بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠)

[اعلم] أنه لما أقام دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد أولا ، ثم عقبها بذكر الإنعامات العامّة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليهود استمالة لقلوبهم ، وتنبيها على ما يدلّ على نبوة «محمد عليه الصّلاة والسّلام» من حيث كونها إخبارا عن الغيب ، موافقا لما كان موجودا في التّوراة والإنجيل من غير تعلّم ، ولا تتلمذ.

قوله : (يا بَنِي) منادى منصوب وعلامة نصبه الياء ؛ لأنه جمع مذكّر سالم ، وحذفت نونه للإضافة ، وهو شبيه بجمع التّكسير لتغير مفرده ، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير ، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث ، نحو : «قالت بنو فلان» ، وقال الشاعر : [البسيط]

٤٢٤ ـ قالت بنو عامر خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (١)

وأعربوه بالحركات أيضا إلحاقا له به ، قال الشاعر : [الوافر]

٤٢٥ ـ وكان لنا أبو حسن عليّ

أبا برّا ونحن له بنين (٢)

[فقد روي بنين](٣) برفع النون ، وهل لامه ياء ؛ لأنه مشتقّ من البناء ؛ لأن الابن من فرع الأب ، ومبنيّ عليه ، أو واو ؛ لقولهم : البنوّة كالأبوّة والأخوّة ؛ قولان.

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه : ص ٨٢ ، والإنصاف : ١ / ٣٣٠ ، وتذكرة النحاة : ص ٦٦٥ ، وخزانة الأدب : ٢ / ١٣٠ ـ ١٣٢ ، ١١ / ٣٣ ، ٣٥ ، والدرر : ٣ / ١٩ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٣٣٢ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٤٥٨ ، والشعر والشعراء : ١ / ١٠١ ، والكتاب : ٢ / ٢٧٨ ، ولسان العرب (خلا) ، وجواهر الأدب : ص ١١٥ ، ٢٢٨ ، والخصائص : ٣ / ١٠٦ ، ورصف المباني : ص ١٦٨ ، ٢٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٤٨٣ ، وشرح المفصل : ٣ / ٦٨ ، ٥ / ١٠٤ ، واللامات : ص ١٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٧٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٢.

(٢) البيت لأحد أولاد علي بن أبي طالب ينظر شرح التصريح : ١ / ٧٧ ، والمقاصد النحوية : ١ / ١٥٦ ، ولسعيد بن قيس الهمداني ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٨ ، أوضح المسالك : ١ / ٥٥ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٦٠ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٢.

(٣) سقط في أ.


الصّحيح الأول ، وأما البنّوة فلا دلالة فيها ؛ لأنهم قد قالوا : الفتوّة ولا خلاف أنها من ذوات «الياء».

إلا أن «الأخفش» رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر.

واختلف في وزنه فقيل : «بني» بفتح العين ، وقيل : بني ـ بسكونها ، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوصل.

و «إسرائيل» خفض بالإضافة ، ولا ينصرف للعلمية والعجمة ، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل : «عبد الله» فإن «إسرا» هو العبد بلغتهم ، و «إيل» هو الله تعالى. وقيل : «إسرا» هو مشتقّ من الأسر ، وهو القوّة ، فكان معناه الذي قوّاه الله.

وقيل «إسرا» (١) هو صفوة الله ، و «إيل» هو الله.

وقال القفّال : قيل : إن «إسرا» بالعبرانية في معنى إنسان ، فكأنه قيل : رجل الله ، فكأنه خطاب مع اليهود الذين كانوا بالمدينة.

وقيل : إنه أسرى بالليل مهاجرا إلى الله.

وقيل : لأنه أسر جنّيّا كان يطفىء سراج بيت المقدس.

قال بعضهم : فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّا ، وبعضه أعجميّا ، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن ، وهي قراءة الجمهور.

وقرأ (٢) «أبو جعفر والأعمش» : «إسرايل» بياء بعد الألف من غير همزة ، وروي عن «ورش» «إسرائل» بهمزة بعد الألف دون ياء ، و «إسرأل» بهمزة مفتوحة ، و «إسرئل» بهمزة مكسورة بين الراء واللام ، و «إسرال» بألف محضة بين الراء واللام (٣) ؛ قال : [الخفيف]

٤٢٦ ـ لا أرى من يعينني في حياتي

غير نفسي إلّا بني إسرال (٤)

وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع. و «إسرائيل» هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ ، عن ورش ، و «إسرايل» من غير همز ولا مدّ و «إسرائين» أبدلوا من اللام نونا ك «أصيلان» في «أصيلال» ؛ قال : [الرجز]

__________________

(١) في أ : ليس.

(٢) ورويت عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٥ ، وجعل أبو حيان قراءة أبي جعفر بياءين بعد الألف ، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر.

وانظر إتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٢ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٦.

(٣) ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وهي إحدى اللغات في كلمة «إسرائيل» ، انظر المحتسب لابن جني : ١ / ٧٩ ـ ٨٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٦.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت ينظر ديوانه : (٥١) ، البحر : (١ / ٣٢٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٣).


٤٢٧ ـ يقول أهل السّوء لمّا جينا

هذا وربّ البيت إسرائينا (١)

وقال آخر : [الرجز]

٤٢٨ ـ قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا (٢)

ويجمع على «أساريل». وأجاز الكوفيون «أسارلة» ، و «أسارل» ، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه ، نحو : «فرازنة» و «فرازين».

قال الصّفار (٣) : لا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله.

قال ابن الجوزي (٤) : ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّ له أسماء كثيرة.

وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ غير مشتقّ ، وقد سمّاه الله ـ تعالى ـ روحا وكلمة ، وكانوا يسمونه «أبيل الأبيلين» ، ذكره «الجوهري».

وذكر «البيهقي» في «دلائل النبوة» عن «الخليل بن أحمد» : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين ، نبينا محمد وأحمد ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النّون ، وإلياس وذو الكفل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قول : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ).

«اذكروا» فعل وفاعل ، و «نعمتي» مفعول.

وقال «ابن الأنباري» : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره : شكر نعمتي.

__________________

(١) ينظر البحر : (١ / ٣٢٦) ، روح المعاني : (١ / ٢٤٢).

(٢) تقدم برقم (١٧٨).

(٣) القاسم بن عليّ بن محمد بن سليمان الأنصاري البطليوسي الشهير بالصّفار شرح كتاب سيبويه مات بعد الثلاثين وستمائة. ينظر بغية الوعاة : ٢ / ٢٥٦.

(٤) عبد الرحمن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن عبيد الله بن عبد الله البكري من ولد الإمام أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الإمام أبو الفرج ابن الجوزي.

البغدادي الحنبلي الواعظ ، صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم من التفسير ، والحديث ، والفقه ، والوعظ ، والزهد ، والتاريخ ، وغير ذلك.

قال الذهبيّ : كان مبرزا في التفسير ، وفي الوعظ ، وفي التاريخ ، ومتوسطا في المذهب ، وفي الحديث ، له اطلاع تام على متونه ، وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فما له فيه ذوق المحدثين ، ولا نقد الحفاظ المبرزين.

تصانيفه كثيرة منها تفسيره المشهور بزاد المسير ، وله جامع المسانيد وله كتاب المنتظم. ينظر البداية والنهاية : ١٣ / ٢٨ وردت ترجمته في البداية والنهاية : ١٣ / ٢٨ ، وتذكرة الحفاظ : ٤ / ١٣٣٢ ، وشذرات الذهب : ٤ / ٣٢٩ ، وطبقات الحفاظ : ٤٧٧ ، وطبقات القراء لابن الجزري : ١ / ٣٧٥ ، وطبقات المفسرين للداودي : ١ / ٢٧٠ ، والعبر : ٤ / ٢٩٧ ، وطبقات المفسرين للسيوطي ص ٥٠.


و «الذكر» ـ بضم الذال وكسرها ـ بمعنى واحد ، ويكونان باللّسان والجنان.

وقال «الكسائي» : هو ـ بالكسر ـ للسان ، وبالضّم للقلب فضدّ المكسور : الصّمت ، وضد المضموم : النّسيان ، وبالجملة فالذكر الذي محلّه القلب ضدّه النسيان ، والذي محلّه اللسان ضده الصّمت ، سواء قيل : إنهما بمعنى واحد أم لا.

و «الذّكر» ـ بالفتح ـ خلاف الأنثى ، و «الذّكر» ـ أيضا ـ الشرف ومنه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

فصل في النعمة

النعمة اسم لما ينعم به ، وهي شبيهة ب «فعل» بمعنى «مفعول» نحو : ذبح ورعي ، والمراد الجمع ؛ لأنها اسم جنس ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨].

قال «أبو العباس المقرىء» : «النّعمة» ـ بالكسر ـ هي الإسلام ، قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران : ١٠٣].

وقال : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات : ٨] يعني : الإسلام.

وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) [النمل : ١٩].

وقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٧١] أي : الإسلام.

فصل في حد النعمة

قال ابن الخطيب (١) : حدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير.

وقيل : الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا : وإنما زدنا هذا ؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر ، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر.

قال : والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ، وإن كان فعله محظورا ؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذّم والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته ، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟

واعلم أن نعم الله على العبد لا تتناهى ، ولا تحصى كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٠].

فإن قيل : فإذا كانت النعم غير متناهية ، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد ، فكيف أمر بتذكرها في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ)؟

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٨.


والجواب : أنها غير متناهية بحسب الأشخاص والأنواع ، إلّا أنها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصّانع الحكيم.

فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا

اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟

فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة ، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيلا إلى الضرر العظيم ، ولهذا قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨].

ومنهم من قال : إنه ـ تعالى ـ وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدّين ، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه‌الله](١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه :

أحدها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] الآيات فأمر الكلّ بطاعته لمكان هذه النعم ، وهي نعمة الخلق والرزق.

وثانيها : قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) [البقرة : ٢٨] وذكره في معرض الامتنان ، وشرح النعم ، ولو لم يصل إليهم من الله ـ تعالى ـ شيء من النعم لما صحّ ذلك.

وثالثها : قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهذا نصّ صريح ؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب ، وكانوا من الكفار ، وكذا قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٤٧] إلى قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩].

ورابعها : قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) [الأنعام : ٦].

وخامسها : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣] إلى قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٦٤].

وسادسها : قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف : ١٠] وقال في قصة «إبليس» : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧].

وسابعها : قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ٧٤] وقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٤٠].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٣٠.


وثامنها : قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) [الأنفال : ٥٣].

وتاسعها : قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥].

وعاشرها : قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) [يونس : ٢٢] إلى قوله : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٢٣].

واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي ؛ لأنه لا نزاع في أن الحياة والعقل والسمع والبصر ، وأنواع الرزق ، والمنافع من الله ـ تعالى ـ إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضارّ الأبدية ، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرّد عبارة.

فصل في النعم المخصوصة ببني إسرائيل

وهي كثيرة منها :

استنقذهم من فرعون وقومه ، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القتل ونساءهم من الاستحياء ، وخلصهم من البلاء ، ومكنهم في الأرض ، وجعلهم ملوكا ، وجعلهم الوارثين بعد أن كانوا عبيدا للقبط ، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وأنزل عليهم [الكتب العظيمة ، وجعل فيهم أنبياء ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وظللّ عليهم الغمام ، وأنزل عليهم](١) المنّ والسّلوى ، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا ، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم ، وأعطاهم عمودا من النور يضيء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تبلى. رواه «ابن عباس».

فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم

قال ابن الخطيب (٢) : إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه :

أحدها : أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي التوراة ، والإنجيل ، والزّبور.

وثانيها : أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن.

وثالثها : أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحياء عن إظهار المخالفة.

ورابعها : أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصّهم من بين سائر الناس بها ، ومن خص أحدا بنعم كثيرة ، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النّعم الآتية ، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٣٢.


فإن قيل : إن هذه النّعم إنما كانت على المخاطبين وأسلافهم ، فكيف تكون نعمة عليهم؟

فالجواب : لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا ، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء ، وأيضا فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، وأيضا فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله ـ تعالى ـ خصّ آباءهم بهذه النّعم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة ؛ لأنّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكر داعيا إلى الاشتغال بالخيرات.

قوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ).

«التي» صفة «النعمة» والعائد محذوف.

فإن قيل : من شرط [حذف](١) عائد الموصول إذا كان مجرورا أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ، وأن يتّحد متعلقهما ، وهنا قد فقد الشّرطان ، فإن الأصل : التي أنعمت بها.

فالجواب : إنما حذف بعد أن صار منصوبا بحذف حرف الجرّ اتساعا فبقي «أنعمتها» وهو نظير : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] في أحد الأوجه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

و «عليكم» متعلّق به ، وأتى ب «على» دلالة على شمول النعمة لهم.

قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

هذه جملة أمرية عطف على الأمرية قبلها. ويقال : «أوفى» ، و «وفّى» ، و «وفى» ـ مشددا ومخففا ـ ثلاث لغات بمعنى ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٢٩ ـ أمّا ابن [طوق] (٢) فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النّجم حاديها (٣)

فجمع بين اللغتين.

وقيل : يقال : أوفيت ووفيت بالعهد ، وأوفيت الكيل لا غير ، وعن بعضهم : أن اللغات الثلاث واردة في القرآن.

أما «أوفى» فكهذه الآية.

وأما «وفّى» بالتشديد فكقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧].

وأما «وفى» بالتخفيف ، فلم يصرح به ، وإنما أخذ من قوله تعالى : (أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ،) وذلك أن «أفعل» التفضيل لا يبنى إلّا من الثلاثي كالتعجّب هذا هو المشهور ، وإن كان في المسألة كلام كثير ، ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشّاطبي (٤).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : بيض.

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر ديوانه : (٥١) ، البحر : (١ / ٣٢٦) ، الكامل : (٢ / ١٨٧) ، الزجاج : (١ / ٩١) ، اللسان «عوف» و «قلص» ، الدر المصون : (١ / ٢٠٣).

(٤) القاسم بن فيره بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ، ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء ومعناه ـ


ويجيء «أوفى» بمعنى : ارتفع ؛ قال : [المديد]

٤٣٠ ـ ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (١)

و «بعهدي» متعلّق ب «أوفوا» ، و «العهد» مصدر ، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول.

والمعنى : بما عاهدتكم عليه من قبول الطّاعة ، ونحوه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] أو بما عاهدتموني عليه ، ونحوه : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣].

و «أوف» مجزوم على جواب الأمر ، وهل الجازم الجملة الطّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط ، أو حرف شرط مقدر تقديره : إن توفوا بعهدي أوف؟ قولان.

وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف.

وقرأ الزّهري (٢) : «أوفّ» بفتح الواو وتشديد الفاء للتّكثير.

و «بعهدكم» متعلّق به [وهذا](٣) محتمل للإضافة إلى الفاعل ، أو المفعول على ما تقدّم.

فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه

في العهد المأمور بوفائه قولان :

أحدهما : أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ، وقوله : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أراد به الثواب والمغفرة.

وقال «الحسن» : هو قوله : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) إلى قوله : (الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢].

وحكى «الضحاك» عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطّاعات ، ونهيتكم عنه من المعاصي ، وهو قول جمهور المفسرين.

__________________

ـ بلغة عجم الأندلس الحديد ابن خلف بن أحمد أبو القاسم وأبو محمد الشاطبي الرعيني الضرير الإمام العلامة ، أحد الأعلام الكبار والمشتهرين في الأقطار ، ولد سنة ٥٣٨ ه‍ بشاطبة من الأندلس ، وقرأ ببلده القراءات ، رحل إلى بلنسبة بالقرب من بلده فعرض بها التفسير من حفظه على ابن هذيل ، أخذ عن كتاب سيبويه والكامل للمبرّد ، وأدب الكاتب. توفي سنة ٥٩٠ ه‍ بالقاهرة ودفن بها. ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٠.

(١) البيت لجذيمة الأبرش وهو من شواهد الكتاب (٢ / ١٥٣) ، النوادر (٢١٠) ، الهمع (٢ / ٣٨) ، الدرر (٢ / ٤١) ، روح المعاني (١ / ٢٤٢) ، اللسان «شمل» ، الدر المصون (١ / ٢٠٤) ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٦.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٣٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٧

(٣) في ب : وهو.


وقيل : هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢].

وقال في سورة الأعراف : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] إلى قوله : (وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وأما عهد الله معهم ، فهو أن يضع عنهم إصرهم والأغلال ، لقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] الآية وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ) [الصف : ٦].

وقال ابن عباس رضي الله ـ تعالى ـ عنهما : [إن الله تعالى](١) كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيّا أميا ، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به ـ أي القرآن ـ [أغفر له ذنبه ، وأدخله](٢) الجنّة ، وجعلت له أجرين ؛ أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل ، وأجرا [باتباع](٣) ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [النبي الأمي] من ولد إسماعيل ، وتصديق هذا في القرآن في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [القصص : ٥٢] إلى قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٥٤].

وتصديقه أيضا بما روى أبو موسى الأشعري ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ، ثم آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فله أجران](٤) ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها فتزوّجها ، فله أجران ، وعبد أطاع الله ، وأطاع سيّده فله أجران» (٥).

فإن قيل : إن كان الأمر هكذا ، فكيف يجوز جحده من جماعتهم؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ هذا العلم كان حاصلا عند العلماء في كتبهم ، لكن لم يكن منهم عدد كثير ، فجاز منهم كتمان ذلك.

الثاني : أن ذلك النصّ كان خفيّا لا جليّا ، فجاز وقوع الشّكّ فيه.

فإن قيل : الشخص الموعود به في هذه الكتب ، إما أن يكون قد ذكر في هذه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : غفرت له ذنبه وأدخلته.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الترمذي (٣ / ٤٢٥) رقم (١١١٦) والنسائي (٦ / ١١٥) وأحمد (٤ / ٤٠٥) والدارمي (٢ / ١٥٥) وأبو عوانة (١ / ١٠٣) والحميدي (٧٦٨) والطبراني في «الأوسط» (١ / ٤٤) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.


الكتب وقت خروجه ، ومكان خروجه ، وسائر التّفاصيل المتعلّقة بذلك ، أو لم يذكر شيء من ذلك.

فإن كان الأول كان [ذلك](١) النص نصّا جليّا واردا في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر ، فيمتنع قدرتهم على الكتمان ، ويلزم أن يكون ذلك معلوما بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين.

وإن كان الثاني لم [يدلّ](٢) ذلك النّص على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاحتمال أن يقولوا : إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود.

والجواب : قال ابن الخطيب (٣) : «لم يكن منصوصا عليه نصّا جليّا يعرفه كل أحد ، بل كان منصوصا عليه نصّا خفيّا ، فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين».

قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

«إياي» ضمير منصوب منفصل ، وقد عرف ما فيه في «الفاتحة» ، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : «وإياي ارهبوا فارهبون» ، وإنما قدرته متأخرا فيه ؛ لأن تقديره متقدما عليه لا يحسن لانفصاله ، وإن كان بعضهم قدره كذلك.

والفاء في «فارهبون» فيها قولان للنحويين :

أحدهما : أنها جواب أمر مقدر تقديره : تنبّهوا فارهبون ، وهو نظير قولهم : «زيدا فاضرب» أي : تنبه فاضرب زيدا ، ثم حذف «تنبه» ، فصار : فاضرب زيدا ، ثم قدم المفعول إصلاحا للفظ ؛ لئلا تفع الفاء صدرا (٤) ، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين.

والقول الثاني في هذه «الفاء» : أنها زائدة.

وقال «أبو حيان» بعد أن حكى القول الأول : فتحتمل الآية وجهين :

أحدهما : أن يكون التقدير : «وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون» ، فتكون «الفاء» حصلت (٥) في جواب الأمر ، وليست مؤخّرة من تقديم.

والوجه الثاني : أن يكون التقدير : وتنبّهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول ، وفعل الأمر الذي هو «تنبهوا» محذوف ، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء ، يعني : فصار التقدير : «وفإياي ارهبوا» ، فقدم المفعول على الفاء إصلاحا للفظ ، فصار : «وإيّاي فارهبوا» ، ثم أعيد المفعول على سبيل التّأكيد ، ولتكمل الفاصلة ، وعلى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يذكر.

(٣) ينظر الرازي : ٣ / ٣٤.

(٤) في ب : صدورا.

(٥) في ب : دخلت.


هذا في «إياي» منصوب بما بعده لا بفعل محذوف ، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل ، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل.

و «الرّهب» و «الرّهب» ، و «الرّهبة» : الخوف ، مأخوذ من الرّهابة ، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف ، وسقطت «الياء» بعد «النون» ؛ لأنها رأس فاصلة.

وقرأ ابن أبي إسحاق (١) : «فارهبوني» بالياء ، وكذا : (فَاتَّقُونِ) [البقرة : ٤١] على الأصل.

ويجوز في الكلا م «وأنا فارهبون» على الابتداء والخبر.

وكون «فارهبون» الخبر على تقدير الحذف كان المعنى : «وأنا ربكم فارهبون». ذكره القرطبي.

وفي الآية دليل على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحدا إلا الله تعالى ، ولما وجب ذلك في الخوف ، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء ، وأن ذلك لا بد منه.

قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٤١)

قوله : «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي : بالذي أنزلته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول أي : [بالمنزل](٢).

و «مصدقا» نصب على الحال ، وصاحبها العائد المحذوف.

وقيل : صاحبها «ما» ، والعامل فيها «آمنوا» ، وأجاز بعضهم أن تكون «ما» مصدرية من غير جعله المصدر واقعا موقع مفعول به ، وجعل «لما معكم» من تمامه ، أي : بإنزالي لما معكم ، وجعل «مصدقا» حالا من «ما» المجرورة باللّام قدمت عليها ، وإن كان صاحبها مجرورا ؛ لأن الصّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه ؛ كقوله : [الطويل]

٤٣١ ـ فإن يك أذواد أصبن ونسوة

فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال (٣)

__________________

(١) وقرأ بها يعقوب ووافقه الحسن وصلا.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٤ ، والبحر المحيط : ٣٣١ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠

(٢) في أ : بالمقول.

(٣) البيت لطليحة بن خويلد. ينظر المقاصد النحوية : ٣ / ١٥٤ ، إصلاح المنطق : ١٩ ، شرح الأشموني : ١ / ٢٤٩ ، شرح ابن عقيل : ٣٣١ ، شرح عمدة الحافظ ، والمحتسب : ٢ / ١٤٨ ، والتهذيب : ٨ / ١١٠ ، (فرع) واللسان (فرع) والدر المصون : ١ / ٢٠٥.


«فرغا» حال من «بقتل» ، وأيضا فهذه «اللام» زائدة ، فهي في حكم المطرح ، و «مصدقا» حال مؤكّدة ؛ لأنه لا تكون إلا كذلك.

والظاهر أن «ما» بمعنى «الذي» وأن «مصدقا» حال من عائد الموصول ، وأن اللّام في «لما» مقوية لتعدية «مصدقا» ل «ما» الموصولة بالظّرف.

فصل في بيان المخاطبين في الآية

اعلم أن المخاطبين بقوله : (وَآمِنُوا) هم بنو إسرائيل لعطفه على قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ،) ولقوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

وقوله : (بِما أَنْزَلْتُ) فيه قولان :

أحدهما : أنه القرآن ؛ لأنه وصفه بكونه منزلا ، وبكونه مصدقا لما معهم.

والثاني : قال قتادة : بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا في التّوراة ، والإنجيل.

ومن جعل «ما» مصدرية قدّرها ب «إنزالي لما معكم» يعني : التوراة.

وقوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) فيه تفسيران :

أحدهما : أن في القرآن أنّ موسى وعيسى حقّ ، والتوراة والإنجيل حقّ ، فالإيمان بالقرآن مؤكّد للإيمان بالتوراة والإنجيل.

والثاني : أنه حصلت البشارة بمحمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بالقرآن ، وبمحمد تصديقا للتوراة والإنجيل ، وتكذيب محمد والقرآن تكذيب للتوراة والإنجيل.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا التفسير يدلّ على نبوة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من وجهين :

الأول : أن شهادة كتب الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ لا تكون إلا حقّا.

والثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يقرأ كتبهم ، ولم يكن له معرفة بذلك إلّا من قبل الوحي.

قوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).

«أول» خبر كان ، وفيه أربعة أقوال :

أحدها ـ وهو مذهب سيبويه ـ : أنه «أفعل» ، وأن فاءه وعينه واو ، وتأنيثه «أولى» ، وأصلها : «وولى» ، فأبدلت الواو همزة وجوبا ، وليست مثل «ووري» في عدم قلبها

__________________

(١) ينظر الرازي : ٣ / ٣٩.


لسكون الواو بعدها ، لأن واو «أولى» تحركت في الجمع في قولهم «أوّل» ، فحمل المفرد على الجمع في ذلك ، ولم يتصرف من «أول» فعل لاستثقاله.

وقيل : هو من «وأل» إذا نجا ، ففاؤه واو ، وعينه همزة ، وأصله : «أوأل» فخففت بأن قلبت الهمزة واوا ، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار : «أول» ، وهذا ليس بقياس تخفيفه ، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على «الواو» الساكنة ، وتحذف الهمزة ، ولكنهم شبهوه ب «خطية وبرية» وهو ضعيف ، والجمع : «أوائل» و «أوالي» أيضا على القلب.

وقيل : هو من «آل ـ يئول» إذا رجع ، وأصله : «أأول» بهمزتين ، الأولى زائدة والثانية فاؤه ، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار : «أوأل» بوزن «أعفل» ، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدغام ، وهو أضعف منه.

وقيل : هو «ووّل» بوزن «فوعل» ، فأبدلت الواو الأولى همزة ، وهذا القول أضعفها ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، والجمع «أوائل» ، والأصل : «وواول» فقلبت الأولى همزة لما تقدم ، والثالثة أيضا لوقوعها بعد ألف الجمع ، وإنما لم يجمع على «أواول» لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع.

واعلم أن «أوّل» «أفعل» تفضيل ، و «أفعل» التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفردا مذكرا مطلقا ، ثم النكرة المضاف إليها «أفعل» ، إما أن تكون جامدة أو مشتقة ، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو : الزّيدان أفضل رجلين ، الزيدون أفضل رجال ، الهندات أفضل نسوة.

وأجاز المبرد إفرادها مطلقا.

وإن كانت مشتقة ، فالجمهور أيضا على وجوب المطابقة ، نحو : «الزيدون أفضل ذاهبين وأكرم قادمين» ، وأجاز بعضهم المطابقة وعدمها ؛ أنشد الفراء : [الكامل]

٤٣٢ ـ وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع (١)

فأفرد في الأول ، وطابق في الثاني ، ومنه عندهم : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) [البقرة : ٤١].

إذا تقرر هذا ، فكان ينبغي على قول الجمهور أن يجمع «كافر» ، فأجابوا عن ذلك بأوجه :

أجودها : أن «أفعل» في الآية ، وفي البيت مضاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف ، وبقيت صفته قائمة مقامه ، فجاءت النكرة المضاف إليها «أفعل» مفردة اعتبارا بذلك الموصوف المحذوف ، والتقدير : ولا تكونوا أوّل فريق ـ أو فوج ـ كافر ، وكذا «فألأم

__________________

(١) ينظر النوادر : (١٥٢) ، معاني القرآن : (١ / ٣٣٣) ، الطبري : (١ / ٥٦٢) ، البحر : (١ / ٣٣٢) ، مجمع البيان : (١ / ٢٠٨) ، روح المعاني : (١ / ٢٤٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٦).


فرق طاعم» ، وقيل : لأنه في تأويل : «أول من كفر به».

وقيل : لأنه في معنى : لا يكن كل واحد منكم أول كافر ، كقولك : كسانا حلّة أي : كل واحد منّا ، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا ، فلا يراد : ولا تكونوا أول كافر ، بل آخر كافر ؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه.

وأيضا فقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) دليل على أن كفرهم أولا وآخرا محظور ، وأيضا قوله : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] لا يدلّ على وجود عمد لا يرونها ، وقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١٨١] لا يدلّ على وقوع قتل الأنبياء بحق.

وقوله بعد هذه الآية : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] لا يدلّ على إباحة ذلك بالثّمن الكثير ، فكذا هاهنا ، ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوما احتاج إلى تأويل جعل «أول» زائدا ، قال تقديره : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ليس بشيء ، وقدّره بعضهم بأن ثمّ معطوفا محذوفا تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ، ولا آخر كافر ، ونصّ على الأول ؛ لأنه أفحش للابتداء به ؛ وهو نظير قوله : [الرمل]

٤٣٣ ـ من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع (١)

لا يريد أن فيهم فحشا آجلا ، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلا ولا آجلا. والهاء في «به» تعود على «ما أنزلت».

وقيل : على «ما معكم».

وقيل : على الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأن التنزيل يستدعي منزلا إليه.

وقيل : على النعمة ذهابا بها إلى معنى الإحسان.

فإن قيل : كيف جعلوا أوّل من كفر به ، وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب؟

فالجواب : من وجوه :

أحدها : أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ؛ لأنهم كانوا هم المبشّرين بزمان محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وثانيها : المراد : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، يعني : من أشرك من أهل «مكة» ، أي أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة والإنجيل ، فلا تكونوا مثل من لم يعرفه ، وهو مشرك لا كتاب له.

__________________

(١) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من عينيته الشهيرة ، ينظر شرح المفضليات للتبريزي : ٢ / ٨٨٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٣٣ ، مجمع البيان : ١ / ٢١٠ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٦.


وثالثها : ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب ؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل ، وإن كانت قريش كفرت به قبل ذلك.

ورابعها : ولا تكونوا أول كافر به ، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم ، أي : ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم ؛ لأن تكذيبكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم.

وخامسها : ولا تكونوا أوّل كافر به عند سماعكم بذكره ، بل تثبّتوا فيه ، وراجعوا عقولكم فيه.

قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

«بآياتي» متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال ، فلذلك دخلت الباء على الآيات ، وكان القياس دخولها على ما هو ثمن ؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لا أن يشترى ، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك ؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلا والمجرور بالباء زائلا.

وقد ظنّ بعضهم أن قولك : «بدلت الدّرهم بالدينار» وكذا : «أبدلت» أيضا أن الدينار هو الحاصل ، والدرهم هو الزّائل ، وهو وهم ؛ ومن مجيء «اشترى» بمعنى «استبدل» قوله : [الرجز]

٤٣٤ ـ كما اشترى المسلم إذ تنصّرا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٤٣٥ ـ فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل (٢)

وقال المهدوي : دخول «الباء» على «الآيات» كدخولها على «الثّمن» ، وكذلك كل ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دراهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن ، قاله الفرّاء ، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام درهم ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمنا ، ومثمنا ، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المتعاقدين ، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه ، وزال عنه ، ونصب ما حصل له ، فتقول «اشتريت هذا الثّوب بهذا العبد».

__________________

(١) ينظر الكشاف (١ / ١٣١) ، البحر المحيط (١ / ٣٣٣) ، الدر المصون (١ / ٢٠٦).

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في الأضداد : ١٠٧ و ١٨٦ ، وتخليص الشواهد : ٤٢٨ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٤٩ ، والدرر : ٢ / ٢٤٢ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٨٦ و ٣٥١ ، شرح أشعار الهذليين : ١ / ٩٠ ، شرح شواهد الإيضاح : ١١٩ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٧١ ، والكتاب : ١ / ١٢١ ، ولسان العرب [زعم] ، مغني اللبيب : ٢ / ٤١٦ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٣٨٨ ، شرح ابن عقيل : ٢١٤ ، همع الهوامع : ١ / ١٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٧.


وأما إذا كان ثمّ دراهم أو دنانير كان ثمنا ليس إلا ، نحو «اشتريت الثوب بالدرهم» ، ولا تقول : «اشتريت الدّرهم بالثوب».

وقدر بعضهم مضافا فقال : بتعليم آياتي ؛ لأن الآيات نفسها لا يشترى بها ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن معناه الاستبدال كما تقدم.

و «ثمنا» مفعول به ، و «قليلا» صفته.

و (إِيَّايَ فَاتَّقُونِ) كقوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

وقال هنا : «فاتّقون» وهناك : «فارهبون» لأن ترك المأمور به هناك معصية ، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمنا قليلا كفر ، فناسب ذكر الرهب هناك ؛ لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية ، وذكر التقوى هنا ؛ لأنه كفر لا يجوز العفو عنه ؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بدّ منه.

فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود

قال ابن عباس : إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا ، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لا نقطعت عنهم تلك الهدايا ، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحتقر.

قال القرطبي في تفسيره : هذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل ، فهي تتناول من فعل فعلهم ، فمن أخذ رشوة على تغيير حق ، أو إبطاله ، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه ، أو أداء ما علمه ، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجرا ، فقد دخل في مقتضى الآية.

وروى أبو داود عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلّمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة» (١) يعني : ريحها.

وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، فمنع ذلك الزّهري ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن (٢ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) كتاب العلم باب في طلب العلم لغير الله تعالى حديث رقم (٣٦٦٤).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٢٥٢) ـ وابن حبان في صحيحه حديث (٨٩) وأحمد في المسند (٢ / ٣٣٨) ـ وابن أبي شيبة (٨ / ٥٤٣).

والحاكم في المستدرك (١ / ٨٥) ـ والخطيب في التاريخ (٥ / ٣٤٧) ، (٨ / ٧٨) ـ والعقيلي في الضعفاء (٣ / ٤٦٧) ـ وذكره المنذري في الترغيب ١ / ١١٥ ـ والقرطبي في التفسير ١ ـ / ١٨ ، ٣٣٥ والزبيدي في الإتحاف ١ / ١٨١ ، ١٠ / ٦٠.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.


وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نيّة التقرب ، فلا يؤخذ عليها أجره كالصّلاة والصيام.

واستدلوا بالآية [وروى أبو هريرة قال : قلت : يا رسول الله ما تقول في المعلّمين؟ قال : «درهمهم حرام ، وشربهم سحت وكلامهم رياء»](١).

وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناسا من أهل الصفّة القرآن والكتابة ، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا ، فقلت : ليست بمال [وأرمي] عنها في سبيل الله ، فسألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار فاقبلها» (٢).

وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك ، والشّافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأكثر العلماء ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الرّقية :

«إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (٣) أخرجه البخاري ، وهو نصّ [يرفع الخلاف ، فينبغي أن يعوّل عليه](٤).

وأما حجّة [المخالفين](٥) فقياسهم في مقابلة النّص ، وهو قادر ، ويمكن الفرق ، وهو أن الصّلاة والصّوم عبادات مختصّة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم ، فيجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن.

قال ابن المنذر ، وأبو حنيفة : يكره تعليم القرآن بأجرة ، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم ، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ، ويبطلها فيما هو طاعة.

وأما الآية فهي خاصّة ببني إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ فيه خلاف ، وهو لا يقول به ، ويمكن أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التّعليم ، فأبى حتى يأخذ عليه أجرا.

فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السّنّة في ذلك ، وقد يتعيّن عليه إلّا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ، ولا على عياله ، فلا يجب عليه التّعليم ، وله أن يقبل على صنعته وحرفته. [وأما أحاديثهم فلا يصح منها شيء في الدليل](٦).

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي : (١ / ٣٣٥).

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٣٠) رقم (٢١٥٧) وأحمد (٥ / ٣١٥) والبيهقي (٦ / ١٥٥).

(٣) أخرجه البخاري «كتاب الطب» باب الشروط في الرقية رقم (٥٧٣٧) والبيهقي (١ / ٤٣٠) وابن حبان (١١٣١) والدار قطني (٣ / ٦٥) رقم (٢٤٨) والبغوي (٨ / ٢٦٧).

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : المخالف.

(٦) سقط في أ.


قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤٢)

أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان :

أحدهما : أن يكون الغير قد سمع دلائل الحق ، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات.

والثاني : أن تخفي تلك الدّلائل عنه ، وتمنعه من الوصول إليها فقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) إشارة إلى الأول ، وقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) إشارة إلى الثاني.

والباء في قوله : «بالباطل» للإلصاق كقولك : «خلطت الماء باللّبن» ، أي : لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، فلا يتميز.

وقال «الزمخشري» : إن كانت صلة مثلها في قولك : لبست الشيء بالشّيء ، وخلطته به كان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم.

وإن كانت «باء» الاستعانة كالتي في قولك : «كتبت بالقلم» كان المعنى : ولا تجعلوا الحقّ مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.

فأجاز فيها وجهين كما ترى ، ولا يريد بقوله «صلة» أنها زائدة ، بل يريد أنها موصلة للفعل كما تقدم.

وقال «أبو حيان» : «وفي جعله إياها للاستعانة بعد ، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة» ، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟

وقال ابن الخطيب (١) : [إنها «باء» الاستعانة](٢). والمعنى : ولا تلبسوا الحقّ بسبب الشبهات التي توردونها على السّامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات ، فهذا هو المراد بقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ ،) فهو المذكور في قوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥].

و «اللّبس» : الخلط والمزج ؛ لقوله : لبست عليه الأمر ألبسه خلطت بيّنه بمشكله ؛ ومنه قوله الخنساء : [البسيط].

٤٣٦ ـ ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه

رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا

صدّق مقالته واحذر عداوته

والبس عليه أمورا مثل ما لبسا (٣)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤٠.

(٢) في أ : الأظهر أنها للاستعانة ، والذي أثبتناه موافق للرأي.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٨٠.


وقال العجّاج : [الرجز]

٤٣٧ ـ [لمّا لبسن الحقّ بالتّجنّي

غنين واستبدلن زيدا منّي (١)](٢)

ومنه أيضا : [البسيط]

٤٣٨ ـ وقد لبست لهذا الأمر أعصره

حتّى تجلّل رأسي الشّيب فاشتعلا (٣)

وفي فلان ملبس ، أي مستمتع ؛ قال : [الطويل]

٤٣٩ ـ ألا إنّ بعد العدم للمرء قنوة

وبعد المشيب طول عمر وملبسا (٤)

وقول الفرّاء وغيره : [الكامل]

٤٤٠ ـ وكتيبة لبّستها بكتيبة

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي (٥)

يحتمل أن يكون منه ، وأن يكون من «اللّباس» ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين ، أي : لا تغطّوا الحق بالباطل.

ولبس الهودج والكعبة : ما عليهما من «لباس» ـ بكسر اللام ـ ولباس الرجل زوجته ، وزوجها لباسها. قال تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] وقال النابغة: [المتقارب]

٤٤١ ـ إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تثنّت عليه فكانت لباسا (٦)

و «اللّبوس» : كل ما يلبس من ثياب ودرع ؛ قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] ولابست فلانا حتى عرفت باطنه.

و «الباطل» : ضد الحق ، وهو الزائل ؛ كقول لبيد : [الطويل]

٤٤٢ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (٧)

ويقال : بطل الشيء يبطل بطولا وبطلا وبطلانا.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١ / ٢٦٥) ، القرطبي : (١ / ٢٣١) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٨).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : (٢٦٥) ، القرطبي : (١ / ٢٣٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٨).

(٤) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ٨٧ ، القرطبي : (١ / ٢٣٣) والشطر الثاني في مفردات الراغب : (٤٤٧) ، اللسان : (ليس) ، الدر المصون : ١ / ٢٠٨.

(٥) ينظر الحماسة (١ / ٦٠) ، حماسة البحتري : (٥٢) ، والحيوان للجاحظ : (٥ / ١٨٥) ، نهاية الأرب : (٣ / ٣٥٢) ونصّ البيت هكذا :

وفوارس لبستها بفوارس

حتى إذا التبست ملأت بها يدي

القرطبي (١ / ٣٤١) ، الوجيز (١ / ٢٥٥) ، البحر (١ / ٣٢٧) ، الدر المصون (١ / ٢٠٨).

(٦) ينظر القرطبي : (١ / ٢٣٢) ، مجمع البيان : (٢ / ١٢٨) ، اللسان : «لبس».

(٧) تقدم برقم (٤١٠).


و «البطل» : الشّجاع ، سمي بذلك ؛ لأنه يبطل شجاعة غيره.

وقيل : لأنه يبطل دمه فهو «فعل» بمعنى «مفعول».

وقيل : لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى «فاعل». وقد بطل ـ بالضّم ـ يبطل بطولا وبطالة ، أي : صار شجاعا ؛ قال النابغة : [البسيط]

٤٤٣ ـ لهم لواء بكفّي ماجد بطل

لا يقطع الخرق إلّا طرفه سامي (١)

وبطل الأجير ـ بالفتح ـ بطالة ـ بالكسر : إذا تعطّل ، فهو بطّال ، وذهب دمه بطلا ـ بالضم ـ أي : هدرا.

فصل في المراد من قوله تعالى : (الْحَقَّ بِالْباطِلِ)

اختلفوا في المراد من قوله : (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) فروي عن «ابن عباس» وغيره : لا تخلطوا ما عندكم من الحقّ في الكتاب بالباطل (٢) ، وهو التغيير والتبديل.

وقال «أبو العالية» : قالت اليهود : محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثته حق ، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل.

وقال «مجاهد» : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام (٣).

قوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) فيه وجهان :

أحدهما ، وهو الأظهر : أنه مجزوم بالعطف على الفعل قبله ، نهاهم عن كل فعل على حدته ، أي : لا تفعلوا هذا ولا هذا.

والثاني : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي بعد «الواو» التي تقتضي المعية ، أي : لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمانه ، ومنه : [الكامل]

٤٤٤ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (٤)

و «أن» مع ما في حيّزها في تأويل مصدر ، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٨٤ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٤٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٥٦٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٢٥).

(٣) أخرجه الطبري (١ / ٥٦٨) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر» (١ / ١٢٥) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ١٥٢) عن قتادة أيضا.

(٤) البيت للأخطل كذا نسبه له سيبويه واشتهر أنه لأبي الأسود الدؤلي انظر ملحقات ديوانه : (١٣٠) ، ونسب البيت للطرماح وللمتوكل الليثي انظر الكتاب : (١ / ٤٢٤) ، والمقتضب (٢ / ٢٥) ، وشرح المفصل لابن يعيش : (٧ / ٢٤) ، العيني : (٤ / ٣٩٣) ، والشذور : (٢٣٨) ، حماسة البحتري : (١٧٤) ، الخزانة : (٨ / ٥٦٤) ، الدرر : (٢ / ٩) ، معاني الفراء : (١ / ١١٥) ، الصاحبي : (١٥٦) ، الأشموني : (٣ / ٣٠٧).


بمصدر أيضا ليصبح عطف [الاسم] على مثله ، والتقدير : لا يكن منكم لبس الحق بالباطل وكتمانه ، وكذا سائر نظائره.

وقال «الكوفيون» : منصوب ب «واو» الصرف ، وقد تقدم معناه ، والوجه الأول أحسن ؛ لأنه نهي عن كل فعل على حدته ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع ، ولا يلزم من النّهي عن الجمع بين الشّيئين النهي عن كل واحد على حدته إلا بدليل خارجي.

فصل في المراد بالكتمان

قال «ابن عبّاس» : يعني كتمانهم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يعرفونه (١).

وقال «محمد بن سيرين» : نزل عصابة من ولد هارون ب «يثرب» لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدوّ عليهم ، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ ، فأقاموا ب «يثرب» يرجون أن يخرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم ، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته ، فمضى أولئك الآباء ، وهم مؤمنون ، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء ، فأدركوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا به وهم يعرفون ، وهو معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، وعاملها : إما «تلبسوا» أو «تكتموا» إلّا أن عمل «تكتموا» أولى لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب.

والثاني : أن كتمان الحقّ مع العلم به أبلغ ذمّا ، وفيه نوع مقابلة.

ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنه يستدعي الإضمار ، ولا يجوز إضمار الحال ؛ لأنه لا يكون إلا نكرة ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب «الذي».

فإن قيل : تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار ، حتى لا يلزم المحظور المذكور ، والتقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون ، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.

فالجواب : أن هذا لا يقال : فيه إعمال ، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل ، ثم يحذف.

وأجاز «ابن عطيّة» (٢) ألا تكون هذه الجملة حالا ، فإنه قال : «ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ، فعلى هذا لا تكون الجملة في موقع الحال». وفيما قاله نظر.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٧١) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٢٥).

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٦.


وقرىء (١) شاذا : «وتكتمون» بالرفع ، وخرجوها على أنها حال ، وهذا غير صحيح ؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو ، وما ورد من ذلك ، فهو مؤول بإضمار مبتدأ قبله ، نحو : «قمت وأصكّ عينه» ، وقول الآخر : [المتقارب]

٤٤٥ ـ فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

أي : «وأنا أصكّ» ، و «أنا أرهنهم» ، وكذا «وأنتم تكتمون» ، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر ، وهو أنهم منهيّون عن اللّبس مطلقا ، والحال قيد في الجملة السابقة ، فيكون قد نهوا بقيد ، وليس ذلك مرادا إلّا أن [يقال : إنها حال لازمة ، وقد قيّده «الزمخشري» ب «كاتمين» ، فجعله حالا ، وفيه الإشكال المتقدّم ، إلّا أنه](٣) يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، قال «ابن الخطيب» (٤) : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل ، وما لا يعرف كونه حقّا وباطلا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ، ولا بالإثبات ، بل يجب التوقّف فيه. وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضّار مع العلم بكونه ضارّا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارّا ، فلما كانوا عالمين [بما](٥) في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.

ويجوز أن تكون جملة خبرية عطفت على جملة طلبية ، كأنه ـ تعالى ـ نعى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق.

[ومفعول](٦) العلم غير مراد ؛ لأن المعنى : وأنتم من ذوي العلم.

وقيل : حذف للعلم به ، والتقدير : تعلمون الحقّ من الباطل.

وقدره «الزمخشري» : «وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون» ، فجعل المفعول اللّبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

أمرهم بالإيمان ، ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان دلائل النّبوة ، ثم ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشّرائع ، وذكر من جملته ما هو كالأصل فيها ، وهو الصّلاة التي هي أعظم العبادات البدنية ، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية.

__________________

(١) قرأ بها عبد الله.

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٢) البيت لعبد الله بن همام السلولي ينظر إصلاح المنطق : ص ٢٣١ ، ٢٤٩ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٦ ، والدرر : ٤ / ١٥ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٦٥٥ ، والجنى الداني : ص ١٦٤ ، ورصف المباني : ص ٤٢٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٥٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٤٠ ، والمقرب : ١ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤١.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : ومفهوم.


قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) هذه الجملة وما بعدها عطف على الجملة قبلها عطف أمر على نهي.

وأصل «أقيموا» : «أقوموا» ، ففعل به ما فعل ب (وَيُقِيمُونَ) [البقرة : ٣] وقد تقدم الكلام عليها وعلى «الصّلاة» ، وأصل «آتوا» «ائتيوا» بهمزتين مثل «أكرموا» ، فقلبت الثانية ألفا لسكونها بعد همزة مفتوحة ، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان «الياء والواو» ، فحذفت الياء ؛ لأنها أول وحركت التاء بحركتها.

وقيل : بل ضمت تبعا للواو ، كما ضم آخر «اضربوا» ونحوه ، ووزنه : «افعوا» بحذف اللام.

وألف «الزكاة» منقلبة عن واو ، لقولهم : زكوات ، وزكا ـ يزكو ، وهي النحو.

وقيل : الطهارة.

وقيل : أصلها الثّناء الجميل ، ومنه : زكى القاضي الشّهود ، والزّكا : الزوج صار زوجا بزيادة فرد آخر عليه ، والخسا : الفرد ، قال : [البسيط]

٤٤٦ ـ كانوا خسا أو زكا من دون أربعة

لم يخلقوا وجدود النّاس تعتلج (١)

قوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) منصوب ب «اركعوا».

و «الركوع» : الطّمأنينة والانحناء ، ومنه قوله : [الطويل]

٤٤٧ ـ أخبّر أخبار القرون الّتي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع (٢)

وقيل : الخضوع والذّلّة ؛ ومنه : [المنسرح]

٤٤٨ ـ ولا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه (٣)

__________________

(١) ينظر البيت في لسان العرب «خسا» ، الطبري : (١ / ٥٧٣) ، القرطبي : (١ / ٣٤٣) ، الدر المصون : (١ / ٢١٠).

(٢) ينظر ديوان لبيد : (١٧١) ، مجاز القرآن : (١ / ٥٤) ، تهذيب اللغة : (١ / ٣١١) مجمع مقاييس اللغة : (٢ / ٤٣٥) ، مفردات الراغب : (٢٠٢) ، والشطر الثاني في اللسان : «ركع» ، الدر المصون : (١ / ٢١٠) ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٧.

(٣) البيت للأضبط بن قريع ينظر خزانة الأدب : ١١ / ٤٥٠ ، ٤٥٢ ، والدرر : ٢ / ١٦٤ ، ٥ / ١٧٣ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٠٨ ، والحماسة الشجرية : ١ / ٤٧٤ ، الأغاني : ١٨ / ٦٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١١٥١ ، وشرح شواهد الشافية : ص ١٦٠ ، وشرح شواهد المغني : ص ٤٥٣ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٩٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٣٤ ، الإنصاف : ١ / ٢٢١ ، أوضح المسالك : ٤ / ١١١ ، جواهر الأدب : ص ٥٧ ، ١٤٦ ، رصف المباني : ص ٢٤٩ ، ٣٧٣ ، ٣٧٤ ، شرح الأشموني : ٢ / ٥٠٤ ، شرح شافية ابن الحاجب : ١ / ٣٢ ، شرح ابن عقيل : ص ٥٥٠ ، شرح المفصل : ٩ / ٤٣ ، ٤٤ ، لسان العرب (هون) مغني اللبيب : ١ / ١٥٥ ، المقرب : ١ / ١٨ ، همع الهوامع : ١ / ١٣٤ ، ٢ / ٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٢١٠.


فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة

قال ابن الخطيب (١) : القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب (٢) ، قالوا : إنما جاء في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعد أن كان النّبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وصف لهم أركان الصّلاة وشرائطها ، فكأنه تعالى قال : وأقيموا الصلاة التي عرفتموها ، والقائلون بجواز التأخير قالوا : يجوز أن يراد الأمر بالصّلاة ، وإن كانوا لا يعرفون أن الصّلاة ما هي؟ ويكون المقصود أن يوطن السّامع نفسه على الامتثال ، وإن كان لا يعلم أن المأمور به ، ما هو؟ كما يقول السيد لعبده : إني آمرك غدا بشيء فلا بد وأن تفعله ، ويكون غرضه مه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني.

فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) خطاب مع اليهود ، وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.

فإن قيل : قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمر بالصّلاة ، وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمر بالصّلاة أيضا ، فيكون تكرارا.

فالجواب : أن قوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : صلّوا مع المصلّين ، ففي الأوّل أمر بإقامة الصّلاة ، وفي الثاني أمر بفعلها في الجماعة فلا تكرار.

وقيل : إن اليهود لا ركوع في صلواتهم ، فخصّ الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين.

وقيل : الركوع : الخضوع ، فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم.

قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤٤)

الهمزة في «أتأمرون» للإنكار والتّوبيخ ، أو للتعجّب من حالهم.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤١.

(٢) ينظر البحر المحيط : ٣ / ٤٩٣ ، البرهان لإمام الحرمين : ١ / ١٦٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٢٨ ، نهاية السول : ٢ / ٥٤٠ ن ، زوائد الأصول للإسنوي : ص / ٣٠٤ ، منهاج العقول : ٢ / ٢٢٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص / ٨٦ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ٤٢٩ ، المنخول للغزالي : ص / ٦٨ ، المستصفى له : ١ / ٣٦٨ ، حاشية البناني : ٢ / ٦٩ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ١٢١ ، حاشية العطار لجمع الجوامع : ٢ / ١٠٢ ، المعتمد لأبي الحسين : ١ / ٣١٤ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ٨١ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ١٦٤ ، وينظر كشف الأسرار : ٣ / ١٠٨ ، المسودة : (١٨١) ، شرح العضد : ٢ / ١٦٤.


و «أمر» يتعدى لاثنين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، وقد يحذف ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين في قوله : [البسيط]

٤٤٩ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

و «الناس» مفعول أول ، و «بالبر» مفعول ثان ، و «البر» : سعة الخير من الصّلة والطاعة ، ومنه : «البرّ» و «البريّة» لسعتهما ، والفعل منه : «برّ ـ يبرّ» ، على وزن «فعل ـ يفعل» ك «علم ـ يعلم» ؛ قال : [الرجز]

٤٥٠ ـ لاهمّ ربّ إنّ بكرا دونكا

يبرّك النّاس ويفجرونكا (٢)

أي : يطيعونك.

و «البرّ» أيضا : ولد الثّعلب ، وسوق الغنم ، ومنه قولهم : «لا يعرف الهرّ من البرّ» ، أي لا يعرف دعاءها من سوقها.

و «البرّ» أيضا : الفؤاد ، قال : [الطويل]

٤٥١ ـ أكون مكان البرّ منه ودونه

وأجعل ما لي دونه وأوامره (٣)

و «البرّ» ـ بالفتح ـ الإجلال والتعظيم ، ومنه : ولد برّ بوالديه ، أي يعظمهما ، والله تعالى برّ لسعة خيره على خلقه ، وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال : برّ في يمينه أي : صدق ولم يحنث ويقال : صدقت وبررت.

قوله : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) داخل في حيّز الإنكار ، وأصل «تنسون» : «تنسيون» فأعلّ بحذف الياء بعد سكونها ، وقد تقدّم في (اشْتَرَوُا) [البقرة : ١٦] فوزنه «تفعون» والنسيان : ضد الذّكر ، وهو السّهو الحاصل بعد حصول العلم ، وقد يطلق على التّرك ، ومنه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، وقد يدخله التعليق حملا على نقيضه ، قال : [الطويل]

٤٥٢ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من انتم

وريحكم من أيّ ريح الأعاصر (٤)

ويقال : رجل «نسيان» ـ [بفتح النون ـ كثير النّسيان ـ ونسيت الشيء نسيانا ، ولا يقال : «نسيانا»] ـ بالتحريك ـ لأن النّسيان تثنية نسا العرق.

و «الأنفس» : جمع نفس.

فإن قيل : النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم ، والنّاسي غير مكلّف

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر القرطبي : (١ / ٢٥٠) ، البحر : (١ / ٣٣٧) ، اللسان : برر ، الدر المصون : (١ / ٢١٠).

(٣) ينظر القرطبي : (١ / ٢٥٠) ، اللسان : برر ، الدر المصون : (١ / ٢١١).

(٤) البيت لزياد الأعجم ينظر ديوانه : ص ٧٣ ، تذكرة النحاة : ص ٦٢٠ ، الدرر : ٢ / ٢٦٥ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٢٤٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر : ٢ / ١٢١ ، تخليص الشواهد : ص ٤٥٤ ، حاشية يس : ١ / ٢٥٣ ، المحتسب ١ / ١٦٨ ، همع الهوامع : ١ / ١٥٥ ، الدر المصون : ١ / ٢١١.


ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمّه الله ـ تعالى ـ على ما صدر منه ، فالمراد بقوله : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أنكم تغفلون عن حق أنفسكم ، وتعدلون عما لها فيه من النّفع.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال ، العامل فيها «تنسون».

و «التّلاوة» : التتابع ، ومنه تلاوة القرآن ؛ لأن القارىء يتبع كلماته بعضها ببعض ، ومنه : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ٢] وأصل «تتلون» : «تتلوون» بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى فوزنه «تفعون».

ويقال : تلوته إذا تبعته تلوا ، وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتّليّة والتّلاوة (١) : البقية ، يقال : تليت (٢) لي من حقّي تلاوة وتلية أي بقيت.

وأتليت : أبقيت.

وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه.

قال «أبو زيد» : «تلي الرجل إذا كان بآخر رمق».

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة للإنكار أيضا ، وهي في نية التأخير عن الفاء ؛ لأنها حرف عطف ، وكذا تتقدّم أيضا على «الواو» و «ثم» نحو : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٧] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) [يونس : ٥١] والنّيّة بها التأخير ، وما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه ، تقول : «ما قام زيد بل أقعد؟» هذا مذهب الجمهور.

وزعم «الزّمخشري» أن الهمزة في موضعها غير منويّ بها التأخير ، ويقدر قبل «الفاء» و «الواو» و «ثم» فعلا محذوفا ، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا : أتغفلون فلا تعقلون ، وكذا (أَفَلَمْ يَرَوْا) [سبأ : ٩] أي : أعموا فلم يروا؟

وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.

ومفعول «تعقلون» غير مراد ؛ لأن المعنى : أفلا يكون منكم عقل ، وقيل تقديره : أفلا تعقلون قبح ما ارتكبتم من ذلك.

والعقل : الإدراك المانع من الخطأ ، وأصله المنع ، ومنه العقال ، لأنه يمنع البعير عن الحركة ، وعقل الدّية ، لأنه يمنع من قتل الجاني ، والعقل ـ أيضا ـ ثوب موشّى ؛ قال علقمة : [البسيط]

٤٥٣ ـ عقلا ورقما يظلّ الطّير يتبعه

كأنّه من دم الأجواف مذموم (٣)

__________________

(١) زاد في أ : يضمان.

(٢) في أ : بقيت.

(٣) ينظر الديوان : (٥١) ، المفضليات : (٣٩٧) ، اللسان : عقل ، الدر المصون : (١ / ٢١١).


قال ابن فارس : «والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا ، وما كان نقشه مستديرا فهو الرّقم». ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها.

فصل في المراد بالبر في الآية

اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه :

أحدها : قال «السّدّي» إنهم كانوا يأمرون النّاس بطاعة الله ، وينهونهم عن معصية الله ، وهم يتركون الطّاعة ، ويقدمون على المعصية (١).

وثانيها : قال «ابن جريج» : إنهم كانوا يأمرون النّاس بالصّلاة والزكاة ، وهم يتركونهما(٢).

وثالثها : كان إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول ، وأمره حقّ فاتبعوه ، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم.

ورابعها : أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول عليه الصّلاة والسّلام يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر فيكم ، ويدعو إلى الحقّ وكانوا يرغبونهم في اتباعه ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه وكفروا به ، فبكّتهم الله ـ تعالى ـ بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه ، وأعرضوا عن دينه ، وهذا اختيار «أبي مسلم».

وخامسها : قال «الزّجّاج» : «إنهم كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة ، وكانوا يشحّون بها ، لأن الله ـ تعالى ـ وصفهم بقساوة القلوب ، وأكل الربا والسّحت».

فصل في سبب هذا التعجب

سبب هذا التعجّب وجوه :

الأوّل : أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة ، وتحذيره عما يوقعه في المفسدة ، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير.

الثاني : أنّ من وعظ النّاس ، وأظهر علمه للخلق ، ثم لم يتّعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية ؛ لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم لولا أنه مطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلّا لما أقدم على المعصية ، وإذا كان الواعظ زاجرا عن المعصية ، ويأتي بفعل يوجب الجراءة على المعصية ، فكأنه جمع بين المتناقضين ، وذلك لا يليق بالعاقل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٨).


والثالث : أنّ من وعظ ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب ، والإقدام على المعصية مما ينفّر القلوب عن القبول.

فصل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف

قال «القرطبي» : «احتجّت المبتدعة بقوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ،) وقوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] على أنه يشترط فيمن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر أن يكون عدلا.

قال : وهذا استدلال ساقط ؛ لأن الذم ـ هاهنا ـ إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر ، ولا شك أن النهي عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ، وأيضا فإن العدالة محصورة في القليل من الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.

وذكر عن «ابن عبد البر» أنه قال : أجمع المسلمون على أنه لا يجب على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذا لم يحصل له بتغييره إلا اللّوم الذي لا يصل إلى الأذى.

فصل في ماهية العقل

قال بعض الفلاسفة : العقل جوهر لطيف في البدن ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السّراج في البيت ، يفصل بين حقائق المعلومات.

ومنهم من قال : إنه جوهر بسيط ، ثم اختلفوا في محلّه.

فقالت طائفة منهم : محلّه الدّماغ ؛ لأن الدماغ محل الحسّ.

ومنهم من قال : محله القلب ؛ لأن القلب معدن الحياة ، ومادّة الحواس.

وقالت طائفة : محله القلب وله أشعة إلى الدماغ.

وقال «أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني» وغيرهما : العقل هو العلم.

وقال «القاضي أبو بكر» : العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات ، وجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات.

واختار «أبو المعالي» في «البرهان» أنه صفة يتأتى بها درك العلوم.

وقال «الشافعي» : العقل غريزة.

وقال «أبو العبّاس القلانسي» : العقل قوة التّمييز.

وحكي عن «المحاسبي» أنه قال : العقل أنوار وبصائر.

فصل في خلق أفعال العباد

احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله ـ تعالى ـ فقالوا قوله


تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إنما يصحّ ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار ، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض؟

والجواب : أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه ، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه ، وإن حصل من الله ـ تعالى ـ فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا ، والآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، فيعود عليهم ما أوردوه ، ثم الجواب الحقيقي عن الكل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣].

قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤٥)

قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر ، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل.

وأصل «استعينوا» : «استعونوا» ففعل فيه ما فعل في «نستعين» وقد تقدم تحقيقه ومعناه.

و «بالصبر» متعلّق به ، والباء للاستعانة أو للسّببية ، والمستعان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليها ، واستعان يتعدّى بنفسه نحو : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : ملتبسين بالصبر.

والظّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء ، تقول : استعنت الله واستعنت بالله ، وقد تقدم أن السّين للطلب.

والصّبر : الحبس على المكروه ؛ ومنه : «قتل فلان صبرا» ؛ قال : [الوافر]

٤٥٤ ـ فصبرا في مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع (١)

و «المصبورة» التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المجثمة. والصبر المأمور به هو الصّبر على الطّاعة ، وعن المخالفة ، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطّاعة.

قال النحاسي : «ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر إنما يقال : صابر على كذا». ويرده قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ثم قال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) [البقرة : ١٥٦] الآية.

__________________

(١) البيت لقطري بن الفجاءة ينظر في تخليص الشواهد : ص ٢٩٨ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥١ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٢٠ ، وشرح الأشموني : ٤ / ١٢ ، الدر المصون : ١ / ٢١٢.


فصل في فضل الصلاة

خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها.

وكان عليه الصلاة والسّلام «إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة» (١).

ومنه ما روي عن عبد الله بن عبّاس أنه نعي إليه أخوه قثم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال : عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله ، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٢).

فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.

وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللّغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ) [الأنفال : ٤٥] ؛ لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء.

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصّوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصّبر ، فجاء الصّوم والصّلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصّيام يمنع من الشّهوات ، ويزهد في الدنيا ، والصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتخشع ، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.

وإنما قدم الصّبر على الصلاة ؛ لأن تأثير الصّبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصّلاة في حصول ما ينبغي.

وقد وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بالصّبر كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله ـ تعالى ـ إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» (٣). أخرجه البخاري.

قال العلماء : وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ، ومعنى وصفه ـ تعالى ـ بالحلم هو تأخير العقوبة عن مستحقّيها ، ووصفه ـ تعالى ـ بالصّبر لم يرد في التنزيل ، وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السّنة على الحلم ، قاله «ابن فورك» وغيره.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن (١ / ٤٢٠ ـ ٤٢١) كتاب الصلاة باب وقت قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل حديث رقم (١٣١٩) وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٨) ـ والخطيب في التاريخ (٦ / ٢٧٤) والطبري في التفسير (١ / ٢٠٥) ـ وذكره ابن كثير في التفسير (١ / ١٢٤ ، ٢٨٣) ـ والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٨٥ والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم ١٣٢٥ والهندي في كنز العمال حديث رقم ١٨٠٠١.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣١) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٨ / ٤٧) كتاب الأدب باب الصبر على الأذى حديث رقم (٦٠٩٩) ـ وذكره القرطبي في التفسير ١ / ٣٧٣ والهندي في كنز العمال حديث رقم (٥٨١٤).


وجاء في أسمائه «الصبور» للمبالغة في الحلم عمن عصاه.

قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) إن واسمها وخبرها ، والضّمير في «إنها» قيل: يعود على «الصلاة» ، وإن تقدم شيئان ؛ لأنها أغلب منه وأهم ، وهو نظير قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] أعاد الضمير على التّجارة ؛ لأنها أهم وأغلب ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأن العطف ب «أو» فيجب الإفراد ، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشّيئين ، فهو نظيرها من هذه الجهة.

وقيل : يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

وقيل : على العبادة المدلول عليها بالصّبر والصلاة ، وقيل : هو عائد على الصبر والصّلاة ، وإن كان بلفظ المفرد ، وهذا ليس بشيء.

وقيل : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ؛ وتقديره : وإنه لكبير ؛ نحو قوله : [الخفيف]

٤٥٥ ـ إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا (١)

ولم يقل : «يعاصيا» ردّ إلى الشباب ؛ لأن الشعر داخل فيه ، وكذا الصّبر لما كان داخلا في الصلاة عاد عليها كما قال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، ولم يقل : يرضوهما ؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عزوجل.

وقيل : ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما ، لكن حذف اختصارا ، كقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥] ، ولم يقل : آيتين ، وقال الشاعر : [الطويل]

٤٥٦ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٢)

أراد : «لغريبان».

وقيل : على إجابة محمد عليه الصّلاة والسّلام ، لأنّ الصبر والصّلاة مما كان يدعو

__________________

(١) ينظر ديوان حسان : (٢٣٦) ، ابن الشجري : (١ / ٣٠٩) ، المخصص : (١ / ٣٨) ، جمهرة اللغة : (٢ / ٢٧) ، مجاز القرآن : (١ / ٢٥٨) ، المقرب : (٢٥٧) ، الصاحبي : (٣٦٢) ، اللسان : «شرخ» ، الدر المصون : (١ / ٢١٢).

(٢) البيت لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، والإنصاف : ص ٩٤ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، ١٠ / ١٢ ، ٣١٣ ، ٣٢٠ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، وشرح التصريح ١ / ٢٢٨ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧ ، وشرح المفصل ٨ / ٨٦ ، والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولسان العرب (قير) ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٨٦ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٨ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٣ ، وأوضح المسالك ١ / ٣٥٨ ، ورصف المباني ص ٢٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٧٢ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ، ومجالس ثعلب ص ٣١٦ ، ٥٩٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٤ ، الدر المصون ١ / ٣١٢.


إليه ، وقيل : على الكعبة ؛ لأن الأمر بالصّلاة إنما هو إليها.

قوله : «لكبيرة» : لشاقّة ثقيلة من قولك : كبر هذا عليّ ؛ قال تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣].

و «إلّا على الخاشعين» استثناء مفرّع ، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتا ، لأنه في قوة النفي ، أي : لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء.

و «على الخاشعين» متعلّق ب «كبيرة» نحو : «كبر عليّ هذا» أي : عظم وشق.

فإن قيل : إن كانت ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين ، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشعين أقلّ ، وهذا باطل.

فالجواب : ليس المراد أن الذي يلحقهم من التّعب أكثر مما يلحق الخاشع ، وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ، ولا يغفل عن تدبّر ما يأتي من الذّكر ، والتذلّل والخضوع ، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حسرة وغمّ ، وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك ، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثّقل عليه بفعل صلاته أعظم ، وإنما المراد بقوله ـ هاهنا ـ لثقيلة على من لم يخشع من حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ، ولا في تركها عقابا ، فيصعب عليه فعلها ؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطّبع.

و «الخشوع» : الخضوع ، وأصله : اللّين والسّهولة ، ومنه «الخشعة» للرّملة ، وقيل : قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث : «كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد» أي : كانت الأرض ليّنة.

وقال النابغة : [الطويل]

٤٥٧ ـ رماد ككحل العين لأيا أبيّنه

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (١)

أي : عليه أثر الذّل.

وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع ، فقال : الخضوع في البدن خاصّة ، والخشوع في البدن والصّوت والبصر ، فهو أعم منه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

(الَّذِينَ) يحتمل موضعه الحركات الثلاث ، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتا ، وهو الظّاهر ، والرفع والنّصب على القطع ، وقد تقدم معناه.

وأصل الظّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه :

أحدها : وعليه الأكثر ـ أن الظّن ـ هاهنا ـ بمعنى اليقين ؛ ومثله (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٣) ، القرطبي : (١ / ٣٧٤) ، الدر المصون : (١ / ٢١٢).


[الحاقة : ٢٠] ؛ وقال تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) [المطففين : ٤].

وقال دريد بن الصّمّة : [الطويل]

٤٥٨ ـ فقلت لهم : ظنّوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد (١)

وقال أبو دؤاد : [الخفيف]

٤٥٩ ـ ربّ همّ فرّجته بعزيم

وغيوب كشّفتها بظنون (٢)

فاستعمل الظّن استعمال اليقين [مجازا ، كما استعمل العلم استعمال الظّن ؛ كقوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة : ١٠] ولكن العرب لا تستعمل الظّن استعمال اليقين] إلّا فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبيت ، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنسانا.

قائلو هذا القول قالوا : إن الظن ـ هنا ـ بمعنى العلم ، قالوا : لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة ، وذلك كفر والله ـ تعالى ـ مدح على [الظّن](٣) ، والمدح على الكفر غير جائز ، فوجب أن يكون المراد من الظن ـ هاهنا ـ العلم ، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا ، إلا أن العلم راجح مانع من النقيض ، والظن راجح غير مانع من النقيض ، فلما اشتبها من هذا الوجه صحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، كما في الآية والبيت.

والثاني : أن الظّن على بابه وفيه تأويلان :

أحدهما : أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت ؛ لأن ملاقاة الرب سبب عن الموت ، فأطلق المسبّب ، وأراد السبب ، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات : إنه لقي ربّه ، فتقدير الآية : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو الموت في كل لحظة ، فإن من كان متوقعا للموت في كل لحظة ، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع.

وثانيها : أنهم يظنون ملاقاة ثواب ربهم ؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب ، دون العقاب ، والتقدير : يظنون أنهم ملاقو ثواب ربهم ، ولكن يشكل على هذا عطف (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) فإنه إذا أعدناه على الثّواب المقدر ، فيزول الإشكال أو يقال : إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظّن على بابه ، وبالنّسبة إلى الثّاني بمعنى اليقين ، ويكون قد جمع في الكلمة الواحدة بين الحقيقة والمجاز ، وهي مسألة خلاف.

