوّعا ، فلا قضاء ؛ لأنّه لم يجب عليه ابتداء.
قوله : «فما
استيسر» ، «ما» موصولة ، بمعنى : الذي ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وفيها ثلاثة
أقوال :
أحدها : أنّها في
محل نصب ، أي : فليهد ، أو فلينحر ، وهذا مذهب ثعلب.
والثاني : ويعزى
للأخفش : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر.
والثالث : أنه خبر
مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر ، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب ،
واستصعب ، وغني واستغنى ، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعّل نحو : تكبّر واستكبر ،
وتعظّم واستعظم. وقد تقدّم ذلك.
قوله : «من الهدي»
فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون «من»
تبعيضية ، ويكون محلها النّصب على الحال من الضّمير المستتر في «استيسر» العائد
على «ما» ، أي : حال كونه بعض الهدي.
والثاني : أن تكون
«من» لبيان الجنس ، فتتعلق بمحذوف أيضا.
وفي الهدي قولان :
أحدهما : أنه. جمع
هدية كجدي جمع جدية السّرج.
__________________
والثاني : أن يكون
مصدرا واقعا موقع المفعول ، أي : المهدى ، ولذلك يقع للأفراد والجمع. قال أبو عمرو
بن العلاء : لا أعرف لهذه اللّفظة نظيرا.
وقرأ مجاهد والزّهريّ : «الهديّ» بتشديد الياء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون
جمع هديّة كمطيّة ومطايا وركيّة وركايا.
قال أحمد بن يحيى : أهل الحجاز يخفّفون «الهدي» ، وتميم يثقّلونه ؛ قال
الشّاعر : [الوافر]
٩٨٢ ـ حلفت بربّ مكّة والمصلّى
|
|
وأعناق الهديّ
مقلّدات
|
ويقال في جمع
الهدي : «أهداء».
والثاني : أن يكون
فعيلا بمعنى مفعول ، نحو : قتيل بمعنى : مقتول.
فصل
قال القفّال : في
الآية الكريمة إضمار ، والتّقدير : فتحلّلتم فما استيسر ، وهو كقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) [البقرة : ١٨٤] أي
: فأفطر فعدّة ، وفيها إضمار آخر ، هو ما تقدّم ، أي : فليهد أو فلينحر ما استيسر
، فالواجب ما استيسر ، ومعنى الهدي : ما يهدى إلى بيت الله ، عزوجل ، تقربا إليه بمنزلة الهديّة.
قال عليّ وابن
عباس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ،
فعليه ما تيسر من هذه الأجناس .
فصل
إذا عدم المحصر
الهدي ، هل ينتقل إلى البدل؟ فيه خلاف قال أبو حنيفة : لا بدل له ، ويكون الهدي في
ذمّته أبدا ؛ لأنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التّعيين ، ولم يثبت له بدلا.
وقال أحمد : له
بدل ؛ فعلى الأوّل : هل له أن يتحلّل في الحال ، أو يقيم على إحرامه؟
فقال أبو حنيفة :
يقيم على إحرامه ؛ حتى يجده للآية.
__________________
وقال غيره : له أن
يتحلّل في الحال للمشقّة ، وهؤلاء قالوا يقوّم الهدي بالدّراهم ، ويشتري بها طعاما
، ويؤدّي ؛ لأنّه أقرب إلى الهدي ، وفيه اختلافات كثيرة ، ثم المحصر إن كان إحرامه
بفرض ، قد استقرّ عليه ، فذلك الفرض في ذمّته ، وإن كان حجّ تطوّع ، هل عليه
القضاء؟! فيه خلاف : فذهب جماعة إلى أنّه لا قضاء عليه ، وهو قول مالك ، والشّافعي
، وقال مجاهد والشّعبي والنّخعيّ ، وأصحاب الرّأي : عليه القضاء.
قال القرطبيّ : قال مالك وأصحابه : لا يمنع المحرم الاشتراط في الحجّ ،
إذا خاف الحصر بمرض ، أو عدوّ ، وهو قول الثّوريّ ، وأبي حنفية ، وأصحابه ـ رحمهمالله ـ والاشتراط أن يقول في إحرامه : إن حبسني حابس فمحلّي حيث
حبسني.
وقال أحمد وإسحاق
وأبو ثور لا بأس أن يشترط ، وله شرطه ، وهو قول جماعة من الصّحابة والتابعين ،
واحتجّوا بقوله عليهالسلام لضباعة حين سألته عن كيفيّة الإحرام فقال : «قولي : محلّي
حيث حبستني».
فصل
اختلفوا في العمرة
، فأكثر الفقهاء قالوا : حكمها في الإحصار كحكم الحجّ ، وعن ابن سيرين أنّه لا إحصار فيها ؛ لأنّها غير مؤقّتة ، ويرده قوله
تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) عقيب ذكر الحجّ والعمرة ، فيكون عائدا إليهما.
فصل
إذا أراد المحصر
التحلّل وذبح ، وجب أن ينوي التّحلل عند الذّبح ، ولا يتحلّل ألبتّة قبل الذّبح.
قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) في الآية حذف ؛ لأنّ الرّجل لا يتحلّل ببلوغ الهدي محلّه ،
حتى ينحر ؛ فتقدير الآية الكريمة : حتّى يبلغ الهدي محلّه ، فينحر فإذا نحر
فاحلقوا و «محلّه» يجوز أن يكون ظرف مكان ، أو زمان ، ولم يقرأ إلّا بكسر الحاء
فيما علمنا إلّا أنّه يجوز لغة فتح حائه ، إذا كان مكانا. وفرّق الكسائيّ بينهما ،
فقال : «المكسور هو الإحلال من الإحرام ، والمفتوح هو مكان الحلول من الإحصار».
فصل
قال أبو حنيفة :
لا يجوز إراقه دم الإحصار إلّا في الحرم وقال أحمد والشّافعيّ ـ رحمهماالله ـ حيث حبس والخلاف مبنيّ على البحث في المحلّ ؛ فقال أبو
حنيفة : هو اسم للمكان. وقال غيره: هو اسم للزّمان الذي حصل فيه الحل. وحجّتهم
وجوه.
__________________
منها : أنّه ـ عليهالسلام ـ أحصر بالحديبية ونحر فيها ، وليست من الحرم.
قال أصحاب أبي
حنيفة : إنّما أحصر في طرف الحديبية ، الّذي أسفل مكّة ، وهو من الحرم.
قال الواقديّ :
الحديبية على طرف مكّة على تسعة أميال من مكّة .
قال القفّال ـ رحمهالله ـ : الدّليل على [أنّ نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله
تعالى : (هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)] [الفتح : ٢٥].
ومنها : أنّ
المحصر سواء كان في المحلّ ، أو الحرم ، فهو مأمور بنحر الهدي بقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، فأوجب على
المحصر الهدي سواء كان في الحلّ أو الحرم ، وإذا ثبت ذلك ؛ وجب أن يجوز له الذّبح
، حيث كان قادرا على إراقة الدّم.
ومنها : أنّه
تعالى إنّما مكن المحصر من التّحلل بالذّبح ؛ ليتمكن من تخليص نفسه في الحال عند
خوف العدوّ ، فلم يجز النّحر إلّا في الحرم وما لم يحصل النّحر لا يحصل له التّحلل
في الحال ، وذلك يناقض المقصود من مشروعيّة هذا الحكم ؛ لأن الموصل للنّحر إلى
الحرم ، إن كان هو فالخوف باق ، وكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف ، وإن كان
غيره ، فقد لا يجد ذلك الغير ، فماذا يفعل؟ حجّة أبي حنيفة وجوه :
الأوّل : أنّ
المحلّ ـ بكسر الحاء ـ عبارة عن المكان كالمسجد والمجلس ، فقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدلّ على أنّه غير بالغ في الحال إلى مكان الحلّ ، وهو
عندكم بالغ محلّه في الحال.
وجوابه : أنّ
المحلّ عبارة عن الزّمان كمحل الدّين.
الثّاني : أن لفظ «المحلّ»
يحتمل الزّمان والمكان إلّا أنّ الله ـ تعالى ـ أزال هذا الاحتمال بقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٣].
وجوابه بأنّ كلّ
ما وجب على المحرم في ماله من بدنة ، وجزاء هدي ، فلا يجزي إلّا في الحرم لمساكين
أهله إلّا في موضعين :
أحدهما : من ساق
هديا ، فعطب في طريقه ذبحه ، وخلّى بين المساكين وبينه.
والثّاني : دم
المحصر بالعدوّ فينحر حيث حبس ، فالأدلّة المذكورة في باقي الدّماء فلم قلتم إنّها
تتناول هذه الصّورة؟
الثّالث : قالو
إنّما سمّي هديا ؛ لأنه جار مجرى الهديّة التي يبعثها العبد إلى ربّه
__________________
والهديّة لا تكون
هديّة إلّا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يتصّور إلّا
بجعل موضع الهدي هو الحرم.
وجوابه : هذا
تمسّك بالاسم ، ثم هو محمول على الأصل عند القدرة.
الرابع : أنّ سائر
دماء الحجّ سواء كانت قربة ، أو كفّارة ، لا تصحّ إلّا في الحرم ، فكذا هذا.
وجوابه أنّ هذا
الدّم إنّما وجب لإزالة الخوف ، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر ،
فلو وجب إرساله إلى الحرم ، لم يحصل هذا المقصود ، وهذا المعنى غير موجود في سائر
الدّماء ، فظهر الفرق.
والقائلون بأنّ
محلّه الحرم قالوا : إن كان المحصر حاجّا ، فمحله يوم النّحر ، وإن كان معتمرا ،
فمحله يوم يبلغ هديه الحرم.
قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) [البقرة : ١٩٦].
في «منكم» وجهان :
أحدهما : أن يكون
في محلّ نصب على الحال من «مريضا» ؛ لأنه في الأصل صفة له ، فلمّا قدّم عليه انتصب
حالا. وتكون «من» تبعيضية ، أي : فمن كان مريضا منكم.
والثّاني : أجازه
أبو البقاء أن يكون متعلّقا بمريضا.
قال أبو حيان : «وهو
لا يكاد يعقل». و «من» يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة.
قوله : «أو به أذى»
يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفردات ، وأن يكون من باب عطف الجمل. أما الأول ،
فيكون الجارّ والمجرور في قوله : «به» معطوفا على «مريضا» الّذي هو خبر كان ،
فيكون في محلّ نصب. ويكون «أذى» مرفوعا به على سبيل الفاعليّة ؛ لأنّ الجارّ إذا
اعتمد رفع الفاعل عند الكلّ فيصير التقدير : فمن كان كائنا به أذى من رأسه. وأما
الثّاني فيكون «به» خبرا مقدّما ، ومحلّه على هذا رفع ، وفي الوجه الأوّل كان نصبا
، و «أذى» مبتدأ مؤخّر ، وتكون هذه في محلّ نصب ؛ لأنّها عطف على «مريضا» الواقع
خبرا لكان ، فهي وإن كانت جملة لفظا ، فهي في محلّ مفرد ؛ إذ المعطوف على المفرد
مفرد ، لا يقال : إنه عاد إلى عطف المفردات ، فيتّحد الوجهان لوضوح الفرق. وأجازوا
أن يكون «أذى» معطوفا على إضمار «كان» لدلالة «كان» الأولى عليها ، وفي اسم «كان»
المحذوفة حينئذ احتمالان :
أحدهما : أن يكون
ضمير «من» المتقدّمة ، فيكون «به» خبرا مقدما ، و «أذى» مبتدأ مؤخرا ، والجملة في
محلّ نصب خبرا لكان المضمرة.
والثّاني : أن
يكون «أذى» اسمها و «به» خبرها ، قدّم على اسمها.
وأجاز أبو البقاء
أن يكون «أو به أذى» معطوفا على «كان» ، وأعرب «به» خبرا مقدّما متعلّقا
بالاستقرار ، و «أذى» مبتدأ موخّرا ، والهاء في «به» عائدة على «من». وخطّأه أبو
حيان فيه ، قال : لأنّه كان قد قدّم أن «من» شرطية ، وعلى هذا التّقدير يكون خطأ ،
لأنّ المعطوف على جملة الشّرط شرط ، والجملة الشّرطية لا تكون إلا فعليّة ، وهذه
كما ترى جملة اسميّة على ما قرّره. فكيف تكون معطوفة على جملة الشّرط التي يجب أن
تكون فعلية؟ فإن قيل : فإذا جعلنا «من» موصولة ، فهل يصحّ ما قاله من كون «به أذى»
معطوفا على «كان»؟ فالجواب أنه لا يصحّ أيضا ؛ لأنّ «من» الموصولة إذا ضمّنت معنى
اسم الشّرط لزم أن تكون صلتها جملة فعلية ، أو ما هي في قوّتها. والباء في «به»
يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون
للإلصاق.
والثاني : أن تكون
ظرفية.
والأذى مصدر بمعنى
الإيذاء ، وهو الألم يقال آذاه يؤذيه إيذاء وأذى ، فكان الأذى مصدر على حذف
الزّوائد ، أو اسم مصدر كالعطاء اسم للإعطاء ، والنّبات للإنبات. قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ «فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه» أي برأسه قروح ، «أو به أذى»
، أي : قمل» .
قوله : «من رأسه»
فيه وجهان.
أحدهما : أنّه في
محلّ رفع ؛ لأنّه صفة لأذى ، أي : أذى كائن من رأسه.
والثّاني : أن
يتعلّق بما يتعلّق «به» من الاستقرار ، وعلى كلا التّقديرين تكون «من» لابتداء
الغاية.
قوله : «ففدية» في
رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
مبتدأ والخبر محذوف ، أي : فعليه فدية.
والثّاني : أن
تكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب عليه فدية.
والثّالث : أن
تكون فاعل فعل مقدّر ، أي فتجب عليه فدية. وقرىء شاذّا : «ففدية» نصبا ، وهي على
إضمار فعل ، أي : فليفد فدية. و «من صيام» في محلّ رفع ، أو نصب على حسب القراءتين
صفة ل «فدية» ، فيتعلّق بمحذوف ، و «أو» للتّخيير ، ولا بدّ من حذف فعل قبل الفاء
تقديره : فحلق ففدية.
وقرأ الحسن والزّهريّ «نسك» بسكون السّين ، وهو تخفيف المضموم. وفي
النّسك قولان :
__________________
أحدهما : أنّه
مصدر يقال : نسك ينسك نسكا ونسكا بالضّمّ والإسكان ، كما قرأه الحسن.
والثّاني : أنه
جمع نسيكة ، قال ابن الأعرابيّ : «النّسيكة في الأصل سبيكة الفضّة ، وتسمّى
العبادة بها ؛ لأنّ العبادة مشبهة سبيكة الفضّة في صفائها وخلوصها من الآثام ويقال
للمتعبد «ناسك» ، لأنّه يخلص نفسه من الآثام وصغارها كالسّبيكة المخلصة من الخبث
وقيل للذّبيحة «نسيكة» لذلك لأنها أشرف العبادات التي يتقرّب بها إلى الله تعالى.
فصل في سبب نزول الآية
قال ابن عبّاس :
نزلت هذه الآية الكريمة في كعب بن عجرة ، قال كعب : مرّ بي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ زمن الحديبية ، وكان شعر رأسي كثير القمل والصّئبان ،
وهو يتناثر وأنا أطيح ، فرآني فقال ـ عليهالسلام ـ : «أتؤذيك هوامّ رأسك» قلت : نعم يا رسول الله ، قال : «احلق
رأسك» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة .
والمقصود منها أنّ
المحرم إذا تأذّى بالمرض ، أو بهوامّ رأسه ؛ أبيح له المداوة في الحلق بشرط الفدية
، وهو على التّخيير بين أن يذبح ، أو يصوم ، أو يتصدّق ، فأقلّ النّسك شاة ،
وأوسطه بقرة ، وأعلاه بدنة. وأمّا الصّيام ، فليس في الآية كمّيته ، وفيه قولان :
أحدهما : أنّه
ثلاثة أيّام ؛ لما روى أبو داود أنّه ـ عليهالسلام ـ لمّا مرّ بكعب بن عجرة ، ورأى كثرة هوام رأسه ، فقال له
: احلق ، ثمّ اذبح شاة نسكا ، أو صم ثلاثة أيّام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على
ستّة مساكين .
والثّاني : قال
ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن : الصّيام كصيام المتمتع عشرة أيّام ،
والإطعام مثل ذلك في العدد ؛ لأنّ الصّيام والإطعام لمّا كان مجملين في هذا
__________________
الموضع ؛ وجب حمله
على المبيّن فيما جاء بعد ذلك ، وهو الّذي يلزم المتمتّع إذا لم يجد الهدي.
فصل
اختلفوا : هل
يقدّم الفدية ثمّ يترخّص ، أو يؤخّر الفدية عن الترخّص ، والّذي يقتضيه ظاهر الآية
الكريمة ؛ أنّه يؤخر الفدية عن الترخص ، لأن الإقدام على التّرخص كالعلّة في وجوب
الفدية ، فكان مقدّما عليه ، وأيضا فقد بينّا أنّ تقدير الآية الكريمة : فحلق
فعليه فدية.
فصل
قال بعضهم هذه
الآية الكريمة مختصّة بالحصر ؛ وذلك إن قيل أي بلوغ الهدي محلّه ، ربما لحقه مرض ،
وأذى في رأسه ، فأذن الله تعالى له في إزالة ذلك المؤذي بشرط أن يفدي.
وقال آخرون : بل
الكلام مستأنف في كلّ محرم لحقه مرض ، أو أذى في رأسه ، فاحتاج إلى العلاج والحلق
، فبيّن الله تعالى أنّ له ذلك ، وبين ما يجب عليه من الفدية ، وقد يكون المرض
محوجا إلى اللّباس ، من شدّة البرد أو غيره ، وقد يحتاج في الأمراض إلى استعمال
الطّيب كثيرا ، وبالجملة فهذا الحكم عامّ في جميع محظورات الإحرام.
فصل
فأمّا من حلق رأسه
عامدا من غير عذر ، فقال أبو حنيفة والشّافعيّ يجب عليه الدّم.
وقال مالك : حكمه
حكم من فعل ذلك بعذر ؛ لأنّ وجوبه على المعذور تنبيه على وجوبه على غير المعذور.
قال ابن الخطيب : هذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار ، والمشروط بالشيء
عدم عند عدم الشّرط.
قوله : «فإذا
أمنتم» الفاء عاطفة على ما تقدّم ، و «إذا» منصوبة بالاستقرار المحذوف ؛ لأنّ
التّقدير : فعليه ما استيسر ، أي : فاستقرّ عليه ما استيسر.
وقوله : «فمن
تمتّع» الفاء جواب الشّرط بإذا ، والفاء في قوله : «فما استيسر» جواب الشّرط
الثاني. ولا نعلم خلافا أنّه يقع الشّرط وجوابه جوابا لشرط آخر مع الفاء. وقد
تقدّم الكلام على «فما استيسر».
__________________
فصل
تقدير الكلام ،
فإذا أمنتم الإحصار بالخوف أو المرض ، «فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ» واختلفوا في
هذه المتعة : فقال عبد الله بن الزّبير : معناه فمن أحصر حتّى فاته الحجّ ، ولم يتحلّل ، فقدمّ
مكّة ، فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، أو استمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السّنة
المقبلة ، ثم حجّ فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثّاني في العام القابل ، وقيل معناه : فإذا أمنتم ، وقد حللتم من إحرامكم بعد
الإحصار ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العمرة إلى السّنة القابلة ، فاعتمرتم في
أشهر الحجّ ، ثم حللتم واستمتعتم بإحلالكم إلى الحجّ ، ثم أحرمتم بالحجّ ، فعليكم
ما استيسر من الهدي ، وهو قول علقمة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وسعيد بن جبير.
ومعنى التّمتّع :
التّلذّذ ، يقال تمتّع بالشّيء ، أي : تلذّذ به ، والمتاع : كلّ شيء يتمتع به ،
وأصله من قولهم : «حبل ماتع» أي : طويل ، وكل من طالت صحبته بالشّيء ، فهو متمتّع
به ، والتمتع بالعمرة إلى الحجّ هو أن يقدم مكّة معتمرا في أشهر الحجّ وينزع منها
، ثم يقيم بمكّة حلالا ، حتّى ينشىء منها الحجّ من عامه ذلك ، وإنّما سمّي متمتعا
لأنّه يكون مستمتعا بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحجّ ،
وهذا التمتع الّذي ليس بمكروه ، بل هو الأفضل عند أحمد ، وإتمام التّمتّع المكروه
، وهو الّذي خطب به عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما ، متعة النّساء ، ومتعة
الحجّ» ، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ، ثمّ يفسخ الحجّ
إلى العمرة ، ويتمتّع بها إلى الحجّ ، روي أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أذن لأصحابه في ذلك ثمّ نسخ.
روي عن أبي ذرّ
أنّه قال : ما كانت متعة الحج إلّا لي خاصة ، وكان السّبب فيه أنّهم كانوا لا يرون
العمرة في أشهر الحجّ ، ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما أراد ـ عليهالسلام ـ إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه ، بأن نقلهم في أشهر
الحجّ من الحجّ إلى العمرة ، وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان
فسخ الحجّ خاصّا بهم .
__________________
قال القرطبيّ : وزعم من صحّح نهي عمر عن التّمتّع : أنّما نهى لينتجع
إلى البيت مرّتين أو أكثر في العام حتى يكثر عمارته بكثرة الزّيارة في غير الموسم
، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحرم بدخول النّاس ، تحقيقا لدعوة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧].
وقيل : إنّما نهى
عنها ؛ لأنّه رأى النّاس مالوا إلى التّمتّع ليسارته ، وخفّته ؛ فخشي أن يضيع
الإفراد والقران ، وهما مسنونان.
فصل
التّمتّع لا يحصل
إلّا بمحظورات الإحرام لكنّه لما كان بسبب إتيانه بالعمرة سمّاه تمتعا بالعمرة إلى
الحجّ.
فصل في شروط وجوب دم التّمتّع
يشترط لوجوب دم
التّمتّع خمسة شروط :
أحدها : أن يقدم
العمرة على الحجّ.
والثاني : أن يحرم
بالعمرة في أشهر الحجّ ، فلو أحرم لها قبل أشهر الحجّ ، وأتى بشيء من الطّواف ،
ولو شوطا واحدا ، ثم أكمل باقيه في أشهر الحجّ في هذه السّنة ، لم يلزمه الدّم ؛
لأنّه لم يجمع بين النّسكين في أشهر الحجّ.
__________________
وقال أبو حنيفة :
إذا أتى بأكثر الطّواف في أشهر الحجّ ، فهو متمتّع ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر
الحجّ فلا.
الثالث : أن يحجّ
في هذه السّنة ، فإن حجّ في سنة أخرى لم يلزمه دم ؛ لأنّه لم يوجد مزاحمة الحجّ
والعمرة في عام واحد ، ولم يحصل الترفّه بترك أحد السّفرين ، إلّا على قول ابن
الزّبير فيما قدّمناه.
الرابع : ألا يكون
من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، وهو من كان أهله على أقلّ من مسافة القصر ، وهل تعتبر
هذه المسافة من مكّة ، أو من الحرم فيه وجهان.
الخامس : أن يحرم
بالحجّ من مكّة بعد الفراغ من العمرة ، فلو رجع إلى الميقات ، وأحرم بالحجّ منه ،
لا يلزمه دم التّمتّع.
فصل
قال القرطبيّ : التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ على أربعة أوجه :
أحدها مجمع عليه ،
والثّلاثة مختلف فيها فالمجمع عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وذلك أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ، ويكون آفاقيّا ،
ويفرغ منها ، ويقيم حلالا بمكّة إلى أن يحرم بالحجّ من عامه قبل رجوعه إلى بلده.
ولها ثمانية شروط
:
الأول : أن يجمع
بين الحجّ والعمرة.
الثاني : في عام
واحد.
الثالث : في سفر
واحد.
الرابع : في أشهر
الحجّ.
الخامس : مقدّما
الحج.
السادس : غير مخلط
لها بالحجّ.
السابع : وأن تكون
العمرة والحج عن شخص واحد.
الثامن : ويكون
آفاقيّا.
الوجه الثّاني من
وجوه التّمتّع بالعمرة : هو القران ، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد ، فيهلّ
بهما جميعا في أشهر الحجّ ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العمرة مرّة ، وإلى
__________________
الحجّ أخرى ، ولا
يحرم لكلّ واحد من ميقاته ، فيدخل تحت قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ).
الوجه الثالث
الّذي نهى عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ : وهو أن يحرم بالحجّ فإذا دخل مكّة فسخ حجّه
إلى عمرة ، ثم يحلّ إلى أن يهلّ بالحج يوم التّروية ، فاختلف في ذلك ، فالجمهور على ترك العمل بها.
قال أبو ذرّ كانت
المتعة لنا في الحجّ خاصّة .
الوجه الرّابع من
التمتع : متعة المحصر ، ومن صدّ عن البيت.
فصل
دم التمتع دم
جبران ، فلا يجوز له الأكل منه.
وقال أبو حنيفة دم
نسك ، ويأكل منه.
حجّة الأوّل وجوه
:
أحدها : أنّ
التمتع حصل فيه خلل فيكون دم جبران.
وبيان الخلل أنّ
عمر كان ينهى عن المتعة ، فقال له عثمان ـ رضي الله عنهما ـ عمدت إلى رخصة بسبب
الحاجة ؛ فدلّ على حصول نقص فيها.
وأيضا سمّاها
تمتّعا ، والتمتع التّلذّذ ، ومبنى العبادة على المشقّة.
وأيضا ففي
التّمتّع صار السّفر للعمرة ، وكان من حقّه أن يكون للحج ؛ لأنّه الحج الأكبر ،
وأيضا حصل التّرفه بالإحلال بينهما ، وأيضا كان من حقّه جعل الميقات للحجّ ، فإنّه
الأكبر ، وكل هذه أنواع خلل ، فوجب أن يكون الدّم دم جبران.
وثانيها : أنّ
الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحجّ ، أو العمرة ، كما لو أفردها وكما في حقّ
المكّي ، والجمع بين العبادتين لا يوجب الدّم ، بدليل أنّ من جمع الصّلاة ،
والصّوم ، والاعتكاف لا يلزمه دم ، وإذا ثبت ذلك فليس الدّم دم نسك ، بل دم جبران.
وثالثها : أنّ هدي
التمتع ليس مؤقّتا ، والمناسك كلّها مؤقتة ، فيكون دم جبران.
ورابعها : أنّه
يبدّل بالصّوم ، ودم النّسك لا يبدّل بالصّوم.
__________________
فصل
والمجزي فيها جذعة
من الضأن ، أو ثنية من المعز ، أو شرك ستّة في بدنة ، أو بقرة ، ووقت وجوبه بعد
الإحرام بالحجّ ؛ لأنّ قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) يدلّ على أنّه عقيب التّمتع ، ويستحب ذبحه يوم النّحر فلو
ذبح بعد الإحرام بالحجّ جاز ؛ لأنّ التمتع قد تحقّق. وعن أبي حنيفة لا يجوز إلّا
يوم النّحر ؛ لأنّه نسك عنده.
قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ؛) يعني : أنّ المتمتع إذا لم يجد الهدي ، فعليه أن يصوم ،
وهل الهدي أفضل أم الصّيام؟ قال ابن الخطيب : الظّاهر أنّ المبدل أفضل من البدل ؛ لكنّه تعالى بيّن في
هذا البدل أنّه في الكمال والثّواب كالهدي وهو كقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ).
قوله : «فصيام» في
رفعه الأوجه الثّلاثة المذكورة في قوله : «ففدية» وقرىء نصبا ، على تقدير فليصم ، وأضيف المصدر إلى ظرفه معنى ،
وهو في اللّفظ مفعول به على السّعة. و «في الحجّ» متعلّق بصيام وقدّر بعضهم مضافا
، أي : في وقت الحجّ.
ومنهم من قدّر
مضافين ، أي : وقت أفعال الحجّ ، ومنهم من قدّره ظرف مكان ، أي : مكان الحجّ
ويترتّب على ذلك أحكام ، وهي أنّ المتمتّع إذا لم يجد الهدي لا يصحّ صومه ، بعد
إحرام العمرة ، وقبل إحرام الحجّ.
وقال أبو حنيفة :
يصحّ.
حجّة الأوّل وجوه
:
أحدها : أنّه صيام
قبل وقته ؛ فلا يجوز كمن صام رمضان قبله ، وكما لو صام السّبعة قبل الرّجوع ، وذلك
لأنّ الله تعالى قال : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ، والمراد إحرام الحج ؛ لأنّ سائر أفعال الحجّ لا تصلح
ظرفا للصّوم ، والإحرام يصلح ، فوجب حمله عليه.
وثانيها : أنّ ما
قبل الإحرام بالحجّ ليس بوقت للهدي الذي هو أصل ، ولا يكون وقتا لبدله ، كسائر
الأصول في الأبدال.
وإذا ثبت ذلك ،
فنقول : اتّفقوا على أنّه يجوز بعد الشّروع في الحجّ إلى يوم النّحر ، وثبت أنّه
لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التّشريق لقوله عليهالسلام «لا تصوموا في هذه
الأيّام» ، والمستحبّ أن يصوم في أيّام الحج حيث يكون يوم عرفة
مفطرا.
__________________
وقال بعضهم : يصوم
ثلاثة أيّام آخرها يوم عرفة السّابع ، والثّامن ، والتّاسع ، ولو صام ثلاثة أيّام
آخرها يوم التّروية ، ويكون قد أحرم بالحجّ قبله جاز ، ولا يجوز يوم النحر ، ولا
أيام التّشريق. وهو قول مالك والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق.
فصل
اختلفوا فيمن
اعتمر في أشهر الحجّ ، ثمّ رجع إلى بلده ، ثمّ رجع في عامه فقال الجمهور : ليس
بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صيام. وقال الحسن : هو متمتّع.
وأجمعوا على أنّ
الآفاقي إذا قدم معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة ، ثم أنشأ الحج من عامه
فحج ، أنّه متمتع عليه ما على المتمتّع.
قوله : «وسبعة»
الجمهور على جرّ «سبعة» عطفا على ثلاثة. وقرأ زيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : «وسبعة» بالنّصب. وفيها
تخريجان :
أحدهما : قاله
الزّمخشريّ ، وهو : أن يكون عطفا على محلّ «ثلاثة» كأنه قيل : فصيام ثلاثة ، كقوله
: (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ، ١٥]
، يعني : أنّ المضاف إليه المصدر منصوب معنى بدليل ظهور النّصب في «يتيما».
والثاني : أن
ينتصب بفعل محذوف تقديره : «فليصوموا» ، قال أبو حيان «وهذا متعيّن ؛ لأنّ العطف
على الموضع يشترط فيه وجود المحرز» يعني : على مذهب سيبويه.
قوله : «إذا رجعتم»
: منصوب بصيام أيضا ، وهي هنا لمحض الظّرف ، وليس فيها معنى الشّرط. لا يقال :
يلزم أن يعمل عامل واحد في ظرفي زمان ، لأنّ ذلك جائز مع العطف والبدل ، وهنا يكون
عطف شيئين على شيئين ، فعطف «سبعة» على «ثلاثة» ، وعطف «إذ رجعتم» على «في الحجّ».
وفي قوله : «رجعتم»
شيئان :
أحدهما التفات ،
والآخر الحمل على المعنى ، أمّا الالتفات : فإنّ قبله «فمن تمتّع فمن لم يجد» ،
فجاء بضمير الغيبة عائدا على «من» ، فلو سيق هذا على نظم الأوّل لقيل : «إذا رجع»
بضمير الغيبة. وأمّا الحمل فلأنّه أتى بضمير جمع ؛ اعتبارا بمعنى «من» ، ولو راعى
اللّفظ لأفرد ، فقال : «رجع».
__________________
فصل
اختلفوا في المراد
من الرّجوع ، فقيل : هو الرّجوع إلى الأهل والوطن وقال أبو حنيفة المراد من
الرّجوع : هو الفراغ من أعمال الحجّ ، والأخذ في الرّجوع ، ويتفرّع عليه أنّه لو
صام السّبعة بعد الفراغ من الحجّ ، وقبل الوصول إلى بيته ، لا تجزيه على الأوّل.
وعن أبي حنيفة :
تجزيه.
حجّة الأوّل :
أنّه تعالى جعل الرّجوع إلى الوطن شرطا ، وما لم يوجد الشّرط لم يوجد المشروط ،
ويؤكّد ذلك أنّه لو مات قبل وصوله إلى الوطن ، لم يلزمه شيء. وروى ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ قال : «لمّا قدمنا مكّة المشرفة قال النّبيّ ـ عليهالسلام ـ اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدي. فطفنا
بالبيت ، وبالصّفا ، والمروة ، وأتينا النّساء ، ولبسنا الثّياب ، ثمّ أمرنا عشية
التّروية أن نهلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عليكم الهدي ،
فإن لم تجدوا ؛ فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» ، وأيضا فإنّ الله ـ تعالى ـ أسقط صوم رمضان عن المسافر ،
فصوم التّمتّع أخفّ شأنا منه.
وقوله : «تلك عشرة»
مبتدأ وخبر ، والمشار إليه هي السّبعة والثّلاثة ، ومميّز السّبعة والعشرة محذوف
للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث في العدد مع حذف التّمييز ، وهو أحسن الاستعمالين
، ويجوز إسقاط التّاء حينئذ ، وفي الحديث : «وأتبعه بستّ من شوّال» ، وحكى الكسائيّ : «صمنا من الشّهر خمسا».
وفي قوله : «تلك
عشرة» ـ مع أنّ المعلوم أنّ الثّلاثة والسّبعة عشرة ـ أقوال كثيرة لأهل المعاني ،
منها قول ابن عرفة : «إن العرب إذا ذكرت عددين ، فمذهبهم أن يجملوهما» ، وحسّن هذا
القول الزّمخشري بأن قال : «فائدة الفذلكة في كلّ حساب : أن يعلم العدد جملة كما
يعلم تفصيلا ، ليحتاط به من جهتين ، فيتأكّد العلم» ، وفي أمثالهم
__________________
«علمان خير من علم».
قال ابن عرفة : «وإنما تفعل العرب ذلك ؛ لأنّها قليلة المعرفة بالحساب» ، وقد جاء
: «لا نحسب ، ولا نكتب» ، وورد ذلك في أشعارهم ، قال النّابغة : [الطويل]
٩٨٣ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها
|
|
لستّة أيّام وذا
العام سابع
|
وقال الفرزدق : [الوافر]
٩٨٤ ـ ثلاث واثنتان فهنّ خمس
|
|
وسادسة تميل إلى
شمام
|
وقال الأعشى : [الوافر]
٩٨٥ ـ ثلاث بالغداة فهنّ حسبي
|
|
وستّ حين يدركني
العشاء
|
فذلك تسعة في
اليوم ريّي
|
|
وشرب المرء فوق
الرّيّ داء
|
وقال آخر : [الوافر]
٩٨٦ ـ فسرت إليهم عشرين شهرا
|
|
وأربعة فذلك
حجّتان
|
وقال عليهالسلام : «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ، ثمّ أشار بيديه ثلاثا ،
وأمسك إبهامه في الثالثة ، منبها بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالأخرى على
تسعة وعشرين .
ومنها قال المبرد
: «فتلك عشرة : ثلاثة في الحجّ وسبعة إذا رجعتم فقدّم وأخّر» ، ومنها قال ابن
الباذش : جيء بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنّها هي الخبر المستقلّ بفائدة
الإسناد كما تقول : زيد رجل صالح» يعني أن المقصود الإخبار بالصّلاح ، وجيء برجل
توطئة ، إذ معلوم أنه رجل. ومنها قال الزّجاج : «جمع العددين لجواز أن يظنّ أنّ عليه ثلاثة أو سبعة» ؛
لأنّ الواو قد تقوم مقام أو ، ومنه : (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) [النساء : ٣]
فأزال احتمال التّخيير ، وهذا إنّما يتمشّى عند الكوفيّين ؛ فإنّهم يقيمون الواو
مقام أو. وقال الزمخشريّ : «الواو قد تجيء للإباحة في قولك : «جالس الحسن وابن
سيرين» ألا ترى أنّه لو جالسهما معا ، أو أحدهما كان ممتثلا فجمع نفيا لتوهّم
الإباحة» قال أبو حيان : «وفيه نظر ، لأنّه لا تتوهّم الإباحة ؛ فإنّ السّياق سياق
إيجاب ، فهو ينافي الإباحة ، ولا ينافي
__________________
التّخيير ، فإنّ
التّخيير يكون في الواجبات ، وقد ذكر النّحويّون الفرق بين التّخيير ، والإباحة».
وقد ذكر ابن
الخطيب قول الزّمخشري هذا المتقدّم ، وذكر وجوها أخر :
منها : أن المعتاد
أن يكون البدل أضعف حالا من المبدّل ، فبيّن الله تعالى أنّ هذا البدل ليس كذلك ،
بل هو كامل في كونه قائما مقام المبدّل ، فيكون الصائم ساكن النّفس إلى حصول الأجر
الكامل من عند الله ، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كاملة» ؛ لأنّه لو قال : «تلك
كاملة» ؛ لجاز أن يراد به الثّلاثة المفردة عن السّبعة والسّبعة المفردة عن الثّلاثة
، فلا بدّ من ذكر العشرة.
وقوله : «كاملة»
يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه : إمّا أن تكون كاملة في البدل عن الهدي قائمة
مقامه لا تنقص عنه ، أو أنّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي ، أو أنّ حجّ
المتمتع الصّائم كاملا كحج من لم يتمتّع.
ومنها أنّ الله
تبارك وتعالى لو قال أوجبت عليك صيام عشرة أيّام ، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي
خروج بعض هذه الأيّام ، فإنّ تخصيص العام كثير في الشّرع ، فلما قال «تلك عشرة»
كان ذلك تنصيصا على أنّ المخصص لم يوجد البتّة ، فيكون أقوى دلالة ، وأبعد من
احتمال التّخصيص والنّسخ.
ومنها أنّ التّوكيد
طريقة مشهورة في كلام العرب كقوله (وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ،
وقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]
وفائدة التوكيد أنّ الكلام المعبّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصّفات
الكثيرة ، أبعد عن السّهو والنّسيان من الكلام المعبّر عنه بعبارة واحدة ، وكونه
معبرا عنه بعبارات كثيرة يدلّ على كونه مشتملا على مصالح عظيمة ، لا يجوز الإخلال
بها ، فإذا كان التّوكيد مشتملا على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالّا على رعاية هذا
العدد في هذا الصّوم ، فإنّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتّة.
ومنها أنّ هذا
الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ ، فإنّ سبعة ، وتسعة متشابهان في الخطّ ،
فلمّا قال بعده : (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) ؛ أزال هذا الاشتباه.
ومنها : أنّ قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) يحتمل أن يكون المراد : أن يكون الواجب بعد الرّجوع أنّ
يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنّه يحسب الثّلاثة المتقدّمة منها ، ويكمل عليها
أربعة ، فلما قال «تلك عشرة» ؛ أزال هذا الاحتمال.
ومنها : أن هذا
خبر ، ومعناه الأمر ، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها.
__________________
ومنها : أنّه
تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة بعد الرّجوع ، فليس فيه بيان أنّه
طاعة عظيمة كاملة ، فلمّا قال بعده : (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) دلّ ذلك على أنّ هذه الطّاعة في غاية الكمال ؛ وذلك لأنّ
الصّوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال : «الصّوم لي» ، والحجّ أيضا
مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، فكما دلّ النّصّ على مزيد اختصاص هاتين العبادتين بالله
ـ سبحانه وتعالى ـ ، فالفعل دلّ أيضا على ذلك.
أمّا في الصّوم
فلأنّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتّة ، وهو مع ذلك شاقّ على
النّفس جدّا ، فلا جرم لا يؤتى به إلّا لمحض مرضاة الله ـ تعالى ـ ثمّ إنّ صوم هذه
تعني الانقياد له.
وكذا الحجّ عبادة
لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتّة ، وهو مع ذلك شاقّ جدا ؛ لأنّه يوجب
مفارقة الأهل ، والولد والتّباعد عن أكثر اللّذّات ، فلا جرم لا يؤتى به إلّا لمحض
مرضاة الله تعالى ، ثمّ إنّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقع في زمن الحج ، فيكون
جمعا بين شيئين شاقّين جدّا ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحجّ ، وهو انتقال من شاق
إلى شاقّ ، ومعلوم أنّ ذلك سبب لكثرة الثّواب ، وعلوّ الدّرجة ، فلا جرم لمّا أوجب
الله ـ تعالى ـ صيام هذه الأيّام العشرة ، شهد سبحانه على أنّها عبادة كاملة في
غاية الكمال والعلوّ ، فقال تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، أي : وإنها كاملة.
قوله : (ذلِكَ لِمَنْ) «ذلك» مبتدأ ،
والجارّ بعده الخبر. وفي اللّام قولان :
أحدهما : أنّها
على بابها ، أي : ذلك لازم لمن.
والثاني : أنها
بمعنى على ، كقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥] ،
وقال عليهالسلام «اشترطي لهم
الولاء» ، أي : عليهم ، وقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي
: فعليها ، وذلك إشارة إلى التّمتّع ، والقران للغريب [ولا حاجة إلى هذا. و «من»
يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة. و «حاضري» خبر «يكن» ، وحذفت نونه للإضافة].
فصل
قوله : «ذلك» إشارة
إلى أمر تقدّم ، وأقرب الأمور المذكورة ، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله.
وقال بعض العلماء : لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروط بألّا يكون من حاضري
المسجد الحرام ، فإن كان من أهل الحرم ، فلا يلزمه هدي المتمتّع ، وإنّما لزم
الآفاقي ؛
__________________
لأنه كان يجب عليه
أن يحرم بالحجّ من الميقات ، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات ، ثم أحرم بالحجّ من
غير الميقات ، فقد حصل هناك خلل ، فجبر بالدّم ، بدليل أنّه لو رجع ، فأحرم بالحجّ
أيضا من الميقات ، لم يلزمه دم ، والمكيّ ميقاته موضعه ، فلا يقع في حجّه خلل من
جهة الإحرام ، فلا هدي عليه.
وقال أبو حنيفة ـ رضي
الله عنه ـ : قوله «ذلك» إشارة إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع ، وعنده لا متعة ولا
قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن ، كان عليه دم جناية لا يأكل منه.
حجّة القول الأوّل
وجوه :
أحدها : قوله
تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) عامّ يدخل فيه الحرمي ، وغيره.
وثانيها : أنّ
الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور ، وهو وجوب الهدي ، فإذا خصّ وجوب الهدي
بالمتمتع الآفاقي ؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضا متمتعا.
وثالثها : أنّ
الله تعالى شرع القران والمتعة تبيينا لنسخ ما كان عليه أهل الجاهليّة في تحريمهم
العمرة في أشهر الحجّ ، والنسخ ثبت في حقّ النّاس كافّة.
حجّة أبي حنيفة :
أنّ قوله : «ذلك» كناية ؛ فوجب عودها إلى كلّ ما تقدم ، لأنّه ليس البعض أولى من
البعض.
والجواب أنّ عوده
إلى الأقرب أولى ، لأنّ القرب سبب للرّجحان ، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب
الجمل مختصّ بالجملة الأخيرة ، وإنّما تميزت تلك
__________________
الجملة عن سائر
الجمل بسبب القرب ، فكذا ها هنا.
فصل
اختلفوا في حاضري
المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنّهم أهل مكّة ، وهو قول مالك ـ رحمهالله ـ.
وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان.
__________________
وقال الشّافعيّ ـ رحمهالله ـ : كلّ من كان وطنه من مكّة على أقلّ من مسافة القصر ،
فهو من حاضري المسجد الحرام .
وقال عكرمة : من
كان دون الميقات .
وقيل هم أهل
الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرّأي .
وقال طاوس : الحرم
كلّه ، وهو قول الشّافعيّ ، وأحمد لقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) [الإسراء : ١]
وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمّ هانىء لا من المسجد ، وقال (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] ،
والمراد الحرم ؛ لأن الدّماء لا تراق في البيت ، والمسجد الحرام إنّما وصف بهذا ؛
لأنّ أصل الحرام المنع ، والمحرم : ممنوع من المكاسب ، والمسجد الحرام ممنوع أن
يفعل فيه ما منع من فعله.
قال الفرّاء : يقال حرام ، وحرم مثل : زمان وزمن ، وذكر حضور الأهل ،
والمراد حضور المحرم ، لا حضور الأهل ، لأنّ الغالب على الرّجل أنّه يسكن حيث أهله
ساكنون فلو خرج المكيّ إلى الآفاق ، وأهله بمكّة ، ثمّ عاد متمتعا ؛ لزمه هدي
التمتع ، ولا أثر لحضور أهله في المسجد الحرام.