__________________

(١) ينظر الحماسة للمرزوقي : (٢ / ٨١٢) ، المحتسب : (٢ / ٣٤٢) ، ابن يعيش : (٧ / ٨١) ، الأصمعيات : (١٠٧) ، اللسان : ظنن ، الدر المصون : ١ / ٢١٢.

(٢) ينظر البيت في الأضداد : (١٥) ، والقرطبي : ١ / ٣٧٦ ، والدر المصون : ١ / ٢١٣.

(٣) في أ : هذا الظن.


وثالثها : قال المهدويّ والماورديّ وغيرهما : أن يضمر في الكلام «بذنوبهم» ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله.

قال «ابن عطية» : «وهذا تعسّف».

فصل في أوجه ورود لفظ الظن

قال «أبو العباس المقرىء» : وقد ورد «الظّن» في القرآن بإزاء خمسة معان :

الأول : بمعنى «اليقين» كهذه الآية ، ومثله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة: ٢٠] ، ومثله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) [البقرة : ٢٤٩].

الثاني : بمعنى «الشّك» قال تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: ٣٢].

الثالث : بمعنى «حسب» قال تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق : ١٤] أي : حسب ألا يرجع ، ومثله : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢].

الرابع : بمعنى «الإنكار» قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] أي : إنكارهم.

والخامس : بمعنى «الجحد» قال تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [يونس : ٦٠] أي : وما جحدهم.

و «أن» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور ، ومسدّ الأول والثاني محذوف عند «الأخفش» ، وقد تقدّم تحقيقه.

و «ملاقو ربّهم» من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف ؛ لأنه مستقبل ، وحذفت النون للإضافة ، والأصل : «ملاقون ربّهم» والمفاعلة ـ هنا ـ بمعنى الثلاثي نحو : عافاك الله.

قال «المهدوي» : قال «ابن عطية» (١) : وهذا ضعيف ؛ لأن «لقي» يتضمن معنى «لاقى». كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المشاركة بخلاف غيرها من «عاقبت وطارقت وعافاك».

وقد تقدم أن في الكلام حذفا تقديره : ملاقو ثواب ربهم وعقابه.

قال «ابن عطية» : «ويصح أن تكون الملاقاة ـ هاهنا ـ بالرؤية التي عليها أهل السّنة ، وورد بها متواتر الحديث». فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حذف مضاف.

و «أنّهم إليه راجعون» عطف على «أنهم» وما في حيّزها ، و «إليه» متعلّق ب «راجعون» ، والضمير : إما للرّبّ سبحانه ، أو للثواب كما تقدّم ، أو للقاء المفهوم من قوله : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا).

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٣١٨.


ويجوز : «وإنهم» بالكسر على القطع.

فصل في رؤية الله تعالى

استدلّ بعض العلماء بقوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) على جواز رؤية الله تعالى (١) ، قالت

__________________

(١) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤية تعالى عقلا ، في الدنيا والآخرة ، بمعنى : أنه تعالى يجوز أنه ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة ، ولا اتصال شعاع ، ولا حصول في جهة ومكان. واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية ، فلنذكر الأدلة النقلية ؛ لأنها الأصل في هذا الباب ، وهي أكثر من أن تحصى ، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى ـ حكاية عن سيدنا موسى عليه‌السلام : في ميقات المناجاة ـ : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).

تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس ، وهي مسألة الرؤية ، ولم يحدّد النطق الكريم الحكم فيها ، بل ترك لذوي العقول البحث.

فكان القول بجوازها ووقوعها ، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها ، ولم يكن لصاحب كل قول في الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا ، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة ، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى ، غير أن أهل السّنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله ، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه.

فالآية الكريمة تقول : لقد دعي موسى ـ عليه‌السلام ـ لمناجاتنا ، ورفعناه إلى هذا المستوى ، واتّصل بالأفق الأعلى ، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين ، وأنزله هذه المنزلة ، ووقف في ساحة جلاله ، وحظائر قدسه ، ومساقط أنوار جماله ، وذاق حلاوة خطابه.

أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ليجمع بين حلاوة الكلام ، وجمال الرؤية ، ويؤيّد أن الحامل لموسى ـ عليه‌السلام ـ على طلب الرؤية عوامل الشوق ، ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «جاء موسى ـ عليه‌السلام ـ ومعه السبعون رجلا ، وصعد موسى الجبل ، وبقي السبعون في أسفل الجبل ، فكلّم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيّا ، فلما سمع موسى صرير القلم ، عظم شوقه ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، نعم ، طلبها بعامل الشوق ، وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف ، حيث جعل النظر سببا عن الرؤية ، والحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء ؛ التماسا لرؤيته ، فهي متأخرة عنها ؛ إذ الفرض (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) مكّنّي من رؤيتك ، فأنظر إليك وأراك ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم ـ نعم ، أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس ، وانتظر ما يكون من أمر الله ، وقد وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشّى الجبل جلال الرب ، وسمع النطق الكريم «و (لَنْ تَرانِي) عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس ، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى ، واصطفاء الله له ، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس ، بل المتبادر إلى الذهن لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه ، لتوقفها على استعداد في الرأي ، ولم يوجد في موسى ـ عليه‌السلام ـ وقت الطلب ، يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس (تلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الآية فقال : قال الله ـ تعالى ـ : يا موسى إني لا يراني حي إلا مات ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم). ـ


المعتزلة : لفظ اللّقاء لا يفيد الرؤية ، لقوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)

__________________

ـ كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال ؛ يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس وفيه يقول : (يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى : رب ، إن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا) وقد نبّه ـ جل شأنه ـ بقوله : (لَنْ تَرانِي) مع وجود المانع وهو الضعف عن تحملها ؛ حيث أراه ضعف من هو أقوى من وتفتته ، عندما تجلّى عليه الرب ، وغشية ذو الجلال والإكرام.

فكان الجبل وتماسكه ، وعاد الجبل متقوص الأركان ، ومتداخل الأجزاء ، سقيم القوام ، وكان موسى وعاد فاقد الحياة ؛ لطلب هذه الرؤية من الانكشاف وهو باق على حياله.

أفاق موسى واسترد حياته ، وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنزهك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة ، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان. فكان موسى يعلم امتناعها ، وقد طلهبا وهي ممتنعة بل ثاب من طلب الرؤية بغير إذن ، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت ، وهو موسى المصطفى الكليم ، وقد قيل : (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين).

إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غنية عن أدلة الجواز ، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب ، قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب ؛ لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع ، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية ، وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي.

ولقد كانوا على حذر من المعتزلة ، فلم يركنوا إلى القول بأن الأصل في الشيء ـ لا سيّما فيما ورد فيه الشرع ـ هو الإمكان ؛ لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال ، دون المناظرة والاحتجاج ؛ كذلك لم يكن منهم في بيان الجواز أن العقل إذا خلّي ونفسه ، لم يحكم بالامتناع ؛ لأن هذا هو الإمكان الذهني ، وليس محلّ النزاع ، فالخصم يقول : العقل بعد التخلية لا يحكم بامتناع الرؤية ؛ كما تقول أهل السنة ، لكن بعد ملاحظة الدليل من كونه ـ تعالى ـ منزها عن المكان والجهة ، وليس جسما ؛ كما أنه غير مكيف بالعوارض التي هي شروط الرؤية يحكم بامتناعها ، والحق أنه يصحّ أن يكون محلّ النزاع ؛ لأن العقل إذا كان حاكما بالجواز بعد التخلية ، عملنا بالظواهر الدالة على الوقوع ، ما لم يقم دليل على الامتناع ؛ إذ لا يمكن صرف الظواهر ، ولا التوقف فيها بمجرد احتمال أنه يظهر دليل عقلي على الامتناع ، وإلا توقّف العمل بالظواهر الواردة في الأحكام الشرعية.

وإذا كفى أن عدم حكم العقل بعد التخلية كاف بالعمل بالظواهر ، وإذا ظهر أنه يصحّ أن يكون محلّا للنزاع ـ كفى في الاستدلال على الجواز أن يقال : العقل حاكم بجواز الرؤية ، وما حكم العقل به ما لم يقم دليل على بطلانه ، يجب قبوله ، وإلا لارتفع الإمكان عن العقل ، فإثبات صحة الرؤية بأدلة ذكروها مستغنى عنه ، لكن حيث ذكرت كان علينا أن نبيّن وجهة النظر في الآية الكريمة بطريق منطقي ، وهي من وجهين :

الأول : وحاصله قياس استثنائي يقرّر هكذا : لو لم تكن رؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ، ما طلبها موسى ـ عليه‌السلام ـ من ربه ، لكنه طلبها ؛ فهي جائزة.

أما دليل الملازمة : فلأنه لو طلبها مع كونها ممتنعة ، فلا يخلو : إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ عالما بامتناعها ، أو جاهلا به ، وكلاهما مناف لمقام نبوته ـ عليه‌السلام ـ. أما الأول : فلأن طلب المحال مع العلم بأنه محال ، يكون عبثا ، ولا شك أن العبث مما يتنزه عنه كلام العقلاء ، فضلا عن النبي المصطفى بالتكليم ، أحد أولي العزم. ـ


[التوبة : ٧٧] ، وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ

__________________

ـ وأما الثاني : فلأنه يؤدي إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ جاهل بما يجوز عليه وما يمتنع ، ومن كان هذا شأنه ، لا يصلح للنبوة ؛ إذ المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة ، فكيف يكون الجاهل بأحكام الألوهية ـ خصوصا بما يجب وما يجوز وما يمتنع ـ مكلفا من (الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) بهدآية الخلق ، ودعوتهم إلى ما يترتب عليه فلا حهم ونجاتهم. قال الشيخ السنوسي في «شرح الكبرى» : كيف يجهل موسى ـ عليه‌السلام ـ ما أدركت استحالته حثالة المعتزلة ، فلو لم يعتقد جوازها ، ما سألها ؛ إذ اعتقاد ما لا يجوز عليه ـ تعالى ـ جائزا كفر ، ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء ، فهو كافر ؛ إذ الأنبياء معصومون من الخطأ في العقائد الإلهية ، خصوصا الأوليات منها ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ من رؤسهم كما أسلفنا ؛ إذ هو أحد أولي العزم من الرسل.

وأما دليل الاستثنائية (لكنه طلبها) : فقوله ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فلامرية لعاقل في دلالة ذلك على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية.

لكن المعتزلة لما أحالوا رؤيته ـ تعالى ـ ؛ صرفوا الآية عن ظاهرها ، وأولوها بما يتفق ومذهبهم ، وها هي اعتراضاتهم مع الرد عليها :

الاعتراض الأول :

قالوا لا تسلم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية ، وإنما سأله علما ضروريا ، وليس في الآية ما يدل على سؤالها ، وما يستأنس به من لفظ الرؤية فالمراد منه : العلم الضروري لا حقيقة الرؤية ، ولا ضير في ذلك ، وأن العلم الضروري لا زم للرؤية ، وإطلاق الملزوم على اللازم شائع كثير ، سيما أرى بمعنى : أعلم ، ورأى بمعنى : علم ، ويكون المعنى على هذا من قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ :) رب اجعلني عالما بك علما ضروريا ، ففي هذا الاعتراض منع للاستثنائية بمنع دليلها ، وهذا منسوب إلى أبي الهذيل العلاف ، وتبعه الجبائي وأكثر البصريين.

وأجيب عن هذا الاعتراض.

أولا : لا نسلم أن الرؤية في الآية بمعنى العلم الضروري ، وإلا كان النظر المترتب عليها بمعناها أيضا ، والنظر وإن جاز استعماله بمعنى العلم الضروري ، لكنه في هذا المقام ممتنع لغة ؛ إذ لم ينقل النظر الموصول ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية ، وما قيل من أن الدليل هو استحالتها ، فمردود بما سنجيئه من الأدلة الدالة على جوازها ـ إن شاء الله ـ.

ثانيا : لو صح حمل الرؤية على العلم الضروري ، للزم أن يكون موسى النبي المصطفى بالتكليم غير عالم بربه علما ضروريا ؛ إذ السؤال عن الشيء إنما يكون عند الجهل به ، وكيف يتصور ممن يدعو الخلق إلى عبادة ربهم أن يكون جاهلا به ، وأيضا : فإن خطابه لربه يقتضي أن يكون معلوما له بوجه ما ، فإن أريد بالعلم المدعى لزومه للرؤية العلم بالهوية الخاصة ، قلنا : إنه يتناقض مع دعواهم ؛ إذ العلم بالهوية الخاصة ، بمعنى : الانكشاف التام لا يكون إلا بالمشاهدة والقيامة ؛ كما هو شأن جميع الجزئيات الحقيقية ، وأي عاقل يقول بلزوم مثل هذا العلم للرؤية؟ مع أننا لو سلمنا لزومه للرؤية ، لوجب أن تؤل الرؤية به ، وحينئذ لا يصح قول المعتزلة ، بل يجوز بها عن العلم الضروري ؛ لأنه لا زمها.

ثالثا : لو كانت الرؤية في قوله ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بمعنى العلم الضروري كما يقولون ، فإما أن يكون الجواب بقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي) نفيا للعلم الضروري ، أو للرؤية ، فإن كان الأول ، لزم أن يكون المعنى في ذلك : لن تعلم بي علما ضروريا ، وهو بديهي البطلان ، وإن كان الثاني ، لم يصلح أن يكون نفي الرؤية جوابا عن سؤال العلم الضروري وكيف يستقيم هذا جوابا في كلام البشر ، ـ


وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] وهو يتناول المؤمن والكافر ، والرؤية لا تثبت

__________________

ـ فضلا عن القرآن الكريم الذي بلغ حد الإعجاز.

الاعتراض الثاني :

وهو منع الاستثنائية أيضا ـ أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسأل رؤية ذاته ، بل سأله رؤية أمارة وعلامة من الأمارات الدالة على الساعة ، ومعنى الآية : أرني أمارة وعلامة من علاماتك ، أنظر إلى علاماتك على حد قوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي : واسأل أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه ، وهذا تأويل لا يسيغه عقل سليم ، فهو أولا : مخالف للظاهر بلا ضرورة.

ثانيا : الجواب ب (لن تراني) إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه ؛ من رؤية الأمارة والعلامة ، فلقد أراه أعظم الآيات والعلامات ؛ وهي تدكك الجبل. وإن كان محمولا على نفي رؤية ذاته ، لم يكن الجواب مطابقا للسؤال ، وهذا لا يتفق وبلاغة القرآن.

ثالثا : الرؤية المعلقة على الاستقرار ، إن كانت محمولة على الآية والعلامة ، فباطل ؛ لأن الآية والعلامة في تدكك الجبل لا في استقراره ، وإن كانت محمولة على الرؤية ، فلا تكون مرتبطة بالسؤال.

رابعا : لو كان السؤال على رؤية آية تدل على قيام الساعة ، لأعطاه تلك الآية ؛ كما أعطاه غيرها ؛ إذ لا مانع لمنعه من ذلك ، كيف وقد أعطاه من الآيات ما لا غاية بعدها ؛ كالعصا ، واليد ، والطوفان ، وغير ذلك ؛ وبالجملة فهذا التأويل لا وجه له.

الاعتراض الثالث :

وهو منع الملازمة ولو لم تكن الرؤية جائزة ، ما طلبها.

قالوا : إن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته ، وليس في ذلك ما يدل على إمكانها ؛ لأنه لم يسأل لنفسه ؛ لعلمه بامتناعها ، بل سألها لقومه عندما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فسألها ربه وهو عالم بأنه سيمنع منها ، وإنما نسبه لنفسه ، ليمنع هو منها ، فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى ، وفي هذا مبالغة بقطع دابر اقتراحهم ، كما أن أخذ الصاعقة لهم عقب سؤالها دليل ظاهر على استحالتها.

وأجيب على هذا الاعتراض بعدة أجوبة.

أولا : أن الآية صريحة في أنه طلبها لنفسه لا لقومه ، وإلا يقال : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فالعدول عن ذلك خلاف الظاهر ، ولا دليل يدل عليه.

ثانيا : لو كان الغرض من السؤال إظهار امتناعها لهم كما يقول المعتزلة ، لكان الأليق في الجواب أن يكون بما يدل على الامتناع ، وليس كذلك ، فإن (لَنْ تَرانِي) إنما يدل على نفي الوقوع للمخاطب ، لا على نفي الإمكان.

ثالثا : لو كان الغرص من سؤال موسى ـ عليه‌السلام ـ الرؤية زجر القوم وردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى ، لكان موسى عليه‌السلام عابثا في طلبه هذا ؛ لأنهم زجروا عن طلبها حين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، فتبينوا امتناعها ، فيكون قول موسى عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سؤالا لنفسه لا لقومه ، على أن هذا السؤال ليس بمفيد لهم ؛ لأن هؤلاء إن كانوا مؤمنين ، كفاهم قول موسى : إنها ممتنعة ، بل كان الواجب عليه أن يزجرهم ويردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الباري ـ تعالى ـ ، كما هو شأنه ؛ فقد قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) حينما قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وإن كانوا كافرين معاندين منكرين ، لم يكفهم قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : إنه ـ تعالى ـ أخبر بامتناعها ، بل هذا قول افتريته على الله ـ تعالى ـ وكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم الأخبار المؤيدة بالمعجزات الباهرة ، والتعليل بأنه يجوز أن يسمعوا كلام الله بآذانهم ، ويكون هناك ـ


للكافر ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرى مسلم

__________________

ـ قرائن دالة على أنه ليس من جنس كلام البشر ؛ كعدم الترتيب ، والاستماع من جهة واحدة ، فينتهوا عن طلب الرؤية تعليل سقيم ؛ لأنهم سمعوا التكليم بالأمر والنهي حينما دخلوا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ الغمام ، وخروا سجدا ، وأيقنوا أنه من عند الله ـ تعالى ـ ، فما بالهم قد رجعوا بعد هذا ، وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فدل كل هذا على أنه إنما سألها لنفسه ، فتكون جائزة.

الاعتراض الرابع :

وهو بمنع الملازمة مع منع دليلها ، وحاصله أنهم قالوا : لا نسلم لزوم العبث في سؤالها عند العلم بالامتناع ، لجواز أن يكون ذلك لفائدة هي زيادة الطمأنينة ؛ وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته لنفسه ، وهو عالم بامتناعها علما عقليا ؛ لتأكد الدليل العقلي بالسمعي ، فيزداد علمه ويقوى يقينه بتعاضد الأدلة ، وغير خاف أن تكرار الأدلة لو كانت من جنس واحد ـ تفيد زيادة الاطمئنان ، فكيف إذا كانت من جنسين : سمعي وعقلي ، وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بأنه لو كان المراد كما تقول المعتزلة ؛ من طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ الدليل السمعي الدال على امتناعها ، واستحالتها لزيادة العلم لخوطب بما يدل على الامتناع ، لا على نفي الواقع الدال على الإمكان ، والقول بأن هذا مثل ما وقع للخليل ـ عليه‌السلام ـ مردود ؛ لأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الخليل ـ عليه‌السلام ـ إنما طلب أن يرى إحياء الموتى ؛ ليطمئن قلبه ، وليس في هذا ما يوهم بجهله بما لا يليق في حقه ـ تعالى ـ ، على أنه قيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن عالما من قبل الطلب ، حتى يكون تأكيدا ؛ وذلك أنه أوحي إليه من ربه : إني اصطفيتك إنسانا خليلا ، وعلامته : أني أحيي الموتى بدعائه ، فظن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه ذلك الإنسان ، فطلب الإحياء ، ليطمئن قلبه ، وما قيل في الجواب أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان يخاطب جبريل ـ عليه‌السلام ـ عند نزوله بالوحي ؛ ليعلم أنه من عند الله ، فضعيف ؛ لأن الخطاب صريح في أنه كان يخاطب الرب ـ سبحانه تعالى ـ ، وجبريل ليس برب ؛ فإن الرب وإن أطلق على غير الله ـ تعالى ـ بمعنى المربي ؛ كقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) لكن إضافته إلى نفسه مما لا يليق بشأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وكيف يكون الخطاب لجبريل وهو يطلب إحياء الموتى ، وهذا ليس بمقدور لجبريل عليه‌السلام ـ ، فيكون منه عبثا.

الاعتراض الخامس :

هو موجه على دليل الملازمة أيضا ، أعني : منافاة النبوة ، وحاصله : تسليم أنه غير عالم بامتناعها ، ومنع أن هذا مناف للنبوة ، وإنما الذي ينافيها هو الجهل بالوحدانية ، وما أمر بتبليغه من الأوامر والنواهي ؛ لجواز أن يكون امتناعها وجوازها من الأمور التي مرجعها طريق السمع ، على أنه يجوز ألا تكون الرؤية من شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وحينئذ لا يضر الجهل بامتناعها والسؤال عنها ، والحالة هذه صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء.

أجيب : أولا :

أن هذا يقتضي أن موسى ـ عليه‌السلام ـ دون آحاد المعتزلة ، بل ودون من حصل طرفا من علم الكلام.

ثانيا : أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا ، أو في حكم المقابل ، وحينئذ لا يخلو الحال : إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ حصل له هذا العلم ، أولم يحصل ، فإن كان الأول ، كان موسى ـ عليه‌السلام ـ مجوزا كونه تعالى حاصلا في جهة وحيز ، وهو محال ، وإن كان الثاني ، لم يكن عالما بجميع العلوم الضرورية ، وهو نقص في حقه ـ عليه‌السلام ـ ، فثبت أن القول بأن موسى غير عالم بامتناعها باطل فاسد ؛ لما يترتب عليه من الفساد. وقولهم : إن ـ


__________________

ـ السؤال عن الرؤية مع العلم بامتناعها صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء ـ قول فاسد لا يسيغه طبع سليم ، كيف وأنهم ما حكموا باستحالتها إلا لأنها تقتضي التجسيم ، وعلى ذلك لا يكون طلبها صغيرة والحالة هذه ، بل كبيرة يجب تنزيه الأنبياء عنها ، ولو سلم أنها صغيرة ، فالأنبياء معصومون من الصغائر بعد النبوة كما هو التحقيق.

إلى هنا تم الكلام عن الوجهة الأولى ، بالاستدلال بالآية الكريمة ، ودفع ما ورد عليها من الاعتراضات ، ولنتكلم بعد هذا على الوجه الثاني من وجه الاستدلال بالآية الكريمة لأهل السنة ، فنقول : إن الآية الكريمة تصرح بتعليق رؤية الذات الأقدس على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، فكذلك ما علق عليه يكون ممكنا ، بيان الدليل أن يقال : الرؤية علقت على ممكن ، وكل ما علق على ممكن ، فهو ممكن ؛ فالرؤية ممكنة ، أما دليل الصغرى ، فقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فهذا الجواب صريح في أن الله ـ تعالى ـ علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل من حيث هو أمر ممكن في نفسه ؛ وعلى ذلك تكون الرؤية قد علقت على أمر ممكن.

وأما دليل الكبرى وهي «وكل ما علق على الممكن فهو ممكن» : فالتعليق إذ معناه الإخبار بوقوع المعلق على تقدير وقوع المعلق عليه ، وهذا يقتضي أن يكون المعلق ممكنا ؛ إذ المحال لا يقع على شيء من التقادير أصلا ، فتكون الرؤية ممكنة ، وإلا لزم الخلف في خبر الله ـ تعالى ـ ، وأيضا لو صح أن يكون المعلق على الممكن مستحيلا ، لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم ، وليس بصحيح ، وإلا انعدمت قضية التلازم ، وقد ناقشت المعتزلة هذا الوجه ، كما ناقشت الأول ، فنظرت كلتا مقدمتيه ، وذكرت على الصغرى القائلة : «الرؤية علقت على ممكن» :

أننا لوعددنا الفروض التي يكون عليها المعلق عليه ، وهو استقرار الجبل ، لوجدنا أنها مستحيلة ، فيكون المعلق مستحيلا.

وبيان ذلك : أن استقرار الجبل إما حال السكون ، أو مطلقا غير مقيد ، وإما حال الحركة ، وبطلان الأول ظاهر ؛ لما يلزم عليه من وجود الرؤية ؛ لوجود الاستقرار الذي هو شرط بمقتضى التعليق.

كذلك الثاني ؛ فإن استقرار الجبل من حيث هو واقع في الدنيا ، فيلزم وقوع الرؤية المعلقة عليه فيها.

ولم يبق إلا الاستقرار حال الحركة ، وهو ممتنع ، وقد علقت الرؤية عليه ، فتكون ممتنعة ، يساعد على أن الرؤية علقت على الاستقرار حال التحرك : أن لفظة (إن) المذكورة في الآية إن دخلت على الماضي ، صار بمعنى المستقبل ، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) ، أي : لو صار مستقرّا في المستقبل فسوف تراني ، ولم يحصل الاستقرار في الزمان المستقبل ، وإلا لوجب حصول الرؤية ؛ لوجوب حصول المشروط عند حصول الشرط الذي تتم به علّيه العلّة ، ولم يتحقق حصول الرؤية بالاتفاق ، فلم يستقر الجبل ، فيكون متحرّكا بالضرورة ، فالجبل حال ما علق الله الرؤية باستقراره كان متحركا ، واستقرار الجبل من حيث هو متحرك محال ، فالتعليق عليه لا يدلّ على إمكان الرؤية.

وقد أجاب أهل السنة باختيار الشقّ الثاني من الترديد ؛ وهو أن المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو ، ولا يلزم وقوع الرؤية كما زعمتم ؛ لأن الاستقرار ـ وإن لم يقيد بالحركة أو السكون ـ لكن لوحظ أن يكون في المستقبل ، وعقيب النظر ؛ بدليل «الفاء» و «إن».

وهو غير واقع فلا يلزم وقوع الرؤية.

وقد وجّه اختيار الشق الثاني أيضا : بأن اعتبار حال الجبل من حيث هو ـ مغاير لاعتبار حاله من حيث هو متحرك أو ساكن ، فهو مأخوذ لا بشرط شيء ، وهو يدل على الإمكان. ـ


__________________

ـ ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا ، كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوما ، كان واجب العدم ، ولو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو معدوما ـ كان ممكن الوجود ؛ فكذا هنا قد جعل الشرط هو استقرار الجبل ، كما يفيده منطوق الآية ، وهذا القدر ممكن الوجود.

وإذا تقرر ما ذكر ، تكون الرؤية جائزة الحصول ؛ بحكم التعليق على الممكن.

وأيضا لأهل السنة أن تختار الشق الثالث ـ وهو الاستقرار حال الحركة ـ بعد بيان المراد من الاستقرار حال الحركة ، فهو محال ؛ إذ حاصله الجمع بينهما ، ولا نسلّم أنه معلّق عليه ؛ إذ فيه زيادة بالإضمار ، وإن أرادوا الاستقرار حال الحركة ، أي : بدل الحركة ، فهو ممكن ، فحصول الحركة بدل السكون أمر ممكن ؛ ولهذا ذكر الله اندكاكه ، فقال (جعله دكّا) ولا يقال : جعله كذا إلا فيما يمكن أن يكون إلا كذا ، فثبت أنها علقت على ممكن.

نظير ذلك : قيام زيد حال قعوده ، وبالعكس ؛ فإنه ممكن بأن يقع أحدهما بدل الآخر ، لا بأن يجتمعا ، فإنه مسلم الاستحالة.

ولا يقال : إن مراد المعتزلة من الاستقرار حال الحركة ـ الغرض منه الاستحالة بالغير ، لا لذاته.

بيان ذلك : أن الاستقرار بعد النظر بدليل «الفاء» ، وحين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره عقيب النظر ، استحال استقراره ، وقد دفعه «السالكوني» فقال : إن استقرار الجبل حين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره أيضا ممكن ؛ بأن يقع بدله الاستقرار ، إنما المحال استقراره مع تعلق إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم الاستقرار.

كذلك نظرت المعتزلة كبرى الدليل القائلة : والمعلق على الممكن ممكن ، وقالت : إن المعلق على الممكن يجوز أن يكون ممتنعا ؛ واستشهدت لهذا بأنه يصحّ أن يقال : إن انعدم المعلول ، انعدمت العلة ، مع أن العلّة قد تكون ممتنعة العدم بالذات ، مع إمكان عدم المعلول في نفسه ؛ كما في ذات الواجب بالنسبة إلى الصفات عند بعض المتكلمين ، فإنّ انعدام الصفات علة لانعدام الذات ، وهو ممتنع كما لا يخفى ؛ فثبت أن الممكن قد يستلزم المحال.

وأما قولهم : إن الممكن لا يستلزم المحال ، فالمراد منه :

أنه لا يستلزمه من حيث كونه ممكنا ، وإن استلزمه من حيث كونه ممتنعا بالغير ، فظهر أنه لا مانع من تعليق الرؤية الممتنعة على استقرار الجبل الممكن.

وأجابت أهل السنة ببيان المراد من كبرى الدليل (والمعلق على الممكن ممكن) : أن الممكن المعلق عليه الممكن الصّرف الخالي عن الامتناع مطلقا ، سواء أكان بالذات أم بالغير ، واستقرار الجبل من قبيل الممكن الصرف ، بخلاف إمكان عدم المعلول المعلّق عليه ، مع امتناع عدم علته ، فالتعليق بينهما بحسب الامتناع بالغير ، فإنّ استلزام عدم الصفات عدم الواجب ؛ من حيث إن وجوده واجب ، وعدمه ممتنع بوجود الواجب ؛ لذا كان التعليق هنا غير مفيد إمكان المعلق ، لأنه تعليق على ممتنع ، أما في موضوعنا : فلما كان المعلق عليه ممكنا صرفا ، لا يشوبه امتناع بوجه من الوجوه ، أفاد إمكان المعلق وإلا فلا فائدة في التعليق ؛ إذ عند وقوع المعلّق عليه الذي هو ممكن في نفسه ، أما أن يقع المعلّق والحالة هذه ، كان ممكنا ، وإن لم يقع ، فلا داعي للتعليق وإيراد شرط ومشروط ، فالمعلق منتف في حالتي وجود الشرط وعدمه ، وإن قيل : إن فائدة التعليق ربط العدم بالعدم ، مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود ـ كان الرد هينا ، وهو خلاف المتبادر من اللغة ، لأنك إذا قلت : إن ضربتني ، ضربتك ، كان المراد منك الربط في جانبي الوجود والعدم معا ، لا في جانب العدم فقط. ـ


لقي الله وهو عليه غضبان» (١) وليس المراد رؤية الله ؛ لأن ذلك وصف لأهل النار ، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين : من مات لقي الله ، ولا يعنون أنه رأى الله ، وأيضا فاللقاء يراد به القرب ، فإن الأمير إذا أذن للشّخص في الدخول عليه يقول : لقيته ، وإن كان ضريرا ، وإذا منعه من الدّخول يقول : ما لقيته ، وإن كان قد رآه ، ويقا : لقي فلان جهدا ، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرّؤية ، وقال تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسم ، ولا يصح في [حق](٢) الله تعالى.

قال ابن الخطيب (٣) : أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللّغة : عبارة عن وصول أحد

__________________

ـ ومن معتمد أهل السنة في الجواز أيضا ـ قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ) الصابرين» ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ،) وقال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فترى أهل السنة أن اللقاء في هذه الآيات بمعنى الرؤية.

وبيان ذلك : أن اللقاء مشترك بين الوصول المكاني والوصول بالرؤية ؛ فيقال في الضرير : لقي الأمير ؛ إذا أذن له ، ويقال للبصير : لقيه ، بمعنى : رآه ، وما لقيه ، أي : ما وصل إليه ، والوصول المكاني محال على الله ـ تعالى ـ ، فيكون الوصول بمعنى الرؤية وهو المطلوب.

قالت المعتزلة : ما ذكرتموه يتنافى وقول الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وبديهي أن المنافق لا يرى ربه ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ، وقوله تعالى في معرض التهديد : «وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» وهذا التهديد يتناول المؤمن والكافر ، والكافر لا يرى ربه.

كذلك يتنافى وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (من حلف على يمين ليقتطع به مال امرىء مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان) ولا يعقل أن المراد يرى ربه ؛ لأن ذلك وصف أهل النار.

أجابت أهل السنة : بأن اللقاء لغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يمسّه بسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك ، إذا ماسّه واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك ، وحيث امتنع إجراء اللفظ على المماسّة ، وجب حمله على الإدراك المسبب عن اللقاء الذي هو سبب له ، وإطلاق السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز.

وما ادّعيتموه من الآيات والحديث لم يحمل على الإدراك ، وإنما يحمل على إضمار لفظ الحساب ، أو الجزاء للضرورة ؛ بخلاف ما ذكرناه ، فلا ضرورة لصرفه عن ظاهره ، ولا لإضمار هذه الزيادة ، فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وإلى هنا تمّ الكلام على الدليل النقلي ، ودفع ما ورد عليه من قبل المعتزلة.

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٢٢) كتاب المساقاة باب الخصومة .. حديث (٢٣٥٦) ، (٢٣٥٧) وأخرجه مسلم في الصحيح (١ / ١٢٢ ـ ١٢٣) كتاب الإيمان (١) باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (٦١) حديث رقم (٢٢٠ / ١٣٨ ، ٢٢٢ / ١٣٨) ..

وابن ماجه في السنن (٢ / ٧٧٨) كتاب الأحكام باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا ـ وأحمد في المسند (١ / ٤٤٢).

والبيهقي في السنن (١٠ / ١٧٨ ، ٢٥٤٣) ـ والطبراني في الكبير (١٠ / ١٣٢) وذكره الهيثمي في الزوائد (٤ / ١٨٣) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٦٣٥٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤٨.


الجسمين إلى الآخر بحيث يماسّه بمسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك إذا ماسّه ، واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه ، وجب حمله على الإدراك ؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز ، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللّقاء على الإدراك [أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصّور بدليل يخصه ، فوجب إجراؤه على الإدراك](١) في البواقي.

وعلى هذا التقرير زالت السّؤالات.

وأما قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) [التوبة : ٧٧] الآية.

قلنا : لأجل الضرورة ؛ لأن المراد : إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه ، والإضمار على خلاف الدليل ، فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة.

وأما قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فلا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه ، فالمؤمن من يلقى الله ، وهو عنه راض ، فيثيبه ، وينعم عليه بأنواع النعم. والكافر والحالف الكاذب يلقى الله ، وهو عليه غضبان ، فيعذبه بأنواع العقاب ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير ، وهو راض عنهم ، فيعطيهم وينعم عليهم ، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم ، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا ، وشتّان بين اللقاءين.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(٤٧)

أعاد الكلام توكيدا للحجّة عليهم ، وتحذيرا من ترك اتباع محمد عليه الصلاة والسلام.

قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) «أن» وما في حيّزها في محلّ نصب لعطفها على المنصوب في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أي : اذكروا نعمتي وتفضيلي إيّاكم ، والجار متعلّق به ، وهذا من باب عطف الخاصّ على العام ؛ لأن النعمة تشمل التّفضيل.

والفضل : الزيادة في الخير ، واستعماله في الأصل التعدّي ب «على» ، وقد يتعدّى ب «عن» إمّا على التضمين ، وإما على التجوّز في الحذف ؛ كقوله : [البسيط]

٤٦٠ ـ لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لذي الإصبع العدواني ينظر أدب الكاتب : ص ٥١٣ ، والأزهية : ص ٢٧٩ ، وخزانة الأدب : ٧ / ١٧٣ ، ١٧٧ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، والدرر ٤ / ١٤٣ ، ولسان العرب (فضل) ، (دين) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٨٦ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٤٧ ، وسمط اللآلي : ص ٢٨٩ ، والأغاني : ٣ / ١٠٨ ، وإصلاح المنطق : ص ٣٧٣ ، وأمالي المرتضى : ١ / ٢٥٢ ، وجمهرة اللغة : ص ٥٩٦ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٣٠ ، والمؤتلف والمختلف : ص ١١٨ ، ولكعب الغنوي في الأزهية : ص ٩٧ ، والأشباه والنظائر : ١ / ٢٦٣ ، ٢ / ١٢١ ، ٣٠٣ ، والإنصاف : ١ / ٣٩٤ ، الدر المصون : ١ / ٢١٣.


وقد يتعدّى بنفسه ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦١ ـ وجدنا نهشلا فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل (١)

فعدّاه بنفسه ، وب «عن» ، وفعله «فضل» بالفتح ـ «يفضل» ـ بالضم ـ ك : «قتل ـ يقتل».

وأما الذي معناه «الفضلة» من الشيء ، وهي : البقيّة ففعله أيضا كما تقدم.

ويقال فيه أيضا : «فضل» بالكسر «يفضل» بالفتح ك : «علم ـ يعلم» ، ومنهم من يكسرها في الماضي ، ويضمّها في المضارع ، وهو من التّداخل بين اللغتين.

فإن قيل : قوله : (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذلك باطل.

والجواب من وجوه :

أحدها : قال قوم : العالم عبارة عن الجمع الكثير من النّاس كقولك : رأيت عالما من النّاس ، والمراد منه الكثرة ، [وهذا](٢) ضعيف ؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل ، فكل ما كان دليلا على الله ـ تعالى ـ فإنه عالم ، وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كلّ موجود سوى الله.

وثانيها : المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، فإن الشّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين ، ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان موجودا في ذلك الوقت ، فما كان ذلك الوقت من العالمين ، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد ، وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] ، وقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] ، أراد به عالمي ذلك الزمان.

وثالثها : قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) عام في العالمين ، لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة ، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور ، بل لعلهم ، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد ، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر ، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥١٣ ، والكتاب : ٢ / ٩٨ ، وله أو لجرير في لسان العرب [مخض] ، شرح المفصل : ١ / ٣٥ ، والمقتضب : ٤ / ٤٦ ، وابن يعيش : ١ / ٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢١٤.

(٢) سقط في ب.


تنبيه

قال «ابن زيد» : أراد به المؤمن منهم ؛ لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير. وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة : ٧٨].

فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب

جميع ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب ، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١] ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨].

وروى قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يغني ما تسمعون [عن] غيركم.

فإن قيل : لما [خصهم](١) بالنعم العظيمة في الدنيا ، فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة ، كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه ، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ٤٨].

والجواب : [أن](٢) المعصية مع عظيم النّعمة تكون أقبح وأفحش ، فلهذا حذرهم عنها.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤٨)

(يَوْماً) مفعول به ، [ولا بد من حذف](٣) مضاف أي : عذاب يوم أو هول يوم ، وأجيز أن يكون منصوبا على الظرف ، والمفعول محذوف تقديره : واتقوا العذاب في يوم صفته كيت وكيت.

ومنع «أبو البقاء» كونه ظرفا ، قال : «لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة».

والجواب عما قاله : أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة.

وأصل (اتَّقُوا :) «اوتقوا» ، ففعل به ما تقدم في (تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١].

قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ).

التنكير في (نَفْسٌ) و (شَيْئاً) معناه أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئا من الأشياء ، وكذلك في (شَفاعَةٌ) و (عَدْلٌ).

__________________

(١) في أ : خصصهم.

(٢) في ب : لأن.

(٣) في ب : فلا بد من مفعول.


قال الزمخشري (١) : و (شَيْئاً) مفعول به على أن تجزي بمعنى «تقضي» ، أي : لا تقضي نفس عن غيرها شيئا من الحقوق ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر ، أي : قليلا من الجزاء كقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم : ٦٠] ، أي : شيئا من الجزاء ؛ لأن الجزاء شيء ، فوضع العام موضع الخاص.

واجتزأت بالشّيء اجتزاء : اكتفيت ، قال الشاعر : [الوافر]

٤٦٢ ـ بأنّ الغدر في الأقوام عار

وأنّ الحرّ يجزأ بالكراع (٢)

أي : يجتزىء به.

والجملة في محلّ نصب صفة ل «يوما» ، والعائد محذوف ، والتقدير : لا تجزي فيه ، ثم حذف الجار والمجرور ، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، وهذا مذهب «سيبويه».

وقيل : بل حذف بعد حذف حرف الجرّ ، ووصول الفعل إليه فصار : لا تجزيه ؛ كقوله : [الطويل]

٤٦٣ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٣)

ويعزى للأخفش ، إلّا أن «المهدوي» نقل أن أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج ؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوبا قوله : [الوافر]

٤٦٤ ـ فما أدري أغيّرهم قناء

وطول الدّهر أم مال أصابوا؟ (٤)

أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير : يوما يوم لا تجزي نفس ، فيصير كقوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) [الانفطار : ١٩] ، ويكون «اليوم» الثاني بدلا من يوما الأول ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائد ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٣٥.

(٢) البيت لأبي حنبل بن مر الطائي ينظر شرح شواهد الإيضاح : ص ٤١٢ ، والشعر والشعراء : ١ / ١٢٤ ، لسان العرب (جزأ) ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٣) البيت لرجل من بني عامر في الدرر ٣ / ٩٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٤٦ ، ولسان العرب [جزي] ، والأشباه والنظائر ١ / ٣٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٨١ و ٨ / ٢٠٢ و ١٠ / ١٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٨٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٠٣ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥ ، والمقرب ١ / ١٤٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٣ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٦ ، الكامل ٢١ والدر المصون ١ / ٢١٤.

(٤) البيت للحارث بن كلدة ينظر الأزهية : ص ١٣٧ ، والكتاب : ١ / ٨٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٣٦٥ ، ولجرير في المقاصد النحوية : ٤ / ٦٠ ، وليس في ديوانه ، والرد على النحاة : ص ١٢١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٧٦ ، وشرح المفصل : ٦ / ٨٩ ، والكتاب : ١ / ١٣٠ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.


بعده لم يؤت له فيها بضمير ، إلّا في ضرورة شعر ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦٥ ـ مضت مائة لعام ولدت فيه

وسبع بعد ذاك وحجّتان (١)

و «عن نفس» متعلّق ب «تجزي» ، فهو في محلّ نصب به.

قال «أبو البقاء» : يجوز أن يكون نصبا على الحال.

و «الجزاء» : القضاء والمكافأة ؛ قال : [الرجز]

٤٦٦ ـ يجزيه ربّ العرش عنّي إذ جزى

جنّات عدن في العلاليّ العلا (٢)

و «الإجزاء» : الإغناء والكفاية ، أجزأني كذا : كفاني ، قال : [الطويل]

٤٦٧ ـ وأجزأت أمر العالمين ولم يكن

ليجزأ إلّا كامل وابن كامل (٣)

وأجزأت وجزأت متقاربان.

وقيل : إن الإجزاء والجزاء بمعنى ، تقول فيه : جزيته وأجزيته.

وقد قرىء (٤) : «تجزىء» بضم حرف المضارعة من «أجزأ».

قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) هذه الجملة عطف على ما قبلها ، فهو صفة أيضا ل «يوما» والعائد (مِنْها) عليه محذوف كما تقدم ، ولا يقبل منها فيه شفاعة.

و (شَفاعَةٌ) مفعول لم يسمّ فاعله ، فلذلك رفعت.

وقرىء (٥) : (يُقْبَلُ) بالتذكير والتأنيث ، فالتأنيث للفظ ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي ، وحسنه الفصل.

وقرىء (٦) : (وَلا يُقْبَلُ) مبنيا للفاعل وهو «الله» تعالى. و (شَفاعَةٌ) نصبا مفعولا به.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) صفة أيضا ، والكلام فيه واضح.

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه : ١٦١ ، والأغاني : ٥ / ٦ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١٦٨ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦١٤ ، ٩٢٠ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٠٠ ، وللنمر بن تولب في الدرر : ٣ / ١٥١ ، وليس في ديوانه ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥٩٢ ، والمقرب : ١ / ٢١٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢١٩ ، الدر المصون: ١ / ٢١٤.

(٢) البيت لأبي النجم ينظر الأضداد : (١١٩) ، البحر : ١ / ٣٤٤ ، الطبري : ١ / ٢٣٥ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٤) وهي قراءة أبي السمّال العدوي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٤٧ ، والقرطبي : ١ / ٢٥٧.

(٥) قراءة التأنيث عن ابن كثير وأبي عمرو ، والتذكير عن نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، واختلف عن عاصم.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٤٢ ، وحجة القراءات : ٩٥ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٢٣ ، وشرح شعلة : ٢٦١ ، والعنوان في القراءات السبع : ٦٩ ، وإتحاف فضلاء النشر : ١ / ٣٩٠.

(٦) قرأ بها سفيان. انظر البحر المحيط : ١ / ٣٤٨.


و (مِنْها) متعلّق ب (يُقْبَلُ) و «يؤخذ».

وأجاز أبو البقاء : أن يكون نصبا على الحال ؛ لأنه في الأصل صف ل «شفاعة» و «عدل» ، فلما قدم عليهما نصب على الحال ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف ، وهذا غير واضح ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل ، والضمير في «منها» يعود على «نفس» الثانية ؛ لأنها أقرب مذكور ، ويجوز أن يعود الضّمير الأول على الأولى ، وهي النفس الجازية ، والثاني يعود على الثّانية ، وهي المجزيّ عنها ، وهذا مناسب.

و «الشّفاعة» مشتقة من الشّفع ، وهو الزوج ، ومنه «الشّفعة» ؛ لأنها ضمّ ملك إلى غيره ، والشافع والمشفوع له ؛ لأن كلّا منهما يزوج نفسه بالآخر ، وناقة شفوع يجمع بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شافع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها.

والعدل ـ بالفتح ـ الفداء ، وبالكسر : المثل ، يقال : عدل وعديل.

وقيل : عدل ـ بالفتح ـ المساوي للشيء قيمة وقدرا ، وإن لم يكن من جنسه ، وبالكسر : المساوي له في جنسه وجرمه.

وحكى الطبري : «أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفداء ، وأما عدل ـ واحدالأعدال ـ فهو بالكسر لا غير». وعدل ـ واحد الشهود ـ [فبالفتح لا غير ، وأما قوله عليه‌السلام : «لم يقبل الله منه صرفا وعدلا»](١) فهو بالفتح أيضا. وقيل : المراد ب «الصّرف» : النّافلة ، وب «العدل» : الفريضة.

وقيل : الصّرف : التوبة ، والعدل : الفدية.

قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على ما قبلها ، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبرا عنه بالمضارع تنبيها على المبالغة والتأكيد في عدم النصرة. والضمير في قوله (وَلا هُمْ) يعود على «النّفس» ؛ لأن المراد بها جنس الأنفس ، وإنما عاد الضمير مذكرا ، وإن كانت النفس مؤنثة ؛ لأنّ المراد بها العباد والأناسيّ.

قال الزمخشري : «كما تقول : ثلاثة أنفس». يعني : إذا قصد به الذّكور ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦٨ ـ ثلاثة أنفس وثلاث ذود

 .......... (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) صدر بيت للحطيئة وعجزه :

لقد جار الزمان على عيالي

ينظر ديوانه : ص ٢٧ ، وينسب أيضا لأعرابي من أهل البادية ينظر الكتاب : ٣ / ٥٦٥ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٣٦٧ ، و ٣٦٨ ، ٣٦٩ ، ٣٩٤ ، والخصائص : ٢ / ٤١٢ واللسان (ذود) والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٨٥ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢٤٦ والدرر : ٦ / ١٩٥ وشرح الأشموني : ٢ / ٦٢ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٧٠ ، ومجالس ثعلب : ١ / ٣٠٤ ، والهمع : ١ / ٢٥٣ ، ٢ / ١٧٠ ، الدر المصون : ١ / ٢١٦.


ولكن النّحاة نصّوا على أنه ضرورة ، فالأولى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم (١) الآية ؛ كما قال «ابن عطية».

و «النّصر» : العون ، والأنصار : الأعوان ، ومنه (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران: ٥٢] والنّصر ـ أيضا ـ الانتقام ، انتصر زيد : انتقم ، والنصر : الإتيان ـ نصرت أرض بني فلان : أتيتها ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٦٩ ـ إذا دخل الشّهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر (٢)

والنّصر : المطر ، يقال : نصرت الأرض : مطرت.

قال «القفّال» : تقول العرب : أرض منصورة أي ممطورة ، والغيث ينصر البلاد : إذا أنبتها ، فكأنه أغاث أهلها.

وقيل في قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) [الحج : ١٥] أي : لن يرزقه الله ، كما يرزق الغيث البلاد.

والنّصر : العطاء ؛ قال : [الرجز]

٤٧٠ ـ إنّي وأسطار سطرن سطرا

لقائل : يا نصر نصر نصرا (٣)

ويتعدّى ب «على» قال تعالى : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦] وأما قوله : (وَ (٤) نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧] فيحتمل التعدّي ب «من» ويحتمل أن يكون من التضمين. أي : نصرناه بالانتقام له منهم.

فإن قيل : قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) تفيد ما أفاده (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فما المقصود من هذا التكرار؟

فالجواب : أن قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) أي : لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء.

وأما النّصرة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب ، فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية ، وفي الآية التي قبل قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٢٤] قدم قبول الفدية على ذكر الشّفاعة فما [الحكم؟ قال ابن الخطيب :](٤) فالجواب : أن من كان ميله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى علوّ النفس فإنه يقدّم [التمسّك](٥) بالشافعين على إعطاء الفدية ، ومن كان بالعكس يقدّم الفدية على الشفاعة ،

__________________

(١) في ب : اقتضتهم.

(٢) البيت للراعي ينظر القرطبي : ١ / ٢٥٩ ، واللسان (نصر) ، الدر المصون : ١ / ٢١٦.

(٣) البيت لرؤبة ينظر ملحق ديوانه : (١٧٤) والمغني : (٤٣٤) والخصائص : ١ / ٣٤٠ ، وشواهد المغني : (٢٧٤) والهمع : ٢ / ١٢١ والدرر : ٢ / ١٥٣ والدر المصون : ١ / ٢١٦ ، والقرطبي : ١ / ٢٥٩.

(٤) في ب : الحكمة فيه.

(٥) سقط في أ.


ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين.

فصل في سبب نزول الآية

ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وأبناء أنبيائه ، وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله ـ تعالى ـ عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ، ولا يؤخذ فيه فدية.

وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذّكر ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا ، فإنّ الواقع في الشّدّة لا يتخلّص إلا بأن يشفع له ، أو يفتدى ، أو ينصر.

فصل في الشفاعة

أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم [اختلفوا في](١) أن شفاعته ـ عليه الصلاة والسلام ـ [لمن](٢) تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟

فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب ، وتأثير الشفاعة زيادة المنافع على ما استحقّوه.

وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، فإن دخلوا النار ، فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة ..

واتفقوا على أنها ليست للكفار.

قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٤٩)

«إذ» في موضع نصب عطفا على «نعمتي» ، وكذلك الظّروف التي بعده نحو : (وَإِذْ واعَدْنا) [البقرة : ٥١] ، (وَإِذْ قُلْتُمْ) [البقرة : ٥٥]. وقرىء (٣) : [أنجيتكم](٤) على التوحيد.

وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : أنجينا آباءكم ، نحو : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء ، وأصل الإنجاء والنّجاة : الإلقاء على نجوة من الأرض ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) قرأ بها النخعي. انظر البحر المحيط ١ / ٣٥٠ ، والشواذ : ٥.

(٤) في ب : نجيتكم.


وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات ، ثم أطلق الإنجاء على كل فائز وخارج من ضيق إلى سعة ، وإن لم يلق على نجوة.

و «من آل» متعلّق به ، و «من» لابتداء الغاية.

و «آل» اختلف فيه على ثلاثة أقوال : فقال «سيبويه» [وأتباعه](١) : إن أصله «أهل» فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [ـ كما قالوا : ماء ، وأصله ماه ـ](٢) ، ثم أبدلت الهمزة ألفا ، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو : «آمن وآدم» ولذلك إذا صغّر رجع إلى أصله [فتقول : «أهيل».

قال أبو البقاء : وقال بعضهم : «أويل» ، فأبدلت الألف واوا](٣).

ولم يرده إلى أصله ، كما لم يردوا «عييدا» إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا : «عويدا» لأنه من «عاد ـ يعود» ، قالوا : لئلا يلتبس بعود الخشب. وفي هذا نظر ؛ لأن النحاة قالوا : من اعتقد كونه من «أهل» صغره على «أهيل» ، ومن اعتقد كونه من «آل ـ يئول» أي : رجع صغّره على «أويل».

وذهب «النحاس» إلى أن أصله «أهل» أيضا ، إلا أنه قلب الهاء ألفا من غير أن يقلبها أولا همزة ، وتصغيره عنده على «أهيل».

وقال الكسائيّ : «أويل» وقد تقدّم ما فيه.

ومنهم من قال أصله : «أول» مشتق من «آل ـ يئول» ، أي : رجع ؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله ، فتحركت الواو ، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، وتصغيره على «أويل» نحو : «مال» و «مويل» و «باب» و «بويب» ويعزى هذا للكسائيّ.

وجمعه : «آلون» و «آلين» وهذا شاذّ ك «أهلين» ؛ لأنه ليس بصفة ولا علم.

قال ابن كيسان : إذا جمعت «آلا» قلت : «آلون» ، فإن جمعت «آلا» الذي هو [السّراب](٤) قلت : «آوال» ليس إلّا ؛ مثل : «مال وأموال».

واختلف فيه فقيل : «آل» الرجل قرابته كأهله.

وقيل : من كان من شيعته ، وإن لم يكن قريبا منه ؛ قال : [الطويل]

٤٧١ ـ فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه

عليّ وعبّاس وآل أبي بكر (٥)

ولهذا قيل : آل النبي من آمن به إلى آخر الدّهر ، ومن لم يؤمن به فليس بآله ، وإن كان نسيبا له ، كأبي لهب وأبي طالب ، ونقل بعضهم أن «الرّاغب» ذكر في «المفردات» أن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : الثواب.

(٥) البيت للحطيئة ينظر ديوانه : (٢٢٣) ، ومجمع البيان : ١ / ١٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢١٧.


«الآل» يطلق على الرّجل نفسه.

واختلف فيه النّحاة : هل يضاف إلى الضمير أم لا؟

فذهب الكسائي ، وأبو بكر الزبيدي (١) ، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز ، فلا يجوز اللهم صلّ على محمّد وآله ، بل وعلى آل محمد ، وذهب جماعة ، منهم ابن السّيد (٢) إلى جوازه ؛ واستدلّوا بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سئل فقيل : يا رسول الله من آلك؟ فقال : «آلي كلّ تقيّ إلى يوم القيامة» (٣) ؛ وأنشدوا قول [عبد المطلب](٤) : [الكامل]

٤٧٢ ـ لاهمّ إنّ العبد يم

نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصّلي

ب وعابديه اليوم آلك (٥)

[وقول ندبة (٦) : [الطويل]

٤٧٣ ـ أنا الفارس الحامي حقيقة والدي

وآلي كما تحمي حقيقة آلكا (٧)](٨)

واختلفوا أيضا فيه : هل يضاف إلى غير العقلاء فيقال : آل «المدينة» وآل «مكة»؟

__________________

(١) محمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزبيدي الأندلسي الإشبيلي أبو بكر ، عالم باللغة والأدب شاعر أصل سلفه من حمص (في الشام) ولد في ٣١٦ ه‍ نشأ واشتهر في إشبيلية وطلبه الحكم المستنصر بالله إلى قرطبة فأدب فيها ولي عهده هشاما «المؤيد بالله» ، ولي قضاء إشبيلية فاستقر وتوفي بها سنة ٣٧٩ ه‍ من تصانيفه الواضح في النحو وطبقات النحويين واللغويين ، ولحن العامة ومختصر العين في اللغة والاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية.

ينظر الأعلام : ٦ / ٨٢ (٤٣١) ، بغية الملتمس : ٥٦ ، وحلى المغرب : ١ / ٢٥٠ ، بغية الوعاة : ٣٤ ، الوفيات : ١ / ٥١٤.

(٢) عبد الله بن محمد بن السيّد ، أبو محمد : من العلماء باللغة والأدب. ولد ونشأ في بطليوس في الأندلس ، وانتقل إلى بلنسية فسكنها ، من كتبه «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لابن قتيبة» ، «المسائل والأجوبة» ، و «الحدائق» في أصول الدين ، وله كتب كثيرة.

ولد سنة ٤٤٤ ه‍ ، وتوفي سنة ٥٢١ ه‍.

انظر بغية الملتمس : ٣٢٤ ، ابن خلكان : ١ / ٢٦٥ ، البداية والنهاية : ١٢ / ١٨٩ ، الأعلام : ٣ / ١٢٣.

(٣) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ١٧) وقال : قال السيوطي : لا أعرفه. والحديث رواه الديلمي كما في «كشف الخفاء» ولفظه آل محمد كل تقي وقرأ «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ».

ورواه الطبراني في «الأوسط» كما في «كنز العمال» (٥٦٢٤) عن أنس بن مالك ولفظه : آل محمد كل تقي.

(٤) في أ : أبي طالب.

(٥) ينظر الأشباه والنظائر : ١ / ٢٠٧ ، والدرر : ٥ / ٣١ ، وشرح الأشموني : ١ / ٥ ، الممتع في التصريف : ١ / ٣٤٩ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، واللسان (حلل) والدر المصون : ١ / ٢١٨ ، القرطبي : ١ / ٢٦٠.

(٦) هو خفاف بن ندبة شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.

(٧) ينظر ديوانه قصيدة : رقم ٩ ص ٦٧ ، الخزانة ٢ / ٤٧٠ ، ونصه :

أنا الفارس الحامي الحقيقة والدي

به تدرك الأوتار قدما كذلك

(٨) سقط في ب.


فمنعه الجمهور ، وقال «الأخفش» : قد سمعناه في البلدان ، قالوا : أهل «المدينة» وآل «المدينة» ولا يضاف إلّا إلى من له قدر وخطر ، فلا يقال : آل الإسكاف ولا آل الحجّام ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنى ولفظا ، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو «أهل» هذا كلّه في «آل» مرادا به الأهل ، أما «آل» الذي هو السّراب فليس مما نحن فيه في شيء ، وتصغيره «أويل» نحو : «مال ومويل» وتقدم جمعه.

قوله : (فِرْعَوْنَ) خفض بالإضافة ، ولكنه لا ينصرف للعجمة والتعريف.

واختلف فيه : هل هو علم شخص ، أو علم جنس ؛ فإنه يقال لكلّ [من](١) ملك القبط و «مصر» : فرعون ، مثل كسرى لكل من ملك الفرس ، وقيصر [وهرقل] لكل من ملك الروم ، ويقال لكل من ملك «الهند» : نهمز (٢) ، وقيل : يعفور ، ويقال لمن ملك الصّابئة : نمروذ ، ولمن ملك البربر : جالوت ، [ولمن ملك اليهود فيطون ، والمعروف شالخ ولمن ملك فرغانة الإخشيد](٣) ، ولمن ملك العرب من قبل العجم النّعمان ؛ ولمن ملك «الصين» يعفو ، وهرقل لكل من ملك الروم ، والقيل لكل من ملك «حمير» ، والنّجاشي لكل من ملك «الحبشة» ، وبطليموس لكل من ملك «اليونان» وتبّع لمن ملك «اليمن» ، وخاقان لمن ملك التّرك.

وقال «الزمخشري» : وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر للروم ، ولعتوّ الفراعنة اشتقوا منه تفرعن فلان ، إذا عتا وتجبّر ؛ وفي ملح بعضهم : [الكامل]

٤٧٤ ـ قد جاءه الموسى [الكلوم] (٤) فزاد في

أقصى تفرعنه وفرط عرامه (٥)

وقال «المسعودي» (٦) : «لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية».

وظاهر كلام «الجوهري» أنه مشتق من معنى العتو ، فإنه قال : «والعتاة : الفراعنة ، وقد تفرعن ، وهو ذو فرعنة ، أي دهاء ومكر».

وفي الحديث : «أخذنا فرعون هذه الأمّة» إلا أن [يريد](٧) معنى ما قاله الزمخشري المتقدم.

__________________

(١) في أ : كافر.

(٢) في أ : نهمش.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : الكليم.

(٥) ينظر البيت في شواهد الكشاف : ١ / ٢٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٢١٨.

(٦) علي بن الحسين بن علي أبو الحسن المسعودي من ذرية عبد الله بن مسعود : مؤرخ ، رحالة ، بحاثة ، من أهل بغداد أقام بمصر وتوفي فيها. قال الذهبي «عداده في أهل بغداد ، نزل مصر مدة ، وكان معتزليا» من تصانيفه «مروج الذهب» و «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان» و «الاستذكار بما مر في سالف الأعصار» وأخبار الأمم من العرب والعجم وخزائن الملوك وسر العالمين.

ينظر الأعلام : ٤ / ٢٧٧ (٢١٣٦) ، فوات الوفيات : ٢ / ٤٥ ، لسان الميزان : ٤ / ٢٢٤ ، النجوم الزاهرة : ٣ / ٣١٥.

(٧) في أ : يقال.


واسم فرعون موسى : قابوس في قول أهل الكتاب ، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق ووهب : «اسمه الوليد بن مصعب بن الريان (١) ، ويكنى أبا مرّة». وحكى ابن جريج «أن» اسمه مصعب بن ريّان ، وهو من بني عمليق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام.

وذكر ابن الخطيب أن [ابن](٢) وهب قال : إن فرعون يوسف ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ هو فرعون موسى ، لقول موسى عليه الصّلاة والسلام. (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٣٤] وقال : هذا غير صحيح ، إذ كان بين دخول يوسف «مصر» ، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة.

وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، فمشى قول ابن وهب.

وقال محمد بن إسحاق : «هو غير فرعون يوسف وإن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد».

قوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) هذه الجملة في محل نصب على الحال من «آل» أي : حال كونهم سائمين ، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك ، وتكون حكاية حال ماضية ، قال ـ بمعناه ـ ابن عطية ، وليس بظاهر.

وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم يسومونكم ، ولا حاجة إليه أيضا.

و «كم» مفعول أول ، و «سوء» مفعول ثان ؛ لأن «سام» يتعدّى لاثنين ك «أعطى» ، ومعناه أولاه كذا ، وألزمه إياه ؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [الوافر]

٤٧٥ ـ إذا ما الملك سام النّاس خسفا

أبينا أن نقرّ الخسف فينا (٣)

قال الزمخشري (٤) : «وأصله من سام السّلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ، ويزيدونكم عليه».

وقيل أصل السّوم : الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. والمعنى : يديمون تعذيبكم.

وسوء العذاب : أشدّه وأقطعه ، وإن كان كله سيّئا ، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره.

والسوء : كل ما يعم الإنسان من أمر دنيوي وأخروي ، وهو في الأصل مصدر ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٨) وفي تاريخه (١ / ١٩٩) وعن ابن إسحاق : أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت من معلقته المشهورة ينظر شرح المعلقات للتبريزي : (٣٩٥) ، والشنقيطي (١٠٨) ، والدر المصون : ١ / ٢١٨ ، القرطبي : ١ / ٢٦١.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٣٨.


ويؤنث بالألف ، قال تعالى : (أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠].

[وأجاز بعضهم أن يكون «سوء» نعتا لمصدر محذوف تقديره : يسومونكم سوما سيئا ، كذا قدره.

وقال أيضا :](١) «ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب» ، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو : «قعد جلوسا» ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم.

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «السّوء» على خمسة عشر وجها :

الأول : بمعنى «الشدة» كهذه الآية ، أي : شدة العذاب.

الثاني : بمعنى «العقر» قال تعالى : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [هود : ٦٤].

الثالث : «الزّنا» قال تعالى : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١].

الرابع : «المرض» قال تعالى : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [طه : ٢٢].

الخامس : «اللّعنة» قال تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [النحل : ٢٧].

السادس : «العذاب» قال تعالى : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) [الزمر : ٦١].

السابع : «الشّرك» قال تعالى : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [النحل : ٢٨].

الثامن : «العصيان» قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [النحل: ١١٩].

التاسع : «الشّتم» قال تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] أي : بالشّتم ، ومثله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٤٨] أي : الشّتم.

العاشر : «الجنون» قال تعالى : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] أي بجنون.

الحادي عشر : «اليأس» قال تعالى : (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] أي : يأس الدار.

الثاني عشر : «المرض» قال تعالى : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل : ٦٢] يعني : المرض.

الثالث عشر : «الفقر» قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨] أي : الفقر.

الرابع عشر : «الهزيمة» قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] أي : هزيمة.

الخامس عشر : «السوء» : الصيد ، قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) [الأعراف : ١٦٥] أي : الصيد.

__________________

(١) سقط في أ.


فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل

قال «محمد بن إسحاق» : جعلهم خولا وخدما له ، وصنفهم في [أعماله](١) فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ، وصنف يزرعون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن في فرع من أعماله ، فإنه يضع عليه جزية يؤديها.

وقال «السّدي» : جعلهم في الأعمال الصّعبة الشديدة مثل : كنس المبرز ، وعمل الطّين ، ونحت الجبال.

قوله : (يُذَبِّحُونَ) هذه الجملة يحتمل أن تكون مفسّرة للجملة قبلها ، وتفسيرها لها على وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، كأنه قيل : كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل : يذبحون.

الثاني : أن تكون بدلا منها ؛ كقوله : [الطويل]

٤٧٦ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

 ..........(٢)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨] ، ولذلك ترك العاطف ، ويحتمل أن تكون حالا ثانية ، لا على أنها بدل من الأولى.

وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع «أبو البقاء» هذا الوجه محتجا بأن الحال تشبه المفعول به ، ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف ، وهذا بناء منه على أحد القولين ، ويحتمل أن تكون حالا من فاعل «يسومونكم».

وقرىء (٣) : «يذبحون» بالتخفيف ، والأولى قراءة الجماعة ؛ لأن الذبح متكرر.

فإن قيل : لم لم يؤت هنا بواو العطف كما أتي بها في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟

فالجواب : أنه أريد هنا التّفسير كما تقدّم ، وفي سورة إبراهيم معناه : يعذّبونكم بالذّبح وبغير الذّبح.

وقيل : يجوز أن تكون «الواو» زائدة ، فتكون كآية «البقرة» ؛ واستدلّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله : [الطويل]

٤٧٧ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

 ..........(٤)

__________________

(١) في ب : الأعمال.

(٢) تقدم برقم (١٨٣).

(٣) قرأ بها الزهري وابن محيصن.

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٥١ ، والدر المصون : ١ / ٢١٩ ، والقرطبي : ١ / ٢٦٢ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٠.

(٤) صدر بيت لامرىء القيس من معلقته المشهورة وعجزه :

بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل


يريد : انتحى. ووله : [المتقارب]

٤٧٨ ـ إلى الملك القزم وابن الهمام

 .......... (١)

والجواب الأول أصح.

قال ابن الخطيب : المقصود من ذكر حرف العطف في سورة «إبراهيم» عليه الصلاة والسلام أنه تعالى قال قبل هذه الآية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَالظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا [بتعداد](٢) النعم ، فوجب أن يكون المراد من قوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) نوعا من العذاب ، والمراد من قوله : (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) نوعا آخر ، فتحصل منهما نوعان من النعمة ، فلهذا وجب ذكر حرف العطف ، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلّا بتذكر جنس النعمة ، وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ،) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره ، فإنّ التذكر لجنس النعمة حاصل.

«والذّبح» أصله الشّقّ ، ومنه المذابح لأخاديد السّيول في الأرض.

والذّبح : المذبوح «والذّباح» : تشقق في [أصول](٣) الأصابع. والمذابح ـ أيضا : المحاريب.

وأما «أبناء» جمع «ابن» ، رجع به إلى أصله ، فردّت لامه ، إما الواو أو الياء حسبما تقدم.

والأصل : «أبناو» أو «أبناي» ، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة ، والمراد بهم : الأطفال عند أكثر المفسرين.

وقيل : الرجال ، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا ؛ لأنه ذكرهم في مقابلة النساء.

و «النّساء» : اسم للبالغات ، فكذا المراد من الأبناء الرّجال البالغون.

قالوا : إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخافون منهم الخروج عليهم والتجمّع لإفساد أمره.

والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره ، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرّجال على كثرتهم ، وأيضا فكانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشّاقة ، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في التّابوت حال صغره معنى.

__________________

ـ ينظر ديوانه : ص ١٥ ، وأدب الكاتب : ص ٣٥٣ والأزهية : ص ٢٣٤ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ولسان العرب «جوز» والمنصف : ٣ / ٤١ ، ورصف المباني : ص ٤٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٢١٩.

(١) تقدم برقم (١٢٨).

(٢) في ب : بتعديد.

(٣) في ب : بطون.


وأما قولهم : لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان :

الأول : أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولة لم يصيروا رجالا ، فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم.

أما البنات لما لم يقتلن ، بل وصلن إلى حدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتبارا بالمآل.

الثاني : قال بعضهم : المراد بقوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يفتّشون حياء المرأة أي : فرجها هل بها حمل أم لا؟

فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء

ذكروا في سبب قتل الأبناء وجوها :

أحدها : قال ابن عباس : وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا فخافوا ذلك ، واتفقت كلمتهم على إعداد رجال يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه فلما رأوا أكابرهم يموتون ، وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فلا يجدون من يباشر الأعمال الشّاقة ، فصاروا يقتلون عاما دون عام (١).

وثانيها : قال السّدي : إن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت «مصر» ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة ، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يديه.

وثالثها : أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك.

قال ابن الخطيب (٢) : والأقرب هو الأول ؛ لأن الذي يستفاد من علم التعبير ، وعلم النجوم لا يكون أمرا مفصلا ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزا ، بل يكون أمرا مجملا ، والظاهر من حال العاقل ألّا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه.

فإن قيل : إنّ فرعون كان كافرا بالله فبأن يكون كافرا بالرسل أولى ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه الصّلاة والسلام عنه؟

فالجواب : لعلّ فرعون كان عارفا بالله ، وبصدق الأنبياء إلّا أنه كان كافرا كفر عناد أو يقال : إنه كان شاكّا متحيرا في دينه ، وكان يجوّز صدق إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فأقدم على ذلك الفعل احتياطا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٢) وفي تاريخه (١ / ٢٠٢) مع اختلاف يسير في اللفظ عن ابن عباس موقوفا.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٦٥.


قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ) عطف على ما قبله ، وأصله : «يستحييون» ، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها ، وقد تقدم بيانه فوزنه : «يستفعون».

والمراد بالنّساء : الأطفال ، وإنما عبر عنهم بالنساء ، لمآلهن إلى ذلك.

وقيل : المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء. ولام «النساء» الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهو : نسوان ونسوة.

وهل «نساء» جمع «نسوة» أو جمع «امرأة» من حيث المعنى؟ قولان ، ويحتمل أن تكون ياء اشتقاقا من النّسيان.

قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الجار والمجرور خبر مقدم ، و «بلاء» مبتدأ. ولامه واو لظهورها في الفعل نحو : بلوته ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) [البقرة : ١٥٥] ، فأبدلت همزة. والبلاء يكون في الخير والشر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ؛ لأن الابتلاء امتحان ، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا ، وبالشر ليصبروا.

وقال ابن كيسان : «أبلاه (١) وبلاه في الخير والشر» ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٧٩ ـ جزى الله بالخيرات ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو (٢)

فجمع بين اللغتين.

وقيل : الأكثر في الخير أبليته ، وفي الشر بلوته ، وفي الاختبار ابتليته وبلوته.

قال النحاس : فاسم الإشارة من قوله : (وَفِي ذلِكُمْ) يجوز أن يكون إشارة إلى الإنجاء وهو خير محبوب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح ، وهو شر مكروه.

وقال الزمخشري : والبلاء : المحنة إن أشير ب «ذلكم» إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وهو حسن.

وقال ابن عطية : «ذلكم» إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خير فهو كفرد حاضر ، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنجاء ، والذبح ، ولهذا قال بعده : «ويكون البلاء في الخير والشر» ، وهذا غير بعيد ؛ ومثله : [الرمل]

٤٨٠ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

 .......... (٣)

__________________

(١) في أ : ابتلاه.

(٢) البيت لزهير. ينظر ديوانه : (١٠٩) ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٠٢ ، الطبري : ٢ / ٤٩ ، الكشاف : ٤ / ٤٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٠.

(٣) صدر بيت لعبد الله بن الزبعرى من قصيدة قالها يوم أحد وعجزه :

وكلا ذلك وجه وقبل

ينظر أوضح المسالك : ١ / ٣٩٣ ، الأشموني : ٢ / ٢٦٠ ، شرح ابن عقيل : ٢ / ٦٢ ، الدرر : ٢ / ٦٠ ، الهمع : ٢ / ٥ ، التصريح : ٢ / ٤٣ ، المغني : ١ / ٢٠٣ ، شرح المفصل : ٣ / ٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٠.


وكل ذلك وجه.

وقيل : و (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلّق ب (بَلاءٌ ،) و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا.

وقال أبو البقاء : هو في موضع رفع صفة ل «بلاء» ، فيتعلّق بمحذوف. وفي هذا نظر ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان ، إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، قدّمت الصريحة ، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورة ، و «عظيم» صفة ل «بلاء» وقد تقدم معناه مستوفى [في أول السورة](١).

قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٠)

«إذ» في موضع نصب ، و «الفرق» [والفلق](٢) واحد ، وهو الفصل والتمييز ، ومنه: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] أي : فصّلناه وميّزناه بالقرآن والبيان.

والقرآن فرقان لتمييزه بين الحق والباطل.

وقرأ الزّهري (٣) : «فرّقنا» بتشديد الراء. أي : جعلناه فرقا.

قوله : «بكم» الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة ، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشّيئين بما توسّط بينهما.

وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون المعدية كقولك : «ذهبت بزيد» ، فيكون التقدير : أفرقناكم البحر ، ويكون بمعنى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [الأعراف : ١٣٨]. وهذا أقرب من الأول.

ويجوز أن تكون الباء للسببية أي : بسببكم ، ويجوز أن تكون للحال من «البحر» أي : فرقناه ملتبسا بكم ، ونظره الزمخشري بقوله : : [الوافر]

٤٨١ ـ ..........

تدوس بنا [الجماجم](٤) والتّريبا (٥)

أي : تدوسها ونحن راكبوها.

قال أبو البقاء : أي : فرقنا البحر وأنتم به ، فيكون إما حالا مقدرة أو مقارنة ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأنه لم يكن مفروقا إلا بهم حال كونهم سالكين فيه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : والفالق.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٥٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٤١ ، والقرطبي : ١ / ٢٦٤.

(٤) في أ : الجماعة.

(٥) عجز بيت للمتنبي وصدره :

فمرت غير نافرة عليهم

ينظر ديوانه : ١ / ٢٦٥ ، البحر المحيط : ١ / ٣٥٥ ، حاشية القطب على الكشاف : ٢ / ١٠٧١ ، الكشاف : ٤ / ٣٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢١


وقال أيضا : و «بكم» في موضع نصب مفعول ثان ل «فرقنا» ، و «البحر» مفعول أول ، والباء هنا في معنى اللام.

وفيه نظر ؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللام ، فتكون لام العلّة ، والمجرور بلام العلة لا يقال : إنه مفعول ثان ، لو قلت : ضربت زيدا لأجلك ، لا يقول النحوي : «ضرب» يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه ، وللآخر بحرف الجر.

و «البحر» أصله : الشّق الواسع ، ومنه «البحيرة» لشقّ أذنها ، وفيه الخلاف المتقدّم في «النهر» في كونه حقيقة في الماء ، أو في الأخدود؟

ويقال : فرس بحر أي : واسع الجري ، ويقال : أبحر الماء : ملح ؛ قال نصيب : [الطويل]

٤٨٢ ـ وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني

إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب (١)

والبحر يكنى إياه ، وقد يطلق على العذب بحرا ، وهو مختص بالماء الملح ، وفيه خلاف. و «البحر» : البلدة ، يقال : هذه بحرتنا ، أي : بلدتنا.

و «البحر» : السّلال يصيب الإنسان. ويقولون : لقيته صحرة بحرة ، أي : بارزا مكشوفا.

قوله : (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي : أخرجناكم منه ، يقال : نجوت من كذا نجاء ، ممدودا ، ونجاة ، مقصورا ، والصدق منجاة ، وأنجيت غيري ونجّيته ، وقرىء بهما : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) [البقرة : ٤٩] «فأنجيناكم».

قوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ).

«الغرق» : الرسوب في الماء ، يقال : غرق في الماء غرقا ، فهو غرق وغارق أيضا ، وأغرق غيره وغرّقه ، فهو مغرّق وغريق ؛ قال أبو النّجم : [الرجز]

٤٨٣ ـ من بين مقتول وطاف غارق (٢)

ويطلق على القتل بأي نوع كان ؛ قال الأعشى : [الطويل]

٤٨٤ ـ ..........

ألا ليت قيسا غرّقته القوابل (٣)

وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في دم السّلى عام القحط ، ذكرا كان أو أنثى

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٦٦ ، ولسان العرب (خرف) (بحر) ، الأشباه والنظائر : ٥ / ١١٠ ، القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢١.

(٢) ينظر القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٢١.

(٣) عجز بيت وصدره :

أطورين في عام غزاة ورحلة

ينظر ديوانه : (١٨٣) ، القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٢١.


حتى يموت ، فهذا الأصل ، ثم جعل كل قتل تغريقا ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

٤٨٥ ـ إذا غرّقت أرباضها ثني بكرة

بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها (١)

والأرباض : الحبال. والبكرة : النّاقة. وثنيها : بطنها الثّاني ، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من (آلَ فِرْعَوْنَ) أي : وأنتم تنظرون إغراقكم ، والعامل «أغرقنا» ، ويجوز أن يكون حالا من مفعول «أنجيناكم».

والنّظر يحتمل أن يكون بالبصر ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضا لقربهم ؛ وقيل : إن آل فرعون طغوا على الماء ، فنظروا إليهم. وأن يكون بالبصيرة والاعتبار.

وقيل المعنى : وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم ، ولذلك لم يذكر له مفعول.

فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه

قال بعض المفسرين : والبحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو «نيل مصر» ، وقيل : بحر «قلزم» طرف من بحر «فارس».

وقال قتادة : بحر من وراء «مصر» يقال له : «إسافة» واختلفوا هل تفرق البحر عرضا أو طولا؟

فقيل : إنه [تفرق](٢) عرضا وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البرّ الذي كانوا فيه أولا. وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين ، فإنهم دخلوا فيه أولا عرضا ، ثم مشوا فيه طولا ، وخرجوا من برّ الطول ، وتبعهم فرعون فالتطم عليه البحر ، فغرق هو وجنوده ، وصار بنو إسرائيل في برّ الطول ، وإلا فأي من يقابل بر «القلزم» خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى «الطّور».

ومن قال : إن البحر هو النيل فلا إشكال ؛ لأنهم كانوا في «مصر القديمة» ، وجاءوا إلى شاطىء النيل ، فانفرق لهم ، وخرجوا إلى برّ الشرق ، وذهبوا إلى «برية الطور».

فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة

اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعما كثيرة في الدنيا والدين في حقّ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبني إسرائيل.

أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المضيق ، ومن ورائهم فرعون وجنوده ،

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١ / ٧٠١) ، إصلاح المنطق : (٧٢) ، القرطبي : ١ / ٣٨٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٢.

(٢) في أ : الفرق المقابل لهم ، وقيل : لأنهم مشوا فيه ، وعلى هذا فيكون قد تفرّق ...


وقدّامهم البحر ، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم ، وإن ساروا أغرقوا ، فلا خوف أعظم من ذلك ، ثم إن الله ـ تعالى ـ نجّاهم بغرق البحر ، فلا نعمة أعظم من ذلك ، وأيضا فإنهم شاهدوا هلاك أعدائهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وخلّصهم من أيديهم ، ولو أنه ـ تعالى ـ خلّص موسى وقومه من تلك الحالة ، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقيا ؛ لأنهم ربّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة ، ولكن الله ـ تعالى ـ حسم عنهم مادة الخوف.

وأما نعم الدّين فهي أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشّكوك والشّبهات ، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصّانع الحكيم ، وعلى صدق موسى تقرّب من العلم الضروري ، فكأنه ـ تعالى ـ رفع عنهم تحمّل النظر الدقيق ، والاستدلال ، وأيضا لما عاينوا ذلك صار داعيا لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى ، والإقدام على تكذيب فرعون ، وأيضا أنهم عرفوا أنّ الأمور بيد الله ، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون ، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل ، ثم إنّ الله ـ تعالى ـ في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا ، والذليل عزيزا ، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدّنيا ، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق ، والتوكّل عليه في كل الأمور.

فإن قيل : إن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلا فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادر عالم مخالف لسائر القادرين ، فكيف بقي على الكفر؟

والجواب : لعلّه اعتقد أن ذلك أيضا السحر ، كما قال حين ألقى موسى عصاه ، وأخرج يده.

يروى أن فرعون كان راكبا حصانا ، فلما أراد العبور في البحر خلف بني إسرائيل جفل الحصان ، فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان ، فلمّا اقتحموا البحر ، وميكائيل خلفهم يسوقهم حتى لم يبق منهم أحد ، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالتطم عليهم.

واعلم أن هنا لطائف :

أولها : أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم ، فموسى عليه الصّلاة والسلام لما نجّي من الغرق حين ألقي في اليمّ ، كذلك [نجّيت] أمته من الغرق.

ثانيها : أن فرعون ادّعى العلو والربوبية ، فأغرق ونزل إلى الدّرك الأسفل.

ثالثها : أنه لما ذبح أبناءهم ، والذبح هو إنهار الدم ، أغرقه الله في النّهر.

فصل في فضل يوم عاشوراء

روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم «المدينة» ، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا اليوم الذي تصومونه» فقالوا : هذا يوم


عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن أحقّ وأولى بموسى منكم» ، فصامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «أنتم أحقّ بموسى منهم فصوموا» (١).

فظاهر هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما صامه اقتداء بموسى ـ عليه‌السلام ـ على ما أخبره اليهود ، وليس كذلك ، لما روته عائشة قالت : «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم «المدينة» صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه». متّفق عليه.

فإن قيل : يحتمل أن تكون قريش إنما صامته ؛ لأن اليهود أخبروهم ، وكانوا عندهم أصحاب علم ، فصامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك في الجاهلية ، أي ب «مكة» ، فلما قدم «المدينة» ، ووجد اليهود يصومونه قال : «نحن أحقّ وأولى بموسى منكم» ، فصامه اتّباعا لموسى.

فالجواب : أن هذا مبني على أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان متعبدا بشريعة (٢) موسى عليه الصلاة والسلام ، وليس كذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٩٦) كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء حديث رقم (٢٠٠٤). ومسلم في الصحيح (٢ / ٧٩٦) كتاب الصيام (١٣) باب صوم يوم عاشوراء (١٩) حديث رقم (١٢٨ / ١١٣٠).

وأحمد في المسند (١ / ٢٩١ ، ٣١٠) ـ والبيهقي في السنن (٤ / ٢٨٦) وذكره الزيلعي في نصب الراية ٢ / ٤٥٤ ـ وابن كثير في التفسير ١ / ٢٩ والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٦٩ ، ٦ / ٣٤٤.

(٢) وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب :

أحدها : أنه كان متعبّدا بشرع قطعا ، ثم اختلفوا : فقيل : كان على شريعة آدم ـ عليه‌السلام ـ ؛ لأنه أول الشرائع. وقيل : نوح ؛ لقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [سورة الشورى : ١٣] وقيل : إبراهيم ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران : ٦٨] ، وحكاه الرافعي في «كتاب السير» عن صاحب «البيان» ، وأقرّه. وقال الواحدي : إنه الصحيح قال ابن القشيري في «المرشد» وعزي للشّافعي وقال الأستاذ أبو منصور : وبه نقول. وحكاه صاحب «المصادر» عن أكثر أصحاب أبي حنيفة ، وإليه أشار أبو علي الجبّائي. وقيل : على شريعة موسى. وقيل : عيسى ؛ لأنه أقرب الأنبياء إليه ؛ ولأنه الناسخ المتأخر ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فيما حكاه الواحدي عنه. لكن قال ابن القشيري في «المرشد» : ميل الأستاذ أبي إسحاق إلى أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شرع من الشرائع ، ولا يقال : كان من أمة ذاك النبي ؛ كما يقال : كان على شرعه. (انتهى). وقيل : كان متعبدا بشريعة كل من قبله ، إلا ما نسخ واندرس ، حكاه صاحب «الملخّص». وقيل : يتعبد لا ملتزما دين واحد من المذكورين ، حكاه النووي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في زوائد «الروضة». وقيل : كان متعبدا بشرع ، ولكنّا لا ندري بشرع من تعبّد ، حكاه ابن القشيري.

والمذهب الثاني : أنه لم يكن قبل البعثة متعبّدا بشيء منها قطعا ، وحكاه في «المنخول» عن إجماع المعتزلة. وقال القاضي في «مختصر التقريب» ، وابن القشيري : هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين. ثم اختلفوا : فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلا ؛ إذ لو تعبد باتباع أحد ، لكان عصى من مبعثه ، بل كان ـ


قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٢)

قرأ أبو عمرو (١) ويعقوب : «وعدنا» هنا ، وما كان مثله ثلاثيا ، وقرأ الباقون : «واعدنا» بالألف ، واختار أبو عبيد قراءة أبي عمرو ، ورجّحها بأن المواعدة إنما تكون من البشر ، وأما الله عزوجل فهو المنفرد بالوعد والوعيد ، على هذا وجدنا القرآن نحو : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ،وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) [إبراهيم : ٢٢] ، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) [الأنفال : ٧].

ورجحه مكّي فقال : وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه «وعد» من الله تعالى لموسى ، وليس فيه «وعد» من موسى ، فوجب حمله على الواحد ، بظاهر النص.

ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحسن ، وأبي رجاء ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وعيسى بن عمر ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق ، ورجّحه أبو حاتم أيضا بأن قراءة العامة عندنا «وعدنا» بغير ألف ؛ لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين.

وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد ، وأبي حاتم ، ومكي بأن «المفاعلة» ـ هنا ـ صحيحة ، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه ، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه.

وقال القفال : «ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ـ تعالى ـ ويكون معناه يعاهد الله

__________________

ـ على شريعة العقل. قال ابن القشيري : وهذا باطل ؛ إذ ليس للعقل شريعة ، وذهبت عصبة أهل الحق إلى أنه لم يقع ، ولكنه ممتنع عقلا. قال القاضي : وهذا نرتضيه وننصره ؛ لأنه لو كان على دين لنقل ، ولذكره ـ عليه‌السلام ـ ؛ إذ لا يظن به الكتمان ، وعارض ذلك إمام الحرمين وقال : لو لم يكن على دين أصلا لنقل ؛ فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي (قال) : فقد تعارض الأمران ، والوجه أن يقال : كانت العادة انخرقت في أمور الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، منها : انصراف همّ الناس عن أمر دينه ، والبحث عنه.

والمذهب الثالث : التوقف. وبه قال إمام الحرمين ، وابن القشيري ، والكيا ، والآمدي ، والشريف المرتضى في «الذريعة» ، واختاره النووي في «الروضة» ؛ إذ ليس فيه دلالة عقل ، ولا ثبت فيه نص ولا إجماع. وقال ابن القشيري في «المرشد» : كل هذه أقوال متعارضة ، وليس فيها دلالة قاطعة ، والعقل يجوّز ذلك ، لكن أين السمع فيه؟! ثم الواقفية انقسموا : فقيل : نعلم أنه كان متعبدا ونتوقف في عين ما كان متعبدا به ، ومنهم من توقف في الأصل ؛ فجوز أن يكون وألا يكون.

ينظر البحر المحيط للزركشي : ٦ / ٣٩ ، التمهيد للأسنوي : ٤٤١ ، المنخول للغزالي : ٢٣١ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني : ٣٦٩ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ٥ / ١٤٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٣٩.

(١) وبها قرأ أبو جعفر ، ووافقه اليزيدي وابن محيصن.

انظر شرح الطيبة : ٤ / ٢٣ ـ ٢٤ ، وحجة القراءات : ٩٦ ، والعنوان : ٦٩ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٥٦ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩١ ، وشرح شعلة : ٢٦١.


تعالى» ، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة : ٧٥] إلى أن قال : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) [التوبة : ٧٧].

وقال مكّي : المواعدة أصلا من اثنين ، وقد تأتي بمعنى «فعل» نحو : «طارقت النّعل» فجعل القراءتين بمعنى واحد.

وقال الكسائي : ليس قول الله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [النور : ٥٥] من هذا الباب في شيء ؛ لأن (واعَدْنا مُوسى) إنما هو من باب الموافاة ، وليس من الوعد في شيء ، وإنما هو من قولك : «موعدك يوم كذا» ، و «موضع كذا».

والفصيح في هذا أن يقال : «واعدته» ، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه : ٥٩].

وقال الزجاج (١) : «واعدنا» بالألف جيّد ؛ لأن الطّاعة في القبول بمنزلة المواعد ، فمن الله وعد ، ومن موسى قبول واتباع ، فجرى مجرى المواعدة.

وقال مكّي أيضا : «والاختيار «واعدنا» بالألف ؛ لأنه بمعنى «وعدنا» في أحد معنييه ؛ ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصحّ المفاعلة».

قال ابن الخطيب (٢) : الأقوى أن الله ـ تعالى ـ وعده الوحي ، وهو وعد الله المجيء للميقات.

قال الجوهري : «الميعاد : المواعدة والوقت والموضع».

ووعد يتعدّى لاثنين ، ف «موسى» مفعول أول ، و «أربعين» مفعول ثان ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : تمام أربعين ، ولا يجوز أن ينتصب على الظّرف ، لفساد المعنى ، وعلامة نصبه الياء ؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السّالم ، وهو في الأصل مفرد اسم جمع ، سمي به هذا العقد من العدد ، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات ؛ ومنه في أحد القولين : [الوافر]

٤٨٦ ـ وماذا يبتغي الشّعراء منّي

وقد جاوزت حدّ الأربعين (٣)

بكسر النون.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن ١ / ١٠٤.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣ / ٦٩.

(٣) البيت لسحيم بن وثيل ينظر إصلاح المنطق : ص ١٥٦ ، وتخليص الشواهد : ص ٧٤ ، وتذكرة النحاة : ص ٤٨٠ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٦١ ، ٦٢ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ٦٨ ، وحماسة البحتري : ص ١٣ ، والدرر : ١ / ١٤٠ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٦٢٧ ، وشرح التصريح : ١ / ٧٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٤١ ، وشرح المفصل : ٥ / ١١ ، ولسان العرب (نجذ) (ربع) ، والمقاصد النحوية : ١ / ١٩١ ، والأشباه والنظائر : ٧ / ٢٤٨ ، وأوضح المسالك : ١ / ٦١ ، وجواهر الأدب : ص ١٥٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ٣٨ ، ٣٩ ، والمقتضب : ٣ / ٣٣٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٤٩ ، والأصمعيات : (١٩) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٢.


و «ليلة» نصب على التّمييز ، والعقود التي هي من عشرين إلى تسعين ، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب.

و «موسى» هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، اسم أعجمي غير منصرف ، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصل : موشى ـ بالشين ـ لأن «ماء» بلغتهم يقال له : «مو» والشّجر يقال له : «شا» فعربته العرب فقالوا : موسى.

قالوا : إنما سمي به ؛ لأن أمه جعلته في التّابوت حين خافت عليه من فرعون ، وألقته في البحر ، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغسلن فوجدن التّابوت ، فأخذنه فسمي عليه الصلاة والسلام باسم المكان الّذي أصيب فيه وهو الماء والشجر ، وليس لموسى اسم النّبيّ عليه الصلاة والسلام اشتقاق ؛ لأنه أعجمي ؛ لأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب.

ومنهم من قال : إنه مشتق ، واختلفوا في اشتقاقه ، فقيل : هو «مفعل» (١) من أوسيت رأسه : إذا حلقته فهو موسى ، ك «أعطيته فهو معطى» ، فمن جعل اسمه عليه مشتقا قال : إنما سمي بذلك لصلعه.

وقيل : مشتق من «ماس ـ يميس» أي : يتبختر في مشيته ويتحرك ، فهو «فعلى» وكان عليه الصلاة والسلام كذلك ، فقلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها ك «موقن» من «اليقين».

والصحيح الأول ، وهذا الاشتقاق إنما هو في موسى آلة الحلق.

فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه

ذكر المفسرون أن موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال لبني إسرائيل : إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والتّرك ، فلما جاوز البحر ، وأغرق الله فرعون قالوا : يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود ، فخرج إلى الطّور في سبعين من [أخيار](٢) بني إسرائيل ، وصعدوا الجبل ، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فعدوا فيما ذكر المفسرون عشرين يوما وعشرين ليلة ، وقالوا : قد [أخلفنا](٣) موعده. فاتّخذوا العجل.

وقال أبو العالية : «بلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور».

فإن قيل : لم خصّ الليالي بالذّكر دون الأيّام؟

قيل : لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة وقع بها التاريخ ، فاللّيالي أول

__________________

(١) في أ : مشتق.

(٢) في ب : خيار.

(٣) في أ : خلفنا.


الشهور ، والأيام تبع لها ، وأيضا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معينا وقيل : لأن الظلمة سابقة على النّور ، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧].

فصل في معنى أربعين ليلة

قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) معناه : واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم : «اليوم أربعون يوما منذ خرج فلان» أي : تمام الأربعين ، والحاصل أنه حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وأيضا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معينا ، وهو الثلاثون من ذي القعدة ، والعشر الأول من ذي الحجّة ؛ لأن موسى عليه‌السلام كان عالما بأن المراد هو هذه الأربعون ، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر.

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل بعد انقضاء هذه الأربعين.

قال : وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار. فإن قيل : قوله ـ هاهنا ـ : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين.

وقوله في الأعراف : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين ، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحسن البصري فقال : ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ، ثم بعد ذلك وعده بعشر ، لكنه وعده أربعين ليلة جميعا ، وهو كقوله : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦].

قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) «اتّخذ» يتعدّى لاثنين ، والمفعول الثاني محذوف أي : اتخذتم العجل إلها ، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه «عمل» و «جعل» نحو : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦].

وقال بعضهم : «تخذ» و «اتّخذ» يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسبا ، فيتعديان لواحد ، واختلف في «اتّخذ» فقيل : هو «افتعل» من الأخذ ، والأصل : «ائتخذ» الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى ، فوجب قلبها ياء ك «إيمان» فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال ، فأبدلت تاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ك «اتّسر» من «اليسر» ، إلا أن هذا قليل في باب الهمز ؛ نحو : «اتّكل» من «الأكل» ، و «اتّزر» من «الإزار» ؛ وقال أبو عليّ : هو «افتعل» من تخذ يتخذ ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٨٧ ـ وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق (١)

__________________

(١) البيت للممزق العبدي ينظر لسان العرب (مخص) ، (نسف) ، (طرق) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٥٩٠ ، ـ


وقال تعالى : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(١) [الكهف : ٧٧] وهذا أسهل القولين.

والقرّاء على إدغام الذّال في التاء لقرب مخرجهما ، وابن كثير ، وعاصم (٢) في رواية حفص بالإظهار ، وهذا الخلاف جار في المفرد نحو : «اتّخذت» ، والجمع نحو : «اتّخذتم» ، وأتى في هذه الجملة ب «ثم» دلالة على أن الاتّخاذ كان بعد المواعدة بمهلة.

وقال ابن الخطيب : لما أنعم عليهم بهذه النّعمة ، وأتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التعجّب ، فهو كمن يقول : إني أحسنت إليك ، وفعلت كذا وكذا ، ثم إنك تقصدني بالسّوء والإيذاء ، ومثله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام : ٢] ؛ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤] ، (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) [الجاثية : ٨] ، (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥].

قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) متعلّق ب «اتّخذتم» ، و «من» لابتداء الغاية والضمير يعود على موسى ، ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : من بعد انطلاقه أو مضيّه.

وقال ابن عطية : «يعود على موسى».

وقيل : «على انطلاقه للمتكلّم».

وقيل : «على الوعد ، وفي كلامه بعض مناقشة ، فإن قوله : «وقيل يعود على انطلاقه» يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف ، وذلك غير متصوّر.

قوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) جملة حالية من فاعل «اتّخذتم».

و «العجل» ولد البقرة ، والعجول مثله ، والجمع عجاجيل ، والأنثى «عجلة» ، عن أبي الحسن ، وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته ، ذكره القرطبي ، وفيه نظر ؛ لأن العجل ولد البقرة كان موجودا قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العجل.

فصل

قال أهل التّفسير : لما ذهب موسى إلى الطّور ، وقال لأخيه هارون : اخلفني في قومي ، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحليّ الذي استعاروه من القبط قال لهم

__________________

ـ والأشباه والنظائر ١ / ٢٦٠ ، وتذكرة النحاة : ص ١٤٦ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٤٠٢ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٨٠ ، والأصمعيات : ص ١٦٥ ، والحيوان : ٢ / ٢٩٨ ، وللمثقب العبدي في لسان العرب (حدب) ، وجمهرة اللغة : ص ٣٨٨ ، ٥٤١ ، ٧٥٧ ، ٨٤٨ ، ١١٩٢ ، والخصائص : ٢ / ٢٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(١) وذلك في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، انظر السبعة : ٣٩٦.

(٢) وكذا أظهرها رويس ، وأدغمها أبو بكر بن عياش عن عاصم مع الباقين.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٦٨ ، والسبعة : ١٥٤ ، وإتحاف : ١ / ٣٩١.


هارون : إن هذه الثياب والحليّ لا تحلّ لكم ، وكان السّامريّ من مسيره مع موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى البحر ينظر إلى حافر دابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر.

قال بعض المفسرين : كان كلما نقل حافره يخضرّ مكانه نبتا ، فلهذا سمي فرس الحياة ، ولا يصيب شيئا إلا حيي ، فقال السّامريّ : «إن لهذا النبت نبأ ، فقبض منه قبضة ، وقيل : قبض من تراب حافره ، فذلك قوله : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦] ، ثم إن السّامري أخذ ما كان معهم من الذّهب ، فصوّر منه عجلا وألقى فيه تلك القبضة ، فخرج له صوت كالخوار ، فقال القوم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)

قال ابن عبّاس : «لأنه كان منافقا يظهر الإسلام ، وكان يعبد البقر ، وكان اسمه موسى

بن ظفر» (١).

وقيل : متّى.

وقيل : هارون ، وإنهم عبدوا العجل بعد مجاوزة النّهر لقوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

فإن قيل : كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك ، ولا يحسّ ، ولا يعقل مستحيل أن يكون إله السموات والأرض ، وهب أنه ظهر من خوار ، ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلها ، وأيضا فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبة من حدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى ـ عليه‌السلام ـ فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حدّ الضرورة ، لا يكون صدور الخوار من ذلك العجل يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلها.

قال ابن الخطيب (٢) : والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلّا على وجه واحد ، وهو أن السّامري ألقى إلى القوم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ إنما قدر على ما أتى به ؛ لأنه كان يتّخذ طلسمات على قوى ملكية ، وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات فقال السّامري للقوم : «وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى ـ عليه‌السلام ـ في الإتيان بالخوارق ، أو لعلّ القوم كانوا مجسّمة وحلولية ، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام ، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة.

فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل

في هذه القصة فوائد :

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٦٦ / ٦٧) وفي تاريخه : (١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠) عن ابن عباس.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٣ / ٧١.


أحدها : أنها تدلّ على أن أمّة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خير الأمم ؛ لأن أولئك اليهود مع مشاهدتهم تلك البراهين الباهرة اغترّوا بهذه الشبهة الرّكيكة ، وأمّا أمة محمد ـ عليه‌السلام ـ فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القرآن معجزا إلى الدّلائل الدقيقة لم يغترّوا بالشّبهات العظيمة ، وذلك يدلّ على أنهم أكمل عقلا ، وأدعى خاطرا من اليهود.

وثانيها : فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل ، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري.

وثالثها : تسلية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما كان شاهد من مشركي العرب ، واليهود ، والنّصارى من الخلاف ، فكأنه تعالى أمره بالصّبر على ذلك كما صبر موسى ـ عليه‌السلام ـ في هذه الواقعة المنكرة ، فإنهم بعد أن خلّصهم الله ـ تعالى ـ من فرعون ، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور موسى إلى ذلك الوقت ، اغترّوا بتلك الشبهة الرّكيكة ، وأن موسى ـ عليه‌السلام ـ صبر على ذلك ، فلأن يصبر محمد ـ عليه‌السلام ـ على أذيّة قومه أولى.

ورابعها : أن أشدّ الناس مجادلة وعداوة مع الرسول هم اليهود ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة ، والجهالة ، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بلادة ، وجهالة ، وغباوة ، هم البقر ، فجعلوه إلها ، فكيف هؤلاء الأخلاف.

فصل

في تفسير الظّلم وجهان :

الأول : قال فيه أبو مسلم : الظّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣].

والمعنى : أنهم تركوا عبادة الخلّاق المحيي المميت ، واشتغلوا بعبادة العجل ، فقد صاروا ناقصين في خيرين : الدين والدنيا.

والثّاني : أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه ، ودفع مضرّة أعظم منه ، والاستحقاق غير العرفي علمه أو ظنّه ، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلا ظلما ، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار ، قيل : «إنه ظالم لنفسه» ، وإن كان في الحال نفعا ولذّة كما قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

وقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظلما ومؤدّيا إلى عذاب النار سمّي ظلما.

فصل في ردّ شبهة للمعتزلة

استدلّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه :


أحدها : أنه ـ تعالى ـ ذمّهم عليها ، ولو كانت مخلوقة له لكانوا مطيعين بفعلها ؛ لأن الطّاعة عبارة عن فعل المراد.

وثانيها : لو كان العصيان مخلوق لله ـ تعالى ـ لكان الذّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود ، وأبيض ، وطويلا.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا تمسّك بفعل المدح والذم ، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ، وقد تقدّم.

قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

و «العفو» المحو ، ومنه : «عفا الله عنكم» أي : محا ذنوبكم ، والعافية : لأنها تمحو السّقم ، وعفت الريح الأثر ؛ قال : [الطويل]

٤٨٨ ـ فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل (٢)

وقيل : عفا كذا أي : كثر ، ومنه «وأعفوا اللّحى» فيكون من الأضداد.

وقال ابن عطية : «العفو تغطية الأثر ، وإذهاب الحال الأوّل من الذّنب أو غيره ، ولا يستعمل العفو بمعنى الصّفح إلا في الذنب». وهذا الذي قاله قريب من تفسير الغفران ؛ لأن الغفر التغطية والسّتر ، ومنه : المغفر ، ولكن قد فرّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ، فيجتمع معها ، وأمّا الغفران فلا يكون مع عقوبة.

وقال الرّاغب (٣) : «العفو» : القصد لتناول الشّيء ، يقال : عفاه واعتفاه أي : قصده متناولا ما عنده ، وعفت الريح التّراب قصدتها متناولة آثارها ، وعفت الديار كأنها قصدت نحو البلى وعفا النّبت والشّعر قصد تناول الزّيادة ، وعفوت عنك كأنه قصد إزالة ذنبه صارفا عنه ، وأعفيت كذا ، أي : تركته يعفو ويكثر ، ومنه «أعفوا اللّحى» فجعل القصد قدرا مشتركا في العفو ، وهذا ينفي كونه من الأضداد ، وهو كلام حسن ؛ وقال الشاعر [الطويل]

٤٨٩ ـ ..........

إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها (٤)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٧٢.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ٨ ، والأضداد : ٩٣ ، خزانة الأدب : ١١ / ٦ ، والدرر : ١ / ٢٨٥ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٦٣ ، مغني اللبيب : ١ / ٣٣١ ، والمنصف : ٣ / ٢٥ ، همع الهوامع : ١ / ٨٨ ، شرح المعلقات للتبريزي : (١٣) ، الشنقيطي : (٥٨) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٤.

(٣) ينظر المفردات : ٣٥١.

(٤) عجز بيت للأعشى وصدره :

فلا تصر ميني واسألي ما خليقتي

ينظر ديوانه : (٣٧١) ، الكشاف : ٤ / ٣٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.


معناه : أن العافي هنا ما يبقى في القدر من المرق ونحوه ، فإذا أراد أحد أن يستعير القدر يعلّل صاحبها بالعافي الذي فيها ، فالعافي فاعل ، ومن يستعيرها مفعول ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الرّاد في الحقيقة صاحب القدر بسبب العافي.

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية

قالت المعتزلة : «المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتّوبة ، وهي قتل بعضكم بعضا».

قالت ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أن قبول التوبة واجب عقلا ، ولو كان المراد ذلك لما جاز عدّه في معرض الإنعام ، لأن أداء الواجب لا يعدّ من باب الإنعام ، والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله ـ تعالى ـ عليهم.

الثاني : أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحقّ ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه ، وذلك لا يسمّى عفوا ، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم ، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفوا ، فكذلك هاهنا.

إذا ثبت هذا فنقول : لا شكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وإذا كان كذلك دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلا ، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أنه ـ تعالى ـ أسقط عقوبة من يجوز عقابه عقلا ، وشرعا ، وذلك أيضا خلاف قول المعتزلة ، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى ، فلأن يعفو عن فسّاق أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أنهم خير أمة أخرجت للنّاس كان أولى.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(تَشْكُرُونَ) في محل رفع خبر «لعلّ» ، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد.

وقال الراغب (٢) : هو تصور النعمة وإظهارها.

وقيل : هو مقلوب عن الكشر أي : الكشف ، وهو ضدّ الكفر ، فإنه تغطية النعمة وقيل: أصله من «عين شكرى» أي : ممتلئة ، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.

و «شكر» من الأفعال المتعدّية بنفسها تارة ، وبحرف الجرّ أخرى ، وليس أحدهما أصلا للآخر على الصحيح ، فمن المتعدّي بنفسه قول عمرو بن لحيّ (٣) : [الطويل]

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٧٢.

(٢) ينظر المفردات : ٢٧٢.

(٣) عمرو بن يحيى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي من قحطان. أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان كنيته أبو ثمامة وفي نسبه خلاف شديد ، وفي العلماء من يجزم بأنه مصري من عدنان لحديث انفرد به أبو هريرة. وهو جد «خزاعة» عند كثير من النسابين ورئيسها عند بعضهم ، ومعظمهم يسميه عمرو بن عامر بن يحيى ، ويقولون إنه نسب إلى جده وفيهم من يسميه عمرو بن ربيعة ويجعل لحيا لقبا لربيعة. ـ


٤٩٠ ـ هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم

فهلّا شكرت القوم إذ لم تقاتل (١)

ومن المتعدّي بحرف الجر قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢] ، وسيأتي هناك تحقيقه.

فصل في الرد على المعتزلة

قالت المعتزلة : إنه ـ تعالى ـ بيّن أنه عفا عنهم ، ولم يؤاخذهم لكي يشكروا ، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ لم يرد منهم إلا الشكر.

والجواب : لو أراد الله ـ تعالى ـ منهم الشكر لأراد ذلك ، إنما شرط أن يحصل للشّاكر داعية للشكر أولا بهذا الشرط ، والأول باطل ؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشّرط ، فإن كان هذا الشرط من العمد لزم افتقار الدّاعية إلى داعية أخرى ، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدّاعي حصل الشكر لا محالة ، وحيث لم يخلق الدّاعي استحال حصول الشكر ، وذلك ضد قول المعتزلة ، وإن أراد حصول الشّكر منه من غير هذه الداعية ، فقد أراد منه المحال ؛ لأن الفعل بدون الدواعي محال. فثبت أن الإشكال وارد عليهم.

قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

«الكتاب» و «الفرقان» مفعول ثان ل «آتينا».

وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد ، وهو التوراة؟

كأنه قيل : الجامع بين كونه كتابا منزّلا ، وفرقانا يفرّق بين الحقّ والباطل ، نحو : رأيت الغيث واللّيث ، وهو من باب قوله : [المتقارب]

٤٩١ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

 .......... (٢)

أو لأنهم لمّا اختلف اللفظ ، جاز ذلك ؛ كقوله : [الوافر]

٤٩٢ ـ فقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا (٣)

__________________

ـ ينظر الأعلام : ٥ / ٨٤ (٥٥١) ، الأصنام لابن الكلبي : ٨ واللباب : ١ / ٣٦٠ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٨٧ ـ ١٨٩ ، السيرة لابن هشام : ١ / ٢٧.

(١) ينظر البيت في معاني القرآن للفراء : ١ / ٩٢ ، الطبري : ٣ / ٢١٢ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

(٢) تقدم برقم (١٢٨).

(٣) البيت لعدي بن زيد ينظر ذيل ديوانه : ص ١٨٣ ، والأشباه والنظائر : ٣ / ٢١٣ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٩٣ ، والدرر : ٦ / ٧٣ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٧٦ ، ولسان العرب (مين) ، والشعر والشعراء : ١ / ٢٣٣ ، ومعاهد التنصيص : ١ / ٣١٠ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب : ١ / ٣٥٧ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٥ ، وصوابه :

فقدّدت الأديم لراهشيه

انظر الشعر والشعراء : ١ / ٣٣.


وقوله : [الطويل]

٤٩٣ ـ ..........

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (١)

وقوله عنترة (٢) : [الكامل]

٤٩٤ ـ ..........

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٣)

قال النحاس (٤) : «هذا إنما يجوز في الشّعر ، فالأحسن أن يراد بالفرقان ما علّمه الله موسى من الفرق بين الحقّ والباطل».

وقيل : «الواو زائدة» ، و «الفرقان» نعت للكتاب أو «الكتاب» التوراة ، و «الفرقان» ما فرّق به بين الكفر والإيمان ، كالآيات من نحو : العصا واليد أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع.

و «الفرقان» في الأصل مصدر مثل الغفران.

وقد تقدّم معناه في (فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠].

وقيل : «الفرقان» هنا اسم للقرآن ، قالوا : والتقدير : ولقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمّدا الفرقان.

قال النحاس (٥) : هذا خطأ في الإعراب والمعنى ، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله ، وهذا يخالفه ، وأمّا المعنى فلقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ)

__________________

(١) عجز بيت للحطيئة وصده :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

ينظر ديوانه : (٣٩) ، شرح المفصل : ١ / ١٠ ، أمالي ابن الشجري : ٢ / ٣٦ ، الدرر : ٢ / ١١٥ ، شرح القصائد للتبريزي : (٣٢١) ، روضة الفصاحة : (٦١) ، الهمع : ٢ / ٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٥.

(٢) عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي : أشهر فرسان العرب في الجاهلية ، ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد ، أمه حبشية اسمها زبيبة سرى إليه السواد منها ، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا ، يوصف بالحلم على شدة بطشه ، وفي شعره رقة وعذوبة وكان مغرما بابنة عمه «عبلة» فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها ، اجتمع في شبابه بامرىء القيس الشاعر وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا ، وقتله الأسد الرهيص أو جبار بن عمرو الطائي في سنة ٢٢ ق ه. ينسب إليه «ديوان شعر» أكثر ما فيه مصنوع و «قصة عنترة» خيالية يعدها الإفرنج من بدائع آداب العرب.

ينظر الأعلام : ٥ / ٩١ (٦٦٣) ، الأغاني : ٨ / ٢٣٧ ، وخزانة الأدب للبغدادي : ١ / ٦٢ ، الشعر والشعراء : ٧٥.

(٣) عجز بيت من معلقة عنترة وصدره :

حييت من طلل تقادم عهده

ينظر ديوانه : (١٨٥) ، شرح القصائد للتبريزي : (٣٢٠) ، والشنقيطي : (١١١) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٥.

(٤) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٧٥.

(٥) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٧٥.


[الأنبياء : ٤٨]. وقال قطرب وزيد : «الفرقان انفراق البحر له».

فإن قلت : هذا مذكور في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) وأيضا قوله بعد ذلك : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لا يليق إلّا بالكتاب ؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى ، فالجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أن ذلك كان لأجل موسى ـ عليه‌السلام ـ وفي هذه الآية بيّن ذلك بالتنصيص.

وعن الثاني : أن فرق البحر كان من الدّلائل فلعلّ المراد : آتينا موسى الكتاب ليستدلّوا بذلك على وجود الصانع ، وصدق موسى عليه‌السلام ، وذلك هو الهداية ، وأيضا فالهدى قد يراد به الفوز والنّجاة ولم يرد به الدلالة ، فكأنه ـ تعالى ـ بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمة من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخصم نعمة عاجلة.

وقيل : الفرقان : الفرج من الكرب ؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] أي : فرجا ومخرجا وقيل : الحجّة والبيان ، قاله ابن بحر.

وقيل : الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء ، وغرق أولئك ، ونظيره يوم الفرقان ، فقيل يعني به يوم بدر.

فصل في الرد على المعتزلة

استدلت المعتزلة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) على أن الله أراد الاهتداء من الكلّ ، وذلك يبطل قول من يقول : أراد الكفر من الكافر. وأيضا إذا كان هداهم أنه ـ تعالى ـ لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي ، والضلال ممن يضل ، فما الفائدة في إنزال الكتاب والفرقان ، ولقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه ، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ولا كتاب لحصل](١) الاهتداء ، ولو أنزل الكتاب ، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء ، فكيف يجوز أن يقول : أنزلت [الكتاب](٢) لكي تهتدوا؟ وقد تقدّم مثل [هذا](٣) الكلام.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

«يا قوم» اعلم أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستّ لغات.

أفصحها : حذفها مجتزئا عنها بالكسرة ، وهي لغة القرآن.

__________________

(١) في أ : والكتاب يحصل.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ذلك.


والثانية : ثبوت الياء ساكنة.

الثالثة : ثبوتها مفتوحة.

الرابعة : قلبها ألفا.

الخامسة : حذف هذه الألف ، والاجتزاء عنها بالفتحة ؛ كقوله : [الوافر]

٤٩٥ ـ ولست براجع ما فات منّي

بلهف ولا بليت ولا لو انّي (١)

أي يقول : يا لهفا.

السّادسة : بناء المضاف إليها على الضّمّ تشبيها بالمفرد ، نحو قراءة من قرأ (٢) : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢].

قال بعضهم : لأن «يا قوم» في تقدير : يا أيها القوم والقوم : اسم جمع ؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين ، وليس له واحد من لفظه ، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير ، ومفرده «رجل» ، واشتقاقه من «قام بالأمر يقوم به» ، قال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٣] والأصل في إطلاقه على الرجال ؛ ولذلك قوبل بالنّساء في قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ).

وقول زهير : [الوافر]

٤٩٦ ـ وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء (٣)

وأما قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] و (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التّغليب ، ولا يجوز أن يطلق على النّساء وحدهن ألبتة ، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك.

فصل في نظم الآية

في قوله : (يا قَوْمِ) لطيفة ، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه ، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط ، وامتزاج ، فكأنه منهم [وهم](٤) منه فصارا كالجسد الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه ، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه : ما أحبّ لك إلا ما أحبّ لنفسي وذلك إشارة إلى استمالة قلوبهم إلى قبول دعواه ، وطاعتهم له فيما أمرهم به ، ونهاهم عنه.

__________________

(١) ينظر البيت في أمالي ابن الشجري : ٢ / ٧٤ ، الممتع : (٦٢٢) ، المحتسب : ١ / ٣٢٣ ، العيني : ٤ / ٢٤٨ ، الخزانة : ١ / ٦٣ ، رصف المباني : ٢٨٨ ، الإنصاف : ٣٩٠ ، الدرر : ٢ / ٦٩ ، اللسان «ركب» ، روح المعاني : ١٢ / ٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٦.

(٢) ستأتي في «الأنبياء» آية (١١٢).

(٣) ينظر ديوانه : (٧٣) ، الهمع : ١ / ١٥٣ ، والدرر : ١ / ١٣٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٦.

(٤) في ب : وهو.


قوله تعالى : (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) الباء للسببية ، متعلّقة ب «ظلمتم» ، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه المادة.

و «العجل» مفعول أوّل ، والثّاني محذوف أي : إلها كما تقدم ، والمصدر ـ هنا ـ مضاف للفاعل ، وهو أحسن الوجهين ، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل ؛ لأنه رتبته التقديم ، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل.

وأما (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] فسيأتي إن شاء الله تعالى. وتقدّم الكلام في «العجل».

قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) متعلّق ب «توبوا» ، والمشهور كسر الهمزة ؛ لأنها حركة إعراب. وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر :

الاختلاس : وهو الإتيان بحركة خفية ، والسكون المحض ، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة ، ونسبوا راويها إلى الغلط على أبي عمرو.

وقال سيبويه : «إنما اختلس أبو عمرو فظنّه الراوي سكّن ولم يضبط».

وقال المبرّد : «لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر ، وقراءة أبي عمرو (١) لحن».

وهذه جرأة من المبرد ، وجهل بأشعار العرب ، فإن السّكون في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيرا ؛ منه قول امرىء القيس : [السريع]

٤٩٧ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٢)

فسكّن «أشرب» ، وقال جرير : [البسيط]

٤٩٨ ـ ..........

ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب (٣)

__________________

(١) يعني : قراءة الاختلاس ، ووافقه فيها ابن محيصن.

وانظر فيها العنوان في القراءات السبع : ٦٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٢٥ ، وحجة القراءات : ٩٧ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ٧٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩١ ، ٣٩٢ ، ٣٩٣ ، وشرح شعلة : ٢٦٢.

(٢) ينظر ديوانه : ١٢٢ ، وإصلاح المنطق : ٢٤٥ ، والأصمعيات : ١٣٠ ، جمهرة اللغة : ٩٦٢ ، وحماسة البحتري : ٣٦ ، خزانة الأدب : ٤ / ١٠٦ و ٨ / ٣٥٠ و ٣٥٤ و ٣٥٥ ، والدرر : / ١٧٥ ، ورصف المباني : ٣٢٧ ، شرح التصريح : ١ / ٨٨ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ٦١٢ و ١١٧٦ ، شرح شذور الذهب : ٢٧٦ ، شرح شواهد الإيضاح : ٢٥٦ ، شرح المفصل : ١ / ٤٨ ، الشعر والشعراء : ١ / ١٢٢ ، والكتاب : ٤ / ٢٠٤ ، ولسان العرب [حقب] ، [دلك] ، المحتسب : ١ / ١٥ و ١١٠ ، الأشباه والنظائر : ١ / ٦٦ ، والاشتقاق : ٣٣٧ ، والخصائص : ١ / ٧٤ و ٢ / ٣١٧ ، والمقرب : ٢ / ٢٠٥ ، همع الهوامع : ١ / ٥٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٣) عجز بيت وصدره :

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم

ينظر ديوانه : (٤٨) ، الخصائص : ١ / ٧٤ ، السمط : ٥٢٧ ، اللسان «عبد» والدر المصون : ١ / ٢٢٧.


وقال آخر : [السريع]

٤٩٩ ـ رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بدا هنك من المئزر (١)

يريد : «هنك ـ وتعرفكم» فهذه حركات إعراب ، وقد سكّنت ، وقد أنشد ابن عطية وغيره ردّا عليه قوله : [الرجز]

٥٠٠ ـ قالت سليمى : اشتر لنا سويقا (٢)

وقول آخر : [الرجز]

٥٠١ ـ إذا اعوججن قلت : صاحب قوّم (٣)

وقول الآخر : [الرمل]

٥٠٢ ـ إنّما شعري شهد

قد خلط بجلجلان (٤)

ولا يحسن ذلك ؛ لأنها حركات بناء ، وإنما منع هو ذلك في حركات الإعراب ، وقراءة أبي عمرو صحيحة ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيل ، ولذلك اجتزىء عليها بجميع أنواع التخفيف ، فاستثقلت عليها الحركة فقدّرت ، وهذه القراءة (٥) تشبه قراءة حمزة ـ رحمه‌الله ـ في قوله تعالى : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا) فإنه سكن همزة «السّيّىء» وصلا ، والكلام عليهما واحد ، والذي حسنه ـ هنا ـ أنّ قبل كسرة الهمزة راء مكسورة ، والراء حرف تكرير ، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التّسكين ، وليت المبرّد اقتدى بسيبويه في الاعتذار عن أبي عمرو. وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التّخفيف ، ولذلك يدغم المثلين ، والمتقاربين ، ويسهّل الهمزة ، ويسكن نحو : (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦] و (يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] و (بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] على تفصيل معروف عند القرّاء ، وروي عنه إبدال هذه الهمزة السّاكنة ياء ، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة ، وبعضهم ينكر ذلك عنه ، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو (٦).

__________________

(١) البيت للأقيشر الأسدي في ديوانه : ص ٤٣ ، وينظر خزانة الأدب : ٤ / ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٨ / ٣٥١ ، الدرر : ١ / ١٧٤ ، شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٩١ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٥١٦ ، وللفرزدق في الشعر والشعراء : ١ / ١٠٦ ، الأشباه والنظائر : ١ / ٦٥ ، ٢ / ٣١ ، تخليص الشواهد : ص ٦٣ ، الخصائص : ١ / ٧٤ ، ٣ / ٩٥ ، ٣١٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٢) البيت للعذافر الكندي. ينظر الخصائص : ٢ / ٣٤٠ ، المنصف : ٢ / ٢٣٧ ، شرح شواهد الشافية : ٢٢٤ والدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٣) البيت لأبي نخيلة. ينظر الكتاب : ٢ / ٢٩٧ ، الخصائص : ١ / ٧٥ ، الفراء : ٢ / ١٢ ، اللسان «عوم» والدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٤) تقدم برقم (١٣٤).

(٥) ستأتي في سورة «فاطر» آية (٤٣).

(٦) سبق تخريج هذه القراءة.


وروى ابن عطية عن الزهري (١) : «باريكم» بكسر الياء من غير همزة قال : «ورويت عن نافع».

قلت : من حق هذا القارىء أن يسكن الياء ؛ لأن الكسرة ثقيلة عليها ، ولا يجوز ظهورها إلّا في ضرورة شعر ؛ كقول أبي طالب : [الطويل]

٥٠٣ ـ كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولم تختضب سمر العوالي بالدّم (٢)

وقرأ قتادة (٣) : «فاقتالوا» وقال : هي من الاستقالة.

قال ابن جنّي : اقتال : افتعل ، ويحتمل أن تكون عينها واوا ك «اقتادوا» أو ياء ك «اقتاس» ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة.

ولكن قتادة ينبغي أن يحسن الظنّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده.

وقرىء أيضا : «فأقيلوا أنفسكم» بالياء المثنّاة التحتية ، وهي موافقة للرسم أيضا.

«والبارىء» : الخالق ، برأ الله الخلق أي : خلقهم ، وقد فرق بعضهم بين الخالق والبارىء ، بأن البارىء هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدر النّاقل من حال إلى حال ، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز ، ومنه : برأ المريض برءا وبرءا وبراءة ، وبرئت أيضا من الدّين براءة ، والبريّة : الخلق ؛ لأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود ، إلّا أنه لا يهمز.

وقيل : أصله من البرى وهو التراب. وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى.

قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

قال بعض المفسرين : هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم ؛ لأنها أمر بالقتل ، والقتل لا يكون نعمة ، وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ نبّههم على عظم ذنبهم ، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم ، وذلك من أعظم النعم في الدين ، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية ، فتعديد النعم الدينية أولى ، ثم إنّ هذه النعمة ، وهي كيفية التّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضا من تمام النّعمة ، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدودا في نعم الله تعالى ، فجاز التذكير بها.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ،

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٨.

(٢) ينظر الهمع : ١ / ٥٣ ، الدرر : ١ / ٣٠ ، شرح التسهيل : ١ / ٦٠ ، شفاء العليل : ص ١٢٩ ، البحر المحيط : ١ / ٣٣٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٨.

(٣) وروي عنه أيضا : «فأقيلوا».

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٤٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٦٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٨.


فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين والموجودين في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه رفع القتل عن آبائهم ، فكان نعمة في حقهم.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقتل مع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول لهم : لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل ، بل إن رجعتم عن كفركم ، وآمنتم قبل الله إيمانكم فكان بيان التّشديد في تلك التوبة تنبيها على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلة هيّنة.

ورابعها : أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رغبوا في تلك التّوبة مع [غاية](١) مشقّتها على النفس ، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مجرّد الندم أولى.

فصل في كيفية قتل أنفسهم

أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده ، قال الزّهري : لما قيل لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) قاموا صفّين ، وقتل بعضهم بعضا ، حتى قيل لهم : كفّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ.

وقيل : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك.

وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ، إذ لم يعبدوا العجل. وقيل : إن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال : ملعون من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله ، أو اتّقاه بيد أو رجل. فلم يحلّ أحد منهم حبوته حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم ـ على القول الأول ـ لأنهم لم يغيروا المنكر ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده.

وهذه سنّة الله في عبادة ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ منهم وأمنع لا يغيّرون إلا عمّهم الله بعقاب» (٢).

فإن قيل : التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟

والجواب : كأنه قال : لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله.

فإن قيل : كيف استحقّوا القتل ، وهم تابوا من الردّة ، والتائب من الردة لا يقتل؟

والجواب : أن ذلك مما يختلف [بالشرائع](٣).

__________________

(١) في ب : نهاية.

(٢) أخرجه ابن ماجه في السنن (٢ / ١٣٢٩) كتاب الفتن (٣٦) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢٠) حديث رقم (٤٠٠٩) وأبو داود كتاب الملاحم ب ١٧ وأحمد (٤ / ٣٦٤) والبيهقي ١٠ / ٩١.

(٣) في ب : بالتشريع.


قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

قال بعضهم : «ذلكم» مفرد واقع موقع «ذانكم» المثنّى ؛ لأنه قد تقدّم اثنان : التوبة ، والقتل.

قال أبو البقاء : «وهذا ليس بشيء ؛ لأن قوله : «فاقتلوا» تفسير للتوبة فهو واحد».

و «خير» «أفعل» تفضيل ، وأصله : أخير ، وإنما حذفت همزته تخفيفا ، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة ؛ قال : [الرجز]

٥٠٤ ـ بلال خير النّاس وابن الأخير (١)

ومثله : «شرّ» لا يجوز «أشرّ» إلا في ندور ، وقد قرىء (٢) : (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على «أفعل» ، فلا تحذف همزته إلا في ندور ، كقولهم : «ما خير اللبن للصحيح ، وما شرّه للمبطون» ف «خير وشرّ» قد خرجا عن نظائرهما في باب التّفضيل والتعجّب.

و «خير» أيضا مخفف من «خير» على «فيعل» ولا يكون من هذا الباب ، ومنه : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠].

قال بعضهم : مخفف من «خيّرات». والمفضّل عليه محذوف للعلم به ، أي : خير لكم من عدم التوبة. ول «أفعل» التفضيل أحكام كثيرة ، وباقي منها ما يضطر إليه.

قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) في الكلام حذف ، وهو : ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم ، والفاء الأولى في قوله : (فَتُوبُوا) للسببية ؛ لأن الظلم سبب التوبة.

والثانية للتعقيب ؛ لأن المعنى : فاعزموا على التّوبة ، فاقتلوا أنفسكم.

والثّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو : إما أن ينتظم في قول موسى لهم فيتعلّق بشرط محذوف ، كأنه قال : وإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإما أن يكون خطابا من الله لهم على طريقة الالتفات ، فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى ، فتاب عليكم بارئكم. قاله الزمخشري.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ ،) أي : فتجاوز عن الباقين منكم. إنه هو التواب الرحيم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٦)

قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ) إنما تعّدى ب «اللام» دون «الباء» لأحد وجهين :

__________________

(١) ينظر المحتسب : ٢ / ٢٩٩ ، شرح التصريح : ٢ / ١٠١ ، الهمع : ٢ / ١٦٦ ، شرح الأشموني : ٣ / ٤٣ ، الدرر : ٢ / ٢٢٤ ، البحر : ١ / ٣٦٣ ، الدرّ : ١ / ٢٢٨.

(٢) ستأتي في «القمر» آية (٢٦).


إمّا أن يكون التقدير : لن نؤمن لأجل قولك.

وإما أن يضمن معنى الإقرار ، أي : لن نقر لك بما ادعيته.

وقرأ (١) أبو عمرو بإدغام النون في اللام ، لتقاربهما.

وفرق بعضهم بين قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) وجعل الإيمان به بما جاء به ، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد.

قوله : (جَهْرَةً) فيها قولان :

أحدهما : أنها مصدر ، وفيها حينئذ قولان :

أحدهما : أن ناصبها محذوف ، وهو من لفظها تقديره : جهرتم جهرة ، نقله «أبو البقاء».

والثاني : أنها مصدر من نوع الفعل ، فتنتصب انتصاب «القرفصاء» من قولك ، «قعد القرفصاء» فإنها نوع من الرؤية ، وبه بدأ «الزمخشري».

والثّاني : أنها مصدر واقع موقع الحال ، وفيها حينئذ أربعة أقوال :

أحدها : أنه حال من فاعل «نرى» ، أي : ذوي جهرة ، قاله «الزمخشري».

والثاني : أنها حال من فاعل «قلتم» ، أي : قلتم ذلك مجاهرين ، قاله «أبو البقاء». وقال بعضهم : فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي : قلتم جهرة : لن نؤمن لك ، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بل أتي بمقول القول ، ثم بالحال من فاعله ، فهو نظير : «ضربت هندا قائما».

والثالث : أنها حال من اسم الله ـ تعالى ـ أي : نراه ظاهرا غير مستور.

والرابع : أنها حال من فاعل «نؤمن» ، نقله «ابن عطية» ، ولا معنى له. والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني.

وقرأ «ابن عبّاس» : جهرة بفتح الهاء ، وفيها قولان :

أحدهما : أنها لغة في «جهرة».

قال «ابن عطية» : «وهي لغة «مسموعة» عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكن قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يجيزون فيه الفتح ، وإن لم يسمعوه» وقد تقدم تحريره.

والثاني : أنها جمع «جاهر» نحو : «خادم وخدم» ، والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تؤيد كون «جهرة» حالا من فاعل «نرى».

__________________

(١) ووافقه يعقوب.

انظر السبعة : ١١٨ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٩.


و «الجهر» : ضد السّرّ ، وهو الكشف والظهور ، ومنه : جهر بالقراءة أي : أظهرها. قال الزمخشري : «كأن الّذي يرى بالعين جاهر بالرّؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها».

قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قرأ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم «الصّعقة» بغير ألف ، وقرأ الباقون بالألف ، وهما لغتان.

فصل في زمان هذه الواقعة

قال محمد بن إسحاق : هذه الواقعة قبل تكليفهم بالقتل لما رجع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الطّور ، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه والسامري ما قال ، وحرق العجل ، وألقاه في البحر ، واختار من قومه سبعين رجلا ، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : [أرنا ربك حتى](١) يسمعنا كلامه ، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام فأجاب الله إليه ، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشّى الجبل كله ، ودنا من موسى ذلك الغمام ، فدخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وادعوا ، وكان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ متى كلمه ربه أوقع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه ، وسمع القوم كلام الله ـ تعالى ـ مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه ، فقال القوم بعد ذلك : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) فماتوا جميعا ، وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ، ويقول : يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم ، فأرجع إليهم ، وليس معي منهم واحد ، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى ردّ الله عليهم أرواحهم ، وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : «لا ، إلّا أن يقتلوا أنفسهم» (٢).

وقال «السّدي» : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله ـ تعالى ـ أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلا ، فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل ، فإني أمرتهم بالقتل ، ثم اخترت من أنفسهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ، وليس معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأحياهم الله ـ تعالى ـ فقاموا ، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر [كيف يحييه الله تعالى](٣).

__________________

(١) في ب : سهل ربك.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٧٧) وفي تاريخه (١ / ٢٢١) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ١٧٠) عن ابن إسحاق.

(٣) سقط في ب.


فصل

في «الصّاعقة» قولان :

الأول : قال «الحسن وقتادة» : هي الموت ، لقوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ،) ولو كانت الصاعقة هي الموت لا متنع كونهم ناظرين إلى الصّاعقة.

وثانيها : قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] أثبت الصّاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتا ؛ لأنه قال : أفاق ، والإفاقة لا تكون عن الموت.

وثالثها : أن الصّاعقة وهي التي تصعق ، وذلك إشارة إلى سبب الموت.

والقول الثاني : الصّاعقة هي سبب الموت ، واختلفوا فيها.

فقيل : هي نار وقعت من السماء فأحرقتهم.

وقيل : صيحة جاءت من السماء.

وقيل : أرسل الله جنودا ، فلما سمعوا حسّها خروا صعقين ميتين يوما وليلة.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة حالية ، والمعنى : وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض ، أو : تنظرون إلى ما حلّ بكم ، أو : أنتم أعيتكم صيحة وتفكّر.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) [أحييناكم من بعد موتكم](١).

قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم.

قال النحاس : «وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش ، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا».

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ما فعل بكم من البعث بعد الوت.

وقيل : ماتوا موت همود يعتبر به الغير ، ثم أرسلوا.

وأصل البعث الإرسال.

وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محلّه ، يقال : بعثت الناقة : أثرتها ، أي حركتها ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٠٥ ـ وفتيان صدق قد بعثت بسحرة

فقاموا جميعا بين عاث ونشوان (٢)

وقال غيره : [الكامل]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر ديوانه : ٩١ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٥.


٥٠٦ ـ وصحابة شمّ الأنوف بعثتهم

ليلا وقد مال الكرى بطلاها (١)

وقيل : (بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) علّمناكم من بعد جهلكم.

فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته

قال الماورديّ : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ، ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين :

أحدهما : بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد.

الثاني : سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.

والأول أصحّ ، لقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ،) ولفظ : الشكر يتناول جميع الطاعات ، لقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣].

فإن قيل : كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث؟

فالجواب : أنّ الذي منع من تكليف أهل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء ، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ، وإلى معرفة لذّات الجنّة ، وآلام النّار ، وبعد العلم الضروري لا تكليف ، وإذا كان كذلك ، فيكون موت هؤلاء بمنزلة النّوم والإغماء.

قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة «الأعراف» ، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإظلال كان بعد البعث ، لأنه ـ تعالى ـ قال : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٦] ، (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي : وجعلنا الغمام يظلكم ، وذلك في التّيه سخر الله ـ تعالى ـ لهم السحاب يظلّهم من الشمس ، ونزل عليهم المنّ (٢) وهو «التّرنجبين» بالتاء والراء ـ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع.

وقال «مجاهد» : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشّهد (٣).

وقال «وهب» (٤) : خبز الرقاق (٥). وقال «السدي» : عسل كان يقع على الشجر من الليل (٦).

__________________

(١) البيت لعنترة. ينظر ديوانه : ٧٥ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٥.

(٢) زاد في أ : والسلوى.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٩١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) في أ : مرّة.

(٥) أخرجه الطبري (٢ / ٩٢) وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس كما في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧).


وقال «الزجاج» : «المنّ : ما يمنّ الله ـ عزوجل ـ به مما لا تعب فيه ولا نصب».

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» (١).

«والسّلوى» قال «ابن عباس» وأكثر المفسرين : هو طائر يشبه السّماني (٢).

وقال أبو العالية ومقاتل : هو السّماني.

وقال «عكرمة» : طير «الهند» أكبر من العصفور.

وقيل : السّلوى : العسل نقله المؤرّج (٣) ، وأنشد قول الهذليّ : [الطويل]

٥٠٧ ـ وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها (٤)

وغله «ابن عطية» وادّعى الإجماع على أن السّلوى : طائر ، وهذا غير مرض ، فإن «المؤرج» من أئمة اللغة والتفسير ، واستدلّ ببيت الهذلي ، وذكر أنه بلغة «كنانة». وقال «الراغب» : «السّلوى مصدر ، أي : لهم بذلك التّسلّي».

قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) تقديره : وجعلنا الغمام يظلّلكم.

قال «أبو البقاء» : ولا يكون كقولك : «ظلّلت زيدا يظلّ» ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستورا بظل آخر.

وقيل التقدير : بالغمام ، وهذا تفسير معنى لا إعراب ، لأن حذف الجر لا ينقاس.

فصل في اشتقاق الغمام

الغمام : السّحاب ، لأنه يغم وجه السماء ، أي : يسترها ، وكل مستور مغموم أي مغطى.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٢٢) ومسلم في كتاب الأشربة ١٥٧ والترمذي (٢٠٦٦) وابن ماجه (٣٤٥٣) وأحمد (١ / ١٨٧ ، ١٨٨) والبيهقي (٩ / ٣٤٥) والحميدي رقم (٨١) والطبراني في «الأوسط» (١ / ١٢٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٩٦).

(٣) مؤرج بن عمرو بن الحارث من بني سدوس بن شيبان أبو فيد. عالم بالعربية والأنساب من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد من أهل البصرة كان له اتصال بالمأمون العباسي ، ورحل معه إلى خراسان فسكن مدة بمرو ، ثم انتقل إلى نيسابور من كتبه : جماهير القبائل ، و «غريب القرآن» وكتاب «الأمثال» ، و «المعاني» وله شعر جيد.

ينظر الأعلام : ٧ / ٣١٨ (٢٥٦٩) ، وفيات الأعيان : ٢ / ١٣٠ ، بغية الوعاة : ٤٠٠ ، نزهة الألبأ : ١٧٩ ، إنباه الرواة : ٣ / ٣٢٧.

(٤) ينظر ديوان الهذليين : ١ / ١٥٨ ، اللسان (سلا) ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٨٣ ، مجمع البيان : ١ / ٢٥٨ ، روح المعاني : ١ / ٢٦٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٠.


وقيل : الغمام : السّحاب الأبيض خاصّة ، ومثله : الغيم والغين ـ بالميم والنون ـ وفي الحديث : «إنه ليغان على قلبي» (١).

وواحدته «غمامة» فهو اسم جنس. و «المنّ» تقدم تفسيره ، ولا واحد له من لفظه.

والمنّ ـ أيضا ـ مقدار يوزن به ، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة ، فيقال : منا مثل : عصا ، وتثنيته : منوان ، وجمعه : أمناء. والسّلوى تقدمت أيضا ، واحدتها : سلواة ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٥٠٨ ـ وإنّي لتعروني لذكراك سلوة

كما انتفض السّلواة من بلل القطر (٢)

فيكون من باب «قمح وقمحة».

وقيل : سلوى مفرد وجمعها : سلاوى ك «فتوى وفتاوى» قاله «الكسائي».

وقيل : سلوى يستعمل للواحد والجمع ك : دفلى. و «السّلوانة» ـ بالضم ـ خرزة كانوا يقولون : إذا صبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا ؛ [قال : [الطويل]

٥٠٩ ـ شربت على سلوانة ماء مزنة

فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو (٣)](٤)

واسم ذلك الماء «السّلوان».

وقال بعضهم : «السّلوان» دواء يسقاه الحزين فيسلو ، والأطباء يسمونه المفرّح.

يقال : سليت وسلوت ، لغتان. وهو في سلوة من العيش ، قاله «أبو زيد».

و «السّلوى» عطف على «المنّ» لم يظهر فيه الإعراب ، لأنه مقصور ، وهذا في المقصور كلّه ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف.

قال الخليل : «والألف حرف هوائيّ لا مستقرّ له ، فأشبه الحركة ، فاستحالت حركته».

وقال «الفراء» : «لو حركت الألف صارت همزة».

فصل في سبب تقديم المن على السلوى

فإن قيل : المعهود تقديم الأهم [فالأهم](٥) والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى ؛ لأن به قيام البنية ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء ، ثم بعد الشّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته؟

فالجواب : أن نزول الحلوى من السماء أمر مخالف للعادة ، فقدم لاستطعامه

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) رقم (٤١ / ٢٧٠٢) وأبو داود (١٥١٥) وأحمد (٤ / ٢١١) والبيهقي (٧ / ٥٢) والطبراني (١ / ٢٨٠) والبخاري في التاريخ الكبير (٢ / ١٣).

(٢) تقدم برقم (٤٢١).

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٧٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.


بخلاف الطيور المأكولة ، فإنها ليست مخالفة للعادة ، فإنها مألوفة الأكل.

«كلوا» هذا على إضمار القول ، أي : وقلنا لهم : كلوا ، وإضمار القول كثير ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣] أي : يقولون سلام ، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا) [الزمر : ٣] أي : يقولون : ما نعبدهم إلّا. (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وتقدم الكلام في كل تصريفه.

قوله : (مِنْ طَيِّباتِ) من : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض.

وقال : «أبو البقاء» : أو لبيان الجنس. والمفعول محذوف ، أي : كلوا شيئا من طيبات. وهذا ضعيف ؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف.

قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) يجوز في «ما» أن تكون بمعنى الّذي ، وما بعدها حاصلة لها ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون نكرة موصوفة.