وقيل المراد بقوله
(لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
أَهْلُهُ) ، أي يكون أهلا لهذه العبادة.
فصل
ودم القران كدم
التّمتّع ، فالمكيّ إذا قرن ، أو تمتع ، فلا هدي عليه.
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ قوله : يريد فيما فرضه عليكم ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تهاون بحدوده.
وقال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيّان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته
، وهو مشتقّ من العاقبة ، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن ما
ذوّقت ، و «شديد العقاب» من باب إضافة الصّفة المشبّهة إلى مرفوعها ، وقد تقدّم
أنّ الإضافة لا تكون إلا من نصب ، والنّصب والإضافة أبلغ من الرّفع ؛ لأنّ فيها
إسناد الصّفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرّفع إنّما فيه إسنادها ، دون
إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة.
__________________
قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)
«الحجّ» مبتدأ ، و
«أشهر» خبره ، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذات واحدة ، و «الحجّ» فعل من
الإفعال ، و «أشهر» زمان ، فهما غيران ، فلا بدّ من تأويل ، وفيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنّه على
حذف مضاف من الأوّل ، تقديره : أشهر الحج أشهر معلومات. أي : لا حجّ إلّا في هذه
الأشهر ولا يجوز في غيرها ، كما كان يفعله أهل الجاهليّة في غيرها ، كقوله البرد
شهران ، أي : وقت البرد شهران.
الثاني : الحذف من
الثاني تقديره : الحجّ حجّ أشهر ، فيكون حذف من كل واحد ما أثبت نظيره.
الثالث : أن تجعل
الحدث نفس الزّمان مبالغة ، ووجه المجاز كونه حالّا فيه ، فلما اتّسع في الظّرف
جعل نفس الحدث ، ونظيره : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥]
وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث ، جاز فيه الرفع والنّصب مطلقا ، أي :
سواء كان الحدث مستوعبا للظّرف ، أم لا ، هذا مذهب البصريين.
وأمّا الكوفيّون
فقالوا : إن كان الحدث مستوعبا ، فالرّفع فقط نحو : «الصّوم يوم» ، وإن لم يكن
مستوعبا ، فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو : «ميعادك يوم» والفرّاء يجيز نصبه مثل
البصريّين ، وقد نقل عنه أنّه منع نصب «أشهر» ، يعني : في الآية الكريمة ، لأنها
نكرة ، فيكون له في المسألة قولان ، وهذه مسألة طويلة.
قال ابن عطيّة : «ومن
قدّر الكلام : الحج في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجرّ نصب الأشهر ، ولم يقرأ به
أحد» قال أبو حيان رحمهالله : ولا يلزم ذلك ؛ لأنّ الرّفع على جهة الاتّساع ، وإن كان
أصله الجرّ ب «في».
فصل
أجمع المفسّرون
على أنّ شوّالا ، وذا القعدة ، من أشهر الحج ، واختلفوا في ذي الحجّة فقال عروة بن
الزّبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك ، وداود.
وقال أبو حنيفة :
العشر الأول من ذي الحجّة من أشهر الحجّ ؛ وهو قول ابن عبّاس ، وابن عمر ، والنخعي
، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن .
__________________
وقال الشافعيّ ـ رحمهالله ـ : التسعة الأول ، مع ليلة النّحر من أشهر الحج .
حجّة الأوّل : أن
الأشهر جمع ، وأقلّه ثلاثة ، وأيضا فإنّ أيّام النّحر يفعل فيها بعض ما يتّصل بالحج :
من رمي الجمار ، والذّبح ، والحلق ، وطواف الزّيارة ، والبيتوتة يعني ليالي منى ،
وإذا حاضت المرأة ، فقد تؤخّر الطّواف الذي لا بدّ منه إلى انقضاء أيّام بعد
العشرة. ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.
والجواب أنّ لفظ
الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ؛ بدليل قوله (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].
وقال ـ عليهالسلام : «الاثنان فما فوقهما جماعة» . وأيضا فإنّه نزّل بعض الشّهر منزلة كلّه ، فإنّ العرب
تسمّي الوقت تامّا بقليله ، وكثيره ، يقال زرتك سنة كذا ، وأتيتك يوم الخميس ،
وإنما زاره ، وأتاه في بعضه ، وأيضا فإنّ الجمع ضمّ شيء إلى شيء ، فإذا جاز أن
يسمّى الاثنان جماعة ، جاز أن يسمّى الاثنان ، وبعض الثّالث جماعة ، وأمّا رمي
الجمار ، فإنما يفعله الإنسان ، وقد حلّ بالحلق والطّواف ، والنّحر ، فكأنه ليس من
أعمال الحجّ ، والحائض إذا طافت بعده ، فكأنه في حكم القضاء ، لا في حكم الأداء.
حجّة الثاني : أنّ
المفسرين قالوا : إنّ يوم الحجّ الأكبر ، هو يوم النّحر ؛ لأنّ معظم
__________________
أفعال الحج يفعل
فيه : من طواف الزيارة ؛ الذي هو ركن في الحج ، والرّمي ، والذّبح ، والحلق ،
فدخوله في أيام الحج أولى.
حجّة الشافعي ـ رحمهالله تعالى ـ : أنّ الحجّ يفوت بطلوع الفجر يوم النّحر ،
والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها.
فصل
قال بعض العلماء :
لا يجوز أن يهلّ بالحج قيل أشهر الحج ؛ وهو قول ابن عباس ، وجابر ، وبه قال عطاء ،
وطاوس ، ومجاهد ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعيّ ، وأحمد في رواية ،
وإسحاق.
وقال مالك ،
والثوريّ وأبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يجوز.
حجّة الأول : قوله
: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ).
جمع الأشهر جمع
تقليل ، على سبيل التّنكير ؛ فلا يتناول الكلّ ، وأكثر الجمع إلى عشرة ، وأدناه
إلى ثلاثة ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، واتفق المفسّرون على أنّ تلك
الثّلاثة ، شوّال وذو القعدة ، وبعض ذي الحجّة.
وإذا تقرّر هذا ،
وجب ألّا يجوز الإحرام بالحجّ قبل الوقت ؛ لأنّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها
لا يصحّ ؛ كالصّلاة ، وخطبة الجمعة قبل الوقت.
حجّة الثاني :
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] ، فجعل الأهلّة كلّها مواقيت الحجّ ، وليس
مواقيتا للأداء ، فثبت أنها مواقيت لصحّة الإحرام ، ويجوز أن يسمّى الإحرام حجّا ؛
مجازا ، كما سمّي الوقت حجّا في قوله : «الحجّ أشهر» بل هنا أولى ؛ لأن الإحرام
أقرب إلى الحج من الوقت. وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنّهم قالوا : إتمام الحجّ
والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله ، ومن يكن منزله بعيدا يجب أن يكون في المشرق
أو في المغرب ، فلا بدّ وأن يحرم بالحج قبل أشهر ، وأيضا فإنّ الإحرام التزام
بالحجّ ، فجاز تقديمه على الوقت ؛ كالنّذر.
وأجاب الأوّلون عن
قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) بأنّ قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أخصّ منها ، وفرّقوا بين النّذر والإحرام : بأنّ الوقت
معتبر للأداء ، ولا اتّصال للنذر بالأداء ، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلّا بعقد
مبتدأ ، والإحرام مع كونه التزاما ، فهو شروع في الأداء ، وعقد عليه ؛ فلا جرم
افتقر إلى الوقت.
فصل
قوله : «معلومات»
أي : معلومات عندهم ، مقررة لبيان الشرع ، بخلاف مرادهم
__________________
بها. أو معلومات
ببيان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وأنها مؤقتة في أوقات معينة ، لا يجوز
تقديمها ولا تأخيرها ، كما فعلوه في النّسيء.
قوله : «فمن فرض
فيهنّ الحجّ».
يجوز في «من» أن
تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، كما تقدّم في نظائرها ، و «فيهنّ» متعلّق ب «فرض».
والضّمير في «فيهنّ» يعود على «أشهر» وجيء به كضمير الإناث ، لما تقدم من أنّ جمع
غير العاقل في القلّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح ؛ فلذلك جاء «فيهنّ» دون
«فيها» ، وهذا بخلاف قوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦]
لأنه هناك جمع كثرة.
وفرض في اللّغة :
ألزم وأوجب ، يقال فرضت عليك كذا ، أي : أوجبته ، وأصل الفرض في اللغة : التّأثير
والحزّ والقطع.
قال ابن الأعرابي ـ رحمهالله تعالى ـ : الفرض الحزّ في القدح ، [وفي الوتد ، وفي غيره]
، وفرضة القوس : الحزّ الذي فيه الوتر ، وفرضة الوتد الحزّ الذي فيه ، ومنه فرض
الصلاة ؛ لأنها لازمة للعبد كلزوم الحزّ للقدح ، ففرض ـ ها هنا ـ بمعنى : أوجب ،
وقد جاء في القرآن «فرض» بمعنى أبان ؛ قال تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها) [النور : ١]
بالتخفيف ، وقوله (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢].
وهو راجع إلى معنى
القطع ؛ لأنّ من قطع شيئا ، فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئا ، أبانه
عن غيره ، ففرض بمعنى : أوجب ، وفرض : بمعنى أبان ؛ كلاهما راجع إلى أصل واحد ؛
ومن ها هنا فرّق بعضهم بين الفرض والواجب ، فقالوا :
__________________
الفرض ما ثبت
بدليل قطعيّ ؛ لأن أصله القطع ، وسمّاه بالركن.
__________________
والواجب ما ثبت
بدليل ظنّي ، وجعل الفرض لا يسامح به ، عمدا ولا سهوا ، وليس له جابر ، والواجب ما
يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة ، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «فرض» في القرآن
بإزاء خمسة معان :
الأول : فرض بمعنى
أوجب ، كهذه الآية الكريمة ، ومثله : (فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] أي أوجبتم.
الثاني : فرض بمعنى
بيّن ، قال تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢]
ومثله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها) [النور : ١].
الثالث : فرض :
بمعنى أحلّ ؛ قال تعالى : (ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) [الأحزاب : ٣٨] أي
أحلّ.
الرابع : فرض :
بمعنى أنزل ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ) [القصص : ٨٥] أي :
أنزل.
الخامس : الفرض :
الفريضة في قسمة المواريث ؛ كما قال تبارك وتعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١].
فصل
قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) يدلّ على أنّه لا بدّ للمحرم من فعل يفعله ؛ يصير به محرما
وحاجا ، واختلفوا في ذلك الفعل.
فقال الشّافعيّ ،
وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النّية ، من غير حاجة إلى التّلبية.
وقال أبو حنيفة :
لا يصحّ الشّروع في الإحرام بمجرد النية ؛ حتى يضمّ إليه التّلبية أو سوق الهدي.
وقال القفّال في
تفسيره : يروى عن جماعة من العلماء ؛ أنّ من أشعر هديه أو قلّده ،
فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلّد أو أشعر ، فقد أحرم ، وعن ابن عباس: إذا قلّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو
الحجّ ، فقد أحرم .
قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ
فِي الْحَجِّ) إمّا جواب الشّرط ، وإمّا زائدة في
__________________
الخبر على حسب
القولين المتقدّمين.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير : بتنوين «رفث» و «فسوق» ، ورفعهما ،
وفتح «جدال».
والباقون : بفتح
الثّلاثة.
وأبو جعفر ـ ويروى
عن عاصم ـ برفع الثلاثة والتنوين.
والعطاردي بنصب
الثلاثة والتنوين.
فأمّا قراءة الرفع
ففيها وجهان :
أظهرهما : أنّ «لا»
ملغاة ، وما بعدها رفع بالابتداء ، وسوّغ الابتداء بالنكرة ؛ تقدّم النفي عليها ، و
«في الحجّ» خبر المبتدأ الثالث ، وحذف خبر الأول ، والثاني ؛ لدلالة خبر الثالث
عليهما ، أو يكون «في الحج» خبر الأول ، وحذف خبر الثاني ، والثالث ؛ لدلالة خبر
الأول عليهما ، ويجوز أن يكون «في الحج» خبر الثلاثة ، ولا يجوز أن يكون «في الحجّ»
خبر الثاني ، وحذف خبر الأول ، والثالث ؛ لقبح مثل هذا التركيب ، ولتأديته إلى
الفصل.
والثاني : أن تكون
«لا» عاملة عمل ليس ، ولعملها عمل ليس شروط : تنكير الاسم ، وألّا يتقدّم الخبر ،
ولا ينتقض النفي ؛ فيكون «رفث» اسمها ، وما بعده عطف عليه ، و «في الحجّ» الخبر
على حسب ما تقدّم من التقادير فيما قبله.
وخرّجه ابن عطية
بهذا الوجه ، وهو ضعيف ؛ لأنّ إعمال «لا» عمل ليس لم يقم عليه دليل صريح ، وإنما
أنشدوا أشياء محتملة ، أنشد سيبويه : [مجزوء الكامل]
٩٨٧ ـ من صدّ عن نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس لا
براح
|
__________________
وأنشد غيره : [الطويل]
٩٨٨ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا
|
|
ولا وزر ممّا
قضى الله واقيا
|
وقول الآخر : [البسيط]
٩٨٩ ـ أنكرتها بعد أعوام مضين لها
|
|
لا الدّار دارا
ولا الجيران جيرانا
|
وأنشد ابن الشّجري
: [الطويل]
٩٩٠ ـ وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا
|
|
سواها ولا في
حبّها متراخيا
|
وللكلام على
الأبيات موضع غير هذا.
__________________
وأمّا من نصب
الثلاثة منونة فتخريجها على أن تكون منصوبة على المصدر بأفعال مقدرة من لفظها ،
تقديره : فلا يرفث رفثا ، ولا يفسق فسوقا ولا يجادل جدالا ، وحينئذ فلا عمل ل «لا»
فيما بعدها ، وإنّما هي نافية للجمل المقدرة ، و «في الحجّ» متعّلق بأيّ المصادر
الثّلاثة شئت ، على أنّ المسألة من التنازع ، ويكون هذا دليلا على تنازع أكثر من
عاملين ، وقد يمكن أن يقال : إنّ «لا» هذه هي التي للتّبرئة على مذهب من يرى أنّ
اسمها معرب منصوب ، وإنما حذف تنوينه ؛ تخفيفا ، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة
كما رجع في قوله : [الوافر]
٩٩١ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا
|
|
..........
|
وقد تقدّم تحريره.
وأمّا قراءة الفتح
في الثّلاثة فهي «لا» التي للتّبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناء؟ فيه
قولان ، الجمهور على أنّها فتحة بناء ، وإذا بني معها ، فهل المجموع منها ، ومن
اسمها في موضع رفع بالابتداء ، وإن كانت عاملة في الاسم النصب على الموضع وما
بعدها ، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع في موضع مبتدأ ، بل «لا» عاملة في الاسم
النّصب على الموضع ، وما بعدها خبر ل «لا» ؛ لأنّها أجريت مجرى «أنّ» في نصب الاسم
، ورفع الخبر؟ قولان :
الأول : قول
سيبويه .
والثاني : قول
الأخفش. وعلى هذين المذهبين ، يترتّب الخلاف في قوله : «في الحجّ» ، فعلى مذهب
سيبويه : يكون في موضع خبر المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش : يكون في موضع خبر «لا» ،
وقد تقدّم شيء من هذا أول الكتاب.
وأمّا من رفع
الأولين ، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدّم ، وكذلك الفتح ، إلا أنه ينبغي أن
ينبّه على شيء : وهو أنّا قلنا بمذهب سيبويه من كون «لا» وما بني معها في موضع
المبتدأ ، يكون «في الحج» خبرا عن الجميع ؛ إذ ليس فيه إلّا عطف مبتدأ عى مبتدأ ،
وأمّا على مذهب الأخفش ، فلا يجوز أن يكون «في الحجّ» إلا خبرا للمبتدأين ، أو
خبرا ل «لا». ولا يجوز أن يكون خبرا للكلّ ؛ لاختلاف الطالب ؛ لأنّ المبتدأ يطلبه
خبرا له ، ولا يطلبه خبرا لها.
وإنّما قرىء كذلك
، قال الزمخشري : «لأنّهما حملا الأوّلين على معنى النّهي ، كأنه قيل :
فلا يكوننّ رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل :
ولا شكّ ولا خلاف في الحجّ» واستدلّ على أنّ المنهيّ عنه هو
__________________
الرفث والفسوق دون
الجدال ، بقوله عليهالسلام : «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق ...» وأنه لم يذكر الجدال.
وهذا الذي ذكره
الزمخشريّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة ؛ إلّا أنه أفصح عن مراده ، قال أبو عمرو بن
العلاء ـ أحد قارئيها ـ : الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق ؛ أي شيء يخرج من
الحجّ ، ثم ابتدأ النفي فقال : «ولا جدال» ، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأوّلين
نهيا ، بل تركهما على النّفي الحقيقي.
فمن ثم ، كان في
قوله هذا نظر ؛ فإنّ جملة النفي بلا التبرئة ، قد يراد بها النهي أيضا ، وقيل ذلك
في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].
والذي يظهر في الجواب عن ذلك ، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : «وقيل
: الحجّة لمن رفعهما أنّ النفي فيهما ليس بعامّ ؛ إذ قد يقع الرفث ، والفسوق في
الحجّ من بعض الناس ، بخلاف نفي الجدال في أمر الحجّ ؛ فإنه عامّ ؛ لاستقرار
قواعده». قال شهاب الدّين : وهذا يتمشّى على عرف النّحويين ، فإنهم يقولون : «لا»
العاملة عمل «ليس» لنفي الوحدة ، والعاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك
يقال : لا رجل فيها ، بل رجلان ، أو رجال ؛ إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت
اسمها أو نصبت بها.
وتوسّط بعضهم فقال
: التي للتبرئة نصّ في العموم ، وتلك ليس نصّا.
والظاهر أنّ
النكرة في سياق النفي مطلقا للعموم ، وقد تقدّم معنى الرّفث في قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ
الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر : هو الجماع ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ،
وعكرمة ، والنخعي ، والربيع.
وروي عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : الرّفث : غشيان النساء ، والتّقبيل
، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام .
وقال طاوس : هو التّعريض للنساء بالجماع ، وذكره بين أيديهنّ.
وقال عطاء :
الرّفث : هو قول الرجل للمرأة في حال الإحرام : إذا حللت ، أصبتك .
__________________
وقيل الرّفث :
الفحش ، والفسق وقد تقدم في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].
وقرأ عبد الله «الرّفوث» وهو مصدر بمعنى الرّفث.
وقوله : (فَلا رَفَثَ) وما في حيّزه في محلّ جزم ، إن كانت «من» شرطية ، ورفع ،
إن كانت موصولة ، وعلى كلا التقديرين ، فلا بدّ من رابط يرجع إلى «من» ؛ لأنها إن
كانت شرطية ، فقد تقدّم أنه لا بدّ من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة
، فهي مبتدأ والجملة خبرها ، ولا رابط في اللّفظ ، فلا بدّ من تقديره وفيه
احتمالان :
أحدهما : أن
تقديره : ولا جدال منه ، ويكون «منه» صفّة ل «جدال» ، فيتعلّق بمحذوف ، فيصير نظير
قولهم : «السّمن منوان بدرهم» تقديره : منوان منه.
والثاني : أن
يقدّر بعد «الحج» تقديره : ولا جدال في الحجّ منه ، أو : له. ويكون هذا الجارّ في
محلّ نصب على الحال من «الحج».
وللكوفيّين في هذا
تأويل آخر : وهو أنّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجّه ، كقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ثم قال : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠ ،
٤١] أي : مأواه.
وكرّر الحجّ ؛
وضعا للظاهر موضع المضمر تفخيما ؛ كقوله : [الخفيف]
٩٩٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء
|
|
..........
|
وكأنّ نظم الكلام
يقتضي : «فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث فيه» ، وحسّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف
البيت.
والجدال مصدر «جادل».
والجدال : أشدّ الخصام ، مشتقّ من الجدالة ، وهي الأرض ؛ كأن كلّ واحد من
المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة.
قال القائل : [الرجز]
٩٩٣ ـ قد أركب الآلة بعد الآله
|
|
واترك العاجز
بالجداله
|
ومنه «الأجدل»
للصّقر ؛ لشدّته.
وقال القائل : [الكامل]
__________________
٩٩٤ ـ ..........
|
|
يهوي محاربها
هويّ الأجدل
|
والجدل : فتل
الحبل ، ومنه زمام مجدول ، أي : محكم الفتل.
فصل
قد تقدّم أنّ
الفسق : هو الخروج عن الطّاعة ، واختلف المفسرون فيه ، فحمله أكثر المحقّقين على كلّ
المعاصي ، وهذا قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، وطاوس ، والحسن ، وسعيد بن جبير
، وقتادة ، والزهري ، والربيع ، والقرظي ، قالوا : لأنّ اللفظ صالح للكلّ ،
والنّهي عن الشّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه ؛ ويؤكده قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ، وقوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧].
وذهب بعضهم إلى
أنّ المراد منه بعض أنواعه ، ثم ذكروا وجوها.
أحدها : قال
الضحّاك : المراد التنابز بالألقاب ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].
والثاني : قال
عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي : المراد السّباب ؛ لقوله ـ عليهالسلام ـ «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر» .
الثالث : أنّ
المراد منه الإيذاء ، والإفحاش ؛ قال تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢].
الرابع : قال ابن
زيد : هو الذّبح للأصنام ؛ فإنّهم كانوا في حجّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ،
وقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥].
__________________
الخامس : قال ابن
عمر : هو قتل الصّيد ، وسائر محظورات الإحرام .
وأمّا الجدال :
فهو «فعال» من المجادلة ، الذي هو الفتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي : مفتول ،
والجديل : اسم للزّمام ؛ لأنه لا يكون إلّا مفتولا ، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ
كلّ واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. وذكر المفسرون فيه وجوها :
أحدها : قال ابن
مسعود ، وابن عباس ، والحسن : هو الجدال الذي يخاف معه الخروج إلى السّباب ،
والتكذيب ، والتجهيل . وهو قول عمرو بن دينار ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ،
والزهريّ ، وعطاء ، وقتادة .
الثاني : قال محمد
بن كعب القرظيّ : إنّ قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجّنا أتمّ. وقال آخرون
: بل حجّنا أتم ، فنهاهمّ الله عن ذلك .
الثالث : قال
القاسم بن محمد : هو أن يقول بعضهم : الحجّ اليوم ، ويقول بعضهم : الحج غدا ، وذلك بأنهم أمروا بأن يجعلوا حساب الشهور على الأهلّة ،
فكان بعضهم يجعل الشهور على الأهلّة ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب ؛ كانوا
يختلفون.
الرابع : قال
مقاتل ، والقفّال : هو ما جادلوا فيه النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين أمرهم بنسخ الحج إلى العمرة ، إلّا من قلّد الهدي ،
قالوا : كيف نجعلها عمرة ، وقد سمينا الحج؟! فهذا جدالهم .
الخامس : قال مالك
في «الموطأ» : الجدال في الحج أنّ قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في
المزدلفة بقزح وغيرهم يقف بعرفات ، وكلّ منهم يزعم أنّ موقفه
__________________
موقف إبراهيم ،
ويقول عليه الصلاة والسلام نحن أصوب ؛ فقال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً
هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ
لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ) [الحج : ٦٧ ـ ٦٨]
قال مالك : هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.
السّادس : قال ابن
زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة ، فبعضهم يقف بعرفة ، وبعضهم بالمزدلفة ، وبعضهم
حجّ في ذي القعدة ، وبعضهم في ذي الحجّة ، وكلّ يقول : ما فعلته هو الصّواب ؛ فقال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي
الْحَجِّ) ، أي : استقرّ أمر الحج على ما فعله الرسول ـ عليهالسلام ـ فلا اختلاف فيه من بعد ذلك ، وذلك معنى قول النّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله
السّموات والأرض» .
قال مجاهد : معناه
: لا شكّ في الحجّ أنّه في ذي الحجة ، فأبطل الله النّسيء .
قال أهل المعاني : ظاهر الآية الكريمة نفي ومعناه نهي ، أي لا ترفثوا ، ولا
تفسقوا ولا تجادلوا ؛ كقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٣] أي :
لا ترتابوا.
قال القاضي : قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) يحتمل أن يكون خبرا ، وأن يكون نهيا ، كقوله (لا رَيْبَ فِيهِ)
، أي : لا ترتابوا
فيه ، وظاهر اللفظ للخبر ، فإذا حملناه على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبت
مع واحدة من هذه الخلال ، بل تفسد ؛ لأنه كالضدّ لها وهي مانعة من صحّته ، وعلى
هذا الوجه لا يستقيم المعنى ؛ إلّا أن يراد بالرفث ، الجماع [المفسد للحج ، ويحمل
الفسوق على الزّنا ؛ لأنه يفسد الحجّ ، ويحمل الجدال على الشّكّ في وجوب الحجّ] ؛ لأن ذلك يكون كفرا ، فلا يصحّ معه الحج ، وإنّما حملنا
هذه الألفاظ على هذه المعاني ؛ حتّى يصحّ خبر الله تعالى بأنّ هذه الأشياء لا توجد
مع الحج.
فصل
قال ابن العربيّ : المراد بقوله : «فلا رفث» نفيه مشروعا لا موجودا ، فإنّا
نجد
__________________
الرفث فيه حسّا ،
وخبر الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا
لا إلى وجوده محسوسا ؛ كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أي
: مشروعا لا حسّا ، فإنّا نجد المطلقات لا يتربصن ؛ فعاد النّفي إلى الحكم
الشّرعيّ لا إلى الوجود الحسّيّ ؛ وهو كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩]
إذا قلنا : إنّه وارد في الآدميّين ؛ وهو الصّحيح ، فإنّ معناه لا يمسّه أحد منهم
شرعا ، فإن وجد المسّ ، فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدّقيقة فاتت العلماء فقالوا
: إنّ الخبر يكون بمعنى النّهي ، وما وجد ذلك قطّ ، ولا يصح أن يوجد ؛ فإنهما
مختلفان حقيقة ، ومتضادان وصفا.
فصل
قال ابن الخطيب ـ رحمهالله تعالى ـ فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجّ فاسدا
ويجب على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجّ باقيا معها ، لم يصدق الخبر لأنّ هذه
الأشياء لا توجد مع الحج؟
قلنا المراد من
الآية الكريمة حصول المضادة بين هذه الأشياء ، وبين الحجة المأمور بها ابتداء ،
وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء ؛ بدليل أنّه يجب قضاؤها ، والحجة
الفاسدة التي يجب عليه المضيّ فيها شيء آخر سوى تلك الحجة المأمور بها ابتداء ،
وأمّا الجدال الحاصل بسبب الشّكّ في وجوب الحج ، فظاهره أنّه لا يبقى معه عمل الحج
؛ لأنّ ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام ، فثبت أنّا إذا حملنا اللفظ على الخبر ،
وجب حمل الرّفث والفسوق والجدال على ما ذكرنا ، وأمّا إذا حملناه على النّهي ، وهو
في الحقيقة عدول عن الظّاهر ، فقد يصحّ أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته ، وقول
الفحش ، وأن يراد بالفسق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ؛ لأنّ اللفظ مطلق
ومتناول لكل هذه الأقسام ، فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها.
فإن قيل : ما
الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرّفث ، والفسوق ،
والجدال في الحج ، من غير زيادة ولا نقص؟
فالجواب : لأنه
ثبت في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربع قوّى : قوّة شهوانية بهيميّة ، وقوّة
غضبيّة سبعيّة ، وقوّة وهميّة شيطانيّة ، وقوة عقلية ملكيّة ، والمقصود من جميع
العبادات قهر القوى الثلاث ، أعني : الشهوانية والغضبية والوهمية.
فقوله : (فَلا رَفَثَ) إشارة إلى قهر القوة الشهوانية.
وقوله : (وَلا فُسُوقَ) إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب المعصية والتمرد.
__________________
وقوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) إشارة إلى قهر القوة الوهمية ، التي تحمل الإنسان على
الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة على
منازعة الناس ، ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلمّا كان سبب الشّرّ
محصورا في هذه الأمور الثلاثة ؛ لا جرم لم يذكر معها غيرها.
فصل
من الناس من عاب
الاستدلال ، والبحث ، والنّظر ، والجدال ؛ واحتجّ بقوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) ، وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في
الدين طاعة ، لما نهي عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكون الاشتغال بالجدال
ضمّ طاعة إلى طاعة ، فيكون أولى بالترغيب فيه. وأيضا قال تبارك وتعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف : ٥٨] ،
عابهم بكونهم من أهل الجدل ، فدلّ على أن الجدل مذموم ، وقال تبارك وتعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦]
فنهى عن المنازعة.
وأمّا جمهور
المتكلّمين فقالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ؛ لقوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ،
وحكى قول الكفّار لنوح ـ عليهالسلام ـ (قالُوا يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود : ٣٢] ،
ومعلوم أنّ ذلك الجدال إنما كان لتقرير أصول الدين ، فيحمل الجدال المذموم على
الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال ، والجاه ، والجدال الممدوح على الجدل في
تقرير الحقّ ، ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذّبّ عن دين الله.
قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدّم الكلام على نظيرتها ، وهي : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فكلّ ما قيل ثمّ ، يقال هنا. قال أبو البقاء رحمهالله «ونزيد هنا وجها
آخر : وهو أن يكون «من خير» في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : وما تفعلوا
فعلا كائنا من خير».
و «يعلمه» جزم على
جواب الشّرط ، ولا بدّ من مجاز في الكلام : فإمّا أن يكون عبّر بالعلم عن المجازاة
على فعل الخير ، كأنّه قيل : يجازيكم ، وإمّا أن تقدّر المجازاة بعد العلم ، أي :
فيثيبه عليه.
وفي قوله : (وَما تَفْعَلُوا) التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة في قوله : «فمن فرض» وحمل على
معنى «من» إذ جمع الضمير ولم يفرده.
وقد خبط بعض
المعربين ، فقال : «من خير» متعلّق بتفعلوا ، وهو في موضع
__________________
نصب ؛ لمصدر محذوف
، تقديره : «وما تفعلوا فعلا من خير» والهاء في «يعلمه» تعود إلى خير. قال شهاب
الدّين : وهذا غلط فاحش ؛ لأنّه من حيث علّقه بالفعل قبله كيف يجعله نعت مصدر
محذوف؟ ولأنّ جعله الهاء تعود إلى «خير» يلزم منه خلوّ جملة الجواب من ضمير يعود
على اسم الشّرط ، وذلك لا يجوز ، أمّا لو كانت أداة الشّرط حرفا ، فلا يشترط فيه
ذلك ، فالصواب ما تقدّم. وإنما ذكرت لك هذا لئّلا تراه فتتوهّم صحّته. والهاء
عائدة على «ما» الّتي هي اسم الشّرط.
فصل
اعلم أنّ الله
تعالى يعلم كلّ شيء وإذا خصّ هنا الخير بأنه يعلمه لفوائد.
أحدها : إذا علمت
منك الخير ، ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشرّ ، سترته وأخفيته ؛ لتعلم أنّه إذا
كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العقبى؟
وثانيها : قال بعض
المفسرين في قوله : (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] معناه :
لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي ، لفعلت ، فكذا ـ هاهنا ـ كأنّه قيل للعبد : ما تفعله
من الشّرّ ، فلو أمكنني أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك.
وثالثها : أنّ
السّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كلّ ما تتحمله من المشقّة والخدمة في حقّي
، فأنا عالم به ، ومطّلع عليه ، كان هذا وعدا له بالثّواب العظيم ، ولو قال ذلك
لعبده المذنب ، كان توعّدا له بالعقاب الشّديد ، ولمّا كان سبحانه أكرم الأكرمين ؛
لا جرم ذكر ما يدلّ على الثّواب ، ولم يذكر ما يدلّ على العقاب.
ورابعها : أنّ
جبريل ـ عليهالسلام ـ لمّا قال : «ما الإحسان»؟ فقال : «الإحسان : أن تعبد
الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنّه يراك» ، فهاهنا بيّن للعبد أنّه يراه ،
ويعلم ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للربّ من الإحسان ، الذي هو أعلى
درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أنّ مخدومه مطّلع عليه ، ليس بغافل عن أحواله
ـ كان أحرص على العمل .
فصل
قال القرطبيّ : هذا شرط وجوابه ، والمعنى أنّ الله يجازيكم على أعمالكم ؛
لأنّ المجازاة إنما تقع من العالم بالشّيء.
وقيل : هو تحريض
وحثّ على حسن الكلام مكان الفحش ، وعلى البرّ والتّقوى في الأخلاق مكان الفسوق
والجدال.
__________________
وقيل : جعل الخير
عبارة عن ضبط أنفسهم ؛ حتى لا يوجد ما نهوا عنه.
قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوى) فيه قولان :
أحدهما : أن
المراد تزوّدوا من التّقوى ؛ لقوله (فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوى) فتحقيق [الكلام فيه : أنّ] الإنسان له سفران ، سفر في الدنيا ، وسفر من الدّنيا.
فالسّفر في الدنيا
، لا بدّ له من زاد ، وهو الطّعام ، والشّراب ، والمركب ، والمال.
والسّفر من الدنيا
لا بدّ له ـ أيضا ـ من زاد ، وهو معرفة الله تعالى ومحبته والإعراض عمّا سواه ،
وهذا الزاد خير من الزّاد الأوّل لوجوه :
أحدها : أنّ زاد
الدّنيا [يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلّصك من عذاب دائم ، وزاد الدّنيا] يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام ، والبلايا ، وزاد الآخرة
يوصلك إلى لذّات باقية خالصة عن شوائب المضرّة ، وزاد الدنيا يوصلك إلى دنيا
منقضية ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كلّ ساعة من الإقبال ، والقرب ،
والوصول غير منقضية وزاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشّهوة والنّفس وزاد الآخرة يوصلك
إلى حضرة الجلال والقدس ؛ فلهذا قال : (خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوى) فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إن كنتم من أولي
الألباب الّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزاد ؛ لما فيه من كثرة
المنافع ؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [الطويل]
٩٩٥ ـ إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى
|
|
ولا قيت بعد
الموت من قد تزوّدا
|
ندمت على ألّا
تكون كمثله
|
|
وأنّك لم ترصد
كما كان أرصدا
|
والقول الثّاني :
أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أناس من أهل اليمن ، كانوا يحجّون بغير زاد ، ويقولون : إنّا متوكّلون وكانوا
يسألون وربما ظلموا الناس وغصبوهم ؛ فأمرهم الله تعالى أن
يتزوّدوا ما يبلغون به ، فإنّ خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السّؤال ، وأنفسكم
عن الظلم.
وعن ابن زيد ، أنّ
بعض قبائل العرب كانوا يحرّمون الزاد في الحج ، والعمرة ؛ فنزلت الآية.
__________________
قال ابن الجوزيّ :
قد لبس إبليس على قوم يدعون التوكّل ؛ فخرجوا بلا زاد ، وظنّوا أن هذا هو التوكّل
وهم على غاية الخطأ ، قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكّة المشرفة على
التوكّل بغير زاد ، فقال له أحمد : اخرج في غير القافلة. فقال : لا إلّا معهم ، فقال
: على جرب النّاس توكلت .
وروى محمد بن جرير
الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ، ومعم أزودة رموا به ؛ فنهوا عن ذلك
بهذه الآية الكريمة.
قال القاضي : فإن
أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :
الأوّل : أنّ
القادر على أن يستصحب المال في السفر إذا لم يستصحبه ، عصى الله تعالى في ذلك ،
فبهذا الطّريق يصحّ دخوله تحت الآية الكريمة.
والثاني : أن يكون
في الكلام حذف ، والمراد تزوّدوا لعاجل سفركم ، وللآجل ؛ فإنّ خير الزاد التقوى.
وقيل : المعنى فإنّ خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة ، والحاجة إلى السؤال
، والتكفّف ، وألف «الزّاد» منقلبة عن «واو» لقولهم تزوّد.
قوله : «واتّقوني»
أثبت أبو عمر «الياء» في قوله : «واتّقوني» على الأصل ، وحذف الآخرون ؛ للتخفيف ،
ودلالة الكسرة عليه ، وفيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله ؛ وهو كقول الشّاعر : [الرجز]
٩٩٦ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري
قوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) اعلم أنّ لبّ الشيء ولبابه هو الخالص منه.
__________________
قال النّحاس :
سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمد بن يحيى ثعلب : أتعرف في كلام العرب شيئا من
المضاعف جاء على فعل؟ قلت : نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لببت تلبّ ؛ فاستحسنه ،
وقال : ما أعرف له نظيرا.
واختلفوا فيه فقال
بعضهم : إنّه اسم للعقل ؛ لأنه أشرف ما في الإنسان ، وبه تميز عن البهائم ، وقرب
من درجة الملائكة.
وقال آخرون : إنّه
في الأصل اسم للقلب الذي هو محل للعقل ، والقلب قد يجعل كناية عن العقل ، فقوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : يا أولي العقول ، وإطلاق اسم المحلّ على الحال مجاز
مشهور.
فإن قيل : إذا كان
لا يصحّ إلّا خطاب العقل ؛ فما فائدة قوله : (يا أُولِي
الْأَلْبابِ)؟!
فالجواب : معناه
أنّكم لمّا كنتم من أولي الألباب ، تمكنتم من معرفة هذه الأشياء ، والعمل بها ،
فكان وجوبها عليكم أثبت ، وإعراضكم عنها أقبح ؛ ولهذا قال الشّاعر : [الوافر]
٩٩٧ ـ ولم أر في عيوب النّاس شيئا
|
|
كنقص القادرين
على التّمام
|
وقال تبارك وتعالى
: (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]
يعني : أنّ الأنعام معذورة بسبب العجز ، وأمّا هؤلاء فقادرون فكان إعراضهم أفحش ،
فلا جرم كانوا أضلّ.
قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا
اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨)
قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) «أن» في محلّ نصب
في موضعين عند سيبويه والفراء ، وجرّ عند شيخيهما والأخفش ؛ لأنّها على إضمار حرف الجرّ
، أي : في أن ، وهذا الجارّ متعلّق : إمّا بجناح ؛ لما فيه من معنى الفعل وهو
الميل والإثم ، وما كان في معناهما ، وإمّا بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «جناح» ، فيكون
مرفوع المحلّ ، أي : جناح كائن في كذا.
ونقل أبو البقاء رحمهالله تعالى عن بعضهم ، أنه متعلق ب «ليس» ، واستضعفه. قال شهاب
الدّين : بل يحكم بتخطئته ألبتة.
قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق بتبتغوا فيكون مفعولا له ، وأن يكون صفة
__________________
ل «فضلا» ، فيكون
منصوب المحلّ ، متعلّقا بمحذوف. و «من» في الوجهين لابتداء الغاية ، لكن في الوجه
الثاني تحتاج إلى حذف مضاف أي : فضلا كائنا من فضول ربكم.
فصل
قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا) يدلّ على أنّ شبهة قامت عندهم في تحريم التجارة من وجوه :
أحدها : أنّه
تبارك وتعالى منع الجدال في الحجّ ، والتّجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة في قلّة
القيمة وكثرتها ؛ فوجب أن تكون التجارة محرّمة.
ثانيها : أنّ
التجارة كانت محرمة في وقت الحج في الجاهلية ، وذلك شيء حسن ؛ لأن المشتغل بالحج
مشتغل بخدمة الله تعالى ، فوجب ألّا يشوب هذا العمل بالأطماع الدّنيويّة.
وثالثها : أنّ
المسلمين علموا أنّ كثيرا من المباحات صارت محرمة عليهم في الحج : كاللّبس ،
والاصطياد ، والطّيب ، والمباشرة ، فغلب على ظنّهم أنّ الحجّ لمّا صار سببا لحرمة
اللبس مع الحاجة إليه ، فأولى منه تحريم التجارة ؛ لقلة الاحتياج إليها.
ورابعها : عند
الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بالتجارة ؛ قال تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩]
فلهذا السبب ، بيّن الله تعالى ـ هاهنا ـ أنّ التجارة جائزة غير محرّمة.
فإذا عرف هذا ،
فذكر المفسّرون في قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وجهين :
الأوّل : أنّ
المراد هو التجارة ؛ نظيره قوله تعالى : (وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢]
وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣]
ويدلّ عليه ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزّبير أنّهم قرأوا : «أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ».
وقال ابن عباس :
كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيّام الحجّ ، وإذا دخل العشر ، بالغوا في
ترك البيع والشّراء بالكلية ، وكانوا يسمّون التاجر في الحج الدّاجّ ، ويقولون :
هؤلاء الدّاجّ ، وليسوا بالحاجّ. ومعنى الدّاجّ : المكتسب الملتقط ، وهو مشتقّ من
الدّجاجة وبلغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف والضعيف
وإطعام الجائع ؛ فأزال الله هذا الوهم وبيّن أنّه لا جناح في التجارة ، ولما كان
ما قبل هذه الآية في أحكام الحج ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)
__________________
دلّ ذلك على أنّ
هذا الحكم واقع في زمان الحجّ ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره.
وروي عن ابن عمر ـ
رضي الله عنهما ـ أنّ رجلا قال له : إنّا قوم نكري ، وإنّ قوما يزعمون أنّه لا حجّ
لنا ، فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون؟
قلت : بلى ، قال : أنتم حجّاج ؛ وجاء رجل إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يسأله عمّا سألتني ، فلم يردّ عليه ؛ حتّى نزل قوله
تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) فدعاه ، وقال : أنتم حجّاج.
وبالجملة فهذه
الآية الكريمة نزلت ردّا على من يقول : لا حجّ للتّاجر ، والأجير ، والجمّال.
وروى عمرو بن
دينار ، عن ابن عباس : أنّ عكاظ ، ومجنّة ، وذا المجاز كانت أسواقا في الجاهليّة ،
يتّجرون فيها في أيّام الموسم ، وكانت معايشهم منها ، فلمّا جاء الإسلام ، كرهوا
أن يتّجروا في الحج بغير إذن ، فسألوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فنزلت الآية .
وقال مجاهد : إنهم
كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ، ولا منى ، فنزلت هذه الآية ، فلهذا حمل أكثر المفسرين الآية على التجارة في أيام
الحجّ ، وحمل أبو مسلم الآية على ما بعد الحج ، قال : والتقدير : واتقوني في كل
أفعال الحج ، وبعد ذلك (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ونظيره قوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠].
قال ابن الخطيب :
وهذا القول ضعيف من وجوه ، لأنّ قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ) يدلّ على أنّ هذه الإفاضة حصلت بعد ابتغاء الفضل ؛ لأن الفاء
للتّعقيب ، وذلك يدلّ على وقوع التجارة في زمان الحج.
وأيضا فحمل الآية
على موضع الشبهة ، أولى من حملها على موضع لا شبهة فيه ، ومحلّ الشبهة ، هو
التجارة في زمان الحجّ ، وأمّا بعد فراغ الحجّ ، فكلّ أحد يعلم حلّ التجارة.
فإن قيل : وكذلك
أيضا كل أحد يعلم أنّ الصلاة إذا قضيت ، يباح البيع والشّراء ؛
__________________
فلماذا قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ).
قلنا لأنه أمر
قبله بالسّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : (إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ) فنهى عن البيع بعد النّداء ، فلمّا قال بعده : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، كأنّه قال : إنّ المانع الذي منعكم من البيع قد زال ؛
فانتشروا في الأرض ، وابتغوا من فضل الله.
وأمّا قياس الحجّ
على الصلاة ، فالفرق بينهما : أنّ الصلاة أعمالها متّصلة ، فلا يحلّ في أثنائها
التشاغل بغيرها ، وأمّا أعمال الحج ، فهي متفرّقة بعضها عن بعض ، ففي خلالها لا
يبقى المرء على الحكم الأول ، فتصير الصلاة عملا واحدا من أعمال الحج ، لا مجموع
الأعمال ، وأيضا فقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ) تصريح بأنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.
فإن قيل : حكم
الحاج باق في كل تلك الأوقات ؛ بدليل حرمة التطيب واللّبس.
فالجواب : هذا
قياس في مقابلة النص.
القول الثاني :
قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : المراد بقوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجّا أعمالا أخر ، تكون
موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضّعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام
الجائع ، واعترض عليه القاضي : بأنّ هذا واجب ، أو مندوب ، ولا
يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه ، إنّما يذكر هذا اللفظ في المباحات .