فالجملة لا محلّ لها على الأول ، ومحلّها الجر على الثّاني ، والكلام في العائد كما تقدّم ، وأن تكون مصدرية ، والجملة صلتها ، ولم تحتج إلى عائد على ما عرف قبل ذلك ، ويكون هذا المصدر واقعا موقع المفعول ، أي : من طيبات مرزوقنا.

قوله : (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

«أنفسهم» مفعول مقدم ، و «يظلمون» في محل نصب خبر «كانوا» وقدّم المفعول إيذانا باختصاص الظّلم بهم ، وأنه لا يتعدّاهم.

والاستدراك في «لكن» واضح ، ولا بدّ من حذف جملة قبل قوله : (وَما ظَلَمُونا) ، فقدره ابن عطية : فعصوا ، ولم يقابلوا النعم بالشكر.

وقال «الزمخشري» : تقديره فظلمونا (١) بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة (وَما ظَلَمُونا) عليه.

فإن قيل : قوله : (وَما ظَلَمُونا) جملة خبرية ، فكيف عطفت على قوله : «كلوا» ، وهي جملة أمرية؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن هذه جملة مستأنفة لا تعلّق لها بما قبلها.

والثاني : أنّها معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي : وقيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما ظلمونا ، فيكون قد عطف جملة خبرية على خبريّة.

و «الظلم» : وضع الشيء في غير موضعه.

__________________

(١) في ب : فظلموا.


وقوله : (كانُوا) وكانت هذه عادتهم كقولك : «كان حاتم كريما».

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

هذا هو الإنعام الثّامن ، وحذفت الألف من «قلنا» لسكونها ، وسكون الدال بعدها ، والألف التي يبتدأ بها قبل الدّال ألف وصل ؛ لأنه من يدخل.

قوله : (هذِهِ الْقَرْيَةَ).

هذه منصوبة عند سيبويه (١) على الظرف ، وعند الأخفش على المفعول به ، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلّا ب «في» ، تقول : صلّيت في البيت ولا تقول : صلّيت البيت إلّا ما استثني.

ومن جملة ما استثني «دخل» مع كل مكان مختصّ ، نحو : «دخلت البيت والسّوق» ، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش : الواقع بعد «دخلت» مفعول به كالواقع بعد «هدمت» كقولك : «هدمت البيت» فلو جاء «دخل» مع الظرف تعدّى ب «في» نحو : «دخلت في الأمر» ولا تقول : «دخلت الأمر» ، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير «دخل» تعدّى ب «في» إلا ما شذّ ؛ كقوله : [الطويل]

٥١٠ ـ جزى الله [ربّ النّاس خير جزائه] (٢)

رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد (٣)

و «القرية» «المدينة» ، وهي نعت ل «هذه» ، أو عطف بيان كما تقدم ، والقرية مشتقّة من قريت أي : جمعت ، تقول : قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، واسم ذلك الماء قرى ـ بكسر القاف ـ و «المقراة» للحوض ، وجمعها (٤) «مقار» ، قال : [الطويل]

٥١١ ـ عظام المقاري ضيفهم لا يفزّع

 .......... (٥)

و «القريان» : اسم لمجتمع الماء ، و «القرية» في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم ، وقد يطلق عليهم مجازا ، وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يحتمل الوجهين.

__________________

(١) ينظر الكتاب : ١ / ١٥.

(٢) في أ : بالخيرات ما فعل بكم ، وهو صدر بيت آخر.

(٣) قيل هذا البيت لرجل من الجن ، سمعوا ب «مكة» صوته ولم يروا شخصه. انظر الهمع : (١ / ٢٠٠) ، الشذور : (٢٣٥) ، الدرر : (١ / ١٦٩) ، تعليق الفرائد : (١ / ١٦١٢) ، مشاهد الإنصاف : (٢ / ١٤٦).

(٤) في ب : والجمع.

(٥) ينظر شواهد القرطبي : ١ / ٢٧٨ ، الدر : ١ / ٢٣٢.


وقال الراغب : «إنها اسم للموضع وللناس جميعا ، ويستعمل في كل واحد منهما».

و «القرية» ـ بكسر القاف ـ في لغة «اليمن» ، واختلف في تعيينها.

فقال الجمهور : هي بيت المقدس (١).

وقال ابن عباس : «أريحا» وهي قرية الجبّارين ، وكان فيها قوم من بقيّة عاد يقال لهم : العمالقة ، ورئيسهم عوج بن علق (٢).

وقال «ابن كيسان» : «الشّام».

وقال الضحاك : «الرّملة» و «الأردنّ» ، و «فلسطين» و «تدمر».

وقال مقاتل : «إيليا».

وقيل : بلقاء.

وقيل : «مصر». والصحيح الأول ، لقوله في المائدة : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١].

قوله : «وكلوا (مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) تقدّم الكلام على هذه المادة.

قوله : (الْبابَ سُجَّداً) حال من فاعل «ادخلوا» وهو جمع «ساجد».

قال أبو البقاء : «وهو أبلغ من السجود» ، يعني : أن جمعه على «فعّل» فيه من المبالغة ما ليس في جمعه على «فعول».

وأصل باب : بوب ، لقولهم : أبواب ، وقد يجمع على «أبوبة» ؛ لازدواج الكلام ؛ قال: [البسيط]

٥١٢ ـ هتّاك أخبية ولّاج أبوبة

يخلط بالجدّ منه البرّ واللّينا (٣)

ورواه الجوهريّ : [البسيط]

٥١٣ ـ ..........

يخلط بالبرّ منه الجدّ واللّينا (٤)

ولو أفرده لم يجز ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : «مرحبا بالقوم ـ أو بالوفد ـ غير خزايا ولا ندامى» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ١٠٢) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٨) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٣) عن ابن زيد.

(٣) البيت لتميم بن مقبل. ينظر ملحق ديوانه (٤٠٦) ، أدب الكاتب ٤٨٦ ، اللسان (بوب) ، الجامع لأحكام القرآن ١ / ٢٧٩ ، الصحاح (بوب) ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٤) تقدم برقم (٥١٢).

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٣٦) كتاب الإيمان باب أداء الخمس ... حديث رقم (٥٣) ، (٨ / ـ


وتبوّبت بوّابا اتخذته. وأبواب مبوّية ، كقولهم : أصناف مصنّفة ، وهذا شيء من بابتك ، أي : يصلح لك ، وتقدّم معنى السجود.

قوله : (وَقُولُوا) قال [ابن كثير](١) الواو هنا حالية لا عاطفة ، أي : ادخلوا سجّدا في حال قولكم حطّة.

وأما قوله : (حِطَّةٌ) قرىء بالرّفع والنصب ، فالرفع على أنه خبر مبتدأ (٢) محذوف ، أي : مسألتنا حطّة ، أو أمرك حطة.

قال «الزمخشري» : والأصل النصب بمعنى : حطّ عنا ذنوبنا حطّة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله : [الرجز]

٥١٤ ـ يشكو إليّ جملي طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى (٣)

والأصل : صبرا عليّ ، اصبر صبرا ، فجعله من باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] وتكون الجملة في محلّ نصب بالقول.

وقال «ابن عطية» : وقيل : أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ.

يعني : على الحكاية ، فعلى هذا تكون هي وحدها من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول ، وإنما منع [النصب](٤) حركة الحكاية.

وقال أيضا : وقال عكرمة : أمروا أن يقولوا : لا إله إلا الله ، لتحطّ بها ذنوبهم وحكى قولين آخرين بمعناه ، ثم قال : «فعلى هذه الأقوال تقتضي النّصب» ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللّفظ الخاصّ ، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة ، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولا به نحو : قيل لزيد خيرا ، المعنى : قل له ما هو من جنس الخيور. وقال النّحّاس : الرفع أولى ، لما حكي عن العرب في معنى «بدّل».

__________________

ـ ٧٥) كتاب الأدب باب قول الرجل مرحبا ... حديث رقم (٦١٧٦) ، (١ / ٥٤) كتاب العلم باب تحريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٨٧).

ومسلم في الصحيح (١ / ٤٧ ـ ٤٨) كتاب الإيمان (١) باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) حديث رقم (٢٤ / ١٧) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (٣٠٧) ـ والطبراني في الكبير (١٢ / ٢٢٥) ، ٢٤٣ ـ والبيهقي في السنن (٤ / ١٩٩) ـ وابن أبي شيبة (١٢ / ٢٠٢).

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : لمبتدأ.

(٣) البيت من شواهد الكتاب ١ / ٣٢١ ، أمالي المرتضى ١ / ٧٢ ، المشكل (١٠٧) مجاز القرآن ١ / ٣٠٣ ، الكشاف ٤ / ٤٧٧ ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٤) في ب : التفسير.


قال أحمد بن يحيى : يقال : بدّلته أي غيرته ، ولم أزل عينه ، وأبدلته أزلت عينه وشخصه ؛ كقوله : [الرجز]

٥١٥ ـ عزل الأمير للأمير المبدل (١)

وقال تعالى : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥].

وبحديث ابن مسعود قالوا : حطّة تغير على الرّفع ـ يعني : أن الله ـ تعالى ـ قال : فبدّل الذي يقتضي التّغيير لا زوال العين ، قال : وهذا المعنى يقتضي الرّفع لا النصب.

وقرأ (٢) ابن أبي عبلة : حطّة بالنصب وفيها وجهان :

أحدهما : أنها مصدر نائب عن الفعل ، نحو : ضربا زيدا.

والثاني : أن تكون منصوبة بالقول ، أي : قولوا هذا اللّفظ بعينه ، كما تقدم في وجه الرّفع ، فهي على الأوّل منصوبة بالفعل المقدر ، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول ، ورجح الزمخشري هذا الوجه.

و «الحطّة» اسم الهيئة من الحطّ ك «الجلسة» و «القعدة».

وقيل : هي لفظة أمروا بها ، ولا ندري معناها.

وقيل : هي التّوبة ، وأنشد : [الخفيف]

٥١٦ ـ فاز بالحطّة الّتي جعل اللّ

ه بها ذنب عبده مغفورا (٣)

فصل في المراد بالباب

اختلفوا في «الباب» قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحاك ، وقتادة : إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس (٤) ، وحكى الأصمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القرية ، ومدخلا إليها.

واختلفوا في «السّجود» ، فقال الحسن : أراد به نفس السّجود ، أي : إلصاق الوجه بالأرض ، وهذا بعيد ، لأن الظّاهر يقتضي وجوب الدّخول حال السجود ، فلو حملنا السجود على ظاهره لا متنع ذلك.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن (١ / ٢٢٩) ، معاني القرآن (٢ / ٢٥٩) ، اللسان : بدل ، القرطبي ١ / ٢٧٩ ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٢) نسبها الزمخشري لابن أبي عبلة.

انظر الكشاف ١ / ١٤٣ ، والدر المصون ١ / ٢٣٢ ، والبحر المحيط ١ / ٣٨٤ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٥٠.

(٣) ينظر البحر : ١ / ٣٧٨ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٩ ، روح المعاني : ١ / ٢٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٣ ، ١٠٤) عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.


وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنّ المراد به الركوع ، لأنّ الباب كان صغيرا يحتاج الدّاخل فيه إلى الانحناء (١).

قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعا ، فلا حاجة فيه إلى الأمر.

وأجيب بأنه روي عن ابن عبّاس : أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم.

وقيل : المراد بالسجود : الخضوع. وهو الأقرب ؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع ؛ لأن التّائب عن الذنب لا بدّ وأن يكون خاضعا.

فصل في تفسير «الحطة»

وأما تفسير «الحطّة» فقال «القاضي» : إنه ـ تعالى ـ لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يدلّ على التوبة ؛ لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بذنب ، أو بمذهب خطأ ، ثم تاب عن الذنب ، أو أظهر له الحق ، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الّذين عرفوا منه ذلك الذنب ، أو ذلك المذهب ، فتزول عنه التّهمة في الثبات على الباطل ، ويعودوا إلى موالاته ، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب ، وخضوع الجوارح ، والاستغفار باللّسان.

وقال «الأصمّ» : هذه اللّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية.

وقال أبو مسلم الأصفهاني : معناه : أمرنا حطّة ، أي : أن نحطّ في هذه القرية ، ونستقر فيها ، ورد القاضي ذلك ، وقال : لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به ، ولكن قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) يدلّ على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطّة ، ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطّوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجدّا مع التّواضع كان الغفران متعلقا به.

وقال معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا ، فإنّا إنما انحططنا لوجهك ، وإرادة التذلل لك ، فحطّ عنا ذنوبنا.

فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها

اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها ، أو بما يؤدي معناها؟

روي عن ابن عباس : أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، وفيه نظر ؛ لأن هذه اللفظة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٨) وزاد نسبته لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.


عربية ، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية ، وأيضا فإنما أمروا بأن يقولوا قولا دالّا على التوبة والندم ؛ فلو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا.

قوله : «نغفر» هو مجزوم في جواب الأمر ، وقد تقدم الخلاف ، هل الجازم نفس الجملة ، أو شرط مقدر؟ أي : يقولوا نغفر.

وقرىء (١) : «نغفر» بالنون وهو جار على ما قبله [من قوله :](٢)(وَإِذْ قُلْنَا) ، و «تغفر» بالتاء بالياء مبنيّا للمفعول.

و «خطاياكم» مفعول لم يسم فاعله ، فالتّاء لتأنيث الخطايا ، والياء ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي ، وللفصل أيضا ب «لكم».

وقرىء (٣) : «يغفر» مبنيا للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ وهو في معنى القراءة الأولى ، إلّا أن فيه التفاتا.

و «لكم» متعلّق ب «نغفر».

وأدغم «أبو عمرو» الراء (٤) في اللّام ، والنحاة يستضعفونها ، قالوا : لأن الرّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام ، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عكس ، وليس فيها ضعف ؛ لأن انحراف اللّام يقاوم تكرير الراء. وقد بيّن «أبو البقاء» ضعفه ، وتقدم جوابه.

قوله : «خطاياكم» : إما منصوب بالفعل قبله ، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات ، وفيها [أربعة] أقوال :

أحدها : قول الخليل [أنّ](٥) أصلها «خطايىء» بياء بعد الألف ، ثم همزة ؛ لأنها جمع «خطيئة» مثل : «صحيفة وصحايف» ، فلو تركت على حالها لوجب قلب الياء همزة ؛ لأن مدة «فعايل» يفعل بها كذا ، على ما تقرر في التصريف ، فضر من ذلك ، لئلا تجتمع همزتان ، بأن

__________________

(١) قراءة الجمهور بالنون كما هو مذكور ، وقرأ ابن عامر بالتأنيث ، وقرأ نافع وأبو جعفر بالتذكير.

انظر السبعة : ١٥٦ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٨٥ ، وحجة القراءات : ٩٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣١ ، وشرح شعلة : ٢٦٣ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٤ ، والعنوان : ص ٦٩ ، والكشف : ١ / ٢٤٣.

(٢) سقط في أ.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٠ ، ونسبها ابن عطية إلى عاصم ، الدر المصون : ١ / ٢٣٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٥.

(٤) انظر السبعة : ١٢١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٣.

والإدغام هو : «اللفظ بساكن فمتحرك ، بلا فصل ، من مخرج واحد» فقولهم : اللفظ بساكن فمتحرك جنس يشمل المظهر ، والمدغم ، والمخفي ، و «بلا فصل» أخرج المظهر ، و «من مخرج» أخرج المخفي.

(٥) سقط في ب.


قلب فقدم اللام ، وأخّر عنها المدّة فصارت : «خطائي» ، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه ، وبعده ياء من جنس الكسرة فقلبوا الكسرة فتحة ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلبت ألفا ، فصارت : «خطاءا» بهمز بين ألفين ، فاستثقلوا ذلك ، فإنّ الهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فقلبوا الهمزة ياء ؛ لأنها واقعة موقعها قبل القلب ، فصارت «خطايا» على وزن «فعالى» ففيها أربعة أعمال : قلب ، وإبدال الكسرة فتحة ، وقلب الياء ألفا ، وإبدال الهمزة ياء ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهب الخليل.

الثاني : وعزاه «أبو البقاء» (١) إليه أيضا أنه : «خطائىء» بهمزتين : الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في «خطيئة» فهو مثل «صحيفة» و «صحائف» ، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين ، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية ، فصار وزنه «فعلى» ، وإنما فعلوا ذلك ، لتصير المكسورة طرفا ، فتنقلب ياء ، فتصير «فعالىء» ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة ، فانقلبت الياء بعدها ألفا كما قالوا في : «يا لهفى» «ويا أسفى» ، فصارت الهمزة بين ألفين ، فأبدل منها ياء ، لأن الهمزة قريبة من الألف ، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات. فعلى هذا فيها خمسة تغييرات : تقديم اللام ، وإبدال الكسرة فتحة ، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء ، ثم إبدالها ألفا ، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء. والقول الأول أولى ، لقلّة العمل ، فيكون للخليل في المسألة قولان.

الثالث : قول سيبويه (٢) أن أصلها عنده : «خطايىء» كما تقدم ، فأبدل الياء الزائدة همزة ، فاجتمع همزتان ، فأبدل الثانية منهما «ياء» لزوما ، ثم عمل العمل المتقدّم ، ووزنها عنده «فعائل» مثل : «صحائف» ، وفيها على قوله خمسة تغييرات : إبدال الياء المزيدة همزة ، وإبدال الهمزة الأصلية ياء ، وقلب الكسرة فتحة ، وقلب الياء الأصلية ألفا ، وقلب الهمزة المزيدة ياء.

الرابع : قول «الفرّاء» ، هو أن «خطايا» عنده ليس جمعا ل «خطيئة» بالهمز ، إنما هو جمع ل «خطيّة» ك «هديّة وهدايا» و «ركيّة وركايا».

قال الفراء : ولو جمعت «خطيئة» مهمزة لقلت : «خطاءا» يعني : فلم تقلب الهمزة ياء ، بل تبقيها على حالها ، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات.

ولكنه لم يقله العرب ، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعا للمهموز.

وقال «الكسائي» : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل : «دواب».

وقرىء (٣) : «يغفر لكم خطيئاتكم» و «خطيئتكم» بالجمع والتوحيد ، وبالياء والتاء

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٣٨.

(٢) ينظر الكتاب : ٢ / ١٦٩ ، ٣٧٨.

(٣) وهي قراءة الحسن ، وأما قراءة التوحيد أو الإفراد ، فهي قراءة الأعمش ، وحكى الأهوازي : أن أبا حيوة قرأ : خطاياكم. ـ ـ انظر التخريجات النحوية والصرفية لقراءة الأعمش د. سمير أحمد عبد الجواد : ص ٥٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٠.


على ما لم يسمّ فاعله ، و «خطاياكم» بهمز الألف الأولى دون الثانية ، وبالعكس. والمعنى في هذه القراءات واحد ؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله ـ تعالى ـ فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله.

والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث ، وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧]. و (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود : ٩٤].

وقرأ (١) الجحدري (٢) : «خطيئتكم» بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة.

وقرأ (٣) ابن كثير : «خطايأكم» بهمزة قبل الكاف.

وقرأ الكسائي : بكسر الطاء والتاء ، والباقون بإمالة الياء.

و «الغفر» : السّتر ، ومنه المغفر : لسترة الرأس ، وغفران الذّنوب ؛ لأنها تغطيها ، وقد تقدّم الفرق بينه وبين العفو.

و «الغفارة» : خرقة تستر الخمار أن يمسّه دهن الرأس.

و «الخطيئة» من الخطأ ، وأصله : العدول عن الجهة ، وهو أنواع :

أحدها : إرادة غير ما تحسن إرادته ، فيفعله ، وهذا هو الأصل [التام](٤) يقال منه : «خطىء يخطأ خطأ وخطأة».

والثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع بخلافه ، يقال منه : أخطأ إخطاء ، فهو مخطىء ، وجملة الأمر أنّ من أراد شيئا ، فاتفق منه غيره يقال : «أخطأ» ، وإن وقع كما أراد ، يقال : «أصاب» ، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل : إنه أخطأ ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصّواب ، وأصاب الصواب ، وأخطأ الخطأ.

قوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم ، وهو

__________________

(١) ينظر تخريج القراءة السابقة.

(٢) عاصم بن أبي الصباح العجاج ، وقيل : ميمون أبو المجشر بالجيم والشين المعجمة مشددة مكسورة الجحدري البصري ، أخذ القراءة عرضا عن سليمان بن قتة عن ابن عبّاس ، وقرأ أيضا على نصر بن عاصم والحسن ، وروى حروفا عن أبي بكر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات قبل سنة ١٣٠ ه‍ ، وقيل : غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ١ / ٣٤٩.

(٣) المنقول في كتب القراءات : أن السبعة على «خطاياكم» غير ما ورد من أن الكسائي كان يميلها.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٨٥ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣٢.

(٤) سقط في ب.


اسم فاعل من «أحسن» ، والمحسن من صحّح عقد توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره.

وقال بعض المفسرين : معناه : من كان محسنا جازيناه بالإحسان إحسانا ، أو زيادة كما جعل للحسنة عشرا وأكثر.

وقيل : من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة ، فإنا نغفر خطاياه ، ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل ، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئا غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئا ، بل كان محسنا زدنا في إحسانه.

قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

لا بدّ في هذا الكلام من تأويل ؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لا إذا بدّلوا قولا غيره.

فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم ف «بدّل» يتعدّى لمفعول واحد بنفسه ، وإلى آخر بالباء ، والمجرور بها هو المتروك ، والمنصوب هو الموجود ، كقول أبي النجم : [الرجز]

٥١٧ ـ وبدّلت والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا والشّمأل (١)

فالمتطوع عنها الصّبا ، والحاصل لها الهيف.

قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون «بدل» محمولا على المعنى ، تقديره : فقال الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ؛ لأن تبديل القول كان بقول «فنصب» غير عنده في هذين القولين على النّعت ل «قولا».

وقيل : تقديره : فبدل الذين قولا بغير الذي ، فحذف الحرف ، فانتصب «غير».

ومعنى التّبديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولا بغيره ، أي جاءوا بقول آخر ، فكان القول الذي أمروا به ، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حنطة.

والإبدال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وقد يقال : التبديل : التغيير ، وإن لم يأت ببدله.

وقد تقدم الفرق بين بدل وأبدل ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غير إزالة العين ، وأبدل تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قرىء : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا) [القلم : ٣٢] (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) [الكهف : ٨١] بالوجهين ، وهذا يقتضي اتّحادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد ، وبدله غيره.

__________________

(١) ينظر خزانة الأدب : ٢ / ٣٩١ ، والخصائص : ١ / ٣٣٦ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٥٠ و ٢ / ٨٠٨ ، والطرائف الأدبية : ٥٨ ، وبلا نسبة في الدرر : ٤ / ٢٦ ، ولسان العرب : ١١ / ٤٩ [بدل] ، ومغني اللبيب : ٣ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٤.


ويقال : بدل وبدل كشبه وشبه ، ومثل ومثل ، ونكل ونكل [قال أبو عبيدة : لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الأربعة أحرف](١).

فصل في بيان التبديل

قال أبو مسلم : قوله : «فبدّل» يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل ، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة ، قال تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) إلى قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) [الفتح : ١٥] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع ، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله.

وقال جمهور المفسرين : إنّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له ؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل ، فلا بدّ من حصول البدل ، كما يقال : بدّل دينه أي : انتقل من دين إلى دين ، ويؤيده قوله تعالى : (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

فصل في الباعث على تبديلهم

وقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم ، واختلفوا هل هو مطلق الظلم ، فيكونون كلهم بدلوا ، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوا ، وهم الرؤساء والأشراف ، وهذا هو الظاهر ، لقوله في سورة «الأعراف» : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٦٢] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بدّلوها ، أو بدّل كلّ أناس منهم شيئا ، أو بدّلوا في كل وقت شيئا؟

فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعل ، فلم خصّ القول بالتبديل؟

فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد ، فكأنه قال : بدّلوا القول والفعل ، وأيضا فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر ، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل.

واختلفوا في ذلك القول :

فروي عن ابن عبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجدا ، ولم يقولوا حطّة ، بل دخلوا زاحفين على استاههم قائلين حنطة.

وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة.

وقال «مجاهد» : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، ويركعوا ، فدخلوا زاحفين.

وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطّا شمقا ما يعني حطة حمراء استخفافا بأمر الله.

__________________

(١) سقط في ب.


قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أضروا بأنفسهم ، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا.

و «الرجز» : هو العذاب.

فصل في لغات الرجز

وفيه لغة أخرى وهي ضمّ الراء ، وقرىء (١) بهما.

وقيل : المضموم اسم صنم ، ومنه : (وَالرُّجْزَ) [المدثر : ٥]. والرّجز والرّجس بالزاي والسين ـ بمعنى ك : السّدغ والزّدغ.

والصحيح أن الرّجز : القذر ، والرّجز : ما يصيب الإبل ، فترتعش منه ، ومنه : بحر الرّجز في الشّعر.

قوله : (مِنَ السَّماءِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون متعلقا ب «أنزلنا» و «من» لابتداء الغاية ، أي : من جهة السماء ، وهذا الوجه هو الظاهر.

والثاني : أن يكون صفة ل «رجزا» فيتعلّق بمحذوف ، و «من» أيضا للابتداء.

وقوله : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فأعادهم بذكرهم أولا ، ولم يقل : «عليهم» تنبيها على أن ظلمهم سبب في عقابهم ، وهو من إيقاع الظاهر موقع المضمر لهذا الغرض ، وإيقاع الظاهر موقع المضمر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية ، وقول الخنساء : [المتقارب]

٥١٨ ـ تعرّقني الدّهر [نهسا](٢)وحزّا

[وأوجعني](٣) الدّهر قرعا وغمزا (٤)

أي : أصابتني نوائبه جمع.

وضرب يقع في كلام واحد ؛ نحو قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢].

وقول الآخر : [الكامل]

٥١٩ ـ ليت الغراب غداة ينعب دائبا

كان الغراب مقطّع الأوداج (٥)

__________________

(١) والضم قراءة ابن محيصن ، وهي لغة في «الرّجز».

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٤١ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤.

(٢) في أ : نهشا.

(٣) في أ : وأفجعني.

(٤) ينظر الديوان : (١٤٣) ، أمالي الشجري : (١ / ٢٤١) ، الحماسة الشجرية : (١ / ٣٢٣) ، القرطبي : (١ / ٢٨٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٣٥).

(٥) البيت لجرير. ينظر ديوانه وروايته فيه : ينعب بالنوى ... (١ / ١٣٦) ، الطبري : ٢ / ٣٩٦ ، الأمالي الشجرية : ١ / ٢٤٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٥ ، القرطبي : ١ / ٢٨٣.


وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال : [الخفيف]

٥٢٠ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

قوله : (بِما كانُوا) متعلّق ب «أنزلنا» و «الباء» للسببية ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ـ وهو الظّاهر ـ أي : بسبب فسقهم ، وأن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع ، والأصل : يفسقونه ، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة.

وقرأ (٢) «ابن وثّاب» (٣) : «يفسقون» بكسر السين ، وتقدم أنهما لغتان.

فصل في تفسير الظلم

قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وفائدة التكرار التأكيد.

قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره ؛ لأن الظلم قد يكون من الصّغائر ، ولذلك قال

__________________

(١) كرر الموت في مواضع البيت ؛ تهويلا وتعظيما للموت ، فأقام الظاهر موضع الضمير الرابط ، والأصل : لا أرى الموت يسبقه شيء ، وأما قوله : «نغص الموت» ففيه أيضا إقامة الظاهر مقام الضمير ، لكن لا للربط ، ويجوز مثله إذا كان في جملة مستأنفة.

ووضع الظاهر موضع المضمر فيه قبح ، إذا كان تكريره في جملة واحدة ، فلا يكاد يجوز إلا في ضرورة ، وكان مقصودا به التهويل والتعظيم ، فيجوز قياسا في الشعر ؛ بشرط أن يكون بلفظ الأول كما سبق أن وضحناه في الشاهد السابق ، ومنع بعضهم في غير التفخيم مطلقا ، ولا وجه له مع وروده.

ويقول السيرافي ما ملخصه : اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكريره في جملة واحدة ، كان الاختيار ذكر ضميره ، نحو : زيد ضربته ، وزيد ضربت أباه ، وزيد مررت به ، ويجوز إعادة لفظه بعينه في موضع كنايته ، أما إذا أعدت لفظه في جملة أخرى ، فذلك جائز حسن ، نحو قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) والله أعلم ، ومن إعادة الظاهر في جملة واحدة قولك : ما زيد ذاهبا ولا محسنا زيد ، والمختار : ولا محسنا هو بالضمير ؛ ولذلك كان رفع «محسن» أجود ؛ حتى تكون جملة أخرى.

ينظر ديوانه : ص ٦٥ ، ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه : ١ / ١٢٥ ، الأشباه والنظائر : ٨ / ٣٠ ، خزانة الأدب : ١ / ٣٧٨ ، ٣٧٩ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٣٦ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ١٧٦ ، الكتاب : ١ / ٦٢ ، ولسوادة أو لعدي في لسان العرب (نغص) ، شرح جمل الزجاجي : ١ / ٥٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ١٥٣ ، ٢٨٦ ، ٢ / ٨٢٩ ، الخصائص : ٣ / ٥٣ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٠٠ ، يس : ١ / ١٦٥ ، الكافية : ١ / ٩٢ ، القرطبي : ١ / ٢٨٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٥.

(٢) وهي قراءة النخعي والأعمش.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥١ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٦ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٣.

(٣) يحيى بن وثاب الأسدي بالولاء الكوفي : إمام أهل الكوفة في القرآن تابعي ثقة ، قليل الحديث ، من أكابر القراء ، له خبر طريف مع الحجاج : كان يحيى يؤم قومه في الصلاة ، وأمر الحجاج ألّا يؤم بالكوفة إلا عربي فقيل له اعتزل فبلغ الحجاج فقال : ليس عن مثل هذا نهيت. فصلى بهم يوما ثم قال : اطلبوا إماما غيري إنما أردت ألّا تستذلوني ، فإذا صار الأمر إلي فلا أؤمكم.

ينظر الأعلام : ٨ / ١٧٦ (١٦١٣) ، تهذيب التهذيب : ١١ / ٢٩٤ ، غاية النهاية : ٢ / ٣٨٠ ، النجوم : ١ / ٢٥٢.


بعض الأنبياء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقد يكون من الكبائر ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، والفسق لا بدّ وأن يكون من الكبائر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مسلم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم ، وإنما خصّه بظلم معين ، وهو الذي وصفوا به في أوّل الآية ، ويحتمل أنهم استحقّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرّجز عليهم بالفسق الذي كانوا يفعلوه قبل التبديل ، فيزول التكرار.

احتجّ بعضهم بقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) على أنّ ما ورد من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره ، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصّلاة بلفظ التّعظيم ، ولا يجوز القراءة بالفارسية.

وأجاب أبو بكر الرّازي : «بأنهم إنما استحقّوا الذّم لتبديلهم القول إلى قول يضاد معناه معنى الأول ، فلهذا استوجبوا الذم ، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك».

قال ابن الخطيب : «والظّاهر أن هذا يتناول كل من بدّل قولا بقول آخر سواء اتّفقا أو لم يتفقا».

فإن قيل : قال هنا : «وإذ قلنا» ، وفي «الأعراف» : (وَإِذْ قِيلَ) [الأعراف : ١٦١].

قيل : لأن سورة «الأعراف» مكية ، و «البقرة» مدنية فأبهم القائل في الأولى ـ وهي «الأعراف» ـ ليكون لهم وقع في القلب ، ثم بيّنه في هذه السورة المدنية ، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا.

وقال هنا : «ادخلوا» ، وفي «الأعراف» : «اسكنوا».

قال ابن الخطيب : «لأنّ الدخول مقدّم على السّكنى».

وهذا يرد عليه ، فإن «الأعراف» قبل «البقرة» ؛ لأنها مكية.

وقال [هنا](١) «فكلوا» بالفاء ، وفي «الأعراف» «وكلوا» بالواو.

والجواب ـ هاهنا ـ هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) ، وفي «الأعراف» (فَكُلا). [ولم ذكر قوله : (رَغَداً) في «البقرة» ، وحذفه في «الأعراف»؟ لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا](٢) ، وفي «الأعراف» لما لم يسند الفعل إلى نفسه [لا جرم](٣) لم يذكر الإنعام الأعظم.

وقال هنا : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ،) وفي «الأعراف» قدّم المؤخر ؛ لأن الواو للجمع المطلق ، وأيضا يحتمل أن يكون بعضهم مذنبا ، وبعضهم ليس بمذنب ، فالمذنب يكون اشتغاله أولا بالتوبة ، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولا «حطة» ثم يدخلوا الباب سجّدا ، وأما الذي ليس بمذنب ، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولا ، ثم [يذكروا](٤) التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس ، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة

__________________

(١) في ب : في البقرة.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بدلوا.


فكلفوا أن يدخلوا الباب سجدا أولا ، ثم يقولوا «حطة» ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب.

وفيه نظر ؛ لأن هذا القول إنما كان مرّة واحدة.

وقال هنا : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بالواو ، وفي «الأعراف» بغير واو.

وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في «الأعراف» أمرين : قول الحطة ، وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب سجدا ، وهو إشارة إلى العبادة ، ثم ذكر جزاءين : قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ ،) وهو واقع في مقابلة قول الحطّة ، وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ،) وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا ، [فترك](١) الواو يفيد توزيع كل واحد من الجزاءين على كل واحد من الشرطين.

وأما في «البقرة» فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين.

وقال هنا : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً ،) وفي «الأعراف» زاد كلمة «منهم».

قال ابن الخطيب (٢) : لأنه ـ تعالى ـ قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ ،) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم ، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [فذكر لفظة «منهم» في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصّة](٣) ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله ، وأما هنا فلم يذكر في الآيات التي قبل قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص.

وقال هنا : (فَأَنْزَلْنا) وفي [سورة](٤) «الأعراف» : (فَأَرْسَلْنا ،) وأتى بالمضمر دون الظاهر ؛ لأنه ـ تعالى ـ عدّد عليهم في هذه السّورة نعما جسيمة كثيرة ، فكان توجيه الذّم عليهم ، وتوبيخهم بكفرانها أبلغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عدّد هنا.

فلفظ (٥) «الإنزال» للعذاب أبلغ من لفظ «الإرسال».

وقال ـ هنا : (يَفْسُقُونَ ،) وفي «الأعراف» : (يَظْلِمُونَ) تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين.

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

كسرت الذّال من «إذ» لالتقاء الساكنين ، والسين للطلب على وجه الدعاء أي : سأل

__________________

(١) في أ : فذكر.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٨٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ولفظ.


لهم السّقيا ، وألف «استسقى» منقلبة عن ياء ؛ لأنه من «السّقي» ، وتقدّم معنى «استفعل» ، ويقال : «سقيته» و «أسقيته» بمعنى ؛ وأنشد : [الوافر]

٥٢١ ـ سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (١)

وقيل : «سقيته» : أعطيته ما يشرب ، «وأسقيته» : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء.

و «الإسقاء» أبلغ من «السّقي» على هذا.

وقيل : أسقيته : دللته على الماء ، وسيأتي عند قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل: ٦٦] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين ، قال تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] وقال : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً)(٢) [المرسلات : ٢٧].

و «لقومه» متعلّق بالفعل ، واللام للعلّة ، أي : لأجل ، أو تكون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم : «سقيا لك» فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها.

قوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) الإدغام ـ هنا ـ واجب ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين ؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو : اضرب بكرا ، وألف «عصاك» منقلبة عن واو ؛ لقولهم في النّسب : عصويّ ، وفي التثنية عصوان ؛ قال : [الطويل]

٥٢٢ ـ ..........

على عصويها سابريّ مشبرق (٣)

والجمع : «عصيّ» «وعصيّ» بضم العين وكسرها إتباعا ، «وأعص» مثل : «زمن» «وأزمن» ، والأصل : «عصوو» و «أعصو» ، فأعلّ. وعصوته بالعصا ، وعصيته بالسيف. و «ألقى عصاه» يعبر به عن بلوغ المنزل ، قال : [الطويل]

٥٢٣ ـ فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر (٤)

وانشقت العصا بين القوم ، أي : وقع الخلاف ؛ قال : [الطويل]

٥٢٤ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (٥)

__________________

(١) البيت للبيد في ديوانه : ٩٣ ، ولسان العرب [مجد] ، ونوادر أبي زيد : ٢١٣ ، رصف المباني : ٥٠ ، القرطبي : ١ / ٢٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٦.

(٢) زاد في أ : وقد يحذفان ، وقد يحذف أحدهما.

(٣) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه

ينظر ديوانه : ٤٩٦ ، القرطبي : (١ / ٢٨٤) ، الدر المصون : ١ / ٢٣٦.

(٤) البيت لمعقر بن أوس بن حمار في الاشتقاق : ص ٤٨١ ، وينظر لسان العرب (نوى) ، وله أو لعبد ربه السلمي أو لسليم بن ثمامة الحنفي في لسان العرب (عصا) وبلا نسبة في خزانة الأدب : ٦ / ٤١٣ ، ٧ / ١٧ ، رصف : ص ٤٨ ، القرطبي : ١ / ٢٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(٥) البيت لجرير ينظر ذيل الأمالي : (١٤٠) ، وليس في ديوانه ، خزانة الأدب : ٧ / ٥٨١ ، سمط اللآلي : (٨٨٩) ، شرح الأشموني : ١ / ٢٢٤ ، شرح شواهد الإيضاح : ٣٧٤ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٩٠٠ ، ـ


قال الفرّاء : «أوّل لحن سمع ب «العراق» هذه عصاتي» ، يعني : بالتاء.

وفي [المثل](١) : «العصا من العصيّة» أي : بعض الأمر من بعض.

و «الحجر» مفعول. و «أل» فيه للعهد.

وقيل : للجنس ، وهو معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد «أحجار» وفي التكثير : «حجار وحجارة». و «الحجارة» نادر ، وهو كقولنا : «جمل وجمالة» ، و «ذكر وذكارة» قاله ابن فارس والجوهري.

وكيف يكون نادرا وفي القرآن : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) [البقرة : ٢٧] ، (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) [الإسراء : ٥٠] ، (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) [الفيل : ٤] ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً) [هود : ٨٢].

قوله : (فَانْفَجَرَتْ) «الفاء» عاطفة على محذوف لا بدّ من تقديره : فضرب فانفجرت. قال ابن عصفور : إن هذه «الفاء» الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف ، والفاء الداخلة على «انفجرت» محذوفة ، وكأنه يقول : حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، وحذفت «الفاء» الثانية لدلالة الأولى عليها. ولا حاجة إلى ذلك ، بل يقال : حذفت الفاء ، وما عطفته قبلها.

وجعلها الزمخشري جواب شرط [مقدر](٢) قال : [أو](٣) فإن ضربت فقد انفجرت ، قال : «وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ». وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب.

و «الانفجار» : الانشقاق والتفتّح ، ومنه : الفجر لانشقاقه بالضّوء.

وفي «الأعراف» : (فَانْبَجَسَتْ) [الأعراف : ١٦٠] فقيل : هما بمعنى.

وقيل : «الانبجاس» أضيق ؛ لأنه يكون أولا والانفجار ثانيا.

وقيل : انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنى واحد.

قوله : (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) فاعل «انفجرت» ، والألف علامة الرفع ؛ لأنه محمول على المثنّى ، وليس بمثنى حقيقة ، إذ لا واحد له من لفظه ، وكذلك مذكره «اثنان» ، ولا يضاف إلى تمييز ، لاستغنائه بذكر المعدود «مثنى» تقول : «رجلان وامرأتان» ولا تقول : «اثنا رجل ، ولا اثنتا امرأة» إلا ما جاء نادرا فلا يقاس عليه ، قال : [الرجز]

__________________

ـ شرح المفصل : ٢ / ٥١ ، لسان العرب ، (هيج) ، (عصا) ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٦٣ ، المقاصد النحوية : ٣ / ٨٤ ، القرطبي : ١ / ٢٨٥ ، الكشاف : ٤ / ٣٧٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(١) في أ : المقال.

(٢) في أ : مقدم.

(٣) في ب : أما.


٥٢٥ ـ كأنّ خصييه من التّدلدل

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (١)

و «ثنتان» مثل «اثنتين» ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يعربا بخلاف سائر أخواتهما ، قالوا : لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة ، وهي النون ، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعا والباء نصبا وجرّا.

وأما «عشرة» فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث ، ولها أحكام كثيرة.

و «عينا» تمييز. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى : «عشرة» بكسر الشين ، وهي لغة تميم.

قال النحّاس (٢) : «وهذا عجيب ، فإن لغة تميم «عشرة» بالكسر ، وسبيلهم التخفيف ، ولغة «عشرة» بالسكون ، وسبيلهم التثقيل».

وقرأ الأعمش (٣) : «عشرة» بالفتح.

و «العين» : اسم مشترك بين عين الإنسان ، وعين الماء ، وعين الرّكيّة ، وعين الشمس ، وعين الذهب ، وعين الميزان.

والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين : المطر الدائم ستّا أو خمسا. والعين : الثقب في المزادة ، وبلد قليل العين ، أي : قليل النّاس. [وبها عين ، محركة الياء](٤).

فإن قيل : إذا كانت العين لفظا مشتركا بين حقائق ، فكيف وقعت هنا تمييزا؟

فالجواب : أن قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى) ، وقوله : (فَانْفَجَرَتْ) ، وقوله : (مَشْرَبَهُمْ) دليل على إرادة عين الماء ، فاللفظ مع القرينة مميز ، والعين من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها ، كخروج الدّمع من عين الحيوان.

__________________

(١) البيت لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية في خزانة الأدب : ٧ / ٤٠٠ و ٤٠٤ ، ولجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية في المقاصد النحوية : ٤ / ٤٨٥ ، ولخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى في شرح التصريح : ٢ / ٢٧٠ ، إصلاح المنطق : ١٨٩ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٥٠٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٦١ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٨٤٧ ، شرح المفصل :٤ / ١٤٣ و ١٤٤ و ٦٢ / ١٦ و ١٨ ، والكتاب : ٣ / ٥٦٩ و ٦٢٤ ، ولسان العرب (دلل) ، والمقتضب : ٢ / ١٥٦ ، والمنصف : ٢ / ١٣١ ، همع الهوامع : ١ / ٢٥٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(٢) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٨٠.

(٣) وروي عنه كسرها وتسكينها ، وقرأ بالفتح ابن الفضل الأنصاري.

وقد ضعفوا القراءة بفتح الشين.

انظر الشواذ : ٦ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩١ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٧ ، والمحتسب : ١ / ٨٥ ، والتخريجات النحوية : ٣٠٩.

(٤) في أ : وأتى بضمير.


وقيل : لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبّهت به عين الماء ؛ لأنها أشرف ما في الأرض.

قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) [الأعراف : ٨٢] قد تقدّم الكلام على أنّ «أناس» أصل «النّاس». وقال الزمخشري في سورة «الأعراف» : «إنه اسم جمع غير تكسير» ، ثم قال : «ويجوز أن يكون الأصل الكسر ، والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سكارى» من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى.

قوله : (مَشْرَبَهُمْ) مفعول ل «علم» بمعنى «عرف» ، و «المشرب» ـ هنا ـ موضع الشّرب ؛ لأنه روي أنه كان لكل سبط عين من اثنتي عشرة عينا ، لا يشاركه فيها سبط غيره.

وقيل : هو نفس المشروب ، فيكون مصدرا واقعا موقع المفعول به ، وضمير الجمع في قوله: (مَشْرَبَهُمْ) يعود على معنى «كلّ أناس».

فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التّيه

قال جمهور المفسرين : هذا الاستسقاء كان في التّيه ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لما ظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى ، وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ، ولا تتّسخ خافوا العطش ، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال : بل هو كلام مفرد بذاته ، ومعنى الاستسقاء طلب السّقيا من المطر على عادة الناس إذا [أقحطوا] ، ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسّقيا ، [وإنزال الغيث].

[وقال ابن الخطيب :](١) وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين ، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التّيه ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النّادر ، وأيضا روي أنهم كانوا يحملون الحجر معهم ؛ لأنه صار معدّا لذلك ، [فكما كان](٢) المنّ والسّلوى ينزلا في كل غداة ، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت ، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيه.

فصل في جنس الشجرة

اختلفوا في العصا ، فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار وقيل : كانت من آس الجنّة طولها عشرة أذرع على طول موسى ، ولها شعبتان تتّقدان في الظلمة ، واسمه عليق ، وكان آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حمله معه من الجنّة إلى الأرض ، فتوارثه صاغرا عن كابر حتى وصل إلى شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأعطاه لموسى عليه الصلاة والسلام.

والذي ينبغي أن يقال : إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها ، وأن تنقلب حيّة عظيمة ، وما زاد على ذلك لا دليل عليه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فكلما نزل.


قال ابن الخطيب (١) : «والسّكوت عن هذه المباحث واجب ؛ لأنه ليس فيها نصّ متواتر ، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظّن المستفاد من أخبار الآحاد».

فصل في المراد بالحجر

إن قلنا : الألف واللام في «الحجر» للعهد ، فالإشارة إلى حجر معلوم ، روي أنه حجر طوري مربّع قدر رأس الشّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم.

وقيل : بل كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا من [أعظم](٢) الإعجاز.

وقال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل ، فضربه حتى برّأه الله مما رموه به من الأدرة ، فقال له جبريل : فيقول الله ـ تعالى ـ لك : ارفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته. قال أبو روق : كان من [الكدّان](٣) ، وقيل : من الرّخام.

[فإن قلت](٤) : الألف واللام للجنس ، فمعناه : [اضرب] أي حجر كان.

قال الحسن : لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحجّة. وروي أنه كان يضره ضربة واحدة ، فيظهر فيه اثنتا عشر عينا كل عين مثل ثدي المرأة فيعرق ، وهو الانبجاس ، ثم ينفجر بالأنهار.

قال عطاء : ثم يضربه ضربة واحدة فيببس.

وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني (٥) : كان يضربه اثنتا عشرة ضربة لكل عين ضربة.

قال القرطبي : ما أوتي نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من نبع الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المعجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار ، ومعجزة نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخرج الماء من بين لحم ودم!

وروى الأئمة الثقات عن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم مجد ماء فأتي بتور

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٨٩.

(٢) في ب : عظيم.

(٣) في ب : الكتان.

(٤) في ب : وإن قلنا.

(٥) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكتاني المكي : فقيه مناظر. كان من تلاميذ الإمام الشافعي يلقب بالغول لدمامته ، قدم بغداد في أيام المأمون له تصانيف عديدة منها الحيدة مطبوع ، رسالة في مناظرة لبشر المريسي توفي في ٢٤٠ ه‍.

ينظر تهذيب التهذيب : ٦ / ٣٦٣ ، دول الإسلام : ١ / ١١٣ ، مفتاح السعادة : ٢ / ١٦٣ ، ميزان الاعتدال : ٢ / ١٤١ ، الأعلام : ٤ / ٢٩.


فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، ويقول : «حي على الطّهور» (١).

قال الأعمش : حدثني سالم بن أبي الجعد ، قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟ قال : ألفا وخمسمائة. لفظ النّسائي.

فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر

والحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عينا قطع التنازع والتّشاجر بينهم ، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه.

أحدها : أن نفس ظهور الماء معجزة.

وثانيها : خروج الماء العطيم من الحجر الصغير.

وثالثها : خروج الماء بقدر حاجتهم.

ورابعها : خروج الماء عند الضّرب بالعصا.

وخامسها : خروج الماء بالضّرب بعصا معينة.

وسادسها : انقطاع الماء عند الاستغناء عنه ، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة في كل الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات.

قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) هاتان الجملتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا. وقد تقدّم تصريف «كل» وما حذف منه.

قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) هذه من باب الإعمال ؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول. والتقدير : كلوا منه.

و «من» يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفا ، وكذلك مفعول الشرب ؛ للدلالة [عليهما](٢) ، والتقدير : كلوا المنّ والسّلوى لتقدمهما في قوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة. وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالا من ذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمحذوفه.

وقيل : المراد بالرّزق الماء وحده ، ونسب الأكل إليه لما كان سببا في نماء ما يؤكل وحياته ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والمراد بالرزق المرزوق ، وهو يحتمل أن يكون من باب «ذبح ورعي» ، وأن يكون من باب «درهم ضرب الأمير» وقد تقدم بيانه.

فإن قيل : قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) يفهم منه أن ثمّ رزقا ليس لله ، وذلك باطل.

__________________

(١) أخرجه النسائي (١ / ٦٠) ، وأحمد (١ / ٤٦٠) والدارمي (١ / ١٥) وابن خزيمة (٢٠٤) وابن أبي شيبة (١١ / ٤٧٤) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ١٢٩).

(٢) في ب : عليها.


فالجواب : من [وجوه](١) :

[أحدها : أن هذا مفهوم لقب ؛ فلا يدل](٢).

الثاني : أن هذا رزق لم تعمل فيه أيديهم بحرث ولا غيره ، فهو خالص أرسله الله إليهم.

الثالث : أن إضافته إلى الله ـ تعالى ـ إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل ، وما يشرب ؛ لأنه تسبّب عن معجز خارق للعادة.

فصل في كلام المعتزلة

واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة ، فهذا يقتضي كون الرزق مباحا ، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحا وحراما ، وإنه غير جائز.

قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

أصل «تعثوا» : «تعثيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدل عليها. وهذا أولى ، فوزنه «تفعون».

و «العثيّ» و «العيث» : أشد الفساد وهما متقاربان.

وقال بعضهم : «إلا أنّ العيث أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه ، والعثيّ فيما يدرك حكما ، يقال : عثي يعثى عثيّا ، وهي لغة القرآن ، وعثا يعثو عثوّا ، وعاث يعيث عيثا».

وليس «عاث» مقلوبا من «عثي» ك «جبذ وجذب» لتفاوت معنييهما كما تقدم.

ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع ، ويقال : عثي ـ يعثى ـ عثيّا ـ ومعاثا ، وليس «عثي» أصله «عثو» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ك «رضي» من الرّضوان ، لثبوت العثيّ ، وإن توهّم بعضهم ذلك.

ويقال : عثّ يعثّ مضافا أي : فسد ، قال ابن الرّقاع : [الكامل]

٥٢٦ ـ لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (٣)

ومنه : العثّة : [سوسة](٤) تفسد الصّوف.

__________________

(١) في ب : وجهين.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٩٩ ، والأغاني : ٣ / ٣٧٤ ، ٩ / ٣٠٤ ، ٣٠٧ ، وأمالي المرتضى : ١ / ٥١١ ، وسمط اللآلي : ص ٥٢١ ، وشرح التصريح : ١ / ٢١٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٩٢ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٦٢٤ ، ولسان العرب (جسم) ، (عتا) ، ومعجم البلدان : ٢ / ٩٤ (جاسم) ، ومغني اللبيب : ١ / ١٧٣ ، اللامات : ص ١٢٩

(٤) في أ : دورة.


وأما «عتا» بالتاء المثنّاة من فوق فهو قريب من معناه ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

و «مفسدين» حال من فاعل «تعثوا» وهي حال مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من عاملها ، وحسن ذلك اختلاف اللفظين ، ومثله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ، هكذا قالوا. ويحتمل أن تكون حالا مبينة ؛ لأن الفساد أعم ، والمعنى أخص ، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم ؛ لأنهم كانوا متمادين فيه. فغاير بينهما كما ترى.

و «في الأرض» يحتمل أن يتعلّق ب «تعثوا» وهو الظاهر ، وأن يتعلّق ب «مفسدين». والمراد بالأرض : عموم الأرض [لا](١) أرض التّيه.

والمراد بالفساد ـ هاهنا ـ هو قوله في سورة طه : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) [طه : ٨١].

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

«لن نصبر» ناصب منصوب ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وتقدم الكلام على «لن».

قوله : (طَعامٍ واحِدٍ ،) وإنما كان طعامين هما : المنّ والسّلوى ؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف ، أو لأنهما ضرب واحد ؛ لأنهما من طعام أهل التلذّذ والترف ، ونحن أهل زراعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة ، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المنّ والسّلوى ، فيصير طعاما واحدا.

وقيل : لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الواحد ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرجان من الملح دون العذب.

قال ابن الخطيب (٢) : ليس المراد أنه واحد في النوع ، بل إنه واحد في المنهج ،

__________________

(١) في أ : وقيل.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٣.


كما يقال : إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغيّر عن نهجه.

وقيل : كنوا بذلك عن الغنى ، فكأنهم قالوا : لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضا ، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد. و «الطعام» : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب ، ومنه : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) [البقرة : ٤٩] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبرّ والتّمر في حديث الصّدقة ، أو صاعا من طعام أو صاعا من شعير (١). والطّعم ـ بفتح الطاء ـ المصدر أو ما يشتهى من الطعام ـ أو ما يؤديه الذوق ، تقول : طعمه حلو وطعمه مرّ ، وبضمها الشيء المطعوم كالأكل والأكل ؛ قال أبو خراش : [الطويل]

٥٢٧ ـ أردّ شجاع البطن لو تعلمينه

وأوثر غيري من عيالك بالطّعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي

إذا الزّاد أمسى للمزلّج ذا طعم (٢)

أراد بالأول المطعوم ، وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد يعبّر به عن الإعطاء ؛ قال عليه‌السلام : «إذا استطعمكم الإمام فأطعموه» (٣) أي : إذا استفتح ، فافتحوا عليه ، وفلان ما يطعم النوم إلّا قائما ؛ قال : [المتقارب]

٥٢٨ ـ نعاما بوجرة صفر الخدو

د ما تطعم النّوم إلّا صياما (٤)

قوله : «فادع» اللّغة الفصيحة «ادع».

بضم العين من «دعا يدعو».

ولغة بني عامر «فادع» بكسر العين قال أبو البقاء (٥) : «لالتقاء السّاكنين ؛ يجرون المعتلّ مجرى الصّحيح ، ولا يراعون المحذوف» يعني أن العين ساكنة ، لأجل الأمر ، والدّال قبلها ساكنة ، فكسرت العين ، وفيه نظر ؛ لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يكسر الأوّل من الساكنين ، لا الثاني ، فيجوز أن يكون من لغتهم «دعا يدعي» ، مثل «رمى يرمي» ، والدّعاء هنا السّؤال ، ويكون هنا بمعنى التّسمية ؛ كقوله : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦١) كتاب الزكاة باب فرض صدقة الفطر وباب صدقة الفطر على الصغير حديث رقم (١٥٠٣ ، ١٥١٢).

ومسلم في الصحيح (٢ / ٦٧٧) كتاب الزكاة (١٢) باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (٤) حديث رقم (١٢ / ٩٨٤ ، ١٣ / ٩٨٤ ، ١٤ / ٩٨٤ ، ١٥ / ٩٨٤ ، ١٦ / ٩٨٤ ، ١٧ / ٩٨٥).

وأبو داود في السنن حديث رقم (١٦١١) ، (١٦١٢).

(٢) ينظر البيتان في ديوان الهذليين : ٢ / ١٢٨ ، اللسان «طعم» ، القرطبي : ١ / ٢٨٧ والدر المصون : ١ / ٢٣٩.

(٣) موقوف على سيدنا علي كرم الله وجهه.

(٤) البيت لبشر بن أبي خازم. ينظر اللسان «طعم» ، القرطبي : ١ / ٢٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٩.

(٥) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.


٥٢٩ ـ دعتني أخاها أمّ عمرو ...

 .......... (١)

وقد تقدم ، و «لنا» متعلّق به ، واللام للعلة.

قوله : «يخرج» مجزوم في جواب الأمر.

وقال بعضهم : مجزوم بلام الأمر مقدرة ، أي «ليخرج» ، وضعفه الزجاج (٢) وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.

والقراءة المشهورة «يخرج» بضم «الياء» وكسر «الراء» ، و «تنبت» بضم «التاء» وكسر «الباء» وقرأ (٣) زيد بن علي «يخرج» بفتح «الياء» وضم «الراء» و «تنبت» بفتح «التاء» وضم «الباء».

قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) مفعول «يخرج» محذوف عن سيبويه تقديره : مأكولا مما ، أو شيئا ممّا تنبت الأرض. والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، ويكون «من» لابتداء الغاية ، وأن تكون صفة لذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمضمر ، أي : مأكولا كائنا مما تنبته الأرض.

و «من» للتبعيض ، ومذهب الأخفش : أن «من» زائدة في المفعول ، والتقدير : يخرج ما تنبته الأرض ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا.

قال النّحاس : وإنما دعى الحسن إلى زيادتها ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل «يخرج» فأراد أن يجعل «ما» مفعولا و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي : من الذي تنبته ، أو من شيء تنبته ، ولا يجوز جعلها مصدريّة ؛ لأن المفعول المحذوف لا يوصف بالإنبات ؛ لأن الإنبات مصدر ، [والمخرج](٤) جوهر ، وكذلك على مذهب الأخفش ؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات (٥).

قوله : (مِنْ بَقْلِها) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون بدلا من «ما» بإعادة العامل ، و «من» معناها : بيان الجنس.

والثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على «ما» أي : مما تنبته الأرض في حال كونه من بقلها ، و «من» أيضا للبيان.

و «البقل» : كل ما تنبته الأرض من النّجم ، أي : ما لا ساق له ، وجمعه «بقول».

و «القثّاء» معروف ، الواحدة : قثّاءة ، فهو من باب قمح وقمحة ، وفيها لغتان :

__________________

(١) هذا جزء من صدر بيت لعبد الرحمن بن الحكم وهو :

 ... ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان

ينظر شرح المفصل : ٦ / ٢٧ ، الكامل : ٧٢ ، الدر المصون : ٢٣٩.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١١٣.

(٣) انظر تفسير الرازي : ٣ / ٩١.

(٤) في أ : المخروج.

(٥) سقط في ب.


المشهورة كسر القاف ، وهي قراءة العامة ، وقرأ (١) يحيى بن وثّاب ، وطلحة بن مصرّف (٢) ، والأشهب العقيليّ بضم القاف وهي لغة «تميم».

و «القثّاء» مفرده وجمعه ممدود ، تقول : «قثّاء» و «قثّاءة» و «دبّاء» و «دبّاءة» ، و «داء» و «دواء» والهمزة أصل بنفسها في قولهم : «أقثأت الأرض» ، أي : كثر قثّاؤها.

ووزنها «فعّال» ، ويقال في جمعها : «قثائي» ، مثل : «علباء» و «علابي».

قال بعضهم : إلا أن «قثّاء» من ذوات الواو ، تقول «أقثأت القوم» ، أي : أطمعتهم ذلك ، وقثأت القدر سكّنت غليانها بالماء.

قال الجعدي : [الطويل]

٥٣٠ ـ تفور علينا قدرهم فنديمها

ونقثؤها عنّا إذا حميها غلا (٣)

وهذا وهم فاحش ؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم : «أقثأت القوم» بالهمز ، بل كان ينبغي أن يقال : «أقثيث» والأصل «أقثوت» لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء ، ك «أغزيت» من الغزو ، ولكان ينبغي أن يقال : «قثوت القدر» بالواو ، ولقال الشاعر : [نقثوها](٤) بالواو.

و «المقثأة» و «المقثؤة» ـ بفتح الثاء وضمها : موضع «القثّاء».

و «الفوم» : الثّوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ (٥) : «وثومها» ، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما ـ وفي مصحف عبد الله. والفاء تبدل من الثاء كما قالوا : «جدث وجدف» و «عاثور وعافور» و «مغافير ومغاثير» ، ولكنه غير قياس.

وعن ابن عباس الفوم : الخبز (٦) ، تقول العرب : «فوّموا لنا : أي : اختبزوا».

وقال ابن عباس أيضا وعطاء وأبو مالك : هو الحنطة (٧) وهي لغة قديمة ، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن «الفوم» : [الكامل]

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٢) طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله الهمداني اليامي الكوفي ، تابعي كبير ، له اختيار في القراءة ينسب إليه ، أجمع القرّاء على أنّه أقرأ أهل الكوفة. قرأ في الري وأخذ الناس عنه هناك. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة ، قال أبو معشر : ما ترك بعده مثله ، قال عبد الله بن إدريس : كانوا يسمونه سيد القرّاء. ينظر الغاية : ١ / ٣٤٩

(٣) ينظر ديوانه : ١٨ ، اللسان (خثأ) ، القرطبي : ١ / ٤٢٤ ، الدر المصون : (١ / ٢٤٠).

(٤) سقط في ب.

(٥) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٩٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٦) أخرجه ابن جرير (٢ / ١٢٧) عن ابن عباس ومجاهد وعطاء.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٤١) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.


٥٣١ ـ قد كنت أحسبني كأغنى واحد

[نزل](١) المدينة عن زراعة فوم(٢)

وقال ابن دريد : «الفومة السّنبلة» ، وأنشد : [الوافر]

٥٣٢ ـ وقال ربيئهم لمّ أتانا

بكفّه فومة أو فومتان (٣)

وقال القتيبي : «هو الحبوب كلها».

قال الكلبي والنضر بن شميل والكسائي والمؤرج : الصّحيح أنه الثّوم ، لقراءة ابن عباس ، ولكونه في مصحف عبد الله بن مسعود وثومها ؛ ولأنه لو كان المراد الحنطة لما جاز أن يقال لهم : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ لأن الحنطة أشرف الأطعمة ، ولأنّ الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة وأنشد المؤرج لحسان : [المتقارب]

٥٣٣ ـ وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفوم والحوقل (٤)

يعني : الثوم والبصل ؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصّلت : [البسيط]

٥٣٤ ـ كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل (٥)

الفراديس : واحدها فرديس. وكوم مفردس ، أي : معرّش.

وقال بعضهم : «الفوم : الحمّص لغة شاميّة».

قوله : (وَعَدَسِها) العدس معروف ، والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت وعدس زجر للبغال ؛ قال : [الطويل]

٥٣٥ ـ عدس ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق (٦)

__________________

(١) في أ : قدم.

(٢) البيت لأبي محجن الثقفي ينظر في لسان العرب (فوح) ، والدرر : ٢ / ٢٦٧ ، والأشباه والنظائر : ٨ / ٧٨ ، وليس في ديوانه ، وينظر المحتسب : ١ / ٨٨ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٥٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٠.

(٣) ينظر جمهرة اللغة : (٣ / ١٦٠) ، مجاز القرآن : (١ / ٤١) ، الجامع لأحكام القرآن : (١ / ٢٨٩) ، اللسان (فوم) ، والهاء في قوله : «بكفه» غير مشبعة.

(٤) ينظر القرطبي : ١ / ٢٨٩.

(٥) ينظر اللسان (فوم) ، القرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٦) البيت ليزيد بن مفرغ ينظر ديوانه : ص ١٧٠ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٨ ، ولسان العرب (حدس) ، (عدس) ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٤٢ ، ٣ / ٢١٦ ، وتخليص الشواهد : ص ١٥٠ ، وتذكرة النحاة : ص ٢٠ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٤٥ ، وأدب الكاتب : ص ٤١٧ ، والإنصاف : ٢ / ٧١٧ ، والدرر : ١ / ٢٦٩ ، وشرح التصريح : ١ / ١٣٩ ، ٣٨١ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٥٩ ، وشرح المفصل : ٤ / ٧٩ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧١ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب : ص ٣٦٢ ، ٤٤٧ ، وأوضح المسالك : ١ / ١٦٢ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٣٣٣ ، ٦ / ٣٨٨ ، وشرح الأشموني : ١ / ٧٤ ، ـ


والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسه. وعدس في الأرض ذهب فيها ، وعدست إليه المنيّة أي : سارت ؛ قال الكميت : [الطويل]

٥٣٦ ـ أكلّفها هول الظّلام ولم أزل

أخا اللّيل معدوسا إليّ وعادسا

أي : يسار إليّ بالليل. وعدس لغة في حدس ، قاله الجوهري. وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدّس ، وإنه يرقق (١) القلب ويكثر الدّمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم» (٢).

اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [والكراث](٣) وما له رائحة كريهة من البقول.

فذهب الجمهور إلى الإباحة ، للأحاديث الثابتة في ذلك.

وذهبت طائفة من أهل الظاهر ـ القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجماعة إلى المنع ؛ لأن النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سمّاها خبيثة.

وقال تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧].

والصحيح الأول ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لبعض أصحابه : «كل فإنّي أناجي من لا تناجي» (٤).

فصل في لفظ أدنى

قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ ؛) وفي مصحف أبي «أتبدّلون الّذي هو أدنى» ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : ـ وهو الظاهر ـ قول الزجاج أن أصله : «أدنو» من الدنو ، وهو القرب ، فقلبت الواو ألفا لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ومعنى الدّنوّ في ذلك فيه وجهان :

أحدهما : أنه أقرب لقلّة قيمته وخساسته.

__________________

ـ والمحتسب : ٢ / ٩٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٦ ، ٤ / ٢٣ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٩٠ ، وشرح قطر الندى : ص ١٠٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٤ ، القرطبي : ١ / ٢٩٠.

ينظر ديوانه : (١٨٧) ، القرطبي : (١ / ٢٩٠) ، اللسان (عدس).

(١) في ب : يرق.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٤٧) وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ٢٩٤) وذكره السيوطي في اللآلىء المصنوعة (٢ / ١١٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٢) كتاب الصلاة باب ما جاء في الثوم النيء .. حديث رقم (٨٥٥) ، (٩ / ١٩٧) كتاب الاعتصام بالسنة باب الأحكام التي تعرف ... حديث رقم (٧٣٥٩).

ومسلم في الصحيح (١ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥) كتاب المساجد مواضع الصلاة (٥) باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها (١٧) حديث رقم (٧٣ / ٥٦٤) ... وأبو داود كتاب الأطعمة باب ٤١ والبيهقي في السنن (٣ / ٧٧) ، (٧ / ٥٠) ـ وأبو عوانة في مسنده (١ / ٤١٠) وذكره ابن عبد البر في التمهيد (٦ / ٤١٧).


والثاني : أنه أقرب لكم ؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير ، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.

والثاني : قول علي بن سليمان الأخفش أن أصله : «أدنأ» مهموزا من دنأ ـ يدنأ ـ دناءة ، وهي الشيء الخسيس ، إلا أنه خفّف همزته ؛ كقوله : [الكامل]

٥٣٧ ـ ..........

فارعي فزارة لا هناك المرتع (١)

ويدل عليه قراءة زهير (٢) [القرقبي](٣) الكسائي (٤) : «أدنأ» بالهمز.

الثالث : أن أصله : أدون من الشيء الدّون ، أي : الرّديء ، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام ، فصار : أدنو ، فأعلّ كما تقدم. ووزنه «أفلع» ، وقد تقدم معنى الاستبدال.

و «أدنى» خبر عن «هو» ، والجملة صلة وعائد ، وكذلك : «هو خير» صلة وعائد أيضا.

فصل في معنى الآية

ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمنّ والسّلوى الذي هو خير؟ من وجوه :

الأول : أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المنّ والسلوى ، لأنهما طعام منّ الله به عليهم ، وأمرهم بأكله ، فكان في استدامته شكر نعمة الله ، وذلك أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال ، فكان أدنى.

وأيضا لما كان المنّ والسّلوى ألذّ من الذي سألوه ، وأطيب كان أدنى ، وأيضا لما كان ما أعطوه لا كلفة فيه ، ولا تعب ، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والتعب كان [أيضا](٥) أدنى.

__________________

(١) عجز بيت للفرزدق وصدره :

راحت بمسلمة البغال عشيّة

ينظر ديوانه : (٥٠٨) ، أمالي ابن الشجري : (١ / ٨٠) ، الخصائص : (٣ / ١٥٢) ، المحتسب : ٢ / ١٧٣ ، الكشاف : ٤ / ٤٤٥ ، الكتاب : (٣ / ٥٥٤) ، المقتضب : (١ / ٢١٣) ، الحجة : (١ / ٣٠١) ، (٢ / ١٦٩) ، شرح المفصل : (٤ / ١٢٢) ، (٩ / ١١١ ، ١١٣) وشرح الشافية للرضي : (٣ / ٤٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٤١).

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٩٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١.

(٣) سقط في ب.

(٤) زهير القرقبي النحوي ، يعرف بالكسائي ، له اختيار في القراءة يروى عنه ، وكان في زمن عاصم ، روى عنه الحروف نعيم بن ميسرة النحوي ، ينظر غاية النهاية : ١ / ٢٩٥ (١٣٠١).

(٥) سقط في ب.


وأيضا لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حلّه وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغصوب وتدخلها الشّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه.

وأفرد في قوله : (الَّذِي هُوَ أَدْنى) وإن كان ما طلبوه أنواعا حملا على قوله : «ما» في قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ،) أو على الطعام المفهوم من قوله : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ).

قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) القراءة المعروفة (اهْبِطُوا) بكسر الباء ، وقرىء (١) بضمها.

و (مِصْراً) قرأ الجمهور منونا ، وهو خطّ المصحف.

فقيل : إنهم أمروا بهبوط مصر من الأمصار فلذلك صرف.

وقيل : أمروا بمصر بعينه ، وإنما صرف لخفّته ، لسكون وسط ك «هند ودعد» ؛ وأنشد : [المنسرح]

٥٣٨ ـ لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد في العلب (٢)

فجمع بين الأمرين.

أو صرفه ذهابا به إلى المكان.

وقرأ الحسن (٣) : «مصر» بغير تنوين ، وقال : الألف زائدة من الكاتب ، وكذلك في بعض مصاحف عثمان ، ومصحف أبيّ ، وابن مسعود ، كأنهم عنوا مكانا بعينه ، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية.

وقال الزمخشري : «إنه معرّب من لسان العجم ، فإن أصله مصرائيم ، فعرب» ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه ، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العجمة إليه ، فهو نظير «ماه وجور وحمص» ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله : (ادْخُلُوا مِصْرَ) [يوسف : ٩٩]. والمصر في أصل اللغة : الحدّ الفاصل بين الشيئين ، وحكي عن أهل «هجر» أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا : «اشترى فلان الدّار بمصورها» أي : حدودها ؛ وأنشد : [البسيط]

__________________

(١) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٢) البيت لجرير ينظر ملحق ديوانه : ص ٩٠٢١ ، ولسان العرب (دعد) ، (لفع) ، ولعبيد الله بن قيس الرقيات ينظر ملحق ديوانه : ص ١٧٨ ، وبلا نسبة ينظر أدب الكاتب : ص ٢٨٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٩٥ ، والخصائص : ٣ / ٦١ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٥٢٧ ، وشرح قطر الندى : ص ٣١٨ ، وشرح المفصل : ١ / ٧٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٤١ ، وما ينصرف وما لا ينصرف : ص ٥٠ ، والمنصف : ٢ / ٧٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١.