والجواب : لا
نسلّم أنّ هذا اللفظ لا يذكر إلّا في المباحات لقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١]
والقصر مندوب وكما قال تعالى (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] والطواف ركن في الحج ، وإنّما أهل الجاهلية
كانوا يعتقدون أنّ ضمّ سائر الطاعات إلى الحجّ ، يوقع خللا في الحج ، ونقصا ؛
فبيّن الله تعالى بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) أنّ الأمر ليس كذلك.
فصل
اتفقوا على أنّ
التجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة ، لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا في الطاعة ،
كانت مباحة ، وتركها أولى ؛ بقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ،
والإخلاص هو ألّا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة ، والحاصل أنّ الإذن في
هذه التجارة جار مجرى الرّخص.
__________________
قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) العامل فيها جوابها ، وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء رحمهالله «ولا تمنع الفاء
من عمل ما بعدها ، فيما قبلها ؛ لأنه شرط».
ومنع أبو حيّان من
ذلك بما معناه : أنّ مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ؛ لأنّ ذلك عرفات ، وهذا
المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكان ، لزم منه اختلاف الزمان ضرورة ، فلا يجوز أن
يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند إنشاء الإفاضة.
قوله : «من عرفات»
متعلّق ب «أفضتم» والإفاضة في الأصل : الصبّ ، يقال : فاض الإناء ، إذا امتلأ حتّى
ينصبّ عن نواحيه. ورجل فيّاض ، أي : مندفق بالعطاء ؛ قال زهير : [الطويل]
٩٩٨ ـ وأبيض فيّاض يداه غمامة
|
|
على معتفيه ما
تغبّ فواصله
|
وحديث مستفيض ، أي
شائع.
ويقال : فاض الماء
وأفضته ، ثم يستعمل في الإحرام مجازا. والهمزة في «أفضتم» فيها وجهان :
أحدهما : أنها
للتعدية ، فيكون مفعوله محذوفا ، تقديره : أفضتم أنفسكم ، وهذا مذهب الزجاج ،
وتبعه الزّمخشريّ ، وقدّره الزجاج فقال : معناه : دفع بعضكم بعضا والإفاضة :
الاندفاع في السّير بكثرة ، ومنه يقال : أفاض البعير بجرته ، إذا وقع بها فألقاها
منبثة ، وكذلك أفاض القداح في الميسر ، ومعناه : جمعها ، ثم ألقاها متفرّقة ،
وإفاضة الماء من هذا ؛ لأنه إذا صبّ ، تفرّق ، والإفاضة في الحديث ، إنّما هو
الاندفاع فيه بإكثار ، وتصرّف في وجوهه ؛ قال تعالى : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] ، قال
بعضهم : وليس كذلك ؛ لما يأتي ، ومنه يقال للناس : فوض ، ومثلهم فوضى ، ويقال :
أفاضت العين دمعها. فأصل هذه الكلمة : الدفع للشيء حتى يتفرق ، فقوله تعالى : «أفضتم»
، أي : دفعتم بكثرة ، وأصله : أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم :
دفعوا من موضع كذا ، وصبّوا.
والوجه الثاني :
أنّ أفعل هنا ، بمعنى «فعل» المجرد فلا مفعول له. قال أبو حيّان : لأنه لا يحفظ :
أفضت زيدا بهذا المعنى الذي شرحناه آنفا وأصل أفضتم : أفيضتم فأعلّ ؛ كنظائره ،
بأن نقلت حركة حرف العلّة على السّاكن قبله فتحرّك حرف العلّة في الأصل ، وانفتح
ما قبله ؛ فقلب ألفا ، وهو من ذوات الياء من الفيض ، كما تقدّم ، وليس من ذوات
الواو من قولهم : فوضى الناس ، وهم أخلاط الناس بلا سائس.
__________________
وعرفات اسم مكان
مخصوص ، وهل هو مشقّ أو مرتجل؟ قولان :
أحدهما : أنه
مرتجل ، وإليه ذهب الزمخشريّ ، قال : «لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس ؛ إلا
أن تكون جمع عارف».
والثّاني : أنه
مشتقّ ، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة ؛ لأنّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لمّا عرّفه جبريل هذه البقعة بالنّعت ، والصّفة ؛ فسمّيت
«عرفات» قاله عليّ ، وابن عبّاس وعطاء والسّدّيّ .
قال السّدّيّ :
لمّا أذّن إبراهيم في الناس بالحجّ ، فأجابوه : بالتّلبية ، وأتاه من أتاه ـ أمره الله
أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها له ، فخرج ، فلمّا بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله
الشيطان ؛ يردّه ؛ فرماه بسبع حصيات ، يكبّر مع كلّ حصاة ، فطار ، فوقع على الجمرة
الثّانية ؛ فرماه وكبّر [فطار ، فوقع على الجمرة الثالثة ؛ فرماه وكبّر] ، فلمّا رأى الشّيطان أنّه لا يطيعه ؛ ذهب ، فانطلق
إبراهيم حتّى أتى ذا المجاز ، فلمّا نظر إليه ، لم يعرفه ، فجاز فسمّي ذا المجاز ،
ثمّ انطلق حتّى وقف بعرفات فعرفها بالنّعت ؛ فسمّي الموقف «عرفة» والموضع «عرفات»
، حتى إذا أمسى ازدلف أي قرب إلى جمع فسمّي المزدلفة .
وقال عطاء : إنّ
جبريل ـ عليهالسلام ـ علّم إبراهيم ـ عليهالسلام ـ المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف
، وفي أي موضع تقف؟ قال : نعم .
وقيل : إن إبراهيم
ـ عليهالسلام ـ وضع ابنه إسماعيل وأمّه هاجر بمكّة ، ورجع إلى الشّام
ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات .
وقال الضّحّاك :
إنّ آدم وحوّاء ـ عليهماالسلام ـ التقيا بعرفة ، فعرف كلّ واحد منهما صاحبه ؛ فسمّي اليوم
عرفة والموضع بعرفات ؛ وذلك أنّهما لمّا أهبطا من الجنّة ، وقع آدم بسرنديب ،
وحوّاء بجدّة ، وإبليس ببيسان والحية ب «أصفهان» ، فلمّا أمر الله ـ تعالى ـ آدم ـ
عليهالسلام ـ بالحجّ ، لقي حواء بعرفات فتعارفا ، قاله ابن عبّاس .
__________________
وقيل : إنّ آدم ـ عليهالسلام ـ علّمه جبريل مناسك الحجّ ، فلمّا وقف بعرفات قال له :
أعرفت؟ قال : نعم ، فسمّي عرفات .
وقيل : إن الحجاج
يتعارفون بعرفات إذا وقفوا .
وقيل : إنّه ـ تبارك
وتعالى ـ يتعرّف فيه إلى الحجّاج بالمغفرة والرّحمة .
وروى أبو صالح عن
ابن عبّاس ؛ أنّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ رأى ليلة التّروية في منامه ، أنّه يؤمر بذبح ولده ،
فلما أصبح روّى يومه أجمع ، أي : فكّر أمن الله هذه الرّؤيا أم من الشّيطان؟ فسمّي
اليوم يوم التّروية. ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا ، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله
، فسمي اليوم عرفة .
[وقيل : مشتقّة من
العرف ، وهو الرائحة الطيبة].
قال تعالى : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها
لَهُمْ) [محمد : ٦] أي :
طيّبها لهم ، فيكون المعنى : أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات ، فقد تخلّصوا من
نجاسات الذّنوب ، واكتسبوا عند الله رائحة طيّبة.
وقيل : أصله من
الصّبر : يقال : رجل عارف ؛ إذا كان صابرا خاشعا ؛ قال ذو الرّمّة في ذلك : [الطويل]
٩٩٩ ـ ..........
|
|
عروف لما خطّت
عليه المقادر
|
أي : صبور على
قضاء الله ـ تعالى ـ فسمّي بهذا الاسم ؛ لخضوع الحاجّ وتذللهم وصبرهم على الدّعاء
، واحتمال الشّدائد لإقامة هذه العبادة.
وقيل : مشتقّة من
الاعتراف ؛ لأن الحاجّ إذا وقف اعترف للحقّ بالربوبيّة والجلال والاستغناء ،
ولنفسه بالفقر والذّلّة والمسكنة والحاجة.
وقيل : إنّ آدم
وحوّاء ـ عليهماالسلام ـ لمّا وقفا بعرفات ، قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : «الآن عرفتما
أنفسكما».
وقيل : من العرف ،
وهو الارتفاع ، ومنه عرف الدّيك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل.
__________________
ثم سمّي به بقعة
واحدة كقولهم : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار ، وأرض سباسب ، والتّقدير : كان كلّ قطعة
من تلك الأرض عرفة ، فسمّي مجموع تلك القطع بعرفات.
والمشهور : أنّ
عرفات وعرفة واحد ، وقيل : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم مكان ، وعرفة هي نعمان
الأراك ؛ قال الشّاعر : [الطويل]
١٠٠٠ ـ تزوّدت من نعمان عود أراكة
|
|
لهند ولكن من
يبلّغه هندا
|
والتنوين في عرفات
وبابه فيه ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه
تنوين مقابلة ، يعنون بهذا أنّ تنوين هذا الجمع مقابل لنون جمع الذكور ، فتنوين
مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جعل كلّ تنوين في جمع الإناث ـ وإن لم يكن لهنّ جمع
مذكر ـ كذلك ؛ طردا للباب.
والثاني : أنه
تنوين صرف ، وهو ظاهر قول الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «فإن قلت : فهلّا منعت الصّرف ،
وفيها السببان : التعريف والتأنيث؟ قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء
التي في لفظها ، وإما بتاء مقدّرة ؛ كما هي في «سعاد» ، فالتي في لفظها ليست
للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنّث ، ولا يصحّ تقدير التاء
فيها ؛ لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها ، كما لا تقدّر تاء
التأنيث في «بنت» ؛ لأنّ التاء التي هي بدل من الواو ؛ لاختصاصها بالمؤنث كتاء
التأنيث ، فأبت تقديرها» ، فمنع الزمخشريّ أن يكون التأنيث سببا فيها ، فصار
التنوين عنده للصّرف.
وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها : بأنّ هذه اللّفظة في الأصل اسم لقطع
كثيرة من الأرض ، كلّ واحدة منها تسمى بعرفة ، وعلى هذا التّقدير لم يكن علما ، ثم
جعلت علما لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
والثالث : أنّ جمع
المؤنث ، إن كان له جمع مذكر ؛ كمسلمات ومسلمين ، فالتنوين للمقابلة ، وإلّا
فللصّرف ؛ كعرفات.
والمشهور ـ حال
التسمية به ـ أن ينوّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة ؛ كما لو كان جمعا ، وفيه
لغة ثانية : وهو حذف التنوين تخفيفا ، وإعرابه بالكسرة نصبا. والثالثة : أعرابه
غير منصرف بالفتحة جرّا ، وحكاها الكوفيّون والأخفش ، وأنشد قول امرىء القيس : [الطويل]
__________________
١٠٠١ ـ تنوّرتها من أذرعات وأهلها
|
|
بيثرب أدنى
دارها نظر عالي
|
بالفتح.
فصل
اعلم أنّ اليوم
الثّامن من ذي الحجّة يسمّى يوم التّروية ، والتّاسع : يوم عرفة ، وقد تقدّم تعليل
يوم عرفة ، وأمّا يوم التّروية ففيه قولان :
أحدهما : ما تقدّم
من تروّي إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في منامه ، من روّى يروّي تروية ؛ إذا تفكّر وأعمل فكره
ورويّته.
وقيل : إن آدم ـ عليهالسلام ـ أمر ببناء البيت ، فلمّا بناه تفكّر فقال : رب ، إنّ
لكلّ عامل أجرا ، فما أجري على هذا العمل؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول
شوط من طوافك. قال : رب زدني ، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به ، قال : رب
زدني ، قال : أغفر لكلّ من استغفر له الطّائفون من موحدي أولادك. قال : حسبي يا
ربّ حسبي .
وقيل : إنّ أهل
مكّة يخرجون يوم التّروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في
الغد بعرفات .
الثاني : من رواه
بالماء يرويه ؛ إذا سقاه من عطش ، فقيل : إن أهل مكّة كانوا يخفون الماء للحجيح
الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاجّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقّ السّفر ،
ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقامهم بسبب قلّة الماء في الطّريق .
__________________
وقيل : إنهم
يتزوّدون الماء إلى عرفة.
وقيل : إنّ
المذنين كالعطاش الّذين وردوا بحار رحمة الله ـ تعالى ـ ، فشربوا منها حتى رووا.
فصل في فضل هذين اليومين
دلّ عليه قوله
تعالى : (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) [الفجر : ٣] ، قال
ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «الشّفع» ؛ يوم التّروية وعرفة ، والوتر يوم
النّحر .
وعن عبادة ؛ أنه ـ
عليهالسلام ـ قال : صيام عشر الأضحى كلّ يوم منها كالشّهر ، ولمن يصوم
يوم التّروية سنة ، وبصوم يوم عرفة سنتان .
وروى أنس عنه ـ عليهالسلام ـ ؛ قال : «من صام يوم التّروية أعطاه الله مثل ثواب عيسى
ابن مريم» ، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصّة به ،
وخمسة يشترك فيها مع غيره ، فالخمسة الأول :
أحدها : عرفة
وتقدّم اشتقاقه.
الثاني : يوم إياس
الكفّار من دين الإسلام ؛ قال ـ تبارك وتعالى ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣].
قال عمر ، وابن
عبّاس : نزلت هذه الآية الكريمة عشيّة عرفة ، والنّبي صلىاللهعليهوسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ، وذلك في حجّة الوداع وقد اضمحلّ الكفر وهدم شأن
الجاهليّة ، فقال النبيّ ـ عليهالسلام ـ : «لو يعلم النّاس ما لهم في هذه الآية ، لقّرّت أعينهم»
فقال يهوديّ لعمر : لو أنّ هذه الآية نزلت علينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال
عمر : أمّا نحن فجعلناه عيدين ؛ كان يوم عرفة ويوم الجمعة ، ومعنى إياس المشركين بأنّهم يئسوا من قوم محمّد ـ عليهالسلام ـ أن يرتدّوا [راجعين] إلى دينهم.
الثالث : يوم
إكمال الدّين ؛ نزل فيه قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيء من الشّرائع.
__________________
الرابع : يوم
إتمام النّعمة ؛ لقوله فيه : (وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣]
وأعظم النّعم نعمة الدّين.
الخامس : يوم
الرّضوان ؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم : (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣].
أما الخمسة الأخر
:
فأحدها : يوم
الحجّ الأكبر ؛ قال تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] وهذا
الاسم مشترك بينه وبين يوم النّحر ، واختلف فيه الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعون
:
فمنهم من قال :
إنّه عرفة ؛ لأنّ فيه الوقوف بعرفة «والحجّ عرفة» فإنّه لو أدركه وفاته سائر مناسك
الحجّ ، أجزأ عنها الدّم ؛ فلهذا سمّي بالحجّ الأكبر.
وقال الحسن : سمّي به ؛ لأنه اجتمع فيه الكفّار والمسلمون ، ونودي فيه
على ألّا يحجّ بعده مشرك.
وقال ابن سيرين : إنما سمّي به ؛ لأنّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلّها ؛
من اليهود والنّصارى وحجّ المسلمين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
ومنهم من قال :
إنّه يوم النّحر ؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجّ ، فأمّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل
يجزىء باللّيل.
وثانيها : الشّفع.
وثالثها : الوتر.
ورابعها :
الشّاهد.
وخامسها : المشهود
في قوله تعالى : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج : ٣].
فصل «في ترتيب أعمال الحج»
من دخل مكّة محرما
في ذي الحجّة أو قبله ، فإن كان مفردا أو قارنا طاف طواف القدوم ، وأقام على
إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتّعا طاف وسعى وحلق ، وتحلّل من عمرته ،
وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من مكّة بالحجّ ويخرج ، وكذلك من
أراد الحجّ من أهل مكّة ، والسّنّة أن يخطب الإمام بمكّة يوم السّابع من ذي الحجّة
، بعد أن يصلّي الظّهر خطبة واحدة ، يأمرهم فيها بالذّهاب غدا بعد صلاة الصّبح إلى
منى ، ويعلمهم تلك الأعمال ، ثم يذهبون يوم التّروية وهو اليوم الثّامن من ذي
__________________
الحجّة إلى منى ،
بحيث يوافون الظّهر بها ، ويصلّون بها الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والصّبح من
يوم عرفة ، فإذا طلعت الشّمس على ثبير يتوجّهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسّنّة ألّا
يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة ، وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتّى نزول الشّمس ،
فيخطب الإمام خطبتين ، يبيّن لهم مناسك الحجّ ، ويحرّضهم على كثرة الدّعاء
والتّهليل بالموقف ، فإذا فرغ من الخطبة الأولى ، جلس ثم قام ، وافتتح الخطبة
الثّانية والمؤذّنون يأخذون في الأذان معه ، ويخفّف بحيث يكون فراغه من الخطبة ،
مع فراغ المؤذّنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذّنون فيصلّي بهم الظّهر ، ثم
يقيمون في الحال ويصلّي بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه ، فإذا فرغوا من الصّلاة
توجّهوا إلى عرفات ، فيقفون عند الصّخرات موقف النّبي صلىاللهعليهوسلم ، ويستقبلون القبلة ويذكرون الله ـ تعالى ـ ويدعونه إلى
غروب الشّمس.
وهنا الوقوف ركن
لا يدرك الحجّ إلّا به ، فمن فاته في وقته وموضعه ، فقد فاته الحجّ ، ووقت الوقوف
يدخل بزوال الشّمس من يوم عرفة ، ويمتدّ إلى طلوع الفجر من يوم النّحر ، وذلك نصف
يوم وليلة كاملة ، فإذا حضر الحاجّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار
، كفاه.
قال القرطبيّ ـ رحمهالله تعالى ـ : أجمع أهل العلم على أنّ من وقف بعرفة يوم عرفة
قبل الزّوال ، ثم أفاض منها قبل الزّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك ، وأجمعوا على تمام
حجّ من وقف بعرفة بعد الزّوال ، وأفاض نهارا قبل اللّيل إلّا مالك ؛ فإنّه قال :
لا بدّ أن
__________________
يأخذ من اللّيل
شيئا ، وأمّا من وقف بعرفة باللّيل ، فإنّه لا خلاف بين الأئمّة في تمام حجّة ،
[فإذا غربت الشّمس ، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب] وعند أحمد ـ رضي الله عنه ـ وقت الوقوف من طلوع فجر يوم
عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر.
فصل
قال القرطبيّ : لا خلاف بين العلماء أنّ الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر
عليه أفضل ؛ لفعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك ، وعرفة كلها موقف إلّا بطن عرنة.
قال : ولا بأس
بالتّعريف في المساجد يوم عرفة ؛ تشبيها بأهل عرفة.
فصل
فإذا غربت الشّمس
دفع الإمام من عرفات ، وأخّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
وفي تسميتها
بالمزدلفة أقوال :
أحدها : أنّهم
يقربون فيها من منى ، والازدلاف : القرب.
والثاني : أنّ
النّاس يجتمعون فيها ، والاجتماع الازدلاف.
والثالث : يزدلفون
إلى الله ـ تعالى ـ ، أي : يتقرّبون بالوقوف ، ويقال للمزدلفة : جمع ؛ لأنّه يجمع
فيها بين المغرب والعشاء ؛ قاله قتادة .
وقيل : إنّ آدم ـ عليهالسلام ـ اجتمع فيها مع حوّاء ، وازدلف إليها ، أي : دنى
__________________
منها ، فإذا أتى
الإمام المزدلفة ، جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن لم يبت بها
فعليه دم [شاة] ، فإذا طلع الفجر ، صلّوا الصّبح بغلس ، والتّغليس هنا أشدّ
استحبابا منه في غيره بالاتّفاق ، فإذا صلّوا الصبح ، أخذوا منها حصى الرّمي ، كلّ
إنسان سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له : «قزح» ،
وسمّي مشعرا ؛ لأنّه من الشّعار وهو العلامة ؛ لأنه معلم الحجّ ، والصّلاة والمبيت
به ، والدعاء عنده من شعائر الحجّ ، وسمّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما
يلي منى ، فيرقى عليه إن أمكنه ، أو يقف قريبا منه إن لم يمكنه ، ويحمد الله ـ تعالى
ـ ويهلّله ويكبّره إلى أن يسفر جدا ، ثم يدفع قبل طلوع الشّمس ، ويكفي المرور كما
في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكبا ، حرّك دابته ، ومن
كان ماشيا ، أسرع قدر رمية بحجر ، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي
بسبع حصيات ، يقطع التّلبية مع ابتداء الرّمي ، فإذا رمى جمرة العقبة ، ذبح الهدي
وإن كان معه ، والهدي سنّة لو تركه ، فلا شيء عليه ، فإذا ذبح حلق رأسه ، أو قصّر
شعره بأن يقطع طرفه ، ثم يأتي إلى مكّة بعد الحلق ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ،
ويسمّى طواف الزّيارة ، ويصلي ركعتي الطّواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثم يعود
إلى منى في بقيّة يوم النّحر ، وعليه المبيت بمنى ليالي التّشريق لأجل الرّمي ،
وسمّيت «منى» لأنه يمنى فيه الدّم ، أي : يراق ، فإذا حصل الرّمي والحلق والطّواف
، فقد حلّ.
فصل
اعلم أنّ أهل
الجاهليّة كانوا قد غيّروا مناسك الحجّ عن سنّة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وذلك أنّ قريشا وقوما آخرين سمّوا أنفسهم بالحمس ، وهم
أهل الشّدّة في دينهم ، والحماسة الشّدّة ، يقال : رجل أحمس وقوم حمسّ ، ثم إن
هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ، ويقولون : لا نخرج من الحرم ، ولا نتركه وقت
الطّاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، والّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب
الشّمس ، والذين يقفون بالمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشّمس ، ويقولون : أشرق ثبير
كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشّمس ، كيما نندفع من مزدلفة ، فيدخلون في
غور من الأرض ، فأمر الله ـ تعالى ـ محمّدا ـ عليهالسلام ـ بمخالفة القوم في الدّفعتين ، فأمره بأن يفيض من عرفة
بعد المغرب ، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشّمس ، فالسّنّة بيّنت المراد من
الآية الكريمة.
__________________
فصل
الآية دلّت على
وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام ، عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفة
مشروطة بالحصول في عرفة ، ما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلّف ، فهو
واجب ، فدلّت الآية الكريمة على أنّ الحصول في عرفات واجب في الحجّ ، فإذا لم يأت
به لم يكن آتيا بالحجّ المأمور به ؛ فوجب ألّا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن
يكون الوقوف بعرفة شرطا.
أقصى ما في الباب
: أنّ الحجّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل ، إلّا أنّ الأصل ما ذكرنا ،
وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرط ، ونقل عن
الحسن أن الوقوف بعرفة واجب ، إلّا أنه إن فاته ذلك ، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه
، واتّفق الفقهاء على أنّ الحجّ لا يحصل إلّا بالوقوف بعرفة.
قوله : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فيه وجهان :
أحدهما : أن
يتعلّق ب «اذكروا».
والثاني : أن
يتعلّق بمحذوف على أنه حال من فاعل «اذكروا» أي : اذكروه كائنين عند المشعر.
والمشعر : المعلم
من الشّعار وهو العلامة ؛ لأنّه من معالم الحجّ ، وأصله من قولك : شعرت بالشّيء
إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلان ، أي : ليت بلغه وأحاط به ، وشعار الشّيء
علامته ، واختلفوا :
فقال بعضهم : هو
المزدلفة ، لأن الصّلاة والمقام والمبيت بها ، والدّعاء عنده ، قاله الواحدي في
البسيط .
وقال الزّمخشري :
الأصحّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة.
وقال ابن الخطيب ـ رحمهالله تعالى ـ : والأول أقرب ؛ لأنّ الفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرامِ) تدلّ على أنّ الذّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة
من عرفات ، وما ذاك إلّا البيتوتة بالمزدلفة.
فصل
قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرامِ) يدلّ على أن
الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور به ، كما في عرفة ، فأمّا
الوقوف هناك فمسنون.
وروي عن علقمة
والنّخعي ؛ أنّهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف
__________________
بعرفة ، لقوله
تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، فإذا قلنا : بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحا في
الكتاب ، وإنّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسّنّة ـ فالمشعر الحرام فيه أمر
جزم.
وقال جمهور
الفقهاء : ليس بركن ؛ لقوله ـ عليهالسلام ـ : «الحجّ عرفة ، فمن وقف بعرفة ، فقد تم حجّه» وقوله «من
أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ ، ومن فاته عرفة فقد فاته الحجّ» ، وأيضا فقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أمر بالذّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذّكر
، وليس بأصل ، وأمّا الوقوف بعرفة فهو أصل ؛ لأنه قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ولم يقل عند الذكر بعرفات.
فصل
اختلفوا في الذّكر
المأمور به عند المشعر الحرام.
فقال بعضهم : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ، والصّلاة تسمّى
ذكرا ؛ قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) [طه : ١٤] ، وأيضا
فإنه أمر بالذّكر هناك ، والأمر للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلّا هذا.
وقال الجمهور : هو
ذكر الله بالتّسبيح والتّحميد والتّهليل.
قال ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ : كان النّاس إذا أدركوا هذه اللّيلة لا ينامون .
قوله : (كَما هَداكُمْ) فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن تكون «الكاف»
في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف.
والثاني : أن تكون
في محلّ نصب على الحال من ضمير المصدر المقدّر ، وهو مذهب سيبويه.
والثالث : أن يكون
في محلّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو
البقاء : «ولا بدّ من حذف مضاف ؛ لأنّ الجثّة لا تشبه الحدث».
ومثله : «كذكركم
آباءكم» الكاف نعت لمصدر محذوف.
__________________
قال القرطبيّ :
والمعنى : «اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة».
الثالث : أن يكون
حالا ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين.
والرابع : للتعليل
بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيّاكم ، حكى سيبويه رحمهالله : «كما أنّه لا يعلم ، فتجاوز الله عنه». وممّن قال بكونها
للعلّيّة الأخفش وجماعة.
و «ما» في «كما»
يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون
مصدرية ، فتكون مع ما بعدها في محلّ جر بالكاف ، أي : كهدايته.
والثاني ـ وبه قال
الزمخشريّ وابن عطية ـ أن تكون كافّة للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها
محلّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [الطويل]
١٠٠٢ ـ وننصر مولانا ونعلم أنّه
|
|
كما النّاس
مجروم عليه وجارم
|
وقال آخر : [الوافر]
١٠٠٣ ـ لعمرك إنّني وأبا حميد
|
|
كما النّشوان
والرّجل الحليم
|
أريد هجاءه
وأخاف ربّي
|
|
وأعلم أنّه عبد
لئيم
|
وقد منع صاحب «المستوفى»
كون «ما» كافة للكاف ، وهو محجوج بما تقدّم.
والخامس : أن تكون
الكاف بمعنى «على» ؛ كقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥].
فإن قيل : قوله
تعالى : «واذكروا (اللهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ثم قال : «واذكروه» فما فائدة هذا التّكرار؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّ أسماء
الله ـ تعالى ـ توقيفيّة ؛ فقوله أولا : «اذكروا الله» أمر بالذّكر ،
__________________
وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أمر بأن نذكره بالأسماء والصّفات التي بيّنها لنا وهدانا
إليها ، لا بأسماء تذكر بحسب الرّأي والقياس.
وقيل : أمر
بالذّكر أولا ، ثم قال : (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) ، أي : وافعلوا ما أمركم به من الذّكر كما هداكم لدين
الإسلام ، كأنّه قال : إنّما أمرتكم بهذا الذّكر ؛ لتكونوا شاكرين لتلك النّعمة ،
ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان ، فقال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] ،
وقال في الأضاحي : (كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [الحج : ٣٧].
وقيل : أمر أولا
بالذّكر باللّسان ، وثانيا بالذّكر بالقلب ، فإن الذكر في كلام العرب ضربان:
أحدهما : الذّكر
ضد النّسيان.
والثاني : الذّكر
بالقول.
فالأول : كقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣].
والثاني : كقوله :
(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ
آباءَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] ، و
(وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣]
فالأول محمول على الذّكر باللّسان ، والثاني على الذكر بالقلب.
وقال ابن الأنباري
: معنى قوله : (اذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) أي : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.
وقيل : المراد
مواصلة الذكر بالذّكر ؛ كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه ، أي : اذكروه ذكرا
بعد ذكر ؛ كما هداكم هداية بعد هداية ، نظيره قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب : ٤١].
وقيل : المراد
بالذكر الأول : ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، والمراد بالثاني : الاشتغال بشكر
نعمائه ، والشّكر مشتمل أيضا على الذّكر.
فصل
قال بعضهم : إن هذه الهداية خاصّة ، والمراد : كما هداكم في مناسك
حجّكم إلى سنّة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ.
وقال بعضهم : بل هي عامّة متناولة لكل أنواع الهدايات.
قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ:) «إنّ» هذه هي
المخفّفة من الثقيلة ، واللام
__________________
بعدها للفرق بينها
وبين النافية ، وجاز دخول «إن» على الفعل ؛ لأنه ناسخ ، وهل هذه اللام لام
الابتداء التي كانت تصحب «إنّ» ، أو لام أخرى غيرها ؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأي
البصريّين.
وأمّا الكوفيون
فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى «إن» النافية ، واللام بمعنى «إلّا» ،
أي : ما كنتم من قبله إلّا من الضالّين ، ومذهب الكسائيّ التفصيل : بين أن تدخل
على جملة فعليّة ، فتكون «إن» بمعنى «قد» ، واللّام زائدة للتوكيد ؛ كقوله : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [الشعراء : ١٨٦] ،
وبين أن تدخل على جملة اسميّة ، كقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] ؛
فتكون كقول الفرّاء.
و «من قبله»
متعلّق بمحذوف يدلّ عليه «لمن الضّالّين» ، تقديره : كنتم من قبله ضالّين لمن
الضّالّين ، ولا يتعلّق بالضالّين بعده ؛ لأنّ ما بعد «أل» الموصولة ، لا يعمل فيما
قبلها ، إلا على رأي من يتوسّع في الظرف ، والهاء في «قبله» عائدة على «الهدى»
المفهوم من قوله «كما هداكم».
وقيل : تعود إلى
القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم ، بكتابه الذي بيّن لكم معالم دينه ، وإن
كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضّالّين.
وقيل : إلى الرّسول.
قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)
استشكل الناس مجي «ثمّ»
هنا ؛ من حيث إنّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى ؛ لأنّ قريشا كانت تقف
بمزدلفة ، وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء
ب «ثمّ» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوه :
أحدها : أنّ
الترتيب في الذّكر ، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسّن ذلك ؛ أن الإفاضة
الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله ، إذا فعلت الإفاضة.
ثانيها : أن تكون
هذه الجملة معطوفة على قوله : (وَاتَّقُونِ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) ففي الكلام تقديم وتأخير ، وهو بعيد.
ثالثها : أن تكون «ثمّ»
بمعنى الواو ، قال بعض النّحاة : فهي لعطف كلام منقطع من الأول.
قال بعضهم : وهي
نظير قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد : ١٢ ، ١٣]
إلى قوله : (ثُمَّ كانَ) [البلد : ١٧] ، أي
: كان مع هذا من المؤمنين ، وفائدة «ثمّ» ههنا : تأخّر أحد الخبرين عن الآخر ، لا
تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه].
رابعها : أن
الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ،
قاله الضّحّاك ،
ورجّحه الطبريّ ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن ، فتكون «ثمّ» على بابها ، قال
الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف موقع «ثمّ»؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى
النّاس ، ثمّ لا تحسن إلى غير كريم» تأتي ب «ثمّ» ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى
الكريم ، والإحسان إلى غيره ، وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند
الإفاضة من عرفات ، قال : «ثمّ أفيضوا» ؛ لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأنّ إحداهما
صواب والثانية خطأ» ، قال أبو حيّان : «وليست الآية نظير المثال الذي مثّله ،
وخاصل ما ذكر أن «ثمّ» تسلب الترتيب ، وأنّ لها معنى غيره سمّاه بالتفاوت ، والبعد
لما بعدها عمّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتّى تجيء «ثمّ» لتفاوت ما
بينهما ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثمّ» قال شهاب الدين ـ رحمهالله تعالى ـ : وهذا الذي ناقش الزمخشريّ به تحامل عليه ، فإنه
يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين ، وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه
الأشياء لا يردّ بها على مثل هذا الرجل.
و «من حيث» متعلّق
ب «أفيضوا» ، و «من» لابتداء الغاية ، و «حيث» هنا على بابها من كونها ظرف مكان ،
وقال القفّال : «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدّم
دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين ؛ ليقع الجواب عن مجيء «ثمّ»
هنا ، ولا يفيد ذلك ؛ لأن الزّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.
و (أَفاضَ النَّاسُ) في محلّ جرّ بإضافة «حيث» إليها ، والجمهور على رفع السّين
من «النّاس». وقرأ سعيد بن جبير : «النّاسي» وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه يراد
به آدم ـ عليهالسلام ـ وأيدوه بقوله : «فنسي ولم نجد له عزما».
والثاني : أن يراد
به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع النّاس ، فيكون المراد ب «النّاسي» جنس
الناسين ، قال ابن عطيّة : «ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : «النّاس» بكسر
السّين ، فاكتفى بالكسرة عن الياء ، وبها قرأ الزّهريّ ؛ كالقاص والهاد ؛ قال : أمّا جوازه في العربية ،
فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءة ، فلا أحفظه. قال أبو حيان : لم يجز سيبويه ذلك إلا
في الشّعر ، وأجازه الفرّاء في الكلام ، وأمّا قوله : «لم أحفظه» ، فقد حفظه غيره
، حكاها المهدويّ قراءة عن سعيد بن جبير أيضا.
فصل في المراد بالإفاضة
في الآية الكريمة
قولان :
__________________
الأول : أنّ
المراد بهذه الإفاضة من عرفات.
قال المفسّرون : كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقولون
: نحن أهل الله وقطّان حرمه ، فلا نخرج من الحرم ، ويستعظمون أن يقفوا مع النّاس
بعرفات ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات ، فإذا أفاض النّاس من عرفات ، أفاض
الحمس من المزدلفة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية الكريمة ، وأمرهم أن يقفوا
بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النّاس ، والمراد بالنّاس : العرب كلّهم
غير الحمس.
وقال الكلبي : هم أهل اليمن وربيعة ، وروي أنّه ـ عليهالسلام ـ لمّا جعل أبا بكر أميرا في الحجّ ، أمره بإخراج النّاس
إلى عرفات ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام
آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرفات ، ووقف بها
وأمر سائر النّاس بالوقوف بها. وقال بعضهم : «أفيضوا» أمر عامّ لكلّ النّاس.
وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) المراد : إبراهيم وإسماعيل ـ عليهماالسلام ـ : فإنّ سنّتهما كانت الإفاضة من عرفات.
وقيل : المراد
بالنّاس : النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ فإنّه روي أنّ النّبيّ ـ عليهالسلام ـ كان يقف في الجاهليّة بعرفة كسائر النّاس ويخالف الحمس.
وقال الضّحّاك : النّاس ههنا إبراهيم وحده ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد
جائز إذا كان رئيسا يقتدى به ، وهو كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣]
يعني به : نعيم ابن مسعود ، (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣]
يعني أبا سفيان ، وهو مجاز مشهور ؛ ومنه قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١].
وقال القفّال : قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ) [عبارة عن تقادم
الإفاضة من عرفات ، وأنّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث ؛ كما يقال :
هذا ممّا فعله النّاس قديما.
وقال الزّهريّ : إنّ المراد من النّاس في هذه الآية : آدم ـ عليهالسلام ـ ؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدّمة.
القول الثاني ـ وهو
اختيار الضحّاك ورجّحه الطّبري ـ : أنّ المراد بهذه الإفاضة ، هي الإفاضة من مزدلفة إلى
منى يوم النّحر ، قبل طلوع الشمس للرّمي والنّحر.
__________________
وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)] المراد : إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما .
قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) «استغفر» يتعدّى
لاثنين ، أولهما بنفسه ، والثاني ب «من» ؛ نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف
حرف الجر ؛ كقول القائل : [البسيط]
١٠٠٤ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه
|
|
ربّ العباد إليه
الوجه والعمل
|
هذا مذهب سيبويه ـ رحمهالله ـ وجمهور النّاس.
وقال ابن الطّراوة
: إنه يتعدّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدّى ب «من» ؛ لتضمنه معنى ما يتعدّى
بها ، فعنده «استغفرت الله من كذا» بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء : «استغفر»
في القرآن الكريم متعدّيا إلّا للأول فقط ، فأمّا قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] (وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥]
فالظاهر أنّ هذه اللام لام العلّة ، ولا لام التعدية ، ومجرورها مفعلو من أجله ،
لا مفعول به. وأمّا «غفر» فذكر مفعوله في القرآن تارة : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) [آل عمران : ١٣٥]
، وحذف أخرى : (وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) [المائدة : ٤٠].
والسين في «استغفر» للطلب على بابها ، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي :
من ذنوبكم التي فرطت منكم.
فإن قيل : أمر
بالاستغفار مطلقا ، وربما كان فيهم من لم يذنب ، فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار.
فالجواب : أنّه إن
كان مذنبا ، فالاستغفار واجب ، وإن لم يذنب ، فيجوز من نفسه صدور التّقصير في أداء
الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ؛ فيجب عليه الاستغفار تداركا لذلك لخلل
المجوّز ، وهذا كالممتنع في حقّ البشر.
وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقد تقدّم أنّها صيغتي مبالغة من المغفرة والرّحمة.
فصل
واختلف العلماء ـ رضي
الله عنهم ـ في هذه المغفرة الموعودة.
فقال بعضهم : إنّها عند الدّفع من عرفات إلى جمع.
وقال آخرون : إنها عند الدّفع من جمع إلى منى ، وهذا مبنيّ على الخلاف
المتقدّم في قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) على أيّ الأمرين يحمل.
__________________
قال القفّال ـ رحمهالله ـ ويتأكّد الثّاني بما روى نافع عن ابن عمر ؛ قال : خطبنا
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عشيّة عرفة ؛ فقال : «يا أيّها النّاس إن يطّلع الله
عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ، ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتّبعات عوّضها
من عنده ، أفيضوا على اسم الله تعالى» قال أصحابه : يا رسول الله ، أفضت بنا
بالأمس كئيبا حزينا ، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ، فقال عليهالسلام ـ «إنّي سألت ربّي
ـ عزوجل ـ بالأمس شيئا لم يجد لي به : سألته التّبعات فأبى عليّ ،
فلمّا كان اليوم أتى جبريل ـ عليهالسلام ـ فقال : إنّ ربّك يقرئك السّلام ويقول : التبعات ضمنت
عوضها من عندي» والله أعلم.
قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا
اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا
عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)
اعلم أن «قضى» إذا
علّق بفعل النّفس ، فالمراد منه الإتمام والفراغ ؛ كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة : ١٠] ،
وقوله ـ عليهالسلام ـ : «وما فاتكم فاقضوا» ، ويقال للحاكم عند فصل الخصومة : قضى بينهما. وإذا علّق
على فعل الغير ، فالمراد به الإلزام ؛ كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ) [الإسراء : ٢٣]
وإذا استعمل في الإعلام ، فالمراد أيضا كذلك ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤] ، أي : أعلمناهم ، وهذه الآية الكريمة من
القسم الأوّل.
وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد : اذكروا الله عند المناسك ، ويكون
المراد من هذا الذّكر : ما أمروا به من الدّعاء بعرفات والمشعر الحرام والطّواف
والسّعي ؛ كقول القائل : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، ولا يريد الفراغ من الحجّ ، بل
الدّخول فيه ، وحملهم على التّأويل صيغة الأمر.
__________________
والمناسك ، جمع «منسك»
بفتح السين وكسرها ، وسيأتي تحقيقهما ، وقد تقدّم اشتقاقها قريبا ، والقرّاء على
إظهار هذا ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، قالوا : شبّه حركة الإعراب بحركة البناء
فحذفها للإدغام ، وأدغم أيضا «مناسككم» ولم يدغم ما يشبهه من نحو : (جِباهُهُمْ) [التوبة : ٣٥] و (وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦].
قال بعض المفسّرين : إن جعلها جمع «منسك» الذي هو المصدر بمنزلة النّسك ،
فالمراد : إذا قضيتم عبادتكم الّتي أمرتم بها في الحجّ ، وإن جعلتها جمع «منسك»
الذي هو موضع العبادة ، فالتّقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم ، فيكون من باب حذف
المضاف.
إذا عرف هذا ؛
فنقول : قال بعضهم : المراد بالمناسك ما أمر الله ـ تعالى ـ به في الحجّ من
العبادات ، وقال مجاهد : قضاء المناسك : إراقة الدّماء ، يقال : أنسك الرجل ينسك نسكا ، إذا ذبح نسيكته بعد رمي
جمرة العقبة والاستقرار بمنى ، والفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) تدلّ على أنّ الذّكر يجب عقيب الفراغ من المناسك ؛ فلذلك
اختلفوا.
فمنهم من حمله على
التكبير بعد الصّلاة يوم النّحر وأيّام التّشريق ـ على حسب اختلافهم في وقته ـ لأن
بعد الفراغ من الحجّ لا ذكر مخصوص إلّا التكبير.
ومنهم من قال : بل
المراد تحويل القوم عمّا اعتادوه بعد الحجّ من التّفاخر بالآباء ؛ لأنه تعالى لو لم ينه عنه بهذه الآية الكريمة ، لم
يعدلوا عن هذه الطّريقة.
ومنهم من قال : بل
المراد منه أنّ الفراغ من الحجّ يوجب الإقبال على الدّعاء والاستغفار ؛ كما أن
الإنسان بعد الفراغ من الصّلاة يسنّ أن يشتغل بالذّكر والدّعاء.
قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) الكاف كالكاف في قوله (كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨]
إلّا في كونها بمعنى «على» أو بمعنى اللام ، فليلتفت إليه ، والجمهور على نصب «آباءكم»
مفعولا به ، والمصدر مضاف لفاعله على الأصل ، وقرأ محمد بن كعب : «آباؤكم» رفعا ، على أنّ المصدر مضاف
للمفعول ، والمعنى : كما يلهج الابن بذكر أبيه ، وروي عنه أيضا : «أباكم» بالإفراد
على إرادة الجنس ، وهي توافق قراءة الجماعة في كون
__________________
المصدر مضافا
لفاعله ، ويبعد أن يقال : هو مرفوع على لغة من يجري «أباك» ونحوه مجرى المقصور.
فصل
قال جمهور
المفسّرين : إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحجّ يبالغون في الثّناء
على آبائهم وفي ذكر مناقبهم ؛ فقال تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ، أي : فاجهدوا في الثّناء على الله وشرح الآية ، كما
بذلتم جهدكم في الثّناء على آبائكم.
وقال الضّحّاك
والرّبيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمّهاتكم ، واكتفى بذكر الآباء ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١]
قالوا : وهو قول الصّبيّ أول ما يفصح للكلام أبه أبه أمّه أمّه ، أي : كونوا
مواظبين على ذكر الله ؛ كمواظبة الصّغير على ذكر أبيه وأمّه.
وقال أبو مسلم : أجرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر ، أي : كما أنّ الرّجل
لا ينسى ذكر أبيه ، فكذلك يجب ألّا يغفل عن ذكر الله ـ تعالى ـ.
وقال ابن الأنباري
: كانت العرب في الجاهليّة تكثير من القسم بالآباء والأجداد ؛ فقال تعالى :
عظّموا الله كتعظيم آبائكم.
وقيل : كما أنّ
الطّفل يرجع إلى أبيه في طلب جميع مهمّاته ، ويكون ذاكرا له بالتّعظيم فكونوا أنتم
في ذكر الله كذلك.
وقيل : يحتمل
أنّهم كانوا يذكرون آباءهم ؛ ليتوسّلوا بذكرهم إلى إجابة الدّعاء ، فعرّفهم الله ـ
تعالى ـ أنّ آباءهم ليسوا في هذه الدّرجة ؛ إذ أفعالهم الحسنة محبطة بشركهم.
وسئل ابن عبّاس ـ رضي
الله عنهما ـ عن قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ، فقيل : يأتي على الرّجل اليوم لا يذكر فيه أباه.
قال ابن عبّاس :
ليس كذلك ؛ ولكن هو أن تغضب لله إذا عصي ، أشدّ من غضبك لوالديك إذا ذكرا بسوء .
قوله : «أو أشدّ
ذكرا» يجوز في «أشدّ» أن يكون مجرورا ، وأن يكون منصوبا : فأمّا جرّه ، فذكروا فيه
وجهين :
__________________
أحدهما : أن يكون
مجرورا عطفا على «ذكركم» المجرور بكاف التشبيه ، تقديره : أو كذكر أشدّ ذكرا ،
فتجعل للذكر ذكرا مجازا ، وإليه ذهب الزّجّاج ، وتبعه أبو البقاء ـ رضي الله عنه ـ وابن عطيّة.
والثّاني : أنه
مجرور عطفا على المخفوض بإضافة المصدر إليه ، وهو ضمير المخاطبين ، قال الزمخشريّ
: أو أشدّ ذكرا في موضع جرّ عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْراً) ؛ كما تقول : «كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكرا»
وهو حسن ، وليس فيه تجوّز بأن يجعل للذكر ذكر ؛ لأنه جعل «أشدّ» من صفات الذّاكرين
، إلا أن فيه العطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجار ، وهو ممنوع عند
البصريين ، ومحلّ ضرورة.
وأمّا نصبه فمن
أوجه :
أحدها : أن يكون
معطوفا على «آباءكم» قاله الزمخشريّ ، فإنه قال : «بمعنى أو أشدّ ذكرا من آبائكم»
؛ على أنّ «ذكرا» من فعل المذكور هو كلام يحتاج إلى تفسير ، فقوله : «هو معطوف على
آباءكم» : معناه أنك إذا عطفت «أشدّ» على «آباءكم» ، كان التقدير : أو قوما أشدّ
ذكرا من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد «أشدّ» هو من
فعلهم ، أي : من فعل القوم المذكورين ؛ لأنه جاء بعد «أفعل» الذي هو صفة للقوم ،
ومعنى «من آبائكم» أي من ذكركم لآبائكم ، وهذا أيضا ليس فيه تجوزّ بأن جعل الذّكر
ذاكرا.
الثاني : أن يكون
معطوفا على محلّ الكاف في «كذكركم» ؛ لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، تقديره : «ذكرا
كذكركم آباءكم أو أشدّ» وجعلوا الذّكر ذاكرا مجازا ؛ كقولهم : شعر شاعر ، وهذا
تخريج أبي عليّ وابن جنّي.
الثالث : قاله
مكّيّ : أن يكون منصوبا بإضمار فعل ، قال : تقديره : «فاذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم
لآبائكم» ؛ فيكون نعتا لمصدر في موضع الحال ، أي : اذكروه بالغين في الذّكر.
الرابع : أن يكون
منصوبا بإضمار فعل الكون ، قال أبو البقاء : «وعندي أنّ الكلام محمول على المعنى ، والتقدير : أو
كونوا أشدّ لله ذكرا منكم لآبائكم ، ودلّ على هذا المعنى قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي : كونوا ذاكريه
، وهذا أسهل من حمله على المجاز» يعني المجاز الذي تقدّم ذكره عن الفارسيّ
وتلميذه.
__________________
الخامس : أن يكون «أشدّ»
نصبا على الحال من «ذكرا» ؛ لأنه لو تأخّر عنه ، لكان صفة له ؛ كقوله : [مجزوء
الوافر]
١٠٠٥ ـ لميّة موحشا طلل
|
|
يلوح كأنّه خلل
|
«موحشا» حال من «طلل» ؛ لأنّه في
الأصل صفة ، فلما قدّم ، تعذّر بقاؤه صفة ، فجعل حالا ، قاله أبو حيّان ـ رحمهالله تعالى ـ ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثة أوجه لنصبه ، ووجهين
لجرّه : «فهذه خمسة أوجه كلّها ضعيفة ، والذي يتبادر إلى الذّهن في الآية أنهم
أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم ، أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل هذه
الآية الكريمة عليه بوجه ذهلوا عنه» ، فذكر ما تقدّم ، ثم جوّز في «ذكرا» ـ والحالة
هذه ـ وجهين :
أحدهما : أن يكون
معطوفا على محلّ الكاف في «كذكركم» ، ثم اعترض على نفسه في هذا الوجه ؛ بأنه يلزم
منه الفصل بين حرف العطف ، وهو «أو» وبين المعطوف وهو «ذكرا» بالحال ، وهو «أشدّ»
، وقد نصّ النحويون على أن الفصل بينهما لا يجوز إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون
حرف العطف أكثر من حرف واحد.
والثاني : أن يكون
الفاصل قسما ، أو ظرفا أو جارّا ، وأحد الشرطين موجود ، وهو الزيادة على حرف ،
والآخر مفقود ، وهو كون الفاصل ليس أحد الثلاثة المتقدّمة ، ثم أجاب بأن الحال
مقدّرة بحرف الحر وشبّهه بالظرف ، فأجريت مجراهما.
والثاني من
الوجهين في «ذكرا» أن يكون مصدرا لقوله : «فاذكروا» ، ويكون قوله : «كذكركم» في
محلّ نصب على الحال من «ذكرا» ؛ لأنها في الأصل صفة له ، فلما قدّمت ، كانت في
محلّ حال ، ويكون «أشدّ» عطفا على هذه الحال ، وتقدير الكلام : «فاذكروا الله ذكرا
كذكركم ، أي : مشبها ذكركم أو أشدّ» ؛ فيصير نظير : «اضرب مثل ضرب فلان أو أشدّ»
الأصل : اضرب ضربا مثل ضرب فلان أو أشدّ.
و «ذكرا» تمييز
عند غير الشّيخ كما تقدّم ، واستشكلوا كونه تمييزا منصوبا ؛ وذلك أن أفعل التفضيل
يجب أن تضاف إلى ما بعدها ، إذا كان من جنس ما قبلها ؛ نحو : «وجه زيد أحسن وجه» ،
«وعلمه أكثر علم» ، وإن لم يكن من جنس ما قبلها ، وجب نصبه ؛ نحو : «زيد أحسن وجها
، وخالد أكثر علما» ، إذا تقرّر ذلك ، فقوله : «ذكرا» هو من جنس ما قبلها ، فعلى
ما قرّر ، كان يقتضي جرّه ، فإنه نظير : «اضرب بكرا كضرب عمرو زيدا أو أشدّ ضرب»
بالجرّ فقط. والجواب عن هذا الإشكال مأخوذ من الأوجه المتقدّمة في النصب والجر
المذكورين في «أشدّ» ؛ من حيث أن يجعل الذّكر ذاكرا مجازا ؛ كقولهم :
__________________
«شعر شاعر» ؛ كما
قال به الفارسيّ وصاحبه ، أو يجعل «أشدّ» من صفات الأعيان ، لا من صفات الإذكار ؛
كما قال به الزمخشريّ ، أو يجعل «أشدّ» حالا من «ذكرا» أو ننصبه بفعل و «أو» هنا
قيل للإباحة ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بل ، وهو قول أكثر المفسّرين.
قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا
آتِنا فِي الدُّنْيا) «من» مبتدأ ،
وخبره في الجارّ قبله ، ويجوز أن تكون فاعلة عند الأخفش ، وأن تكون نكرة موصوفة ،
وفي هذا الكلام التفات ؛ إذ لو جرى على النسق الأول ، لقيل : «فمنكم» ، وحمل على
معنى «من» ؛ إذ جاء جمعا في قوله : «ربّنا آتنا» ، ولو حمل على لفظها ، لقال «ربّ
آتني».
وفي المفعول
الثاني ل «آتنا» ـ لأنه يتعدّى لاثنين ثانيهما غير الأوّل ـ ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه
محذوف ؛ اختصارا أو اقتصارا ؛ لأنه من باب «أعطى» ، أي : آتنا ما نريد ، أو
مطلوبنا.
والثاني : أن «في»
بمعنى «من» أي : من الدنيا.
والثالث : أنها
زائدة ، أي : آتنا الدنيا. وليسا بشيء.
فصل
اعلم أنّه بيّن
أولا مناسك الحجّ ، ثم أمر بعدها بالذّكر ، ثم بيّن بعد الذّكر كيفيّة الدّعاء ،
وهذا من أحسن التّرتيب ؛ فإنّ تقديم العبادة يكسر النّفس ، وبعد العبادة لا بدّ من
الاشتغال بذكر الله ، فإن به يكمل الدّعاء ؛ كما حكي عن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ؛ أنّه قدّم
الذّكر على الدّعاء ، فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] ثم
قال : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء : ٨٣] ثم
بيّن ـ تبارك وتعالى ـ أنّ الّذين يدعون فريقان : أحدهما يطلب الدّنيا ، والثّاني
يطلب الدّنيا والآخرة ، وقد بقي قسم ثالث وهو طلب الآخرة ، واختلفوا في هذا القسم
: هل هو مشروع أم لا؟ والأكثرون على أنّه غير مشروع ؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له
بآلام الدّنيا ؛ فالأولى أن يستعيذ بربّه من كل شرّ في الدّنيا والآخرة.
روى القفّال في «تفسيره» عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ دخل على رجل يعوده ، قد أنهكه المرض حتّى صار كالفرخ ،
فقال : ما كنت تدعو الله به قبل هذا؟ قال : كنت أقول : اللهمّ ما كنت تعاقبني به
في الآخرة فعجّل به في الدّنيا ، فقال النبيّ ـ عليهالسلام ـ : سبحان الله!! إنّك لا تطيق ذلك ؛ فهلا قلت : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) قال : فدعا له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فشفي .
__________________
فصل
اختلفوا في الّذين
يقتصرون في الدّعاء على طلب الدّنيا على قولين.
فقال قوم : هم
الكفّار ؛ روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنّ المشركين كانوا إذا وقفوا
للدّعاء ، يقولون : اللهمّ أعطنا غنما وإبلا وبقرا ، وعبيدا ، وإماء ، وكان الرّجل
يقوم ويقول : اللهم إنّ أبي كان عظيم القبّة ، كبير الجفنة ، كثير المال ؛ فأعطني
مثلما أعطيته ، ولم يطلبوا التّوبة والمغفرة ؛ لأنهم كانوا منكرين البعث
والمعاد.
وعن أنس ؛ كانوا
يقولون : اسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظّفر ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أنّ من كان هكذا ، فلا خلاق له في
الآخرة ، أي : لا نصيب له.
قال القرطبي : فنهوا عن ذلك الدّعاء المخصوص بأمر الدّنيا ، وجاء
النّهي بصيغة الخبر عنهم.
وقال آخرون : قد
يكونوا مؤمنين ، ويسألون الله ـ تعالى ـ لدنياهم لا لآخرتهم ، ويكون سؤالهم هذا
ذنبا ؛ لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف حطام الدّنيا الفاني ، وأعرضوا عن سؤال
نعيم الآخرة ، ويقال لمن فعل ذلك : أنّه لا خلاق له في الآخرة ، وإن كان مسلما ؛
كما روي في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران : ٧٧]
أنها نزلت فيمن أخذ مالا بيمين فاجرة.
وروي عن النّبيّ ـ
عليهالسلام ـ : إنّ الله يؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم ، ومعنى ذلك على وجوه.
__________________
أحدها : أنّه لا
خلاق له في الآخرة إلّا أن يتوب.
الثاني : لا خلاق
له في الآخرة إلّا أن يعفو الله عنه.
والثالث : لا خلاق
له في الآخرة كخلاق من سأل الله ـ تعالى ـ لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالا
بيمين فاجرة ، كخلاق من تورّع عن ذلك ؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها
وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠].
قوله تعالى : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١]
يجوز في الجارّ وجهان.
أحدهما : أن
يتعلّق ب «آتنا» كالذي قبله.
والثاني : أجازه
أبو البقاء أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من «حسنة» ؛ لأنه كان في
الأصل صفة لها ، فلما قدّم عليها ، انتصب حالا.
قوله : «وفي
الآخرة حسنة» هذه الواو عاطفة شيئين على شيئين متقدّمين ، ف «في الآخرة» عطف على «في
الدّنيا» بإعادة العامل ، و «حسنة» عطف على «حسنة» ، والواو تعطف شيئين فأكثر ،
على شيئين فأكثر ؛ تقول : «أعلم الله زيدا عمرا فاضلا ، وبكرا خالدا صالحا» ،
اللهم إلا أن تنوب عن عاملين ، ففيها خلاف وتفصيل يأتي في موضعه ـ إن شاء الله
تعالى ـ ، وليس هذا كما زعم بعضهم : أنه من باب الفصل بين حرف العطف وهو على حرف
واحد ، وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وجعله دليلا على أبي عليّ الفارسيّ ؛ حيث
منع ذلك إلا في ضرورة ؛ لأن هذا من باب عطف شيئين على شيئين ؛ كما ذكرت لك ، لا من
باب الفصل ، ومحلّ الخلاف إنما هو نحو : «أكرمت زيدا وعندك عمرا» ، وإنما يردّ على
أبي عليّ بقوله : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨]
وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢].
فصل
ذكر المفسّرون في
الحسنيين وجوها :
قال عليّ بن أبي
طالب : في الدّنيا امرأة صالحة ، وفي الآخرة الجنّة ؛ روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ؛ أنه قال : الدّنيا كلّها متاع وخير متاعها المرأة
الصّالحة .
__________________
وقال الحسن : في الدّنيا حسنة العلم والعبادة ، وفي الآخرة : الجنّة
والنظر.
روى الضحّاك عن
ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنّ رجلا دعا ربّه فقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ما أعلم أنّ هذا الرّجل سأل الله شيئا من أمر الدّنيا»
، فقال بعض الصحابة : بلى يا رسول الله إنّه قال : (رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً) ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إنّه يقول ربّنا آتنا في الدّنيا عملا صالحا» .
وقال السّدّيّ
وابن حيان : في الدّنيا رزقا حلالا وعملا صالحا ، وفي الآخرة المغفرة والثّواب.
وقال عوف : من
آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا ، فقد أوتي في الدّنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة .
وقيل : الحسنة في
الدّنيا الصّحة والأمن ، والكفاية ، والولد الصّالح ، والزّوجة الصّالحة ،
والنّصرة على الأعداء ؛ لأن الله تعالى سمّى الخصب والسّعة في الرّزق حسنة ؛ فقال
: (إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة : ٥٠].
وقيل في قوله
تعالى (قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢]
أنهما الظّفر والنّصرة ، وأمّا الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثّواب والخلاص من
العقاب.
وقال قتادة : هو
طلب العافية في الدّارين .
وبالجملة فهذا
الدّعاء جامع لجميع مطالب الدّنيا والآخرة ؛ روى ثابت ؛ أنّهم قالوا لأنس : ادع
لنا ، فقال : «اللهم آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار»
قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : زدنا ، قال : ما تريدون ؛ قد سألت لك خير
الدّنيا والآخرة .
وعن أنس ؛ قال :
كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يكثر أن يقول : ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النّار .
__________________
وعن عبد الله بن
السّائب ؛ أنّه سمع النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول فيما بين ركن بني جمح والرّكن الأسود (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أن منشأ البحث في الآية الكريمة أنّه لو قيل : آتنا
في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة ، لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال :
(آتِنا فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ، وهذا نكرة في محلّ الإثبات ، فلا يتناول إلّا حسنة واحدة
؛ فلذلك اختلف المفسّرون ، فكل واحد منهم حمل اللّفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة
، وهذا بناء منه على أنّ الفرد المعرّف بالألف واللّام يعمّ ، وقد اختار في «المحصول» خلافه.
__________________
ثم قال : فإن قيل
: أليس أنّه لو قيل : آتنا الحسنة في الدّنيا والحسنة وفي الآخرة ، لكان متناولا
لكلّ الأقسام ، فلم ترك ذلك وذكره منكّرا؟
وأجاب بأن قال : إنّا بيّنّا أنّه ليس للدّاعي أن يقول : اللهم
أعطني كذا وكذا ، بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي ، وموافقا
لقضائك وقدرك ، فأعطني
__________________
ذلك ، فلو قال :
الله م أعطني الحسنة في الدّنيا ، لكان ذلك جزما ، وقد بيّنّا أنّه غير جائز ،
فلمّا ذكره على سبيل التّنكير ، كان المراد منه حسنة واحدة ، وهي التي توافق قضاءه
وقدره ، وكان ذلك أحسن وأقرب إلى رعايته الأدب.
وقوله : «قنا»
ممّا حذف منه فاؤه ولامه من وقى يقي وقاية ، أمّا حذف فائه ، فبالحمل على المضارع
؛ لوقوع الواو بين ياء وكسرة كما حذفت يقي ويشي مثل بعد ، هذا قول البصريّين ،
وقال الكوفيّون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي.
قال محمّد بن زيد
: وهذا خطأ ؛ لأن العرب تقول : ورم يرم ، فيحذفون الواو وأمّا حذف لامه ؛ فلأنّ
الأمر جار مجرى المضارع المجزوم ، وجزمه بحذف حرف العلة ؛ فكذلك الأمر منه ، فوزن «قنا»
حينئذ : عنا ، والأصل : اوقنا ، فلمّا حذفت الفاء استغني عن همزة الوصل ، فحذفت ، و
«عذاب» مفعول ثان.
قوله تعالى : «أولئك»
: مبتدأ و «لهم» خبر مقدم ، و «نصيب» مبتدأ ، وهذه الجملة خبر الأول ، ويجوز أن
يكون «لهم» خبر «أولئك» ، و «نصيب» فاعل به ؛ لما تضمنّه من معنى الفعل لاعتماده ،
والمشار إليه ب «أولئك» فيه قولان :
أظهرهما : أنهما
الفريقان : طالب الدنيا وحدها وطالب الدنيا والآخرة ، وقيل : بل لطالب الدنيا
والآخرة ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذكر حكم الفريق الأوّل ؛ حيث قال : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).
قوله : (مِمَّا كَسَبُوا) متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «نصيب» ، فهو في محلّ رفع ،
وفي «من» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها
للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا.
والثاني : أنها
للسببية ، أي : من أجل ما كسبوا.
والثالث : أنها
للبيان.
فصل
قال ابن عبّاس في
قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) : هو الرّجل يأخذ مالا يحجّ به من غيره ؛ فيكون له ثواب.
و «ما» يجوز فيها
وجهان : أن تكون مصدرية ، أي : من كسبهم ؛ فلا تحتاج إلى عائد.
والثاني : أنها
بمعنى «الّذي» ، فالعائد محذوف ؛ لاستكمال الشروط ، أي : من الذي كسبوه.
و «الكسب» : يطلق
على ما يناله العبد بعمله ، بشرط أن يكون لجرّ منفعة ، أو دفع مضرّة.
قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) السّريع فاعل من السّرعة قال ابن السّكّيت : سرع يسرع سرعا
وسرعة ، فهو سريع ؛ مثل عظم يعظم.
و «الحساب» مصدر
كالمحاسبة ، ومعنى الحساب في اللّغة : العدّ ؛ قال : حسب يحسب حسابا وحسبة وحسبا
إذا عدّ ذكره الليث وابن السّكّيت ، والحسب ما عدّ ؛ ومنه حسب الرّجل : وهو ما يعدّ من مآثره
ومفاخره ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب : لا يحتاج إلى عدّ ولا إلى عقد كما يفعله
الحسّاب ، والاحتساب : الاعتداد بالشّيء.
وقال الزّجّاج : الحساب في اللّغة مأخوذ من قولهم : «حسبك كذا» ، أي :
كفاك ، فسمّي الحساب في المعاملات حسابا ؛ لأنّه يعلم به ما فيه كفاية ، وليس فيه
زيادة على المقدار ولا نقصان.
وقيل : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قال الحسن : أسرع من لمح البصر.
وقيل : إتيان
القيامة قريب ؛ لأن ما هو آت لا محالة قريب ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧].
وقيل : سريع
الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ لأنّه ـ تعالى ـ في الوقت
الواحد يسأله السّائلون ، كلّ واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدّنيا والآخرة ،
فيعطي كلّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.
فصل في أن الله هو المحاسب
اختلف الناس في
معنى كونه ـ تعالى ـ محاسبا للخلق على وجوه :
أحدها : أنّ معنى
الحساب : أنّه ـ تعالى ـ يعلّمهم ما لهم و [ما] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوما
ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمّيّتها وكيفيّاتها ، ومقادير ما لهم من
الثّواب والعقاب.
قالوا : ووجه
المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ما] عليه ، فإطلاق اسم
الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السّبب على المسبّب ، وهو مجاز
مشهور.
ونقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل
يقفون بين يدي الله ـ تعالى ـ ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم :
هذه سيّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد
ضاعفتها لكم.
__________________
الثاني : أنّ
المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) [الطلاق : ٨] ،
ووجه المجاز : أنّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السّبب على المسبّب جائز
؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث : أنّه
تعالى يكلّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيّة ما لها من الثّواب والعقاب ، فمن
قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلّف سمعا
يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن
قال : إنه صوت ، قال : إنّه ـ تعالى ـ يخلق كلاما يسمعه كلّ مكلّف ، إمّا بأن يخلق
ذلك الكلام في أذن كلّ واحد منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوّة ذلك
الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلّف به ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى
ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى
سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
الْمِهادُ)(٢٠٦)
قوله : «معدودات»
: صفة لأيام ، وقد تقدّم أن صفة ما لا يعقل يطّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر
أبو البقاء هنا سؤالا ؛ فقال : إن قيل «الأيّام» واحدها «يوم» و «المعدودات»
واحدتها «معدودة» ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف
مذكّر ، وإنما الوجه أن يقال : «أيّام معدودة» فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه
أجرى «معدودات» على لفظ «أيّام» ، وقابل الجمع بالجمع مجازا ، والأصل «معدودة» ؛
كما قال : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ،
ولو قيل : إن الأيام تشتمل على السّاعات ، والساعة مؤنّثة ، فجاء الجمع على معنى
ساعات الأيّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذّكر في كلّ ساعات هذه الأيام ، أو في
معظمها ، لكان جوابا سديدا ، ونظير ذلك الشهر والصّيف والشتاء ؛ فإنها يجاب بها عن
«كم» ، و «كم» إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عددا ، وإنما هي
أسماء المعدودات ، فكانت جوابا من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير
فائدة ، وقوله «مفرد معدودات معدودة بالتأنيث» ممنوع ، بل مفردها «معدود» بالتذكير
، ولا يضرّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد ؛
ألا ترى إلى قولهم : حمّامات وسجلّات وسرادقات.
قال الكوفيّون :
الألف والتّاء في «معدودات» لأقلّ العدد.
وقال البصريّون :
هما للقليل والكثير ؛ بدليل قوله تعالى : (وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ : ٣٧] والغرفات كثيرة.
فصل
اعلم أنّ الله ـ تعالى
ـ لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرّمي لوجهين :
أحدهما : أنّ ذلك
كان أمرا مشهورا عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلّا أنّه ـ تعالى ـ ذكر ما فيه من
ذكر الله ـ تعالى ـ ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه.
الثاني : لعلّه
إنما لم يذكر الرّمي ؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيّام دليلا عليه ؛ إذ كان
من سنّته التكبير على كلّ حصاة.
فصل
قال هنا : في
أيّام معدودات ، وفي سورة الحجّ : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج : ٢٨] ،
فقال أكثر أهل العلم : الأيّام المعلومات : عشر ذي الحجّة ، آخرهن يوم النّحر.
والمعدودات : هي
أيّام التّشريق ؛ وهي أيّام منى ، ورمي الجمار ، وسمّيت معدودات لقلّتهن ؛
كقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠]
ولقوله تعالى بعده : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وأجمعت الأمّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيّام
منى ؛ وهي أيّام التّشريق.
قال الواحديّ ـ رحمهالله ـ : أيّام التّشريق ثلاثة أيّام بعد يوم النّحر :
أولها : يوم
النّفر ؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجّة ، يستقرّ النّاس فيه بمنّى.
والثاني : يوم
النّفر الأول ؛ لأن بعض النّاس ينفرون في هذا اليوم من منّى.
والثّالث : يوم
النّفر الثّاني ، وهذه الأيّام الثّلاثة مع يوم النّحر كلّها أيّام النّحر ، وعند
أحمد ـ رحمهالله ـ : عند آخر وقت النّحر إلى يومين من أيّام التّشريق ،
وأيّام التّشريق مع يوم النّحر أيام رمي الجمار ؛ وأيّام التكبير أدبار الصّلوات.
واستدلّ القفّال
على أنّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق بما روى عبد الرّحمن بن يعمر الدئلي
؛ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر مناديا فنادى : «الحجّ عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل
__________________
طلوع الفجر ، فقد
أدرك الحجّ ، وأيّام منى ثلاثة أيّام ، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ، ومن
تأخّر فلا إثم عليه» ، وهذا يدلّ على أنّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق.
وروي عن ابن عبّاس
: «المعلومات» يوم النّحر ويومان بعده ، و «المعدودات» أيام التّشريق .
وعن علي ـ رضي
الله عنه ـ قال : «المعلومات يوم النّحر وثلاثة بعده» .
وروى عطاء عن ابن
عباس : «المعلومات يوم عرفة والنّحر وأيّام التّشريق» .
وقال محمد بن كعب
: هما شيء واحد ، وهي أيّام التّشريق ، وروي عن نبيشة الهذلي ؛ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيّام التّشريق أيّام أكل وشرب وذكر الله ، ومن الذّكر
في أيّام التّشريق التكبير» .
فصل
اعلم أنّ المراد
بالذكر في هذه الأيّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات.
وروي عن عمر ،
وعبد الله بن عمر ؛ أنّهما كانا يكبّران بمنى تلك الأيّام خلف
__________________
الصّلوات ، وفي
المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطّريق ، ويكبّر النّاس بتكبيرهما ، ويتلون
هذه الآية.
وذهب الجمهور إلى
أنّ التكبير عقيب الصّلوات مختصّ بعيد الأضحى ، [في حق الحاجّ وغيره.
وذهب أحمد ـ رحمهالله ـ إلى أنّه يستحبّ التكبير ليلة العيدين]. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.
فقال مالك
الشّافعي : يكبّر المحرم وغيره عقيب الصّلوات ، من صلاة الظّهر من يوم النّحر ،
إلى بعد صلاة الصّبح من آخر أيّام التّشريق ، وهو قول ابن عبّاس ، وابن عمر ؛ لأن
التكبير إنّما ورد في حقّ الحاجّ والنّاس تبع لهم ، وذكر الحاجّ قبل هذا الوقت هو
التّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرّمي.
وقال أحمد ـ رحمهالله ـ : يكبّر المحرم من صلاة الظّهر يوم النّحر إلى آخر أيّام
التّشريق ، وغير المحرم يكبّر من صلاة الصّبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيّام
التّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسف ، وروي هذا القول عن بعضهم في
حقّ المحرم أيضا ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبّاس.
وقال أبو حنيفة :
يكبر المحرم وغيره من صلاة الصّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النّحر ، يروى ذلك
عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنّخعي.
وللشافعي قول آخر
: أنّه يبتدىء من صلاة المغرب ليلة النّحر ، إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق
، وله قول ثالث : أنّه يبتدىء من صلاة الصّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النّحر ؛
وهو كقول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ.
فإن قيل : التكبير
مضاف إلى الأيّام المعدودات وهي أيّام التّشريق ، فينبغي ألّا تكون مشروعة يوم
عرفة.
فالجواب : أنّ هذا
يقتضي ألّا يكون يوم النّحر داخلا فيها وهو خلاف الإجماع.
وصفة التكبير عند
أهل العراق شفعا : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر
ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ وهو قول أحمد.
وقال أهل المدينة
: صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثا نسقا ، وهو قول سعيد بن جبير
والحسن ، وبه قال مالك والشّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ،
والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) «من» يجوز فيها
وجهان :
__________________
أحدهما : أن تكون
شرطية ، ف «تعجّل» في محلّ جزم ، والفاء في قوله : «فلا» جواب الشرط والفاء وما في
حيّزها في محلّ جزم أيضا على الجواب.
والثاني : أنها
موصولة ب «تعجّل» فلا محلّ ل «تعجّل» ؛ لوقوعه صلة ، ولفظه ماض ، ومعناه يحتمل
المضيّ والاستقبال ؛ لأنّ كلّ ما وقع صلة ، فهذا حكمه ؛ والفاء في «فلا» زائدة في
الخبر ، وهي وما بعدها في محلّ رفع خبرا للمبتدأ.
قال القرطبي : «من»
في قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ) رفع بالابتداء ، والخبر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، ويجوز في غير القرآن : فلا إثم عليهم ؛ لأن معنى «من»
جماعة ؛ كقول ـ تبارك وتعالى ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] ،
وكذلك «من تأخّر».
و «في يومين»
متعلّق ب «تعجّل» ولا بدّ من ارتكاب مجاز ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود
يستلزم أن يكون واقعا في كلّ من معدوداته ، تقول : «سرت يومين» لا بد وأن يكون
السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول
من هذين اليومين بوجه ، ووجه المجاز : إمّا من حيث إنّه نسب الواقع في أحدهما
واقعا فيها ؛ كقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] و (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ،
والنّاسي أحدهما ، وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام
يومين أو كمالهما.
و «تعجّل» يجوز أن
يكون بمعنى «استعجل» ك «تكبّر ، واستكبر» ، أو مطاوعا ل «عجّل» نحو «كسّرته فتكسّر»
، أو بمعنى المجرّد ، وهو «عجل» ، قال الزمخشريّ : «والمطاوعة أوفق» ؛ لقوله : «ومن
تأخّر» ؛ كما هي في قوله : [البسيط]
١٠٠٦ ـ قد يدرك المتأنّي بعض حاجته
|
|
وقد يكون مع
المستعجل الزّلل
|
لأجل قوله «المتأنّي».
و «تعجّل واستعجل» يكونان لازمين ومتعدّيين ، ومتعلّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن
تقدّره مفعولا صريحا ، أي : من تعجّل النّفر ، وأن تقدّره مجرورا أي : بالنّفر ،
حسب استعماله لازما ومتعدّيا.
وفي هذه الآيات من
علم البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في «تعجّل وتأخّر» ، فهو كقوله : «أضحك
وأبكى» و (أَماتَ وَأَحْيا) [النجم : ٤٣ ، ٤٤]
، وهذا طباق غريب ، من حيث جعل ضدّ «تعجّل» : «تأخّر» ، وإنما ضدّ «تعجّل» : «تأنّى»
، وضدّ «تأخّر» : «تقدّم» ، ولكنه في «تعجّل» عبّر بالملزوم عن اللازم ، وفي «تأخّر»
باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيّة ، وذلك أن المتأخّر
بالنّفر آت بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجّل ، فقال في حقه
أيضا : «فلا إثم عليه» ؛ ليقابل
__________________
قوله أولا : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) ، فهو كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤].
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالا ؛ فقال : قوله : (وَمَنْ تَأَخَّرَ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فيه إشكال ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلّ ما يلزمه في تمام
الحجّ ، فما معنى قوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهذا اللّفظ إنما يقال في حقّ المقصّر ، وأجاب بوجوه :
أحدها : ما تقدّم
من المقابلة ، ونقله عن الواحدي.
وثانيها : أنّه ـ تعالى
ـ لما أذن في التّعجيل على سبيل الرّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنّ من لم يترخّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : القصر
عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد ـ رحمهالله ـ : القصر والفطر في السّفر أفضل ، فأزال الله ـ تعالى ـ هذه
الشّبهة ، وبيّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجّل وإن شاء تأخّر.
وثالثها : قال بعض
المفسّرين : إن منهم من كان يتعجّل ، ومنهم من كان يتأخّر ، وكل واحد
من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالف لسنّة الحجّ ، فبيّن الله ـ تعالى
ـ أنّه لا عيب على كلّ واحد من الفريقين.
ورابعها : أنّ
المعنى في إزالة الإثم عند المتأخّر ؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثّلاث ؛ فكأنّه
قيل : أيّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقّص منها وتعجّل في يومين
، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخّر عن الثّالث إلى الرّابع ؛ فلم ينفر مع
النّاس ، فلا شيء عليه.
__________________
وخامسها : أنّه
ذكر هذا الكلام ؛ مبالغة في أن الحجّ يكفّر الذّنوب والآثام ؛ كما إذا تناول
الإنسان التّرياق فيقول له الطّبيب : إن تناولت السّمّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا
ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضار ، لا بيان أن تناول
السّمّ وعدم تناوله يجريان مجرّى واحدا ؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان
المبالغة في كون الحجّ مكفّرا لكلّ الذّنوب ؛ لأن التّعجيل وتركه سيّان ؛ ومما يدلّ
على أن الحجّ سبب قويّ في تكفير الذّنوب قوله ـ عليهالسلام ـ «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»
، وهنا قول عليّ وابن مسعود.
فصل
وقرأ الجمهور «فلا
إثم» بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ سالم بن عبد الله : «فل اثم» بوصلها وحذف ألف لا ، ووجهه
أنه خفّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها ؛ تشبيها بالألف ، فالتقى
ساكنان : ألف «لا» وثاء «إثم» ، فحذفت ألف «لا» ؛ لالتقاء الساكنين ، وقال أبو
البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ : «ووجهها أنّه لمّا خلط الاسم ب «لا» حذف الهمزة
؛ تشبيها بالألف» يعني أنه لمّا ركّبت «لا» مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ،
والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف
لسكونها وسكون الثّاء.
فصل
قال القرطبي : روى
الثّقات ؛ أن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم أمر أمّ سلمة أن تصبح بمكّة يوم النّحر ، وكان يؤمّها ، وهذا يدلّ على أنّها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر ؛ لأن
هذا لا يكون إلّا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر.
وروى أبو داود عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ؛ أنّها قالت : «أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأمّ سلمة ليلة يوم النّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم
مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عندها». فإذا ثبت ذلك فالرّمي باللّيل جائز لمن فعله ،
والاختيار من طلوع الشّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشّمس
من يوم النّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكا ؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرق
دما.
__________________
واختلفوا فيمن لم
يرمها حتى غابت الشّمس ، ورماها من اللّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليالي
منى واجب ؛ لرمي الجمار في كلّ يوم بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة
سبع حصيات ، ويرخّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجّ ، ثم من رمى
اليوم الثاني من أيام التّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللّيلة الثّالية ،
ورمى يومها ، فله ذلك ؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ،
لزمه المبيت بها والرّمي من غد ، هذا مذهب الشّافعي وأحمد ، وهو قول أكثر
التّابعين.
وقال أبو حنيفة :
يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر ؛ لأن وقت الرّمي لم يدخل.
فصل
إذا ترك الرّمي ،
فذكره بعدما صدر وهو بمكّة ، بعد ما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار
كلّها ، أو جمرة منها ، أو حصاة من جمرة ، حتى خرجت أيّام منى فعليه دم ، وإن ترك
جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع ، إلى أن يبلغ دما
، إلّا جمرة العقبة فعليه دم.
__________________
وقال الأوزاعي :
يتصدّق إن ترك حصاة ، وقال الثّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك
أربعا فعليه دم ، وقال اللّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي.
فصل
قال القرطبي ـ رحمهالله تعالى ـ : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيّ الجمار هي ،
جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعا.
قوله : «لمن اتّقى»
هذا الجارّ خبر مبتدأ محذوف ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلّق هذا
الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلّق من جهة المعنى بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فتقدّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتّقى ،
وقيل : متعلّق بقوله : «واذكروا» أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلّق بقوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : المغفرة لمن اتّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن
اتّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخّر ؛ لأجل
الحاجّ المتّقي ؛ لئلّا يتخالج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه
إثما في الإقدام عليه ؛ لأنّ ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، وقيل : التقدير
: ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره
، كقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] ،
قال هذين التقديرين الزمخشريّ ، وقال أبو البقاء : «تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى» ، وكلّها
متقاربة ، ويجوز أن يكون (لِمَنِ اتَّقى) في محلّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلّق بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : انتفى الإثم ؛ لأجل المتّقي ، ومفعول : «اتّقى» محذوف
، أي : اتّقى الله ، وقد جاء مصرّحا به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتّقى الصّيد.
فصل
في هذه التّقوى
وجوه :
أحدها : قال أبو
العالية : ذهب أئمة أن «اتّقى» فيما بقي من عمره ، ولا يتّكل على
ما سلف من أعمال الحجّ.
وثانيها : أنّ هذه
المغفرة لا تحصل إلّا لمن كان متّقيا قبل حجّة ؛ كقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ؛
لأن المصرّ على الذّنب لا ينفعه حجّه ، وإن كان قد أدّى الفرض في الظّاهر.
وثالثها : أنّه
المتّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجّ ؛ لقوله عليهالسلام : «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق ...».
__________________
ورابعها : روى
الكلبي عن ابن عباس : «لمن اتّقى الصّيد وما يلزمه اجتنابه من محظورات الإحرام» .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف من وجهين :
أحدهما : أنّه
تقييد للّفظ المطلق بغير دليل.
والثاني : أنّ هذا
لا يصحّ إلّا إذا حمل على ما قبل هذه الأيّام ؛ لأنه في يوم النّحر إذا رمى وطاف
وحلق ، فقد تحلّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتّقاء الصّيد في هذه الأيّام.
قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : (لِمَنِ اتَّقى) الذي أريد به الماضي ، فلا يكون تكرارا ، وقد تقدم أن
التّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ).
فهو توكيد للأمر
بالتّقوى ؛ لأن من تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلّا
الجنّة أو النّار ، صار ذلك من أقوى الدّواعي إلى التّقوى ، وأمّا الحشر : فهو اسم
يقع على ابتداء أوّل خروجهم من الأجداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلّا إيّاه.
قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُه).
لمّا ذكر الذين
قصرت همّتهم على الدّنيا في قوله : «ومن (النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) حسنة» ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدّارين ، ذكر
المنافقين ؛ لأنّهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.
قوله تعالى : (مَنْ يُعْجِبُكَ:) يجوز في «من» أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرة موصوفة ، وقد
تقدّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة
فيه للتعدّي.
وقال الراغب : «العجب حيرة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشّيء ، وليس
هو شيئا له في ذاته حالة ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السّبب ومن لا يعرفه ،
وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه» ، ويقال : عجبت من كذا ، قال
القائل : [الرجز]
__________________
١٠٠٧ ـ عجبت والدّهر كثير عجبه
|
|
من عنزيّ سبّني
لم أضربه
|
قال بعض المفسّرين
: يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا.
قوله : «في الحياة»
فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق
ب «قوله» ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، لأنّ ادّعاءه المحبة بالباطل
يطلب حظّا من الدنيا.
والثاني : أن
يتعلّق ب «يعجبك» ، أي : قوله حلو فصيح في الدّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في
الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في
الكلام ، قال أبو حيان : «والذي يظهر أنه متعلّق ب «يعجبك» ، لا على المعنى الذي
قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدّة حياته ؛ إذ لا يصدر
منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائما ، لا تراه
يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالة منافية».
قوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ) في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها
عطف على «يعجبك» ، فهي صلة لا محلّ لها من الإعراب ، أو صفة ، فتكون في محلّ رفع
على حسب القولين في «من».
والثاني : أن تكون
حالية ، وفي صاحبها حينئذ وجهان :
أحدهما : أنه
الضمير المرفوع المستكن في «يعجبك».
والثاني : أنه
الضمير المجرور في «قوله» ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسما على
ذلك.
وفي جعلها حالا
نظر من وجهين :
أحدهما : من جهة
المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحال ، والظاهر خلافه.
والثاني : من جهة
الصّناعة وهو أنّه مضارع مثبت ، فلا يقع حالا إلا في شذوذ ؛ نحو : «قمت وأصكّ عينه»
أو ضرورة ؛ نحو : [المتقارب]
١٠٠٨ ـ ..........
|
|
نجوت وأرهنهم
مالكا
|
وتقديره مبتدأ
قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد.
__________________
والجمهور على ضمّ
حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذا من «أشهد» ونصب الجلالة مفعولا به ، وقرأ أبو
حيوة وابن محيصن بفتحهما ورفع الجلالة فاعلا.
قال القرطبيّ ـ رحمهالله تعالى ـ : ويؤيّده قراءة ابن عباس «والله
يشهد على ما في قلبه».
وقرأ أبي : «يستشهد الله».
فأمّا قراءة
الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادق ، وقد جاءت الشهادة
بمعنى القسم في آية اللّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصبا على حذف حرف الجر ، أي
: يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهو من قائله ؛ لأنّ المستعمل بمعنى القسم «شهد»
الثلاثيّ ، لا «أشهد» الرباعيّ ، لا تقول : أشهد بالله ، بل : أشهد بالله ، فمعنى
قراءة الجمهور : يطّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحد ، لشدة تكتّمه.
وأمّا تفسير
الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما
في قلبه ؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدّه ،
وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة ؛ إذ معناها : ويطّلع الله على ما قلبه من الكفر.
وأمّا قراءة أبيّ : فيحتمل «استفعل» وجهين :
أحدهما : أن يكون
بمعنى «أفعل» ؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني : أنه
بمعنى المجرّد وهو «شهد» ، وتكون الجلالة منصوبة على إسقاط الخافض.
قوله : «وهو ألدّ
الخصام» الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجه آخر ، وهو أن تكون حالا من الضمير
في «يشهد» ، والألد : الشديد ؛ من اللّدد ، وهو شدة الخصومة ؛ قال: [الخفيف]
١٠٠٩ ـ إنّ تحت التّراب عزما وحزما
|
|
وخصيما ألدّ ذا
مغلاق
|
ويقال : لددت بكسر
العين ألدّ بفتحها ، ولددته بفتح العين ألدّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون
متعديا ، قال الشاعر : [الرجز]
١٠١٠ ـ تلدّ أقران الرّجال اللّدّ
__________________
تلدّ أقران
الرّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة
غلبه.
ورجل ألدّ وألندد
ويلندد ، وامرأة لدّاء ، والجمع «لدّ» ك «حمر».
وفي اشتقاقه أقوال
: قال الزجّاج : من لديدي العنق ، وهما صفحتاه.
وقيل : من لديدي
الوادي ، وهما جانباه ، سمّيا بذلك ؛ لا عوجاجهما.
وقيل : هو من لدّه
إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و «الخصام» فيه
قولان :
أحدهما : قال
الزجّاج : وهو جمع خصم بالفتح ؛ نحو : كعب وكعاب ، وكلب وكلاب ، وبحر وبحار ، وعلى
هذا فلا تحتاج إلىّ تأويل.
والثاني : قال
الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصم خصاما ، نحو قاتل قتالا ، وعلى هذا فلا
بد من مصحّح لوقوعه خبرا عن الجثّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه
أشدّ الخصام ، وجعل أبو البقاء «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال : ويجوز
أن يكون «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدّ
الخصام.
وقيل : من الثاني
، أي : وهو أشدّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل ؛ كما يوصف به في
قولهم : رجل عدل وخصم ، وقيل : «أفعل» هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام
، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريّ : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألدّ بمعنى «في» ؛ كقولهم :
«ثبت الغدر» يعني أن «أفعل» ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على
معنى «في» ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أنّ «أفعل» لا تضاف
إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى «في» ، وهو قول مرجوح ، وقيل : «هو»
ليس ضمير «من» بل ضمير الخصومة يفسّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدّ الخصام.
فصل في بيان عموم هذه الآية
قال بعض المفسّرين
: هذه الآية الكريمة مختصّة بأقوام معيّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلّ من
اتّصف بهذه الصّفة ، والأولون اختلفوا على وجوه :
أحدها : أنها نزلت
في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أبي ، وسمّي الأخنس ؛ لأنه
خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ،
__________________
وكان رجلا حلو
المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبّك ، ويحلف بالله
على ذلك ، وكان منافقا ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من
عند النبي صلىاللهعليهوسلم فمرّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزّرع ، وقيل : المواشي
، وقيل : بيّت قوما من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم.
وقال مقاتل : خرج إلى الطّائف مقتضيا مالا له على غريم فأحرق له كدسا ، وعقر له أتانا ، والنّسل : نسل كلّ حيوان من ناطق ، وغيره ؛ فنزلت الآية
الكريمة.
الثّاني : أنّ
الأخنس أشار على بني زهرة بالرّجوع يوم بدر وقال لهم : إنّ محمّد ابن أخيكم ، فإن
يك كاذبا كفاكموه سائر النّاس ، وإن يك صادقا كنتم أسعد النّاس به ، قالوا نعم
الرّأي ما رأيت قال : فإذا نودي في النّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتّبعوني ، ثمّ
انخنس بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وسمّي بهذا السّبب الأخنس ، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأعجبه.