(٣) وقرأ بها الأعمش وأبان بن تغلب وطلحة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٥ ، والتخريجات النحوية : ١٥٥.


٥٣٩ ـ وجاعل الشّمس مصرا لا خفاء به

بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا (١)

قوله : (ما سَأَلْتُمْ مِمَّا) في محلّ نصب اسما ل «إن» ، والخبر في «لكم» ، و «ما» بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الّذي سألتموه.

قال أبو البقاء : «ويضعف أن تكون نكرة موصوفة». يعني : أنّ الذي سألوه شيء معيّن ، فلا يحسن أن يجابوا بشيء مبهم.

وقرىء : «سلتم» مثل : بعتم ، وهي مأخوذة من «سال» بالألف ، قال حسّان رضي الله عنه : [البسيط]

٥٤٠ ـ سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب (٢)

وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم : يتساولان ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة «المعارج» إن شاء الله تعالى.

فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال

أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية.

قال ابن الخطيب : وعندنا ليس الأمر كذلك ، والدليل عليه أن قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) عند إنزال المنّ والسّلوى ليس بإيجاب ، بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) معصية ؛ لأن من أبيح له ضرب من الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك ، إما بنفسه أو على لسان الرسول ، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك ، ولم يكن فيه معصية.

واعلم أن سؤال النّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملّوه ، فاشتهوا غيره.

ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع ، وإنما تعودوا سائر الأنواع ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا.

ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التّيه ، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلّا في البلاد ، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة.

ومنها : أن المواظبة على نوع واحد سبب لنقصان الشهوة ، وضعف الهضم ، وقلّة

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد. ينظر ديوانه : ١٥٩ ، القرطبي : ١ / ٤٢٩ ، الصحاح (مصر) ، اللسان (مصر) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٢).

(٢) ينظر (ملحق ديوانه : ص ٣٧٣) ، وشرح المفصل : ٩ / ١١٤ ، والكتاب : ٣ / ٤٦٨ ، ٥٥٤ ، والمقتضب : ١ / ١٦٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٣ / ٤٨ ، والمحتسب : ١ / ٩٠ ، والممتع في التصريف : ص ٤٠٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٢.


الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلك ، فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئا اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] لأن هذا خلاف الظاهر. واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :

الأول : قولهم : لن نصبر على طعام واحد يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المنّ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية.

الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية.

الثالث : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصف ما سألوه بأنه أدنى ، وما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه.

والجواب عن الأول : أن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئا آخر ؛ لأن قولهم : لن نصبر إشارة إلى المستقبل ؛ لأن «لن» لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.

وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة.

وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بلا كدّ ولا تعب ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية ، بل كان سؤالا مباحا ، وإذا كان كذلك فقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ،) لا يجوز أن يكون لما تقدم ؛ بل لما ذكره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك وهو قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) إلى آخره. فهذا هو الموجب للغضب والعقاب لا كونهم سألوا ذلك.

فصل في المراد ب «مصر»

قال قوم : المراد من «مصر» البلد الذي كانوا فيه مع فرعون ؛ لقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضا قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يقتضي


دوامهم فيه ؛ وقوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس ، وأيضا فإنه ـ تعالى ـ بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة ، قال : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) [المائدة : ٢٦].

فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدّة ، فعند زوال تلك المدّة يجب أن يلزمهم دخولها ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها.

فإن قيل : هذه الوجوه ضعيفة.

أما الأول : فلأن قوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة ، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر ، وأما قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة.

وأما قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) فلا نسلّم أنّ معناه : ولا ترجعوا إلى مصر ، بل يحتمل أن يكون معناه : ولا تعصوا فيما أمرتكم ؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر : ارتدّ على عقبه ، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى.

ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصا بوقت معين.

والجواب : أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإن سلّمنا أنه للندب ، ولكن الإذن في تركه يكون إذنا في ترك المندوب ، وهو لا يليق بالأنبياء.

وأما قوله : لا نسلّم أن المراد من قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا :) ولا ترجعوا.

قلنا : الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسة ، ثم قوله بعده : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) يتبادر إلى الفهم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر.

وقوله : «تخصيص النهي بوقت معين».

قلنا : التخصيص خلاف الظاهر.

قال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يكون المراد «مصر فرعون» لوجهين :

الأول : من قرأ (١) «مصر» بغير تنوين كان علما للبلد المعيّن ، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها ، فحمل اللفظ عليه ، ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علما ، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى.

ومن قرأه منونا فإما أن تجعله اسم علم ، وتقول : إنما نون لسكون وسطه ، فيكون القريب أيضا ما تقدم ، وإن جعلناه اسم جنس فقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) يقتضي التخيير ، كما إذا قال: أعتق رقبة.

__________________

(١) سبق تخريج هذه القراءة.


الوجه الثاني : أن الله ـ تعالى ـ ورث بني إسرائيل أرض «مصر» لقوله : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها.

فإن قيل : قد يكون الرجل مالكا للدّار وإن كان ممنوعا من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد ، فإنه يحرم عليه دخول داره ، وإن كانت مملوكة له ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ ورّثهم «مصر» بمعنى الولاية ، والتصرف فيها ، ثم إنه ـ تعالى ـ حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سكنى الأرض المقدسة؟

قلنا : الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل.

وأجاب الفريق الأول عن حجّتي أبي مسلم.

أما قوله «إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير».

قلنا : نعم ، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل.

وأما الثاني : فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر ، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل.

قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي : جعلت الذّلّة محيط بهم ، مشتملة عليهم ؛ كمن يكون في القبّة المضروبة ؛ قال الفرزدق لجرير : [الكامل]

٥٤١ ـ ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل (١)

أو ألصقت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطّين على الحائط فيلزمه.

ومن قال : إنها الجزية فبعيد ؛ لأن الجزية لم تكن مضروبة حينئذ.

وقال بعضهم : هذا من باب المعجزات ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر عن ضرب الذّلّة والمسكنة عليهم ، ووقع الأمر كذلك ، فكان معجزة. و «الذّلّة» : الصّغار. والذّلّ بالضم : ما كان عن قهر ، وبالكسر : ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب (٢).

و «المسكنة» : مفعلة من السّكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر ، و «المسكين» : مفعيل منه ، إلّا أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة ، قالوا : تمسكن يتمسكن فهو متمسكن ، وذلك كما تثبت ميم «تمندل وتمدرع» من «النّدل» و «الدّرع» وذلك لا يدلّ على أصالتها ؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزّيادة.

وقال الراغب : قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ :) فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢ / ٧١٥) ، القرطبي : ١ / ٢٩٢ ، مجمع البيان : ١ / ٢٧٢ ، (الدر : ١ / ٢٤٢).

(٢) ينظر المفردات : ١٨٣.


وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة ، وأنه من «مسك» و «ضربت» مبني للمفعول و «الذّلة» قائم مقام الفاعل.

قوله : (وَباؤُ) ألف «باء بكذا» منقلبة عن واو ؛ لقولهم : «باء ـ يبوء» مثل : «قال ـ يقول» قال عليه الصّلاة والسّلام : «أبوء بنعمتك عليّ» (١) ، والمصدر : «البواء».

وباء معناه : رجع ؛ وأنشد بعضهم هذا : [الوافر]

٥٤٢ ـ فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا (٢)

وهذا وهم ؛ لأن هذا البيت من مادة : «آب ـ يئوب» فمادته من همزة ، وواو ، وباء ، و «باء» مادته من باء ، وواو ، وهمزة ، وادعاء القلب يه بعيد ؛ لأنه لم يعهد تقدّم العين واللام معا على الفاء في مقلوب ، وهذا من ذاك.

والبواء : الرجوع بالقود ، وهم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء ؛ قال : [الطويل]

٥٤٣ ـ ألا تنتهي عنّا [ملوك] وتتّقي

محارمنا لا يبؤ الدّم بالدّم (٣)

أي : لا يرجع الدم بالدم في القود.

وباء بكذا : أقرّ أيضا ، ومنه الحديث المتقدّم أي : أقرّ بها ، وألزمها نفسي ، وقال : [الكامل]

٥٤٤ ـ أنكرت باطلها وبؤت بحقّها

 .......... (٤)

وقال الراغب : «أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النّبوة الذي هو منافاة الأجزاء».

وقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ) أي : حلّوا مبوأ ومعه غضب ، واستعمال «باء» تنبيه على أن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٨٣٨ ، ٨٨) كتاب الدعوات باب ما يقول إذا أصبح وإذا أمسى.

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٢٧٤) كتاب الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى حديث رقم (٣٨٧٢).

وأحمد في المسند (٤ / ١٢٢ ، ١٢٥) ، (٥ / ٣٥٦) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٣٥٣) ـ والبيهقي في الدلائل (٧ / ١٢٢) وذكره ابن حجر في فتح الباري ١١ / ٩٧ ، ٩٨.

والمنذري في الترغيب ١ / ٤٤٨ ـ والهيثمي في الزوائد ١٠ / ١٢٢ ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٥٠١ ، ٣٥٩٦ ، ٣٥٩٨.

(٢) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم. ينظر شرح المعلقات للتبريزي (٤١٦) ، الشنقيطي : (١٠٥) ، القرطبي : (١ / ٢٩٢) ، المعلقات السبع للزوزني : (١٠٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٤١).

(٣) تقدم برقم (٣٢٣).

(٤) صدر بيت للبيد وعجزه :

عندي ولم يفخر علي كرامها

ينظر ديوانه : (٣١٨) ، مفردات الراغب : (٧٠) ، اللسان (بوأ) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٣).


مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة ، وذلك نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].

ثم قال : وقول من قال : بؤت بحقها ، أي : أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ.

وقولهم : «حيّاك الله وبيّاك» أصله : بوّأك ، وإنما غير للمشاكلة ، قاله خلف الأحمر (١).

وقيل : باءوا : استحقوا ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة: ٢٩] أي : تستحق الإثم جميعا ، ومن قال : إنه الرجوع فلا يقال : باء إلا بشرّ.

قوله : (بِغَضَبٍ) في موضع الحال من فاعل «باءوا» أي : رجعوا مغضوبا عليهم ، وليس مفعولا به ك «مررت بزيد».

وقال الزمخشري : هو من قولك : باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي : صاروا أحقاء بغضبه. وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال.

قوله : (مِنَ اللهِ) الظاهر أنه في محلّ جر صفة ب «غضب» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : بغضب كائن من الله.

و «من» لابتداء الغاية مجازا.

وقيل : هو متعلّق بالفعل نفسه أي : رجعوا من الله بغضب. وليس بقوي.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ).

«ذلك» مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذّلّة والمسكنة [والخلافة](٢) بالغضب.

و «بأنهم» الخبر ، والباء للسببية ، أي : ذلك مستحقّ بسبب كفرهم.

وقال المهدوي : الباء بمعنى اللام أي : لأنهم ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن باء السببية تفيد التّعليل بنفسها.

__________________

(١) خلف بن حيان أبو محرز المعروف بالأحمر راوية عالم بالأدب ، شاعر من أهل البصرة ، كان أبواه موليين من فرغانة ، أعتقهما بلال بن أبي موسى الأشعري قال معمر بن المثنى : خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة وقال الأخفش : لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي وكان يضع الشعر وينسبه إلى العرب ، قال صاحب مراتب النحويين : وضع خلف على شعرا عبد القيس شعرا كثيرا وعلى غيرهم عبثا به فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة وله «ديوان شعر» وكتاب «جبال العرب» و «مقدمة في النحو».

ينظر الأعلام : ٢ / ٣١٠ (٣٨١٨) ، بغية الوعاة : ٢٤٢ ، الشعر والشعراء : ٣٠٨ ، نزهة الألبا : ٦٩!.

(٢) في أ : والخلق.


و «يكفرون» في محلّ نصب خبرا ل «كان» ، و «كان» وما في حيّزها في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم.

قوله : (بِآياتِ اللهِ)(١) متعلّق ب «يكفرون» ، والباء للتعدية.

قوله : (وَيَقْتُلُونَ) في محلّ نصب عطفا على خبر «كان» ، وقرىء (٢) : «تقتلون» بالخطاب التفاتا إلى الخطاب الأول بعد الغيبة. و (يَقْتُلُونَ) بالتشديد للتكثير.

قوله : (النَّبِيِّينَ) مفعول به جمع «نبي».

والقراء (٣) على ترك الهمزة في النّبوة ، وما تصرف منها ، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلّا موضعين : في سورة «الأحزاب» : (لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ) [لأحزاب : ٥٠] ، (بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا) [الأحزاب : ٥٣] ، فإن قالون حكى عنه في الوصل كالجماعة وسيأتي. وأما من همز فإنه جعله مشتقا من «النبأ» وهو الخبر ، فالنّبيّ «فعيل» بمعنى «فاعل» أي : منبّىء عن الله برسالته ، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول» ، أي : أنه منبّأ من الله بأوامره ونواهيه ، واستدلّوا على ذلك بجمعه على «نبآء» ك «ظريف وظرفاء» قال العبّاس بن مرداس : [الكامل]

٥٤٥ ـ يا خاتم النّبآء إنّك مرسل

بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا (٤)

فظهور الهمزتين يدلّ على كونه من «النّبأ» ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة ، قال أبو علي : «قال سيبويه» (٥) : بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يحققون «نبيئا وبريئة» قال : وهو رديء ، وإنما استردأه ؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف. وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعوامّ على إسقاط الهمز من النّبي والأنبياء ، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه ، فذكر أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا نبيء الله»

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قرأ بها الحسن بن أبي الحسن ، وقراءة التشديد لعلي ـ رضي الله عنه ـ ، ونسبت للحسن.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٣ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٢.

(٣) قرأ بالهمز نافع ؛ لأنه من النبأ ، ومن ذلك قوله تعالى : «مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» ، فالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ينبىء ، أي يخبر عن الله تعالى ، وعلى غرار ذلك قول عباس بن مرداس :

يا خاتم النّبآء إنك مرسل

بالحق خير هدى السبيل هداكا

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٨٧ ، والسبعة : ١٥٦ ، والكشف عن وجوه القراءات : ١ / ٢٤٣ ، والعنوان : ٦٩ ، وحجة القراءات : ٩٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٤ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٥.

(٤) ينظر ديوانه : ص ٩٥ ، والكتاب : ٣ / ٤٦٠ ، ولسان العرب : (نبأ) ، وجمهرة اللغة : ص ١٠٢٨ ، والمقتضب : ١ / ١٦٢ ، ٢ / ٢١٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٤.

(٥) ينظر الكتاب : ٢ / ١٧٠.


فهمز ، فقال : «لست بنبيء الله» ـ فهمز ـ ولكنّي نبيّ الله ، ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز.

قال : وقال لي أبو عبيدة : العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف : «النبيّ والبرية والخابية» وأصلهن الهمز.

قال أبو عبيدة : ومنها حرف رابع : «الذّرّيّة» من ذرأ ـ يذرأ ، ويدلّ على أن الأصل الهمز قال سيبويه : [إنهم] كلّهم يقولون : تنبأ مسيلمة فيهمزون.

وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير ، أما الحديث فقد ضعفوه.

قال ابن عطية : ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العبّاس : [الكامل]

٥٤٦ ـ يا خاتم النّبآء ...

 .......... (١)

لم ينكره ، ولا فرق بين الجمع والواحد ، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في «المستدرك» ، وقال : هو صحيح على شرط الشّيخين ، ولم يخرجاه.

فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريج يكون جوابا عن قراءة نافع ، على أنّ القطعيّ لا يعارض بالظني ، وإنما يذكر زيادة فائدة.

والجواب عن الحديث : أنّ أبا زيد حكى : نبأت من أرض كذا إلى أرض كذا ، أي : خرجت منها إليها فقوله : «يا نبيء الله» بالهمز يوهم يا طريد الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره ، فنهاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلّق بالقراءة.

ونظير ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم : (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] لما وجدت اليهود بذلك طريقا إلى السّب به في لغتهم ، أو يكون حضّا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على تحرّي أفصح اللغات في القرآن وغيره ، وأما من لم يهمز ، فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه من المهموز ، ولكن [خفف] ، وهذا أولى ليوافق القراءتين ، ولظهور الهمز في قولهم : تنبأ مسيلمة ، وقوله : «يا خاتم النّبآء ....».

والثاني : أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من «نبا ـ ينبو» : إذا ظهر وارتفع ، ولا شكّ أن رتبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتفعة ، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخلق ، والأصل : «نبيو وأنبواء» ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ك «ميت» في «ميوت» ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء ، فصار : أنبياء.

والواو في «النبوة» بدل من الهمزة على الأول ، وأصل بنفسها على الثّاني ، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» ، أي : ظاهر مرتفع ، أو بمعنى مفعول أي : رفعه الله على خلقه ، أو يكون مأخوذا من النبي الذي هو الطريق ، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه ، به

__________________

(١) تقدم برقم (٥٤٥).


يتوصّلون إلى معرفة خالقهم ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٥٤٧ ـ لمّا وردن نبيّا واستتبّ بنا

مسحنفر كخطوط النّسج منسحل (١)

وقال الشاعر : [المتقارب]

٥٤٨ ـ لأصبح رتما دقاق الحصى

مكان النّبيّ من الكاثب (٢)

«الرّتم» ـ بالتاء المثناة والمثلثة جميعا : الكسر.

و «الكاثب» بالمثلثة : اسم جبل ، وقالوا في تحقير نبوّة مسيلمة : نبيئة.

وقالوا : جمعه أنبياء قياس مطّرد في «فعيل» المعتل نحو : «وليّ وأولياء ، وصفيّ وأصفياء».

وأما قالون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمدرك آخر ، وهو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى ، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ ، فتبدل وتدغم ، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في : (بِالسُّوءِ إِلَّا) [يوسف : ٥٣] من الإبدال والإدغام ، إلّا أنه روي عنه خلاف في : (بِالسُّوءِ إِلَّا) ولم يرو عنه [هنا](٣) خلاف كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللّفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يترك همزة «النّبيّ» ، بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك ، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يفعل ذلك حيث يصل ، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين ، لزوال السّبب المذكور ، فهو تارك للهمز لفظا آت به تقديرا.

فإن قيل : قوله : (يَكْفُرُونَ) دخل تحته قتل الأنبياء ، فلم أعاد ذكره؟

فالجواب : أن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله ، وهو الجهل والجحد بآياته ، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.

قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «يقتلون» تقديره : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره : قتلا كائنا بغير الحقّ ، فيتعلّق بمحذوف.

قال الزمخشريّ (٤) : قتل الأنبياء لا يكون إلّا بغير الحقّ ، فما فائدة ذكره؟

وأجاب : بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحقّ عندهم ؛ لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقّون به القتل عندهم.

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر. ينظر : ديوانه (١١) ، اللسان (كثب) ، القرطبي : ١ / ٢٩٣ ، الدر المصون : (١ / ٢٤٥).

(٢) البيت للقطامي. ينظر ديوانه : (٤) ، البحر : (١ / ٣٨٢).

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٤٦.


وقيل : إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لاحق ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم.

وقيل : هذا التكرير للتأكيد ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون : ١١٧] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ [لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا : أليس أنّ الله يقتلهم ، فكأنه تعالى قال : القتل الصادر من الله ـ تعالى ـ](١) قتل بحقّ ، ومن غير الله قتل بغير حق.

فإن قيل : كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [وقتل](٢) الأنبياء؟

قيل : ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم.

قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : لم يقتل قطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر.

فصل في أوجه ورود لفظ الحق

وقد ورد «الحقّ» على أحد عشر وجها :

الأول : بمعنى «الجزم» لقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢] أي : بغير جزم كهذه الآية.

الثاني : بمعنى «الصّفة» قال تعالى : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٧١] أي : بالصفة التي نعرفها.

الثالث : بمعنى «الصّدق» قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ، ومثله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [مريم : ٤٧] أي : قول الصدق.

الرابع : بمعنى : «وجب» قال تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) [السجدة : ١٣] أي : وجب ، ومثله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [غافر : ٦] أي : وجبت.

الخامس : بمعنى : «الولد» قال تعالى : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) [الحجر : ٥٥] أي : بالولد.

السادس : الحقّ : الحجّة قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] أي : جاءتهم الحجّة ، وهي اليد والعصاة.

السابع : بمعنى «القضاء» قال تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٥] أي : اقض ، ومثله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٩].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وبين.


الثامن : بمعنى : «التوحيد» قال تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) [الصافات : ٣٧] أي : بالتوحيد.

التاسع : الحقّ : الإسلام قال تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] أي : جاء الإسلام ، وذهب الكفر ، ومثله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] أي : إلى الإسلام ، ومثله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩].

العاشر : بمعنى القرآن ، قال تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥] أي : بالقرآن.

الحادي عشر : الحقّ : هو الله تعالى ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) [المؤمنون : ٧١] أي : في إيجاد الولد ، ومثله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) [العصر : ٣] أي : بالله.

قوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) مثل ما تقدم.

وفي تكرير اسم الإشارة قولان :

أحدهما : أنه مشار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيد.

والثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكفر ، وقتل الأنبياء ، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم ؛ لأنهم انهمكوا فيها.

و «ما» مصدرية ، و «الباء» للسببية ، أي : بسبب عصيانهم ، فلا محلّ ل «عصوا» لوقوعه صلة ، وأصل «عصوا» : «عصيوا» تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فالتقى ساكنان [الياء](١) والواو ، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها ، فوزنه «فعوا».

وأصل «العصيان» : الشدة. واعتصت النّواة : إذا اشتدت.

قوله : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) المراد منه الظّلم ، أو تجاوز الحقّ إلى الباطل.

وأصل «الاعتداء» : المجاوزة من «عدا» ـ «يعدو» ، فهو «افتعال» منه ، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء ، ليعم كل ما يعصى ويعتدى فيه.

وأصل «يعتدون» : «يعتديون» ، ففعل به ما فعل ب (تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] من الحذف والإعلال ، وقد تقدم ، فوزنه : «يفتعون».

والواو من «عصوا» واجبة الإدغام في الواو بعدها ، لانفتاح ما قبلها ، وليس فيها [مدّ](٢) يمنع من الإدغام ، ومثله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) [آل عمران : ٢٠] وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو ، فإن المدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين ، فيجب الإظهار ، نحو : (آمَنُوا وَعَمِلُوا) [البقرة : ٢٥] ومثله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ) [الناس : ٥].

__________________

(١) في أ : هي.

(٢) في ب : ما.


فإن قيل : ما الفرق بين ذكره «الحقّ» هاهنا معرفا ، وبين ذكره في «آل عمران» منكرا في قوله : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢]؟

والجواب : أن الحقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ، كفر بعد [إيمان](١) ، وزنى بعد [إحصان](٢) ، وقتل نفس بغير حق».

فالمعرّف إشارة إلى هذا ، والمنكّر المراد به تأكيد العموم ، أي : لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره.

فإن قيل : ما الفائدة في جمعه «الأنبياء» هنا جمع سلامة ، وفي «آل عمران» جمع تكسير؟

فالجواب : [ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السّلامة ، وهو «النّبيّين» ـ «الصّابئين» بخلاف الأنبياء](٣) ..

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

قال ابن عباس : والمراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) هم الذين آمنوا قبل [مبعث](٤) محمد بعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قسّ بن ساعدة ، وبحيرى الراهب ، وحبيب النّجّار ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وخطر بن مالك ، ووفد النجاشي ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله واليوم الآخر ومحمد ، فلهم أجرهم (٥).

وقال سفيان الثوري : المراد من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هم المنافقون ؛ لأنهم يؤمنون باللّسان دون القلب ، ثم اليهود والنصارى والصّابئون ، فكأنه قال : هؤلاء المبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم أجرهم.

وقال المتكلمون : المراد أنّ الذين آمنوا بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يقتضي المستقبل ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا في الماضي ، وثبتوا عليه في المستقبل.

و (هادُوا) في ألفه قولان :

__________________

(١) في أ : الإيمان.

(٢) في أ : الإحصان.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : بعث.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٣).


أحدهما : أنه من واو ، والأصل «هاد ـ يهود» أي : تاب ؛ قال الشاعر : [السريع]

٥٤٩ ـ ..........

إنّي امرؤ من حبّه هائد (١)

أي : تائب ، ومنه سمي اليهود ، لأنهم تابوا عن عبادة العجل ، وقالوا : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي : تبنا ورجعنا.

[قاله](٢) ابن عباس.

وقيل : هو من التهويد ، وهو النطق في سكون ووقار ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٥٥٠ ـ وخود من اللّائي تسمّعن بالضّحى

قريض الرّدافى بالغناء المهوّد (٣)

وقيل : من «الهوادة» ، وهي الخضوع.

الثاني : أنها من ياء ، والأصل : «هاد ـ يهيد» ، أي : تحرّك ، ومنه سمي اليهود ؛ لتحركهم في دراستهم ، قاله أبو عمرو بن العلاء.

وقيل : سموا يهودا نسبة ليهوذا ـ بالذال المعجمة ـ وهو ابن يعقوب عليه الصلاة والسلام ، فغيّرته العرب بالدّال المهملة ، جريا على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ، فعرب ونسب الواحد إليه ، فقيل يهوديّ ، ثم حذف الياء في الجمع ، فقيل يهود.

وكل جمع منسوب إلى جنس ، فهو بإسقاط ياء النسب ؛ كقولهم في «زنجيّ» : زنج ، وفي «روميّ» : روم أيضا. وهيادا : إذا دخل في اليهودية ، وتهوّد إذا [نسبه إليهم](٤) وهوّد إذا دعا إلى اليهودية.

والنّصارى جمع واحده «نصران» ، و «نصرانة» ك : «ندمان وندمانة وندامى» ، قاله سيبويه ؛ وأنشد : [الطويل]

٥٥١ ـ فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنّف (٥)

وقال عليه الصلاة والسلام : «فأبواه يهوّدانه» (٦).

__________________

(١) البيت لرجل من الأعراب. ينظر الصحاح (هود) ، اللسان (هود) القرطبي : ١ / ٢٩٤ ، المحرر الوجيز : (١ / ٣٠٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٧).

(٢) في ب : قال.

(٣) البيت للراعي النميري.

ينظر اللسان (هود) ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٤) في أ : تشبه بهم.

(٥) البيت لأبي الأخزر الحماني ينظر الكتاب : ٣ / ٤١١ ، ولسان العرب (نصر) ، والإنصاف : ٢ / ٤٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٦) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٠٨) كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين حديث رقم (١٣٨٥). ـ


وقرأ (١) أبو السمال (٢) ومجاهد : «هادوا» بفتح الدال ، وإسكان الواو كأنها من المفاعلة ، والأصل : هاديوا فأعلّ كنظائره.

وقيل : سمّوا يهودا لميلهم عن دين الإسلام ، وعن دين موسى ، فعلى هذا إنما سموا يهودا بعد أنبيائهم.

وقال ابن الأعرابي : يقال : هاد : إذا رجع من خير إلى شرّ ، ومن شرّ إلى خير ، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم ، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم ، نقله النووي في «التهذيب» عن الواحديّ(٣).

وأنشد الطبري على «نصران» [قول الشاعر](٤) : [الطويل]

٥٥٢ ـ يظلّ إذا دار العشا متحنّفا

ويضحي لديه وهو نصران شامس (٥)

قال سيبويه (٦) : إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النّسب.

وقال الخليل : «واحد النصارى نصريّ ، كمهريّ ومهارى».

وقال الزمخشريّ : الياء في «نصرانيّ» للمبالغة كالتي في «أحمريّ» و «نصارى» نكرة ، ولذلك دخلت عليه أل ، ووصف بالنكرة في قول الشاعر : [البسيط]

٥٥٣ ـ صدّت كما صدّ عمّا لا يحلّ له

ساقي نصارى قبيل الفصح صوّام (٧)

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٧١٤) ، (٤٧١٦).

وأحمد في المسند (٢ / ٣٣ ، ٢٧٥ ، ٢٨٢ ، ٣٩٣ ، ٤١٠ ، ٤٨١) ، (٣ / ٣٥٣) ـ ومالك في الموطأ (١٩٢) كتاب الجنائز والحميدي في مسنده (١١١٣) ـ وأبو نعيم في الحلية (٩ / ٢٨٨) وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٥٥ ، ٦ / ٢٩٨.

(١) انظر الشواذ : ٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٨ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٤.

(٢) قعنب بن أبي قعنب أبو السمال بفتح السين وتشديد الميم وباللام العدوي البصري ، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة ، رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس ، وأسند الهذلي قراءة أبي السمال عن هشام البربري عن عباد بن راشد عن الحسن عن سمرة عن عمر ، وهذا إسناد لا يصح.

ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٧.

(٣) علي بن أحمد بن محمد ، أبو الحسن الواحدي ، كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما ، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه ، أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي ، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري والنحو عن أبي الحسن القهندري. صنف الوسيط ، والبسيط والوجيز ، ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء ، وله أسباب النزول ، وغير ذلك. مات سنة ٤٦٨ ينظر طبقات ابن قاضي شهبة : ١ / ٢٥٦ ، الأعلام : ٥ / ٥٩ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٤٦٤.

(٤) في أ : قوله.

(٥) ينظر الأضداد : (١٥٥) ، البحر : ١ / ٤٠١ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٦) ينظر الكتاب : ٢ / ٢٩.

(٧) البيت للنمر بن تولب ينظر ديوانه : ص ٣٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٥٥ ، والكتاب : ٣ / ٢٥٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.


وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النّصارنيون. وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها : «ناصرة» كان ينزلها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج. فنسب عيسى إليها ، فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل : النّصارى.

قال الجوهري : و «نصران» قرية ب «الشّام» ينسب إليها النصارى. أو لأنهم كانوا يتناصرون ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥٥٤ ـ لمّا رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النّصارى جارا (١)

وقيل : لأن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال للحواريين : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢].

و «الصّابئين» الجمهور على همزه ، وقرأه (٢) نافع وشيبة (٣) والزهري بياء ساكنة غير مهموزة ، وعن أبي جعفر بياءين خالصتين بدل الهمزة ، فمن همزه جعله من صبأ ناب البعير أي : خرج ، وصبأت النجوم : طلعت.

وقال أبو علي : صبأت على القوم إذا طرأت عليهم. فالصّابىء : التّارك لدينه ، كالصّابىء الطارىء على القوم ، فإنه تارك لأرضه ، ومنتقل عنها.

ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مأخوذا من المهموز فأبدل من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واوا ، فصار من باب المنقوص مثل : «قاض أو غاز» ، والأصل : صاب ، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي ، إلا أن سيبويه (٤) لا يرى قلب هذه الهمزة إلّا في الشعر ، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقا.

الثّاني : أنه من باب «صبا .. يصبو» إذا مال ، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صابئا ؛ لأنه أظهر دينا خلاف أديانهم ، فالصّابي كالغازي أصله : «صابوا» فأعلّ كإعلال

__________________

(١) ينظر أمالي ابن الشجري : (١ / ٧٩) ، القرطبي : (١ / ٢٩٤) ، معاني القرآن للفراء : (١ / ٤٤١) ، تفسير الطبري : ٢ / ١٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٢) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٣) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب ، إمام ، ثقة ، مقرىء المدينة مع أبي جعفر وقاضيها ، ومولى أم سلمة ـ رضي الله عنها ، مسحت على رأسه ودعت له بالخير ، وقال الحافظ أبو العلاء : هو من قراء التابعين الذين أدركوا أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأدرك أمّي المؤمنين عائشة وأم سلمة. مات سنة ١٣٠ في أيّام مروان بن محمد وقيل غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ١ / ٣٢٩.

(٤) ينظر الكتاب : ٢ / ١٩٠.


غاز ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس : «ما الصّابون إنا هي الصابئون ، والخاطون إنما هي الخاطئون». فقد اجتمع في قراءة نافع همز «النبيين» ، وترك همز «الصابئين». [وقد علم أنّ العكس فيهما أفصح](١).

فصل في تفسير الصابئين

[وللمفسرين في تفسير «الصّابئين» أقوال](٢) :

فقال مجاهد والحسن : هم طائفة بين اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم(٣).

وقال السّدي : هم فرقة من أهل الكتاب (٤) [وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر](٥):

وقال إسحاق : لا بأس بذبائح الصابئين ؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب.

وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ، ومناكحة نسائهم.

وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النّصارى ، إلّا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصّلاة والسّلام. [نقله](٦) القرطبي.

وقال قتادة : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات.

وقال أيضا : الأديان خمسة أربعة للشّيطان ، وواحد للرحمن ، وهم : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمجوس يعبدون النّار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنّصارى ، وقال : هم قبيلة نحو «الشام» بين اليهود والنّصارى ، والمجوس لا دين لهم ، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكتاب ، وهو منقول عن أبي حنيفة.

وقال قتادة ومقاتل : هم قوم يقرون بالله عزوجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرون بالزّبور ، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئا.

وقال [الكلبي](٧) : «هم قوم بين اليهود والنّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ، ويجبّون مذاكيرهم». وقال عبد العزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا.

وقيل : هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ رادّا عليهم ومبطلا لقولهم ، وكانوا يعبدون الكواكب.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فصل : اختلف المفسرون في مذهب الصابئين.

(٣) أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن مجاهد كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٥).

(٤) أخرجه وكيع عن السدي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٦).

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : رواه.

(٧) في ب : الطبري.


قال ابن الخطيب : وهو الأقرب ، ثم لهم قولان :

أحدهما : أنّ الله خلق هذا العالم ، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة الصلاة ، والدعاء والتعظيم.

والثاني : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الأفلاك والكواكب ، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر ، والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها ؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم.

قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) آمن : صدق. و «من» في قوله: (مَنْ آمَنَ) في موضع نصب بدل من (الَّذِينَ آمَنُوا). والفاء في قوله : «فلهم» داخلة بسبب الإبهام الذي في «من».

وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، و «آمن» في موضع جزم بالشرط ، و «الفاء» جواب و «لهم أجرهم» خبر «من» والجملة كلها خبر «إن» ، والعائد على «الذين» محذوف تقديره : من آمن منهم بالله ، وحمل الضمير على لفظ «من» فأفرد ، وعلى المعنى في قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فجمع ؛ كقوله : [الطويل]

٥٥٥ ـ ألمّا بسلمى عنكما إن عرضتما

وقولا لها : عوجي على من تخلّفوا (١)

وقال الفرزدق : [الطويل]

٥٥٦ ـ تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٢)

[فراعى المعنى](٣) وقد تقدم تحقيق ذلك [عند] قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة : ٨] والأجر في الأصل مصدر يقال : أجره الله يأجره أجرا ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المجازى به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

والمراد بهذه العنديّة أن أجرهم متيقّن جار مجرى الحاصل عندهم.

قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فقيل : أراد زوال الخوف [عنهم] في الدنيا.

وقيل : الآخرة وهو أصح ؛ لأنه عامّ في النفي ، وكذا قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وهذه لا تحصل في الدنيا ؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن ، إما في

__________________

(١) ينظر البيت في القرطبي : ١ / ٢٩٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٨.

(٢) ينظر ديوانه : ٢ / ٣٢٩ ، وتخليص الشواهد : ص ١٤٢ ، والدرر : ١ / ٢٨٤ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٨٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٥٣٦ ، ٨٢٩ ، والكتاب : ٢ / ٤١٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٠٤ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٦١ ، والخصائص : ٢ / ٤٢٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٦٩ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٣٢ ، ٤ / ١٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٧٣ ، ولسان العرب (منن) ، والمحتسب : ١ / ٢١٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٩٥ ، ٣ / ٢٥٣ ، والدر المصون : ٢ / ٦٥.

(٣) سقط في ب.


أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه ـ سبحانه ـ وعدهم في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما ؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعا لاعتراهم الخوف العظيم.

فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : (الصَّابِئِينَ ،) منصوبة ، وفي «المائدة»: (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] مرفوعة. وقال في الحج : (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] فقدم «الصّابئين» على «النصارى» في آية ، وأخّر «الصّائبين» في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة.

قال ابن الخطيب (١) : إن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

هذا هو الإنعام العاشر.

والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة.

واختلفوا في ذلك الميثاق.

قال الأصمّ : [ما وعده الله القوم](٢) من الدّلائل الدّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود ؛ لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم : هو ما روى عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رجع إلى قومه بالألواح ، قال لهم : «إن فيها كتاب الله تعالى» فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصّاعقة ، فماتوا ثمّ أحياهم ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [فأخذوه](٣) فرفع الطور هو الميثاق (٤) ؛ لأنه آية [باهرة] عجيبة تبهر العقول ، وتردّ المكذب إلى التصديق ، والشّاكّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله ـ تعالى ـ وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألّا يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهدا موثقا. وروي عن عبد الله بن عباس : أن لله ميثاقين.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٨.

(٢) في أ : هو ما وعد الله العقول.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧) عن ابن زيد.


الأول : حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم.

والثاني : أنه ألزم النّاس متابعة الأنبياء ، وهو المراد من هذا العهد.

قال ابن الخطيب (١) : «وهذا ضعيف».

فإن قيل : لم قال : «ميثاقكم» ولم يقل : «مواثيقكم»؟

قال القفّال : لوجهين :

أحدهما : أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي : كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره ، فلا جرم كان كله ميثاقا واحدا.

والثاني : أنه لو قال : مواثيقكم لأبهم أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد.

قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) نظيره : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) [الأعراف : ١٧١]. و «الواو» في قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ) واو عطف على تفسير ابن عباس ، والمعنى : أن أخذ الميثاق كان متقدما فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفعنا عليهم الجبل.

وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال ، كما يقال : «فعلت ذلك والزمان زمان» فكأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطّور فوقكم.

وفوقكم ظرف مكان ناصبه «رفعنا» ، وحكم «فوق» مثل حكم «تحت» ، وقد تقدم الكلام عليه.

قال أبو البقاء (٢) : ويضعف أن يكون حالا من «الطور» ؛ لأن التقدير يصير : ورفعنا الطور عاليا ، وقد استفيد من «رفعنا». وفي هذا نظر ؛ لأن المراد به علو خاص ، وهو كونه عاليا عليهم لا مطلق العلو حتى يصير : رفعناه عاليا كما قدره. قال : «لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع ، وإنما صار فوقهم بالرفع».

ولقائل أن يقول : لم لا تكون حالا مقدرة ، وقد قال هو في قوله : (بِقُوَّةٍ) إنها حال مقدرة كما سيأتي.

و «الطور» اسم [لكلّ](٣) جبل ، وقيل : [لما](٤) أنبت منها خاصة دون ما لم ينبت ، وهل هو عربي أو سريانيّ قولان.

وقيل : سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام ؛ وقال العجّاج : [الرجز]

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٩.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٤١.

(٣) في أ : لمكان.

(٤) في ب : ما.


٥٥٧ ـ دانى جناحيه من الطّور فمرّ

تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

وقال الخليل : الطّور اسم جبل معلوم ؛ لأن لام التعريف تقتضي حمله على جبل معهود مسمى بهذا الاسم ، وهو جبل المناجاة. وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم ، فيجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم.

وقال ابن عباس : أمر الله جبلا من جبال «فلسطين» (٢) ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظّلة ، وبعث نارا من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم ، أي : اقبلوا ما أعطيناكم وإلّا رضختكم بهذا الجبل ، وغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك ، وسجدوا خوفا ، وجعلوا يلاحظون الجبل ، وهم سجود ، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلّا على أنصاف وجوههم (٣).

قوله : «خذوا» في محل نصب بقول مضمر ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل «رفعنا» والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا. وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل : اؤخذ ، عند قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥].

قوله : (ما آتَيْناكُمْ) مفعول «خذوا» ، و «ما» موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أي : ما آتيناكموه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢٨) ، الخصائص : (٢ / ٩٠) ، أمالي القالي : ٢ / ١٧١) ، المحتسب : (١ / ١٥٧) ، المخصص : (١١ / ١٢٠) ، الدرر (٢ / ٢١٣) ، الكامل : (٣ / ٤٧) ، الكشاف : (٤ / ٤٢٦) ، مجاز القرآن : (٢ / ٣٠٠) ، ابن يعيش : (١٠ / ٢٥٠) ، الهمع : (٢ / ١٥٧) ، الأشموني : (٤ / ٣٣٦) ، الصحاح : (قضض) ، الدر : (١ / ٢٤٨).

(٢) (فلسطين) بالكسر ، ثم الفتح ؛ وسكون السين ، وطاء مهملة ، وآخره نون : آخر كور الشام من ناحية مصر ، قصبتها بيت المقدس ، ومن مشهور مدنها : عسقلان ، والرملة ، وغزّة ، وأرسوف ، وقيسارية ، ونابلس ، وأريحا ، وعمّان ، ويافا ، وبيت جبرين ، وهي أول أجناد الشام ، أولها من ناحية الغرب «رفح» ، وآخرها «اللّجون» من ناحية الغور.

وعرضه من البلقاء إلى أريحا ثلاثة أيام ، و «زغر» ديار قوم لوط ، وجبال الشراة إلى «أيلة» كله مضموم إلى جند فلسطين ، وأكثرها جبال ؛ والسهل فيها قليل.

وقيل : إنها الأرض التي قال الله ـ تعالى ـ : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، و (الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) ..

وقيل : فلسطين أيضا قرية بالعراق. ينظر مراصد الاطلاع : ٣ / ١٠٤٢.

والآن قد تمالأ الصهاينة والعملاء الخونة فسلبوها إسلامها ، ويكيدون في الظلام لأخذ قدسها المبارك ، مسرى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فرد الله كيدهم في نحورهم ، وسلّم الله الأرض والقدس لدينه وعباده المسلمين.

(٣) ذكره ابن جرير في تفسيره (٢ / ١٥٨ ، ١٥٩) ، مع اختلاف في اللفظ.


قوله : «بقوة» في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها قولان :

أحدهما : أنه فاعل «خذوا» وتكون حالا مقدرة ، والمعنى : خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به.

والثاني : أنه ذلك العائد المحذوف ، والتقدير : خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشددا فيه أي : في العمل به ، والاجتهاد في معرفته.

قوله : «ما فيه» الضمير يعود على «ما آتيناكم» أي : اذكروا ما في الكتاب ، واحفظوه وادرسوه ، ولا تغفلوا عنه ، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان ؛ لأنه ليس من فعل العبد ، فلا يجوز الأمر به ، وفي حرف «أبيّ» «واذّكروا» بذال مشددة وكسر الكاف ، وفي حرف عبد الله «وتذكّروا ما فيه» [ومعناه](١) : اتّعظوا به.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى.

قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التولّي تفعل من الولي ، وأصله : الإعراض والإدبار عن الشّيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعا ومجازا وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطّور ، وإيتاء التوراة.

قال القفّال رحمه‌الله : «إنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولّوا عن التّوراة بأمور كثيرة ، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها ما اختصّ به بعضهم دون البعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التّيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ، ويعرضون عنه ، ويلقونه بكلّ أذى ، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به من تخريب «بيت المقدس» ، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة من إخبار الله ـ تعالى ـ عن عناد أسلافهم ، فلا عجب في إنكارهم ما جاء به محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من الكتاب والنبوة».

قوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) «لو لا» هذه حرف امتناع لوجود ، والظّاهر أنها بسيطة.

وقال أبو البقاء : هي مركّبة من «لو» ، و «لا» ، و «لو» قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و «لا» للنفي ، والامتناع نفي في المعنى ، وقد دخل النفي ب «لا» على أحد امتناعي «لو» والامتناع نفي في المعنى ، والنّفي إذا دخل على النّفي صار إيجابا ، فمن [ثمّ](٢) صار معنى «لو لا» هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلّف ما لا فائدة فيه ،

__________________

(١) في أ : ومعناها.

(٢) في أ : هنا.


وتكون «لو لا» أيضا حرف تحضيض فتختص بالأفعال ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

و «لو لا» هذه تختص بالمبتدأ ، ولا يجوز أن يليها الأفعال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك أوّل ؛ كقوله : [الوافر]

٥٥٨ ـ ولو لا يحسبون الحلم عجزا

لما عدم المسيئون احتمالي (١)

وتأويله أن الأصل : «ولو لا أن تحسبوا» فلما حذفت أن ارتفع الفعل ؛ كقوله : [الطويل]

٥٥٩ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 .......... (٢)

أي : «أن أحضر» (٣).

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٢٤٩.

(٢) صدر بيت لطرفة بن العبد وعجزه :

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ينظر ديوانه : (٣٢) ، والكتاب : ٣ / ٩٩ ، والمقتضب : ٢ / ٨٥ ، ومجالس ثعلب : ١ / ٣١٧ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٨٣ ، الصاحبي : (١٧٨) ، الإنصاف : ٢ / ٥٢٠ ، وابن يعيش : ٢ / ٧ ، وابن عقيل : ٢ / ٣٦٢ ، الهمع : ١ / ٥ ، والدرر : ١ / ٣ ، الفراء : ٣ / ٢٦٥ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٨٦ ، والعيني : ٤ / ٤٠٢ ، شرح القصائد العشر : ١٣٢ ، المحتسب : ٢ / ٣٣٨ ، شذور الذهب : ١٥٣ ، شرح أبيات المغني : ٥ / ٥٨.

(٣) استشهد بهذا البيت على نعت «أي» باسم الإشارة ، ثم نعت اسم الإشارة بالاسم المحلى بالألف واللام ، وهذا هو الغالب إذا نعت «أي» باسم الإشارة (شذور الذهب ـ ١٩٩).

وفي البيت شاهد آخر : وهو انتصاب الفعل المضارع الذي هو قوله : (أحضر) بأن المصدرية المحذوفة ، وذلك عند من روى هذا الفعل بالنصب وهم الكوفيون ، والذي سهل النصب مع الحذف ذكر «أن» في المعطوف ، وهو قوله : «وأن أشهد اللذات» ونظيره : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» بنصب «تسمع» ويستدلون بقراءة عبد الله بن مسعود : «وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله» فنصب تعبدوا بأن مقدرة ؛ لأن التقدير فيه : ألّا تعبدوا إلا الله ، فحذف «أن» وأعملها مع الحذف ، فدل على أنها تعمل النصب مع الحذف ؛ وكذلك الشاهد في هذا البيت على رواية النصب.

فأما البصريون : فيروون البيت برفع «أحضر» ؛ لأنهم لا يجيزون أن ينتصب الفعل المضارع بحرف محذوف ؛ لأن نواصب المضارع عوامل ضعيفة لا تعمل إلا وهي مذكورة ، والذي يدلّ على ذلك أنّ «أنّ» المشدّدة لا تعمل مع الحذف ، ف «أن» الخفيفة أولى ألّا تعمل ؛ وذلك لوجهين : أحدهما : أنّ «أنّ» المشددة من عوامل الأسماء ، و «أن» الخفيفة من عوامل الأفعال ، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال ، وإذا كانت «أنّ» المشددة لا تعمل مع الحذف ، وهي الأقوى ، فألّا تعمل «أن» الخفيفة مع الحذف وهي الأضعف ، كان ذلك من طريق الأولى. والثاني : أنّ «أن» الخفيفة إنما عملت النصب ؛ لأنها أشبهت «أنّ» المشددة ، وإذا كان الأصل المشبه به لا ينصب مع الحذف ، فالفرع المشبه أولى ألا ينصب مع الحذف ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الفرع أقوى من الأصل ، وذلك لا يجوز ـ وبقية خلاف البصريين والكوفيين في الإنصاف : ٢ / ٣٢٧. ـ


والمرفوع بعدها مبتدأ خلافا للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر ، وللفراء حيث قال : «مرفوع بنفس لو لا». وخبره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولو لا فضل الله كائن أو حاصل ، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لحّن المعرّيّ في قوله : [الوافر]

٥٦٠ ـ يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلولا الغمد يمسكه لسالا (١)

حيث أثبت خبرها بعدها ، هكذا أطلقوا ، وبعضهم فصّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كونا مطلقا ، فالحذف واجب ، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام ، وإن كان كونا مقيدا فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أو لا ، فإن لم يدلّ عليه دليل ، وجب ذكره ؛ نحو قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر» (٢) ، وقول الآخر : [الطويل]

٥٦١ ـ فلولا بنوها حولها لخبطتها

 .......... (٣)

وإن دلّ عليه دليل جاز الذّكر والحذف نحو : «لو لا زيد لغلبنا» أي : شجاع ، وعليه بيت المعرّي المتقدم.

__________________

قال الأعلم الشنتمري : وعند سيبويه رفع «أحضر» لحذف الناصب وتعريه منه ، والمعنى : لأن أحضر الوغى ، وقد يجوز النصب بإضمار «أن» ضرورة ، وهو مذهب الكوفيين (الكتاب ٣ / ٩٩).

أما ابن يعيش : فيستشهد بالبيت على اطراد حذف «أن» وإرادتها ، والمراد : أن أحضر الوغى ، فلما حذف «أن» ارتفع الفعل وإن كانت مرادة (شرح المفصل ٤ / ٢٨).

أما الزجاجي : فيرفعه على فقدان الناصب ، ويرويه منصوبا (الجمل في النحو : للزجاجي ، ١٤٠ ، ١٤١).

أما ابن هشام : فيرى حذف «أن» وارتفاع الفعل مع من رفع «أحضر» (مغني اللبيب ٢ / ٣٨٣).

قال الفارسي : روى ابن قطرب عن أبيه ؛ أنه سمع من العرب من يقول : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى بنصب أحضر على إضمار «أن» ، وهذا قبيح ؛ ألا ترى أنّ «أن» لا تكاد تعمل مضمرة ، حتى يثبت منها عوض ، نحو : الفاء أو الواو ، أو تعطف على اسم.

(١) البيت لأبي العلاء المعري في أوضح المسالك ١ / ٢٢١ ، والجنى الداني ٦٠٠ ، والدرر ٢ / ٢٧ ، ورصف المباني ٢٩٥ ، شرح الأشموني ١ / ١٠٢ ، وشرح ابن عقيل ١٢٨ ، مغني اللبيب ١ / ٢٧٣ ، المقرب ١ / ٨٤ ، الدر المصون ١ / ٢٤٩.

(٢) أخرجه ابن ماجه في السنن (٢ / ١٩٨٥) كتاب المناسك باب الطواف بالحجر حديث رقم (٢٩٥٥) بلفظه.

والدارمي في السنن (٢ / ٥٤) كتاب المناسك باب الحجر من البيت وأخرجه البخاري في الصحيح بلفظ مقارب (٢ / ٢٨٧) كتاب الحج باب فضل مكة ... حديث رقم (١٥٨٥) ، (١٥٨٣) ، (٤ / ٢٨٨) كتاب الأنبياء ... حديث رقم (٣٣٣٦٨).

وأحمد في المسند (٦ / ١٧٩) ـ وابن خزيمة في صحيحه حديث (٣٠٢٠) والحاكم في المستدرك (١ / ٤٧٩) ـ وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٤٦٦٦).

(٣) صدر بيت للزبير بن العوام وعجزه :

كخبطة عصفور ولم أتلعثم

ينظر المغني : (٥٦٣) ، العيني : (١ / ٥٧١) ، شرح شواهد المغني : (٢ / ٨٤١) ، الدر : (١ / ٢٥٠).


وقال أبو البقاء (١) : ولزم حذف الخبر للعلم به ، وطول الكلام ، فإن وقعت «أن» بعدها ظهر الخبر كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣] فالخبر في اللّفظ ل «أن» ، وهذا الّذي قاله موهم ، ولا تعلّق لخبر «أن» بالخبر المحذوف ، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء ، والتقدير : فلولا كونه مسبحا حاضر أو موجود. فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [والخبر](٢) يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله ـ تعالى ـ في مواضعها ، وقد تقدم معنى الفضل عند قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧].

قوله : (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللّام جواب «لو لا» ، واعلم أن جوابها إن كان مثبتا ، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها ، ويقلّ حذفها ؛ قال : [البسيط]

٥٦٢ ـ لو لا الحياء ولو لا الدّين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري (٣)

وإن كان منفيّا فلا يخلو : إما أن يكون حرف النّفي «ما» أو غيرها ، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو : «لو لا زيد لم أقم ، ولن أقوم» ، لئلا يتوالى لامان ، وإن كان ب «ما» فالكثير الحذف ، ويقلّ الإتيان بها ، وهكذا حكم جواب «لو» الامتناعية ، وقد تقدم عند قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] ، ولا محلّ لجوابها من الإعراب.

و «من الخاسرين» في محلّ نصب خبر «كان» ، و «من» للتبعيض.

فصل في تفسير فضل الله عليهم

ذكر القفّال في تفسيره وجهين :

الأول : لو لا تفضل الله عليكم من إمهالكم ، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين ، أي من الهالكين [الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم](٤) ، ومنه قوله تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١].

والثاني : أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ،) ثم قال : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) رجوعا بالكلام إلى أوله ، أي : لو لا لطف الله ـ تعالى ـ بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولو لا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم.

فإن قيل : كلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره ، فهذا يقتضي أن انتفاء

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤١.

(٢) في ب : والجر.

(٣) البيت لابن مقبل ينظر ديوانه : ص ٧٦ ، الدرر : ٥ / ١٠٤ ، لسان العرب (بعض) ، الشعر والشعراء : ١ / ٤٦٣ ، الجنى الداني : ص ٥٩٨ ، رصف المباني : ص ٢٤٢ ، همع الهوامع : ٢ / ٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٠.

(٤) في أ : وقيل : المغلوبين.


الخسران من لوازم حصول فضل الله ـ تعالى ـ فحيث حصل الخسران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى.

وهذا يقتضي أن الله ـ تعالى ـ لم يفعل بالكافر شيئا من الألطاف الدينية ، وذلك خلاف قول المعتزلة.

أجاب الكعبي بأنه ـ تعالى ـ سوّى بين الكلّ في الفضل ، لكن بعضهم انتفع دون بعض ، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لو لا أن أباك [فضّلك] لكنت فقيرا ، وهذا ضعيف ؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، وإذا ثبت هذا فكلام الكعبي ساقط.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [إليهم](١) ما وجه إليهم من التشديدات.

و «اللام» في [لقد] جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد ، وكذلك نظائرها.

قال بعض المتأخرين لها نحو أربعين معنى قال : وجميع أقسام «اللام» التي هي حرف معنى يرجع عند التّحقيق إلى قسمين : عاملة ، وغير عاملة.

فالعاملة قسمان : جارّة ، وجازمة ، وزاد الكوفيون النّاصبة للفعل.

وغير العاملة خمسة أقسام : لام ابتداء ، ولام فارقة ، ولام الجواب ، ولام موطّئة ، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحاديا.

أما الجارة فلها ثلاثون قسما مذكورة في كتب النحو.

وأمّا الجازمة فلام الأمر ، والدعاء والالتماس. وحركة هذه اللام الكسر.

ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة ، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء ، وهو الأكثر.

وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال :

وأما اللام ـ [هنا فهي لام «كي»](٢) عند الكوفيين ، وعند البصريين لام جرّ.

ولام الجحود نحو : ما كان زيد ليذهب ، ولام الصّيرورة ، وتسمى لام التّعاقب ، ولام المآل (٣) واللام الزائدة كقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] واللام بمعنى الفاء كقوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] أي : فيضلوا. والكلام على هذه اللّامات ليس

هذا موضعه ، وإنما نبّهنا عليه ، فيطلب من مكانه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لام المالك.


و «قد» حرف تحقيق وتوقّع ، وتفيد في المضارع التقليل إلّا في أفعال الله ـ تعالى ـ فإنها للتحقيق ، وقد تخرج المضارع إلى المضيّ كقوله : [البسيط]

٥٦٣ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (١)

وهي أداة مختصّة بالفعل ، وتدخل على الماضي والمضارع ، وتحدث في الماضي التقريب من الحال.

وفي عبارة بعضهم : «قد» حرف يصحب الأفعال ، ويقرّب الماضي من الحال ، ويحدث تقليلا في الاستقبال.

والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة معان : التوقّع ، والتقريب ، والتحقيق ، ومع المضارع أحد أربعة معان : التوقّع ، والتقليل ، والتكثير ، والتحقيق. قال ابن مالك : «والدّالة على التقليل تصرف المضارع» ، وكذلك الدّالة على التكثير. وأما الدالة على التحقيق ، فقد تصرفه إلى المضيّ ، ولا يلزم فيها ذلك ، وهي مع الفعل كجزء منه ، فلا يفصل بينهما بغير القسم ؛ كقوله : [الطويل]

٥٦٤ ـ أخالد قد ـ والله ـ أوطأت عشوة

وما العاشق المظلوم فينا بسارق (٢)

وإذا دخلت على الماضي ، فيشترط أن يكون متصرفا ، وإذا دخلت على المضارع ، فيشترط تجرّده من جازم وناصب ، وحرف تنفيس ، وتكون اسما بمعنى «حسب» ؛ نحو : «قدني درهم» ، أي : حسبي ، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالبا ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين ، قال : [الرجز]

٥٦٥ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي (٣)

والياء المتّصلة ب «قدني» في موضع نصب إن كان «قدني» اسم فعل ، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى «حسب».

والياء في «قدي» تحتمل أن تكون بمعنى «حسبي» ، ولم يأت بنون الوقاية على أحد

__________________

(١) البيت لأخي يزيد بن عبد الله البجلي ينظر شرح شواهد المغني : ص ٤٨٨ ، تذكرة النحاة : ص ٧٦ ، ومغني اللبيب : ص ٢٨٤ ، ٣٩٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، ٥ / ٧٣ ، والجنى الداني : ص ٢٦٠ ، والدر : ١ / ٢٥١.

(٢) وهو أخو يزيد بن عبد الله البجلي. وقد لفق بعضهم بين صدر هذا البيت وعجز بيت للفرزدق. المغني ١٨٦ وشرح شواهده ٤٨٨ ـ ٤٨٩ وديوان الفرزدق ٥٦١. وقد أوطأت عشوة أي ركبت أمرا غير بيّن.

(٣) البيت لأبي بحدلة وقيل لحميد الأرقط. ينظر أمالي الشجري : (١ / ١٤) ، النوادر : (٢٠٥) ، شرح المفصل : (٣ / ٢٤) ، شواهد المغني : (٤٨٧) ، الإنصاف : (١٣١) ، الخزانة : (٢ / ٤٤٩) ، العيني : (١ / ٣٧٥) ، الكتاب : (٢ / ٣٧١) ، الأمالي الشجرية : (١ / ١٤) ،. ابن يعيش : (٣ / ١٢٤) ، الجنى الداني : ٢٥٣ ، الهمع : (١ / ٦٢) ، الأشموني : (١ / ١٢٥) ، شرح التصريح : (١ / ١١٢) ، ومصابيح المعاني : ص ٣٢١ ، الدر المصون : (١ / ٢٥١).


الوجهين ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، وحذفت النون للضرورة ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، والياء للإطلاق.

وإن كانت حرفا جاز حذف الفعل بعدها ، كقوله : [الكامل]

٥٦٦ ـ أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١)

أي : قد زالت.

وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [مفصلة](٢).

و «علمتم» بمعنى : عرفتم ، فيتعدّى لواحد فقط.

والفرق بين العلم والمعرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات ، وما هي عليه من الأحوال نحو : «علمت زيدا قائما أو ضاحكا» ، والمعرفة تستدعي معرفة الذّات.

وقيل : لأن المعرفة يسبقها جهل ، والعلم قد لا يسبقه جهل ، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى.

و (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) الموصول وصلته في محصل نصب مفعول به ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم ، أي : أحكام الذين اعتدوا ؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم.

وأصل «اعتدوا» : «اعتديوا» ، فأعلّ بالحذف ، ووزنه «افتعوا» ، وقد عرف تصريفه ومعناه.

و «منكم» في محلّ نصب على الحال من الضمير في «اعتدوا» ، ويجوز أن يكون من «الذين». أي : من المعتدين كائنين منكم.

و «من» للتبعيض.

و «في السّبت» متعلّق ب «اعتدوا» ، والمعنى : في حكم السبت.

وقال أبو البقاء : وقد قالوا : «اليوم السّبت» ، فجعلوا «اليوم» خبرا عن «السبت» ، كما يقال : «اليوم القتال» ، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف ، تقديره : في يوم السّبت ، فالسّبت في الأصل مصدر «سبت» أي : قطع العمل.

وقال ابن عطية : والسّبت : إما مأخوذ من «السّبوت» الذي هو الراحة والدّعة ، وإما من «السّبت» وهو القطع ؛ لأن الأشياء فيه سبتت ، وتمت خلقتها.

__________________

(١) البيت للنابغة. ينظر ديوانه : (٢٧) ، شرح المفصل : (٨ / ٥) ، الخصائص : (٢ / ٣٦١) ، الخزانة : (٧ / ١٩٧) ، الدرر : (١ / ١٢١) ، الأشموني : (١ / ٣١) ، المغني : (١ / ٢٧١) ، التصريح : (١ / ٢٦) ، الهمع : (١ / ١٤٣) ، الجنى الداني : (٢٦٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٥١).

(٢) سقط في ب.


ومنه قولهم : سبت رأسه أي : حلقه.

وقال الزمخشري : «والسّبت مصدر [سبتت] اليهود : إذا عظمت يوم السبت». وفيه نظر ، فإنّ هذا اللفظ موجود ، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليهود ذلك ، اللهم إلا [أن](١) يريد هذا السبت الخاصّ المذكور في هذه الآية.

والأصل فيه المصدر كما ذكرت ، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع ، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تمّ وانقطع ، وقد يقال : يوم السبت فيكون مصدرا.

وإذا ذكر معه «اليوم» ، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملا وحدثا جاز نصب «اليوم» ، ورفعه ، نحو : «اليوم الجمعة» ، «اليوم العيد» كما يقال : «اليوم الاجتماع والعود».

فإن ذكر مع «الأحد» وأخواته وجب الرفع على المشهور ، وتحقيقها مذكور في [كتب] النحو.

فصل في قصة عدوانهم بالصيد

روي عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال : هؤلاء القوم كانوا في زمان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ ب «أيلة» على ساحل البحر بين «المدينة» و «الشام» وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من الماء لأمنها ، فإذا مضى يوم السّبت تفرقن ، ولزمن قعر البحر فذلك قوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف : ٦٣] فعمد رجال فحفروا حياضا عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فتحوا تلك الجداول ، فكانت الحيتان تدخل إلى الحياض ، فلا تطيق الخروج منها لبعد عمقها ، وقلّة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد.

وقيل : كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ، وذلك هو اعتداؤهم ، ففعلوا ذلك زمانا واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد ، ولم تنزل عقوبة قست قلوبهم [وتجرءوا](٢) على الذنب فاستنّ الأبناء بسنّة الآباء ، واتخذوا الأموال ، وقالوا : ما نرى السبت إلّا وقد أحل لنا ، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت ، ونهوهم عن ذلك فلم ينتهوا ، وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان ، فما زادنا الله به إلا عزّا فقيل لهم : لا تفتروا فربما نزل بكم العذاب ، فانقسموا ثلاثة أصناف : صنف أمسك وانتهى ، وصنف ما أمسك ولم ينته ،

__________________

(١) في ب : أمد.

(٢) في ب : تجروا.


وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قبول النصح قال الناهون : والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار ، ومكثوا على ذلك سنين ، فلعنهم داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ وغضب الله عزوجل عليهم لإصرارهم على المعصية ، فخرج النّاهون ذات يوم من بابهم ، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تسوّروا عليهم الحائط ، فإذا هم جميعا قردة خاسئين.

فإن قيل : إذا كانوا قد نهوا عن الاصطياد يوم السّبت ، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السّبت دون سائر الأيام؟

فالجواب : أما على مذهب أهل السّنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى.

وأما على مذهب المعتزلة ، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.

و (قِرَدَةً خاسِئِينَ) يجوز فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكونا خبرين ، قال الزّمخشري : «أي : كونوا جامعين بين القرديّة والخسوء».

وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد ، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب : «هذا حلو حامض» وقد تقدّم القول فيه.

والثّاني : أن يكون «خاسئين» نعتا ل «قردة» قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء ، وهذا جمع العقلاء.

فإن قيل : المخاطبون عقلاء؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يفيد ؛ لأن التقدير عندكم حينئذ : كونوا مثل قردة من صفتهم الخسوء ، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنهم مشبّهون بالعقلاء كقوله : (لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] و (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].

والثالث : أن يكون حالا من اسم «كونوا» ، والعامل فيه «كونوا» ، وهذا عند من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظروف [والأحوال](١) وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) [يونس : ٢].

الرابع : وهو الأجود أن يكون حالا من الضمير المستكنّ في «قردة» ؛ لأنه في معنى المشتق أي : كونوا ممسوخين في هذه الحال.

وجمع «فعل» على «فعلة» قليل لا ينقاس.

ومادة «القرد» تدلّ على اللّصوق والسكون ، تقول : قرد بمكان كذا : أي : لصق به وسكن ، ومنه : الصّوف «القرد» أي : المتداخل ، ومنه أيضا : «القراد» هذا الحيوان المعروف ويقال : «خسأته فخسا ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض وقيل : خسأته فخسىء وانخسأ ، والمصدر «الخسوء» و «الخسء».

__________________

(١) سقط في ب.


وقال الكسائي : «خسأت الرجل خسأ ، وخسأ هو خسوءا» ، ففرق بين المصدرين.

والخسوء : الذّلة والصّغار والطرد والبعد ، ومنه : خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع : وهي لغة «كنانة».

وقال أبو روق : يعني خرسا لقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله ـ تعالى ـ مسخ قلوبهم يعني : بالطّبع والختم ، إلا أنه مسخ صورهم لقوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] وهذا مجاز ظاهر [مشهور](١).

فصل في المقصود من ذكر هذه القصة

والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران :

الأول : إظهار معجزة سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه ، فلما أخبرهم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن هذه الواقعة مع أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يخالط القوم ـ دلّ ذلك على أنه إنما عرفه بالوحي.

والثاني : أنه ـ تعالى ـ لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السّبت ، فكأنه يقول لهم : لا تتمردوا ولا تغتروا بالإمهال ، فينزل بكم ما نزل بهم ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً) ظلما (مَعَكُمْ مِنْ) قبلكم (أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [النساء : ٤٧] الآية.

فإن قيل : إنهم بعد أن صاروا قردة لا يبقى لهم فهم ، ولا عقل ، ولا علم ، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب ، ووجود القرديّة غير مؤلم.

فالجواب : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الذي كان إنسانا عاقلا فاهما كان ثابتا لم يتغير ، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية ، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب المعصية ، فكانت في نهاية الخوف والخجل ، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟.

فإن قيل : أولئك القردة بقوا أو هلكوا ، فإن بقوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نسلهم أم لا؟

فالجواب : الكل جائز ، إلّا أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، ولم ينسلوا (٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه أحمد في المسند : ١ / ٣٩٠ ، ٤١٣ ، ٤٦٦ ، عن أم حبيبة ولفظه إن الله لم يمسخ شيئا فيدع له نسلا وقد كانت القردة والخنازير ـ والطبراني في الكبير ١٠ / ١٣١ ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٥.


قال ابن عطية (١) : وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال إن الممسوخ لا ينسل ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. قاله القرطبي. وهذا هو الصحيح.

واحتج ابن العربيّ وغيره على أن الممسوخ يعيش ، وينسل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشّاة تشربها» (٢).

ويقول جابر رضي الله عنه : أتي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضبّ فأبى أن يأكل منه وقال : «لا أدري لعلّه من القرون التي مسحت». (٣)

وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال : «رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم» (٤).

قال ابن العربي : فإن قيل : كيف تعرف البهائم الشرائع حتى ورثوها خلفا عن خلف إلى زمان عمر؟

قلنا : نعم! كان ذلك ؛ لأن اليهود غيّروا الرّجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحجّة على ما أنكروا وغيّروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم ، وأخبارهم ، ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون.

قال القرطبي : ولا حجّة في شيء من ذلك ، أما حديث الفأر والضّبّ فكان هذا حدسا منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا ينسل.

وأما حديث القردة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرّجم فقط ، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [عمرو بن ميمون أدرك الجاهلية ، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية ، وذكر ابن عبد البر أن](٥) عمرو بن ميمون من كبار التابعين من الكوفيين ، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة.

«فجعلناها» فعل وفاعل ومفعول.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٠.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٢٩٤ كتاب الزهد (٥٣) باب (١١) حديث ٦١ / ٢٩٩٧ وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٣٨١ عن ثابت بن وديعة كتاب الأطعمة باب في أكل الضب حديث رقم ٣٧٩٥ والنسائي في السنن ٧ / ١٩٩.

وابن ماجه في السنن حديث رقم ٣٢٣٨.

وأحمد في المسند ٤ / ١٩٦ ، ٣٤٠ ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم ١٠٧٠ ـ وابن أبي شيبة ٨ / ٧٨ ، ٧٩ ، ٨١ ، ٨٥.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٣ / ٣٢٣ ، ٣٨٠).

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٥ / ١٣١) كتاب المناقب باب القسامة في الجاهلية حديث رقم (٣٨٤٩).

(٥) سقط في ب.


«نكالا» مفعول ثان ل «جعل» التي بمعنى «صير» ، والأول هو الضمير ، وفيه أقوال:

أحدها : يعود على المسخة.

وقيل : على القرية ، لأن الكلام يقتضيها كقوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) [العاديات : ٤] أي : بالمكان.

وقيل : على العقوبة.

وقيل : على الأمة.

«النكال» : المنع ، ومنه : النّكل ، والنّكل : اسم للقيد من الحديد ، واللّجام ؛ لأنه يمنع به ، وسمي العقاب نكالا ؛ لأنه يمنع به غير المعاقب أن يفعل فعله ، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فعله الأول.

و «التنكيل» : إصابة الغير بالنّكال ليردع غيره ، ونكل عن كذا ينكل نكولا : امتنع ، وفي الحديث : «إنّ الله يحب الرّجل النّكل» (١) أي : القوي على الغرس.