قال ابن الخطيب : وعندي أنّ هذا القول ضعيف ، لأنّه لا يستوجب الذّمّ بهذا
العمل ، والآية مذكورة في معرض الذّمّ ، فلا يمكن حملها عليه.
الثالث : روي عن
ابن عبّاس والضحّاك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النّبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنّا قد أسلمنا ، فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك ،
فبعث إليهم جماعة ، فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخبر إلى الكفّار ، فركب منهم
سبعون راكبا ، وأحاطوا بهم ، وقتلوهم ، وصلبوهم ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، ولذلك
عقّبه بقول (مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) فنبّه بذلك على حال هؤلاء الشّهداء.
القول الثّاني :
وهو اختيار أكثر المحقّقين من المفسّرين ، أنّها عامّة في كلّ من اتّصف بهذه
الصّفة المذكورة ، نقل عن محمّد بن كعب القرظي أنّه جرى بينه وبين غيره كلام في الآية فقال : إنّها وإن
نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يمتنع أن تنزل الآية الكريمة في
__________________
الرّجل ، ثم تكون
عامّة في كلّ من كان موصوفا بهذه الصّفات.
وروت عائشة ـ رضي
الله عنهما ـ عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم قال : ـ «إنّ أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم» .
قال ابن الخطيب : نزول الآية الكريمة على سبب لا يمنع من العموم ، بل في
الآية الكريمة ما يدلّ على العموم من وجوه :
الأول : أنّ ترتيب
الحكم على الوصف المناسب مشعرا بالعلّيّة .
الثاني : أنّ
الحمل على العموم أكثر فائدة ، لأنّه زجر لكلّ مكلّف عن تلك الطّريقة المذمومة.
الثالث : أنّه
أقرب إلى الاحتياط.
قال قتادة ومجاهد
وجماعة من العلماء : نزلت في كلّ مبطن كفرا ، أو نفاقا ، أو كذبا أو إضرارا ، وهو
يظهر بلسانه خلاف ذلك ، فهي عامة.
قال القرطبي رحمهالله : وهي تشبه ما ورد في التّرمذيّ أنّ في بعض الكتب أنّ الله
تعالى يقول : «إنّ من عبادي قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصّبر ،
يلبسون للنّاس جلود الضّأن من اللّين ، يشترون الدّنيا بالدّين ، يقول الله ـ تبارك
وتعالى ـ إنّهم لمغترّون ، وعلى الله يجترئون فبي حلفت لأسلّطنّ عليهم فتنة تدع
الحليم منهم حيران. ومعنى : (وَيُشْهِدُ اللهَ) ، أي : يقول : الله يعلم أنّي أقول حقّا.
فصل
اختلفوا في
الموصوف بالصّفات المذكورة في الآية ، هل هو منافق أم لا؟
قال ابن الخطيب : إنّها لا تدلّ على ذلك ، فإنّ قوله : «يعجبك قوله في
الحياة
__________________
الدّنيا» لا دلالة
فيه على صفة مذمومة ، إلّا من جهة الإيماء الحاصل بقوله (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) ، فإنّك إذا قلت : فلان حلو الكلام فيما يتعلّق بالدّنيا
أوهم نوعا من المذمّة.
وقوله : (يُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) لا دلالة فيه على حالة منكرة ، وإن أضمرنا فيه أنّه يشهد
الله على ما في قلبه ، مع أنّ قلبه بخلاف ذلك لأنّه ليس في الآية أنّ القول الّذي
أظهره هو الإسلام والتّوحيد حتى يكون خلافه نفاقا ، بل يحتمل أن يضمر الفساد ،
ويظهر ضدّه ، فيكون مرائيا.
وقوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أيضا لا يوجب النّفاق.
وقوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها) فالمفسد قد يكون مسلما.
وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أيضا لا يقتضي النّفاق ، إلّا أنّ المنافق داخل في هذه
الصّفات الخمس ، والمرائي أيضا.
فصل في ما أثر عن السلف في بيان «ألد الخصام»
قال مجاهد : ألدّ
الخصام : معناه : ظالم لا يستقيم وقال السّدّيّ ـ رحمهالله تعالى ـ أعوج الخصام .
وقال قتادة : شديد
القسوة في المعصية ، جدل بالباطل ، عالم اللّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ،
ويعمل بالخطيئة .
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدّين
قال القرطبيّ : قال علماؤنا : في الآية الكريمة دليل على أنّ الاحتياط
فيما يتعلق بأمور الدّين والدّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأنّ الحاكم
لا يعمل على ظاهر
__________________
أحوال النّاس وما
يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم ؛ حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأنّ الله تعالى بيّن أحوال
النّاس ، وأنّ منهم من يظهر قولا جميلا ، وهو ينوي قبيحا.
فإن قيل : هذا
يعارض قوله عليهالسلام : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله» . وقوله : «فأقضي له بنحو ما أسمع».
فالجواب : هذا كان
في صدر الإسلام ، حيث كان إسلامهم سلامتهم ، وأمّا الآن ، وقد عمّ الفساد ، فلا ،
قاله ابن العربيّ .
والصّحيح : أنّ
الظّاهر يعمل عليه ، حتّى يبين خلافه.
قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى) «سعى» جواب إذا
الشّرطيّة ، وهذه الجملة الشّرطية تحتمل وجهين.
أحدهما : أن تكون
عطفا على ما قبلها ، وهو «يعجبك» ، فتكون : إمّا صلة ، أو صفة حسب ما تقدّم في «من».
والثاني : أن تكون
مستأنفة لمجرّد الإخبار بحاله ، وقد تمّ الكلام عند قوله : «ألدّ الخصام».
والتّولّي والسّعي
يحتملان الحقيقة ، أي : تولّى ببدنه عنك وسعى بقدميه ، والمجاز بأن يريد بالتولّي
الرّحوع عن القول الأوّل ، وبالسّعي العمل والكسب من السّعاية ، وهو مجاز شائع ؛
ومنه: (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ،
وقال امرؤ القيس : [الطويل]
١٠١١ ـ فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة
|
|
كفاني ـ ولم
أطلب ـ قليل من المال
|
ولكنّما أسعى
لمجد مؤثّل
|
|
وقد يدرك المجد
المؤثّل أمثالي
|
وقال آخر : [السريع]
١٠١٢ ـ أسعى على حيّ بني مالك
|
|
كلّ امرىء في
شأنه ساعي
|
والسّعاية بالقول
ما يقتضي التّفريق بين الأخلّاء ؛ قال القائل : [السريع]
__________________
١٠١٣ ـ ما قلت ما قال وشاة سعوا
|
|
سعي عدوّ بيننا
يرجف
|
وقال الضّحّاك :
وإذا تولّى ، أي : ملك الأمر ، وصار واليا سعى في الأرض .
وقال مجاهد : إذا
ولّي ، وعمل بالعدوان ، والظّلم ، أمسك الله المطر ، وأهلك الحرث والنّسل .
قوله : «في الأرض»
متعلّق ب «سعى» ، فإن قيل : معلوم أنّ السّعي لا يكون إلّا في الأرض قيل : لأنّه
يفيد العموم ، كأنه قيل : أيّ مكان حلّ فيه من الأرض أفسد فيه ، فيدلّ لفظ الأرض
على كثرة فساده ، إذ يلزم من عموم الظّرف عموم المظروف ، و «ليفسد» متعلّق ب «سعى»
علّة له.
قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) الجمهور على : «يهلك» بضمّ الياء ، وكسر اللام ونصب الكاف.
«الحرث» مفعول به ، وهي قراءة واضحة من : أهلك يهلك ، والنّصب عطف على الفعل قبله
، وهذا شبيه بقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨]
فإنّ قوله : «ليفسد» يشتمل على أنّه يهلك الحرث والنّسل ، فخصّهما بالذّكر لذلك.
وقرأ أبيّ : «وليهلك» بإظهار لام العلّة ، وهي معنى قراءة الجمهور ،
وقرأ أبو حيوة ـ ورويت عن ابن كثير وابن عمرو ـ «ويهلك الحرث والنّسل» بفتح الياء
، وكسر اللام من هلك الثّلاثي ، و «الحرث» فاعل ، و «النّسل» عطف عليه. وقرأ قوم :
«ويهلك الحرث» من أهلك ، و «الحرث» مفعول به إلا أنّهم رفعوا الكاف. وخرّجت على
أربعة أوجه : أن تكون عطفا على «يعجبك» أو على «سعى» ؛ لأنّه في معنى المستقبل ،
أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو يهلك ، أو على الاستئناف. وقرأ الحسن : «ويهلك» مبنيّا للمفعول ، «الحرث» رفعا ، وقرأ أيضا : «ويهلك»
بفتح الياء واللام ورفع الكاف ، «الحرث» رفعا على الفاعلية ، وفتح عين المضارع هنا
شاذّ لفتح عين ماضيه ، وليس عينه ولا لامه حرف حلق ، فهو مثل ركن يركن بالفتح
فيهما.
و «الحرث» في
اللّغة : الشّقّ ، ومنه المحراث لما يشقّ به الأرض ، والحرث : كسب المال وجمعه ،
والحرث : الزّرع ، والحرّاث الزرّاع ، وقد حرث ، واحترث مثل : زرع وازدرع.
__________________
ويقال : احرث
القرآن ؛ أي : ادرسه ، وحرثت النّاقة وأحرثتها ، أي : سرت عليها حتّى هزلت ، وحرثت
النّار حرّكتها والمحراث ما يحرك به نار التّنور نقله الجوهري. وقد تقدّم.
والنّسل : مصدر
نسل ينسل ، أي : خرج بسرعة ، ومنه : نسل وبر البعير ، ونسل ريش الطّائر ، أي : خرج
وتطاير وقال القرطبيّ : النّسل ما خرج من كلّ أنثى من ولد وأصله الخروج ،
والسّقوط.
وقيل : النّسل
الخروج متتابعا ، ومنه : «نسال الطّائر» ما تتابع سقوطه من ريشه ؛ قال امرؤ القيس
: [الطويل]
١٠١٤ ـ وإن تك قد ساءتك منّي خليقة
|
|
فسلّي ثيابي من
ثيابك تنسل
|
وقوله : (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [النساء : ٩٦]
يحتمل المعنيين. و «الحرث والنّسل» وإن كانا في الأصل مصدرين فإنهما هنا واقعان
موقع المفعول به.
فصل في المراد ب «التولي»
ذكروا في هذا
التولّي قولين :
أحدهما : معناه :
إذا انصرف من عندك سعى بالفساد ، وهذا الفساد يحتمل وجهين :
أحدهما : إتلاف
الأموال بالتّخريب ، والتّحريق ، والنّهب كما تقدّم.
والوجه الثاني :
أنّه كان بعد الانصراف من حضرة النّبيّ ـ عليهالسلام ـ يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية
الكفر ، قال تعالى حكاية عن فرعون (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر : ٢٦] وسمي
هذا المعنى فسادا ، لأنّه يوقع اختلافا بين النّاس ، ويفرّق كلمتهم ، ويتبّرأ
بعضهم من بعض ؛ فتنقطع الأرحام وتسفك الدماء.
القول الثّاني في
التّولّي والسّعي ؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد ، وأصل السّعي المشي
بسرعة ، ولكنّه يستعار لإيقاع الفتنة بين النّاس ، ومنه يقال : فلان يسعى
بالنّميمة ، والمراد ب «الحرث» الزّرع وب «النّسل» : تلك الحمر على التّفسير
الأوّل ، وهو يقع على ما يحرث ويزرع.
وقيل : إنّ الحرث
هو شقّ الأرض ، ويقال لما يشقّ به : محرث.
__________________
والنّسل في اللّغة
الولد ، ومن قال : إنّ الأخنس بيّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعا ، فالمراد بالحرث
: الرجال والنساء.
أمّا النساء
فلقوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣].
وأمّا الرجال :
فهم الذين يشقون أرض التوليد ، وأمّا النسل فالمراد منه الصبيان.
قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).
قال العباس بن
الفضل : الفساد هو الخراب .
وقال سعيد بن
المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض .
وقال عطاء : كان
رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبّة ، فأمره النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن ينزعها.
قال قتادة : قلت
لعطاء : إنّا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إنّ الله لا يحب الفساد.
قال القرطبي : والآية تعمّ كلّ فساد كان في الأرض ، أو مال أو دين ،
وهو الصحيح.
وقيل : معناه لا
يجب الفساد من أهل الصلاح ، أو لا يحبه دينا ، أو المعنى لا يأمر به.
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة
به على أنّه تبارك وتعالى لا يريد القبائح ، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة
لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) [النور : ١٩]
والمراد أنهم يريدون.
وأيضا : نقل عن
النبيّ ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «إنّ الله أحبّ لكم ثلاثا ، وكره لكم ثلاثا :
أحبّ لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تتناصحوا من ولاه أمركم ، ويكره لكم
القيل والقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السّؤال» فجعل الكراهة ضدّ المحبة ، وإذا ثبت أنّ الإرادة نفس
المحبة ، فقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) ، كقوله : لا يريد الفساد ، وكقوله (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ،
وإذا كان لا يريد الفساد ، لا يكون خالقا له ؛ لأنّ الخلق لا يمكن إلّا مع
الإرادة. وأجيبوا بوجهين :
__________________
أحدهما : أنّ
المحبة غير الإرادة ، بل المحبّة عبارة عن مدح الشيء.
والثاني : سلّمنا
أنّ المحبة نفس الارادة ، لكن قوله تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] لا يفيد العموم ؛ لأنّ الألف واللّام
الداخلتين في اللفظ لا يفيدان العموم ، ثم يهدم كلامهم وجهان :
الأول : أنّ قدرة
العبد صالحة للإصلاح ، والفساد ؛ فترجّح الفساد على الصلاح إن وقع لا لمرجح ، لزم
نفي الصانع ، وإن وقع لمرجح ، فذلك المرجّح لا بدّ وأن يكون من الله ؛ وإلّا لزم
التسلسل ، فثبت أنّ الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد ، فكيف يعقل أن يقال إنّه
لا يريده؟
والثاني : أنّه
عالم بوقوع الفساد ، فإن أراد ألّا يقع الفساد ، لزم أن يقال : إنّه أراد أن يقلب
علم نفسه جهلا ، وذلك محال.
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ:) هذه الجملة الشرطية تحتمل الوجهين المتقدّمين في نظيرتها ،
أعني : كونها مستأنفة ، أو معطوفة على «يعجبك» ، وقد تقدّم الخلاف في الذي قام
مقام الفاعل عند قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١١].
قوله : «أخذته
العزّة» ، أي حملته العزّة وحميّة الجاهلية على الفعل.
قوله : «بالإثم»
أي : بالظلم وفي هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون
للتعدية ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : «أخذته بكذا إذا حملته عليه ، وألزمته إياه
، أي : حملته العزّة على الإثم ، وألزمته ارتكابه» قال أبو حيان : «وباء التعدية
بابها الفعل اللازم ، نحو : (ذَهَبَ اللهُ) [البقرة : ١٧] ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] ، وندرت التعدية بالباء في المتعدّي نحو : «صككت
الحجر بالحجر» أي : جعلت أحدهما يصكّ الآخر».
الثاني : أن تكون
للسببية ، بمعنى أنّ إثمه كان سببا لأخذ العزّة له ؛ كما في قوله : [الرمل]
١٠١٥ ـ أخذته عزّة من جهله
|
|
فتولّى مغضبا
فعل الضّجر
|
فتكون الباء بمعنى
اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقبته لجنايته ، وبجنايته.
الثالث : أن تكون
للمصاحبة ؛ فتكون في محلّ نصب على الحال ، وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون
حالا من «العزّة» أي : ملتبسة بالإثم.
__________________
والثاني : أن تكون
حالا من المفعول ، أي : أخذته ملتبسا بالإثم.
قال القرطبيّ :
وقيل : «الباء» بمعنى «مع» أي : أخذته العزّة مع الإثم.
وفي قوله : «العزّة
بالإثم» من علم البديع التتميم وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ، ترفع عنها
اللّبس ، وتقرّبها من الفهم ، وذلك أنّ العزّة تكون محمودة ومذمومة.
فمن مجيئها محمودة
: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤]
فلو أطلقت لتوهّم فيها بعض من لا عناية له المحمودة ؛ فقيل «بالإثم» تتميما للمراد
، فرفع اللّبس بها.
فصل
اعلم أنّ الله
سبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالا مذمومة وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب
الدّنيا ، واستشهاده بالله كذبا ولجاجة في أبطال الحقّ وإثبات الباطل ، وسعيه في
الأرض بالفساد ، وإهلاك الحرب والنّسل ، وكلّها أفعال قبيحة ، فالظاهر من قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) أن يصرف إلى الكلّ ؛ لأنّ صرفه إلى البعض ليس أولى من
البعض ، فكأنّه قيل له : اتّق الله في إهلاك الحرث والنّسل ، وفي السّعي بالفساد ،
وفي اللّجاج في إبطال الحقّ ونصرة الباطل ، وفي الاستشهاد بالله كذبا ، وفي الحرص
على طلب الدّنيا.
وقيل : قوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) راجع إلى أنه قيل له : اتّق الله فقط ؛ على ما سيأتي ،
فيكون معنى الآية الكريمة أنّ الموصوف بهذه الصّفات هو الّذي إذا قيل له : اتّق
الله ، أخذته العزة بالإثم ؛ فحسبه جهنّم.
و «العزّة» القوّة
والغلبة من : عزّه يعزّه ، إذا غلبه ، ومنه (وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ) [ص : ٢٣].
وقيل : العزّة هنا
: الحميّة ؛ قال الشّاعر : [الرّمل]
١٠١٦ ـ أخذته عزّة من جهله
|
|
فتولّى مغضبا
فعل الضّجر
|
وقيل : العزّة هنا
: المنعة وشدّة النّفس ، أي : اعتزّ في نفسه ، فأوقعته تلك العزّة في الإثم ، وألزمته إيّاه.
قوله : «فحسبه
جهنّم» ، «حسبه» مبتدأ ، و «جهنّم» خبره أي : كافيهم جهنّم ، وقيل : «جهنّم» فاعل
ب «حسب» ، ثمّ اختلف القائل بذلك في «حسب» فقيل : هو بمعنى اسم الفاعل ، أي :
الكافي ، وهو في الأصل مصدر أريد به اسم الفاعل ، والفاعل ـ وهو جهنّم
__________________
ـ سدّ مسدّ الخبر
، وقوي «حسب» لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها ، وهذا كلّه معنى كلام
أبي البقاء .
وقيل : بل «حسب»
اسم فعل ، والقائل بذلك اختلف ؛ فقيل : اسم [فعل] ماض ، أي : كفاهم وقيل : فعل أمر
، أي : ليكفيهم ، إلّا أن إعرابه ودخول حروف الجرّ عليه يمنع كونه اسم فعل.
وقد تلخّص أنّ «حسب»
هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصله مصدر ، أو اسم فعل ماض ، أو فعل أمر؟ وهو من الأسماء
اللازمة للإضافة ، ولا يتعرّف بإضافته إلى معرفة ؛ تقول : مررت برجل حسبك ، وينصب
عنه التمييز ، ويكون مبتدأ ؛ فيجرّ بباء زائدة ، وخبرا ؛ فلا يجرّ بها ، ولا يثنّى
ولا يجمع ، ولا يؤنّث ، وإن وقع صفة لهذه الأشياء.
و «جهنّم» اختلف
الناس فيها فقال يونس وأكثر النّحاة : هي اسم للنّار التي يعذّب بها في الآخرة وهي
أعجمية وعرّبت ، وأصلها كهنّام ، فمنعها من الصرّف للعلمية والعجمة.
وقيل : بل هي
عربية الأصل ، والقائلون بذلك اختلفوا في نونها : هل هي زائدة ، أم أصلية؟ فالصحيح
أنها زائدة ، ووزنها «فعنّل» مشتقة من «ركيّة جهنّام» ، أي : بعيدة القعر ، وهي من
الجهم ، وهو الكراهة ، وقيل : بل نونها أصليّة ، ووزنها فعلّل ؛ ك «عدبّس» ؛ قال :
لأن «فعنّلا» مفقود في كلامهم ، وجعل «زونّكا» فعلّلا أيضا ؛ لأنّ الواو أصل في
بنات الأربعة ؛ ك «ورنتل» ، لكنّ الصحيح إثبات هذا البناء ، وجاءت منه ألفاظ ،
قالوا : «ضغنّط» من الضّغاطة ، وهي الضّخامة ، و «سفنّج» و «هجنّف» للظّليم ،
والزّونّك : القصير سمّي بذلك ؛ لأنه يزوك في مشيته ، أي : يتبختر ؛ قال حسّان : [الكامل]
١٠١٧ ـ أجمعت أنّك أنت ألأم من مشى
|
|
في فحش زانية
وزوك غراب
|
وهذا كلّه يدلّ
على أنّ النون زائدة في «زونّك» وعلى هذا فامتناعها للتأنيث والعلمية.
قوله : «ولبئس
المهاد» المخصوص بالذّمّ محذوف ، أي : ولبئس المهاد جهنّم ، وحسّن حذفه هنا كون «المهاد»
وقع فاصلة. وتقدّم الكلام على «بئس» وحذف هذا المخصوص بذلك على أنه مبتدأ ،
والجملة من نعم وبئس خبره ، سواء تقدّم أو تأخّر ؛ لأنّا لو جعلناه خبر مبتدأ
محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، ثم حذفناه ، كنّا قد حذفنا الجملة بأسرها من غير
أن ينوب عنها شيء ، وأيضا فإنّه يلزم من ذلك أن تكون الجملة
__________________
مفلتة ممّا قبلها
، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، وليست معترضة ، ولا مفسّرة ، ولا صلة. والمهاد فيه
قولان :
أحدهما : أنّه جمع
«مهد» ، وهو ما يوطّأ للنوم قال تعالى : و (فَرَشْناها فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨].
والثاني : أنه اسم
مفرد ، سمّي به الفراش الموطّأ للنّوم وقيل : «المستقر» كقوله تعالى : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ
الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٩]
وهذا من باب التّهكم والاستهزاء ، أي : جعلت جهنّم لهم بدل مهاد يفترشونه ؛ وهو
كقوله : [الوافر]
١٠١٨ ـ وخيل قد دلفت لها بخيل
|
|
تحيّة بينهم ضرب
وجيع
|
أي : القائم لهم
مقام التحية ، الضرب الوجيع.
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)
لمّا وصف في الآية
المتقدّمة حال من يبذل دينه لطلب الدّنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دينه ونفسه
لطلب الدين ، وفي سبب النزول روايات .
إحداها : عن ابن
عبّاس ، والضّحّاك : أنّها نزلت في سريّة الرّجيع ، وذلك أنّ كفّار قريش
بعثوا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو بالمدينة ، أنّا قد أسلمنا ، فابعث إلينا نفرا من
علماء أصحابك ؛ يعلّموننا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم فبعث إليهم خببب بن عديّ
الأنصاريّ ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق بن شهاب
البلويّ ، وزيد بن الدّثنّة ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّ.
قال أبو هريرة : بعث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عشرة عينا ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح
الأنصاريّ فساروا ، فنزلوا بطن «الرّجيع» بين مكّة والمدينة ، ومعهم
تمر عجوة ، فأكلوا فمرّت عجوز ، فأبصرت النّوى ، فرجعت إلى قومها بمكة ، وقالت :
قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فركب سبعون رجلا منهم معهم الرّماح ، حتى أحاطوا بهم.
وقال أبو هريرة : ذكروا الحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فنفروا لهم
بقريب من مائة راجل رام ، فاقتفوا آثارهم ، حتّى وجدوا مآكلهم التمر في منزل نزلوه
؛ فقالوا : تمر يثرب ، فاتّبعوا آثارهم ، فلمّا أحسّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى
فدفد ، فأحاط بهم
__________________
القوم ، فقتلوا
مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ، ونثر عاصم بن ثابت كنانته ، وفيها سبعة أسهم ،
فقتل بكلّ سهم رجلا من عظماء المشركين ، ثمّ قال : اللهمّ ، إنّي قد حميت دينك صدر
النهار فاحم لحمي آخر النهار ، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، فلمّا قتلوه أرادوا
جزّ رأسه ؛ ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم
أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ في قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلا من الدّبر ،
وهي الزّنابير ، فحمت عاصما ، فلم يقدروا عليه ، فسمّي حميّ الدّبر ، فقالوا :
دعوه حتى نمسي ، فتذهب عنه ، فنأخذه ، فجاءت سحابة سوداء ، وأمطرت مطرا كالغزال
فبعث الله الوادي غديرا فاحتمل عاصما به فذهب به إلى الجنّة ، وحمل خمسين من
المشركين إلى النار.
وكان عاصم قد أعطى
الله عهدا ألّا يمسّه مشرك ولا يمسّ مشركا أبدا ، فمنعه الله ، وكان عمر بن
الخطّاب يقول حين بلغه أنّ الدّبر منعته : عجبا لحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم
نذر ألّا يمسّه مشرك ، ولا يمسّ مشركا أبدا ، فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع
عاصم في حياته ، وأسر المشركون خبيب بن عديّ ، وزيد بن الدّثنّة ، فذهبوا بهما إلى
مكة ، فأمّا خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ ليقتلوه
بأبيهم ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ، حتّى
أجمعوا على قتله ، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحدّ بها ، فأعارته ، فدرج
بنيّ لها ، وهي غافلة ، فما راع المرأة إلّا خبيب قد أجلس الصّبيّ على فخذه ،
والموسى بيده ، فصاحت المرأة ، فقال خبيب : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك ،
إنّ الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب ؛
والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد ، وما بمكة من
ثمرة ، إن كان إلّا رزقا رزقه الله خبيبا ، ثم إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في
الحلّ ، وأرادوا أن يصلبوه ، فقال لهم خبيب : دعوني أصلّي ركعتين ؛ فتركوه ، فكان
خبيب هو الذي سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة ، فركع ركعتين ، ثمّ قال خبيب : لو لا أن
يحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت ، اللهمّ أحصهم عددا ؛ واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم
أحدا وأنشأ يقول : [الطويل]
١٠١٩ ـ ولست أبالي حين أقتل مسلما
|
|
على أيّ شقّ كان
في الله مصرعي
|
وذلك في ذات
الإله وإن يشأ
|
|
يبارك على أوصال
شلو ممزّع
|
فصلبوه حيّا ؛ فقال
: اللهمّ إنّك تعلم أنّه ليس أحد حولى يبلّع سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام
أبو سروعة عتبة بن الحارث فقتله ، ويقال : كان رجلا من المشركين يقال له سلامان
أبو ميسرة ، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب ، فقال له خبيب :
__________________
اتّق الله ، فما
زاده ذلك إلّا عتوّا ، فطعنه فأنفذه ، وذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ :
اتَّقِ اللهَ) يعني سلامان.
وأمّا زيد بن
الدثنة ، فابتاعه صفوان بن أميّة ؛ ليقلته بأبيه ، أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له
يسمّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتله ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ،
فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحبّ أنّ محمدا عندنا
الآن بمكانك ، وتضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال : والله ما أحبّ أنّ محمدا الآن في
مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما
رأيت أحدا من الناس يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمّدا ، ثم قتله نسطاس.
فلمّا بلغ النبيّ
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا الخبر ، قال لأصحابه : «أيّكم ينزل خبيبا عن خشبته
وله الجنة» فقال الزّبير أنا يا رسول الله ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا
يمشيان في الليل ، ويكمنان بالنهار ، حتّى أتيا التنعيم ليلا ، وإذا حول الخشبة
أربعون رجلا من المشركين نائمون نشاوى ، فأنزلاه ، فإذا هو رطب ينثني ، لم يتغيّر
بعد أربعين يوما ، ويده على جراحته ، وهي تبصّ دما اللون لون الدّم ، والريح ريح
المسك ، فحمله الزبير على فرسه ، وساروا ؛ فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا ،
فأخبروا قريشا ، فركب منهه سبعون رجلا ، فلمّا لحقوهما قذف الزبير خبيبا ؛
فابتلعته الأرض فسمّي بليع الأرض ، وقال الزبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ،
ثم رفع العمامة عن رأسه ، وقال : أنا الزّبير بن العوّام ، وأمّي صفيّة بنت عبد
المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم
نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم. فانصرفا إلى مكّة ، وقدما على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وجبريل عنده ، فقال : يا محمد ، إنّ الملائكة لتباهي
بهذين من أصحابك ، فنزل في الزّبير والمقداد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٢٠٧]
حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته .
وقال أكثر
المفسّرين : نزلت في صهيب بن سنان ، مولى عبد الله بن جدعان الرّوميّ
، وفي عمّار بن ياسر ، وفي سميّة أمّه ، وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ،
وفي خبّاب بن الأرت وفي عابس مولى حويطب ؛ أخذهم المشركون فعذّبوهم ؛ فقال لهم
صهيب : إنّي شيخ كبير لا يضرّكم أمنكم كنت أم من عدوّكم فهل لكم أن تأخذوا مالي ،
وتذروني؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكة ما شاء الله ، ثم خرج
إلى المدينة ، فتلقّاه أبو بكر وعمر في رجال فقال له أبو بكر : ربح بيعك يا أبا
يحيى ؛ فقال : وبيعك فلا تخسر ما ذاك؟ فقال : أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية .
__________________
وأمّا خبّاب بن
الأرتّ وأبو ذرّ ففرّا إلى المدينة ، وأمّا سميّة فربطت بين بعيرين ثم قتلت ، وقتل
ياسر.
وأمّا الباقون :
فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون ، فتركوا ، وفيهم نزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بتعذيب أهل مكة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [النحل : ٤١]
بالنّصر والغنيمة ، «ولأجر الآخرة أكبر» ، وفيهم أنزل (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].
وقال سعيد بن
المسيّب ، وعطاء : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاتّبعه نفر من مشركي قريش ، فنزل عن راحلته ، ونثل ما
في كنانته ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أنّي لمن أرماكم رجلا ، والله لا
أضع سهما من كنانتي إلّا في قلب رجل منكم وأيم الله ، لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل
سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم
دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي.
قالوا : نعم ،
ففعل ذلك ، فنزلت الآية وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في المسلم
يلقى الكافر فيقول له : قل لا إله إلّا الله ، فيأبى أن يقولها ، فيقول المسلم :
والله لأشترينّ من نفسي لله ، فيتقدّم فيقاتل حتّى يقتل .
وروي عن عمر ،
وعليّ ، وابن عبّاس : أنّها نزلت في الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر.
قال ابن عبّاس :
أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل ،
وأخذته العزّة بالإثم ، قال هذا : وأنا أشري نفسي فيقاتله ، وكان إذا قرأ هذه
الآية يقول : اقتتلا وربّ الكعبة ، وسمع عمر بن الخطّاب إنسانا يقرأ هذه الآية ؛ فقال عمر :
إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
__________________
وقيل : نزلت في
عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بات على فراش رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليلة خروجه إلى الغار
قوله تعالى : (مَنْ يَشْرِي:) في «من» الوجهان المتقدّمان في «من» الأولى ، ومعنى يشري :
يبيع ؛ قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] ، إن
أعدنا الضمير المرفوع على الآخرة ، وقال [مجزوء الكامل]
١٠٢٠ ـ وشريت بردا ليتني
|
|
من بعد برد كنت
هامه
|
قال القرطبيّ : برد هنا اسم غلام. فالمعنى : يبذل نفسه في الله ، وقيل :
بل هو على أصله من الشّراء.
قوله : «ابتغاء»
منصوب على أنه مفعول من أجله ، والشروط المقتضية للنصب موجودة ، والصّحيح أنّ
إضافة المفعول له محضة ، خلافا للجرمي ، والمبرّد ، والرّياشي ، وجماعة من المتأخّرين.
و «مرضاة» مصدر
مبنيّ على تاء التأنيث كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ؛ نحو : مغزى ، ومرمى. قال القرطبيّ
: والمرضاة : الرّضا ، تقول : رضي يرضى رضا ومرضاة ووقف حمزة عليها بالتاء ،
وذلك لوجهين :
أحدهما : أنّ بعض
العرب يقف على تاء التأنيث بالتاء قال القائل في ذلك : [الرجز]
١٠٢١ ـ دار لسلمى بعد حول قد عفت
|
|
بل جوز تيهاء
كظهر الجحفت
|
وقد حكى هذه
اللّغة عن سيبويه .
والثاني : أن يكون
وقف على نيّة الإضافة ، كأنّه نوى لفظ المضاف إليه ؛ لشدة اتّصال المتضايفين ،
فأقرّ التاء على حالها ؛ منبهة على ذلك ، وهذا كما أشمّوا الحرف
__________________
المضموم ؛ ليعلموا
أنّ الضّمّة كالمنطوق بها. وقد أمال الكسائيّ وورش «مرضات».
وفي قوله : «بالعباد»
خروج من ضمير الغيبة إلى الاسم الظّاهر ؛ إذ كان الأصل «رؤوف به» أو «بهم» وفائدة
هذا الخروج أنّ لفظ «العباد» يؤذن بالتشريف ، أو لأنه فاصلة فاختير لذلك.
فصل
إذا قلنا بأنّ
المراد من هذا الشراء البيع ، فتحقيقة أنّ المكلّف باع نفسه بثواب الآخرة ، وهذا
البيع هو أنّه بذلها في طاعة الله تعالى من الصلاة ، والصيام ، والحج والجهاد ، ثم
يتوصل بذلك إلى وجدان ثواب الله تعالى فكان ما يبذله من نفسه كالسّلعة ، فكأنّه
كالبائع ، والله كالمشتري ؛ كما قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١]
وقد سمّى الله تعالى ذلك تجارة ، فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١٠ ، ١١] وإن أجرينا الآية على ظاهرها ، وقلنا :
إنّ المراد هو الشراء ، فإن من أقدم على الكفر ، والتوسّع في ملاذّ الدنيا ،
والإعراض عن الآخرة ، وقع في العذاب الدّائم ، فصار كأنّ نفسه كانت له ، فبسبب
الكفر والفسق خرجت عن ملكه ، وصارت حقّا للنار ، فإذا ترك الكفر والفسق ، وأقبل
على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار والعذاب.
فإن قيل : إن الله
تعالى جعل نفسه مشتريا بقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا.
فالجواب : أنه لا
منافاة بين الأمرين ؛ فهو كمن اشترى ثوبا بعبد ، فكل واحد منهما بائع ومشتر فكذا
هاهنا.
فصل
يدخل تحت هذا كلّ
مشقّة يتحملها الإنسان في طلب الدّين ؛ كالجهاد والصابر على القتل ، كقتل والد عمّار وأمّه ، والآبق من الكفّار
إلى المسلمين ، والمشتري نفسه من الكفار بماله ، كفعل صهيب ، ومن يظهر الدين
والحقّ عند السلطان الجائر.
روي أنّ عمر ـ رضي
الله عنه ـ بعث جيشا ، فحاصروا قصرا ، فتقدّم منهم واحد
__________________
فقاتل جتى قتل ،
فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التّهلكة فقال عمر : كذبتم ، يرحم الله أبا فلان.
وقرأ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) واعلم أنّ المشقّة التي يتحمّلها الإنسان لا بدّ وأن تكون
على وفق الشّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أمّا لو كان على خلاف الشرع فلا يدخل
فيها ، بل يعدّ ذلك من إلقاء النّفس إلى التّهلكة ؛ كما لو خاف التّلف عند
الاغتسال من الجنابة ففعل.
قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فمن رأفته أنه جعل النّعيم الدّائم جزاء على العمل القليل المنقطع ،
ومن رأفته جوّز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ، ومن رأفته أنّه لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، ومن
رأفته ورحمته أن المصرّ على الكفر مائة سنة ، إذا تاب ـ ولو في لحظة ـ أسقط عنه
عقاب تلك السنين ، وأعطاه الثواب الدائم.
ومن رأفته أنّ
النفس له والمال ، ثم إنّه يشتري ملكه بملكه ؛ فضلا منه ورحمة وإحسانا وامتنانا.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)
قوله تعالى : (السِّلْمِ) قرأ هنا «السّلم» بالفتح نافع ، والكسائيّ ، وابن كثير ،
والباقون بالكسر ، وأمّا التي في الأنفال [آية ٦١] فلم يقرأها بالكسر إلّا أبو بكر
وحده ، عن عاصم ، والتي في القتال [آية ٣٥] فلم يقرأها بالكسر إلّا حمزة وأبو بكر
أيضا ، وسيأتي. فقيل : هما بمعنّى ، وهو الصلح مثل رطل ورطل وجسر وجسر وهو يذكّر
ويؤنّث ، قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، وحكوا : «بنو فلان سلم ، وسلم» ، وأصله من الاستسلام ،
وهو الانقياد ، قال تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١]
الإسلام : إسلام الهدى ، والسّلم على الصّلح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى ؛
لأنّ كلّ واحد كصاحبه ، ويطلق على الإسلام قاله الكسائي وجماعة ؛ وأنشدوا : [الوافر]
__________________
١٠٢٢ ـ دعوت عشيرتي للسّلم لمّا
|
|
رأيتهم تولّوا
مدبرينا
|
ينشد بالكسر ،
وقال آخر في المفتوح : [البسيط]
١٠٢٣ ـ شرائع السّلم قد بانت معالمها
|
|
فما يرى الكفر
إلّا من به خبل
|
فالسّلم والسّلم
في هذين البيتين بمعنى الإسلام ، إلّا أنّ الفتح فيما هو بمعنى الإسلام قليل ،
وقرأ الأعمش بفتح السّين واللام «السّلم».
وقيل : بل هما
مختلفا المعنى : فبالكسر الإسلام ، وبالفتح الصلح.
قال أبو عبيدة :
وفيه ثلاث لغات : السّلم والسّلم والسّلم بالفتح والكسر والضمّ.
«كافة» منصوب على
الحال ، وفي صاحبها ثلاثة أقوال.
أظهرها : أنه
الفاعل في «ادخلوا» ، والمعنى : ادخلوا السّلم جميعا ، وهذه حال تؤكّد معنى العموم
، فإنّ قولك : «قام القوم كافة» بمنزلة : قاموا كلّهم.
والثاني : أنه «السّلم»
قاله الزّمخشريّ ، وأبو البقاء ، قال الزمخشريّ : ويجوز أن تكون «كافة» حالا من «السّلم»
؛ لأنها تؤنّث كما تؤنّث الحرب ؛ قال الشاعر : [البسيط]
١٠٢٤ ـ السّلم تأخذ منها ما رضيت به
|
|
والحرب يكفيك من
أنفاسها جرع
|
على أنّ المؤمنين
أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلّها ، ولا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال أبو حيّان
تعليله كون «كافة» حالا من «السّلم» بقوله : «لأنّها تؤنّث كما تؤنّث الحرب» ليس
بشيء ؛ لأنّ التاء في «كافّة» ليست للتأنيث ، وإن كان أصلها أن تدلّ عليه ، بل صار
هذا نقلا محضا إلى معنى جميع وكلّ ، كما صار قاطبة وعامّة ، إذا كان حالا نقلا
محضا.
فإذا قلت : «قام
الناس كافة ، وقاطبة» لم يدلّ شيء من ذلك على التأنيث ، كما لا يدلّ عليه «كلّ» و
«جميع».
والثالث : أن يكون
صاحب الحال هما جميعا : أعني فاعل «ادخلوا» و «السّلم» فتكون حالا من شيئين.
وهذا ما أجازه ابن
عطية فإنه قال : وتستغرق «كافة» حينئذ المؤمنين ، وجميع أجزاء
__________________
الشّرع ، فتكون
الحال من شيئين وذلك جائز نحو قوله : (فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٣٧]. ثم
قال بعد كلام : وكافة معناه جميعا ، فالمراد بالكافّة الجماعة التي تكفّ مخالفيها.
وقوله : «نحو قوله
فأتت به قومها تحمله» يعني أنّ «تحمله» حال من فاعل «أتت» ومن الهاء في «به» قال
أبو حيّان : «هذا المثال ليس مطابقا للحال من شيئين لأنّ لفظ «تحمله» لا يحتمل
شيئين ، ولا تقع الحال من شيئين إلّا إذا كان اللفظ يحتملهما ، واعتبار ذلك بجعل
ذوي الحال مبتدأين ، وجعل تلك الحال خبرا عنهما ، فمتى صحّ ذلك صحّت الحال ؛ نحو
قوله [الطويل]
١٠٢٥ ـ وعلّقت سلمى وهي ذات موصّد
|
|
ولم يبد للأتراب
من ثديها حجم
|
صغيرين نرعى
البهم يا ليت أنّنا
|
|
إلى اليوم لم
نكبر ولم تكبر البهم
|
فصغيرين حال من
فاعل «علقت» ومن «سلمى» لأنك لو قلت : أنا وسلمى صغيران لصحّ ومثله قول امرىء
القيس : [الطويل]
١٠٢٦ ـ خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا
|
|
على أثرينا ذيل
مرط مرحّل
|
فنمشي حال من فاعل
«خرجت» ، ومن «ها» في «بها» ؛ لأنّك لو قلت : «أنا وهي نمشي» لصحّ ، ولذلك أعرب
المعربون «نمشي» حالا منهما ، كما تقدّم ، و «تجرّ» حالا من «ها» في «بها» فقط ؛
لأنه لا يصلح أن تجعل «تجرّ» خبرا عنهما ، لو قلت : «أنا وهي تجرّ» لم يصحّ ؛
فكذلك يتقدّر بمفرد وهو «جارّة» وأنت لو أخبرت به عن اثنين ، لم يصحّ ؛ فكذلك «تحمله»
لا يصلح أن يكون خبرا عن اثنين ، فلا يصحّ أن يكون حالا منهما ، وأمّا «كافّة»
فإنها بمعنى «جميع» ، و «جميع» يصحّ فيها ذلك ، لا يقال : «كافّة» لا يصحّ وقوعها
خبرا ، لو قلت : «الزّيدون والعمرون كافّة» لم يجز ، فلذلك لا تقع حالا ؛ على ما
قرّرت ؛ لأنّ ذلك إنّما هو بسبب التزام نصب «كافة» على الحال ، وأنها لا تتصرّف لا
من مانع معنوي ، بدليل أنّ مرادفها وهو «جميع» و «كلّ» يخبر به ، فالعارض المانع ل
«كافّة» من التصرّف لا يضرّ ، وقوله : «الجماعة الّتي تكفّ مخالفيها» يعني : أنّها
في الأصل كذلك ، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكلّ».
واعلم أنّ أصل «كافة»
اسم فاعل من كفّ يكفّ ، أي : منع ، ومنه «كفّ الإنسان»؛
__________________
لأنها تمنع ما
يقتضيه ، و «كفّة الميزان» لجمعها الموزون ، ويقال : كففت فلانا عن السّوء ، أي :
منعته ، ورجل مكفوف ، أي : كفّ بصره من أن يبصر ، والكفّة ـ بالضّمّ ـ لكل مستطيل
، وبالكسر ، لكلّ مستدير.
وقيل : «كافة»
مصدر كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة ممّا لزم نصبهما على الحال ، فإخراجهما عن
ذلك لحن.
فصل
لمّا بيّن الله ـ تعالى
ـ أقسام النّاس ، وأنهم ينقسمون إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق قال هاهنا : كونوا على
ملّة واحدة ، على الإسلام ، واثبتوا عليه.
قال ابن الخطيب : حمل أكثر المفسرين السّلم على الإسلام ، وفيه إشكال ؛
لأنه يصير التقدير : يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو
الإسلام ، ومعلوم أنّ ذلك لا يجوز ، فلهذا ذكر المفسرون وجوها :
أحدها : أنّ
المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيّها الذي آمنوا بألسنتهم ادخلوا
بكلّيتكم في الإسلام ، ولا تتّبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه ، وغروره في
الإقامة على النّفاق ، واحتجوا على هذه بالآية ، فهذا التأويل على أنّ هذه الآية
إنّما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) «الآية» فلمّا
وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق.
وثانيها : روي أنّ
هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب ك «عبد الله ابن سلام» وأصحابه ،
وذلك لأنهم كانوا يعظّمون السّبت ، ويكرهون لحمان الإبل ، بعدما أسلموا وقالوا :
يا رسول الله : إنّ التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا باللّيل ،
فأمرهم الله بهذه الآية أن يدخلوا في السّلم كافّة [أي : في شرائع
الإسلام كافة] ولا يتمسّكوا بشيء من أحكام التوراة ، اعتقادا له وعملا به
، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في التمسّك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت
منسوخة ، وقائل هذا القول جعل «كافّة» من وصف «السّلم» ، كأنه قيل : ادخلوا في
جميع شعائر الإسلام اعتقادا وعملا.
وثالثها : أنّ هذا
الخطاب لأهل الكتاب الّذين لم يؤمنوا بالنبي ـ عليهالسلام ـ يعني : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا). أي : بالكتاب المتقدم (ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكتبهم ، وبمحمّد ، وكتابه على
التمام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في
__________________
تحسينه الاقتصار
على التوراة بسبب أنّه دين اتفق الكلّ على أنه حقّ ، بسبب أنّه جاء في التوراة :
وتمسّكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ، فيكون المراد من خطوات الشيطان الشبهات
التي يتمسّكون بها في بقاء تلك الشريعة .
قال ابن عبّاس :
نزلت الآية في أهل الكتاب ، والمعنى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى وعيسى «ادخلوا» في الإسلام بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «كافّة» .
وروى «مسلم» عن
أبي هريرة ، عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : والّذي نفس محمّد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه
الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ، ثمّ لم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب
النّار .
ورابعها : أنّ
المراد بهذا الخطاب المسلمون ، والمعنى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) دوموا على الإسلام فيما بقي من العمر ولا تخرجوا عنه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : ولا تلتفتوا إلى الشّبهات التي يلقيها إليكم أصحاب
الضلالة والغواية .
قال حذيفة بن
اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم : الصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصدقة
سهم ، والحجّ سهم ، والعمرة سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنّهي عن
المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له .
فإن قيل : المؤمن
الموصوف بالشيء يقال له : دم عليه ، ولا يقال له : ادخل فيه ، والمذكور في الآية
هو قوله : «ادخلوا».
فالجواب : الكائن
في الدار إذا علم أنّ له في المستقبل خروجا عنها ، فلا يمتنع أن يؤمر بدخولها في
المستقبل ، وإن كان في الحال كائنا فيها ؛ لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر
أن يدخل فيها ، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها ، صحّ أن يؤمر بدخولها.
وقال آخرون :
المراد ب «السّلم» في الآية الصّلح ، وترك المحاربة والمنازعة ، والتقدير : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : كونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بأن يحملكم على طلب الدّنيا ، والمنازعة مع الناس ، فهو
كقوله : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] ،
وقوله : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣].
__________________
قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : لا تطيعوه فيما يدعوكم إليه ، وتقدّم الكلام على
خطواته.
وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
قال أبو مسلم : مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره.
قال ابن الخطيب : ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الدخان : ١ ـ ٢] ولا يعني بقوله «مبين» إلّا ذلك. فإن قيل
: كيف يمكن وصف الشيطان بأنّه مبين مع أنّا لا نرى ذاته ، ولا نسمع كلامه؟
فالجواب أنه تعالى
لمّا بيّن عداوته لآدم ونسله ، فلذلك الأمر صحّ أن يوصف بأنّه عدوّ مبين ، وإن لم
يشاهد ؛ مثاله : من يظهر عدواته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال : إنّ فلانا
عدوّ مبين لك وإن لم يشاهده في الحال.
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر ، وهو : أن الأصل في الإبانة القطع ،
والبيان إنّما سمّي بيانا لهذا المعنى فإنّه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض ، فوصف
الشيطان بأنه مبين بيانه : أنه يقطع الملكف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه.
فإن قيل : كون
الشيطان عدوّا لنا ، إمّا أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في
الحال ، أو بسبب أنّه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب ، والأوّل باطل إذ لو كان كذلك
لوقعنا في الأمراض والآلام وليس كذلك.
والثّاني ـ أيضا ـ
باطل ؛ لأنّ من قبل منه تلك الوسوسة فإنه أتي من قبل نفسه ؛ لقوله : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ
بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) [إبراهيم : ٢٢]
وإذا كان الحال على ما ذكرناه ، فكيف يقال إنه عدوّ لنا؟
فالجواب : أنّه
عدوّ من الوجهين معا أمّا من حيث أنّه يحاول إيصال البلاء إلينا ، فهو كذلك إلّا
أنّ الله تعالى منعه عن ذلك ، ولا يلزم من كونه مريدا لإيصال الضرر إلينا أن يكون
قادرا عليه ، وأمّا من حيث إنه يقدم على الوسوسة ، فمعلوم أنّ تزيين المعاصي
وإلقاء الشبهات ، كلّ ذلك لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثّواب.
قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) الجمهور على «زللتم» : بفتح العين ، وأبو السّمّال قرأها
__________________
بالكسر ، فهما
لغتان ؛ كضللت ، وضللت. و «ما» في «من بعدما» مصدريّة ، و «من» لابتداء الغاية ،
وهي متعلّقة ب «زللتم».
معنى «زللتم» أي :
ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلّت قدمه تزلّ زلّا وزللا ، إذا دحضت ، وأصل الزلل
في القدم ، واستعماله في الاعتقادات.
فصل
يروى عن ابن عباس
: فإن زللتم في تحريم السّبت ، ولحم الإبل ، (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) يعني محمّدا وشرائعه ، (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في كلّ أفعاله ، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله ،
لنتركنّ كلّ كتاب غير كتابك ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] ومن
قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.
فإن قيل : إنّ
الحكم المشروط إنما يحسن في حقّ من لا يكون عالما بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنّهم سيزلون ، ولكنه تعالى قدّم ذلك
، وأوعد فيه ؛ ليكون له الحجّة عليهم.
فصل
قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) يتناول جميع الدلائل العقليّة والسمعيّة.
أمّا العقليّة ،
فالعلم بحدوث العالم ، وافتقاره إلى صانع يكون عالما بكلّ المعلومات ، قادرا على
كل الممكنات ، غنيّا عن كل الحاجات.
وأمّا السمعيّة :
فهي البيان الحاصل بالقرآن والسّنّة.
فصل
قال القرطبيّ : دلت الآية على أنّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة
الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشّرائع.
فصل
قال القاضي : دلّت الآية على أنّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلّا بعد
البيان ، وإزاحة العلّة ، ودلت الآية على أنّ المعتبر حصول البيّنات ، لا حصول
اليقين من المكلف.
__________________
وقوله : «عزيز»
يدلّ على الزّجر ، والتهديد ، والوعيد ؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده ،
وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات ، فكأنّه تعالى قال
: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) فاعلموا أنّ الله قادر عليكم ، لا يمنعه عنكم مانع ، وهذا
نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ؛ كقول
السيّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وتعلم قدرتي عليك ، والآية كما أنها تدلّ
على نهاية الوعد بقوله : «حكيم» فإنّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ،
فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ،
بل هذا أليق بالحكمة ، وأقرب للرحمة ، وهذه الآية تدلّ على أنّه لا وجوب لشيء قبل
الشّرع ؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات ، وقبل الشرع لم تحصل كلّ
البيّنات.
فصل
قال الجبّائيّ : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفّار ،
والسّفاهة من السّفهاء ، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم ، ومن فعل السّفه وأراده
لا يكون حكيما ، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور ، فمعنى كونه تعالى
حكيما أنّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقا لكل الأشياء ، ومريدا لها.
فصل
يحكى أنّ قارئا
قرأ (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فسمعه أعرابيّ ، فأنكره ؛ وقال : إنّ هذا كلام الله تعالى
فلا يقول كذا ؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزّلل ؛ [لأنه إغراء عليه].
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
(٢١٠)
«هل» لفظه استفهام
والمراد به النفي ؛ كقوله : [الطويل]
١٠٢٧ ـ وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت
|
|
غويت ، وإن ترشد
غزيّة أرشد
|
أي : ما ينظرون ،
وما أنا ، ولذلك وقع بعدها «إلّا» كما تقع بعد «ما». و «هل» تأتي على أربعة أوجه :
__________________
الأول : بمعنى «ما»
كهذه الآية ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣].
الثاني : بمعنى «قد»
كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] أي
: قد أتى ، وقوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ) [ص : ٢١] و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] ، أي : قد أتاك.
والثالث : بمعنى «ألا»
قال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) [طه : ٤٠] أي :
ألا أدلكم ، ومثله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢٢] أي
: ألا أنبئكم.
الرابع : بمعنى
الاستفهام ، قال تعالى : (هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ) [الروم : ٤٠].
و «ينظرون» هنا
بمعنى ينتظرون ، وهو معدّى بنفسه ، قال امرؤ القيس : [الطويل]
١٠٢٨ ـ فإنّكما إن تنظراني ساعة
|
|
من الدّهر
ينفعني لدى أمّ جندب
|
وليس المراد هنا
بالنظر تردد العين ؛ لأنّ المعنى ليس عليه ؛ واستدلّ بعضهم على ذلك بأن النظر
بمعنى البصر يتعدّى ب «إلى» ، ويضاف إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدّ بنفسه ،
وليس مضافا إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ،
٢٣] فيكون بمعنى الانتظار ، وهذا ليس بشيء ، أما قوله : إن الذي بمعنى البصر يتعدّى
ب «إلى» فمسلم ، وقوله : «وهو هنا متعدّ بنفسه» ممنوع ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر
وهو «إلى» محذوفا ؛ لأنه يطّرد حذفه مع «أن» و «أنّ» ، إذا لم يكن لبس ، وأمّا
قوله : «يضاف إلى الوجه» ، فممنوع أيضا ، إذ قد جاء مضافا للذات ؛ قال تعالى : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) [الغاشية : ١٧].
والضمير في «ينظرون» عائد على المخاطبين بقوله : «زللتم» فهو التفات.
قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ) هذا مفعول «ينظرون» وهو استثناء مفرّغ ، أي : ما ينظرون
إلا إتيان الله.
والمعنى ما ينظرون
، يعني التاركون الدخّول في السّلم.
قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يتعلّق
بيأتيهم ، والمعنى : يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك ، أو يكون كناية عن
الانتقام ، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقة.
والثاني : أن يتعلّق
بمحذوف على أنه حال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : هو مفعول
يأتيهم ، أي : في حال كونهم مستقرين في ظلل ، وهذا حقيقة.
__________________
والثاني : أنه
الله تعالى بالمجاز المتقدّم ، أي : أمر الله في حال كونه مستقرا في ظلل.
الثالث : أن تكون «في»
بمعنى الباء ، وهو متعلق بالإتيان ، أي : إلّا أن يأتيهم بظلل ؛ ومن مجيء «في»
بمعنى الباء قوله : [الطويل]
١٠٢٩ ـ ..........
|
|
خبيرون في طعن
الكلى والأباهر
|
لأنّ «خبيرين»
إنّما يتعدّى بالباء ؛ كقوله : [الطويل]
١٠٣٠ ـ .......... فإنّني
|
|
خبير بأدواء
النّساء طبيب
|
الرابع : أن يكون
حالا من «الملائكة» مقدّما عليها ويحكى عن أبيّ ، والأصل : إلّا أن يأتيهم الله
والملائكة في ظلل ، ويؤيّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا ـ أيضا ـ يقلّ
المجاز ، فإنه ـ والحالة هذه ـ لم يسند إلى الله تعالى إلّا الإتيان فقط بالمجاز
المتقدم.
وقرأ أبيّ وقتادة والضّحاك : في ظلال ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها جمع
ظلّ ؛ نحو : صلّ وصلال.
والثاني : أنها
جمع ظلّة ؛ كقلّة وقلال ، وخلّة وخلال ، إلّا أنّ فعالا لا ينقاس في فعلة.
قوله تعالى : (مِنَ الْغَمامِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «ظلل» التقدير : ظلل كائنة من الغمام.
و «من» على هذا
للتبعيض.
والثاني : أنه
متعلق ب «يأتيهم» ، وهي على هذا لابتداء الغاية ، أي : من ناحية الغمام.
والجمور على رفع «الملائكة»
؛ عطفا على اسم «الله».
وقرأ الحسن وأبو جعفر : بجرّ «الملائكة» وفيه وجهان :
أحدهما : العطف
على «ظلل» ، أي : إلّا أن يأتيهم في ظلل ، وفي الملائكة.
__________________
والثاني : العطف
على «الغمام» أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصف الملائكة بكونها ظللا على
التشبيه ، وعلى الحقيقة ، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته ، والملائكة يأتون
ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب ، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) الجمهور على «قضي» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، وفيه وجهان
:
أحدهما : أن يكون
معطوفا على «يأتيهم» وهو داخل في حيّز الانتظار ، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع
المستقبل ، والأصل : ويقضى الأمر ، وإنما جيء به كذلك ؛ لأنه محقق كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وقوله
: (وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦]
والسبب في اختيار هذا المجاز ، إمّا التنبيه على قرب الآخرة ، وكأنها قد أتت ، أو
المبالغة في تأكيد وقوعها ، كأنها قد وقعت.
والثاني : أن يكون
جملة مستأنفة برأسها ، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم ، فهو من عطف الجمل ،
وليس داخلا في حيّز الانتظار.
وقرأ معاذ بن جبل : «وقضاء الأمر» قال الزمخشريّ : «على المصدر المرفوع ؛
عطفا على الملائكة». وقال غيره : بالمدّ والخفض ؛ عطفا على «الملائكة».
قيل : وتكون على
هذا «في» بمعنى «الباء» أي : بظلل ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر ، فيكون عن معاذ
قراءتان في الملائكة : الرفع والخفض ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : «وقضي
الأمر».
ومعنى قضي الأمر ؛
هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة ، وإنزال كلّ واحد منزلته من جنّة ، أو نار
؛ قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) [إبراهيم : ٢٢].
قوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) هذا الجار متعلق بما بعده ، وإنما قدّم للاختصاص ، أي : لا
ترجع إلّا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور : «ترجع» بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى
المؤنث ، إلّا أنّ حمزة والكسائي ونافعا قرؤوا ببنائه للفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و «رجع» يستعمل
متعديا تارة ، ولازما أخرى ، وقال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ) [التوبة : ٨٣] ،
فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعيا ، وهي
__________________
لغة ضعيفة ، ولذلك
أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذة منها. وقرأ خارجة عن نافع : «يرجع» بالتذكير ، وببنائه للمفعول ؛ لأن تأنيثه مجازي ،
والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى
نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمّا ذوو الأمور ؛ لأنه لمّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدة
عليهم بأنهم مربوبون مجزيّون بأعمالهم كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها.
قال القفّال ـ رحمهالله ـ : في قوله : (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بضم التاء ثلاثة معان :
أحدها : ما ذكرناه
، وهو أنه جلّ جلاله يرجعها إلى نفسه.
والثاني : أنه على
مذهب العرب ، من قولهم «فلان يعجب بنفسه» ويقول الرجل لغيره : «إلى أين يذهب بك» ،
وإن لم يكن أحد يذهب به.
والثالث : أن ذوات
الخلق لما كانت شاهدة عليهم ، بأنهم مخلوقون محاسبون ، كانوا رادّين أمرهم إلى
خالقهم ، فقوله (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : يردّها العباد إليه ، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو
كقوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١] فإن
هذا التسبيح بحسب الحال ، لا بحسب النطق ، وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥] قيل
: المعنى يسجد له المؤمنون طوعا ، ويسجد له الكفّار كرها بشهادة أنفسهم بأنّهم
عبيد الله.
فصل في تفسير «الظلل»
«الظّلل» جمع ظلّة
، وهو ما أظلّك الله به «والغمام» هو السّحاب الأبيض الرّقيق ، سمّي غماما ؛ لأنه
يغمّ ، أي : يستر.
وقال مجاهد : هو
غير السحاب ، ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم .
وقال مقاتل :
كهيئة الضّبابة أبيض .
قال الحسن : في
سترة من الغمام . والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها
، ويكل علمها إلى الله تعالى ؛ على ذلك مضت أئمة السّلف ، وعلماء السّنّة.
__________________
قال ابن عباس ، في
رواية أبي صالح ، والكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسّر ، وكان مكحول ، والزّهريّ ، والأوزاعيّ ، ومالك ، وابن
المبارك ، وسفيان الثّوريّ ، واللّيث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله : أمرّها كما جاءت بلا كيف.
قال سفيان بن
عيينة : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره : قراءته ، والسكوت عنه ؛ ليس
لأحد أن يفسّره إلّا الله ورسوله.
وروي عن ابن عبّاس
أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه :
وجه لا يعرفه أحد
لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ، ووجه نعرفه من قبل العربيّة فقط ، ووجه لا يعلمه
إلّا الله.
وقال جمهور
المتكلّمين : لا بدّ من التّأويل ، وفيه وجوه :
أحدها : أنّ المرا
د «يأتيهم أمر الله» آيات الله. فجعل مجيء الآيات مجيئا له ؛ على التفخيم لشأن
الآيات ؛ لأنه قال قبله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد ، ومعلوم أنه بتقدير أن
يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزّجر ، وإذا ثبت أنّ
المقصود من الآية إنّما هو الوعيد والتهديد والزجر ، وجب أن يضمن في الآية مجيء
الآيات والقهر والتّهديد ، ومتى أضمرنا ذلك ، زالت الشّبهة بالكلية.
الثاني : أن
يأتيهم أمر الله ، كقوله : (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) [المائدة : ٣٣]
والمراد : يحاربون أولياءه. وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]
والمراد : أهل القرية ، فكذا قوله : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) المراد : يأتيهم أمر الله ، كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، وليس فيه إلّا حذف المضاف ، وإقامة المضاف
إليه مقامه ، وهو مجاز مشهور كثير في كلامهم ، تقول : «ضرب الأمير فلانا ، وصلبه ،
وأعطاه» وهو إنّما أمر بذلك ، لا أنه تولّى ذلك بنفسه ، ويؤكد هذا قوله في سورة
النحل : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣]
فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية ، لأن هذه الآيات لمّا وردت في واقعة واحدة ، لم
يبعد حمل بعضها على البعض ، ويؤيّده ـ أيضا ـ قوله بعده : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) والألف واللام للمعهود السّابق ، وهو الأمر الذي أضمرناه.
فإن قيل : أمر
الله صفة قديمة ، فالإتيان عليها محال.
وعند المعتزلة :
أنه أصوات ، فتكون أعراضا ، فالإتيان عليها ـ أيضا ـ محال.
__________________
والجواب : أن
الأمر في اللغة له معنيان :
أحدهما : الفعل والشّأن والطّريق ؛ قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] ، (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] ، وفي
المثل : «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، و «لأمر ما يسوّد من يسوّد» ، فيجعل الأمر عبارة عن
الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال ، وهذا هو التّأويل الأول ، وإن
حملنا الأمر على ضدّ النهي ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن
مناديا ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا ، وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر.
وقوله : «في ظلل»
، أي : مع ظلل ، والتقدير : أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان
واحد.
الثاني : أن يكون
المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، تدلّ
على حكم الله تعالى على كلّ ما يليق به ؛ من السّعادة ، والشقاوة ، وتكون فائدة
الظّلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أنّ
الأمر قد حضر وقرب.
الوجه الثالث : أن
يأتيهم الله بما وعد من الحساب ، والعذاب ، فحذف ما يأتي به ، تهويلا عليهم ؛ إذ
لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ ؛ لانقسام خواطرهم ،
وذهاب فكرهم في كل وجه ، كقوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦] وقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] أو
قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦]
وآتاهم العذاب ، كالتفسير لقوله (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦].
الوجه الرابع : أن
تكون «في» بمعنى «الباء» ، وتقديره : هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله بظلل من
الغمام ، وحروف الجرّ يقام بعضها مقام بعض.
الوجه الخامس : قال
ابن الخطيب : وهو أوضح عندي من كلّ ما سلف ، وهو أنّا ذكرنا أنّ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) نزلت في اليهود ، فعلى هذا قوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يكون
__________________
خطابا مع اليهود ،
[وحينئذ يكون قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) حكاية عن اليهود] ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل
من الغمام ، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عليه الصلاة والسلام مثل ذلك ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].
وإذا كان هذا
حكاية عن اليهود ، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها ؛ لأن اليهود كانوا مشبّهة ،
وكانوا يجوّزون على الله تعالى المجيء والذّهاب ، وكانوا يقولون : إنّه تعالى
تجلّى لموسى ـ عليهالسلام ـ على الطّور في ظلل من الغمام ، وطلبوا مثل ذلك في زمن
محمد ـ عليهالسلام ـ وعلى هذا فيكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين
بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذ إلى تأويل ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.
وبالجملة فالآية
الكريمة تدلّ على أنّ قوما ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالة على أنهم
محقّون في ذلك الانتظار ، أو مبطلون ؛ فزال ذلك الإشكال.
فإن قيل : فعلى
هذا التّأويل ، كيف يتعلق قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ)؟
قلنا : الوجه فيه أنّه
تعالى لمّا حكى عنادهم ، وتوقفهم في قبول الدّين على هذا الشرط الفاسد ، ذكر بعده
ما يجري مجرى التهديد ، فقال : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
قال ابن تيميّة :
وهذا من أعظم الافتراء على الله ، وعلى كتابه ؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين
خطابا مع اليهود وهو قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أنّ ذلك خطابا مع اليهود ، مع أنّ الله تعالى دائما يفصل
في كتابه بين الخطابين ، فيقول للمؤمنين : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) ، ويقول لأولئك : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، و (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطابا لليهود فقط؟ وهذا
من أعظم تبديل للقرآن.
وأيضا فقوله بعد
ذلك : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) لا يقال : إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال.
وأما قوله في قوله
تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أنه من اعتقاد اليهود الفاسد ، لا من كلام الله تعالى الذي
توعّد به عباده ، فهذا افتراء على الله ، وكذب على اليهود ، وأيضا فإنه لم ينقل
أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد ـ عليهالسلام ـ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.
وقد ذكر المفسرون
وأهل السّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلىاللهعليهوسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ، وكثرة ما نزل بسببهم
من القرآن ، وكذلك ما نقل عنهم أنّهم كانوا يقولون : إنّ الله تجلّى ل «موسى» على
الطّور في ظلل من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه ، فإن
كان هذا حقّا عنهم ، وكانوا
__________________
ينتظرون مثل ذلك ،
فيكونون قد جوّزوا أن يكون الله تجلّى لرسول الله كما تجلّى لموسى ، ومعلوم أنّ
اليهود لم يقولوا ذلك ، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرة ، فهذا
حقّ ، ولكن أخبر أنّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنّهم انتظروها ، والمطلب للشيء
معتقد ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون ، وهذا كقوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ١٠٨].
قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ
آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢١١)
قرأ الجمهور : «سل»
وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون
من لغة : سال يسال ، مثل : خاف يخاف ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة ، أو واو ، أو
ياء؟ خلاف تقدّم في قوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما
سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١]
فحينئذ يكون الأمر منها : «سل» مثل «خف» لمّا سكنت اللام حملا للأمر على المجزوم ،
التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فل ، وبهذا التقدير قرأ نافع ، وابن عامر «سال سائل» على وزن «قال» ، «وكان».
والثاني : أن تكون
من سأل بالهمز.
قال قطرب : سأل
يسأل مثل زار الأسد يزأر ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السّين ،
تخفيفا ، واعتددنا بحركة النقل ، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ، ووزنه أيضا
فل بحذف العين ، وإن اختلف المأخذ.
وروى عباس عن أبي
عمرو : «اسأل» على الأصل من غير نقل. وقرأ قوم : «اسل» بالنقل وهمزة الوصل ، كأنّهم لم يعتدّوا بالحركة
المنقولة كقولهم : «الحمر» بالهمز.
وقرأ بعضهم «سل بني
إسرائيل» بغير همز ، وقرأوا (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ
الْكِتابَ) [يونس : ٩٤] (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٢]
بالهمز ، وقرأ الكسائيّ الكلّ بغير همز اتّباعا للمصحف ، فإنّ الألف
ساقطة فيها أجمع ، و «بني» مفعول أول عند الجمهور.
وقوله : «كم
آتيناهم» في «كم» وجهان :
أحدهما : أنها في
محل نصب. واختلف في ذلك فقيل : نصبها على أنها مفعول ثان ل «آتيناهم» على مذهب
الجمهور ، وأول على مذهب السّهيلي ، كما تقدّم.
__________________
وقيل : يجوز أن
ينتصب بفعل مقدّر يفسّره الفعل بعدها تقديره : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدرنا
ناصبها بعدها ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله ، قاله ابن
عطيّة ، يعني أنه عنده من باب الاشتغال. قال أبو حيّان : وهذا غير جائز إن كان «من
آية» تمييزا ؛ لأن الفعل المفسّر لم يعمل في ضمير «كم» ولا في سببيها ، وإذا لم
يكن كذلك ، امتنع أن يكون من باب سببيّه.
ونظير ما أجازه أن
تقول : «زيدا ضربت» ويكون من باب الاشتغال ، وهذا ما لا يجيزه أحد.
فإن قلنا إنّ
تمييزها محذوف ، وأطلقت «كم» على القوم ، جاز ذلك ؛ لأنّ في جملة الاشتغال ضمير
الأول ؛ لأنّ التقدير : «كم من قوم آتيناهم» قال شهاب الدّين : وهذا الذي قاله
الشيخ من كونه لا يتمشّى على كون «من آية» تمييزا قد صرّح به ابن عطيّة فإنه قال :
«وقوله : «من آية» هو على التقدير الأول ، مفعول ثان لآتيناهم ، وعلى الثاني في
موضع التمييز» يعني بالأول نصبها على الاشتغال ، وبالثاني نصبها بما بعدها.
والوجه الثاني :
أن تكون «كم» في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها في محلّ رفع خبرا لها ،
والعائد محذوف تقديره : كم آتيناهموها ، أو آتيناهم إيّاها ، أجازه ابن عطيّة وأبو
البقاء ، واستضعفه أبو حيّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب
لا يجوز إلّا في ضرورة ، كقوله : [السريع]
١٠٣١ ـ وخالد يحمد ساداتنا
|
|
بالحقّ لا يحمد
بالباطل
|
أي : وخالد يحمده.
وهذا نقل بعضهم ، ونقل ابن مالك ، أنّ المبتدأ إذا كان لفظ «كلّ» ، أو ما أشبهها
في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقا من البصريّين والكوفيّين ، ومنه
: (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] في
قراءة نافع ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك ، فالكوفيّون يمنعون ذلك إلا في السّعة ،
والبصريّون يجيزونه بضعف ، ومنه : (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠]
برفع «حكم». فقد حصل أنّ الذي أجازه ابن عطية ممنوع عند الكوفيين ، ضعيف عند
البصريين.
وهل «كم» هذه
استفهامية ، أو خبرية؟ الظاهر الأول ، وأجاز الزمخشريّ فيها الوجهين ، ومنعه أبو
حيّان من حيث إن «كم» الخبرية مستقلة بنفسها ، غير متعلقة بالسؤال ، فتكون مفلتة
ممّا قبلها ، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها ، وأيضا فيحتاج إلى حذف
المفعول الثاني للسؤال ، تقديره : سل بني إسرائيل عن الآيات التي
__________________
آتيناهم ، ثم قال
: كثيرا من الآيات التي آتيناهم ، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.
و «من آية» فيه
وجهان :
أحدهما : أنها
مفعول ثان على القول بأنّ «كم» منصوبة على الاشتغال ؛ كما تقدّم ، ويكون مميّز «كم»
محذوفا ، و «من» زائدة في المفعول ؛ لأنّ الكلام غير موجب ، إذ هو استفهام ، وهذا
إذا قلنا إنّ «كم» استفهامية لا خبرية ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجاب ، و «من» لا
تزاد في الواجب إلّا على رأي الأخفش ، والكوفيّين ، بخلاف ما إذا كانت استفهامية.
قال أبو حيّان : فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعد ،
لأنّ متعلّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : «كم من درهم أعطيته
من رجل» على زيادة «من» في «رجل» لكان فيه نظر» انتهى.
والثاني : أنها تمييز
، ويجوز دخول «من» على مميّز «كم» استفهامية كانت أو خبرية مطلقا ، أي : سواء
وليها مميّزها ، أم فصل بينهما بجملة ، أو ظرف أو جارّ ومجرور ، على ما قرّره
النحاة. و «كم» وما في حيّزها في محلّ نصب أو خفض ، لأنها في محل المفعول الثاني
للسؤال فإنّه يتعدّى لاثنين : إلى الأوّل بنفسه وإلى الثّاني بحرف جرّ : إمّا عن ،
وإمّا الباء ؛ نحو : سألته عن كذا وبكذا ؛ قال تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ،
وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل]
١٠٣٢ ـ فأصبحن لا يسألنني عن بما به
|
|
..........
|
وقد يحذف حرف
الجرّ ، فمن ثمّ جاز في محلّ «كم» النصب ، والخفض بحسب التقديرين ، و «كم» هنا
معلقة للسؤال ، والسؤال لا يعلّق إلا بالاستفهام ؛ كهذه الآية ، وقوله تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) [القلم : ٤٠] ،
وقوله : [الطويل]
١٠٣٣ ـ يا أيّها الرّاكب المزجي
مطيّته
|
|
سائل بني أسد ما
هذه الصّوت
|
وقال آخر : [البسيط]
__________________
١٠٣٤ ـ ..........
|
|
واسأل بمصقلة
البكريّ ما فعلا
|
وإنما علّق السؤال
، وإن لم يكن من أفعال القلوب ؛ قالوا : لأنه سبب للعلم ، والعلم يعلّق ، فكذلك
سببه ، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله : [الطويل]
١٠٣٥ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من أنتم
|
|
وريحكم من أيّ
ريح الأعاصر
|
فإجراؤهم سببه
مجراه أولى.
واختلف النحاة في «كم»
: هل بسيطة ، أو مركبة من كاف التّشبيه وما الاستفهامية ، حذفت ألفها ؛ لانجرارها
، ثم سكنت ميمها ، كما سكّنت ميم «لم» من «لم فعلت كذا» في بعض اللغات ، فركّبتا
تركيبا لازما؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريّة مرادا بها التكثير ،
ولم يأت مميّزها في القرآن إلا مجرورا بمن.
قال أبو مسلم : في
الآية حذف ، والتّقدير : كم آتيناهم من آية بيّنة ، وكفروا بها ، ويدلّ على هذا
الإضمار قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللهِ).
فصل
اعلم أنّه ليس
المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها ؛ لأنه ـ عليهالسلام ـ كان عالما بها بإعلام الله له ، وإنما المقصود المبالغة
في الزّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، فهو سؤال على جهة التّقريع والتّوبيخ
؛ لأنه أمر بالإسلام ، ونهى عن الكفر بقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ) [البقرة : ٢٠٨] ثم
قال : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) [البقرة : ٢٠٩] أي
: أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد ، بقوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] ،
ثم هدّدهم بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] ،
ثم ثلّث التهديد بقوله : (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ) يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها
، فلا جرم استوجبوا العقاب ، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلّوا عن
آيات الله ، لوقعوا في العذاب.
وفي المراد ب «الآية
البيّنة» قولان :
__________________
أحدهما : معجزات
موسى ـ عليهالسلام ـ كما تقدّم نحو : فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال
المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى موسى ـ عليهالسلام ـ ، والعصا ، واليد البيضاء ، وإنزال التوراة ، وبيّن لهم
الهدى من الكفر.
وقيل : المراد
بالآية الحجّة ، والدلالة التي آتاهم ، التوراة ، والإنجيل على نبوة محمّد صلىاللهعليهوسلم وصدقه ، وصحّة شريعته.
قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) «من» شرطية في
محلّ رفع بالابتداء ، وقد تقدّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدّ للتبديل
من مفعولين : مبدّل وبدل ، ولم يذكر هنا إلّا أحدهما وهو المبدّل ، وحذف البدل ،
وهو المفعول الثاني ؛ لفهم المعنى ، وقد صرّح به في قوله : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم ٢٨]
فكفرا هو المحذوف هنا. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٩] أن
«بدّل» يتعدّى لاثنين : أحدهما بنفسه ، وهو البدل ، وهو الذي يكون موجودا ، وإلى
الآخر بحرف الجر ، وهو المبدّل ، وهو الذي يكون متروكا ، وقد يحذف حرف الجرّ لفهم
المعنى ، فالتقدير هنا : «ومن يبدّل بنعمته كفرا» ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم
المعنى. ولا جائز أن تقدّر حرف الجر داخلا على «كفرا» فيكون التقدير : «ومن يبدّل
بالكفر نعمة الله» ؛ لأنه لا يترتّب عليه الوعيد في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وكذلك قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠]
تقديره : بسيئاتهم حسنات ، ولا يجوز تقديره : «سيّئاتهم بحسنات» ؛ لأنه لا يترتّب
على قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ).
وقرىء : «يبدل» مخففا ، و «من» لابتداء الغاية. و «ما» مصدرية ،
والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف ؛ لفهم المعنى ، أي : شديد العقاب له
، أو لأنّ «أل» نابت منابه عند الكوفيين.
قال القرطبيّ : وهذا اللفظ عامّ لجميع المكلّفين ، وإن كان المشار إليه
بني إسرائيل لكونهم بدّلوا ما في كتبهم ، وجحدوا أمر محمد ـ عليهالسلام ـ ، فاللّفظ مستحب على كلّ مبدّل نعمة الله تعالى.
فصل
فالنّعمة هاهنا
إيتاء الآيات والدلائل ؛ لأنها أعظم نعم الله ، فإنها أسباب الهدى والنّجاة من
الضّلالة ، وعلى هذا ففي تبديلهم إيّاها وجهان :
فمن قال : المراد بالآيات
ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى ـ عليه
__________________
الصلاة والسلام ـ قال
: تبديلها أنّ الله تعالى لمّا أظهرها لتكون أسبابا لضلالهم ، فجعلوها أسبابا
لضلالهم ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].
ومن قال : المراد
بالآيات ما في التّوراة والإنجيل من دلائل نبوّة محمّد ـ عليهالسلام ـ قال : تبديلها تحريفها ، وإدخال الشّبهة فيها.
والقول الثاني :
أنّ النعمة هي ما آتاهم الله من الصّحّة ، والأمن ، والكفاية ، فتركوا القيام بما
وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) ، أي : من بعد التمكّن من معرفتها ، أو من بعدما عرفها ؛
كقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] إن
فسرنا النعمة بالقول الأول ، وإن فسرنا النعمة بالصحة والأمن ، فلا شك أن عند
حصولها يجب الشكر ، ويقبح الكفر ، فلهذا قال : (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ).
وقال الطّبريّ :
النعمة هنا الإسلام.
وقال الواحديّ ـ رحمهالله ـ : وفيه إضمار والمعنى شديد العقاب له.
قال عبد القاهر
النّحويّ في كتاب «دلائل الإعجاز» : إنّ ترك هذا الإضمار أولى ؛ لأنّ المقصود من
الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفا بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك ، ثم قال
الواحديّ : والعقاب عذاب يعقب الجرم.
قال القرطبيّ :
مأخوذ من العقب ، كأنّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب
[وعقبة القدر].
قوله تعالي : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ
الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢١٢)
قوله تعالى : (زُيِّنَ:) إنّما لم تلحق الفعل علامة تأنيث لوجوه :
أحدها : قال
الفرّاء : لأنّ الحياة والإحياء واحد ، فإن أنث ، فعلى اللّفظ ،
وبها قرأ ابن أبي عبلة ، وإن ذكّر ، فعلى المعنى ؛ كقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥] (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧].
__________________
وثانيها : قال
الزّجّاج : إنّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي ؛ لأنّ معنى الحياة والعيش
والبقاء واحد ، فكأنه قال : «زيّن للّذين كفروا البقاء».
وثالثها : قال ابن
الأنباري : إنما لم يقل زيّنت ؛ لأنه فصل بين «زيّن» وبين الحياة
الدنيا بقوله : «للذين كفروا» ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصل حسن
تذكير الفعل ؛ لأنّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : «زيّن»
مبنيا للفاعل ، و «الحياة» مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند
الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان.
وقوله : «يسخرون»
يحتمل أن يكون من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف
الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات ؛ لعدم اتّحاد الزمان.
ويحتمل أن يكون «يسخرون»
خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفا ، وهو من عطف الجملة الاسمية
على الفعلية. وجيء بقوله : «زيّن» ماضيا ؛ دلالة على أنّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ،
وبقوله : «ويسخرون» مضارعا ؛ دلالة على التّجدّد ، والحدوث.
قوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) مبتدأ وخبر ، و «فوق» هنا تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون
ظرف مكان على حقيقتها ؛ لأنّ المتقين في أعلى علّيّين ، والكافرين في أسفل
السّافلين.
والثاني : أن تكون
الفوقية مجازا : إمّا بالنسبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في
الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجّة الكافرين ، وإمّا أن سخرية
المؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.
و «يوم» منصوب
بالاستقرار الذي تعلّق به «فوقهم» وقوله : (مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) ثم قال : (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا) لتبيين أنّ السعادة الكبرى لا تحصل إلّا للمؤمن التّقيّ.
فصل
قال ابن عبّاس : نزلت في كفّار قريش ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين
كعبد الله بن مسعود ، وعمّار ، وخبّاب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ،
وأبي عبيدة بن الجرّاح ، وصهيب ، وبلال ، بسبب ما كانوا فيه من الفقر ، والصّبر
على أنواع البلاء ، مع ما كان الكفّار فيه من النّعيم ، والرّاحة ، وبسط الرّزق.
__________________
وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود ، وعلمائهم ، من بني قريظة ،
والنّضير ، وبني قينقاع ؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم ،
وأموالهم ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنّضير بغير قتال.
وقال مقاتل : نزلت
في المنافقين كعبد الله بن أبيّ ، وأصحابه ؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا ، ويسخرون
من ضعفاء المسلمين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم
محمد أنه يغلب بهم .
قال ابن الخطيب : ولا مانع من نزولها في جميعهم.
روى أسامة بن زيد
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وقفت على باب الجنّة ، فرأيت أكثر أهلها المساكين ،
ووقفت على باب النّار ، فرأيت أكثر أهلها النّساء ، وإنّ أهل الجدّ محبوسون إلّا
من كان منهم من أهل النّار ، فقد أمر به إلى النّار» .
وروى سهل بن سعد
السّاعديّ ، قال : مرّ رجل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لرجل عنده جالس : «ما رأيك في هذا» فقال هذا رجل من
أشراف النّاس ، هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفّع ، قال : فسكت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم مرّ رجل ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما رأيك في هذا»؟ فقال : يا رسول الله ، هذا من فقراء
المسلمين ، هذا حريّ إن خطب ألّا ينكح وإن شفع ألا يشفّع ، وإن قال لا يسمع لقوله.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» .
وروي عن عليّ ؛
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة ، أو حقّره لفقره وقلّة
ذات يده ، شهره الله يوم القيامة ، ثم فضحه ، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة ، أو قال فيه
ما ليس فيه أقامه الله تعالى في تلّ من نار يوم القيامة ؛ حتّى يخرج ممّا قال فيه
...» .
فصل
قال الجبّانيّ : المزيّن هم غواة الجن ، والإنس ؛ زينوا للكفار الحرص على
الدّنيا ، وقبّحوا أمر الآخرة.
__________________
قال : وأمّا قول
المجبّرة : إنّ الله تعالى زيّن ذلك فهو باطل ، لأنّ المزيّن للشيء كالمخبر على
حسنه ، فإن كان صادقا ، فيكون ما زينه حسنا ، ويكون فاعله مصيبا ، وذلك يوجب أنّ
الكفار مصيب في كفره ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين ، فيؤدي إلى
أن لا يوثق بخبره ، وهذا ـ أيضا ـ كفر ، فثبت أنّ المزيّن هو الشيطان.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأنّ قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) يتناول جميع الكفّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار
مزيّن ، فلا بدّ وأن يكون ذلك المزيّن مغايرا لهم ؛ لأنّ غواة الجنّ والإنس داخلون
في الكفار أيضا ، إلّا أن يقال : إن كلّ واحد يزيّن للآخر فيصير دورا ، فثبت ضعف
هذا التأويل.
وأمّا قوله : «المزيّن
للشّيء كالمخبر عن حسنه» فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة ،
ثم لئن سلّمنا أنّ المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، بمعنى أنه أخبر عمّا فيها من
اللّذّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذب ، وتصديقه ليس بكفر.
وقال أبو مسلم : يحتمل أنهم زيّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم
: أين يذهب بك؟ لا يريدون أنّ ذاهبا ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة
: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٥] ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩] إلى
غير ذلك ، وأكّده بقوله : (لا تُلْهِكُمْ
أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [المنافقون : ٩]
وأضاف ذلك إليهما ؛ لمّا كان كالسبب ولمّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان
على الفعل قهرا ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيّن لنفسه.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : «زيّن للنّاس» يقتضي أنّ مزيّنا
زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث :
أنّ المزيّن هو الله تعالى ، ويدلّ عليه وجهان :
أحدهما : قراءة من
قرأ «زيّن» مبنيّا للفاعل.
والثاني : قوله
تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧]
والقائلون بهذا ذكروا وجوها :
الأول : أنّ هذا
التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزّهرة والنضارة ، والطّيب ، واللّذّة ؛
ابتلاء لعباده ؛ كقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَواتِ) إلى قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) [آل عمران : ١٤ ،
١٥].
وقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ
الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] ثم
قال : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] فهذه
الآيات متوافقة ، والمعنى: أنّ
__________________
الله تعالى جعل
الدّنيا دار بلاء وامتحان ، وركّب في الطّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ،
لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه
النفس مع إمكان ردّها عنه ؛ ليتمّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض
نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام.
الثاني : أنّ
المراد ب «التّزيين» أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص
في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين».
الثالث : أنّه
زيّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلّا أنّ هذا ضعيف ؛ لأن الله تعالى خصّ الكفّار ، وأيضا فإنّ المؤمن إذا
تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه
مكدّر منغّص وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك
الكافر ، فإنّه وإن قلّت ذات يده ، فسروره بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود
دون غيرها.
وأيضا ، فإنّه
تعالى أتبع الآية بقوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللّذات
المحظورة ، وتحملهم المشاقّ الواجبة ، فدلّ ذلك على أنّ التزيين لم يكن في
المباحات.
قال ابن الخطيب : ويتوجّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنّ حصول هذه الزينة في
قلوب الكفّار لا بدّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ،
ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمّا أن يكون قد رجّح جانب الكفر والمعصية
على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنّ حال الاستواء لمّا امتنع حصول
الرّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار
المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنّه لا خروج عن النقيضين ،
فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا
فإنهم حملوا التزيين على أنّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق
تلك الأفعال ، والأقوال.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) مفعول «يشاء» محذوف ، أي : من يشاء أن يرزقه. و «بغير حساب»
هذا الجارّ فيه وجهان :
أحدهما : أنه
زائد.
والثاني : أنه غير
زائد ، فعلى الأول لا تعلّق له بشيء ، وعلى الثاني هو متعلّق بمحذوف. فأما وجه
الزيادة : فهو أنه تقدّمه ثلاثة أشياء في قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ) الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالح لأن يتعلّق من جهة
المعنى بكلّ واحد منها ، فإذا
__________________
تعلّق بالفعل كان
من صفات الأفعال ، تقديره : والله يرزق رزقا غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي :
أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته ، فيكون في محلّ نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ،
والباء زائدة.
وإذا تعلّق
بالفاعل ، كان من صفات الفاعلين ، والتقدير : والله يرزق غير محاسب بل متفضلا ، أو
غير حاسب ، أي : عاد. ف «حساب» واقع موقع اسم فاعل من حاسب ، أو من حسب ، ويجوز أن
يكون المصدر [واقعا موقع اسم مفعول من حاسب ، أي : الله يرزق غير محاسب] أي : لا
يحاسبه أحد على ما يعطي ، فيكون المصدر في محلّ نصب على الحال من الفاعل ، والباء
فيه مزيدة.
وإذا تعلّق
بالمفعول ، كان من صفاته أيضا ، والتقدير : والله يرزق من يشاء غير محاسب ، أو غير
محسوب عليه ، أي : معدود عليه ، أي : إنّ المرزوق لا يحاسبه أحد ، أو لا يحسب عليه
، أي : لا يعدّ. فيكون المصدر أيضا واقعا موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب ، أو يكون
على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، أي : محاسبة ، فالمصدر واقع موقع الحال والباء
ـ أيضا ـ زائدة فيه ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا
يحتسب ، أي : من حيث لا يظنّ أن يأتيه الرزق ، والتقدير : يرزقه غير محتسب ذلك ،
أي : غير ظانّ له ، فهو حال أيضا ، ومثله في المعنى (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٣].
وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطا ـ على خلاف في جواز ذلك في الأصل ـ وهو
أن تكون الحال منفيّة ، كقوله : [الوافر]
١٠٣٦ ـ فما رجعت بخائبة ركاب
|
|
حكيم بن المسيّب
منتهاها
|
وهذه الحال ـ كما
رأيت ـ غير منفية ، فالمنع من الزيادة فيها أولى.