«والمنكل» : ما ينكّل به الإنسان ، قال : [الرجز]

٥٦٧ ـ فارم على أقفائهم بمنكل (٢)

والمعنى : أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم.

والضمير في «يديها» و «خلفها» كالضمير في «جعلناها».

قال ابن الخطيب (٣) : لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون ، لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، «ما يحضرها من [القرون](٤) والأمم. وما خلفها من بعدهم.

وقال الحسن : عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعل ، وما بعده.

و «موعظة» عطف على «نكالا» وهي «مفعلة» ، من الوعظ وهو التخويف.

وقال الخليل : «التذكير بالخير فيما يرق له القلب».

والاسم : «العظة» ك «العدة» و «الزّنة» و «للمتّقين» متعلّق ب «موعظة» ، واللام للعلّة ، وخصّ المتّقين بالذّكر وإن كانت موعظة لجميع العالم البرّ والفاجر ؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم ، ويجوز أن تكون اللام [مقوية](٥) ؛ لأن «موعظة» فرع على

__________________

(١) ذكره أبو عبيد الهروي في كتاب غريب الحديث ١ / ٣٩٧.

(٢) البيت لرياح المؤملي وهو في اللسان (نكل) ، القرطبي ١ / ٣٠١ ، والدر المصون ١ / ٢٥٢.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٠٤.

(٤) في أ : القرى.

(٥) في أ : تقوية.


الفعل في العمل فهو نظير (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] فلا تعلّق لها لزيادتها ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف ؛ لأنها صفة ل «موعظة».

أي : موعظة كائنة للمتّقين ، أي : يعظ المتقون بعضهم بعضا.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣)

في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المنّ والسّلوى ، ورفع الطّور ، وغير ذلك ـ ذكر بعده هذه النعم التي بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم.

الثّاني : أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم التّشديدات والتعنّت كقولهم : يريد (اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ، وغير ذلك من التعنّت ذكر بعده تعنتا آخر ، وهو تعنتهم في صفة البقرة.

الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

هذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

والجمهور على ضم الرّاء في «يأمركم» ؛ لأنه مضارع معرب مجرّد عن ناصب وجازم ، وروي عن (١) أبي عمرو سكونها سكونا محضا ، واختلاس الحركة ، وذلك لتوالي الحركات ، لأن الراء حرف تكرير ، فكأنها حرفان ، وحركتها حركتان.

وقيل : شبّهها ب «عضد» فسكّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصل ، وهذا كما

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٣ ، والقرطبي : ١ / ٣٠١.


تقدم في قراءة (بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النّحاة ، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه.

ويجوز إبدال همزة «يأمركم» ألفا ، وهذا مطرد.

و «يأمركم» هذه الجملة في محلّ رفع خبر ل «إن» ، و «إن» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولا بالقول ، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، والظرف معمول لفعل محذوف أي : اذكر.

قوله : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أن وما حيّزها مفعول ثان ل «يأمركم» ، فموضعها يجوز أن يكون نصبا ، وأن يكون جرّا على ما مضى من الخلاف ، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تذبحوا ، ويجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب ؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه ، ولو لم تكن الباء في «أن» نحو : «أمرتك الخير». و «البقرة» واحدة البقر ، تقع على الذّكر والأنثى نحو : «حمامة» ، والصّفة تميز الذّكر من الأنثى ، تقول : بقرة ذكر ، وبقرة أنثى.

وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور ، نحو : ناقة وجمل ، وأتان وحمار.

وسمي هذا الجنس بذلك ، لأنه يبقر الأرض ، أي : يشقّها بالحرث ، ومنه : بقر بطنه ، والباقر أبو جعفر (١) ، لشقّه العلم ، والجمع «بقر وباقر وبيقور وبقير».

و «البقيرة» : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمّين.

فصل في قصة القتيل

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له ليرثه ، وقيل : لينكح زوجته ، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته ، وكان امتنع من تزويجها له ، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل ، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك «بيّنه» فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [فعجبوا](٢) من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النّعت إلّا عند

__________________

(١) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو جعفر الباقر ، لأنّه بقر العلم ، أي شقه وعرف ظاهره وخفيّه ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، ولد سنة ٥٦ ه‍ ، عرض على أبيه زين العابدين وروى عنه وعن جابر وابن عمر ، سئل عن أبي بكر وعمر فقال : تولهما وابرأ من عدوهما ، فإنهما كانا إمامي هدى. توفي سنة ١١٨ ه‍ ، وقيل غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٠٢.

(٢) في ب : فتعجبوا.


إنسان معيّن ولم يبعها إلّا بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها ، وأمرهم موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أن يأخذوا عضوا منها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فأحيا الله القتيل ، وسمى لهم قاتلهم ، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [فورا](١).

قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) المفعول الثاني ل «أتتخذنا» هو «هزوا» ، وفي وقوع «هزوا» مفعولا ثانيا ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي : ذوي هزء.

الثاني : أنه مصدر واقع موقع المفعول به ، أي مهزوءا بنا.

الثالث : أنهم جعلوا نفس الهزء مبالغة. وهذا أولى.

وقال الزمخشري (٢) : وبدأ ب «أتجعلنا» مكان هزء ، وهو قريب من هذا. وفي «هزوا» ستّ قراءات (٣) ، المشهور منها ثلاث : «هزؤا» بضمتين مع الهمز ، و «هزءا» بسكون الزّاي مع الهمز وصلا ، وهي قراءة حمزة رحمه‌الله ، فإذا وقف أبدلها واوا ، وليس قياس تخفيفها ، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها.

وإنما اتبع رسم المصحف ، فإنها رسمت فيه «واو» ، ولذلك لم يبدلها في «جزءا» واوا وقفا لأنها لم ترسم فيه واوا كما سيأتي ، وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلّا أنه خفّف كقولهم في عنق : عنق.

وقيل : بل هي أصل بنفسها ليست مخففة من ضم.

حكى مكّي عن الأخفش عن عيس بن عمر : «كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتان : التخفيف والتثقيل».

و «هزوا» بضمتين مع الواو وصلا ووقفا ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، كأنه أبدل الهمزة واوا تخفيفا ، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو : جون في جؤن ، وحكم [كفوا](٤) في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] حكم «هزوا» في جميع ما تقدم قراءة وتوجيها.

و «هزا» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها ، وهو أيضا قياس مطرد.

و «هزوا» بسكون العين مع الواو. و «هزّا» بتشديد الزاي من غير همزة ، ويروى

__________________

(١) في أ : قودا.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٤٨.

(٣) انظر الكلام عن هذه القراءات في : الكشف : ١ / ٢٤٧ ، والسبعة : ١٥٧ ، وحجة القراءات : ١٠٠ ، ١٠١ ، والشواذ : ٦ ، والحجة : ٢ / ١٠٠ ـ ١٠٤ ، والعنوان : ٦٩ ، وشرح شعلة : ٢٦٥ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣٣ ، ٣٥ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٧.

(٤) في ب : كفئا.


عن أبي جعفر [وتقدم معنى «الهزء» في أول السورة](١).

وقال الثعلبي في تفسيره : قرىء : «هزؤّا» و «كفؤّا» مثقلات ومهموزات ، وهي قراءة أبي عمرو وأهل «الشام» و «الحجاز» واختار الكسائي ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم «هزوّا» و «كفوّا» مثقلات بغير همز قال : وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها : الاستهزاء.

فصل في الباعث على تعجبهم

القوم إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم لما طلبوا من موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تعيين القاتل ، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا ، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة ، فظنوا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يداعبهم ؛ لأنه من المحتمل أن يكون ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أمرهم بذبح البقرة ، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ، وضربوا القتيل ببعضها يصير حيا ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ، ويحتمل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيّن لهم كيفية الحال إلّا أنهم تعجّبوا من [أن](٢) القتيل كيف يصير حيّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة ، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء.

نقل القرطبي عن الماورديّ قال : «وإنما أمروا ـ والله أعلم ـ بذبح بقرة دون غيرها ؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهوّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته».

وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة ، وليس بعلّة في جواب السّائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حيّ ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟

قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عليه الصلاة والسلام : أتتخذنا هزوا ، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الميت فهو كفر ، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ هل هو بأمر الله ، فقد جوّزوا الخيانة على موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في الوحي ، وذلك أيضا كفر ، ومن الناس من [قال](٣) : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :

الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يداعبهم مداعبة حقّه ، وذلك لا يوجب الكفر.

والثاني : أن معنى قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي : ما أعجب هذا الجواب ، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.

قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) تقدم إعرابه في الاستعاذة.

__________________

(١) في أ : قراءة حفص عن عاصم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : يقول.


وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى ، كأنه قال لا أهزأ مستعيذا بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل ، فلم يستعذ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الشّيء الذي نسبوه إليه ، لكنه استعاذ من السّبب الموجب له ، كما يقول : أعوذ بالله من عدم العقل ؛ وغلبة الهوى ، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازا.

ويحتمل أن يكون المراد (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد ، والوعيد العظيم ، فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء.

وقال بعضهم : إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلا وجهالة ، فقد روي عن بعض أهل اللّغة أن الجهل ضدّ الحلم ، كما قال بعضهم : إنه ضدّ العلم.

قوله : (أَنْ أَكُونَ) أي من أن (١) أكون ، فيجيء فيه الخلاف المعروف.

و «من الجاهلين» خبرها ، وهو أبلغ من قولك : أن أكون جاهلا. فإن المعنى أن انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل.

قوله : (قالُوا : ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ) ف «يبيّن» مجزوم على جواب الأمر كقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا) [البقرة : ٦١].

قوله «ما هي» ، «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، تقديره : أي شيء هي؟ وما [الاستفهامية](٢) يطلب بها شرح الاسم تارة ، نحو : ما العنقاء؟ وماهية المسمى أخرى ، نحو : ما الحركة؟.

وقال السكاكي (٣) : «يسأل ب «ما» عن الجنس ، تقول : ما عندك؟ أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه «كتاب» ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيد؟ وجوابه : «كريم» ، وهذا هو المراد في الآية.

و «هي» ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبرا ل «ما» والجملة في محلّ نصب ب «يبيّن» ؛ لأنه معلّق عن الجملة بعده ، وجاز ذلك ؛ لأنه شبيه بأفعال القلوب.

قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) لا «نافية» ، و «فارض» صفة ل «بقرة».

واعترض ب «لا» بين الصفة والموصوف ، نحو : «مررت برجل لا طويل ولا قصير».

وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، أي : لا هي فارض.

__________________

(١) في ب : بأن.

(٢) في أ : استفهامية.

(٣) يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب سراج الدين : عالم بالعربية والأدب مولده ووفاته بخوارزم من كتبه : «مفتاح العلوم» و «رسالة في علم المناظرة».

ينظر الأعلام : ٢٢٨ ، الجواهر المضية : ٢ / ٢٢٥ ، الشذرات : ٥ / ١٢٢.


وقوله : (وَلا بِكْرٌ) مثل ما تقدّم.

وتكررت «لا» لأنها متى وقعت قبل خبر ، أو نعت ، أو حال وجب تكريرها تقول : «زيد لا قائم ولا قاعد» ، و «مررت به لا ضاحكا ولا باكيا».

ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلافا للمبرّد وابن كيسان ؛ فمن ذلك : [الطويل]

٥٦٨ ـ وأنت امرؤ منّا خلقت لغيرنا

حياتك لا نفع وموتك فاجع (١)

وقوله : [الطويل]

٥٦٩ ـ قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخدائع والمكر (٢)

فلم يكررها في الخبر ، ولا في الحال.

و «الفارض» : المسنّة الهرمة ، قال الزمخشريّ : كأنها سميت بذلك ؛ لأنها فرضت سنّها ، أي : قطعتها وبلغت آخرها ؛ قال : [الطويل]

٥٧٠ ـ لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل (٣)

ويقال لكل ما قدم : فارض ؛ قال [الرجز]

٥٧١ ـ شيّب أصداعي فرأسي أبيض

محامل فيها رجال فرّض (٤)

أي : كبار قدماء.

وقال آخر : [الرجز]

٥٧٢ ـ يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض (٥)

وقال الرّاغب : سميت فارضا ؛ لأنها تقطع الأرض ، والفرض في الأصل القطع ، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة.

__________________

(١) البيت للضحاك بن هنام ينظر في خزانة الأدب : ٤ / ٣٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٢١ ، والاشتقاق: ص ٣٥٠ ، ولأبي زبيد الطائي في حماسة البحتري : ص ١١٦ ، ولرجل من سلول في الكتاب : ٢ / ٣٠٥ ، والأزهية : ص ١٦٢ ، والدرر : ٢ / ٢٣٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٥٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ١١٢ ، والمقتضب : ٤ / ٣٦٠ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٤.

(٢) البيت لزياد بن سيار ينظر الجنى الداني : (٢٩٩) ، الأشموني : (٢ / ٤٢) ، الشذور : (٣٦٢) ، شرح الصبان : (٢ / ١٨) ، الهمع : (١ / ١٤٨ ، ٢٤٥) الدرر : (١ / ١٢٩ ، ٢٠٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٣) البيت لعلقمة بن عوف ينظر الأضداد : (٣٧٦) ، اللسان «فرض» ، القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، الكشاف : (١ / ١٤٩) ، ومجمع البيان : (١ / ٢٩٣) ، البحر : (١ / ٤١٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٤) ينظر اللسان «فرض» ، القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، الصحاح «فرض» ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٥) ينظر الأضداد : (٢٨) ، مجالس ثعلب : (١ / ٣٠١) ، الطبري : (٢ / ١٩٠) ، البحر : (١ / ٤١٢) ، مجمع البيان : (١ / ٢٩٣) ، روح المعاني : (١ / ٢٨٧) ، اللسان (فرض) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٥.


وقيل : لأن فريضة البقر تبيع ومسنّة ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اسما إسلاميّا.

وقيل : «الفارض» : التي ولدت بطونا كثيرة فيتسّع جوفها لذلك ؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين. ويقال : فرضت ـ تفرض ـ بالفتح ـ فروضا.

وقيل : فرضت ـ بالضم ـ أيضا.

وقال المفضّل بن سلمة : الفارض : المسنّة. و «البكر» : ما لم تحمل.

وقيل : ما ولدت بطنا واحدا ، وذلك الولد بكر أيضا. قال : [الرجز]

٥٧٣ ـ يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت منّي كذراع من عضد (١)

و «البكر» من الحيوان : من لم يطرقه فحل ، و «البكر» ـ بالفتح ـ الفتيّ من الإبل ، والبكارة ـ بالفتح ـ المصدر.

وقال المفضّل بن سلمة : البكر : الشابة.

قال القفال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : اشتقاق البكر يدل على الأول ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، ومنه : بكرة النهار ، ويقال : بكرت عليه البارحة ، إذا جاء في أول الليل.

والأظهر أنها هي التي لم تلد ؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم ينز عليها الفحل.

قوله : عوان صفة ل «بقرة» ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عوان كما تقدم في (لا فارِضٌ) [البقرة : ٦٨] والعوان : النّصف ، وهو التوسّط بين الشيئين ، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه ؛ قال : [الوافر]

٥٧٤ ـ ..........

نواعم بين أبكار وعون (٢)

وقال الشاعر يصف فرسا : [الطويل]

٥٧٥ ـ كميت بهيم اللّون ليس بفارض

ولا بعوان ذات لون مخصّف (٣)

«فرس أخصف» إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه ، ويقال للنخلة الطويلة : عوان ، وهي فيما زعموا لغة عانية ، حكاه القرطبي.

__________________

(١) ينظر القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، اللسان (بكر) ، البحر : ١ / ٤١٢ ، مفردات الراغب : (٥٨) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٥.

(٢) عجز بيت للطرماح وصدره :

حصان مواضع النقب الأعالي

ينظر المنصف : (٣ / ٥٨) ، الكشاف : ١ / ١٤٩ ، اللسان (عون) ، الدر : ١ / ٢٥٥.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٣٠٤ ، البحر : ١ / ٤١٢.


وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى ومنه «الحرب العوان» أي التي جاءت بعد حرب أخرى (١) ؛ قال زهير : [الطويل]

٥٧٦ ـ إذا لحقت حرب عوان مضرّة

ضروس تهرّ النّاس أنيابها عصل (٢)

والعون ـ بسكون الواو ـ الجمع ، وقد بضم ضرورة كقوله : [السريع]

٥٧٧ ـ ..........

 ... في الأكفّ اللّامعات سور(٣)

بضم الواو. ونظيره في الصحيح «قذال وقذل» و «حمار وحمر».

قوله : «بين ذلك» صفة ل «عوان» [فهي](٤) في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف ، أي : كائن بين ذلك ، و «بين» إنما تضاف لشيئين فصاعدا ، وجاز أن تضاف ـ هنا ـ إلى مفرد ؛ لأنه يشار به إلى المثنّى والمجموع ؛ كقوله : [الرمل]

٥٧٨ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٥)

كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض والبكر. قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو لإشارة المذكر؟

قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم ، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله : [الرجز]

٥٧٩ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (٦)

إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد والبلق فقل : كأنهما ، فقال :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : (١٠٣) ، معاني القرآن للزجاج : (١ / ١٢٢) ، القرطبي : (١ / ٣٠٥) ، الدر : (١ / ٢٥٥).

(٣) هذا جزء من عجز بيت لعدي بن زيد وهو :

عن مبرقات بالبرين وتب

دو ...

ينظر ملحق ديوانه : (١٢٧) ، وشواهد الكتاب : ٢ / ٣٦٩ ، والممتع : ٤٦٧ ، المنصف : ١ / ٣٣٨ ، المقتضب : ١ / ١١٢ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٥ / ٤٤ ، رصف المباني : (٤٢٩) ، الدرر : ٢ / ٤٧٧ ، الهمع : ٢ / ١٧٦ ، واللسان «لمع» ، الدر المصون : ١ / ٢٥٦ ، البحر المحيط : ١ / ٤١٢.

(٤) في ب : فهو.

(٥) البيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه ٤١ ، والأغاني ١٥ / ١٣٦ ، والدرر ٥ / ٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٤٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٩ ، شرح المفصل ٣ / ٢ و ٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤١٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٧ ، شرح ابن عقيل ٣٨٩ ، مغني اللبيب ١ / ٢٠٣ ، المقرب ١ / ٢١١ ، همع الهوامع ٢ / ٥٠ ، والدر المصون ١ / ٢٥٦.

(٦) ينظر ديوانه : (١٠٤) ، مجالس العلماء : (٢٧٧) ، المحتسب : ٢ / ١٥٤ ، المغني : (٦٧٨) ، اللسان (بهق) ، مجاز القرآن : (١ / ٤٣) ، مجالس ثعلب : (٢ / ٣٧٥) ، حاشية الكشاف للتفتازاني : (١ / ٢٢ ، ٥٣٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٦).


أردت : ذاك وذلك. والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها ، وجمعها ، وتأنيثها ليست على الحقيقة ، وكذلك الموصولات ، ولذلك جاء «الذي» بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله : «عوان بين ذلك» على جواز الاجتهاد ، واستعمال غلبة النّص في الأحكام ، إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد.

قوله : (ما تُؤْمَرُونَ) «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به ، فحذفت الباء ، وهو حذف مطرد ، فاتصل الضمير فحذفت «الهاء» ، وليس هو نظير : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] فإن الحذف ـ هناك ـ غير مقيس.

ويضعف أن تكون «ما» نكرة موصوفة.

قال أبو البقاء (١) : لأن المعنى على العموم ، وهو ب «الذي» أشبه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر ك «ضرب الأمير» قاله الزمخشري(٢).

و «تؤمرون» مبني للمفعول ، و «الواو» قائم مقام الفاعل ، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة.

فصل في الغاية من وصف البقرة

والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصّغيرة تكون ناقصة ؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال ، والمسنّة صارت ناقصة ؛ لتجاوزها حدّ الكمال ، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال. قاله الثعلبي.

قوله : (ما لَوْنُها) كقوله : «ما هي».

وقرأ الضحاك : «لونها» بالنصب.

وقال أبو البقاء (٣) : لو قرىء : «لونها» بالنصب لكان له وجه ، وهو أن تكون «ما» زائدة كهي في قوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) [القصص : ٢٨] ويكون التقدير : يبين لنا لونها وهذا تجديد للأمر ، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت ، وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ويدل على أن الأمر على الفور ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذمهم على التأخير بقوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].

واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب ، قاله القرطبي عن ابن خويزمنداد (٤).

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٠.

(٣) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.

(٤) محمد بن أبي بكر بن خويزمنداد. كنيته أبو عبد الله ، تفقه على الأبهري وله كتاب كبير في الخلاف ، ـ


قال الثعلبي : وقرأ الضحاك : «لونها» بالنصب.

وأما «ما هي» فابتداء وخبر لا غير ، إذ لا يمكن جعل «ما» زائدة ؛ لأن «هي» لا يصح أن يكون مفعول «يبين» يعني : أنها بصيغة الرفع ، وهذا ليس من مواضع زيادة «ما» فلا حاجة إلى هذا.

واللّون عبارة عن الحمرة والسّواد ونحوهما ، واللّون ـ أيضا ـ النّوع ، وهو الدّقل نوع من النخل.

قال الأخفش : «هو جماعة واحدها لينة» وفلان يتلوّن ، أي : لا يثبت على حال ؛ قال الشاعر : [الرمل]

٥٨٠ ـ كلّ يوم تتلوّن

غير هذا بك أجمل (١)

و «صفراء فاقع لّونها» يجوز أن يكون «فاقع» صفة ، و «لونها» فاعل به ، وأن يكون خبرا مقدما و «لونها» مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء.

وفي الوجه الأول نظر ، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال.

فإن قيل : يكون العمل ل «صفراء» لا ل «فاقع» ، كما تقول : «مررت برجل أبيض ناصع لونه» ف «لونه» مرفوع ب «أبيض» لا ب «ناصع».

فالجواب : أن ذلك ـ هاهنا ـ ممنوع من جهة أخرى ، وهو أن «صفراء» مؤنّث اللفظ ، ولو كان رافعا ل «لونها» لقيل : أصفر لونها ، كما تقول : مررت بامرأة أصفر لونها ، ولا يجوز : صفراء لونها ؛ لأن الصفة كالفعل ، إلّا أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث ، فعومل معاملته كما سيأتي.

ويجوز أن يكون «لونها» مبتدأ و «تسرّ» خبره ، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث ؛ كقوله : [الطويل]

٥٨١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (٢)

__________________

ـ وكتاب في أصول الفقه ، وكتاب في أحكام القرآن. وكان يجانب الكلام ، وينافر أهله ، حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة ويحكم على الكل منهم بأنهم من أهل الأهواء كما قال مالك.

انظر الديباج : ٢ / ٢٢٩ ، وشجرة النور : ١ / ١٠٣.

(١) البيت ينظر القرطبي : ١ / ٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٧

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ٧٥٤ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢٢٥ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٨ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ٦٥ ، والمحتسب : ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٦٧ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ٢٣٩ ، والخصائص : ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٠ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٨٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٧٣٨ ، ولسان العرب (عرد) ، (صدر) ، (قبل) ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٧.


وقول الآخر : [الطويل]

٥٨٢ ـ وتشرق [بالقول] (١) الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢)

أنّث فعل المرّ والصّدر لما أضيفا لمؤنث ، وقرىء (٣) : تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠].

وقيل : لأن المراد باللّون هنا الصّفرة ، وهي مؤنّثة ، فحمل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، ويقق ولهق ولهاق ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانىء ، وأسود حالك وحائك وحلكوك ، ودجوجيّ وغربيب ، وبهيم.

وقيل : «البهيم الخالص من كل لون».

وبهذا يظهر أن «صفراء» على بابها من اللون المعروف لا سوداء كما قاله بعضهم : فإن الفقوع من صفة الأصفر خاصّة ، وأيضا فإنه مجاز بعيد ، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لقرب سوادها من الصّفرة ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات : ٣٣] وقال : [الخفيف]

٥٨٣ ـ تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب (٤)

فإن قيل : هلّا قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذكر اللون؟

فالجواب : فائدته التأكيد ؛ لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصّفرة ، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه.

وعن وهب : إذا نظرت إليها خيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، فمعنى قوله: (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي : يعجبهم حسنها وصفاء لونها ، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن.

قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : من لبس نعلا صفراء قلّ همه ؛ لأن الله تعالى يقول : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)(٥).

__________________

(١) في أ : بالأمر.

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ص ١٧٣ ، وخزانة الأدب : ٥ / ١٠٦ ، والدرر : ٥ / ١٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٤ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ولسان العرب (صدر) ، (شرق) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٧٨ ، والأزهية : ص ٢٣٨ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ٢٥٥ ، والخصائص : ٢ / ٤١٧ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥١٣ ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، ١٩٩ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٤٩ ، والدر : ١ / ٢٥٧.

(٣) ستأتي في يوسف (١١٠).

(٤) البيت للأعشى. ينظر ديوانه : (٣٣٥) ، الأضداد : (١٣٨) ، اللسان (خشب) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٧.

(٥) أخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (٥ / ١٣٨) وابن أبي حاتم والخطيب والديلمي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥١) عن ابن عباس موقوفا والحديث ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٣١٩) ـ


قال الكسائي ؛ يقال : فقع لونها يفقع فقوعا ، إذا خلصت صفرته ، والإفقاع : سوء الحال ، وفواقع الدهر : بوائقه ، وفقّع بأصابعه : إذا صوّت ، ومنه حديث ابن عباس : «نهى عن التّفقيع في الصلاة» ، وهي الفرقعة ، وهي غمز الأصابع حتى تنقض ، قاله القرطبي.

واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قرونها وأظلافها ، أو الصفرة المعتادة؟ قولان. وفي قوله : «فاقع» لطيفة ، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار. يعني : في الماضي والمستقبل.

وفي قوله : «تسرّ» لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدّد والحدوث ، بخلاف الماضي.

وفي قوله : «النّاظرين» آية لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المحلّى بالألف واللام ، ليعمّ كلّ ناظر منفردين ومجتمعين.

وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين ، وهو التفكر في المخلوقات.

قوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) جملة في محل رفع صفة ل «بقرة» أيضا ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبرا عن «لونها» بالتأويلين المذكورين.

و «السرور» لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه ، ومنه [السرير](١) الذي يجلس عليه إذا كان لأولي النعمة ، وسرير الميت تشبيها به في الصورة وتفاؤلا بذلك.

قوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بيانا لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : «سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها».

قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) البقر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم.

وقرأ محمد (٢) ذو الشامة الأموي : «إنّ الباقر» وهو جمع البقر ك «الجامل» جماعة الجمل ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٥٨٤ ـ ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا

خلقا كحوض الباقر المتهدّم (٣)

__________________

ـ وقال : رواه سهل بن عثمان العسكري عن ابن العذراء عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وقال : قال أبي : هذا حديث كذب موضوع.

وذكره الهيثمي في «المجمع» وعزاه للطبراني في «الكبير» وقال : وفيه ابن العذراء غير مسمى ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

(١) في ب : السرر.

(٢) وقرأ بها عكرمة ويحيى بن يعمر.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٣) ينظر معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٢٧ ، البحر : ١ / ٤١٩.


قال قطرب : «يقال لجمع البقرة : بقر وباقر وباقور وبيقور».

وقال الأصمعيّ : «الباقر» جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على باقورة ، حكاه النّحاس.

قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لغات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في «تشابه».

و «تشابه» جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل «إن» ، وقرىء (١) : «تشّابه» مشدّدا ومخفّفا ، وهو مضارع الأصل : «تتشابه» بتاءين ، فأدغم تارة ، وحذف منه أخرى ، وكلا الوجهين مقيس.

وقرىء أيضا (٢) : «يشّابه» بالياء من تحت ، [وأصله : يتشابه فأدغم أيضا ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان ؛ لأن فاعله اسم جنس](٣) وفيه لغتان : التذكير والتأنيث ، قال تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] فأنّث ، و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ «البقرة» ؛ كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).

وقال المبرّد : سئل سيبويه عن هذه الآية ، فقال : «كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره» ؛ واحتج بقول الأعشى : [البسيط]

٥٨٥ ـ ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل

[وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل (٤) (٥)

ولم يقل : «مرتحلون».

وفي «تشابه» قراءات (٦) : «تشابه» بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة. و «تتشابه» بتاءين على الأصل.

و «تشّبّه» بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تتشبّه.

__________________

(١) قرأ بالتشديد الحسن ، وروي عنه التخفيف ، وبالتشديد ـ أيضا ـ الأعرج.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٢) قرأ بها ابن مسعود ، والمطوعي.

انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر ديوانه : (١٠٥) ، الخصائص : (٢ / ٤٧٦) ، المحتسب : (١ / ١٠٥).

(٥) في أ : وتلمني ولمه أيها الرجل.

(٦) قراءة التائين قرأ بها يحيى بن يعمر ، وقراءة تشديد الشين والباء من غير ألف ، قرأ بها أبو بكر المعيطي ، وقراءة «متشابهة» ، و «متشبّه» ، الأولى للأعمش ، والثانية حكاها أبو عمرو الداني.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨ ، والتخريجات النحوية : ٣٦٢.


و «تشابهت» على وزن «تفاعلت» وهو في مصحف أبيّ كذلك أنّثه لتأنيث البقرة.

و «متشابهة» و «متشبّهة» على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرىء (١) : «تشبّه» ماضيا.

وقرأ ابن أبي إسحاق (٢) : «تشّابهت» بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلّا في المضارع .. وهو معذور في ذلك.

وقرىء (٣) : «تشّابه» كذلك ، إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن البقرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [التاء](٤) الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلّا أنه يشكل أيضا في تشّابه من غير تاء ؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث.

وجوابه : أنه مثل : [المتقارب]

٥٨٦ ـ ..........

ولا أرض أبقل إبقالها (٥)

مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعة.

وقرأ الحسن : «تشابه» بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه.

وقرأ الأعرج (٦) : «تشّابه» بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه.

وقرأ مجاهد : «تشّبّه» كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية : [التلبيس] والتشبه.

قيل : إنما قالوا : «إنّ البقر تشابه علينا» أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه ؛ لأن وجوه البقر [تتشابه] يريد : أنها يشبه بعضها بعضا ، ووجوه البقر تتشابه.

قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) هذا شرط جوابه محذوف لدلالة «إن» ، وما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هدايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهداية ، واعترضوا بالشرط تيمّنا بمشيئة الله تعالى. و «المهتدون» اللام : لام الابتداء داخلة على خبر «إن».

وقال أبو البقاء (٧) : جواب الشرط «إن» وما عملت فيه عند سيبويه.

__________________

(١) قرأ بها مجاهد.

انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٢) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٣) ينظر الدر : ١ / ٢٥٨ ، والبحر : ١ / ٤١٩ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٣.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم برقم (٢٨٤).

(٦) ينظر تخريج القراءة السابقة.

(٧) ينظر الإملاء : ١ / ٤٣.


وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطا ، وخبر «إنّ» هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا.

وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطا وجب اقترانه بالفاء ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطا ، فلو كانت جوابا لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جوابا مجازا ؛ لأنه جعل ذلك مذهبا للمبرد مقابلا لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة ؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت.

وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريب مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشّرط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : «أنت ظالم إن فعلت».

إذ لو كان جوابا لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك.

وأصل «مهتدون» : «مهتديون» ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح.

فصل في الاستثناء بالمشيئة

قال الحسن ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده لو لم يقولوا : إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا» (١).

واعلم أن التلفّظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراف بقدرته.

فصل في الإرادة الكونية

احتج أهل السّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى.

وعند المعتزلة أن الله ـ تعالى ـ لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا محالة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : (إِنْ شاءَ اللهُ) فائدة.

قال ابن الخطيب (٢) : أما على قول أصحابنا ، فإن الله ـ تعالى ـ قد يأمر بما لا يريد ، فحينئذ يبقى لقولهم : (إِنْ شاءَ اللهُ) فائدة.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٠) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : لو لا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبدا.

وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ١٥٨) عن ابن جريج ولفظه : لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١١١.


فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة

احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله ـ تعالى ـ محدثة من وجهين :

الأول : أن دخول حرف «إن» يقتضي الحدوث.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليّا وجب ألّا تكون مشيئة الاهتداء أزلية.

فصل في تقدير المشيئة

ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوها :

أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها.

وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها.

وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي : إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث.

ورابعها : إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها.

قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابة وانقياد ، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر.

وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله.

فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به.

قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) المشهور «ذلول» بالرفع على أنها صفة ل «بقرة» ، وتوسطت «لا» للنفي كما تقدم في «لا فارض» ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : لا هي ذلول ، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [محل](١) رفع صفة ل «بقرة».

وقرىء (٢) : «لا ذلول» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلول ثمّ أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءة ، ولذلك قال الأخفس : «لا ذلول نعت ، ولا يجوز نصبه».

و «الذّلول» : التي ذلّلت بالعمل ، يقال : بقرة ذلول بيّنة الذّل ـ بكسر الذال ، ورجل ذليل : بين الذّل ـ بضمّها ، وقد تقدم عند قوله : (الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١].

__________________

(١) في ب : موضع.

(٢) قرأ بها أبو عبد الرحمن السلمي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والكشاف : ١ / ١٥١ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢١ ، الدر المصون : ١ / ٢٥٩.


[قوله] : (تُثِيرُ الْأَرْضَ) في هذه الجملة أقوال كثيرة :

أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في «ذلول» تقديره : لا تذلّ حال إثارتها.

وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل «بقرة» أي : لا ذلول مثيرة.

وقال أيضا : «ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ؛ لأنها نكرة».

أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض ، وهذا لم يقل به الجمهور ، بل قال به بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله.

وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالا يعني من «بقرة» ؛ لأنها نكرة.

فالجواب : أنّا لا نسلم أنها حال من «بقرة» ، بل من الضمير في «ذلول» كما تقدم ، أو تقول : بل هي حال من النكرة ؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله : «لا ذلول» ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقا.

وقيل : إنها مستأنفة ، [واستئنافها على وجهين :

أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي تثير.

والثاني : أنها مستأنفة] بنفسها من غير تقدير مبتدأ ، بل تكون جملة فعلية ابتدىء بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منهم الأخفش عليّ بن سليمان ، وعلل ذلك بوجهين :

أحدهما : أن بعده : «ولا تسقي الحرث» فلو كان مستأنفا لما صحّ دخول «لا» بينه وبين «الواو».

والثّاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله ـ تعالى ـ نفى عنها ذلك بقوله : «لا ذلول» وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون «تثير» صفة ل «بقرة» ؛ لأن اللازم مشترك ، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول من أثبت هذا الوجه ـ [يعني : كونها تثير الأرض ولا تسقي ـ أن تكون «تثير» في موضع رفع صفة ل «بقرة».

وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مرحها ونشاطها ؛ كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٨٧ ـ يهيل ويذري تربه ويثيره

إثارة نبّاث الهواجر مخمس (١)

أي : تثير الأرض مرحا ونشاطا لا حرثا وعملا.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١٠٢) ، القرطبي : ١ / ٣٠٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٥٩.


وقال أبو البقاء (١) : وقيل : هو مستأنف ، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :

أحدهما : أنه عطف عليه قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ، فنفى المعطوف ، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك ؛ لأنه في المعنى واحد ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد ، بل تقول : لا قاعد بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هذا.

وذكر الوجه الثاني لما تقدم ، وأجاز أيضا أن يكون «تثير» في محلّ رفع صفة ل «ذلول» ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟

فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في «ذلول» ، أو من «بقرة» ، أو صفة ل «بقرة» ، أو ل «ذلول» ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ ، أو دونه.

قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) الكلام في هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل «بقرة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف.

وقال الزمخشري : و «لا» الأولى للنفي يعني الدّاخلة على «ذلول».

والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [الأرض](٢) وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل «ذلول» ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية.

وقرىء (٣) : «تسقى» بضم التاء من «أسقى».

وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) [الروم : ٩] أي : بالحرث والزراعة ، وفي الحديث : «أثيروا القرآن فإنّه علم الأوّلين والآخرين».

وفي رواية : «من أراد العلم فليثوّر القرآن» (٤).

وجملة القول أن البقرة لا يكون بها نقص ، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض ، وتسقي الحرث لا بد وأن يظهر بها النقص.

قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفها الله ـ تعالى ـ بأنها لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث (٥).

وقال : الوقف ـ هاهنا ـ حسن.

و «مسلّمة» قيل : من العيوب مطلقا.

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر الكشاف : ١ / ١٥٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٠ ، والشواذ : ٧.

(٤) الحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٦٨) عن عبد الله بن مسعود موقوفا وقال : رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ١٩٩) عن الحسن.


وقيل : من آثار العمل المذكور.

وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها ، أي : خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله : (لا شِيَةَ فِيها) يصير تكرارا.

و «شية» : مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا وشية ، حذفت فاؤها ؛ لوقوعها بين ياء وكسره في المضارع ، ثم حمل باقي الباب عليه ، ووزنها «علة» ومثلها :

«صلة وعدة وزنة».

وهي عبارة عن اللّمعة المخالفة للون ، ومنه : ثوب موشيّ : أي : منسوج بلونين فأكثر ، وثور موشيّ القوائم ، أي : أبلقها ؛ قال : [البسيط]

٥٨٨ ـ من وحش وجرة موشيّ أكارعه

طاوي المصير كسيف الصّيقل الفرد (١)

ومنه : الواشي ـ للنّمّام ؛ لأنه يشي حديثه ، أي : يزينه ويخلطه بالكذب.

وقال بعضهم : ولا يقال له واش حتى يغير كلامه ويزينه.

ويقال : ثور أشيه ، وفرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، كل ذلك بمعنى البلقة.

و «شية» اسم «لا» ، و «فيها» خبرها.

فصل في ضبط الحيوان بالصفة

دلت هذه الآيات على ضبط الحيوان بالصفة ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السّلم فيه ، وكذلك كل ما ضبط بالصفة.

وقال عليه الصلاة والسلام :

«لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنّه ينظر إليها» (٢). فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقوم مقام الرؤية.

قوله : (الْآنَ جِئْتَ) الآن منصوب ب «جئت» ، وهي ظرف للزّمان يقتضي الحال ، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة.

__________________

(١) البيت للنابغة. ينظر ديوانه : (٧) ، القرطبي : (٦ / ١٥٠) ، البحر : (١ / ٤١٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٠).

(٢) أخرجه أبو داود في السنن (١ / ٦٥٢ ـ ٦٥٣) كتاب النكاح باب فيما يؤمر به من غض البصر حديث رقم (٢١٥٠) ولفظه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها والطبراني في الكبير (١٠ / ١٧٣) بلفظه.

وذكره ابن عبد البر في التمهيد (٤ / ٦٥).

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٥١١٨.


وقال بعضهم : هذا هو الغالب ، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال ، كقوله :(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) [الجن : ٢] (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧] فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال ، وعبر عنه هذا القائل بعبارة توافق مذهبه وهي : «الآن» لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله : «أو بعضه» نحو : «فمن يستمع الآن يجد له» ، وهو مبني.

واختلف في علّة بنائه : فقال الزّجّاج (١) : لأنه تضمن معنى الإشارة ؛ لأن معنى أفعل الآن ، أي : هذا الوقت.

وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد ، من حيث إنه لا يثنّى ولا يجمع ولا يصغّر.

وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف ، وهو الألف واللام ك «أمس» ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ، ولم يعهد معرف ب «أل» إلا معربا ، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي والّتي» وبابهما ، ويعزى هذا للفارسي ، وهو مردود بأن التضمين اختصار ، فكيف يختصر الشيء ، ثم يؤتى بمثل لفظه.

وهو لازم للنظر فيه ، ولا يتصرف غالبا ، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام : «فهو يهوي في قعرها الآن حين انتهى».

ف «الآن» مبتدأ ، وبني على الفتح لما تقدم ، و «حين» خبره ، بني لإضافته إلى غير متمكّن ، ومجرورا في قوله :

٥٨٩ ـ أإلى الآن لا يبين ارعواء

 .......... (٢)

وادعى بعضهم إعرابه مستدلّا بقوله : [الطويل]

٥٩٠ ـ كأنّهما ملآن لم يتغيّرا

وقد مرّ للدّارين من بعدنا عصر (٣)

يريد : «من الآن» فجره بالكسرة ، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر ، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض ، وأن أصله «آن» بمعنى : «حان» فدخلت عليه «أل» زائدة ،

__________________

(١) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٢٦.

(٢) صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة. وعجزه :

لك بعد المشيب عن ذا التصابي

ينظر ديوانه : (٤٢٣) والهمع : ١ / ٢٠٧ ، الدرر : ١ / ١٧٤ ، والدرر : ١ / ٢٦١.

(٣) البيت لأبي صخر الهذلي ينظر الدرر : ٣ / ١٠٦ ، سر صناعة الإعراب : ٢ / ٥٣٩ ، وشرح أشعار الهذليين : ٢ / ٩٥٦ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٦٩ ، والمنصف : ١ / ٢٢٩ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٣٣ ، لسان العرب (أين) ، شرح شذور الذهب : ص ١٦٥ ، الخصائص : ١ / ٣١٠ ، رصف المباني : ص ٣٢٦ ، سر صناعة الإعراب : ٢ / ٤٣٩ ، ٤٤٠ ، شرح المفصل : ٨ / ٣٥ ، همع الهوامع : ١ / ٢٠٨ ، ٢ / ١٩٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦١.


واستصحب بناؤه على الفتح ، وجعله مثل قولهم «ما رأيته من شب إلى دبّ».

وقوله عليه الصلاة والسلام : «وأنهاكم عن قيل وقال» (١).

ورد عليه بأن «أل» لا تدخل على المنقول من فعل ماض ، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره.

وعنه قول آخر أن أصله «أوان» فحذفت الألف ، ثم قلبت الواو ألفا ، فعلى هذا ألفه عن واو.

وأدخله الرّاغب في باب «أين» ، فتكون ألفه عن «ياء». والصواب الأول.

وقرىء : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نقل ، وهي قراءة الجمهور.

و «قال : لأن» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها ، وحذف الهمزة ، وهو قياس مطّرد ، وبه قرأ (٢) نافع وحمزة باختلاف عنه.

و «قالوا : لآن» بثبوت «الواو» من «قالوا» ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء الساكنين ، وقد تحركت «اللام» لنقل حركة «الهمزة» إليها ، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر «محمر».

وسيأتي تحقيق هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ في (عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] ويحكى وجه رابع «قالوا : آلآن» بقطع همزة الوصل ، وهو بعيد ، و «بالحق» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون باء التّعدية كالهمزة كأنه قيل : «أجأت الحق» ، أي : ذكرته.

الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئت» أي : جئت ملتبسا بالحق ، أو «ومعك الحق».

فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا

قال القاضي : قولهم : «الآن جئت بالحقّ» كفر من قبلهم لا محالة ؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة.

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا.

قوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي : فذبحوا البقرة. و «كادوا» كاد واسمها وخبرها ، والكثير في خبرها تجرده من «أن».

وشذ قوله : [الرجز]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ٨ / ١٧٩ كتاب الرقاق باب ما يكره من قيل وقال .. حديث رقم (٦٤٧٣) وفي «الأدب المفرد» رقم (٤٦) وأحمد (٤ / ٢٥٠).

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦١.


٥٩١ ـ قد كاد من طول البلى أن يمصحا (١)

وهي عكس «عسى» وذكروا ل «كاد» تفسيرين :

أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي ، فقوله : كاد يفعل كذا ، معناه : قرب من أن يفعل ، لكنه ما فعله.

والثاني : قال عبد القاهر النحوي : إن «كاد» لمقاربة الفعل ، فقوله : «كاد يفعل» [معناه](٢) قرب من فعله.

وقوله : «ما كاد يفعل» معناه : ما قرب منه.

وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية ؛ لأن قوله : (وَما كادُوا) معناه ما قاربوا الفعل ، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كانت «كاد» للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية ، وقد تقدم الكلام على كاد عند قوله (يَكادُ الْبَرْقُ) [البقرة : ٢٠].

فصل في النسخ بالأشقّ

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : لو ذبحوا أيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم ؛ لكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد الله ـ تعالى ـ عليهم (٣) ، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت ، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضا ولا بكرا ، قيل : عوان ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلّفوا أن تكون مع ذلك لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان ، فلا بد من كونه تكليفا بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل (٤) بالأشقّ

__________________

(١) تقدم برقم (٢٤٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٠٤) وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥١).

(٤) اتفق الأصوليون على جواز نسخ الحكم بأخفّ ، أو مساو. واختلفوا في جوازه بأثقل : فالجمهور ذهب إلى جوازه عقلا ، ووقوعه شرعا ، ومنع ذلك طائفة ؛ منهم الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ مفترقين إلى فرقتين : فرقة منعت جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، وفرقة منعت وقوعه شرعا فقط.

والدّليل على جوازه عقلا : هو أننا إمّا أن نعتبر المصلحة في فعله ـ تعالى ـ أم لا ، فإن ذهبنا إلى اعتبار المصلحة ، فلعل المصلحة تكون في رفع الحكم ، والإتيان بما هو أثقل منه ، وإن ذهبنا إلى عدم اعتبارها ، فله أن ينسخ الحكم ويأتي بما هو أخفّ وأثقل ؛ حيث هو الفاعل المختار.

والدّليل على وقوعه شرعا : ما ثبت من نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، والظاهر أن انتساخه كان بالتخيير بين صوم رمضان كله ، وبين فدية كل صوم ، ولا شكّ أن هذا التخيير أشق على الإنسان من صوم يوم واحد ، وإنكاره مكابرة.

وأما على قول من قال : «لم يشرع تخيير قط» بل أوجب الصوم في شهر رمضان كله ابتداء ، بدل هذا الصوم الواحد ، والآية في حق الشيخ الفاني ؛ فالأمر أظهر. ـ


__________________

ـ ومنه نسخ الحبس في البيوت الثابت بقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بإقامة الحد وهو : إما الجلد ، أو الرجم .. روى البيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : «كانت المرأة إذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فأنزل الله بعد ذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإن كانا محصنين ، رجما ، فهذا السبيل الذي جعل لها». وقد روي هذا بطرق كثيرة ، ولا شك أن الحبس في البيوت أهون من الرجم الذي يموت فيه بيقين ، والجلد الذي قلّما يبرأ منه الإنسان ؛ هذا هو القول الصحيح المعول عليه. وأما ما ذهب إليه العلامة البيضاوي : من عدم نسخ هذه الآية ؛ لاحتمال أن يكون المراد من قوله : «فَأَمْسِكُوهُنَّ» : التوصية بإمساكهن في البيوت بعد الجلد ، حتى لا تكون عرضة للرّجال ، فيجري عليهن ما جرى بسبب الخروج ، ولم يذكر الحد ؛ اكتفاء بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الخ ـ فمجرد احتمال ، وهو لا يعارض قول الصحابي ؛ لأنه حجّة في أخبار النسخ.

ومنه نسخ التخيير بين الصوم والفدية المدلول عليه بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) بتخيير الصوم المدلول عليه بقوله تعالى : «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» ؛ روى الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، والحاكم ، والبيهقي عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء منّا ، صام ، ومن شاء ، يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ومنه نسخ إباحة الخمر ، ونكاح المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية بتحريمها.

ومنه نسخ كون الحج مندوبا ؛ بكونه فرضا ، وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف ؛ بوجوب أدائها في أثناء القتال ، وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي هكذا : لو لم يجز نسخ الحكم بما هو أشق أو أثقل ، ما وقع ، والثاني وهو عدم الوقوع باطل ، فبطل المقدم وهو عدم الجواز ؛ فثبت النقيض وهو الجواز المطلوب ، أما الملازمة فبديهية ؛ لأن الوقوع فرع الجواز ، وأما الاستثنائية فدليلها ما تقدم من قولنا : ما ثبت. ومن قالوا بالمنع قالوا : «أولا» النقل من الأخف إلى الأثقل أبعد من المصلحة ، وكل ما كان أبعد من المصلحة لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، فالنقل من الأخف إلى الأثقل لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، دليل الصغرى : أن تكليف المكلف بما هو أشق ليس من مصلحته ، والكبرى ضرورية.

ويردّ على هذا الدليل النقض الإجمالي ؛ فإنه يلزمه في أصل التكليف ؛ فإنه نقل من البراءة الأصلية إلى ما هو أثقل ، فينبغي ألّا يجوز ، لكنه جائز اتفاقا .. ويدفع هذا النقض بأن البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا ، حتى يكون التكليف نقلا منها ، والكلام فيه فإن قلت : ليس في النقل شناعة إلا لأجل إيقاعه في العسر بعدما كان في اليسر ، وهو متحقق ههنا ، فينبغي ألّا يصح ؛ فانتفى الدليل.

قلت جوابا عن هذا : بأنه لم يكن هناك يسر من الشارع ، وإنما كانت البراءة للجهل بالمصالح ، فإذ قد تفضل الحكيم فكلف على حسب المصالح ، فلو نقل من اليسر الثابت منه ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإن اليسر كان من الشارع الحكيم.

والحق في دفع الدليل وإبطاله .. الحل ، وذلك يكون بمنع الصغرى وعدم تسليمها ؛ إذ لا يبعد في النقل من الأخف إلى الأثقل ، فقد يكون الأثقل بعد الأخف أصلح للمكلف ، والحكيم يكلّف على حسب المصالح ؛ تفضلا منه علينا لا وجوبا ، كما يقول بذلك المعتزلة.

وثانيا : قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ، وقال تعالى في آية أخرى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ووجه الاستدلال بالآيتين : أن التكليف بالأثقل بعد الأخف غير مراد لله ـ تعالى ـ ، ـ


وعلى جواز النسخ قبل الفعل (١) ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى أن الزيادة على النص نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانيا لمن عصى ولم

__________________

ـ وكل ما هو كذلك لا يجوز التعبد به ، فالتكليف بالأثقل لا يجوز التعبد به ، دليل الصغرى الآيتان ، والكبرى ضرورية.

وقد أجاب بعض الأصوليين عن هذا الدليل بأنه : ليس المراد من التخفيف واليسر الواردين في الآيتين التخفيف واليسر في الدنيا ، وإنما المراد : التخفيف واليسر في الآخرة ؛ فالتخفيف تخفيف الحساب في الآية الأولى ، واليسر تكثير الثواب في الآية الثانية ناقلا «والسياق أكبر مؤيّد لهذا المراد» ولكن بالرجوع إلى سياق هاتين الآيتين ، وجدنا أن هذا الجواب خاطىء ؛ فإن الآية الأولى سيقت في معرض التشريع ، فإن الله بعد أن أباح للناس الفتيات المؤمنات إذا لم يستطيعوا طول المحصنات المؤمنات ، وخشوا العنت ـ بيّن أنه يريد هدايتهم سنن الذين من قبلهم ، والتوبة عليهم ، وأنه يريد التخفيف عليهم ، ولا معنى لذلك إلا التخفيف ؛ بالترخيص لهؤلاء العاجزين أن يتزوجوا الفتيات ، وذلك شأن الحكيم في كل تشريع ، فهو يراعي أحوال الضعفاء ؛ رعاية لمصالحهم الخاصة ، كما يراعي المصالح العامة ؛ ومثل ذلك : الآية الثانية ؛ فقد سيقت في معرض الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ، ويقضوا عدة من أيام أخر ، فهي تماثل الآية الأولى ، ومتى علمنا أن مراده ـ سبحانه ـ بالتخفيف واليسر هو هذا ، ضعف احتجاج مانعي النسخ بالأثقل بهاتين الآيتين ؛ لأن موضوعهما الاستثناء من قواعد كلية لمصالح جزئية نسبية ، والكلام الآن في رفع حكم عام وإبداله بحكم آخر ، على أننا لو سلّمنا للخصم ما يقول ، فلا نسلّم أن هناك عموما ؛ فإن من البيّن ، أنه ليس المعنى : يريد الله جميع أنواع التخفيف واليسر ؛ إذ لو كان الأمر كذلك ، لما صحّ التكليف أصلا ، ولا الوقوع في الشدائد ، بل التخفيف أمر نسبي ؛ وكذا العسر واليسر ، ولو سلم العموم في الاثنين ، فمخصوص بثقال التكاليف بالاتفاق.

وثالثا : قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وظاهر هذه : أن الأيسر خير في حق المكلف دون الأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي ، نقول فيه : التكليف بالأيسر فيه مصلحة للمكلف ، وكل ما فيه مصلحة للمكلف لا يجوز استبداله بغيره ، فالتكليف بالأيسر لا يجوز استبداله بغيره ، دليل الصغرى الآية الكريمة ، والكبرى ضرورية.

والجواب عن هذا الدليل : أنّنا لا نسلم أن الأشق ليس بخير ، بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة ؛ كما أن الأخف خير باعتبار السهولة في الدنيا ، فإن الأشق أكثر ثوابا على ما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «وأجرك على قدر تعبك» ، وقال : «أفضل الأعمال أحمزها» أي : أشقها على البدن.

فإن قلت : قد روي عن ابن عباس حمل الخيرية في الآية على الخيرية الدنيوية في المشقة وعدمها.

قلنا : لو سلم صحته ، فتأويل الراوي لا يكون حجّة إذا قام الدليل على خلافه ، أو نقول المراد الخيرية لفظا في الإعجاز والفصاحة والبلاغة.

(١) إن القائلين بجواز النسخ ، اتفقوا فيما بينهم على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته ، واختلفوا في نسخ حكم الفعل قبل التمكن ، ومعنى التمكن : أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به ، مثال ذلك : ما لو قال الشارع في رمضان : «حجّوا في هذه السنة» ثم قال قبل يوم عرفة : «لا تحجّوا» فقد ذهب إلى جواز ذلك الأشاعرة ، وكثير من أصحاب الشافعي ، وأكثر الفقهاء ، وعامّة أصحاب الحديث ، ومنع من ذلك : جماهير المعتزلة ، وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ، وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.


يفعل ما كلف أولا ، وعلى أن الأمر للوجوب والفور ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذمّ التثاقل فيه ، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر.

قال القاضي : إنما وجب ؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة ، فأمر تعالى بذبح البقرة ، لكي يظهر القاتل ، فيزول الشّر والفتنة ، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجبا.

وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها ، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام ، وعلى القول الأول لا بدّ من بيان ما الذي حملهم على [هذا](١) الاستفسار؟

فقيل : إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيّا تعجبوا من ذلك ، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصيّ بتلك الخواص ، إلّا أن القوم أخطئوا في ذلك ؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله ـ تعالى ـ على يد موسى عليه الصلاة والسلام.

وقيل : لعلّ القوم أرادوا أيّ بقرة كانت إلّا أن القاتل خاف من الفضيحة ، فألقى شبهة في نفوسهم وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام.

قال القشيريّ (٢) في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح ، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب.

وقيل : إن الخطاب الأول للعموم ، إلّا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلبا لمزيد البيان ، وإزالة سائر الاحتمالات إلّا أن المصلحة تغيرت ، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.

وقيل : كان سؤالهم تقديرا من الله ـ عزوجل ـ وحكمة ، ومصلحة لصاحب البقرة ، فإنه يروى أن رجلا صالحا من بني إسرائيل كان له ولد بارّ ، وكان له عجلة فأتى بها غيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، ثم مات الأب فشبّت ، وكانت من أحسن البقر [وأتمّها](٣) وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري : زين الإسلام شيخ خراسان في عصره زهدا وعلما بالدين كانت إقامته بنيسابور ولد في ٣٧٦ ه‍ من كتبه «التيسير من التفسير مخطوط» لطائف الإشارات مطبوع ، الرسالة القشيرية توفي في ٤٦٥ ه‍.

ينظر طبقات السبكي : ٣ / ٢٤٣ ـ ٢٤٨ ، الوفيات : ١ / ٢٩٩ ، تاريخ بغداد : ١١ / ٨٣ ، مفتاح السعادة : ١ / ٤٣٨ ، كشف الظنون : ٥٢٠ ، تذكرة النوادر : ٢٤ ، الأعلام : ٤ / ٥٧.

(٣) في ب : وأثمنها.


اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.

ذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي. وزاد الماوردي : ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل ، فأصاب كل فقير دينارين ، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.

فصل في سبب تثاقلهم

اختلفوا في السبب الذي كان لأجله (ما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، فقيل : لأجل غلاء ثمنها ، وقيل : لخوف الشهرة والفضيحة ، وعلى كلا القولين فالإحجام عن المأمور به غير جائز.

أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إلّا أن يدل دليل على خلافه.

وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف ، فإن القود إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب ، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة ، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم إليه ، فيلزمهم إزالتها ، فكيف يجوز جعله سببا للتّثاقل في هذا الفعل.

قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها).

أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدما على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدما في التلاوة في الأول ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله ـ تعالى ـ بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفسا من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [سترتموه](١) بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.

وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب.

قال القرطبي : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] إلى قوله : (إِلَّا قَلِيلٌ) فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] فذكر الركوب متأخرا ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] أي : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا فإن قيل [هب أنه](٢) لا خلل في هذا النظم [ولكن النظم](٣) الآخر

__________________

(١) في ب : ستدعون.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.


كان مستحسنا ، فما الفائدة في ترجيح هذا النظم؟

قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع.

فصل في نسبة القتل إلى جميعهم

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فعل وفاعل ، والفاء للسببية ؛ لأن التّدارؤ كان مسببا عن القتل ، ونسب القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل ؛ لأنه وجد فيهم وهو مجاز شائع.

وأصل «ادّارأتم» : تدارأتم تفاعلتم من الدّرء هو الدّفع ، فاجتمعت «التاء» مع «الدال» وهي مقاربتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالا ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي «ادارأتم» ، والأصل اددارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على «تفاعل» أو «تفعّل» فاؤه دال نحو : «تداين وادّاين ، وتديّن وادّين» أو طاء ، أو ظاء ، أو صادا ، أو ضادا نحو : «تطاير واطّاير» وتطير واطّير [وتظاهر واظّاهر ، وتطهر واطّهّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تدارؤ وتطهّر](١) نظرا إلى الأصل.

وهذا أصل نافع في جميع الأبواب.

معنى «ادارأتم» : اختلفتم واختصمتم في شأنها.

وقيل : [تدافعتم](٢) أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره.

والكناية في قوله : «فيها» للنفس.

وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة ؛ لأن قوله : «قتلتم» يدل على المصدر.

قوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) الله رفع بالابتداء و «مخرج» خبره ، و «ما» موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل.

فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام.

فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨].

والكسائي يعمله مطلقا ، ويستدل بهذا ونحوه. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : «فادّارأتم» وقوله : (فَقُلْنا : اضْرِبُوهُ) قاله الزمخشري.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : تدارأتم.


والضمير في : فاضربوه» يعود على «النفس» لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان ، أو على القتيل المدلول عليه بقوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) والجملة من «اضربوه» في محلّ نصب بالقول.

وفي الكلام محذوف والتقدير : فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي ، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله : (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) عليه ، فهو كقوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت [وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) [البقرة : ١٨٤] أي : فأفطر فعدّة](١) وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أي : فحلق ففدية.

فصل في بيان المضروب به

اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به.

فقيل : اللّسان ، لأنه آلة الكلام قاله الضحاك والحسين بن الفضل.

وقال سعيد بن جبير : بعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى ؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق ، وهو أول ما يخلق وآخر ما يبلى.

وقال مجاهد : بذنبها.

وقال عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن (٢).

وقال السّدّي : بالبضعة التي بين كتفيها.

وقيل : بأذنها.

وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن [وهو المقتل](٣).

والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة ؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به ، فإنهم كانوا ممتثلين الأمر ، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة.

وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض ، فإن ورد فيه خبر صحيح قبل ، وإلا وجب السكوت عنه.

فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يحييه ابتداء؟

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٣٠) عن عكرمة.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٥٣) ونسبه لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.


فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحجّة أوكد ، وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما أحياه بضرب من السّحر أو من الحيلة ، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشّبهة.

فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة؟

فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها.

ثم ذكروا فيها فوائد :

أحدها : التقريب بالقرابين التي كانت العادة بها جارية ، ولأن هذا القربان كان عندهم أعظم القرابين ، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة.

قيل : على غلاء ثمنها ، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.

قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) «كذلك» في محلّ نصب ؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : إحياء كائنا كذلك الإحياء ، أو لأنه حال من المصدر المعروف ، أي : ويريكم الإراءة حال كونها مشبهة ذلك الإحياء ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه.

و «الموتى» جمع ميّت ، وفي هذه الإشارة وجهان :

أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت.

والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم : إنه على المشركين ؛ لأنه إن ظهر لهم بالتّواتر [أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة ، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر] ، فإنه داعية إلى التفكّر. وقال القفّال : ظاهره يدلّ على أن الله ـ تعالى ـ قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم ؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلّا أنهم لم يؤمنوا به إلّا من طريق الاستدلال ، ولم يشاهدوا شيئا منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم ، وانتفت عنهم الشّبهة ، فأحيا الله القتيل عيانا ، ثم قال لهم : كذلك يحيي الله الموتى ، أي : كما أحياها في الدّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل.

قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) الرؤيا ـ هنا ـ بصرية ، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولا ثانيا وهو «آياته» ، والمعنى : يجعلكم مبصرين آياته.

و «كم» هو المفعول الأول ، وأصل «يريكم» : يأرإيكم ، فحذفت همزة «أفعل» في المضارعة لما تقدم في (يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٣] وبابه ، [فبقي يرئيكم](١) ، فنقلت حركة الهمزة على «الراء» ، وحذفت «الهمزة» تخفيفا ، وهو نقل لازم في مادة «رأى» وبابه دون

__________________

(١) سقط في ب.


غيره مما عينه همزة نحو : «نأى ـ ينأى» ولا يجوز عدم النقل في «رأى» وبابه إلا ضرورة كقوله: [الوافر]

٥٩٢ ـ أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات (١)

فصل في نظم الآية

[لقائل أن يقول](٢) : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟

فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وعلى براءة من لم يقتل ، وعلى تعيين القاتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لمّا دلت على [هذه](٣) المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تقدم تفسير العقل.

قال الواقديّ (٤) : كل ما في القرآن من قوله : (لَعَلَّكُمْ) فهو بمعنى «لكن» إلّا التي في الشعراء : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [الشعراء : ١٢٩] فإنه بمعنى [لعلكم](٥) تخلدون فلا تموتون.

فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم ، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلا [فالجواب أنه](٦) لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها ، بل لا بد من التأويل ، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون على [قلة](٧) عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا المبعث

فصل في توريث القاتل

ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟

__________________

(١) البيت لسراقة البارقي. ينظر النوادر : (١٨٥) ، الخصائص : (٣ / ١٥٣) ، المحتسب : ١ / ١٢٨ ، اللسان (رأى) ، الأمالي الشجرية : (٢ / ٢٠ ، ٢٠٠) ، ابن يعيش : ٩ / ١١٠ ، مغني اللبيب : (١ / ٢٧٧) ، سر الصناعة : (١ / ٨٦) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٣).

(٢) في ب : فإن قيل.

(٣) في ب : صفة.

(٤) محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء ، المدني ، أبو عبد الله الواقدي : من أقدم المؤرخين في الإسلام وأشهرهم ، ومن حفاظ الحديث ولد في ١٣٠ ه‍.

من كتبه المغازي النبوية ، الطبقات ، الجمل ، أخبار مكة ، تفسير القرآن وغيرها توفي ٢٠٧ ه‍.

ينظر لسان الميزان : ٥ / ٣٢٠ ، فضل الاعتزال : ٣١٠ ـ ٣١٢ ، الأعلام : ٦ / ٣١١.

(٥) في أ : كأنكم.

(٦) في ب : فإذن.

(٧) في ب : قضية.


قالوا : لا ؛ لأنه روي عن عبيدة السّلماني أن الرجل القاتل في هذه [الواقعة](١) حرم الميراث لكونه قاتلا.

قال القاضي : «لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية ؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثا لقتيله أم لا؟ وبتقدير أن يكون وارثا فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلا ، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملا ولا مفصلا ، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا ، وأنه [لا] يلزم الاقتداء لهم.

واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقسامة بقول المقتول : حقّي عند فلان ، أو فلان قتلني.

ومنعه الشافعي وغيره ؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب ، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه ، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال.

قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه ، فلما صار حيّا صار كلامه كسائر كلام الناس.

قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

قال القفال : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : اشتدت قلوبكم وقست وضلّت من بعد البيّنات التي جاءت أوائلكم ، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم ، فأخبر بذلك عن طغيانهم ، وجفائهم على ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب.

قال : لأنه خطاب مشافهة فحمله على الحاضرين أولى ، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ خصوصا. وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه ، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع ، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله ـ تعالى ـ من إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة المذبوحة. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله ـ تعالى ـ من النعم العظيمة ،

__________________

(١) في ب : الآية.


والآيات الباهرة التي أظهرها الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه الصّلاة والسّلام.

فإن قيل : لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمهلة ، فقال : «ثم قست» ، وقال : «من بعد ذلك» والبعدية لا تقتضي التعقيب ، وقلوبهم لم تزل قاسية مع رؤية الآية وبعدها؟

فالجواب : أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال : من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات ، فزالت المهلة.

وقال أبو عبيدة : «معنى قست : جفت».

وقال الواقدي : خفت من الشّدة فلم تكن.

وقال المؤرج : «غلظت».

وقيل : اسودت.

وقال الزجاج : «القسوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع».

قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) «أو» هذه ك «أو» التي في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] فكل ما قيل ثمة يمكن القول به هنا ، ولما قال أبو الأسود : [الوافر]

٥٩٣ ـ أحبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة أو عليّا (١)

اعترضوا عليه في قوله : «أو» التي تقتضي الشك ، وقالوا له : أشككت؟ فقال : كلا ، واستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ) [سبأ : ٢٤] فقال : أو كان شاكّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد ـ رحمه‌الله ـ الإبهام على المخاطب.

قال ابن الخطيب : كلمة «أو» للتردد ، وهي لا تليق بعلّام الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو من وجوه : أحدها : أنها بمعنى «الواو» كقوله : (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] وقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) [النور : ٣١] وقوله : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) [النور : ٦١] ومن نظائره قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وثانيها : أن المراد : فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.

[وثالثها : أي : في نظركم واعتقادكم إذا اطلعتم على أحوال قلوبهم قلتم : إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة](٢).

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٧٣) ، والطبري : ٢ / ٢٣٥ ، والقرطبي : ١ / ٣١٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.

(٢) سقط في ب.


ورابعها : أن «أو» بمعنى «بل» ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٥٩٤ ـ فو الله ما أدري أسلمى تقوّلت

أم النّوم أو كلّ إليّ حبيب (١)

وخامسها : أنه على حد قولك : «ما أكل إلا حلوا أو حامضا» أي : طعامه لا يخرج عن هذين ، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما.

وسادسها : أن «أو» حرف إباحة ، أي : بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقا كقولهم : «جالس الحسن أو ابن سيرين» أي أيهما جالست كنت مصيبا أيضا. و «أشدّ» مرفوع لعطفه على محل «كالحجارة» أي : فهي مثل الحجارة أو أشد. والكاف يجوز أن تكون حرفا فتتعلّق بمحذوف ، وأن تكون اسما فلا تتعلّق بشيء ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا أي : أو هي أشد.

و «قسوة» منصوب على التمييز ؛ لأن الإبهام حصل في نسبة التفضيل إليهما ، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه ، أي : أشدّ قسوة من الحجارة.

وقرىء (٢) : «أشدّ» بالفتح ووجهها : أنه عطفها على «الحجارة» أي : فهي كالحجارة أو [كأشد](٣) منها.

قال الزمخشري (٤) موجها للرفع : و «أشد» معطوف على الكاف ، إما على معنى : أو مثل أشد ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتعضده (٥) قراءة الأعمش بنصب الدال عطفا على «الحجارة» ويجوز على ما قاله أن يكون مجرورا بالمضاف المحذوف ترك على حاله ، كقراءة : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بجر «الآخرة» أي : ثواب الآخرة ، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يحتمل أن تكون للنصب ، وأن تكون للجر.

وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : لم قيل : أشدّ قسوة مما يخرج منه «أفعل» التفضيل وفعل التعجب؟ يعني : أنه [مستكمل](٦) للشروط من كونه ثلاثيّا تاما غير لون ولا عاهة متصرفا غير ملازم للنفي.

ثم قال : قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، ووجه آخر وهو ألّا يقصد معنى الأقسى ، ولكنه [قصد](٧) وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل «اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة».

__________________

(١) ينظر لسان العرب (درك) ، (أمم) ، والدرر : ٦ / ١٠٢ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٢٦ ، والأزهية : ص ١٢٩.

(٢) قرأ بها الأعمش ، وأبو حيوة.

انظر الشواذ : ٧ ، والتخريجات النحوية : ١٣٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.

(٣) في أ : أشد.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٥.

(٥) تقدمت هذه القراءة.

(٦) في ب : مكتمل.

(٧) سقط في أ.


وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخلقية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين.

وقرىء (١) : «قساوة».

فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة

إنما وصفها بأنها أشد قسوة من الحجارة لوجوه :

أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسية ، بل منصرفة على مراد الله ـ تعالى ـ غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصال الآيات عندهم ، وتتابع نعم الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.

وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.

فصل في الرد على المعتزلة

قال القاضي : إن كان الدّوام على الكفر مخلوق فيهم ، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أوكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مرارا.

قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ).

واعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ فضّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.

فأولها : قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) واللّام في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر ، وهو «من الحجارة» ، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يجز دخول اللام على الاسم ؛ لئلّا يتوالى حرفا تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملا على اللفظ.

قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى.

__________________

(١) وهي قراءة أبي حيوة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.


وهذا الذي قاله قد قرأ به (١) أبّي بن كعب والضحاك.

وقرأ (٢) مالك بن دينار (٣) «ينفجر» من الانفجار.

وقرأ قتادة (٤) : «وإن من الحجارة» بتخفيف «إن» من الثقيلة ، وأتى باللام فارقة بينها وبين «إن» النافية ، وكذلك : «وإن منها لما يشّقّق» و «إن منها لما يهبط» ، وهذه القراءة تحتمل أن تكون «ما» فيها في محل رفع وهو المشهور ، وأن تكون في محلّ نصب ؛ لأن «إن» المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال ، قال تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] في قراءة من قرأه.

وقال في موضع آخر : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا) [يس : ٣٢] إلا أن المشهور الإهمال.

والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة ؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة ، ومنه : الفجر والفجور.

فصل في تولد الأنهار

قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلبا حجريّا اجتمعت تلك الأبخرة ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة ، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدّها أن تنشقّ الأرض ، وتسيل تلك المياه أودية وأنهارا.

قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي : وإنّ من الحجارة لما يتصدّع ، فينبع الماء منه فيكون عينا لا نهرا جاريا.

و «يشّقّق» أصله : يتشقّق ، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش ، وقرأ (٥) طلحة بن

__________________

(١) أي قرأ أبي : «منها» ، وكذلك قرأ الضحاك. وقراءة الجمهور حمل على اللفظ ؛ لأن «ما» لها هنا لفظ ومعنى ؛ لأن المراد به : الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفرد المعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحدا ؛ إذ ليس المعنى : وإنّ من الحجارة للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار ، كما مر أنّ قراءة أبيّ حمل على المعنى.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٧.

(٣) مالك بن دينار أبو يحيى البصري وردت الرواية عنه في حروف القرآن سمع أنس بن مالك ، قال القتبي كان يكتب المصاحف بالأجرة وكان من أحفظ الناس للقرآن وكان يقرأ كل يوم جزءا من القرآن حتى يختم فإن أسقط حرفا قال : بذنب مني وما الله بظلام للعبيد ، مات سنة سبع وعشرين ومائة.

ينظر الغاية : ٢ / ٣٦ (٢٦٤٣).

(٤) انظر : المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والقرطبي : ١ / ٣١٥.

(٥) انظر قراءة الأعمش في البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والتخريجات النحوية : ص ٣٥٦. ـ


مصرف : «لمّا» بتشديد «الميم» في الموضعين قال ابن عطية (١) : «وهي قراءة غير متّجهة».

وقرأ أيضا (٢) : «ينشقّ» بالنون وفاعله ضمير «ما».

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون فاعله ضمير «الماء» ؛ لأن «يشّقّق» يجوز أن يجعل ل «الماء» على المعنى ، فيكون معك فعلان ، فيعمل الثاني منهما في الماء ، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير.

وعند الكوفيين يعمل الأول ، فيكون في الثاني ضمير ، يعني : أنه من باب التنازع ، ولا بد من حذف عائد من «يشقق» على «ما» الموصولة دلّ عليه قوله : «منه» ، والتقدير : وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه ، فيخرج الماء منه.

وقال أيضا : ولو قرىء : «تتفجّر» بالتاء جاز. قال أبو حاتم : يجوز «لما تتفجر» بالتاء ؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في «تشقق» يعني التأنيث.

قال النّحّاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى «ما» ، فإنها واقعة على الحجارة.

قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

قال أبو مسلم : «الضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْها) راجع إلى «القلوب» ، فإنه يجوز عليها الخشية ، والحجارة لا يجوز عليها الخشية. وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلّا أنّ هذا الوصف أليق بالقلوب من الحجارة ، فوجب رجوع الضمير إلى «القلوب» دون «الحجارة» ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر.

وقال جمهور المفسرين : الضمير عائد إلى «الحجارة».

وقالوا : يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قابليّة لذلك ، وأن المراد من ذلك جبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين تقطع وتجلّى له ربه ، وذلك لأن الله ـ

__________________

ـ وانظر في قراءة طلحة بن مصرف المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧.

(٢) أي طلحة بن مصرف ، قال أبو حيان : «وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية ما نصه : وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشددة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوما جاز الفك فصيحا ، وهو هنا مرفوع فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما فلا يجوز ...».

انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، وفيه قراءة ابن مصرف هكذا : «ينشقّ».


تعالى ـ خلق فيه الحياة والعقل والإدراك ، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى.

ونظيره قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١].

فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجبل وصفه بالخشية.

وقال أيضا : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وروي أنه حنّ الجذع لصعود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المنبر ، ولما أتى الوحي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول المبعث ، وانصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى منزله سلمت عليه الحجارة فكلها كانت تقول : السّلام عليك يا رسول الله.

قال مجاهد : ما تردّى حجر من رأس جبل ، ولا تفجّر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلّا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن ، ومثله عن ابن جريج (١) وثبت عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «إنّ حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة إنّي لأعرفه الآن» (٢). وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : قال لي ثبير : اهبط ؛ فإنّي أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله فناداه حراء : «إليّ يا رسول الله» (٣) وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] الآية.

وأنكرت المعتزلة ذلك ، ولا يلتفت إليهم ؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد.

لو قال بعض المفسّربن : الضمير عائد إلى «الحجارة» و «الحجارة» لا تعقل ، ولا تفهم ، فلا بدّ من التأويل ، فقال بعضهم : إسناد الهبوط استعارة ؛ كقوله : [الكامل]

٥٩٥ ـ لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٤)

وقوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشيا لله ، وهو كقوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي جدارا قد ظهر فيه الميلان

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٤٠) عن مجاهد.

(٢) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٤ / ١٧٨٢) كتاب الفضائل (٤٣) رقم (٢ / ٢٢٧٧) وأحمد (٥ / ٨٩ ، ٩٥) والدارمي (١ / ١٢) وابن أبي شيبة (١١ / ٤٦٤) والطبراني في «الكبير» (٢ / ٢٥٧) والصغير (١ / ٦٢) والبيهقي (٢ / ١٥٣) وابن عساكر (٢ / ١٥٣).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١ / ٤٦٦).

(٤) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٩١٣ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٠٥ ، ٢٢٠ ، ٢٥ ، وجمهرة اللغة : ص ٧٢٣ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢١٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٢٥٧ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ولسان العرب (حرث) ، (سور) ، (أفق) ، ولجرير أو للفرزدق في سمط اللآلي : ص ٣٧٩ ، ٩٢٢ ، وليس في ديوان الفرزدق ، وفي الخصائص : ٢ / ٤١٨ ، ورصف المباني : ص ١٦٩ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٦٧ ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.


ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختار ، لكان مريدا للانقضاض ، ونحو هذا قوله : [الطويل]

٥٩٦ ـ بخيل تضلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر (١)

فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر من عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسّجود منها للحوافر.

الوجه الثاني من التأويل : قوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : من الحجارة ما ينزل ، وما يشقق ، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة.

وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب.

الوجه الثالث : قال الجبّائي : «الحجارة» البرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من الله ـ تعالى ـ لعباده ليزجرهم به.

قال : وقوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : خشية الله ، أي : ينزل بالتخويف للعباد ، أو بما يوجب الخشية لله ، كما تقول : نزل القرآن بتحريم كذا ، وتحليل كذا ، أي : بإيجاب ذلك على الناس.

قال القاضي : هذا التأويل ترك للظّاهر من غير ضرورة ؛ لأن البرد لا يوصف بالحجارة ؛ لأنه ماء في الحقيقة.

قوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) منصوب المحلّ متعلق ب «يهبط» ، و «من» للتعليل.

وقال أبو البقاء : «من» في موضع نصب ب «يهبط» ، كما تقول : يهبط بخشية الله ، فجعلها بمعنى «الباء» [المعدية](٢) وهذا فيه نظر لا يخفى.

و «خشية» مصدر مضاف للمفعول تقديره : من أن يخشى الله ، وإسناد الهبوط إليها استعارة ؛ كقوله : [الكامل]

٥٩٧ ـ لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٣)

ويجوز أن يكون حقيقة على معنى : أن الله خلق فيها قابليّة لذلك.

وقيل : الضمير في «منها» يعود على «القلوب» ، وفيه بعد لتنافر الضمائر.

__________________

(١) تقدم برقم (٣٧٨).

(٢) في ب : المقدمة.

(٣) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٢٤٥) ، الخصائص : ٢ / ٤١٨ ، الكامل : (٤٨٦) ، ورصف المباني :

(١٦٩) ، الأضداد : (٢٩٦) اللسان (سور) ، الدر المصون : ١ / ٢٦٤.


قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) قد تقدم في قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

قال القرطبي : «بغافل» في موضع نصب على لغة «الحجاز» ، وعلى لغة «تميم» في موضع رفع.

قوله : (عَمَّا تَعْمَلُونَ) متعلّق ب «غافل» ، و «ما» موصولة اسمية ، والعائد الضمير ، أي : تعملونه ، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي : عن عملكم ، ويجوز أن يكون واقعا موقع المفعول به ، ويجوز ألّا يكون.

وقرىء (١) : «يعملون» بالياء والتاء.

فصل في المقصود بالآية

والمعنى : أن الله بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم ، وحافظ لأعمالهم محص لها ، فهو مجازيهم بها وهو كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤] وهذا وعيد وتخويف كبير.

فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟

قال القاضي : لا يصح ؛ لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه ، بدليل قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤].

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

قال القرطبي : هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود.

ويقال : طمع فيه طمعا وطماعية ـ مخفف ـ فهو طمع على وزن «فعل» وأطمعه فيه غيره.

ويقال في التعجب : طمع الرّجل ـ بضم الميم ـ أي : صار كثير الطّمع.

والطمع : رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بأطماعهم ، أي : بأرزاقهم.

وامرأة مطماع : تطمع ولا تمكّن.

فصل في قبائح اليهود

لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود شرع في قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) وهي قراءة ابن كثير.

انظر السبعة : ١٦٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١١٠ ، والعنوان : ٧٠ ، وحجة القراءات : ١٠١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٠.


قال القفّال رحمه‌الله : إن فيما ذكره الله ـ تعالى ـ في [سورة البقرة](١) من أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد.

أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوحي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.

أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي.

وأما العرب فلما [شاهدوا](٢) من أن أهل الكتاب يصدقون محمدا في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلّا من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.

وثانيها : تعديد النّعم على بني إسرائيل ، وما منّ الله به على أسلافهم من أنواع النعم ، كالإنجاء من آل فرعون بعد استبعادهم ، وتصيير أبنائهم أنبياء وملوكا ، وتمكينهم في الأرض ، وفرق البحر لهم ، وإهلاك عدوّهم ، وإنزال التوراة والصّفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ، ونقض المواثيق ، ومسألة النّظر إلى الله جهرة ، ثم ما أخرجه لهم في التّيه من الماء من الحجر ، وإنزال المنّ والسّلوى وتظليل الغمام من حرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها.

وثالثها : إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقديم كفرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعنادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سجّدا وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفسقوا ، وسألوا الفوم والبصل بدل المنّ والسّلوى ، وامتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأخذ منهم المواثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجبل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).

ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمدا عليه الصلاة والسلام ، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق.

ورابعها : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.

__________________

(١) في ب : هذه السورة.

(٢) في ب : يشاهدون.


وخامسها : الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [البقرة : ٧٣].

فصل في تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

اعلم أن المراد تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).

قال الحسن : هو خطاب مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين (١).

قال القاضي : وهذا الأليق بالظاهر ، وإن كان الأصل في الدّعاء ، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عبّاس : إنه خطاب مع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصّة ؛ لأنه هو الدّاعي ، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذه [القرينة](٢).

روي أنه حين دخل «المدينة» ، ودعا اليهود إلى كتاب الله ، وكذبوه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ وسبب هذا الاستعباد ما ذكرناه أي : أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الذي كان هو السبب في خلاصهم من الذّل ، وفضلهم على الكل بظهور المعجزات المتوالية على يده ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين ، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء.

فصل في إعراب الآية

قوله : (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ناصب ومنصوب ، وعلامة النصب حذف النون والأصل في «أن» وموضعها نصب أو جر على ما عرف ، وعدي «يؤمنوا» باللّام لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري.

فإن قيل : ما معنى الإضافة في قوله : (يُؤْمِنُوا لَكُمْ) والإيمان إنما هو لله؟

فالجواب : أن الإيمان ـ وإن كان لله ـ فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] لما آمن بنبوّته وتصديقه ، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم ، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) «الواو» : للحال.

قال بعضهم : وعلامتها أن يصلح موضها «إذ» ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم ، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى.

و «قد» مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالا.

و «يسمعون» خبر «كان».

__________________

(١) أخرجه ابن إسحاق وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥٦) عن ابن عباس.

(٢) في أ : الآية.


و «منهم» في محلّ (١) رفع صفة ل «فريق» ، أي : فريق كائن منهم.

قال سيبويه : واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون : «منهم» بكسر الهاء إتباعا لكسرة الميم. ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عندهم.

و «الفريق» اسم جمع لا واحد له من لفظه ك «رهط وقوم» ، وجمعه في أدنى العدد «أفرقة» ، وفي الكثير «أفرقاء».

و «يسمعون» نعت ل «فريق» ، وفيه بعد ، و «كان» وما في حيّزها في محلّ نصب على ما تقدم.

وقرىء (٢) : «كلم الله» وهو اسم جنس واحدة كلمة ، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم ، بأن الكلام شرطه الإفادة ، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعدا ؛ لأنه جمع في المعنى ، وأقلّ الجمع ثلاثة ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهل «الكلام» مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف.

والمادة تدل على التأثير ، ومنه الكلم وهو الجرح ، والكلام يؤثر في المخاطب.

قال الشاعر : [المتقارب]

٥٩٨ ـ ..........

وجرح اللّسان كجرح اليد (٣)

ويطلق الكلام لغة على الخطّ والإشارة ؛ كقوله : [الطويل]

٥٩٩ ـ إذا كلّمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدّموع البوادر (٤)

وعلى النفساني ؛ قال الأخطل : [الكامل]

٦٠٠ ـ إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا (٥)

وقيل : لم يوجد هذا البيت في ديوان الأخطل.

__________________

(١) زاد في أ : نصب خبرا ل «كان» ، وهذا ضعيف.

(٢) قرأ بها الأعمش.

انظر المحتسب : ١ / ٩٣ ، والكشاف : ١ / ١٥٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٥ ، والتخريجات النحوية : ١٨٤.

(٣) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

لو عن تشا غيره جاءني

ينظر ديوانه : ص (١٨٥) ، الخصائص : ١ / ٢١ ، مفردات الراغب : (٤٣٩) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).

(٤) ينظر شرح الجمل : (١ / ٨٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).

(٥) ينظر شرح المفصل : (١ / ٢١) ، الشذور : (٢٨) ، شرح الجمل للزجاجي : (١ / ٨٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).


وأما عند النحويين [فيطلق](١) على اللّفظ المركب المفيد بالوضع.

و «ثم» للتراخي إما في الزمان أو الرتبة.

و «التحريف» : الإمالة والتحويل ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، ويقال : قلم محرّف إذا كان مائلا.

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) متعلق ب «يحرفونه» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أي : ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه ، ويجوز أن تكون مصدرية.

والضمير في «عقلوه» يعود حينئذ على الكلام أي : من بعد تعقلهم إياه.

قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، وفي العامل قولان :

أحدهما : «عقلوه» ، ولكن يلزم منه أن تكون حالا مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من قوله: «عقلوه».

والثاني وهو الظاهر : أنه «يحرفونه» ، أي : يحرفونه حال علمهم بذلك.

فصل في تعيين الفريق

قال بعضهم : الفريق من كان في زمن موسى عليه الصّلاة والسّلام ؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله ، والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات.

قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السّبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى ـ عليه الصلا والسلام ـ إلى الميقات ، وسمعوا كلام الله ، وأمره ونهيه ، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا (٢).

قالت طائفة منهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألّا تفعلوا فلا بأس.

قال القرطبي : ومن قال : إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى ، واختصاصه بالتكليم.

وقال السّدّي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسّلام ، كما قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].

ومنهم من قال : المراد بالفريق من كان في زمن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما غيّروا آية

__________________

(١) في أ : فلا يطلق.

(٢) ذكره الفخر الرازي : ٣ / ١٢٤.


الرجم ، وصفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب ؛ لأن الضمير في قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) راجع إلى ما تقدم من قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

وقولهم : الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات ممنوع ؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال : إنه سمع كلام الله.

فإن قيل : كيف يلزم من إقدام البعض على التّحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟

أجاب القفّال فقال : يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه.

فصل في كلام القدرية والجبرية

قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) استفهام على سبيل الإنكار ، فكان ذلك جزما بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وإيمان من أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع ، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية.

قال القاضي : قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) يدل على أن إيمانهم من قلبهم ؛ لأنه لو كان بخلق الله ـ تعالى ـ فيهم لكان لا يتغيّر حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم ، ولما صحّ كون ذلك تسلية للرسول وللمؤمنين ؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه ـ تعالى ـ ذلك ، وزواله موقوف على ألا يخلقه فيهم.

وأيضا إعظامه ـ تعالى ـ لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه ، وهم يعلمون صحته.

وإضافته ـ تعالى ـ التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك ، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مرارا.

فصل في ذم العالم المعاند

قال أبو بكر الرازي : الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد ، وأقرب إلى اليأس من الجاهل ؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة ، وأعظم جناية.

فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض

فإن قيل : إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً


قَلِيلاً) [آل عمران : ١٨٧] وقال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦].

قال ابن الخطيب : ويجب أن يكونوا قليلين ؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون ؛ لأنا إن جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل ، إن كثر العدد.

فإن قيل : قوله : (عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تكرار.

أجاب القفّال ـ رضي الله عنه ـ بوجهين :

أحدهما : «من بعد ما عقلوا مراد الله ـ تعالى ـ منه» ، فأوّلوه تأويلا فاسدا يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.

والثاني : أنهم عقلوا مراد الله تعالى ، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى.

واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، ونشهد أنّ صاحبكم صادق ، وأنّ قوله حقّ ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا ، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به (١).

قال القفّال ـ رحمه‌الله تعالى ـ في قوله تعالى : (فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ :) مأخوذ من قولهم : فتح الله على فلان في علم كذا أي [رزقه الله ذلك](٢) وسهل له طلبه.

قال الكلبي : بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق ، وقوله صدق ، ومنه قيل للقاضي : الفتّاح بلغة «اليمن».

وقال الكسائي : ما بيّنه الله عليكم.

وقال الواقدي : بما أنزل الله عليكم نظيره (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] أي : أنزلنا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٥١) عن ابن عباس.

(٢) في أ : رزق ذلك.


وقال أبو عبيدة والأخفش : بما منّ الله عليكم به ، وأعطاكم من نصركم على عدوكم.

وقيل : بما فتح الله عليكم أي : أنزل من العذاب ليعيروكم به ، ويقولون فمن أكرم على الله منكم.

وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : هذا قول يهود «قريظة» بعضهم لبعض حين سبهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : «يا إخوان القردة والخنازير وعبد الطّاغوت» فقالوا : من أخبر محمدا بهذا؟ ما خرج هذا إلّا منكم (١).

وقيل : الإعلام والتبيين بمعنى : أنه بيّن لكم صفة محمد عليه الصلاة والسلام.

فصل في إعراب الآية

قد تقدّم الكلام على نظير قوله : (وَإِذا لَقُوا) في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين.

والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي : «وقد كان فريق» والتقدير : كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟

وقرأ (٢) ابن السّميفع : «لاقوا» وهو بمعنى «لقوا» فاعل بمعنى فعل نحو : «سافر» وطارقت النعل :

وأصل «خلا» : «خلو» قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى «خلا» و «إلى» في أول السورة.

قوله : (بِما فَتَحَ اللهُ) متعلق ب «التحديث» قبله ، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي : فتحه.

وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية ، أي : شيء فتحه ، فالعائد محذوف أيضا ، أو بفتح الله عليكم.

وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنّ الضمير في قوله بعد ذلك : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) عائد على «ما» و «ما» المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهور ، خلافا للأخفش ، وأبي بكر بن السراج ، إلّا أن يتكلّف فيقال : الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أو من قوله : «فتح» ، أي : ليحاجّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم ، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٥٢) عن مجاهد.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٦٦.


والجملة في قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) في محلّ نصب بالقول ، قال القرطبي : ومعنى فتح : حكم.

والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعاللى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] أي : الحاكمين. والفتاح : القاضي بلغة «اليمن» ، يقال : بيني وبينك الفتّاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم.

والفتح : النصر ، ومنه قوله : (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩].

قوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) أي : ليخاصموكم ، ويحتجوا بقولكم عليكم ، وهذه اللام تسمى لام «كي» بمعنى أنها للتعليل ، كما أن «كي» كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب «كي» كما سيأتي ، وهي حرف جر ، وإنما دخلت على الفعل ؛ لأنه منصوب ب «أن» المصدرية مقدّرة بعدها ، فهو معرب بتأويل المصدر أي : للمحاجّة ، فلم تدخل إلّا على اسم ، لكنه غير صريح.

والنصب ب «أن» المضمرة كما تقدم لا ب «كي» خلافا لابن كيسان والسّيرافي ، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد : ٢٣] لأن «أن» هي أم الباب ، فادعاء إضمارها أولى من غيرها.

وقال الكوفيون : النّصب ب «اللام» نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من «كي» ، ومن «أن» إنما هو على سبيل التأكيد ، وللاحتجاج موضع غير هذا.

ويجوز إظهار «أن» وإضمارها بعد هذه «اللام» إلّا في صورة واحدة ، وهي إذا وقع بعدها «لا» نحو قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٥٠] وذلك لما يلزم من توالي لامين ، فيثقل اللفظ.

والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام ؛ لأنها حرف جر ، وفيها لغة شاذة وهي الفتح.

قال الأخفش : «لأن الفتح الأصل».

قال خلف الأحمر : هي لغة بني العنبر. وهذه اللام متعلّقة بقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ).

وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب «فتح» وليس بظاهر ؛ لأن المحاجّة ليست علّة للفتح ، وإنما هي نشأت عن التحديث ، اللهم إلا أن يقال : تتعلّق به على أنها لام العاقبة ، وهو قول قيل به ، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجّوكم.

أو تقول : إن اللّام لام العلّة على بابها ، وإنما تعلّقت ب «فتح» ؛ لأنه سبب للتحديث ، والسبب والمسبب في هذا واحد.

والحجّة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجّة الطريق ، وحاججت


فلانا [فحججته] أي : غالبته ، ومنه الحديث : «فحجّ آدم موسى» (١) ، وذلك لأن الحجّة نفي الطّريق المسلوك الموصّلة للمراد.

والضمير في «به» يعود على «ما» من قوله تعالى : (بِما فَتَحَ اللهُ) وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية ، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «أتحدّثونهم» و «فتح».

قوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) ظرف معمول لقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) بمعنى : ليحاجّوكم يوم القيامة ، فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف ، فكنى عنه بقوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) قاله الأصم وغيره.

وقال الحسن : «عند» بمعنى «في» أي : ليحاجّوكم في ربكم أي : فيكونون أحقّ به منكم.

وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عند ذكر ربكم. وقال القفّال رحمه‌الله تعالى : يقال : فلان عندي عالم أي : في اعتقادي وحكمي ، وهذا عند الشّافعي حلال ، وعند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ حرام أي : في حكمهما وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي : لتصيروا محجوجين [عند ربكم](٢) بتلك الدلائل في حكم الله.

ونظيره تأويل بعض العلماء قوله : (يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور : ١٣] أي : في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقا.

وقيل : هو معمول لقوله : (بِما فَتَحَ اللهُ) أي : بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم ، وهو نعته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأخذ ميثاقهم بتصديقه.

ورجّحه بعضهم وقال : هو الصحيح ؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا.

وفي هذا نظر من جهة الصناعة ، وذلك أن «ليحاجّوكم» متعلق بقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٤ / ٣١٨) كتاب الأنبياء باب وفاة موسى وذكره بعد حديث رقم (٣٤٠٩) ، (٨ / ٢٢٦) كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى حديث رقم (٦٦١٤) ، (٩ / ٢٦٥) كتاب التوحيد باب قوله تعالى وكلم الله موسى .. حديث رقم (٧٥١٥).

ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٤٤) كتاب القدر (٤٦) باب حجاج آدم وموسى عليهما‌السلام (٢) حديث رقم (١٦ / ٢٦٥٣) ، ٤ / ٢٠٤٥ كتاب القدر (٤٦) باب كل شيء بقدر (٤) حديث رقم (١٨ / ٢٦٥٥) ، (٤ / ٢٠٤٣ ـ ٢٠٤٤) كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما‌السلام (٢) باب رقم (١٥ / ٢٦٥٢) وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٧٠١) والترمذي في السنن حديث رقم (٢١٣٤) وابن ماجه في السنن حديث رقم (٨٠) وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٨ ، ٢٩٨) ـ وابن عساكر (٢ / ٨١) ـ والخطيب في التاريخ (٤ / ٣٤٩).

(٢) سقط في ب.


على الأظهر كما تقدم ، فيلزم الفصل به بين العامل ـ وهو «فتح» وبين معموله ـ وهو عند ربك ـ وذلك لا يجوز ؛ لأنه أجنبي منهما.

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) في هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها مندرجة في حيّز القول ، أي : إذا خلا بعضهم ببعض قالوا لهم : أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وصرتم محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق ، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم ، فعلى هذا محلها النصب.

والثاني : أنها من خطاب الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، وكأنه قدح في إيمانهم ، لقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] قاله الحسن.

فعلى هذا لا محلّ له ، ومفعول «تعقلون» يجوز أن يكون مرادا ، ويجوز ألّا يكون.

قوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ) تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة ؛ لأنها عاطفة ، وإنما أخرت عنها ، لقوة همزة الاستفهام ، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و «لا» للنفي.

و (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) في محلّ نصب وفيها ـ حينئذ ـ تقديران :

أحدهما : أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا «علم» بمعنى «عرف».

والثاني : أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك «ظننت» ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول ، والثاني محذوف. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، وعائدها محذوف ، أي : ما يسرونه ويعلنونه ، وأن تكون مصدرية ، أي : يعلم سرهم وعلانيتهم. [والسر](١) والعلانية يتقابلان.

وقرأ ابن محيصن (٢) «تسرون» و «تعلنون» بالتاء على الخطاب.

فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر

في الآية قولان :

الأول : وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية ، فخوّفهم به.

والثاني : أنهم ما علموا بذلك ، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا ، فيعرفوا أن

__________________

(١) في أ : والسرية.

(٢) وهي قراءة أبي حيوة ، ولكن الذي ذكره صاحبا المحرر والبحر أن القراءة بتخفيف الميم لا الياء.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤٢ ، وما ذكره المصنف هنا مناسب لما في الدر المصون : ١ / ٢٦٨.


ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم ، وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق ، وعن وصية بعضهم بعضا بكتمان دلائل نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك ؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أو لا يعلم كيف وكيت ، إلّا وهو عالم بذلك الشيء ، ويكون ذلك زاجرا له عن ذلك الفعل.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

قال القاضي : الآية تدلّ على أمور منها :

أنه ـ تعالى ـ إن كان هو الخالق لأفعال العباد ، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال ، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين.

ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرما.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف اليهود بالعناد ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الضّالة المضلّة ، وهم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه.

والفرقة الثانية : المنافقون.

والفرقة الثالثة : الذين يجادلون المنافقين.

والفرقة الرابعة : هم المذكورون هنا ، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة ، ولا الكتابة ، وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم ، فبين الله ـ تعالى ـ أن الممتنعين عن الإيمان ليس سبب ذلك واحدا ، بل لكل قسم سبب.

وقال بعضهم : هم بعض اليهود والمنافقين.

وقال عكرمة والضّحاك : «هم نصارى العرب».

وقيل : «هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا آمنين». وعن علي ـ رضي الله عنه ـ هم المجوس.

قوله : (مِنْهُمْ) خبر مقدم ، فيتعلّق بمحذوف. و «أمّيون» مبتدأ مؤخر ، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلا بالظرف قبله ، وإن لم يعتمد.

وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم.


و «أمّيّون» جمع «أمّي» وهو من لا يكتب ولا يقرأ.

واختلف في نسبته فقيل : إلى «الأمّ» وفيه معنيان :

أحدهما : أنه بحال أمّة التي ولدته من عدم معرفة الكتابة ، وليس مثل أبيه ؛ لأن النساء ليس من شغلهن الكتابة.

والثاني : أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ، ولم ينتقل.

وقيل : نسب إلى «الأمّة» وهي القامة والخلقة ، بمعنى أنه ليس له من النّاس إلا ذلك.

وقيل : نسب إلى «الأمّة» على سذاجتها قبل أن يعرف الأشياء ، كقولهم : عامي أي : على عادة العامة.

وعن ابن عبّاس : «قيل لهم : أميون ؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب».

وقال أبو عبيدة : «قيل لهم : أميون ، لإنزال الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا لأم الكتاب».

وقرأ ابن أبي عبلة (١) : «أمّيون» بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين.

وقيل : الأمي : من لا يقرّ بكتاب ولا رسول.

قوله : (لا يَعْلَمُونَ) جملة فعلية في محلّ رفع صفة ل «أميون» ، كأنه قيل : أميون غير عالمين.

قوله : (إِلَّا أَمانِيَّ) هذا استثناء منقطع ؛ لأن «الأماني» ليست من جنس «الكتاب» ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهذا هو المنقطع ، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما ، كقوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] وقول النّابغة : [الطويل]

٦٠١ ـ حلفت يمينا غير ذي مثنويّة

ولا علم إلّا حسن ظنّ بصاحب (٢)

لأن بذكر العلم استحضر الظن ، ولهذا لا يجوز : صهلت الخيل إلّا حمارا.

واعلم أن المنقطع على ضربين : ضرب يصحّ توجه العامل عليه ، نحو : جاء القوم إلّا حمارا. وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة : «ما زاد إلا ما نقص» ، و «ما نفع إلا ما ضر» فالأول فيه لغتان : لغة «الحجاز» وجوب نصبه ، ولغة «تميم» أنه كالمتّصل ، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع.

__________________

(١) وبها قرأ شيبة ، والأعرج ، وابن جماز عن نافع ، وهارون عن أبي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨ ، ٣٩٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٢.

(٢) ينظر ديوانه : ص ٤١ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٣٢٣ ، ٣٣٠ ، ، ٦ / ٨٩. وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٥١ ، والكتاب : ٢ / ٣٢٢ ، واللمع في العربية : ص ١٥١ ، والخصائص : ٢ / ٢٢٨. والدر : ١ / ٢٦٨.


والآية الكريمة من الضرب الأول ، فيحتمل في نصبها وجهان :

أحدهما : على الاستثناء المنقطع.

والثاني : أنه بدل من «الكتاب».

و «إلّا» في المنقطع تقدر عند البصريين ب «لكنّ» ، وعند الكونفيين ب «بل» ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل محذوف ، فإنه قال : «إلا أماني» استثناء منقطع ؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم ، وتقدير «إلّا» في مثل هذا ب «لكن» أي : لكن يتمنونه أماني ، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع ، فيصير نظير : «ما علمت إلا ظنّا». [وفيه نظر].

الأماني جمع «أمنيّة» بتشديد الياء فيها.

وقال أبو البقاء : «يجوز تخفيفها فيها».

وقرأ أبو جعفر (١) بتخفيفها ، حذف إحدى الياءين تخفيفا.

قال الأخفش : «هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتح ومفاتيح».

قال النّحّاس : «الحذف في المعتلّ أكثر» ؛ وأنشد قول النابغة : [الطويل]

٦٠٢ ـ وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع (٢)

وقال أبو حاتم : «كلّ ما جاء واحده مشددا من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان». وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.

ووزن «أمنية» : «أفعولة» من تمنّى (٣) يتمنّى : إذا تلا وقرأ ؛ قال : [الطويل]

٦٠٣ ـ تمنّى كتاب الله آخر ليله

تمنّي داود الزّبور على رسل (٤)

وقال كعب بن مالك : [الطويل]

٦٠٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر (٥)

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨.

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص (١٢٧٤) وليس للنابغة ، وخزانة الأدب : ١ / ٢١٣ ، والدرر : ٦ / ٢٠١ ، ولسان العرب (خمس) ، والأشباه والنظائر : ٥ / ١٢٢ ، ٢٨٠ ، وإصلاح المنطق : ص ٣٠٣ ، وجواهر الأدب : ص ٣١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٣٠٨ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٢٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ٣٥٨ ، وتذكرة النحاة : ص ٣٤٤ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٨٧ ، والمقتضب : ٢ / ١٧٦ ، ٤ / ١٤٤ ، والمنصف : ١ / ٦٤ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٥٠ ، والدر : ١ / ٢٦٩.

(٣) في ب : تمنى.

(٤) ينظر القرطبي : (٢ / ٦) ، اللسان (منى) ، الكشاف : (١ / ١٥٧) ، مجمع البيان : (١ / ٣٢٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٩).

(٥) ينظر القرطبي : (١ / ٦) ، المحرر الوجيز : (١ / ٣٣٠) ، مجمع البيان : (١ / ٣٢٢) ، اللسان (منى) ، والدر : ١ / ٢٦٩.


وقال تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] أي : قرأ وتلا.

والأصل على هذا : «أمنوية» فأعلت إعلال «ميت» و «سيد» وقد تقدم.

وقيل : الأمنية : الكذب والاختلاق.

قال أعرابي لابن دأب (١) في شيء يحدث به : أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي : اختلقته.

وقيل : ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه.

وقيل : ما يقدره ويحزره من منّى : إذا كذب ، أو تمنى ، أو قدر ؛ كقوله : [البسيط]

٦٠٥ ـ لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

حتّى تلاقي ما يمني لك الماني (٢)

أي : يقدر لك المقدر.

قال الراغب : والمني : التقدير ، ومنه «المنا» الذي يوزن به ، ومنه «المنية» وهو الأجل المقدر للحيوان ، «والتّمنّي» : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين ، وقد يكون بناء على رويّة وأصل ، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له ، فأكثر التمني تصوّر ما لا حقيقة له [والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء](٣). ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.

ومنه قوله عثمان : «ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت» (٤).

وقال الزمخشري (٥) : والاشتقاق من منّى : إذا قدّر ؛ لأن المتمني يقدّر في نفسه ، ويحزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، فجعل بين هذه المعاني قدرا مشتركا وهو واضح.

__________________

(١) عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الليثي البكري الكناني ، أبو الوليد : خطيب ، شاعر ، عالم بالأنساب ، راوية من أهل المدينة ، اشتهر بأخباره مع المهدي العباسي. وحظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد.

قال ابن قتيبة : له عقب بالبصرة ، وكان أبوه «يزيد» عالما أيضا بأخبار العرب وأشعارها ، والأغلب على آل دأب الأخبار.

توفي سنة ١٧١ ه‍.

انظر إرشاد الأريب : ٦ / ١٠٤ ، البيان والتبيين : ١ / ٣٠ ، لسان الميزان : ٤ / ٤٠٨ ، التاج : ١ / ٢٤٢ ، الأعلام : ٥ / ١١١.

(٢) البيت لسويد بن عامر. ينظر اللسان والتاج (منى) ، القرطبي : (٢ / ٦) ، الدر المصون : ١ / ٢٦٩.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن ماجه في السنن (١ / ١١٣) كتاب الطهارة باب كراهة مسّ الذكر باليمين والاستنجاء باليمين حديث رقم (٣١١) عن عثمان بن عفان بلفظه.

(٥) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٧.


وقال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى بقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) [البقرة : ١١١].

وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق ؛ لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلّق ، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلّا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنّهم لا يتمكّنون من التدبّر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادرا.

قوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «إن» نافية بمعنى «ما» وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل «ما» الحجازية.

وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه ، وأنشد : [المنسرح]

٦٠٦ ـ إن هو مستوليا على أحد

إلّا على أضعف المجانين (١)

«هو» اسمها ، و «مستوليا» خبرها.

فقوله : «هم» في محل رفع الابتداء لا اسم «إن» لأنها لم تعمل على المشهور ، و «إلا» للاستثناء المفرغ ، ويظنون في محلّ الرفع خبرا لقوله «هم».

وحذف مفعولي الظّن للعلم بهما واقتصارا ، وهي مسألة خلاف.

فصل في بطلان التقليد في الأصول

الآية تدلّ على بطلان التقليد.

قال ابن الخطيب : وهو مشكل ؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا (٢).

قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) «ويل» مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، والدعاء من المسوغات ، سواء كان دعاء له نحو : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجار بعده الخبر ، فيتعلّق بمحذوف.

وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلا ، واللام

__________________

(١) ينظر الأزهية : ص ٤٦ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٩١ ، وتخليص الشواهد : ص ٣٠٦ ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٦٦ ، والدرر : ٢ / ١٠٨ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ١١٣ ، والمقرب : ١ / ١٠٥ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٠١ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٢٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ١٦٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٢١٦ ، والجنى الداني : ص ٢٠٩ ، ورصف المباني : ص ١٠٨ ، وجواهر الأدب : ص ٢٠٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٢٥ ، والدر : ١ / ٢٧٠

(٢) ينظر المستصفى : ٢ / ٣٨٧ اللمع : (٧) جمع الجوامع : ٢ / ٣٩٢ شرح الكوكب : (٦١٦) البرهان : ٢ / ١٣٥٧ المنخول : ٤٧٢ الإحكام للآمدي : ٤ / ١٩٢ المنتهى : (١٦٣) شرح العضد : ١ / ٣٠٥ ، إرشاد الفحول : (٢٦٥) نشر البنود : ٢ / ٣٣٥ ، تيسير التحرير : ٤ / ٢٤٢ المسودة : (٤٦٢) فواتح الرحموت : ٢ / ٤٠٠ ميزان الأصول : ٢ / ٩٤٩.


للتبيين ؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان ، فيتعلّق بمحذوف. وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل ، يعني أنه لو ذكر قبل «ويل» فقلت : «ألزم الله زيدا ويلا» لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة ؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب ، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلا.

واعلم أن «ويلا» وأخواته وهي : «ويح» و «ويس» و «ويب» و «ويه» و «ويك» و «عول» من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها ، وتلك الأفعال واجبة الإضمار ، لا يجوز إظهارها ألبتة ؛ لأنها جعلت بدلا من اللفظ بالفعل ، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحو : «ويل له» وإن أضيف نصب على ما تقدم ، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قطعه عن الإضافة ، فإنه قال : فإذا أدخلت اللّام رفعت فقلت : «ويل له» و «ويح له» كأنه يريد على الأكثر ، ولم يستعمل العرب منه فعلا ؛ لاعتلال عينه وفائه. وقد حكى ابن عرفة (١) : «تويّل الرجل» إذا دعا بالويل. وهذا لا يرد ؛ لأنه مثل قولهم : سوّفت ولوليت إذا قلت له : سوف ولو.

ومعنى الويل : شدة الشر ، قاله الخليل.

وقال الأصمعيّ : الويل : التفجّع ، والويح : الترحم.

وقال سيبويه (٢) : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.

وقيل : الويل : الحزن.

وهل «ويل وويح وويس وويب» بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه ، وقد تقدم ما فرق به سيبويه في بعضها.

وقال قوم : «ويل» في الدعاء عليه ، و «ويح» وما بعده ترحم عليه.

وزعم الفراء أنّ أصل «ويل» : وي ، أي : حزن ، كما تقول : وي لفلان أي حزن له ، فوصلته العرب باللّام ، وقدرت أنها منه فأعربوها ، وهذا غريب جدّا.

ويقال : ويل وويلة.

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

__________________

(١) إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي ، أبو عبد الله ، من أحفاد المهلب بن أبي صفرة إمام في النحو ، وكان فقيها ولد في ٢٤٤ ه‍ قال ابن حجر : جالس الملوك والوزراء ، وأتقن حفظ السيرة ووفيات العلماء ، مع المروءة والفتوة والظرف له كتب منها كتاب التاريخ ، غريب القرآن ، كتاب الوزراء ، أمثال القرآن توفي ٣٢٣ ه‍.

ينظر وفيات الأعيان : ١ / ١١ ، نزهة الألبا : ٣٢٦ ، لسان الميزان : ١ / ١٠٩ ، تاريخ بغداد : ٦ / ١٥٩ ، إنباه الرواة : ١ / ١٧٦ ، الأعلام : ١ / ٦١.

(٢) ينظر الكتاب : ١ / ١٦٧.


٦٠٧ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ عامر (١)

لديه (٢) ولا البسباسة ابنة يشكرا (٣)

وقال أيضا : [الطويل]

٦٠٨ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت : لك الويلات إنّك مرجلي (٤)

ف «ويلات» جمع «ويلة» لا جمع «ويل» كما زعم ابن عطية ؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «الويل العذاب الأليم» (٥) ، وعن سفيان الثورى أنه قال: «صديد أهل جهنم». [وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» (٦)](٧).

وقال سعيد بن المسيب : «واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره» (٨).

وقال ابن يزيد : «جبل من قيح ودم».

وقيل : صهريج في جهنم.

وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنّم.

وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب.

وقيل : ما تقدم في اللغة.

قوله : «بأيديهم» متعلّق ب «يكتبون» ، ويبعد جعله حالا من «الكتاب» ، والكتاب ـ هنا ـ بمعنى المكتوب ، فنصبه على المفعول به ، ويبعد جعله مصدرا على بابه ، وهذا من باب التأكيد ، فإن [الكتابة](٩) لا [تكون](١٠) بغير اليد ، [ونظيره](١١) : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ

__________________

(١) في ب : هاشم.

(٢) في ب : قريب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٦٨ ، لسان العرب (قرب) ، الأشباه والنظائر : ٥ / ٢٣٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٠.

(٤) ينظر ديوانه : ١١ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٤٥ ، شرح المعلقات للتبريزي : (٧٠) ، والشنقيطي : (٦٠) ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٢٧ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٧٦٦ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٣٧٤ ، وأوضح المسالك : ٤ / ١٣٦ ، شرح الأشموني : ٢ / ٥٤١ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٤٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٦٧) عن ابن عباس.

(٦) أخرجه أحمد (٣ / ٧٥) والترمذي (٣١٦٤) والحاكم (٤ / ٥٩٦) وعبد بن حميد في «المنتخب» (٩٢٤) وابن حبان (٢٦١٠ ـ موارد) وأبو يعلى (١٣٨٣).

وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وو افقه الذهبي.

(٧) سقط في ب.

(٨) ذكره الرازي في تفسيره : ٣ / ١٢٨.

(٩) في ب : الكتاب.

(١٠) في ب : يكون.

(١١) في ب : ونحوه.


بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧].

وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم ، فإنّ قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره ، نحو : «بنى الأمير المدينة» فأتى بذلك رفعا لهذا المجاز.

وقيل : فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته](١) بيان جرأتهم ومجاهرتهم ، فإن المباشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره.

وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز.

وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، وهذا الذي قاله لا يلزم.

والأيدي : جمع «يد» ، والأصل : أيدي بضم الدال ك «فلس وأفلس» في القلّة ، فاستثقلت الضمة قبل الياء ، فقلبت كسرة للتجانس ، نحو : «بيض» جمع «أبيض» ، والأصل «بيض» بضم الباء ك «حمر» جمع «أحمر» ، وهذا رأي سيبويه ، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة ، ومذهب الأخفش عكسه ، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر «معيشة» إن شاء الله تعالى.

وأصل «يد» : يدي ـ بسكون العين.

وقيل : يدي ـ بتحريكها ـ فتحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، فصار : يدا ك «رحى» ، وعليه التثنية : يديان [وعليه أيضا قوله : [الرجز]

٦٠٩ ـ يا ربّ سار بات ما توسّدا

إلّا ذراع العنز أو كفّ اليدا (٢)](٣)

[والمشهور في تثنيتها عدم ردّ لامها ، قال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) [المسد : ١] وقد شذّ الردّ في قوله : يديان ؛ قال : [الكامل]

٦١٠ ـ يديان بيضاوان عند محلّم

قد يمنعانك أن تضام وتقهرا (٤)

و «أياد» جمع الجمع ، نحو : كلب وأكلب وأكالب ، ولا بد في قوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) من حذف يصح معه المعنى ، فقدره الزمخشري : «يكتبون الكتاب المحرف» ، وقدره غيره حالا من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفا ، وإنما [أحوج](٥) إلى هذا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر شرح المفصل لابن يعيش : ٤ / ١٥٢ ، الدرر : ١ / ١٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر تذكرة النحاة : ص ١٤٣ ، خزانة الأدب : ٧ / ٤٨٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٢ / ٦٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٥) في أ : أخرج.


الإضمار ؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب الكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.

قوله : (لِيَشْتَرُوا) اللام : لام كي ، وقد تقدمت ، والضمير في «به» يعود على ما أشاروا إليه بقوله (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

و «ثمنا» مفعوله.

وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] فليلتفت إليه ، واللّام متعلقة ب «يقولون» أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء.

وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قوله : (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) متعلّق ب «ويل» أو بالاستقرار في الخبر.

و «من» للتعليل و «ما» موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.

والأول أقوى ، والعائد أيضا محذوف أي : كتبته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : من كتبهم.

و «ويل لهم ممّا يكسبون» مثل ما تقدم قبله ، وإنما كرر الويل ؛ ليفيد أن الهلكة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حدته لا بمجموع الأمرين ، وإنا قدم قوله : «كتبت» على «يكسبون» ؛ لأن الكتابة مقدمة ، فنتيجتها كسب المال ، فالكتب سبب والكسب مسبب ، فجاء النظم على هذا.

فصل في سبب هذا الوعيد

هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال ، وعلى أن المكتوب من عند الله ، فالجمع بينهما منكر عظيم.

وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تنبيه على أمرين :

الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم ؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.

والثاني : إنما فعلوا ذلك طلبا للمال والجاه ، وهذا يدلّ على أن أخذ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو محرّم ؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.

وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) دليل على أخذهم المال عليه ، فلذلك كرر [ذكر](١) الويل.

واختلفوا في قوله : (يَكْسِبُونَ) هل المراد سائر معاصيهم ، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟

__________________

(١) سقط في ب.


والأقرب في نظم الكلام أنه راجع إلى الكسب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف ، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.

فصل في الرد على المعتزلة

قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقا لله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت خلقا لله ـ تعالى ـ لكانت إضافتها إليه ـ تعالى ـ بقولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) حقيقة ؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا خلقها فيهم فهب أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب ، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله ـ تعالى ـ أولى من إسنادها إلى العبد ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.

والجواب : أنّ الداعية الموجبة لها من خلق الله كما تقدم في مسألة الداعي.

فصل

يروى أن أحبار اليهود خافوا ذهاب كلمتهم ومآكلهم وزوال رياستهم حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة» فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة فغيّروها ، وكان صفته فيها حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ربعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلا أزرق سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم ، فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه (١).

وقال أبو مالك : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيغير ما يملي عليه.

روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد قرأ «البقرة» و «آل عمران» وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا (غَفُوراً رَحِيماً) فكتب (عَلِيماً حَكِيماً) فيقول له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب كيف شئت» قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنّي كنت أكتب ما شئت ، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الأرض لا تقبله» (٢) قال : فأخبرني أبو طلحة : أنه أتى الأرض التي مات فيها ، فوجده منبوذا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما ذكره الحافظ السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٥٩).

(٢) أخرجه البخاري في «المناقب» (٣٦١٧) باب علامات النبوة في الإسلام ومسلم بنحوه (٢٧٨١) باب صفات المنافقين وابن حبان (١٥٢١ ـ موارد) وأحمد (٣ / ٢٢٢) والطيالسي (٢ / ٥) رقم (١٩٠٠) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٤٠) وأبو يعلى (٧ / ٢٢ ـ ٢٣) عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٩٦ ـ ١٢٩٧) عن عمران بن حصين بلفظ : إن الأرض لتقبل من هو شر منه ، ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله.


قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مرارا فلم تقبله الأرض.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٠)

فقوله : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) استثناء مفرّغ ، و «أيّاما» منصوب على الظرف بالفعل قبله ، والتقدير : لن تمّسنا النار أبدا إلّا أياما قلائل يحصرها العدّ ؛ لأن العد يحصر القليل ، وأصل : «أيّام» : أيوام ؛ لأنه جمع يوم ، نحو : «قوم وأقوام» ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فوجب قلب الواو ياء ، وإدغام الياء في الياء مثل : «هيّن وميّت».

فصل

ذكروا في الأيام المعدودة وجهين :

الأول : أن لفظة الأيام [لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها ، ولا تضاف إلى ما فوقها ، فيقال : أيام خمسة ، وأيام عشرة ، ولا يقال : أيام أحد عشر. إلّا أن هذا](١) يشكل بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] إلى أن قال : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] وهي أيام الشهر كله ، وهي أزيد من العشرة.

قال القاضي : إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها ، فالأشبه أن يقال : إنه الأقل أو الأكثر ؛ لأن من يقول ثلاثة يقول : أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ، ومن يقول : عشرة يقول : أحمله على الأكثر وله وجه.

فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له ؛ لأنه ليس عدد أولى من عدد ، اللهم إلا إن جاءت في تقديرها رواية صحيحة ، فحينئذ يجب القول بها.

روي عن ابن عباس ومجاهد : أن اليهود كانت تقول : «الدنيا سبعة آلاف سنة ، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوما واحدا» (٢).

وحكى الأصم عن بعض اليهود : أنهم عبدوا العجل سبعة أيام.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أنه قدر هذه الأيام بالأربعين (٣) ، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها ، وهي مدّة غيبة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنهم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري (٢ / ٧٧) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣١٧) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عباس موقوفا وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد مثله كما في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣).

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٥).


وقال الحسن وأبو العالية : قالت اليهود : إن ربنا عتب علينا في أمرنا ، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوما ، فلن تمسّنا النار إلّا أربعين يوما تحلّة القسم ، فكذبهم الله ـ تعالى ـ بقوله تعالى : (قُلْ : أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً)(١).

وقالت طائفة : إن اليهود قالت في التوراة : إنّ جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها ، وتذهب جهنّم. رواه الضّحاك عن ابن عباس (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقوم ، فتذهب جهنم وتهلك (٣).

فإن قيل : «وقالوا : لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة» وقال في مكان آخر : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤] والموصوف في المكانين واحد وهو «أيام».

فالجواب : أن الاسم إن كان مذكرا ، فالأصل في صفة جمعه التاء ، يقال : كوز وكيزان مكسورة ، وثياب مقطوعة ، وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال : جرّة وجرار مكسورات ، وخابية وخوابي مكسورات ، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور ، وعلى هذا ورد قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] ، و (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج : ٢٨].

فصل في مدة الحيض

ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحيض ثلاثة (٤) أيام ، وأكثره عشرة ، واحتجو بقوله عليه

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٩) عن قتادة ومجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥) عن الضحاك عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري (٢ / ٧٥ ـ ٢٧٦) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عباس.

(٤) وأصله : السيلان ، قال الجوهري : حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ؛ فهي حائض وحائضة أيضا ، ذكره ابن الأثير وغيره ، واستحيضت المرأة : استمرّ بها الدم بعد أيامها ، فهي مستحاضة ، وتحيّضت ، أي : قعدت أيام حيضها عن الصلاة. وقال أبو القاسم الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة» : ومن المجاز : حاضت السّمرة : إذا خرج منها شبه الدم.

ينظر لسان العرب : ٢ / ١٠٧٠ ، ترتيب القاموس : ٧٥٠.

واصطلاحا : عرفه الشافعية بأنه : الدم الخارج في سن الحيض ، وهو تسع سنين قمرية فأكثر ، من فرج المرأة على سبيل الصحة.

عرفه المالكية بأنه : دم كصفرة أو كدرة ، خرج بنفسه من قبل من تحمل عادة.

وعرفه الحنفية بأنه : دم ينفضه رحم امرأة سالمة عن داء.

وعرفه الحنابلة بأنه : دم جبلة يخرج من المرأة البالغة في أوقات معلومة.

ينظر حاشية البيجوري : ١ / ١١٢ ، الاختيار : ١ / ٢٦ ، المبدع : ١ / ٢٥٨ ، أنيس الفقهاء : ص (٦٣) ، حاشية الدسوقي : ١ / ١٦٧.


الصلاة والسلام : «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» (١) فمدّة الحيض تسمى أياما ، وأقلّ عدد يسمى أياما ثلاثة ، وأكثره عشرة على ما بيّنا ، وعليه الإشكال المتقدم.

قوله : (أَتَّخَذْتُمْ) الهمزة للاستفهام ، ومعناها الإنكار والتّقريع ، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على «أتخذتم» كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) [سبأ : ٨] (أَصْطَفَى) [الصافات : ١٥٣] وبابه. وقد تقدم القول في تصريف «أتّخذتم» وخلاف أبي علي فيها.

ويحتمل أن تكون هنا لواحد.

وقال أبو البقاء : وهو بمعنى «جعلتم» المتعدية لواحد.

ولا حاجة إلى جعلها بمعنى «جعل» لتعديها لواحد ، بل المعنى : هل أخذتم من الله عهدا؟ ويحتمل أن يتعدّى لاثنين ، الأول «عهد» ، والثاني «عند الله» مقدما عليه ، فعلى الأول يتعلّق «عند الله» ب «اتّخذتم».

وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف.

ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام «قل» قبلها ، فتفتح وتحذف الهمزة.

وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية ورش عنه.

قوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ) هذا جواب الاستفهام المتقدم في قوله : (أَتَّخَذْتُمْ).

وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط ، أو بطريق إضمار الشّرط بعد الاستفهام وأخواته؟

قولان [تقدم تحقيقهما](٢) واختار الزمخشري القول الثاني ، فإنه قال : (فَلَنْ يُخْلِفَ) متعلّق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده.

وقال ابن عطية : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) : اعتراض بين أثناء الكلام» كأنه يعني بذلك أن قوله : (أَمْ تَقُولُونَ) معادل لقوله : «أتخذتم» فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين معترضة ، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب ، وعلى الأول محلها الجزم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٤٦ عن عائشة ولفظه : دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي كتاب الحيض باب إذا حاضت في شهر حديث رقم ٣٢٥ والنسائي في السنن كتاب الحيض باب ٣.

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٦٢٣) ـ وأحمد في المسند (٦ / ٤٢ ، ٢٦٢) ـ والدار قطني في السنن (١ / ٢١٢).

والبيهقي في السنن ١ / ٣٢٥ ـ وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٠ وابن كثير في التفسير ١ / ٣٩٧ ـ وابن حجر في تلخيص الحبير ١ / ١٧٠.

(٢) سقط في ب.


قوله : (أَمْ تَقُولُونَ) «أم» هذه يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون متّصلة ، فتكون للمعادلة بين الشيئين ، أي : أيّ هذين واقع ، وأخرجه مخرج المتردّد فيه ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم على الله ما لا يعلمون للتقرير ، ونظيره : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] علم أيهما على هدى ، وأيهما في ضلال ، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة.

ويجوز أن تكون منقطعة ، فتكون غير عاطفة ، وتقدر ب «بل» والهمزة ، والتقدير : بل أتقولون ، ويكون الاستفهام للإنكار ؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك ، هذا هو المشهور في «أم» المنقطعة ، وزعم جماعة أنها تقدر ب «بل» وحدها دون همزة استفهام ، فيعطف ما بعدها [على ما قبلها](١) في الإعراب ؛ واستدلّ عليه بقولهم : «إن لنا إبلا أم شاء» بنصب «شاء» وقول الآخر : [الطويل]

٦١١ ـ فليت سليمى في الممات ضجيعتي

هنالك أم في جنّة أم جهنّم (٢)

التقدير : بل في جهنّم ، ولو كانت همزة الاستفهام مقدّرة بعدها لوجب الرفع في «شاء» ، و «جهنم» على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، وليس لقائل أن يقول : هي في هذين الموضعين متّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظا أو تقديرا ، ولا يصلح ذلك هنا.

قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) ما منصوبة ب «تقولون» ، وهي موصولة بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول ، ومحلّها النصب على الثاني.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

الآية تدلّ على أمور :

أحدها : أن القول بغير دليل باطل.

الثاني : ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلّا بدليل سمعي.

الثالث : تمسّك منكر والقياس وخبر الواحد بهذه الآية ، قالوا : لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم ، فهو قول على الله بما لا يعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص ٥٠١ ، أوضح المسالك ٣ / ٣٧٦ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ١٤٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٤٣. والدر المصون ١ / ٢٧٣.


والجواب : أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس ، ومن خبر الواحد ، فكان وجوب العمل عنده معلوما ، فكان القول به قولا بالمعلوم.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨١)

«بلى» حرف جواب ك «نعم وجير وأجل وإي» ، إلا أن «بلى» جواب لنفي متقدم ، سواء دخله استفهام أم لا فيكون إيجابا له نحو قول القائل ما قام زيد ، فتقول : بلى ، أي : قد قام ، وتقول : أليس زيد قائما فتقول : بلى أي هو قائم قال تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ويروى عن ابن عبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا.

وقال بعضهم : إن «بلى» قد تقع جوابا لنفي متقدّم وقد تقع جوابا لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده : أتحبّ أن تساوي بين أولادك في البرّ؟ قال : «بلى».

وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لرجل : ألست أنت الّذي لقيته ب «مكة»؟ قال : «بلى» فأما قوله : [الوافر]

٦١٢ ـ أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو

وإيّانا ، فذاك بنا تداني

نعم ، وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النّهار كما علاني (١)

فقيل : ضرورة.

وقيل : نظر إلى المعنى ؛ لأنّ الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال : فكيف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا نعم لكفروا مع أنّ النفي صار إيجابا. وقيل : قوله : «نعم» ليس جوابا ل «أليس» إنما هو جواب لقوله : «فذاك بنا تداني» فقوله تعالى : «بلى» رد لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي : بلى تمسّكم أبدا ، في مقابلة قولهم : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وهو تقدير حسن.

والبصريون يقولون : إن «بلى» حرف بسيط ، وزعم الكوفيون أن أصلها «بل» التي للإضراب زيدت عليها «الباء» ليحسن الوقف عليها ، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل : تدلّ على رد النفي ، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف ، وإنما سموها ياء ؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء.

__________________

(١) البيتان لجحدر بن مالك ينظران في أمالي القالي : ١ / ٨٢٢ ، والجنى الداني : ص ٤٢٢ ـ ٤٢٣ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، وسمط اللآلي : ص ٦١٧ ، ٩٦١ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٠٨ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٤٧ ، ومعجم البلدان : ٢ / ٢٢٣ (حجر) ، وللمعلوط القريعي في الشعر والشعراء : ١ / ٤٤٩ ، جواهر الأدب : ص ٣٦١ ، ورصف المباني : ص ٣٦٥ ، ومغني اللبيب : ١ / ٣٤٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٣.


و «من» يجوز فيها وجهان.

أحدهما : أن تكون موصولة بمعنى «الذي» والخبر قوله : «فأولئك» ، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط ، ويؤيد كونها موصولة ، وذكر قسيمها موصولا وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا ،) ويجوز أن تكون شرطية ، والجواب قوله : (فَأُولئِكَ) ، وعلى كلا القولين فمحلّها الرفع بالابتداء ، ولكن إذا قلنا : إنها موصولة كان الخبر : «فأولئك» وما بعده بلا خلاف ، ولا يكون لقوله : «كسب سيّئة» وما عطف عليه محلّ من الإعراب ؛ لوقوعه صلة.

وإذا قلنا : إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور ، إما الشرط أو الجزاء ، أو هما حسب ما تقدم ، ويكون قوله : «كسب» وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط.

«سيّئة» مفعول به ، وأصلها : «سيوئة» ؛ لأنها من ساء يسوء فوزنها «فيعلة» فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأعلت إعلال «سيّد وميّت» كما تقدم.

وراعى لفظ «من» فأفرد في قوله : (كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وقرأ نافع (١) وأهل «المدينة» «خطيئاته» بجمع السلامة والجمهور : «خطيئة» بالإفراد ، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة.

وفيهما أقوال :

أحدها : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظين مختلفين.

الثاني : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظين مختلفين.

الثالث : [عكس الثاني](٢).

فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر ، وهو مفرد ، وعلى الوجه الثّاني أن المراد به جنس الكبيرة ، ووجه قراءة نافع على الوجه الأول والثالث أن المراد بالخطيئات أنواع الكفر المتجددة في كلّ وقت ، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة.

وقيل : المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة ، فسماها بهذين الاسمين تقبيحا لها كأنه قال : وأحاطت به خطيئته تلك أي السيئة ، ويكون المراد بالسّيئة الكفر ، أو يراد بهم

__________________

(١) وكذا أبو جعفر.

انظر حجة القراءات : ١٠٢ ، والحجة : ٢ / ١١٤ ، والعنوان : ٧٠ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٠ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٢.

(٢) في أ : عكسه.


العصاة ، ويكون أراد بالخلود المكث الطويل ، ثم بعد ذلك يخرجون.

وقوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلى آخره تقدم نظيره.

وقرى (١) «خطاياه» تكسيرا ، وهذه مخالفة لسواد المصحف ؛ فإنه رسم «خطيئته» بلفظ التوحيد ، وتقدم القول في تعريف خطايا.

فصل في لفظة «بلى»

قال صاحب «الكشاف» (٢) : بلى إثبات لما بعد حرف النفي ، وهو قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ـ أي : بلى تمسكم أبدا بدليل قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي ، قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرت أو كبرت ، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النّار لا جرم بيّن تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة محيطة به ، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السّور بالبلد والكوز بالماء ، وذلك هاهنا ممتنع ، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين :

أحدهما : أن المحيط يستر المحاط به ، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسّاترة لتلك الطاعات ، فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة.

والثاني : أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطّاعات ، فكأنها استولت على تلك الطاعات ، وأحاطت بها كما يحيط العسكر بالإنسان بحيث لا يتمكن (٣) من التخلص منه ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

فإن قيل : هذه الآية وردت في حق اليهود؟

[فالجواب](٤) : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر.

وقد اختلف أهل القبلة [فيه](٥) فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان ؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد ، وهم جمهور المعتزلة والخوارج.

ومنهم من أثبت وعيدا منقطعا ، وهو قول بشر المريسي.

ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم ، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٤.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٨.

(٣) زاد في ب : الإنسان.

(٤) في أ : وقلنا.

(٥) سقط في ب.


والقول الثالث : أنّا نقطع بأنه ـ سبحانه ـ يعفو عن بعض العصاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين ، ونقطع بأنه إذا عذّب أحدا منهم ، فإنه لا يعذبه أبدا ، بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الأصحاب والتابعين ، وأهل السنة والجماعة ، وأكثر الإمامية ، فيشتمل هذا البحث على مسألتين.

أحداهما : القطع بالوعيد.

والأخرى : إذا ثبت الوعيد ، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين :

أحدهما : صيغة «من» في معرض الشرط.

والثاني : صيغه الجمع. فأما صيغه «من» في الشرط فإنها تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه ، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد ، فقد استدلّت المعتزلة بها.

قالوا : لأنها تفيد العموم من وجوه :

أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص ، أو مشتركة بينهما ، والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم.

أما بطلان كونها موضوعة للخصوص ، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط ؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتبا على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره ، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص.

وأما بطلان كونها موضوعة للاشتراك فلأمرين :

الأول : أنّ الاشتراك خلاف الأصل.

والثاني : أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلّا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أو العجم؟ فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت ربيعة أو مضر؟ وهلم جرّا إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ، ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل.

الوجه الثاني : صحة الاستثناء منهما ، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل (١).

__________________

(١) قال صاحب المحكم في اللّغة : الاستثناء والثنيا : ردّ الشيء بعضه على بعض. قال الجوهري : الثنيا ـ


الوجه الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] قال ابن الزبعرى : لأخصمن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم ، فتمسك بعموم اللفظ والنبي ـ عليه الصلاة ـ لم ينكر عليه ذلك ، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم.

النوع الثاني من دلائل المعتزلة : التمسّك في الوعيد (١) بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام ، قال تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٤] فإنها تفيد العموم ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : قول أبي بكر رضي الله عنه : «الائمّة من قريش» (٢) والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة. ولما همّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رضي الله عنه : أليس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (٣) فاحتج عليه بهذا اللفظ

__________________

ـ اسم الاستثناء ، يقال : ثنيا وثنوى ؛ مثل قصيا وقصوى. قال الإمام فخر الدين في المحصول : الاستثناء ؛ ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ، ولا يستقل بنفسه. ينظر الاستغناء في أحكام الاستثناء : ص ٩٠ ، ٩٦ ، المحصول في علم الأصول : ٢ / ٧٦٢.

وينظر البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٤٩ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٦٧ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٢ / ٢٧ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ٣٢٩.

(١) سقط في ب.

(٢) جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وأبو برزة الأسلمي.

حديث أنس :

أخرجه الطيالسي في «مسنده» (٢١٣٣) وأبو نعيم (٣ / ١٧١) والبزار (١٥٧٨) وأبو يعلى (٧ / ٣٢١) رقم (٣٦٤٤) والبيهقي (٨ / ١٤٤) والطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٥ / ١٩٢) وقال الهيثمي : رجاله ثقات.

وأخرجه الحاكم (٤ / ٥٠١) عن أنس بلفظ : الأمراء من قريش. وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

حديث علي بن أبي طالب :

أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» ص ٨٥ وأبو نعيم (٧ / ٢٤٢) والحاكم (٤ / ٧٥ ـ ٧٦).

وسكت عنه الحاكم والذهبي.

أما حديث أبي برزة الأسلمي :

فأخرجه الطيالسي (٩٢٦) وأحمد (٤ / ٤٢١) وأبو يعلى والطبراني والبزار كما في «مجمع الزوائد» للهيثمي (٥ / ١٦٣) وقال :

ورجال أحمد رجال الصحيح خلا سكين وهو ثقة.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٢٢) كتاب الإيمان باب فإن تابوا حديث رقم (٢٥) ، (١ / ١٧٤) كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٢٩٤٦).

ومسلم في الصحيح (١ / ٥١ ـ ٥٢) كتاب الإيمان (١) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله (٨) حديث رقم (٣٢ / ٢٠ ، ٣٣ / ٢١). ـ


بعمومه ، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة : إن اللفظ لا يفيده ، بل عدل إلى الاستثناء ، فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال : «إلّا بحقّها».

الثاني : أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠] وما كان كذلك فوجب أن يكون المؤكد في أصله الاستغراق ؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا ، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل.

الثالث : صحّة الاستثناء منه.

الرابع : أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر ؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس ، ومعلوم أن المنتزع [منه أكثر من المنتزع](١).

النوع الثاني : صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي» كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النحل : ٢٨] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) [يونس : ٢٧] (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٢٤] (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة.

النوع الثالث : لفظة «ما» كقوله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٠].

النوع الرابع : لفظة «كل» كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) [يونس : ١٥٤].

النوع الخامس : ما يدلّ على أنه ـ سبحانه ـ لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٨ ، ٢٩] صريح في أنه ـ تعالى ـ لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه ، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث.

والجواب من وجوه :

أحدها : لا نسلم أن صيغة «من» في [معرض](٢) الشرط للعموم ، ولا نسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعموم ، والذي يدلّ عليه أمور :

الأول : أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللّفظتين ، فيقال : كل من

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (١٥٥٦) ، (٢٦٤٠).

والترمذي في السنن حديث رقم (٢٦٠٦) ، (٢٦٠٧).

والنسائي في السنن (٧ / ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩) ، (٨ / ٨١).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٣٩٢٧ ، ٣٩٢٨ ، ٣٩٢٩).

وأحمد في المسند (١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٥ ، ٤٨) ، (٢ / ٣٧٧ ، ٤٢٣).

والطبراني في الكبير : ٢ / ١٩٨ ، ٣٤٧ ، ٦ / ١٦١.

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : معنى.


دخل داري أكرمته ، وبعض من دخل داري أكرمته ، ويقال أيضا : كل الناس كذا ، وبعض الناس كذا ، ولو كانت لفظة «من» في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة «كل» عليها تكريرا ، وإدخال لفظة «بعض» عليها نقضا ، وكذلك في [لفظ الجمع](١) المعرف.

الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارة للاستغراق ، وأخرى للبعض ، فإن أكثر العمومات مخصوصة ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص ، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد.

الثالث : أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة ، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية ، الأول ممنوع وباطل قطعا ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنّ الناس كثيرا ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل ، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ، ولكن لا بد من اشتراط ألّا يوجد شيء من المخصصات ، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام ، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئا من المخصصات ، لكن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات ، وهذا الشرط غير معلوم [كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم](٢) فوجب ألّا تحصل الدلالة ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ، ثم إنا شاهدنا قوما منهم قد آمنوا ، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :

إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول ، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى ، إلّا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا يعلمون من أجلها أن مراد الله ـ تعالى ـ من هذا العموم هو الخصوص ، وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها ، والرجحان معنا ؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام ، والخاصّ مقدم على العام لا محالة ، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص ، ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ، ولا بدّ من الترجيح ، وهو معنى من وجوه :

__________________

(١) في ب : جمع اللفظ.

(٢) سقط في ب.


أحدها : أنّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.

الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه ، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.

الثالث : أن الوعيد حق الله ـ تعالى ـ والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفّار ، فلا تكون قاطعة في العمومات.

فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

قلنا : هب أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيرا من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.

فهذا أصل البحث في دلائل الفريقين ، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسّنة فكثيرة ، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد (١) ، [وبعض](٢) الآيات الدالة على أنه ـ تعالى ـ غفور رحيم غافر غفار ، وهذا لا يحسن إلّا في حق من يستحق العذاب.

[فإن قيل](٣) : لم لا يجوز حمله على تأخير العقاب كقوله في قصة اليهود : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) [البقرة : ٥٢] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة ، وكذا قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وكذا قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٤].

فالجواب : العفو أصله الإزالة من عفا أمره ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه ، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه.

الثانية : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة](٤) قبل التوبة ؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.

فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه ـ تعالى ـ لا يعذب العصاة في الآخرة ؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب ، وهو أعم من إسقاطه دائما أو لا دائما واللفظ الموضوع بإزار القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد ، فيجوز أن يكون المراد أن الله ـ تعالى ـ لا يؤخّر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.

__________________

(١) في أ : البعض.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : الكبائر والصغائر.