وأمّا وجه عدم
الزيادة ، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة ، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة ـ أعني
الفعل ، والفاعل ، والمفعول ـ بقوله : «بغير حساب» باقية أيضا ، كما تقدّم في
القول بزيادتها.
والمراد بالمصدر
المحاسبة ، أو العدّ والإحصاء ، أي : يرزق من يشاء ، ولا حساب على الرزق ، أو ولا
حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق ، وهذا أولى ؛ لما فيه من عدم الزيادة ، التي
الأصل عدمها ، ولما فيه من تبعيّة المصدر على حاله ، غير واقع موقع اسم فاعل ، أو
اسم مفعول ، ولما فيه من عدم تقدير مضاف بعد «غير» أي : غير ذي حساب. فإذا هذا
الجارّ ، والمجرور متعلّق بمحذوف ؛ لوقوعه حالا من أيّ الثلاثة المتقدّمة شئت ؛
كما تقدّم تقريره ، أي : ملتبسا بغير حساب.
__________________
فصل
يحتمل أن يكون
المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون
المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصا بالمؤمنين ، وهو
من وجوه :
أحدها : أنّ الله
يرزقهم بغير حساب ، أي : رزقا واسعا رغدا لا فناء له ؛ لأنّ كلّ ما دخل تحت الحساب
، فهو متناه.
وثانيها : أن
المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل ؛ كما قال : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣]
فالفضل منه بلا حساب.
وثالثها : أنه لا
يخاف نفادها عنده ؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ؛ لأن المعطي إنّما يحاسب ، ليعلم
مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم
غني ، لا نهاية لمقدوراته.
ورابعها : «بغير
حساب» ، أي : بغير استحقاق ؛ يقال : لفلان على فلان حساب ؛ إذا كان له عليه حق ،
وهذا يدلّ على أنّه لا يستحق أحد عليه شيئا ، وليس لأحد معه حساب ، بل كلّ ما
أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسان ، لا بسبب استحقاق.
وخامسها : «بغير
حساب» ، أي : يعطي زائدا على الكفاية ؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي
كثيرا ؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
وهذه الوجوه كلّها
محتملة ، وعطايا الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلّ مرادا والله أعلم.
فإن قيل : قد قال
الله ـ تعالى ـ في صفة المتقين ، وما يصل إليهم : (عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦] على
المستحقّ بحسب الوعد ؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ؛ كما هو قول المعتزلة ،
فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية.
فالجواب : من حمل
قوله : «بغير حساب» على التفضّل ، وحمل قوله : «عطاء حسابا» على المستحق بحسب
الوعد ، كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال زائل ،
ومن حمل قوله : «بغير حساب» على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا
كان يتشابه في الأوقات ، فصحّ من هذا الوجه أن يوصف بكونه : «عطاء حسابا» فلا
تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :
أحدها ، وهو أليق
بنظم الآية : أنّ الكفار كان يسخرون من فقراء المسلمين ؛ لأنهم كانوا يستدلّون
بحصول السعادات الدنيوية ، على أنهم على الحقّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم
على الباطل ؛ فأبطل تعالى استدلالهم بقوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني : يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا
عن كون
المعطى محقّا أو
مبطلا ، بل بمحض المشيئة ؛ كما وسّع على قارون وضيّق على أيّوب ـ عليهالسلام ـ فقد يوسّع على الكافر ، ويضيق على المؤمن ؛ ابتلاء
وامتحانا ؛ كما قال : (وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣].
وثانيها : أنّ
الله يرزق من يشاء في الدنيا : من كافر ، ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه ولا
مطالبة ، ولا تبعة ، ولا سؤال سائل.
والمقصود منه :
ألّا يقول الكافر : إنّ المؤمن على الحق فلم لم يوسّع عليه في الدنيا؟ وألّا يقول
المؤمن : لو كان الكافر مبطلا ، فلم يوسّع عليه في الدنيا؟ بل الاعتراض ساقط ؛ و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣].
وثالثها : بغير
حساب أي : من حيث لا يحتسب ؛ كما يقول من جاءه ما لم يكن في قلبه : لم يكن هذا حسابي.
قال القفّال ـ رحمهالله ـ : وقد فعل ذلك بهم ، فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال
صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح على رسوله ، بعد وفاته على أيدي أصحابه ،
حتى ملكوا كنوز كسرى ، وقيصر.
قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً
فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)
وجه النظم أنه لما
بيّن أن سبب إصرار الكفّار على كفرهم ، هو حبّ الدنيا بين في هذه الآية أن هذا
المعنى غير مختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة ، فإنّهم كانوا
أمة واحدة على الحق ، ثم اختلفوا ، وما كان اختلافهم إلّا بسبب البغي ، والتحاسد ،
والتّنازع في طلب الدنيا.
قال القفّال : «الأمّة» هم المجتمعون على الشّيء الواحد ، يقتدي بعضهم
ببعض ؛ مأخوذ من الائتمام.
ودلّت الآية على أنّ
الناس كانت أمّة واحدة ، ولم تدلّ على أنّهم كانوا أمّة واحدة : في الحقّ ، أم في
الباطل.
__________________
فصل في معاني كلمة «أمة»
قد جاءت الأمة على
خمسة أوجه :
الأوّل : «الأمّة»
الملّة ، كهذه الآية ، أي : ملّة واحدة ، ومثله : (وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢]
أي : ملتكم.
الثاني : الأمّة
الجماعة ؛ قال تعالى (وَمِمَّنْ خَلَقْنا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٨١]
أي : جماعة.
الثالث : الأمّة
السنين ؛ قال تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] ، أي : إلى سنين معدودة ، ومثله (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد سنين.
الرابع : بمعنى
إمام يعلّم الخير ؛ قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠].
الخامس : الأمّة :
إحدى الأمم ؛ قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠]
، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخر «النحل» عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].
فصل في المراد بالأمة ، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟
واختلف المفسّرون
على خمسة أقوال :
القول الأول :
أنهم كانوا على الحقّ ، وهو قول أكثر المحققين ؛ قال القفّال : لأنّه تعالى قال بعده : (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ف «الفاء» في قوله : «فبعث الله» تقتضي أن يكون بعثهم بعد
الاختلاف ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف
أولى ؛ لأنّهم لما بعثوا ، وبعض الأمّة محقّ وبعضهم مبطل فلأن يبعثوا عند كون
الجميع على الكفر أولى.
وأيضا فإن آدم ـ عليهالسلام ـ لما بعث إلى أولاده ، كانوا مسلمين مطيعين ، ولم يحدث
بينهم اختلاف في الدّين ، إلى أن قتل قابيل هابيل ؛ بسبب الحسد والبغي ، وهذا ثابت
بالتواتر ، فإنّ الناس ـ وهم : آدم وحوّاء ، وأولادهما ـ كانوا أمّة واحدة على
الحق ، ثم اختلفوا ؛ بسبب البغي ، والحسد ، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ
مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) [المائدة : ٢٧]
وأيضا قوله ـ عليهالسلام ـ : «كلّ مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهوّدانه أو
ينصرانه أو يمجّسانه» فدلّ ذلك على أنّ
__________________
المولود لو ترك مع
فطرته الأصلية ، لما كان على شيء من الأديان الباطلة ، وأنّه إنّما يقدم على الدين
الباطل ، لأسباب خارجية.
وقال الكلبيّ : هم أهل سفينة نوح ، لما غرقت الأرض بالطوفان ، لم يبق
إلّا أهل السفينة على الحق ، والدّين الصّحيح ، ثم اختلفوا بعد ذلك ؛ وهذا مما ثبت
بالتّواتر.
وقال مجاهد : أراد
آدم وحده ، وكان أمّة واحدة ، وسمّى الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنّه أصل النّسل ، وأبو
البشر ، وخلق الله منه حوّاء ، ونشر منها الناس.
قال قتادة وعكرمة
: كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح ، وكان بينهما عشرة قرون كلّهم على شريعة
واحدة من الحق ، والهدى ، ثم اختلفوا في زمن نوح ـ عليهالسلام ـ فبعث الله إليهم نوحا ، وكان أوّل بني بعث .
وحكى القرطبيّ : قال ابن أبي خيثمة : منذ خلق الله آدم ـ عليهالسلام ـ إلى أن بعث الله محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة ، وقيل : أكثر من ذلك ،
وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة ، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس
في زمانه أمة واحدة ، على ملّة واحدة متمسكين بالدّين ، تصافحهم الملائكة ، وداموا
على ذلك إلى أن رفع إدريس ـ عليهالسلام ـ فاختلفوا.
قال : وهذا فيه نظر ؛ لأنّ إدريس بعد نوح على الصحيح.
وقيل : كان العرب
على دين إبراهيم إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ.
وروى أبو العالية
، عن أبيّ بن كعب قال : «كان النّاس حين عرضوا وأخرجوا من ظهر آدم ، وأقرّوا أمّة
واحدة مسلمين كلهم ، ولم يكونوا أمّة واحدة قطّ غير ذلك اليوم ، ثم اختلفوا بعد
آدم» .
القول الثاني :
أنّهم كانوا أمّة واحدة في الكفر ، وهو قول ابن عبّاس ، وعطاء ، والحسن.
وقال الحسن وعطاء
: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمّة واحدة على ملّة الكفر ؛ أمثال
البهائم ، فبعث الله إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وغيره من النبيين ، واستدلّوا بقوله (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) وهو لا يليق إلا بذلك.
__________________
وجوابه ما بينا :
أنّ هذا لا يليق بضده ، ثم اختلف القائلون بهذا القول : متى كانوا متفقين على
الكفر على ما قدّمنا ثمّ سألوا أنفسهم سؤالا وقالوا : أليس فيهم من كان مسلما
كهابيل ، وشيث ، وإدريس.
وأجابوا : بأنّ
الغالب كان هو الكفر ، والحكم للغالب ، ولا يعتدّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدّ
بالشعير القليل في البر الكثير ، فقد يقال : دار الإسلام ، وإن كان فيها غير
المسلمين ، ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.
الثالث : قال أبو
مسلم : كانوا أمّة واحدة في التمسّك بالشرائع العقلية ، وهي الاعتراف بوجود الصانع
، وصفاته ، والاشتغال بخدمته ، وشكر نعمه ، والاجتناب عن القبائح العقليّة كالظّلم
، والكذب ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها.
واحتجّ القاضي على صحّة قوله : بأنّ لفظ النّبيين يفيد العموم والاستغراق
، وحرف «الفاء» يفيد التّراخي ، فقوله (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ) يفيد أنّ بعثة الأنبياء كانت متأخّرة عن كون الناس أمّة
واحدة ، فتلك الواحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع ، لا بدّ وأن تكون واحدة في
شرعة غير مستفادة من الأنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما
بيّنّاه ، وأيضا فالعلم بحسن شكر المنعم ، وطاعة الخالق ، والإحسان إلى الخلق ، والعدل ؛ مشترك فيه
بين الكلّ ، والعلم يقبح الكذب ، والظّلم ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها مشترك فيه
بين الكل ، فالأظهر أنّ الناس كانوا في أوّل الأمر على ذلك ، ثم اختلفوا بعد ذلك ؛
لأسباب منفصلة ، ثم قال : فإن قيل : أليس أوّل الإسلام آدم ـ عليه الصلاة والسلام
ـ مع أولاده كانوا مجتمعين على التّمسك بالشرائع العقلية أوّلا ، ثم إنّ الله
تعالى بعثه بعد ذلك إلى أولاده ، ويحتمل أن صار شرعه مندرسا بعد ذلك ، ثم رجع
الناس إلى الشرائع العقلية؟
قال ابن الخطيب : وهذا القول لا يصحّ إلّا بعد تحسين العقل ، وتقبيحه ،
والكلام فيه مشهور.
القول الرابع :
أنّ الآية دلّت على أنّ الناس كانوا أمّة واحدة ، وليس فيها أنّهم كانوا على
الإيمان ، أو على الكفر ، فهو موقوف على الدّليل .
القول الخامس :
أنّ المراد ب «النّاس» هنا أهل الكتاب ممّن آمن بموسى ـ عليهالسلام ـ وذلك لأنّا بينا أنّ هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨]
وذكرنا أنّ كثيرا من المفسرين زعموا أن تلك
__________________
الآية نزلت في
اليهود ؛ فقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) أي : كان الذين آمنوا بموسى أمّة واحدة على دين واحد ، ثم
اختلفوا بسبب البغي ، والحسد ؛ فبعث الله النبيّين ، وهم الذين جاءوا بعد موسى ـ عليهالسلام ـ وأنزل معهم الكتاب كما بعث الزبور إلى داود ، والإنجيل
إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتكون تلك الكتب حاكمة
عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القول مطابق لنظم الآية ، وموافق
لما قبلها وما بعدها ، وليس فيه إشكال إلّا أنّ تخصيص لفظ الناس بقوم معينين خلاف
الظّاهر ، ويعتذر عنه بأن الألف واللّام كما تكون للاستغراق ، فقد تكون أيضا
للعهد.
فصل في بيان لفظة «كان»
قال القرطبيّ : لفظة «كان» على هذه الأقوال على بابها من المضيّ المنقضي
، وكان من قدّر الناس في الآية مؤمنين قدّر في الكلام : فاختلفوا ، فبعث الله ،
ويدلّ على هذا الحذف قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وكل من قدّرهم كفّارا كانت بعثة النبيين إليهم ، ويحتمل أن
تكون «كان» للثّبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله : أنهم أمة
واحدة من خلوّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق لو لا أنّ الله تعالى منّ عليهم
بالرسل ؛ تفضلا منه ؛ فعلى هذا لا تختصّ «كان» بالمضيّ فقط ، بل يكون معناها كقوله
تعالى (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦]
وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ) قال بعض المفسرين : وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل منهم ثلاثمائة
وثلاثة عشر ، والمذكور في القرآن بأسمائهم : ثمانية عشر نبيّا.
قوله تعالى : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان من «النّبيّين». قيل : وهي حال مقارنة ؛ لأنّ بعثهم
كان وقت البشارة والنّذار وفيه نظر ؛ لأنّ البشارة والنّذارة [بعد البعث. والظاهر
أنها حال مقدّرة ، وقد تقدّم معنى البشارة والنذارة] في قوله : (أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا) [يونس : ٢].
وقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ) هذا الظرف فيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلّق بأنزل. وهذا لا بدّ فيه من تأويل ؛ وذلك أنّه يلزم من تعلّقه بأنزل أن يكون
النبيون مصاحبين للكتاب في الإنزال ، وهم لا يوصفون بذلك ؛ لعدمه فيهم.
وتأويله : أنّ
المراد بالإنزال الإرسال ، لأنّه مسبّب عنه ، كأنّه قيل : وأرسل معهم الكتاب فتصحّ
مشاركتهم له في الإنزال بهذا التّأويل.
والثاني : أن
يتعلّق بمحذوف ، على أنه حال من الكتاب ، وتكون حالا مقدرة ، أي :
__________________
وأنزل مقدّرا
مصاحبته إياهم ، وقدّره أبو البقاء بقوله : «شاهدا لهم ومؤيّدا» ، وهذا تفسير معنى لا إعراب.
والألف واللام في «الكتاب»
يجوز أن تكون للعهد ، بمعنى أنّه كتاب معين ؛ كالتوراة مثلا ، فإنها أنزلت على
موسى ، وعلى النّبيّين بعده ؛ بمعنى أنّهم حكموا بها ، واستداموا على ذلك ، وأن
تكون للجنس ، أي : أنزل مع كلّ واحد منهم من هذا الجنس.
قال القاضي : ظاهر الآية يدلّ على أنّه لا نبيّ إلّا ومعه كتاب ، أنزل
فيه بيان الحق : طال ذلك الكتاب ، أم قصر ، ودوّن ، أو لم يدوّن ، وكان ذلك الكتاب
معجزا ، أم لم يكن.
وقيل : هو مفرد
وضع موضع الجمع : أي وأنزل معهم الكتب ، وهو ضعيف.
وهذا الجملة
معطوفة على قوله : «فبعث» ولا يقال : البشارة والنّذارة ناشئة عن الإنزال فكيف
قدّما عليه؟ لأنّا لا نسلّم أنّهما إنما يكونان بإنزال كتاب ، بل قد يكونان بوحي
من الله تعالى غير متلوّ ولا مكتوب. ولئن سلّمنا ذلك ، فإنّما قدّما ، لأنهما
حالان من «النّبيّين» فالأولى اتّصالهما بهم.
قوله : «بالحقّ»
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
متعلّقا بمحذوف على أنه حال من الكتاب ـ أيضا ـ عند من يجوّز تعدّد الحال ، وهو
الصحيح.
والثاني : أن
يتعلّق بنفس الكتاب ؛ لما فيه من معنى الفعل ، إذ المراد به المكتوب.
والثالث : أن
يتعلّق بأنزل ، وهذا أولى ؛ لأنّ جعله حالا لا يستقيم إلّا أن يكون حالا مؤكدة ،
إذ كتب الله تعالى لا تكون ملتبسة بالحقّ ، والأصل فيها أن تكون مستقلّة ولا ضرورة
بنا إلى الخروج عن الأصل ، ولأنّ الكتاب جار مجرى الجوامد.
قوله : «ليحكم»
هذا القول متعلق بقوله : «أنزل» واللام للعلة ، وفي الفاعل المضمر في «ليحكم»
ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو
أظهرها ، أنه يعود على الله تعالى : لتقدّمه في قوله : «فبعث الله» ولأنّ نسبة
الحكم إليه حقيقة ، ويؤيّده قراءة الجحدري فيما نقله عنه مكّي «لنحكم» بنون العظمة ، وفيه التفات من
الغيبة إلى التكلّم. وقد ظنّ ابن عطية أن مكيا غلط في نقل
__________________
هذه القراءة عنه ،
وقال : إنّ الناس رووا عن الجحدري : «ليحكم» على بناء الفعل للمفعول وفي «النّور»
موضعين هنا ، وفي «آل عمران» ولا ينبغي أن يغلّطه ؛ لاحتمال أن يكون عنه قراءتان.
والثاني : أنه
يعود على «الكتاب» أي : ليحكم الكتاب ، ونسبة الحكم إليه مجاز ؛ كنسبة النّطق إليه
في قوله تعالى : (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩].
وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٩].
ونسبة القضاء إليه
في قوله : [الكامل]
١٠٣٧ ـ ضربت عليك العنكبوت بنسجها
|
|
وقضى عليك به
الكتاب المنزل
|
ووجه المجاز : أنّ
الحكم فيه ؛ فنسب إليه. وقيل : إنه يعود على النّبيّ ، واستضعفه أبو حيّان من حيث
إفراد الضمير ، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع ؛ ليطابق «النّبيّين». ثمّ قال : وما
قاله جائز على أن يعود الضمير على إفراد الجمع ، على معنى : ليحكم كلّ نبيّ
بكتابه.
و «بين» متعلّق ب «يحكم».
والظّرفية هنا مجاز. وكذلك «فيما اختلفوا» متعلق به أيضا. و «ما» موصولة ، والمراد
بها الدّين ، أي : ليحكم الله بين الناس في الدّين ، بعد أن كانوا متفقين عيه.
ويضعف أن يراد ب «ما» النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ؛ لأنها لغير
العقلاء غالبا. و «فيه» متعلّق ب «اختلفوا» ، والضمير عائد على «ما» الموصولة.
قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) الضمير في «فيه» فيه أوجه.
أظهرها : أنه عائد
على «ما» الموصولة أيضا ، وكذلك الضمير في «أوتوه» وقيل : يعودان على الكتاب ، أي
: وما اختلف في الكتاب إلّا الّذين أوتوا الكتاب. وقيل : يعودان على النبيّ ، قال
الزّجّاج : أي : وما اختلف في النبيّ إلّا الذين أوتوا علم نبوّته.
وقيل : يعود على عيسى ؛ للدلالة عليه.
وقيل : الهاء في «فيه»
تعود على «الحقّ» وفي «أوتوه» تعود على «الكتاب» أي : وما اختلف في الحقّ إلّا
الذين أوتوا الكتاب.
فصل
والمراد باختلافهم
يحتمل معنيين :
أحدهما : تكفير
بعضهم بعضا ؛ كقول اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] أو
قولهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠]
والآخر : تحريفهم وتبديلهم ، وهذا يدلّ على أنّ الاختلاف في الحقّ لم يوجد إلّا
بعد بعثة الأنبياء ،
__________________
وإنزال الكتاب ،
وذلك يوجب أنّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقّ حاصلا ، بل كان الاتفاق في
الحق حاصلا وهو يدل على أنّ قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) معناه أمة واحدة في دين الحقّ.
وقوله : «من بعد»
فيه وجهان :
أحدهما وهو الصحيح
: أن يتعلّق بمحذوف تقديره : اختلفوا فيه من بعد.
والثاني : أن
يتعلّق ب «اختلف» الملفوظ به ، قال أبو البقاء : ولا تمنع «إلّا» من ذلك ، كما تقول : «ما قام إلّا زيد
يوم الجمعة». وهذا الذي أجازه أبو البقاء ، فيه كلام كثير للنّحاة ، وملخّصه : أنّ
«إلّا» لا يستثنى بها شيئان دون عطف أو بدلية ؛ وذلك أنّ «إلّا» معدّية للفعل ،
ولذلك جاز تعلّق ما بعدها بما قبلها ، فهي كواو مع وهمزة التعدية ، فكما أنّ واو «مع»
وهمزة التّعدية ، لا يعدّيان الفعل لأكثر من واحد ، إلّا مع العطف ، أو البدلية
كذلك «إلّا» وهذا هو الصّحيح ، وإن كان بعضهم خالف. فإن ورد من لسانهم ما يوهم
جواز ذلك يؤوّل ، فمنه قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [يوسف : ١٠٩].
ثم قال «بالبيّنات»
، فظاهر هذا أنّ «بالبينات» متعلّق بأرسلنا ، فقد استثني ب «إلّا» شيئان ، أحدهما «رجالا»
والآخر «بالبينات».
وتأويله أنّ «بالبيّنات»
متعلّق بمحذوف ، لئلا يلزم منه ذلك المحذور. وقد منع أبو الحسن ، وأبو عليّ : «ما
أخذ أحد إلّا زيد درهما» و «ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا» واختلفا في تصحيحها ،
فقال أبو الحسن : طريق تصحيحها بأن تقدّم المرفوع الذي بعد «إلّا» عليها ، فيقال :
ما أخذ أحد زيد إلا درهما ، فيكون «زيد» بدلا من «أحد» و «درهما» مستثنى مفرغ من
ذلك المحذوف ، تقديره : «ما أخذ أحد زيد شيئا إلا درهما».
وقال أبو عليّ :
طريق ذلك زيادة منصوب في اللّفظ فيظهر ذلك المقدّر المستثنى منه ، فيقال : «ما أخذ
أحد شيئا إلا زيد درهما» فيكون المرفوع بدلا من المرفوع ، والمنصوب بدلا من
المنصوب ، وكذلك : ما ضرب القوم أحدا إلّا بعضهم بعضا.
وقال أبو بكر بن
السّرّاج : تقول «أعطيت الناس درهما إلا عمرا» [جائز. ولو قلت : «عطيت الناس درهما
إلا عمرا] الدنانير لم يجز ، لأنّ الحرف لا يستثنى به إلّا واحد. فإن قلت : «ما
أعطيت الناس درهما إلّا عمرا دانقا» [على الاستثناء لم يجز ، أو على البدل جاز
فتبدل «عمرا» من النّاس ، و «دانقا» من «درهما». كأنك قلت : «ما أعطيت إلّا عمرا
دانقا] يعني أنّ الحصر واقع في المفعولين.
قال بعض المحقّقين
: «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ، ضعيف ؛
__________________
وذلك أنّ البدل في
الاستثناء لا بدّ من مقارنته ب «إلّا» ، فأشبه العطف ، فكما أنّه لا يقع بعد حرف
العطف معطوفان ، لا يقع بعد إلّا بدلان».
فإذا عرف هذا
الأصل ، وما قال الناس فيه ، كان إعراب أبي البقاء في هذه الآية الكريمة ، من هذا
الباب ؛ وذلك أنه استثناء مفرّغ ، وقد وقع بعد «إلّا» الفاعل ، وهو «الّذين» ،
والجارّ والمجرور ، وهو «من بعد» ، والمفعول من أجله ، وهو «بغيا» فيكون كلّ منهما
محصورا. والمعنى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه إلّا من بعد ما جاءتهم البينات
إلا بغيا. وإذا كان التقدير كذلك ، فقد استثني ب «إلّا» شيئان دون الأول الذي هو
فاعل من غير عطف ولا بدلية وهي مسألة يكثر دورها.
قوله : «بغيا» في
نصبه وجهان :
أظهرهما : أنه
مفعول من أجله ، لاستكمال الشّروط ، وهو علة باعثة ، والعامل فيه مضمر على ما
اخترناه ، وهو الذي تعلّق به «فيه» ، و «اختلف» الملفوظ به عند من يرى أنّ «إلّا»
يستثنى بها شيئان.
والثاني : أنه
مصدر في محلّ حال ، أي : باغين ، والعامل فيها ما تقدّم. و «بينهم» متعلق بمحذوف ؛
لأنه صفة ل «بغيا» أي : بغيا كائنا بينهم.
فصل
قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إيّاهم الكتاب كان بعد
مجيء الآيات البيّنات ، فتكون هذه البينات مغايرة ـ لا محالة ـ لإيتاء الكتاب ؛
وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقليّة التي نصبها الله ـ تعالى
ـ على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلّا بعد ثبوتها ؛ وذلك لأنّ
المتكلّمين يقولون : كلّ ما لا يصحّ إثبات النبوة إلّا بثبوته ، فذلك لا يمكن
إثباته بالدلائل السّمعيّة ، وإلّا وقع الدور.
وقال بعض المفسرين
: المراد «بالبينات» صفة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في كتبهم.
قول فهدى الله
الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق «لما» متعلّق ب «هدى» و «ما» موصولة ومعنى
هذا أي : أرشد إلى ما اختلفوا فيه ؛ كقوله تعالى : (يَعُودُونَ لِما
قالُوا) [المجادلة : ٣] ، أي : إلى ما قالوا. ويقال : هديته الطريق
وللطريق وإلى الطريق والضمير في «اختلفوا» عائد على «الذين أوتوه» وفي «فيه» عائد
على «ما» ، وهو متعلّق ب «اختلف».
و «من الحقّ»
متعلّق بمحذوف ؛ لأنه في موضع الحال من «ما» في «لما»
__________________
و «من» يجوز أن
تكون للتبعيض ، وأن تكون للبيان عند من يرى ذلك ، تقديره : الذي هو الحقّ.
وأجاز أبو البقاء أن يكون «من الحقّ» حالا من الضمير في «فيه» ، والعامل
فيها «اختلفوا» فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفوا فيه ، وعساه أن يكون غير حقّ في
نفسه قال : «والقلب في كتاب الله دون ضرورة تدفع إليه عجز وسوء فهم» انتهى.
قال شهاب الدّين :
وهذا الاحتمال الذي جعله ابن عطية حاملا للفرّاء على ادّعاء القلب ، لا يتوهّم
أصلا.
قوله «بإذنه» فيه
وجهان :
أحدهما : أن
يتعلّق بمحذوف ، لأنه حال من «الّذين آمنوا» ، أي : مأذونا لهم.
والثاني : أن يكون
متعلّقا بهدى مفعولا به ، أي : هداهم بأمره.
قال الزّجّاج : المراد من الإذن ـ هنا ـ العلم ، أي : بعلمه ، وإرادته
فيهم ، وقيل : بأمره ، أي : حصلت الهداية بسبب الأمر ؛ كما يقال : قطعت بالسّكّين.
وقيل : لا بدّ فيه من إضمار ، تقديره : هداهم فاهتدوا بإذنه.
فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه
قال ابن زيد : هذه
الآية في أهل الكتاب ، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى
إلى المشرق ؛ فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصيام ؛ فهدانا الله لشهر رمضان
واختلفوا في الأيام ، فأخذت اليهود السّبت ، والنّصارى الأحد ؛ فهدانا الله للجمعة
، واختلفوا في إبراهيم ؛ فقالت اليهود : كان يهوديّا ، وقالت النصارى : كان
نصرانيّا. فقلنا : إنّه كان حنيفا مسلما ، واختلفوا في عيسى : فاليهود فرّطوا ،
والنّصارى أفرطوا ؛ فهدانا الله للحقّ فيه.
فصل في احتجاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه
تمسّك بعضهم بهذه الآية على أنّ الإيمان مخلوق لله تعالى ، وهو ضعيف ؛
لأن الهداية غير الاهتداء كما أنّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان ، وأيضا فإنه
قال في آخر الآية : «بإذنه» ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : «فهدى الله» إذ لا
جائز أن يأذن لنفسه ، فلا بدّ من إضمار لصرف الإذن إليه ، والتقدير : «فهدى الله
الّذين آمنوا
__________________
لما اختلفوا فيه
من الحقّ ـ فاهتدوا ـ بإذنه» وإذا كان كذلك ، كانت الهداية مغايرة للإهتداء.
فصل
احتج الفقهاء بهذه
الآية على أنّ الله ـ تعالى ـ قد يخصّ المؤمن بهدايات لا يفعلها في حقّ الكافر.
وأجاب عنه
المعتزلة بوجوه :
أحدها : أنهم
اختصّوا بالاهتداء ، فهو كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ثم
قال (هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥].
وثانيها : أن
المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنّة.
وثالثها : هداهم
إلى الحقّ بالألطاف.
قوله : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها.
قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(٢١٤)
«أم» هذه فيها
أربعة أقوال :
الأول : أن تكون
منقطعة فتتقدّر ب «بل» والهمزة. ف «بل» لإضراب انتقال من إخبار إلى إخبار ،
والهمزة للتقرير. والتقدير بل حسبتم.
والثاني : أنها
لمجرد الإضراب من غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزّجّاج وأنشد : [الطويل]
١٠٣٨ ـ بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى
|
|
وصورتها أم أنت
في العين أملح
|
أي : بل أنت.
والثالث : وهو قول
الفرّاء وبعض الكوفيّين ، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يبتدأ بها في أوّل الكلام ،
ولا تحتاج إلى الجملة قبلها يضرب عنها.
الرابع : أنها
متّصلة ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملة محذوفة قبلها.
قال القفّال : «أم»
هنا استفهام متوسط ؛ كما أنّ «هل» استفهام سابق ، فيجوز أن
__________________
يقال : هل عندك
رجل ، أم عندك امرأة؟ ولا يجوز أن يقال ابتداء أم عندك رجل ، فأمّا إذا كان متوسطا
، جاز سواء كان مسبوقا باستفهام آخر ، أو لا يكون ، أمّا إذا كان مسبوقا باستفهام
آخر فهو كقولك : أنت رجل لا تنصف ، أفعن جهل تفعل هذا ، أم لك سلطان؟ وأمّا الّذي
لا يكون مسبوقا بالاستفهام ؛ فكقوله : (الم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة : ١ ـ ٣]
فكذا تقدير هذا الآية : فهدى الله الذين آمنوا فصبروا على استهزاء قومهم ،
أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون أن تدخلوا الجنّة من غير سلوك سبيلهم.
«حسب» هنا من أخوات
«ظنّ» ، تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، و «أنّ» وما بعدها سادّة مسدّ
المفعولين عند سيبويه ، ومسدّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش ، كما تقدّم ،
ومضارعها فيه الوجهان :
الفتح ـ وهو
القياس ـ والكسر. ولها نظائر من الأفعال تأتي إن شاء الله تعالى في آخر السورة ،
ومعنها الظّنّ ، وقد تستعمل في اليقين ؛ قال : [الطويل]
١٠٣٩ ـ حسبت التّقى والجود خير تجارة
|
|
رباحا إذا ما
المرء أصبح ثاقلا
|
ومصدرها :
الحسبان. وتكون غير متعدية ، إذا كان معناها الشقرة ، تقول : زيد ، أي : اشقرّ ،
فهو أحسب ، أي : أشقر.
قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) الواو للحال ، والجملة بعدها في محلّ نصب عليها ، أي : غير
آتيكم مثلهم. و «لمّا» حرف جزم ، معناه النفي ؛ ك «لم» ، وهو أبلغ من النفي ب «لم»
؛ لأنّها لا تنفي إلّا الزمان المتّصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين «لم» من
وجوه :
أحدها : أنه قد
يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذا دلّ عليه دليل.
وهو أحسن ما تخرّج
عليه قراءة «وإن كلّا لمّا» كقوله : [الوافر]
١٠٤٠ ـ فجئت قبورهم بدءا ولمّا
|
|
فناديت القبور
فلم تجبنه
|
أي : ولمّا أكن
بدءا ، أي : مبتدئا ؛ بخلاف «لم» فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة ؛ كقوله : [الكامل]
__________________
١٠٤١ ـ واحفظ وديعتك الّتي أودعتها
|
|
يوم الأعازب إن
وصلت وإن لم
|
ومنها : أنّها
لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و «لم» لنفيه مطلقا أو منقطعا على ما مرّ.
ومنها : أنّ «لمّا»
لا تدخل على فعل شرط ، ولا جزاء بخلاف «لم».
ومنها أنّ «لم» قد
تلغى بخلاف «لمّا» ، فإنها لم يأت فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء
الله تعالى في سورة «الحجرات» عند قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ) [الحجرات : ١٤].
واختلف في «لمّا»
فقيل : مركبة من لم و «ما» زيدت عليها.
وقال سيبويه :
بسيطة وليست «ما» زائدة ؛ لأنّ «لما» تقع في مواضع لا تقع فيها «لم» ؛ يقول الرجل
لصاحبه : أقدّم فلانا ، فيقول «لمّا» ، ولا يقال : «لم» مفردة.
قال المبرّد : إذا
قال القائل : لم يأتني زيد ، فهو نفي لقولك أتاك زيد ، وإذا قال : لمّا يأتني ،
فمعناه : أنّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقّعه ؛ قال النابغة : [الكامل]
١٠٤٢ ـ أرف التّرحّل غير أنّ ركابنا
|
|
لمّا تزل
برحالنا وكأن قد
|
وفي قوله «مثل
الّذين» حذف مضاف ، وحذف موصوف ، تقديره : ولمّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين
خلوا.
و «من قبلكم»
متعلّق ب «خلوا» وهو كالتأكيد ، فإنّ الصلة مفهومة من قوله : «خلوا».
فصل في سبب نزول (أَمْ حَسِبْتُمْ) الآية
قال ابن عبّاس ،
وعطاء : لمّا دخل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة اشتدّ عليهم الضرر ؛ لأنّهم خرجوا بلا مال ،
وتركوا ديارهم ، وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت
اليهود العداوة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأسرّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى ؛ تطييبا لطيوبهم :
(أَمْ حَسِبْتُمْ).
وقال قتادة
والسّديّ : نزلت في «غزوة الخندق» أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، والحزن ،
وشدّة الخوف ، والبرد ، وضيق العيش ، وأنواع الأذى ؛ كما قال تعالى :
__________________
(وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠]
وقيل : نزلت في «غزوة أحد» لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب النبي عليهالسلام إلى متى تقتلون أنفسكم ، وترجون الباطل ، ولو كان محمد
نبيا ، لمّا سلّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ) ، أي : المؤمنون أن تدخلوا الجنّة بمجرد الإيمان بي ،
وتصديق رسولي ، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبّدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ،
وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس ، ومقاساة
الأهوال في مجاهدة العدوّ ؛ كما كان ذلك فيما كان من قبلكم من المؤمنين ، والمثل
هو المثل ، وهو الشّبه ، إلّا أنّ المثل لحالة غريبة ، أو قصّة عجيبة لها شأن ؛
ومنه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] أي :
الصفة التي لها شأن عظيم.
قوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ) في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أن تكون
لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها تفسيرية ، أي : فسّرت المثل وشرحته ، كأنه قيل :
ما كان مثلهم؟ فقيل : مسّتهم البأساء.
والثاني : أن تكون
حالا على إضمار «قد» جوّز ذلك أبو البقاء ، وهي حال من فاعل «خلوا». وفي جعلها حالا بعد.
و «البأساء» : اسم
من البؤس بمعنى الشّدّة ، وهو البلاء والفقر.
و «الضّرّاء» :
الأمراض ، والآلام ، وضروب الخوف.
قال أبو العبّاس
المقريّ : ورد لفظ «الضّرّ» في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : الضّرّ :
الفقر ؛ كهذه الآية ، ومثله : (وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) [يونس : ١٢] ،
وقوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) [النحل : ٥٣] أي :
الفقر.
الثاني : الضّرّ :
القحط ؛ قال تعالى : (أَخَذْنا أَهْلَها
بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٩٤] ،
أي : قحطوا.
أو قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) [يونس : ٢١] أي :
قحط.
الثالث : الضّرّ :
المرض ؛ قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ) [يونس : ٢٠٧] أي :
بمرض.
__________________
الرابع : الضر :
الأهوال ؛ قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) [الإسراء : ٦٧].
قوله : «وزلزلوا»
أي : حرّكوا بأنواع البلايا والرّزايا.
قال الزّجّاج :
أصل الزّلزلة في اللغة من زلّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله : أنّك
كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه ؛ لأن ما فيه تكرير يكرّر فيه الفعل
نحو : صرّ وصرصر ، وصلّ وصلصل ؛ وكفّ وكفكف ، وفسر بعضهم «زلزلوا» أي : خوّفوا ؛
وذلك لأنّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه.
قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ) قرأ الجمهور : «يقول» نصبا ، وله وجهان :
أحدهما : أنّ «حتّى»
بمعنى «إلى» ، أي : إلى أن يقول ، فهو غاية لما تقدّم من المسّ والزلزال ، و «حتّى»
إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب : أنه على حكاية الحال ، [حكى تلك الحال].
والثاني : أنّ «حتّى»
بمعنى «كي» ، فتفيد العلّة كقوله : أطعت الله حتّى أدخلني الجنة ، وهذا ضعيف ؛
لأنّ قول الرسول والمؤمنين ليس علّة للمسّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبي
البقاء على ذلك ، فإنه قال : «بالرفع على أن يكون التقدير :
زلزلوا فقالوا ، فالزّلزلة سبب القول» ، و «أن» بعد «حتّى» مضمرة على كلا
التقديرين.
وقرأ نافع برفعه
على أنّه حال ، والحال لا ينصب بعد «حتّى» ولا غيرها ؛ لأنّ الناصب يخلّص
للاستقبال ؛ فتنافيا.
واعلم أنّ «حتّى»
إذا وقع بعدها فعل : فإمّا أن يكون حالا أو مستقبلا أو ماضيا ، فإن كان حالا ، رفع
؛ نحو : «مرض حتّى لا يرجونه» أي : في الحال. وإن كان مستقبلا نصب ، تقول : سرت
حتّى أدخل البلد ، وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضيا فتحكيه ، ثمّ حكايتك له : إمّا
أن تكون بحسب كونه مستقبلا ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإمّا أن يكون بحسب
كونه حالا ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة : حكاية
حال ، وفي قراءة نافع أيضا : حكاية حال.
قال شهاب الدّين :
إنّما نبّهت على ذلك ؛ لأنّ عبارة بعضهم تخصّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارة
آخرين تخصّها بقراءة نافع.
قال أبو البقاء في قراءة الجمهور : «والفعل هنا مستقبل ، حكيت به حالهم ،
والمعنى على المضيّ» وكان قد تقدّم أنه وجّه الرفع بأنّ «حتى» للتعليل.
قوله : «معه» هذا
الظرف يجوز أن يكون منصوبا بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا
__________________
القول وجامعوه فيه
، وأن يكون منصوبا بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإيمان.
قوله : (مَتى نَصْرُ اللهِ) «متى» منصوب على
الظرف ، فموضعه رفع ؛ خبرا مقدّما ، و «نصر» مبتدأ مؤخر.
وقال أبو البقاء : «وعلى قول الأخفش : موضعه نصب على الظرف ، و «نصر» مرفوع
به». و «متى» ظرف زمان لا يتصرّف إلا بجرّه بحرف. وهو مبنيّ ؛ لتضمّنه : إما لمعنى
همزة الاستفهام ، وإمّا معنى «من» الشرطية ، فإنه يكون اسم استفهام ، ويكون اسم
شرط فيجزم فعلين شرطا وجزاء.
قال القرطبي : «نصر الله» رفع بالابتداء على قول سيبويه ، وعلى قول أبي
العباس ؛ رفع بفعل ، أي : متى يقع نصر الله.
و «قريب» خبر «إنّ»
قال النّحّاس : ويجوز في غير القرآن «قريبا» أي : مكانا قريبا و «قريب»
لا تثنّيه العرب ، ولا تجمعه ، ولا تؤنّثه في هذا المعنى ؛ قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف : ٥٦] ؛
وقال الشّاعر : [الطويل]
١٠٤٣ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم
|
|
قريب ولا بسباسة
ابنة يشكرا
|
فإن قلت : فلان
قريب لي ثنيت وجمعت فقلت : قريبون ، وأقرباء ، وقرباء.
فصل
والظاهر أنّ جملة (مَتى نَصْرُ اللهِ) من قول المؤمنين ، وجملة (أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ) من قول الرسول ، فنسب القول إلى الجميع ؛ إجمالا ، ودلالة
الحال مبيّنة للتفصيل المذكور. وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديما
وتأخيرا ، والتقدير : حتّى يقول الذين آمنوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ فيقول الرسول «ألا إنّ» فقدّم الرسول ؛ لمكانته ، وقدّم
المؤمنون ؛ لتقدّمهم في الزمان. قالوا : لأنه أخبر عن الرسول ، والذين آمنوا
بكلامين :
أحدهما : أنهم
قالوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟
والثاني : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فوجب إسناد كلّ واحد من هذين الكلامين إلى ما يليق به من
ذينك المذكورين ، قال : الذين آمنوا قالوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ) والرسل قالوا : (أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ) قالوا : ولهذا نظير في القرآن والشّعر :
أمّا القرآن :
فقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ)
__________________
[القصص : ٧٣] ،
والمعنى ؛ لتسكنوا في اللّيل ، ولتبتغوا من فضله في النهار.
وأمّا الشعر :
فقول امرىء القيس : [الطويل]
١٠٤٤ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العنّاب والحشف البالي
|
فشبه العنّاب
بالرطب ، والحشف البالي باليابس.
قال ابن عطيّة : «هذا
تحكّم وحمل للكلام على غير وجهه».
وقيل : الجملتان
من قول الرسول والمؤمنين معا ، يعني أن الرسول قالهما معا ، وكذلك أتباعه. فإن قيل
: كيف يليق بالرسول القاطع بصحّة وعد الله ووعيده أن يقول مستبعدا : متى نصر الله؟
والجواب من وجوه :
أحدها : التأويل
المتقدّم.
والثاني : أن قول
الرسول (مَتى نَصْرُ اللهِ) ليس على سبيل الشّكّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر.
الثالث : أن كونه
رسولا لا يمنع من أن يتأذّى من كيد الأعداء ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٧] وقال
تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣]
وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] ،
وعلى هذا فإذا ضاق قلبه ، وقلّت حيلته ، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره ، إلّا أنه
لم يعيّن له الوقت ؛ قال عند ضيق قلبه : (مَتى نَصْرُ اللهِ) حتّى إنّه إذا علم قرب الوقت ، زال غمه وطاب قلبه ؛ ويؤيد
ذلك قوله في الجواب (إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ) فلما كان الجواب بذكر القرب ؛ دلّ على أنّ السؤال كان
واقعا عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنّه هل يوجد النصر ، أم لا؟ لما كان هذا
الجواب مطابقا لذلك السؤال ، هذا على قول من قال إن قوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) من كلام الله تعالى جوابا للرسول ، ومن قال إنه من كلام
المؤمنين. قال : إنّهم لما علموا أنّ الله تعالى لا يعلي عدوه عليهم ، قالوا : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ، فنحن على ثقة بوعدك.
وقيل : إنّ الجملة
الأولى من كلام [الرسول وأتباعه ، والجملة الأخيرة من كلام] الله تعالى ، على ما تقدم.
فالحاصل أنّ الجملتين في محلّ نصب بالقول.
__________________
فإن قيل : قوله : (إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) يوجب في حق كل من لحقه شدّة أن يعلم أنه سيظفر بزوالها ،
وذلك غير ثابت.
فالجواب : لا
يمتنع أن يكون هذا من خواصّ الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ وأيضا فإن كان عامّا في حق الكل إذ كلّ من كان في بلاء ،
فلا بدّ له من أحد أمرين :
إمّا أن يتخلص منه
أو يموت ، فإن مات ، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ، ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم
النصر ، وإنما جعله قريبا ؛ لأن الموت آت ؛ وكلّ آت قريب.
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ
ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)
قد تقدّم أنّ «ماذا»
له استعمالات ستّة عند قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦].
وهنا يجوز أن تكون «ماذا» بمنزلة اسم واحد ، بمعنى الاستفهام ؛ فتكون مفعولا
مقدّما ل «ينفقون» ؛ لأنّ العرب يقولون : «عماذا تسأل» بإثبات الألف ، وحذفوها من
قولهم : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وقوله
(فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) [النازعات : ٤٣]
فلما لم يحذفوا الألف من آخر «ما» ، علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحد ، ولم
يحذفوا الألف منه ، لمّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخرا ، إلّا أن
يكون في شعر ؛ كقوله : [الوافر]
١٠٤٥ ـ على ما قام يشتمني لئيم
|
|
كخنزير تمرّغ في
رماد
|
قال القرطبي : إن خفّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما «ينفقون»
ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ و «ذا» خبره ، وهو موصول. و «ينفقون» صلته ، والعائد
محذوف ، و «ماذا» معلّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدّم تحقيقه
في قوله : (سَلْ
بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) [البقرة : ٢١١].
قال القرطبي : متى كانت اسما مركبا ، فهي في موضع نصب إلّا ما جاء في
قول الشاعر: [الطويل]
١٠٤٦ ـ وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا
|
|
سوى أن يقولوا :
إنّني لك عاشق
|
__________________
فإنّ «عسى» لا
تعمل فيه ، ف «ماذا» في موضع رفع ، وهو مركّب ؛ إذ لا صلة ل «ذا».
وجاء «ينفقون»
بلفظ الغيبة ؛ لأنّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبة في «يسألونك» ، ويجوز في الكلام «ماذا
ننفق» كما يجوز : أقسم زيد ليضربنّ ولأضربنّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في قوله
تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤] في
المائدة إن شاء الله تعالى.
قوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) يجوز في «ما» وجهان :
أظهرهما : أن تكون
شرطيّة ؛ لتوافق ما بعدها ، ف «ما» في محلّ نصب ، مفعول مقدّم ، واجب التقديم ؛
لأنّ له صدر الكلام. و «أنفقتم» في محلّ جزم بالشرط ، و «من خير» تقدّم إعرابه في
قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].
وقوله : «فللوالدين»
جواب الشرط ، وهذا الجارّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلّق بمحذوف : إمّا مفرد ، وإمّا جملة
على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى. وتكون الجملة في محلّ جزم بجواب الشرط.
والثاني : أن تكون
«ما» موصولة ، و «أنفقتم» صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي
أنفقتموه. والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارّ والمجرور.
قال أبو البقاء في هذا الوجه : «ومن خير يكون حالا من العائد المحذوف».
فصل في سبب النزول
اعلم أنّه تعالى
لمّا بيّن الوجوب على كل مكلّف ، بأن يكون معرضا عن طلب العاجل مشتغلا بطلب الآجل
، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣].
قال عطاء ، عن ابن
عباس : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن لي دينارا ، فقال : أنفقه على نفسك ، قال : إنّ
لي آخر ، قال : أنفقه على أهلك ، فقال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على خادمك ، قال
: إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على والديك قال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على قرابتك
، قال : إنّ لي آخر قال : أنفقه في سبيل الله ، وهو أحسنها .
وروى الكلبيّ ، عن
ابن عباس أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل
__________________
يوم أحد ، وكان
شيخا كبيرا هرما ، وعنده مال عظيم ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت
الآية .
فإن قيل إنّ القوم
سألوا عما ينفقون كيف أجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّ في
الآية حذفا ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكلبيّ في
سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : «من خير» وعن المنفق
عليه بقوله : «فللوالدين» وما بعده.
ثانيها : أن يكون «ماذا»
سؤالا عن المصرف على حذف مضاف ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها : أن يكون
حذف من الأوّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وقد تقدّم شيء
من ذلك في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ) [البقرة : ١٧١].
رابعها : قال
الزمخشريّ : قد تضمّن قوله : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه ، وهو كلّ خير ؛ وبني الكلام على ما هو
أهمّ وهو بيان المصرف ؛ لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلّا أن تقع موقعها. قال : [الكامل]
١٠٤٧ ـ إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة
|
|
حتّى يصاب بها
طريق المصنع
|
خامسها : قال
القفّال : إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ «ما ننفق» إلّا أن المقصود السؤال عن
الكيفية ؛ لأنهم كانوا عالمين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا
معلوما عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيّن أنّ المراد بالسؤال إنّما هو طريق
المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقا للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ
لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) [البقرة : ٧٠ ، ٧١]
وإنّما كان هذا الجواب موافقا للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي
شأنها وصفتها كذا ، فقوله : «ما هي» لا يمكن حمله على طلب الماهيّة ؛ فتعين أن
يكون المراد منه طلب الصّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا هاهنا.
وسادسها : يحتمل
أنّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤال فاسد ، أي : أنفقوا ما أردتم
بشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال
الطبيب : كل في اليومين مرّتين ، ومعناه : كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط.
__________________
فصل
اعلم أنّه تعالى
رتّب الإنفاق ، فقدّم الوالدين ، لأنّهما كالمخرج للمكلّف من
__________________
العدم إلى الوجود
، وذلك لأنّ الله ـ تعالى ـ هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود ؛ قال تعالى
: (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣]
فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقّ الله ـ تعالى ـ من شيء أوجب من رعاية حقّ
الوالدين ؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين ؛ لأنّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من
غيره ؛ ولأنّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك
عار في حقّ قريبه الغنيّ.
__________________
ب ـ أنهما تسببا في إحياء الولد ،
فاستوجبا عليه الإحياء ؛ جزاء وفاقا.
فإن قيل : إنّه
تعالى ذكر «الوالدين» ثمّ عطف عليه «الأقربين» والعاطف يقتضي المغايرة ، وذلك يدلّ
على أن الوالدين لا يدخلون في مسمّى الأقربين ، فهو خلاف الإجماع ؛ لأنّه لو وقف
على «الأقربين» حمل فيه الوالدين بغير خلاف.
فالجواب : أنّ هذا
من عطف العامّ على الخاصّ ؛ كقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] فعطف
القرآن على السبع المثاني ، وهي من القرآن ، وقال ـ عليهالسلام ـ «أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي ...» فعطف «النّبيّين» على قوله : «أنا» وهو من النبيين ، وذلك
شائع في لسان العرب ، ثمّ ذكر بعدهم اليتامى ؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على
الاكتساب ، وليس لهم أحد يكتسب لهم ، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب ، والمكاسب ،
وأشرف على الضياع ، ثم ذكر بعدهم المساكين ؛ لأنّ حاجتهم أقلّ من حاجة اليتامى ؛
لأنّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم ؛ لأنه
بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يحتاج ، ويفتقر ، فهذا أصحّ تركيب ، وأحسن ترتيب في
كيفيّة الإنفاق ، ثم لمّا فصّل هذا التّفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالاجمال ، فقال
: (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) والعليم مبالغة في كونه عالما لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة
في الأرض ، ولا في السّماء.
و «ما» هذه شرطية
فقط ؛ لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليّ رضي الله عنه : «وما يفعلوا» بالياء على الغيبة ،
فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب ، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق
عليه ، أي : وما يفعل الناس.
فصل في المراد بالخير
قال أكثر العلماء
: المراد ب «الخير» هو المال ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ،
وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨].
وقيل : المراد
بالخير هذا الإنفاق ، وسائر وجوه البرّ ، والطاعة.
فصل هل الآية منسوخة أم لا؟
قال بعضهم : هذه
الآية منسوخة بآية المواريث.
وقال أهل التفسير
: إنها منسوخة بالزكاة.
__________________
قال بعضهم :
وكلاهما ضعيف ؛ لأنّه يمكن حمل الآية على وجوه لا يتطرق النّسخ إليها :
أحدها : قال أبو
مسلم الأصفهاني : الإنفاق على الوالدين ، واجب عند قصورهما عن الكسب والملك ،
والمراد ب «الأقربين» الولد ، وولد الولد ، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وعلى
هذا فلا وجه للقول بالنّسخ ؛ لأنّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة ، والميراث يصل
بعد الموت ، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة.
وثانيها : أن يكون
المراد من أحبّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة ، فالأولى أن ينفقه في هذه الجهات ،
فيكون المراد التطوع.
ثالثها : أن يكون
المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية ، وفيما يتصل
باليتامى والمساكين مما يكون زكاة.
ورابعها : يحتمل
أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثا على صلة الرّحم ، وفيما
يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من
غير نسخ.
قوله تعالى : (كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(٢١٦)
قرىء : «كتب عليكم القتال» : ببناء «كتب» للفاعل ؛ وهو ضمير
الله تعالى ، ونصب «القتال».
قال القرطبي :
وقرأ قوم : «كتب عليكم القتل» ؛ قال الشاعر : [الخفيف]
١٠٤٨ أ ـ كتب القتل والقتال علينا
|
|
وعلى الغانيات
جرّ الذّيول
|
قوله تعالى : (وَهُوَ كُرْهٌ) هذه واو الحال ، والجملة بعدها في محلّ نصب عليها ،
والظاهر أنّ «هو» عائد على القتال. وقيل : يعود على [المصدر] المفهوم من كتب ، أي
: وكتبه وفرضه. وقرأ الجمهور «كره» بضمّ الكاف ، وهو الكراهة بدليل قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنّ وضع
المصدر موضع الوصف سائغ كقول الخنساء : [البسيط]
١٠٤٨ ب ـ ..........
|
|
فإنّما هي إقبال
وادبار
|
__________________
والثاني : أن يكون
فعلا بمعنى مفعول ، كالخبر بمعنى المخبور وهو مكروه لكم.
وقرأ السّلميّ بفتحها. فقيل : هما بمعنى واحد ، أي : مصدران
كالضّعف والضّعف ، قاله الزّجاج وتبعه الزمخشري.
وقيل : المضموم
اسم مفعول ، والمفتوح المصدر.
وقيل : المفتوح
بمعنى الإكراه ، قاله الزمخشري في توجيه قراءة السّلميّ ، إلّا أنّ هذا من باب
مجيء المصدر على حذف الزوائد ، وهو لا ينقاس.
وقيل : المفتوح ما
أكره عليه المرء ، والمضموم ما كرهه هو.
فإن كان «الكره» ،
و «الكره» مصدرا ، فلا بدّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن «هو» ، وذلك التأويل :
إمّا على حذف مضاف ، أي : والقتال ذو كره ، أو على المبالغة ، أو على وقوعه موقع
اسم المفعول. وإن قلنا : إنّ «كرها» بالضّم اسم مفعول ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك.
و «لكم» في محلّ رفع ؛ لأنه صفة لكره ، فيتعلّق بمحذوف أي : كره كائن.
فصل في بيان الإذن في القتال
اعلم أنه ـ عليه
الصّلاة والسّلام ـ كان غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ،
__________________
فلمّا هاجر أذن له
في قتال من يقاتله من المشركين ، ثمّ أذن له في قتال المشركين عامّة ، ثم فرض الله
الجهاد.
واختلف العلماء في
حكم هذه الآية ، فقال عطاء : الجهاد تطوع والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك الوقت دون غيرهم ، وإليه ذهب الثّوريّ ، واحتجوا بقوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] ولو
كان القاعد تاركا للفرض ، لم يكن يعده الحسنى.
قالوا : وقوله : «كتب»
يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرّة واحدة.
وقوله : «عليكم»
يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت ، وإنما قلنا
إنّ قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة :١٨٣] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك ؛
بدليل منفصل ، وهو الإجماع ، وذلك غير معقول هاهنا ؛ فوجب أن يبقى على الأصل ،
ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى : (وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢]
والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض
الكفايات ، إلّا أن يدخل المشركون ديار المسلمين ؛ فيتعيّن الجهاد
حينئذ على الكلّ.
وقال آخرون : هو
فرض عين ؛ واحتجّوا بقوله : «كتب» وهو يقتضي الوجوب ، وقوله «عليكم» يقتضيه أيضا ،
والخطاب بالكاف في قوله «عليكم» لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد ؛
كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣].
وقال الجمهور : هو
فرض على الكفاية.
فإن قيل هذا
الخطاب للمؤمنين ، فكيف قال : (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، وهذا يشعر بكون
__________________
المؤمنين كارهين
لحكم الله ، وتكليفه ، وذلك غير جائز ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطا لأوامر الله
وتكليفه ، بل يرضى بذلك ، ويحبّه ، ويعلم أنه صلاحه ، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين
:
أحدهما : أن
المراد من «الكره» كونه شاقّا على النفس ، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما فيه كلفة
، ومشقة ، ومن المعلوم : أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها ، فلذلك كان
القتال من أشقّ الأشياء على النفس ، لأنّ فيه إخراج المال ، والجراحات ، وقطع
الأطراف ، وذهاب الأنفس ، وذلك أمر يشق على الأنفس.
والثاني : أن يكون
المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض ؛ لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبيّن
تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه ، لئلّا تكرهونه بعد أن فرض
عليكم.
قال عكرمة : نسخها قوله تعالى : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النساء : ٤٦]
يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه.
قوله (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) ، «عسى» فعل ماض ، نقل إلى إنشاء الترجّي والإشفاق ، وهو
يرفع الاسم وينصب الخبر ، ولا يكون خبرها إلا فعلا مضارعا مقرونا ب «أن» ، وقد
يجيء اسما صريحا ؛ كقوله [الرجز]
١٠٤٩ ـ أكثرت في العذل ملحّا دائما
|
|
لا تكثرن إنّي
عسيت صائما
|
وقالت الزّبّاء : «عسى
الغوير أبؤسا» وقد يتجرّد خبرها من «أن» ؛ كقوله : [الطويل]
١٠٥٠ ـ عسى فرج يأتي به الله إنّه
|
|
له كلّ يوم في
خليقته أمر
|
__________________
وقال آخر : [الوافر]
١٠٥١ ـ عسى الكرب الّذي أمسيت فيه
|
|
يكون وراءه فرج
قريب
|
وقال آخر : [الوافر]
١٠٥٢ ـ فأمّا كيّس فنجا ولكن
|
|
عسى يغترّ بي
حمق لئيم
|
وتكون تامّة ، إذا
أسندت إلى «أن» أو «أنّ» ؛ لأنهما يسدّان مسدّ اسمها وخبرها ، والأصحّ أنها فعل ،
لا حرف ، لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها.
قال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) [محمد : ٢٢]
ويرتفع الاسم بعده فقوله «عسى زيد» معناه : قرب ووزنها «فعل» بفتح العين ، ويجوز
كسر عينها ، إذا أسندت لضمير متكلم ، أو مخاطب أو نون إناث وهي قراءة نافع ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرّف بل تلزم المضيّ.
والفرق بين الإشفاق والترجّي بها في المعنى :
أنّ الترجّي في
المحبوبات ، والإشفاق في المكروهات.
و «عسى» من الله
تعالى واجبة ؛ لأنّ الترجّي والإشفاق محالان في حقّه. وقيل : كلّ «عسى» في القرآن
للتحقيق ، يعنون الوقوع ، إلّا قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥] وهي في هذه الآية ليست ناقصة ؛ فتحتاج إلى
خبر ، بل تامة ، لأنها أسندت إلى «أن» ، وقد تقدّم أنها تسدّ مسدّ الخبرين بعدها.
وزعم الحوفيّ أنّ : «أن تكرهوا» في محلّ نصب ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلّف بعيد.
قوله : (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في
محلّ نصب على الحال ، وإن كانت من النكرة بغير شرط من الشروط المعروفة قليلة.
والثاني : أن تكون
في محلّ نصب على أنها صفة ل «شيئا» وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة ؛
لأنّ صورتها صورة الحال ، فكما تدخل الواو عليها حالية ، تدخل عليها صفة ، قاله
أبو البقاء ومثل ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] فجعل «ولها
كتاب» صفة لقرية ، قال : وكان القياس ألّا تتوسّط هذه الواو بينهما ؛ كقوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء : ٢٠٨]
وإنما توسّطت ؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال : «جاءني زيد عليه
ثوب ، وعليه ثوب». وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا ،
__________________
والزمخشريّ هناك ،
هو رأي ابن جنّي ، وسائر النحاة يخالفونه.
فصل في بيان الخيرية في الغزو
قوله : (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين : إمّا الظفر والغنيمة ،
وإمّا الشهادة والجنة «وعسى أن تحبّوا شيئا» يعني القعود عن الغزو ، وهو شرّ لكم ؛
لما فيه من فوات الغنيمة ، والأجر ، ومخالفة أمر الله تعالى.
قال القرطبي : قيل «عسى» بمعنى «قد» وقال الأصمّ : و «عسى» من الله واجبة في جميع القرآن إلّا قوله تعالى :
(عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً) [التحريم : ٥].
وقال أبو عبيدة : عسى من الله إيجاب ، والمعنى : عسى أن تكرهوا ما في
الجهاد من المشقّة ؛ وهو خير لكم ، من أنّكم تغلبون ، وتظفرون وتغنمون ، وتؤجرون ،
ومن مات ، مات شهيدا. و «الشّرّ» هو السّوء أصله : من شررت الشيء إذا بسطته يقال :
شررت اللحم ، والثوب : إذا بسطته ، ليجف ؛ ومنه قوله : [الوافر]
١٠٥٣ ـ وحتّى أشرّت بالأكفّ المصاحف
والشّرر : هو
اللهب لانبساطه. فعلى هذا «الشرّ» انبساط الاشياء الضارة ، وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) فالمقصود الترغيب العظيم في الجهاد ، وكأنه تعالى قال يا
أيها العبد ، اعلم أنّ علمي أكمل من علمك ، فكن مشتغلا بطاعتي ، ولا تلتفت إلى
مقتضى طبعك ، فهي كقوله في جواب الملائكة : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠].
تمّ الجزء الثّالث ، ويليه الجزء الرّابع
وأوّله : «قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ...)»
__________________
فهرس محتويات
الجزء الثالث
من
تفسير اللباب
فهرس المحتويات
تتمة سورة البقرة
الآية : ١٤٢.................................................................... ٤
فصل في الكلام على
السفيه....................................................... ٤
فصل في الكلام على
التولّي........................................................ ٥
فصل في تحرير معنى
القبلة......................................................... ٦
فصل في بعض شبه اليهود
والنصارى................................................ ٦
فصل في استقبال الرسول
صلىاللهعليهوسلم
بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا؟............. ٨
فصل في اختلافهم حين
فرضت الصلاة أولا بمكة هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟. ٨
الآية : ١٤٣.................................................................... ٩
فصل في الاستدلال
بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى......................... ١٢
فصل في الاستدلال
بالآية على أن الإجماع حجّة................................... ١٢
فصل في الكلام على
قوله : لتكونوا............................................... ١٦
فصل في الكلام على
الشهادة.................................................... ١٧
فصل في الكلام على
الآية....................................................... ٢٠
فصل في اختلافهم بسبب
تعيين القبلة أو بسبب تحويلها؟............................ ٢٣
فصل في مناسبة اتّصال
هذه الآية بما قبلها......................................... ٢٦
فصل في الكلام على
الآية....................................................... ٢٨
فصل فيمن استدل بالآية
على أن الله تعالى لا يخلق الكفر........................... ٢٩
الآية : ١٤٤.................................................................. ٢٩
فصل في الكلام على
الآية....................................................... ٣١
فصل في اختلافهم في
صلاته إلى بيت المقدس...................................... ٣٣
فصل في نسخ التوجه إلى
بيت المقدس............................................. ٣٣
فصل في الكلام على
المسجد الحرام............................................... ٣٧
فصل في المراد بالمسجد
الحرام..................................................... ٣٧
فصل في الصلاة في
المسجد الحرام................................................. ٣٩
فصل في وجوب الاستقبال
في عموم الأمكنة....................................... ٤٢
فصل في كيفية معرفة
أهل الكتاب................................................ ٤٣
الآية : ١٤٥.................................................................. ٤٣
فصل في المراد بالآية............................................................. ٤٥
فصل في لفظ «آية»............................................................ ٤٥
فصل في سبب نزول هذه
الآية................................................... ٤٥
فصل في الهوى................................................................. ٤٧
الآيتان : ١٤٦ ، ١٤٧......................................................... ٥٠
فصل فيمن نزلت فيه
الآية....................................................... ٥٥
الآية : ١٤٨.................................................................. ٥٥
فصل في لفظ الوجه............................................................. ٥٦
فصل في المسابقة إلى
الصلاة..................................................... ٦٠
فصل في التغليس في
صلاة الفجر................................................. ٦٢
الآيتان : ١٤٩ ، ١٥٠......................................................... ٦٤
فصل في الكلام على
الآية....................................................... ٦٤
فصل في الكلام على هذه
الحجة................................................. ٦٩
الآية : ١٥١.................................................................. ٧١
الآية : ١٥٢.................................................................. ٧٥
فصل في ورود الذكر في
القرآن.................................................... ٧٥
الآية : ١٥٣.................................................................. ٧٧
فصل في أقسام الصبر
وذكر الاستعانة............................................. ٧٧
الآية : ١٥٤.................................................................. ٧٨
فصل في المراد بحياة
الشهداء...................................................... ٧٨
الآية : ١٥٥.................................................................. ٨١
فصل في أقسام ما
يلاقيه الإنسان من المكاره....................................... ٨٣
فصل في الفرق بين
الخوف والجوع والنّقص......................................... ٨٣
الآيتان : ١٥٦ ، ١٥٧......................................................... ٨٥
فصل في الكلام على
الآية «إنا لله».............................................. ٨٧
فصل في الكلام على
الآية «هم المهتدون»......................................... ٨٩
الآية : ١٥٨.................................................................. ٩٠
فصل في حد الصفا
والمروة....................................................... ٩٢
فصل في معنى «الشعائر»........................................................ ٩٣
فصل في الشعائر هل
تحمل على العبادات أو على موضع العبادات.................... ٩٣
فصل في ظاهر قوله : «لا
جناح عليه»............................................ ٩٩
الآية : ١٥٩................................................................. ١٠٢
فصل في تفسير «الكتمان».................................................... ١٠٤
فصل في المراد من «البيّنات»................................................... ١٠٥
فصل في حكم هذا «البيان»................................................... ١٠٦
فصل في الاحتجاج بقبول
خبر الواحد........................................... ١٠٦
فصل في معنى اللعنة ،
والمراد باللاعنين........................................... ١٠٧
الآية : ١٦٠................................................................. ١٠٩
فصل أنه تعالى بيّن
عظيم الوعيد................................................ ١٠٩
الآيتان : ١٦١ ، ١٦٢....................................................... ١١٠
فصل في بيان جواز لعن
من مات كافرا........................................... ١١٠
فصل في هل يجوز لعن
الكافر المعين............................................. ١١١
فصل في وصف العذاب....................................................... ١١٤
الآية : ١٦٣................................................................. ١١٥
فصل في وجوه وصفه
تعالى بأنه واحد............................................ ١١٥
فصل في سبب النّزول......................................................... ١١٧
الآية : ١٦٤................................................................. ١١٧
فصل في أصل الليل........................................................... ١١٩
فصل في عدد البحور.......................................................... ١٢٢
فصل في سبب تسمية
البحر بالبحر............................................. ١٢٣
فصل في الاستدلال
بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع...................... ١٢٣
فصل في بيان الحالة
المستثناة في ركوب البحر...................................... ١٢٤
فصل في أن إنزال الماء
من السماء آية دالّة على وجود الصانع....................... ١٢٤
فصل في دلالة إحياء
الأرض بعد موتها على وجود الصانع.......................... ١٢٥
فصل في أنّ حدوث
الدواب دليل على وجود الصانع.............................. ١٢٨
فصل في لحن من قال :
الأرياح................................................. ١٣٠
فصل في بيان تصريف
الرياح................................................... ١٣١
فصل في بيان دلالة
الآية على الوحدانية.......................................... ١٣٢
فصل في تفسير «السّحاب»................................................... ١٣٣
فصل في الاستدلال
بتسخير السحاب على وحدانية الله............................ ١٣٣
الآية : ١٦٥................................................................. ١٣٤
فصل في اختلافهم في
المراد بالأنداد............................................. ١٣٥
فصل في المراد من قوله
كحب الله............................................... ١٣٨
فصل في معنى قوله أشد
حبّا لله................................................. ١٣٨
الآيتان : ١٦٦ ، ١٦٧....................................................... ١٤٣
فصل في المراد ب «الأسباب».................................................. ١٤٥
فصل في معنى التبرؤ........................................................... ١٤٨
فصل في المراد ب أعمال»
في الآية.............................................. ١٤٩
الآيتان : ١٦٨ ، ١٦٩....................................................... ١٥٠
فصل في بيان أن
الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح.................................... ١٥٦
الآية : ١٧٠................................................................. ١٥٦
فصل في بيان معنى
التقليد».................................................... ١٥٩
فصل في المراد بالآية........................................................... ١٥٩
فصل في تقرير هذا
الجواب..................................................... ١٦٠
فصل في بيان ما يستثنى
من التّقليد.............................................. ١٦٢
فصل في وجوب التّقليد
على العامّي............................................. ١٦٢
الآية : ١٧١................................................................. ١٦٢
فصل في المراد ب «ما
لا يسمع»............................................... ١٦٤
الآية : ١٧٢................................................................. ١٦٨
فصل في بيان حقيقة
الرّزق..................................................... ١٦٨
فصل في الوجوه التي
وردت عليها كلمة «الطّيّب» في القرآن......................... ١٦٨
فصل في المراد من
الآية........................................................ ١٦٩
الآية : ١٧٣................................................................. ١٧٠
فصل في أن الشيء
المعلق ب «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء........... ١٧٠
فصل في بيان أن الآية
عامّة مخصّصة بالسّنّة...................................... ١٧١
فصل في بيان حكم وقوع
الطائر ونحوه في القدر................................... ١٧٢
فصل في بيان حكم الدّم....................................................... ١٧٢
فصل في بيان تحريم
الخنزير...................................................... ١٧٢
فصل في اختلافهم في
اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال................................ ١٧٤
فصل في بيان مذاهب
الفقهاء في الدباغ.......................................... ١٧٥
فصل في اختلافهم في
حرمة الدّماء غير المسفوحة.................................. ١٧٥
فصل في شراء الخنزير ،
وأكل خنزير الماء......................................... ١٧٦
فصل في الكلام على
الآية «ما أهل به لغير الله».................................. ١٧٦
فصل في اختلافهم في
معنى قوله «غير باغ ولا عاد»............................... ١٧٩
فصل في معنى المضطر......................................................... ١٨٠
فصل في اختلافهم في
اختيار المضطرّين المحرّمات................................... ١٨٣
الآية : ١٧٤................................................................. ١٨٣
فصل في حقيقة الكتمان....................................................... ١٨٤
فصل في أكلهم النّار
في الدنيا أم في الآخرة....................................... ١٨٤
الآيتان : ١٧٥ ، ١٧٦....................................................... ١٨٧
فصل في اختلافهم في
الإشارة ب «ذلك»....................................... ١٨٩
فصل في المراد
باختلافهم....................................................... ١٩٠
الآية : ١٧٧................................................................. ١٩١
فصل في الاختلاف في
أصل ليس............................................... ١٩٢
فصل في اختلافهم في
عموم هذا الخطاب وخصوصه............................... ١٩٣
فصل في المشار إليه
بالضمير................................................... ١٩٣
فصل فيما اعتبر الله
تعالى في تحقيق البرّ.......................................... ١٩٧
فصل في معنى الإيتاء.......................................................... ٢٠٥
فصل في الوجوه
الإعرابية لقوله «ذوي».......................................... ٢٠٧
فصل في المراد ب «ذوي
القربى»................................................ ٢٠٨
فصل في جعل الآية في
غير الزكاة................................................ ٢٠٩
فصل في معنى قوله «بعهدهم»................................................. ٢١٠
فصل في بلاغة قوله «والموفون»
دون «وأوفى».................................... ٢١٢
فصل في الأحكام
المستفادة من الآية............................................. ٢١٣
الآية : ١٧٨................................................................. ٢١٤
فصل في بيان سبب
النزول..................................................... ٢١٤
فصل في اشتقاق كلمة «القصاص»............................................. ٢١٥
فصل في المراد بقوله
كتب «عليكم»............................................. ٢١٦
فصل في اختلافهم في
اقتضاء الآية الحصر........................................ ٢١٨
فصل في وجوب العهد أحد
أمرين : إما القصاص وإما الدية........................ ٢٢١
فصل في أن تقدير الآية
يقتضي شيئا من العفو.................................... ٢٢٣
فصل في دلالة الآية
على كون الفاسق مؤمنا...................................... ٢٢٤
الآية : ١٧٩................................................................. ٢٢٨
فصل في معنى كون
القصاص حياة.............................................. ٢٢٨
فصل في الردّ على
احتجاج المعتزلة بالآية......................................... ٢٢٩
فصل في كون الآية في
أعلى درجات البلاغة...................................... ٢٢٩
الآية : ١٨٠................................................................. ٢٣١
فصل في المراد من حضور
الموت................................................. ٢٣٣
فصل في المراد بالخير
في الآية.................................................... ٢٣٤
فصل في تحرير معنى «الوصيّة».................................................. ٢٣٥
فصل في سبب كون الوصية
للوالدين والأقربين.................................... ٢٣٦
فصل في المراد
بالمعروف» في الآية............................................... ٢٣٧
فصل في اختلافهم في
تغيير المدبر وصيته......................................... ٢٣٩
فصل في اختلافهم في
قول الرجل لعبده : «أنت حرّ بعد موتي»..................... ٢٣٩
فصل في اختلافهم في
رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي.................. ٢٤٠
فصل في الحجر على
المريض في ماله............................................. ٢٤٠
فصل في توقّف الوصيّة
على إجازة الورثة......................................... ٢٤٠
فصل في وجوب الوصية........................................................ ٢٤٠
فصل في حقّ من نسخت
الآية»................................................ ٢٤٣
الآية : ١٨١................................................................. ٢٤٣
فصل في بيان المبدّل........................................................... ٢٤٤
فصل في تبديل الوصيّة
بما لا يجوز............................................... ٢٤٤
الآية : ١٨٢................................................................. ٢٤٥
فصل في سوء الخاتمة
بالمضارة في الوصيّة.......................................... ٢٤٧
فصل في بيان المراد من
المصلح.................................................. ٢٤٧
فصل في أفضلية الصدقة
حال الصحة........................................... ٢٤٩
فصل في من لم يضر في
وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته........................ ٢٤٩
الآية : ١٨٣................................................................. ٢٥٠
فصل في المراد
بالتشبيه في الآية................................................. ٢٥٢
الآية : ١٨٤................................................................. ٢٥٤
فصل في اختلافهم في
المراد بالأيّام............................................... ٢٥٥
فصل في أول ما نسخ بعد
الهجرة................................................ ٢٥٧
فصل في المراد بقوله «معدودات»............................................... ٢٥٧
فصل في المرض المبيح
للفطر.................................................... ٢٥٨
فصل في أصل السّفر
واشتقاقه.................................................. ٢٥٩
فصل في السفر المبيح
للقصر والفطر............................................. ٢٦٠
فصل في قدر السّفر
المبيح للرّخص.............................................. ٢٦٠
فصل في أنه يجب على
المريض والمسافر أن يفطرا أو يصوما عدة أيام أخر............. ٢٦٥
فصل في هل صوم المسافر
أفضل أم فطره......................................... ٢٦٧
فصل في حكم ما إذا
أفطر كيف يقضي؟........................................ ٢٦٧
فصل في نسخ الآية........................................................... ٢٧٠
فصل في المراد بالفدية
ومقدارها................................................. ٢٧١
فصل في احتجاج الجبائي
بالآية................................................. ٢٧١
الآية : ١٨٥................................................................. ٢٧٣
فصل في تسمية شهر
رمضان................................................... ٢٧٦
فصل في التنزيل في شهر
رمضان................................................ ٢٨٠
فصل في بناء القولين
على مخالفة الظاهر......................................... ٢٨٤
فصل «فمن شهد منكم
الشهر فليصمه»........................................ ٢٨٤
فصل في وجوب الصوم لمن
شهد الشهر.......................................... ٢٨٥
فصل في كيفية شهود
الشّهر.................................................... ٢٨٥
فصل في حدّ الصوم........................................................... ٢٨٦
فصل في دحض شبهة
للمعتزلة................................................. ٢٨٨
فصل في دحض شبهة أخرى
للمعتزلة............................................ ٢٨٨
فصل في المراد
بالتكبير في الآية.................................................. ٢٩١
الآية : ١٨٦................................................................. ٢٩٢
فصل في بيان سبب النزول..................................................... ٢٩٣
فصل في المراد من
الآية........................................................ ٢٩٤
فصل في بيان حقيقة
الدّعاء.................................................... ٢٩٥
فصل في الجواب على من
ادّعى أن لا فائدة في الدّعاء............................. ٢٩٦
فصل في استجابة الدعاء....................................................... ٣٠٠
الآية : ١٨٧................................................................. ٣٠٢
فصل في بيان سبب
النزول..................................................... ٣٠٤
فصل في وجوه تشبيه
الزوجين باللّباس............................................ ٣٠٨
فصل في معنى «تختانون
أنفسكم».............................................. ٣٠٩
فصل في دلالة الآية
على أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة....................... ٣١١
فصل في قوله تعالى : «وابتغوا
ما كتب الله لكم».................................. ٣١١
فصل في معاني «كتب»....................................................... ٣١٢
فصل في المفطرات............................................................. ٣١٤
فصل في صوم الجنب.......................................................... ٣١٥
فصل في حقيقة الليل.......................................................... ٣١٥
فصل في اختلافهم في
ماهيّة اللّيل............................................... ٣١٦
فصل في أن صوم النفل
يجب إتمامه.............................................. ٣١٦
فصل في حكم تحريم
المباشرة في الصيام........................................... ٣١٩
فصل في لمس المعتكف
المرأة بغير شهوة........................................... ٣١٩
فصل في أن شرط
الاعتكاف الجلوس في المسجد.................................. ٣١٩
فصل في الاعتكاف بدون
الصوم............................................... ٣١٩
فصل في أقل مدة
الاعتكاف................................................... ٣٢٠
فصل إذا أتى المعتكف
كبيرة ، بطل اعتكافه...................................... ٣٢٠
الآية : ١٨٨................................................................. ٣٢٢
فصل في سبب نزول الآية...................................................... ٣٢٢
فصل فيما يحل ويحرم من
الأموال................................................ ٣٢٣
فصل في سبب تسمية
الرشوة بالإدلاء........................................... ٣٢٦
فصل في الفسق بأخذ ما
يطلق عليه اسم مال..................................... ٣٢٩
الآية : ١٨٩................................................................. ٣٣٠
فصل في اختلافهم في
السائل عن الأهلّة......................................... ٣٣١
فصل في تخصيص المواقيت
بالهلال دون الشمس.................................. ٣٣٣
فصل أن الله سبحانه
ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلة............................. ٣٣٤
فصل في الرد على أهل
الظّاهر.................................................. ٣٣٥
فصل في سبب نزول الآية...................................................... ٣٣٦
فصل في اختلافهم في
تفسير الآية............................................... ٣٣٨
الآيات : ١٩٠ ـ ١٩٣........................................................ ٣٣٩
فصل في سياق الآيات......................................................... ٣٤٠
فصل في اختلافهم في
المراد من قوله «الذين يقاتلونكم»............................ ٣٤١
فصل فيما قيل في النسخ
بهذه الآية.............................................. ٣٤٢
فصل في شرط كيفية
قتالهم..................................................... ٣٤٥
فصل في اختلافهم في
متعلّق الانتهاء............................................. ٣٤٥
فصل في دلالة الآية
على قبول التّوبة من كلّ ذنب................................ ٣٤٥
فصل في المراد بالفتنة.......................................................... ٣٤٦
فصل في معاني الفتنة
في القرآن.................................................. ٣٤٧
الآية : ١٩٤................................................................. ٣٤٨
فصل في بيان سبب
النّزول..................................................... ٣٤٨
فصل في اختلافهم في
تسمية المكافأة عدوانا...................................... ٣٥٠
الآية : ١٩٥................................................................. ٣٥١
فصل في اختلافهم في
تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة........................... ٣٥٤
الآية : ١٩٦................................................................. ٣٥٧
فصل في اختلافهم في
وجوب العمرة............................................. ٣٥٩
فصل في أداء الحج
والعمرة..................................................... ٣٦٣
فصل في العدوّ الحاصر......................................................... ٣٦٨
فصل في الإحصار............................................................ ٣٦٩
فصل في قضاء المحصر......................................................... ٣٦٩
فصل : إذا عدم المحصر
الهدي ، هل ينتقل إلى البدل؟............................. ٣٧٠
فصل في اختلافهم في
العمرة.................................................... ٣٧١
فصل في وجوب نية
التّحلل عند الذّبح........................................... ٣٧١
فصل : لا يجوز إراقة
دم الإحصار إلا في الحرم.................................... ٣٧١
فصل في سبب نزول الآية...................................................... ٣٧٥
فصل في اختلافهم في
الفدية................................................... ٣٧٦
فصل في أن الآية مختصة
بالحصر................................................ ٣٧٦
فصل في حلق الرأس عمدا
من غير عذر.......................................... ٣٧٦
فصل في التمتع بالعمرة
إلى الحج................................................ ٣٧٧
فصل في شروط وجوب دم
التّمتّع............................................... ٣٧٨
فصل في أوجه التمتع
بالعمرة إلى الحج........................................... ٣٧٩
فصل في دم التمتع دم
جبران................................................... ٣٨٠
فصل في تمنع المجزي
فيها جذعة من الضأن....................................... ٣٨١
فصل في اختلافهم فيمن
اعتمر في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم رجع في عامه.... ٣٨٢
فصل في اختلافهم في
المراد من الرجوع........................................... ٣٨٣
فصل في ما يلزم
المتمتع من الهدي وبدله.......................................... ٣٨٦
فصل في اختلافهم في
حاضري المسجد الحرام..................................... ٣٨٨
فصل في دم القران كدم
التمتع.................................................. ٣٨٩
الآية : ١٩٧................................................................. ٣٩٠
فصل في اختلافهم في
أشهر الحج............................................... ٣٩٠
فصل في قولهم : لا
يجوز أن يهل بالحج قبل أشهر الحج............................ ٣٩٢
فصل في قوله : «معلومات»................................................... ٣٩٢
فصل في قوله : «فمن
فرض فيهن الحج»........................................ ٣٩٥
فصل في أن الفسق هو
الخروج عن الطاعة........................................ ٤٠١
فصل فيمن عاب
الاستدلال والبحث والنظر..................................... ٤٠٥
فصل في أن الله سبحانه
وتعالى يعلم كل شيء.................................... ٤٠٦
فصل في أن الله يجازيكم
على أعمالكم.......................................... ٤٠٦
الآية : ١٩٨................................................................. ٤٠٩
فصل في شبهة تحريم
التجارة في الحج............................................. ٤١٠
فصل في إباحة وعدم
إباحة التجارة في الحج...................................... ٤١٢
فصل في يوم التروية........................................................... ٤١٧
فصل في فضل هذين
اليومين................................................... ٤١٨
فصل في «ترتيب أعمال
الحج»................................................. ٤١٩
فصل بالتعريف في
المساجد يوم عرفة............................................. ٤٢١
فصل في تسمية المزدلفة........................................................ ٤٢١
فصل في أن أهل
الجاهلية كانوا قد غيّروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم............... ٤٢٢
فصل في وجوب ذكر الله
عند المشعر الحرام....................................... ٤٢٣
فصل في قوله : «فاذكروا
الله عند المشعر الحرام».................................. ٤٢٣
فصل في اختلافهم في
الذّكر المأمور به عند المشعر الحرام............................ ٤٢٤
فصل في الهداية............................................................... ٤٢٦
الآية : ١٩٩................................................................. ٤٢٧
فصل في المراد
بالإفاضة........................................................ ٤٢٨
فصل في اختلاف العلماء
في هذه المغفرة الموعودة.................................. ٤٣٠
الآيات : ٢٠٠ ـ ٢٠٢........................................................ ٤٣١
فصل في المبالغة في
الثناء على الآباء وذكر مناقبهم................................. ٤٣٣
فصل في أن مناسك الحج
أولا ثم الذّكر ثم الدعاء.................................. ٤٣٦
فصل في اختلافهم في
الذين يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا................... ٤٣٧
فصل ذكر المفسرون في
الحسنيين وجوها.......................................... ٤٣٨
فصل في منشأ البحث في
الآية الكريمة........................................... ٤٤٠
فصل في أن الله هو
المحاسب.................................................... ٤٤٣
الآيات : ٢٠٣ ـ ٢٠٦........................................................ ٤٤٤
فصل في عدم ذكر الرمي....................................................... ٤٤٥
فصل في حقيقة الأيام
المعدودات................................................ ٤٤٥
فصل في أن المراد
بالذكر في هذه الأيام ، التكبير عند رمي الجمرات وأدبار الصلوات... ٤٤٦
فصل في المبيت بمنى
ليالي منى واجب............................................ ٤٥١
فصل في إذا ترك الرمي
فذكره بعدما صدر وهو بمكة بعد ما خرج منها ، فعليه الهدي... ٤٥١
فصل في وجوه التقوى.......................................................... ٤٥٢
فصل في بيان عموم هذه
الآية.................................................. ٤٥٦
فصل في اختلافهم في
الموصوف بالصفات المذكورة في الآية......................... ٤٥٨
فصل في ما أثر عن
السلف في بيان «ألد الخصام»................................ ٤٥٨
فصل في بيان أمر
الاحتياط في الدّين............................................ ٤٥٩
فصل في المراد ب «التولي»..................................................... ٤٦٢
فصل في بيان فساد قول
المعتزلة في معنى المحبة..................................... ٤٦٣
فصل في أن الله تعالى
حكى عن هذا المنافق أفعالا مذمومة.......................... ٤٦٥
الآية : ٢٠٧................................................................. ٤٦٧
فصل في أن المراد من
هذا الشراء البيع........................................... ٤٧٢
فصل في أنه يدخل تحت
هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين............ ٤٧٢
الآيتان : ٢٠٨ ، ٢٠٩....................................................... ٤٧٢
فصل في أن الله سبحانه
وتعالى قسم الناس....................................... ٤٧٦
فصل في قوله : «من بعد
ما جاءتكم البينات»................................... ٤٧٩
الآية : ٢١٠................................................................. ٤٨٠
فصل في تفسير «الظلل»...................................................... ٤٨٤
الآية : ٢١١................................................................. ٤٨٨
فصل في المقصود بالآية........................................................ ٤٩١
فصل في ماهية النعمة......................................................... ٤٩٢
الآية : ٢١٢................................................................. ٤٩٣
فصل فيمن نزلت هذه
الآية.................................................... ٤٩٤
فصل في أن المزيّن هم
غواة الجن والإنس.......................................... ٤٩٥
فصل في المراد بهذه
الآية....................................................... ٤٩٩
الآية : ٢١٣................................................................. ٥٠٠
فصل في معاني كلمة «أمة».................................................... ٥٠١
فصل في المراد بالأمة
، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟......................... ٥٠١
فصل في بيان لفظة «كان».................................................... ٥٠٤
فصل في معنى اختلافهم....................................................... ٥٠٦
فصل في قوله : «من بعد
ما جاءتهم البينات».................................... ٥٠٨
فصل فيما اختلف فيه
أهل الكتاب وهدانا الله إليه................................ ٥٠٩
فصل في احتجاج بعضهم
بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه.................... ٥٠٩
فصل في احتجاج الفقهاء
بهذه الآية............................................. ٥١٠
الآية : ٢١٤................................................................. ٥١٠
فصل في سبب نزول «أم
حسبتم» الآية......................................... ٥١٢
فصل في متى نصر الله؟........................................................ ٥١٥
الآية : ٢١٥................................................................. ٥١٧
فصل في سبب النزول......................................................... ٥١٨
فصل في أن الله تعالى
رتّب الإنفاق ، فقدم الوالدين................................ ٥٢٠
فصل في المراد بالخير........................................................... ٥٢٢
فصل هل الآية منسوخة
أم لا؟................................................. ٥٢٢
الآية : ٢١٦................................................................. ٥٢٣
فصل في بيان الإذن في
القتال.................................................. ٥٢٤
فصل في بيان الخيرية
في الغزو................................................... ٥٢٨
|