سلمنا أنّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام ، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب ، ومغفرة صاحب الصغيرة؟

وأيضا لا نسلم أن قوله : (ما دُونَ ذلِكَ) يفيد العموم لصحة إدخال لفظ «كل» و «بعض» على البدل ، [مثل أن](١) يقال : ويغفر كل ما دون ذلك ، وهو يمنع العموم.

سلمنا أنه للعموم ، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة.

فالجواب : أما إذا حملنا المغفرة على التأخير ، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [من عقاب المؤمنين](٢) ، وإلّا لم يكن في التفضيل فائدة ، وليس كذلك لقوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) [الزخرف : ٣٣].

قوله : لم قلتم : إن قوله : (ما دُونَ ذلِكَ) يفيد العموم؟

قلنا : لأن قوله «ما» تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ماهية واحدة ، وقد حكم قطعا بأنه يغفرها ، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران.

الثالثة : قال يحيى بن معاذ : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :

أحدها : أن عمومات الوعد أكثر ، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع.

وثانيها : قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] [يدلّ علىأن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة ، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة](٣) ترك العمل به في حسنات الكفّار ، [فإنها لا تذهب سيئاتهم](٤) فيبقى معمولا به في الباقي.

وثالثها : تضعف الحسنة ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] ثم زاد فقال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وفي جانب السّيئة قال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠].

ورابعها : قال في آية الوعد : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢].

ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.


وخامسها : أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافرا غفورا رحيما كريما عفوّا رحمانا. والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر ، وكل ذلك يوحب رجحان الوعد ، وليس في القرآن ما يدل على أنه ـ تعالى ـ بعيد عن الرحمة والكرم والعفو ، وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد.

سادسها : أن الإنسان [هذا أتى](١) بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات ، وأتى بمعصية متوسطة ، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيما مؤذيا](٢).

فصل في الاستدلال بالآية

قد شرط في هذه الآية شرطان :

أحدهما : اكتساب السّيئة.

والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعبد ، وذلك يدل على أنه لا بدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما ، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما.

قوله تعالى :(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وعد ، وذلك لفوائد :

أحدها : أن يظهر سبحانه بذلك عدله ؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنّعيم الدائم على المصرين على الإيمان.

وثانيها : أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام : «المؤمن لو وزن خوفه ورجاؤه لاعتدلا» وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.

وثالثها : أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سببا [للعرفان](٣).

فإن قيل : دلّت الآية على أن العمل الصالح خارج عن الإيمان ؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريرا.

أجاب القاضي : بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلّا أن

__________________

(١) في أ : أن ما هو.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : للغفران.


قوله : «آمن» لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان ، فلهذا حسن أن يقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

والجواب : أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله : «آمن» دليلا على صدور كل تلك الأعمال منه.

فصل في مرتكب الكبيرة

هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة ؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات ، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ، ولم يتب عنها ، فهذا الشّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن ، وعمل الصالحات [في ذلك الوقت ، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات](١) وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فإن قيل قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [الأعمال](٢) ، ومن جملة الصّالحات التوبة ، فإذا لم يأت بها لم يكن آتيا بالصالحات ، فلا يندرج تحت [الآية](٣).

قلنا : [لو سلمنا أنه قبل](٤) الإتيان بالكبيرة [صدق](٥) عليه أنه آمن وعمل الصالحات [لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد ، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات](٦) في كل الأوقات ، لكن قولنا : آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا : إنه كذلك في كل الأوقات ، أو في بعض الأوقات ، والمعتبر في الآية هو القدر المشترك ، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)

«إذ» معطوف على الظرف قبله ، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفا أو لا.

و «أخذنا» في محلّ خفض ، أي : واذكر وقت أخذنا ميثاقهم ، أو نحو ذلك.

(لا تَعْبُدُونَ) قرأ ابن كثير (٧) وغيره والكسائي بالياء ، والباقون بالتاء.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : قولنا.

(٤) في أ : قد بينا أن.

(٥) في أ : مصدق.

(٦) سقط في ب.

(٧) وبها قرأ حمزة ، ووافقه : ابن محيصن ، والحسن ، والأعمش.


فمن قرأ بالغيبة فلأن الأسماء الظّاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب هو التفات ، وحكمته أنه أدعى لقبول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.

وجعل أبو البقاء قراءة الخطاب (١) على إضمار القول.

قال : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتا أحسن.

وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :

أظهرها : أنها مفسرة لأخذ الميثاق ، وذلك لأنه ـ تعالى ـ لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إبهام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملة مفسرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من «بني إسرائيل» وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أنها حال مقدّرة بمعنى : أخذنا ميثاهم مقدّرين التوحيد أبدا ما عاشوا.

والثّاني : أنّها حال مقارنة بمعنى : أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد](٢).

وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافا لمن أجاز مجيئها من المضاف إليه مطلقا ، لا يقال : المضاف إليه معمول له في المعنى ل «ميثاق» ؛ لأن ميثاقا إما مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إما فاعلا أو مفعولا ، وهو غير جائز ؛ لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري ، وفعل هذا لا ينحل لهما ، لو قدرت : وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطّراوة (٣) في ترجمة سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورده وأنكر على من أجازه.

__________________

ـ انظر العنوان : ٧٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢١ ، والسبعة : ١٧٢ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٣ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٠ ، وحجة القراءات : ١٠٢.

(١) زاد في أ : فهو التفات وحكمته.

(٢) سقط في ب.

(٣) سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي ، أبو الحسين ابن الطراوة : أديب ، من كتّاب الرسائل ، له شعر ، وله آراء في النّحو تفرّد بها.

تجول كثيرا في بلاد الأندلس ، وألّف «الترشيح» في النحو ، مختصر ، و «المقدمات على كتاب سيبويه» و «مقالة في الاسم والمسمى».

قال ابن سمحون : ما يجوز على الصراط أعلم منه بالنحو! توفي سنة ٥٢٨ ه‍.

انظر بغية الوعاة : ٢٦٣ ، الأعلام : ٣ / ١٣٢.


الثالث : أن يكون جوابا لقسم محذوف دلّ عليه لفظ الميثاق ، أي : استحلفناهم ، أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون ، ونسب هذا الوجه لسيبويه ، ووافقه الكسائي والفرّاء والمبرد.

الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجر ، وحذف «أن» ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على ألّا تعبدوا بألّا تعبدوا ، فحذف حرف الجر ؛ لأن حذفه مطرد مع «أنّ وأن» كما تقدم ، ثم حذفت «أن» الناصبة ، فارتفع الفعل بعدها ؛ كقول طرفة : [الطويل]

٦١٣ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات ، هل أنت مخلدي (١)

وحكي عن العرب : «مره يحفرها» أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن يحضر ، أو بأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإن [إضمار](٢) «أن» لا ينقاس ، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون ، وجعلوا ما سواها شاذّا قليلا ، وهو الصحيح خلافا للكوفيين ، وإذا حذفت «أن» ، فالصحيح جواز [النصب والرفع](٣) ، وروي : «مره يحفرها» و «أحضر الوغى» بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافا لأبي الحسن ، حيث التزم رفعه.

وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله : «لا تعبدوا» على النهي ، قال : إلّا أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) [البقرة : ٢٣٣] ، قال : والذي يؤكد كونه نهيا [قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)](٤) فإنه تنصره قراءة عبد الله وأبي : «لا تعبدوا».

الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف ، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله ، ويكون خبرا في معنى النهي ، ويؤيده قراءة أبي المتقدمة ، ولهذا يصح عطف «قولوا» عليه ، وبه قال الفرّاء.

السادس : أنّ «أن» الناصبة مضمرة كما تقدم ، ولكنها هي وما في حيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من «ميثاق» ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق ، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.

السابع : أن يكون منصوبا بقول محذوف ، وذلك القول ليس حالا ، بل مجرد إخبار ، والتقدير : وقلنا لهم ذلك ، ويكون خبرا في معنى النهي.

قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه ، وتنصره قراءة عبد الله وأبيّ : «لا تعبدوا» ولا بد من إرادة القول بهذا.

الثامن : أن يكون التقدير : «ألّا تعبدون» وهي «أن» المفسرة ؛ لأن في قوله : (أَخَذْنا

__________________

(١) تقدم برقم ٥٢٥.

(٢) في أ : الجاري.

(٣) في ب : النصب والرفع.

(٤) سقط في ب.


مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إيهاما كما تقدم ، وفيه معنى القول ، ثم حذفت «أن» المفسرة ، ذكره الزّمخشري.

وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.

قوله : (إِلَّا اللهَ) استثناء مفرغ ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولا.

وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، إذ لو جرى الكلام على نسقه لقيل : لا تعبدون إلّا إيانا ، لقوله : (أَخَذْنا).

وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر ، وأيضا الأسماء الواقعة ظاهرة ، فناسب أن يجاور الظاهر الظاهر.

فصل في مدلول «الميثاق

هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدين ، لأنه ـ تعالى ـ لما أمر بعبادته ، ونهى عن عبادة غيره ، وذلك مسبوق بالعلم بذاته سبحانه ، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة الّتي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة ، فقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه علم الكلام والفقه والأحكام.

وقال مكّي : «هذا الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذّر» و (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن تتعلق الباء ب «إحسانا» على أنه مصدر واقع [موقع](١) فعل الأمر ، والتقدير وأحسنوا بالوالدين ، والباء ترادف «إلى» في هذا المعنى ، تقول : أحسنت به وإليه ، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثمّ مضاف محذوف ، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى : أحسنوا إليهما برّهما.

قال ابن عطية (٢) : يعترض على هذا القول ، أن يتقدّم على المصدر معموله ، وهذا الاعتراض لا يتم على مذهب الجمهور ، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المصدر النّائب عن فعل الأمر عليه ، تقول : «ضربا زيدا» وإن شئت : «زيدا ضربا» وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر ، أم للمصدر النائب عن فعله ، فإن التقديم عندهم جائز ، وإنما يمتنع تقدم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن ، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل ، ويخالف الجمهور في ذلك.

الثاني : أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مراعاة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٢.


لقوله : (لا تَعْبُدُونَ) فإنه في معنى النهي كما تقدم ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين ، ويجوز أن يقدر خبرا مراعاة للفظ «لا تعبدون» والتقدير : وتحسنون [وإن كان معناه الأمر ، وبهذين](١) الاحتمالين قدره الزمخشري ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.

وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوص على عدم جوازه ، وفيه بحث ليس هذا موضعه.

الثالث : أن يكون التقدير : واستوصوا بالوالدين ، ف «الباء» متعلّقة [بهذا الفعل المقدر](٢) أيضا ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على أنه مفعول به.

الرابع : تقديره : ووصّيناهم بالوالدين ، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضا ، وينتصب «إحسانا» [حينئذ](٣) على أنه مفعول لأجله ، أي : لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم ، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.

الخامس : أن تكون الباء وما عملت فيه عطفا على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) إذا قيل بأن «أن» المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي : وببرّ الوالدين ، أو : بإحسان إلى الوالدين ، فتتعلّق «الباء» حينئذ ب «الميثاق» لما فيه من معنى الفعل ، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه روائح الأفعال ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، وهو «البر» لأنه بمعناه ، أو الإحسان الذي قدرناه.

والظّاهر من هذه الأوجه هو الثّاني ، لعدم الإضمار اللازم في غيره ، أو لأن ورود المصدر نائبا عن فعل الأمر مطّرد شائع.

وإنما تقدّم المعمول اهتماما به وتنبيها على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذكر معه.

و «الوالدان» الأب والأم ، يقال لكل واحد منهما : والد ؛ قال : [الطويل]

٦١٤ ـ عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (٤)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : بالمحذوف.

(٣) سقط في ب.

(٤) البيت لرجل من أزد السراة ينظر شرح التصريح : ٢ / ١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٢٢ ، والكتاب : ٢ / ٢٦٦ ، ٤ / ١١٥ ، وله أو لعمرو الجنبي في خزانة الأدب : ٢ / ٣٨١ ، والدرر : ١ / ١٧٣ ، ١٧٤ ، وشرح شواهد المغني ، وأوضح المسالك : ٣ / ٥١ ، والجنى الداني : ص ٤٤١ ، والخصائص : ٢ / ٣٣٣ ، ورصف المباني : ص ١٨٩ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٢٩٨ ، وشرح المفصل : ٤ / ٤٨ ، ٩ / ١٢٦ ، والمقرب : ١ / ١٩٩ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٣٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٥٤ ، ٢ / ٢٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٧٧.


وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قيل فيها وفي الأب : والدان تغليبا للذكر.

و «الإحسان» : الإنعام على الغير.

وقيل : بل هو أعم من الإنعام.

وقيل : هو النّافع لكل شيء.

فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله

قال ابن الخطيب (١) : إنما أراد عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه :

أحدها : أن نعمة الله على العبد أعظم النعم ، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم ؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد ، ومنعمان عليه بالتربية ، فإنعامهما أعظم الإنعام بعد إنعام الله تعالى.

وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة ، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر ، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظّاهر.

وثالثها : أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضا ألبتّة ، وإنعام الوالدين كذلك ، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضا.

ورابعها : أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد ، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم ، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه ، وكذلك الوالدان لا يملّان الولد ولا يقطعان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئا إلى الوالدين.

وخامسها : كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسترباح ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان ، فكذلك الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ يتصرف في طاعة العبد ، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١].

فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نعم الله تعالى ، [بل النعم كلها من الله ـ تعالى ـ فلا](٢) جرم ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى.

فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين

اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٠.

(٢) سقط في ب.


الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين ، وذلك يقتضي العموم ، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء : ٢٣] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم ، وكذلك قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧] وقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] صريح في الدّلالة.

و «ذي القربى» وما بعده عطف على المجرور بالباء ، وعلامة الجر فيها الياء ؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو ، وتنصب بالألف ، وتجر بالياء بشروط مذكورة ، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنّحويين فيها.

وهي من الأسماء اللّازمة للإضافة لفظا ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة ؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس ؛ نحو : «مررت برجل ذي مال» وإضافته إلى المضمر ممنوعة إلا في ضرورة أو نادر كلام ؛ كقوله : [الوافر]

٦١٥ ـ صبحنا الخزرجيّة مرهفات

أبان ذوي أرومتها ذووها (١)

وأنشد الكسائيّ : [الرمل]

٦١٦ ـ إنّما يعرف المع

روف في النّاس ذووه (٢)

وعلى هذا قولهم : «اللهم صلّ على محمد وذويه».

وإضافته إلى العلم قليلة جدّا ، وهي على ضربين :

واجبة : وذلك إذا اقترنا وضعا ، نحو : «ذي يزن» و «ذي رعين».

وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعا ، نحو : «ذي قطري» و «ذي عمرو» أي : صاحب هذا الاسم.

وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب ؛ كقوله : [الطويل]

٦١٧ ـ وإنّا لنرجو عاجلا منك مثل ما

رجوناه قدما من ذويك الأفاضل (٣)

__________________

(١) البيت لكعب بن زهير ينظر ديوانه : ص ١٠٤ ، ولسان العرب (ذو) ، وشرح المفصل : ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٦ ، ٣٨ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٤٤ ، والدرر : ٥ / ٣٨ ، والمقرب : ١ / ٢١١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٧.

(٢) ينظر الدرر : ٥ / ٢٧ ، وشرح المفصل : ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٨ ، ولسان العرب (ذو) ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٧.

(٣) البيت للأحوص في ديوانه : ١٨٢ ، والدرر : ٥ / ٢٨ ، العقد الفريد : ٢ / ٩٠ ، وفيه «الأوائل» مكان «الأفاضل» ، ولسان العرب «ذو» ، وفيه «الأوائل» مكان «الأفاضل» ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٨.


وتجيء «ذو» موصولة بمعنى «الّذي» وفروعه ، والمشهور حينئذ بناؤها وتذكيرها ، ولها أحكام كثيرة.

و «القربى» مضاف إليه ، وألفه للتّأنيث ، وهو مصدر ك «الرّجعى والعقبى» ، ويطلق على قرابة الصّلب والرّحم ؛ قال طرفة : [الطويل]

٦١٨ ـ وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على الحرّ من وقع الحسام المهنّد (١)

وقال أيضا : [الطويل]

٦١٩ ـ وقرّبت بالقربى وجدّك إنّه

متى يك أمر للنّكيثة أشهد (٢)

والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.

فصل

اعلم أن حقّ ذوي القربى كالتّابع لحق الوالدين ؛ لأن اتصال الأقارب بواسطه اتّصال الوالدين ، فلذلك أخّر الله ـ تعالى ـ ذكرهم بعد ذكر الوالدين ، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة ؛ لأن القرابة مظنّة الاتّحاد والألفة والرعاية والنصرة ، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب.

فصل في أحكام تؤخذ من الآية

قال الشّافعي رضي الله عنه : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم ، وغير المحرم ، ولا يدخل الأب والابن ؛ لأنهما لا يعرفان بالقرابة ، ويدخل الأحفاد والأجداد.

وقيل : لا يدخل الأصول والفروع.

وقيل : يدخل الكلّ.

قال الشافعي : يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به ، وإن كان كافرا.

وذكر أصحابه في مثاله : لو أنه أوصى لأقارب الشافعي ، فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطّلب ، وبني عبد مناف ، وإن كانوا أقارب ؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مناف.

قال الغزالي : وهذا في زمان الشّافعي ، أما في زماننا فلا ينصرف إلّا إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع ؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، أما قرابة الأم ، فإنها تدخل في وصيّة العجم ، ولا تدخل في وصيّة العرب على الأظهر ؛ لأنهم لا يعدون ذلك قرابة أما لو قال : لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٣٦) ، شرح القصائد العشر للتبريزي : (١٨١) ، الدر المصون : ١ / ٢٧٨.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٢) ، شرح القصائد العشر : (١٨٣) ، الشنقيطي : (٧٦) ، الدر المصون : ١ / ٢٧٨.


قوله : (وَالْيَتامى) وزنه «فعالى» ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع «يتيم» ك «نديم وندامى» ولا ينقاس هذا الجمع.

وقال ابن الخطيب (١) : جمعه «أيتام ويتامى» واليتم : الانفراد ، ومنه اليتيم ؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما ، ودرة يتيمة : إذا لم يكن لها نظير.

وقيل : اليتم : الإبطاء ، ومنه : صبي يتيم ؛ لأنه يبطىء عنه البرّ ، وقيل : هو التغافل ، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.

قال الأصمعيّ : «اليتيم في الآدميين من فقد الآباء ، وفي غيرهم من فقد الأمّهات».

وقال الماوردي : إن اليتم أيضا في الناس من قبل فقد الأمهات.

والأول هو المعروف عند أهل اللغة ، ويسمى يتيما إلى أن يبلغ ، يقال : يتم ييتم يتما مثل: سمع يسمع سمعا ويتم ييتم يتما مثل : عظم يعظم عظما ، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفرّاء ، ويقال : أيتمه الله إيتاما ، أي : فعل به ذلك.

وعلامة الجرّ في «القربى» و «اليتامى» كسرة مقدرة على الألف ، وإن كانت للتأنيث ؛ لأنّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته «أل» انجرّ بالكسرة ، وهل يسمّى حينئذ منجرّا أو منصرفا.

ثلاثة أقوال ، يفصل في الثالث بين أن يكون أحد سببيه العلمية ، فيسمى منصرفا نحو : «يعمركم» أو لا يسمى منجرا نحو : «بالأحمر» ، و «القربى واليتامى» من هذا الأخير.

فصل في رعاية اليتيم

[اليتيم كالتالي](٢) لرعاية حقوق الأقارب ؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه ، والإنسان قلّما يرغب في صحبة مثل هذا ، وإن كان هذا التكليف شاقّا على الأنفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين.

قال عليه الصلاة والسلام : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة» وأشار بالسّبّابة والوسطى (٣). وقال عليه الصلاة والسلام : [«ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٢.

(٢) في أ : في رعاية حق اليتيم كالتالية.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ٤٣٩) من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه كتاب الطلاق (٦٨) باب اللعان (٢٥) حديث رقم (٥٣٠٤) ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٨٧) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه كتاب الزهد (٥٣) باب الإحسان إلى الأرملة (٢) حديث رقم (٤٢ / ٢٩٨٣) ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٥١٥٠) والبيهقي في السنن (٦ / ٢٨٣) ـ والطبراني في الكبير (٦ / ٢١٣) ، (٨ / ٣٥١) وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٥٠) ـ وذكره المنذري في الترغيب ٣ / ٣٤٦ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٥٩٩٣ ، ٥٩٩٦ ، ٦٠٢٤ ، ٦٠٢٥.


قصعتهم الشّيطان» (١) وقال عليه‌السلام](٢) : «من ضمّ يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه حتّى يغنيه الله عزوجل غفرت له ذنوبه ألبتّة إلّا أن يعمل عملا لا يغفر» (٣).

قوله : (وَالْمَساكِينِ) جمع «مسكين» ، ويسمونه جمعا لا نظير له من الآحاد ، وجمعا على صيغة منتهى الجموع ، وهو من العلل القائمة مقام علّتين ، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى.

وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.

واختلف فيه : هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالا منه كقوله : (مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٦] أي : لصق جلده بالتراب ، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف الفقير ؛ فإن له شيئا ما.

قال : [البسيط]

٦٢٠ ـ أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد (٤)

أو أكمل حالا ؛ لأن الله جعل لهم ملكا ما ، قال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] وهو قول الشافعي وغيره.

فصل

إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى ؛ لأن المسكين قد ينتفع به في الاستخدام ، فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى ، وأيضا المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ، ومصالح معيشته ، واليتيم ليس كذلك ، فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.

قال عليه الصّلاة والسلام : «السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسبه قال ـ وكالقائم لا يفتر من صلاة وكالصّائم لا يفطر» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٨ / ١٦٣) والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (٢ / ٣٨٦) رقم (٢٥٣٤) عن أبي موسى الأشعري.

وقال الحافظ الهيثمي : وفيه الحسن بن واصل وهو الحسن بن دينار وهو ضعيف لسوء حفظه وهو حديث حسن والله أعلم.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ٣٣٤) ، (٥ / ٢٩) والطبراني في «الكبير» (١٩ / ٣٠٠) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٤٦) وقال : وفيه علي بن زيد بن جدعان وحديثه حسن وقد ضعف.

والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٣٤٧).

(٤) البيت للراعي : ينظر القرطبي (٨ / ١٠٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٧٨).

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٨٠) كتاب الأدب ، (٨ / ١٠ ، ١١). ـ


قال ابن المنذر : كان طاوس يرى السّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.

قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) هذه الجملة عطف على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) في المعنى ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين وقولوا ، أو على «أحسنوا» المقدر ، كما تقدم تقريره في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولا لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : قولوا.

وقرأ (١) حمزة والكسائي : «حسنا» بفتحتين و «حسنا» بضمتين ، و «حسنى» من غير تنوين ك «حبلى» و «إحسانا» من الرباعي.

فأما من قرأ (٢) : «حسنا» بالضم والإسكان ، فيحتمل أوجها :

أحدها ـ وهو الظّاهر ـ أنه مصدر وقع صفة لمحذوف تقديره : وقولوا للناس حسنا أي : ذا حسن.

الثاني : أن يكون وصف به مبالغة كأنه جعل القول نفسه حسنا.

الثالث : أنه صفة على وزن «فعل» ، وليس أصله المصدر ، بل هو كالحلو والمر ، فيكون بمعنى «حسن» بفتحتين ، فيكون فيه لغتان : حسن وحسن ك «البخل والبخل ، والحزن والحزن ، والعرب والعرب».

الرابع : أنه منصوب على المصدر من المعنى ، فإن المعنى : وليحسن قولكم حسنا.

وأما قراءة : «حسنا» بفتحتين فصفة لمصدر محذوف ، تقديره : قولا حسنا ، كما تقدم في أحد أوجه «حسنا».

وأما «حسنا» بضمتين ، فضمة السين لإتباع الحاء ، فهو بمعنى «حسنا» بالسكون ، وفيه الأوجه المتقدمة.

__________________

ـ ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٨٦ ـ ٢٢٨٧) كتاب الزهد والرقائق (٥٣) باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (٢) حديث رقم (٤١ / ٢٩٨٢).

والترمذي في السنن (٤ / ٣٠٥) كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في السعي على الأرملة واليتيم (٤٤) حديث رقم (١٩٦٩) والنسائي في السنن (٥ / ٨٧) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٣٦١) وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٢٠٥٩٢) ـ والبيهقي في السنن (٦ / ٢٨٣) وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٠٤٧) ـ وذكره المنذري في الترغيب ٣ / ٣١٥.

وابن حجر في فتح الباري ٩ / ٤٩٧ ، ٤٩٩ ، ١٠ / ٤٣٧.

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٦٠٢٠.

(١) انظر العنوان : ٧٠ ، وحجة القراءات : ١٠٣ ، والحجة : ٢ / ١٢٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٤ ، وشرح شعلة : ٢٦٧ ، وإتحاف : ١ / ٤٠١.

(٢) وهي قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر. انظر السابقة.


وأما «حسنى» بغير تنوين فمصدر ك «البشرى والرّجعى».

وقال النحاس (١) في هذه القراءة : ولا يجوز هذا في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو : الكبرى والفضلى. هذا قول سيبويه (٢) ، وتابعه ابن عطية على هذا ، فإنه قال : ورده سيبويه ؛ لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة إلّا أن يزال عنها معنى التّفضيل ، ويبقى مصدرا ك «العقبى» ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال (٣) : في كلامه ارتباك ؛ لأنه قال : لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة ، وهذا ليس بصحيح.

أما «أفعل» فله ثلاثة استعمالات.

أحدها : أن يكون معها «من» ظاهرة أو مقدرة ، أو مضافا إلى نكرة ، ولا يتعرف في هذين بحال.

الثّاني : أن تدخل عليه «أل» فيتعرف بها.

الثالث : أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.

وأما «فعلى» فلها استعمالان :

أحدهما : بالألف واللام.

والثاني : الإضافة لمعرفة ، وفيها الخلاف السابق.

وقوله : «إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، وتبقى مصدرا» ظاهر هذا أن «فعلى» أنثى «أفعل» إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدرا وليس كذلك ، بل إذا زال عن «فعلى» أنثى «أفعل» معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها ؛ ألا ترى إلى تأويلهم «كبرى» بمعنى كبيرة ، «وصغرى» بمعنى صغيرة ، وأيضا فإن «فعلى» مصدر لا ينقاس ، إنما جاءت منها الألفاظ ك «العقبى والبشرى» ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله : «عنها» عائد إلى «حسنى» لا إلى «فعلى» أنثى «أفعل» ، ويكون استثناء منقطعا كأنه قال : إلا أن يزال عن «حسنى» التي قرأ بها أبيّ معنى التفضيل ، ويصير المعنى : إلا أن يعتقد أن «حسنى» مصدر لا أنثى «أفعل».

وقوله : «وهو وجه القراءة بها» أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين :

أحدهما : المصدر ك «البشرى» وفيه الأوجه المتقدمة في «حسنا» مصدرا ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات «حسنى» مصدرا من قول العرب : حسن حسنى ، كقولهم : رجع

__________________

(١) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٩١.

(٢) ينظر الكتاب : ٢ / ٣٧١.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٥٣.


رجعى ، إذ مجيء «فعلى» مصدرا لا ينقاس.

والوجه الثاني : أن تكون صفة لموصوف محذوف ، أي : وقولوا للناس كلمة حسنى ، أو مقالة حسنى ، وفي الوصف بها حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون للتفضيل ، ويكون قد شذّ استعمالها غير معرفة ب «أل» ، ولا مضافة إلى معرفة ، كما شذّ قوله : [البسيط]

٦٢١ ـ وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام النّاس فادعينا (١)

وقوله : [الرجز]

٦٢٢ ـ في سعي دنيا طالما قد مدّت (٢)

والوجه الثاني : أن تكون لغير التفضيل ، فيكون معنى حسنى : حسنة ك «كبرى» في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناس مقالة حسنة ، كما قال : يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى.

وبهذا يعلم فساد قول النحاس.

وأما من قرأ (٣) : «إحسانا» فهو مصدر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي : قولا إحسانا [وفيه تأويل مشهور](٤) ، ف «إحسانا» مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي : قولا ذا حسن ، كما تقول : أعشبت الأرض ، أي : صارت ذا عشب.

فإن قيل : لم خوطبوا ب «قولوا» بعد الإخبار؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على طريقة الالتفات ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

الثاني : فيه حذف ، أي : قلنا لهم : قولوا.

الثالث : الميثاق لا يكون إلا كلاما كأنه قيل : قلت : لا تعبدوا وقولوا.

__________________

(١) البيت لبشامة بن حزن النهشلي ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٣٠١ ، ولسان العرب (جلل) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٠١ ، وعيون الأخبار : ١ / ٢٨٧ ، وله أو لبعض بني قيس بن ثعلبة في شرح المفصل : ٦ / ١٠١ ، وبلا نسبة في المحتسب : ٢ / ٣٦٣. والدر المصون : ١ / ٢٨٠.

(٢) البيت للعجاج. ينظر ديوانه : (١ / ٤١٠) ، الكشاف : (٤ / ٣٥٣) ، ابن يعيش : (٦ / ١٠٠) ، خزانة الأدب : (٨ / ٩٦) ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، ٣١٦) ، والدر المصون : ١ / ٢٨٠.

(٣) قرأ بها الكوفيون : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وستأتي هذه القراءة في «الأحقاف» آية ١٥ ، وقد قرأ بها الجحدري هنا.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٣.

(٤) سقط في ب.


فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى

قال بعضهم : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين ، أما مع الكفّار والفسّاق فلا ، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم ، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسنا ، وأيضا قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخا بآية القتال.

ومنهم من قال : إنه دخله التّخصيص.

وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره ، ولا حاجة إلى التخصيص ، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع علوّ منصبهما أمرا بالرّفق واللّين مع فرعون ، وكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالرفق وترك الغلظة بقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥].

وقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: ١٠٨].

وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم.

قلنا : لا نسلّم أنه يجب لعنهم ، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قولا حسنا.

بيانه : أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه ، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ، ونحن إذا لعنّاهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعا في حقهم ، فكان قولا حسنا ، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسنا ونافعا من حيث يرتدع به عن الفعل القبيح.

سلمنا أنّ لعنهم ليس قولا حسنا ، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن.

بيانه : أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ، ومستحقّا للتحقير بسب كفره ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحسن معهم ، وأما تمسّكهم بقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨].

فجوابه : لم يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه‌السلام : «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»](١).

__________________

(١) سقط في ب.


فصل في أن الإحسان كان واجبا عليهم

ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجبا عليهم في دينهم ، وكذا القول الحسن للناس كان واجبا عليهم ؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب ، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ، والأمر في شرعنا أيضا كذلك من بعض الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الزّكاة نسخت كلّ حق ، وهذا ضعيف ؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة ، وشاهدناه بهذه الصفة ، فإنه يلزمنا التصدق عليه ، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزّكاة كان هذا التصدّق واجبا ، ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون منه.

قال ابن عبّاس معنى الآية : «قولوا لهم لا إله إلا الله» (١).

وفسّره ابن جريج : «قولوا للناس حسنا صدقا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تغيّروا صفته».

وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر (٢).

وقال أبو العالية : «قولوا لهم الطّيب من القول ، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به» (٣) ، وهذا كلّه حضّ على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليّنا حسنا ، كما قال تعالى لموسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤].

وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة : «لا تكوني فحّاشة فإنّ الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء» ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر.

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تقدم نظيره.

وقال ابن عطية : «زكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، وتنزل النّار على ما تقبل منه ، ولم تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاتنا.

قال القرطبي : «وهذا يحتاج إلى نقل ...».

قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ).

قال الزمخشري : «وهذا على طريقة الالتفات» وهذا الذي قاله إنما يجيء (٤) على قراءة : «لا يعبدون» بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب (٥) فلا التفات ألبتّة ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) من طريق الضحاك عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) عن سفيان الثوري.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) عن أبي العالية بلفظ : قولوا للناس معروفا.

(٤) سبقت هذه القراءة.

(٥) وهي قراءة أبي عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وقد تقدمت.

انظر السبعة : ١٧٢ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢١.


أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وقد قيل ذلك](١) ويؤيده قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ).

قيل : يعني بهم الذين أسلموا في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه ، فيكون التفاتا على القراءتين.

ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون المراد من تقدم من بني إسرائيل ، لأنه ـ تعالى ـ قد ساق الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلا ، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه ، فإنّ أول الكلام في المتقدمين ، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم ، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.

وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم ؛ لأنه خطاب مشافهة ، وهو بالحاضرين أليق.

وثالثها : أن يكون المراد بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) من تقدم ؛ لأنه ـ تعالى ـ لما بين أنه ـ تعالى ـ أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالّا على نهاية قبح أفعالهم ، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصّا بمن كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : أنكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق ، فإنكم بعد اطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرضتم عنه ، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشّرك](٢) في ذلك التولي والله أعلم (٣).

و «قليلا» منصوب على الاستثناء ؛ لأنه من موجب.

وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب ؛ لأنه مشبه بالمفعول.

وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة ؛ لأن معناه : استثنيت قليلا.

وروي عن أبي عمرو (٤) وغيره : «إلّا قليل» بالرفع ، وفيه ستّة أقوال :

أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل «إلّا» وما بعدها بمعنى «غير» ، وقد عقد سيبويه رحمه‌الله في كتابه لذلك بابا فقال : «هذا باب ما يكون فيه «إلّا» وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل» وذكر من أمثله هذا الباب : «لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا» و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

قال : [الطويل]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) زاد بعده في أ : وجواب هذا يأتي آخر الآية عند جواب أبي البقاء.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٠.


٦٢٣ ـ ..........

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (١)

وسوّى بين هذا وبين قراءة : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] برفع «غير» وجوز في نحو : «ما قام القوم إلا زيد» بالرفع البدل والصّفة ، وخرج على ذلك قوله : [الوافر]

٦٢٤ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

كأنه قيل : «وكلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه» ؛ كما قال الشّمّاخ : [الطويل]

٦٢٥ ـ وكلّ خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز (٣)

وأنشد غيره : [الرمل]

٦٢٦ ـ لدم ضائع تغيّب عنه

أقربوه إلّا الصّبا والجنوب (٤)

وقوله : [البسيط]

٦٢٧ ـ وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلّا النّؤي والوتد (٥)

والفرق بين الوصف ب «إلّا» والوصف بغيرها أنّ «إلّا» توصف بها المعارف والنكرات ، والظاهر والمضمر.

__________________

(١) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

ينظر ديوانه (٦٣٣٨) ، الكتاب : (٢٣٢) ، المقتضب : (٤ / ٤٠٩) ، مغني اللبيب : (١ / ٧٢ ، ٣١٦) ، الهمع : (١ / ٢٢٩) شرح الأشموني : (٢ / ١٥٦) ، الدرر : (١ / ١٩٤) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٠) ، البحر : (١ / ٤٥٥).

(٢) البيت لعمرو بن معديكرب ينظر ديوانه : ص ١٧٨ ، والكتاب : ٢ / ٣٣٤ ، ولسان العرب (ألا) ، والممتع في التصريف : ١ / ٥١ ، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة : ص ٩٠ ، وحماسة البحتري : ص ١٥١ ، والحماسة البصرية : ٢ / ٤١٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٤٦ ، والمؤتلف والمختلف : ص ٨٥ ، ولعمرو أو لحضرمي في خزانة الأدب : ٣ / ٤٢١ ، والدرر : ٣ / ١٧٠ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢١٦ ، والأشباه والنظائر : ٨ / ١٨٠ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٨٨ ، والإنصاف : ٢ / ٢٦٨ ، والجنى الداني : ص ٥١٩ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ورصف المباني : ص ٩٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٣٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ٨٩ ، والعقد الفريد : ٣ / ١٠٧ ، ١٣٣ ، وفصل المقال : ص ٢٥٧ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٢ ، والمقتضب : ٤ / ٤٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر : ١ / ٢٨١.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٣) ، شواهد الكتاب : (١ / ٣٧١) ، الكشاف : (٤ / ٤١٦) ، البحر : (١ / ٢٨٨) ، أمالي القالي : (١ / ١٩٥) ، مقاييس اللغة : (٤ / ٢٦١) ، الدر المصون : (١ / ٢٨١) ، البحر المحيط : ١ / ٤٥٦.

(٤) ينظر الدرر : ٣ / ١٦٩ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ١٠٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٨١.

(٥) البيت للأخطل ، ينظر ديوانه (٤٣٤) ، التبيان : (٨٥٨) ، حاشية الشيخ يس : (١ / ١٨٥) ، روح المعاني : (١ / ٣١٠) ، البحر : (١ / ٤٥٦) ، الدر المصون : (١ / ٢٨١).


وقال بعضهم : «لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإنه في قوة النكرة».

وقال المبرّد : «شرطه صلاحية البدل في موضعه».

الثاني : أنه عطف بيان ، قاله ابن عصفور.

وقال : «إنما يعني النحويون بالوصف ب «إلّا» عطف البيان» ، [وفيه نظر](١).

الثالث : أنه مرفوع بفعل محذوف ، كأنه قال : امتنع قليل.

الرابع : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : إلّا قليل منكم لم يتولّوا ، كما قالوا «ما مررت بأحد إلّا رجل من بني تميم خير منه».

الخامس : أنه توكيد للضمير المرفوع ، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.

وقال : سيبويه وأصحابه يسمونه نعتا ووصفا يعني التوكيد ، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ، ولكنها قد قيلت.

السادس : أنه بدل من الضمير «تولّيتم».

قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ؛ لأنّ «توليتم» معناه النفي كأنه قال : لم تفوا بالميثاق إلا قليل ، وهذا الذي ذكره من جواز البدل منعه النحويون ، فلا يجيزون «قام القوم إلا زيد» على البدل.

قالوا : لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك : «قام إلا زيد» ، وهو ممتنع.

وأما قوله : إنه في تأويل النفي ، فما من موجب إلّا يمكن فيه ذلك ، ألا ترى أن قولك : «قام القوم إلا زيد» في حكم قوله : «لم يجلسوا إلّا زيد» ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك ، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها ، وإنما أجاز النحويون : «قام القوم إلا زيد» بالرفع على الصفة كما تقدم تقديره.

و «منكم» صفة ل «قليلا» فهي في محل نصب ، أو رفع على حسب القراءتين ، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاص لوصفه بقوله : (مِنْكُمْ).

وقال ابن عطية : «ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان ، أي : لم يبق حين عصوا وكفروا آخرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى» انتهى.

وهذا قول بعيد جدّا أو ممتنع.

(وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تولّيتم» وفيها قولان :

__________________

(١) سقط في ب.


أحدهما : أنها حال مؤكّدة ؛ لأن التولّي والإعراض مترادفان ، وقيل مبيّنة ، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب ، قاله أبو البقاء.

وقال بعده : وقيل : «تولّيتم» يعني آباءهم ، (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) يعني أنفسهم ، كما قال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤١] أي آباءهم انتهى.

وهذا يؤدّي إلى أن جملة قوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) لا تكون حالا ؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صاحب الحال والله أعلم.

وكذلك تكون «مبيّنة» إذا اختلف متعلّق التولي والإعراض كما قال بعضهم : ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم ، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سلك طريقا ورجع عوده على بدئه سمي ذلك توليا ، وإن سلك في عرض الطريق سمي إعراضا.

وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب «أنتم» ؛ لأنه أكد.

وجيء بخبر المبتدأ اسما ، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل : وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

هذا الخطاب كله كالذي قبله ، وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) كقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) في الإعراب سواء.

و «تسفكون» من «أسفك» الرّباعي.

وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة ، وأبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء ، وفتح السين ، وتشديد الفاء.

و (وَلا تُخْرِجُونَ) معطوف.

فإن قيل : الإنسان ملجأ إلى ألّا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟

فالجواب من أوجه :

أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل «الهند» أنهم يقدرون في قتل النفس التّخلّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب


عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفا به.

وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضا ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نسبا ودينا كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].

وثالثها : أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه ؛ لأنه يقتصّ منه بإقامة المسبّب مقام السّبب ، وهو قريب من قولهم : «القتل أنفى للقتل» ؛ وقال : [الطويل]

٦٢٨ ـ سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا (١)

وقيل : لا تفسكوها بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارتداد نحوه وهو قريب مما قبله.

ورابعها : لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.

وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفسكم.

قوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيه وجهان.

الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم.

الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم ؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة.

(مِنْ دِيارِكُمْ) متعلّق ب «تخرجون» ، و «من» لابتداء الغاية ، و «ديار» جمع دار الأصل : دور ؛ لأنه من دار ـ يدور ـ دورانا ، فأصل ديار : دوار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد.

وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على «فعال» صحيح اللام قد اعتلت عين مفرده ، أو سكنت حرف علة نحو :](٢) ديار وثياب ، ولذلك صحّ «رواء» لاعتلال لامه ، و «طوال» لتحرك عين مفرده ، وهو «طويل».

فأما «طيال» في «طوال» فشاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحو : قام ـ قياما ، وصام ـ صياما ، ولذلك صح «لواذ» لصحة فعله في قولهم : «لاوذ».

وأما ديّار فهو من لفظة الدار ، وأصله : ديوار ، فاجتمع الياء والواو فأعلا على القاعدة المعروفة فوزنه : «فيعال» لا «فعّال» ، إذ لو كان «فعّالا» لقيل : دوّار ك «صوّام وقوّام» والدّار : مجتمع القوم من الأبنية.

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه : ص ٧٢ ، والدرر : ٥ / ٢٩٥ ، وأمالي الزجاجي : ص ١٠ ، وحاشية يس : ١ / ٢٤٩ ، همع الهوامع : ٢ / ١٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٣.

(٢) سقط في : أ.


وقال الخليل : كل موضع حلّه الناس ، وإن لم يكن أبنية.

[وقيل : سميت دارا لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه](١).

و «النفس» مأخوذ من النّفاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه.

وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ).

قال أبو البقاء (٢) : فيه وجهان :

أحدهما : أن «ثمّ» على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره: فقبلتم ، ثم أقررتم.

والثاني : أن تكون «ثم» جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) [يونس : ٤٦].

قوله : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) كقوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة : ٨٣] وفيها وجوه :

أحدها : أقررتم بالميثاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها.

وثانيها : اعترفتم بقبوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك ؛ لأنه كان شائعا بينكم مشهورا.

وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.

ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضّيم ، فيكون المعنى أنه ـ تعالى ـ أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته.

فإن قيل : لم قال : (أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) والمعنى واحد؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أقررتم يعني أسلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم.

الثاني : أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [بقلوبكم](٣).

الثالث : أنه للتأكيد.

قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيه سبعة أقوال :

أحدها : وهو الظاهر أن «أنتم» في محل رفع بالابتداء ، وهؤلاء خبره و «تقتلون»

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٤٨.

(٣) سقط في ب.


حال ، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل ، وهي حال منه ليتّحد ذو الحال وعاملها.

وقد قالت العرب : «ها أنت ذا قائما» و «ها أنا ذا قائما» و «ها هوذا قائما» فأخبروا باسم الإشارة عن الضّمير في اللّفظ والمعنى على الإخبار بالحال ، فكأنه قال : «أنت الحاضر» ، «وأنا الحاضر» ، «وهو الحاضر» في هذه الحال.

ويدل على أن الجملة من قوله : (تَقْتُلُونَ) حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في : «ها أنا ذا قائما» ونحوه ، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقربين ، تنزيلا لتغير الصّفة منزلة تغير الذّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.

وقوله : (تَقْتُلُونَ) بيان لقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ).

واعترضه أبو حيّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) هم المخاطبون أولا ، فليسوا قوما آخرين ، ألا ترى أن التقدير الذي قدّره الزمخشري من تقدير [تغير الصّفة منزلة](١) تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائما ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغيّر.

وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.

والثاني : أن «أنتم» أيضا مبتدأ ، و «هؤلاء» خبره ، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مثل هؤلاء ، و «تقتلون» حال أيضا ، العامل فيها معنى التشبيه ، إلا أنه يلزم منه الإشارة إلى غائبين ؛ لأن المراد بهم أسلافهم على هذا ، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.

الثالث : ونقله «ابن عطية» عن شيخه «ابن الباذش» (٢) أن «أنتم» خبر مقدم ، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد ؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضا وتنكيرا لم يجز تقدم الخبر ، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.

الرابع : أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» منادى حذف منه حرف النّداء ، وتقتلون خبر المبتدأ ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.

وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة ؛ أنشدوا : [البسيط]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري الغرناطي أبو جعفر المعروف بابن الباذش النحوي إمام من أئمة النحو توفي في جمادى الآخرة سنة أربعين وخمسمائة.

ينظر بغية الوعاة : ١ / ٣٣٨.


٦٢٩ ـ إنّ الألى وصفوا قومي لهم فبهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا (١)

أي : يا هذا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولذلك لحّن المتنبي في قوله : [الكامل]

٦٣٠ ـ هذي برزت لنا فهجت رسيسا

 .......... (٢)

وفي البيت كلام طويل.

الخامس : أن «هؤلاء» موصول بمعنى «الذي» ، و «تقتلون» صلته ، وهو خبر عن «أنتم» أي : أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة ؛ أنشدوا : [البسيط]

٦٣١ ـ ..........

نجوت وهذا تحملين طليق (٣)

أي : والذي تحملين ، ومثله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) [طه : ١٧] يعني : وما التي؟

السادس : أنّ «هؤلاء» منصوب على الاختصاص ، بإضمار «أعني» و «أنتم» مبتدأ ، و «يقتلون» خبره ، اعترض بينهما بجملة الاختصاص ، وإليه ذهب ابن كيسان. وهذا لا يجوز ؛ لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يكون بالنكرات ، ولا أسماء الإشارة ، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما «أي» نحو : «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» أو معرف ب «أل» نحو : نحن العرب أقرى النّاس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، وقد يجيء كقوله : [الرجز]

٦٣٢ ـ بنا تميما يكشف الضّباب (٤)

__________________

(١) ينظر شرح الأشموني : ٢ / ٤٤٣ ، شرح عمدة الحافظ : ٢٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٢) صدر بيت وعجزه :

ثم انصرفت وما شفيت خسيسا

ينظر ديوانه : (١ / ٣٢٧) ، شرح المفصل : (٢ / ١٦) ، المقرب : ١ / ١٧٧ ، الأشموني : (٣ / ١٣٧) ، مغني اللبيب : (٢ / ٦٤١) ، حاشية الشيخ يس (١ / ٣٢٧) ، الدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٣) هذا عجز بيت ليزيد بن مفرغ وصدره :

عدس ما لعباد عليك إمارة

ينظر ديوانه : ص ١٧٠ ، والإنصاف : ٢ / ٧١٧ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٥٠ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٤٥ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٨ ، وشرح التصريح : ١ / ١٣٩ ، والدرر : ١ / ٢٦٩ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٥٩ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧١ ، وشرح المفصل : ٤ / ٧٩ ، ولسان العرب (حدس) ، (عدس) والمقاصد النحوية : ١ / ٤٤٢ ، ٣ / ٢١٦ ، وأوضح المسالك ١ / ١٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٦٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٧٤ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٩٠ ، وقطر الندى : ص ١٠٦ ، والمحتسب : ٢ / ٩٤ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٤) البيت لرؤبة. ينظر ديوانه : (١٦٥) ، الكتاب : (٢ / ٧٥) ، شرح المفصل : (٢ / ١٨) ، الخزانة : (٢ / ٤١٣) ، البحر المحيط : (٥ / ٤٥٩) ، شرح الأشموني : (٣ / ١٨٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).


وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلّم كما تقدم ، وقد يجيء مخاطب كقولهم : «بك الله نرجو الفضل».

السابع : أن يكون «أنتم هؤلاء» على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر ، والجملة من «تقتلون» مستأنفة مبينة للجملة قبلها ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم وقلّة عقولكم أنكم تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وهذا ذكره الزّمخشري في سورة آل عمران في قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) [آل عمران : ٦٦] ولم يذكر هنا ، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.

قوله : (تَظاهَرُونَ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «تخرجون» وفيها خمس قراءات : «تظّاهرون» بتشديد الظّاء ، والأصل : تتظاهرون فأدغم لقرب الظاء من التاء.

و «تظاهرون» مخففا ، والأصل كما تقدم ، إلا أنه خفّفه بالحذف ، وهل المحذوف الثانية وهو الأولى ؛ لحصول الثقل بها ، ولعدم دلالتها على معنى المضارعة ، أو الأولى ؛ كما زعم هشام ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٦٣٣ ـ تعاطسون جميعا حول داركم

فكلّكم يا بني حمدان مزكوم (١)

أراد : تتعاطسون فحذف.

و «تظّهّرون» بتشديد الظاء والهاء.

و «تظاهرون» من «تظاهر» و «تتظاهرون» على الأصل من غير حذف ، ولا إدغام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتّناصر من المظاهرة ، كأن كل واحد منهم يسند ظهره للآخر ليتقوّى به ، فيكون له كالظّهر ؛ قال : [الطويل]

٦٣٤ ـ تظاهرتم أستاه بيت تجمّعت

على واحد لا زلتم قرن واحد (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : الآية تدلّ على أن الظّلم كما هو محرم ، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.

فإن قيل : أليس أن الله ـ تعالى ـ لما أقدر الظّالم على الظّلم ، وأزال العوائق والموانع ، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم ، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب ألّا يوجد ذلك من الله تعالى؟

والجواب : أنه ـ تعالى ـ وإن مكّن الظّالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتّهديد

__________________

(١) ينظر البحر : (١ / ٤٥٩) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ١٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٥.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٧.


والزجر ، بخلاف المعين للظالم على ظلمه ، فإنه يرغبه فيه ، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.

و «الإثم» في الأصل : الذنب ، وجمعه «آثام» ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.

وقيل : هو ما تنفر منه النفس ، ولا يطمئنّ إليه القلب ، فالإثم في الآية يحتمل أن يكون مرادا به [أحد](١) هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السّبب مقام السّبب مقام المسبب ؛ كقوله : [الوافر]

٦٣٥ ـ شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول (٢)

فعبر عن الخمر بالإثم ، لما كان مسبّبا عنها.

فصل في معنى العدوان واشتقاقه

و «العدوان» : التجاوز في الظلم ، وقد تقدم في (يَعْتَدُونَ) [البقرة : ٦١] وهو مصدر ك «الكفران والغفران» والمشهور ضمّ فائه ، وفيه لغة بالكسر.

قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) «إن» شرطية ، و «يأتوكم» مجزوم بها بحذف النون ، والمخاطب مفعول.

و «أسارى» حال من الفاعل في «يأتوكم».

وقرأ الجماعة غير حمزة «أسارى» وقرأ هو (٣) : «أسرى» وقرىء (٤) : «أسارى» بفتح الهمزة. فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أنه جمع جمع «كسلان» لما جمعهما من عدم النّشاط والتصرف ، فقالوا : «أسير وأسارى» بضم الهمزة ك «كسلان وكسالى» و «سكران وسكارى» ، كما أنه قد شبه كسلان وسكران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على «فعلى» فقالوا : كسلان وكسلى ، وسكران وسكرى لقولهم : أسير وأسرى.

قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسلى شبّهوه ب «أسرى». كما قالوا : أسارى شبّهوه ب «كسالى» ، ووجه الشبه أنّ الأسر يدخل على المرء كرها كما يدخل الكسل.

__________________

(١) في ب : ما ذكرت من.

(٢) ينظر شواهد البحر : (١ / ٤٥٩) ، الغريبين : (١ / ١٨) ، اللسان : (أثم) ، التهذيب : (١٥ / ١٦١) ، تفسير معالم التنزيل : (٢ / ١٨٦) ، روح المعاني : (٨ / ١١٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).

(٣) انظر السبعة : ١٦٣ ، والكشف : ١ / ٢٥١ ، وحجة القراءات : ١٠٤ ، والعنوان : ٧٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٤٣ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٥ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، وإتحاف : ١ / ٤٠١.

(٤) انظر الدر المصون : ١ / ٢٨٦ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٤٠ ، وقال : «لا أعلم أحدا قرأ بها» ، ونقل القرطبي (٢ / ١٦) عن ابن فارس قوله : وقيل : أسارى ـ بفتح الهمزة ـ وليست بالعالية.


قال بعضهم : والدّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا «مريضا وميتا وهالكا» على «فعلى» فقالوا : «مرضى وموتى وهلكى» لما جمعها المعنى الذي في «قتلى وجرحى».

الثّاني : أنّ «أسارى» جمع «أسير» ، وقد وجدنا «فعيلا» يجمع على «فعالى» قالوأ : شيخ قديم ، وشيوخ قدامى. وفيه نظر ، فإن هذا شاذّ لا يقاس عليه.

الثالث : أنه جمع «أسير» أيضا ، وإنما ضموا الهمزة من «أسارى» وكان أصلها الفتح ك «نديم وندامى» كما ضمت الكاف والسين من «كسالى» و «سكارى» وكان الأصل فيهما الفتح نحو : «عطشان وعطاشى».

الرابع : أنه جمع «أسرى» الذي هو جمع «أسير» فيكون جمع الجمع.

وأما قراءة حمزة فواضحة ؛ لأن «فعلى» ينقاس في «فعيل» نحو : «جريح وجرحى» و «قتيل وقتلى» و «مريض ومرضى».

وأما «أسارى» بالفتح فقد تقدم أنها أصل أسارى بالضم عند بعضهم ، ولم يعرف أهل اللّغة فرقا بين «أسارى» و «أسرى» إلّا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ، فإنه قال : «ما كان في الوثاق فهم الأسارى ، وما كان في اليد ، فهم الأسرى» ونقل بعضهم عنه الفرق بمعنى آخر ، فقال : «ما جاء مستأسرا فهم الأسرى ، وما صار في أيديهم ، فهم الأسارى» ، وحكى النقّاش عن ثعلب ؛ أنه لما سمع هذا الفرق قال : «هذا كلام المجانين» ، وهي جرأة منه على أبي عمرو ، وحكي عن المبرّد أنه يقال : «أسير وأسراء» ك «شهيد وشهداء» و «الأسير» : مشتقّ من «الإسار» وهو القيد الذي يربط به من المحمل ، فسمي الأسير أسيرا ، وإن لم يربط ، والأسر : الخلق في قوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) [الإنسان : ٢٨] وأسرة الرّجل : من يتقوّى بهم ، والأسر : احتباس البول ، ورجل مأسور : أصابه ذلك ؛ وقالت العرب : أسر قتبه: أي شدّه ؛ قال الأعشى : [المتقارب]

٦٣٦ ـ وقيّدني الشّعر في بيته

كما قيّد الآسرات الحمارا (١)

يريد : أنه بلغ في الشعر النّهاية ؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يبرح عنه.

قوله : (تُفادُوهُمْ) قرأ نافع وعاصم (٢) والكسائي : «تفادوهم» ، وهو جواب الشرط ، فلذلك حذفت نون الرفع ، وقرأ الباقون : «تفدوهم» ، وهل القراءتان بمعنى واحد ، ويكون معنى «فاعل» مثل معنى «فعل» المجرد مثل : «عاقبت وسافرت» أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور ، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٨٩) ، اللسان (حمر) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٦).

(٢) انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٤٣ ، وحجة القراءات : ١٠٤ ، والعنوان : ٧٠ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٥ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٩.


فقيل : معنى «فداه» أعطى فيه فداء من مال ، و «فاداه» : أعطى فيه أسيرا مثله ؛ وأنشد : [الطويل]

٦٣٧ ـ ولكنّني فاديت أمّي بعدما

علا الرّأس منها كبرة ومشيب (١)

وهذا القول يرده قول العباس رضي الله عنه : فاديت نفسي وفاديت عقيلا ، ومعلوم أنه لم يعط أسيره في مقابلة نفسه ولا ولده.

وقيل : تفدوهم بالصّلح ، وتفادوهم بالعنف.

وقيل : تفدوهم تعطوا فديتهم ، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فدية الأسير الذي في أيديكم ؛ ومنه : [الوافر]

٦٣٨ ـ قفي فادي أسيرك إنّ قومي

وقومك ما أرى لهم اجتماعا (٢)

والظاهر أن «تفادوهم» على أصله من اثنين ، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق ، وتفدوهم على بابه من غير مشاركة ، وذلك أن الفريقين يفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره ، فالفعل على الحقيقة من واحد.

و «الفداء» ما يفتدى به ، فإذا كسروا فاءه ، جاز فيه وجهان :

المدّ والقصر ، فمن المدّ قول النابغة : [البسيط]

٦٣٩ ـ مهلا ، فداء لك الأقوام كلّهم

وما أثمّر من مال ومن ولد (٣)

ومن القصر قوله : [الطويل]

٦٤٠ ـ ..........

فدى لك من ربّ طريفي وتالدي (٤)

ومن العرب من يكسر : «فدى» مع لام الجر خاصّة ، نحو : «فدى لك أبي وأمي» يريدون الدعاء له بذلك ، وفدى وفادى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر ، تقول : «فديت أو فاديت الأسير بمال» ، وهو محذوف في الآية الكريمة.

__________________

(١) البيت لنصيب. ينظر اللسان (فدى) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٧).

(٢) ينظر : القرطبي : ٢ / ٢٢ ، البحر المحيط : ١ / ٤٦٠ ، روح المعاني : ١ / ٣١٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٧.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٢٦ ، الأشباه والنظائر : ٧ / ٩٠ ، خزانة الأدب : ٦ / ١٨١ ، لسان العرب (فدى) ، شرح المفصل : ٤ / ٧٣ ، القرطبي : (٢ / ١٧) ، البحر : (١ / ٤٤٩) ، شرح القصائد لابن النحاس : ٢ / ١٧٣ ، الشعر والشعراء : (١٧٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٧).

(٤) عجز بيت وصدره في الديوان هكذا :

تخبّ إلى النعمان حتى تناله

ينظر ديوانه : ١٧٠ ، الشعر والشعراء : (١ / ١٦٩) ، البحر : ١ / ٤٤٩ ، الطبري : ١ / ٤٨ ، روح المعاني : ١ / ٧٨ ، المحرر الوجيز : ١ / ١٠٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٧.


قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج ، فيظهر التّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج.

يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء.

فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل

قال السّدي : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألّا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، وكانت «قريظة» حلفاء «الأوس» ، «والنضير» حلفاء «الخزرج» ، وكانوا يقتلون في حرب سنين ، فيقاتل «بنو قريظة» مع حلفائهم ، «وبنو النضير» مع حلفائهم ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم ، وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، وإن كان الأسير من عدوّهم ، فتعيّرهم العرب ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، فيقولون : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا ، فعيّرهم الله تعالى ، فقال: (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وفي الآية تقديم وتأخير ، ونظمها : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وهو محرم عليكم إخراجهم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله ـ تعالى ـ أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسرائهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء ، فقال عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥].

وقال مجاهد : يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك (١).

قوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ) فيه وجوه.

والظاهر منها : أن يكون «هو» ضمير الشأن والقصّة ، فيكون في محلّ رفع بالابتداء ، و «محرم» خبر مقدم ، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل ، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل رفع خبرا لضمير الشأن ، ولم تحتج هنا إلى عائد على المبتدأ ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه.

وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير ، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت ، وليس لنا من الضّمائر ما يفسّر بجملة غير هذا الضمير ، ومن شرطه أن يؤتى به في مواضع التّعظيم ، وأن يكون معمولا للابتداء أو نواسخه فقط ، وأن يفسر بجملة مصرح بجزئيها ، ولا يتبع بتابع من التّوابع الخمسة ، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقا خلافا لما فصل ، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن ، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٠٩) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.


«هو زيد قائم» ، ولا يثنى ولا يجمع ، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى ، والكوفيّون يسمونه ضمير المجهول ، وله أحكام كثيرة.

الوجه الثاني : أن يكون «هو» ضمير الشأن أيضا ، و «محرم» خبره ، و «إخراجهم» مرفوع على أنه مفعول لم يسمّ فاعله. وهذا مذهب الكوفيين ، وإنما فرّوا من الوجه الأول ؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ ، فلا يقال : قائم زيد على أن يكون «قائم» خبرا مقدما ، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، والاسم المشتق الرافع لما بعده من قبيل المفردات لا الجمل ، فلا يفسر به ضمير الشّأن.

الثّالث : أن يكون «هو» كناية عن الإخراج ، وهو مبتدأ ، و «محرم» خبره ، و «إخراجهم» بدل منه ، وهذا على أحد القولين.

وهو جواز إبدال الظّاهر من المضمر قبله ليفسره ، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله : [الطويل]

٦٤١ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

ف «حاتم» بدل عن الضمير في «جوده».

الرابع : أن يكون «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بقوله : (وَتُخْرِجُونَ) و «محرّم» خبره ، و «إخراجهم» بدل من الضمير المستتر في «محرم».

الخامس : كذلك ، إلا أن «إخراجهم» بدل من «هو». نقل هذين الوجهين أبو البقاء ، وفي هذا الأخير نظر ، وذلك أنك إذا جعلت «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسرا به نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] فإذا أبدلت منه «إخراجهم» الملفوظ به كان مفسّرا به أيضا ، فيلزم تفسيره بشيئين ، إلّا أن يقال : هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيحتمل ذلك.

السادس : أجاز الكوفيون أن يكون «هو» عمادا ، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفصل قدّم مع الخبر ، والأصل : وإخراجهم هو محرم عليكم ، و «إخراجهم» مبتدأ ، و «محرم» خبره ، و «هو» عماد ، فلما قدم الخبر قدم معه.

قال الفراء : لأن الواو ـ هنا ـ تطلب الاسم ، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين :

أحدهما : أنّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة

__________________

(١) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : ٢ / ٢٩٧ ، العيني : ٣ / ١٨٦ ، الشذور (٢٤٥) ، الكامل : (٢٣٤) ، ابن يعيش : ٣ / ٦٩ ، الكشاف : ٤ / ٥١٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٨.


قريبة من المعرفة في امتناع دخول أل ك «أفعل من» ومثل وأخواتها.

والثاني : أن الفصل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به.

والسابع : قال ابن عطية (١) : وقيل في «هو» : إنه ضمير الأمر ، والتقدير : والأمر محرم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من «هو».

وقال أبو حيّان : وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : تفسير ضمير الأمر بمفرده ، وذلك لا يجيزه بصري ولا كوفي ، أما البصري فلاشتراطه جملة ، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [نحو «ظننته قائما الزيدان».

والثاني : أنه جعل «إخراجهم»](٢) بدلا من ضمير الأمر ، وقد تقدم «ألّا يتبع بتابع».

الثامن : قال ابن عطيّة (٣) أيضا : وقيل : هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و «محرّم» على هذا ابتداء ، و «إخراجهم» خبر.

قال : أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، أي : يكون «إخراجهم» مبتدأ مؤخرا ، و «محرم» خبر مقدم قدّم مع الفصل كما تقدم ، وهو الموافق للقواعد ، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.

التاسع : نقله ابن عطيّة أيضا عن بعضهم أن «هو» الضمير المقدر في «محرم» قدم وأظهر.

قال الشيخ : وهذا ضعيف جدّا ؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد استتاره وتقديره ، وأيضا فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير ؛ إذ على هذا القول يكون «محرم» خبرا مقدما ، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخرا ولا يوجد اسم فاعل ، ولا مفعول خاليا من الضمير إلّا إذا رفع الظّاهر ، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه ، إذ لا يجوز مبتدأ ، ولا فاعلا مقدما وفي قول الشيخ (٤) : «يلزم خلوّه من ضمير» نظر ؛ إذ هو ضمير مرفوع به ، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.

وقوله : «لا ندري ما إعرابه»؟ قد دري ، وهو الرفع بالفاعلية.

وقوله : والفاعل لا يقدم «ممنوع» فإن الكوفي يجيز تقديم الفاعل ، فيحتمل أن يكون هذا القائل يرى ذلك ، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام ، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور ، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكيا لها ولم يعقّبها بنكير؟

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥.

(٤) في أ : وأجيب عن قوله.


وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفة من الجمل المذكورة قبلها ، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [فريقا منكم من ديارهم](١) ، وتظاهرون ، وتفادون (٢) فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.

ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم ، وإن كانت كلها حراما ، لما فيه من معرّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقتل ، وإن كان أعظم منه إلّا أن فيه قطعا للشر ، فالإخراج من الدّيار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.

و «المحرم» : الممنوع ، فإن التّحريم هو المنع من كذا ، والحرام : الشّيء الممنوع منه ، يقال : حرام عليك وحرم عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى.

فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية

اختلف العلماء في قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : «إخراجهم كفر ، وفداؤهم إيمان ؛ لأنه ذمهم على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض» (٣).

فإن قيل : هب أن ذلك الإخراج كان معصية ، فلم سماها كفرا؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.

فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالّا على وجوبه.

الثاني : أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع التكذيب بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أن الحجّة في أمرهما سواء.

قوله : «فما جزاء من يفعل» «ما» يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون نافية ، و «جزاء» مبتدأ ، و «إلا خزي» خبره وهو استثناء مفرّغ وبطل عملها عند الحجازيين لانتقاض النفي ب «إلّا» ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه : أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقا سواء كان هو الأول ، أو منزلا منزلته ، أو صفة ، أو لم يكن ، ويتأولون قوله : [الطويل]

٦٤٢ ـ وما الدّهر إلّا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا (٤)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وتفدون.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣١٠) عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.

(٤) البيت لأحد بني سعد ينظر شرح شواهد المغني : ص ٢١٩ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٧٦ ، وتخليص الشواهد : ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٣٠ ، ٩ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، والجنى الداني : ص ٣٢٥ ، والدرر : ٢ / ٩٨ ، ٣ / ١٧١ ، وشرح التصريح : ١ / ١٩٧ ، وشرح المفصل : ٨ / ٧٥ ، والمقاصد النحوية : ـ


على أن الناصب ل «منجنونا» و «معذبا» محذوف ، أي : يدور دوران منجنون ، ويعذب معذّبا تعذيبا.

وأجاز يونس النصب مطلقا ، وإن كان النّحّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إلّا أخوك فإن كان الثّاني منزلا منزلة الأوّل نحو : «ما أنت إلّا عمامتك تحسينا وإلّا رداءك تزيينا».

فأجاز الكوفيون نصبه ، وإن كان صفة نحو : «ما زيد إلا قائم» فأجاز الفراء نصبه أيضا.

والثاني : أن تكون استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «جزاء» خبره ، و «إلّا خزي» بدل من «جزاء» نقله أبو البقاء.

و «الجزاء» : المقابلة خيرا كان أو شرّا.

و «من» موصولة ، أو نكرة موصوفة ، و «يفعل» لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الجر على الثاني.

«منكم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يفعل» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك حال كونه منكم.

و «الخزي» : الهوان والذّل والمقت ، يقال : أخزاه الله إذا مقته وأبعده ، ويقال : خزي ـ بالكسر ـ يخزى خزيا فهو خزيان ، وامرأة خزيا ، والجمع خزايا. وقال ابن السّكّيت : الخزي الوقوع في بليّة ، وخزي الرجل في نفسه يخزى خزاية إذا استحيا.

وإذا قيل : أخزاه الله ، كأنه قيل : أوقعه موقعا يستحيى منه ، فأصله على هذا الاستحياء.

قوله : «في الحياة» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «خزي» فيتعلّق بمحذوف ، أي : خزي كائن في الحياة.

الثّاني : أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل «خزي» ، فهو منصوب به تقديرا. و «الدّنيا» «فعلى» تأنيث الأدنى من الدّنو ، وهو القرب ، وألفها للتأنيث ، ولا تحذف منها «أل» إلا لضرورة كقوله : [الرجز]

٦٤٣ ـ يوم ترى النّفوس ما أعدّت

في سعي دنيا طالما قد مدّت (١)

وياؤها عن واو ، وهذه قاعدة مطردة ، وهي : كل «فعلى» صفة لامها واو تبدل ياء ، نحو : «الدنيا والعليا».

__________________

ـ ٢ / ٩٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٢٣ ، ٢٣٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٢١ ، ورصف المباني : ص ٣١١ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٩.

(١) تقدم برقم ٦٢٢.


فأما قولهم : «القصوى» عند غير «تميم» ، و «الحلوى» عند الجميع فشاذّ.

فلو كانت «فعلى» اسما صحّت الواو ؛ كقوله : [الطويل]

٦٤٤ ـ أدارا بحزوى هجت للعين عبرة

فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق (١)

وقد استعملت استعمال الأسماء ، فلم يذكر [موصوفها ، قال تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) [الأنفال : ٦٧] وقال ابن السّراج في «المقصور والممدود» : و «الدنيا»](٢) مؤنّثة مقصورة ، تكتب بالألف ، هذه لغة «نجد» «وتميم» ، إلّا أن «الحجاز» ، «وبني أسد» يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى مثل شروى وكذلك يفعلون بكل «فعلى» موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ، ويقلبون باءها واوا ، وأما أهل اللغة الأولى ، فيضمون الدال ، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة.

فصل في المراد بالخزي في الآية

اختلفوا في هذا الخزي على وجوه :

أحدها : قال الحسن : وهو الجزية والصّغار ، وهو ضعيف ؛ لأن الجزية لم تكن ثابتة في شريعتهم ، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيصحّ.

الثاني : خزي «بني قريظة» بالقتل والسّبي ، وخزي بني النّضير بالجلاء والنفي عن منازلهم إلى «أذرعات» و «أريحا» من «الشام» ، وهذا أيضا إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث : قال ابن الخطيب (٣) وهو الأولى : إنّ المراد منه الذّمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض ، والتنكير في قوله : «خزي» يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى.

[وقوله](٤) يردّون [قرىء](٥) بالغيبة (٦) على المشهور وفيه وجهان.

أحدها : أن يكون التفاتا ، فيكون راجعا إلى قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ) فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة.

__________________

(١) البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه : ص ٤٥٦ ، خزانة الأدب : ٢ / ١٩٠ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٨٨ ، الكتاب : ٢ / ١٩٩ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٣٣٦ ، ٥٧٩ ، الأغاني : ١٠ / ١١٩ ، أوضح المسالك : ٤ / ٣٨٨ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٤٥ ، المقتضب : ٤ / ٢٠٣ ، العيني : ٤ / ٢٣٦ ، شرح التصريح : ٢ / ٢٨٠ ، الدر : ١ / ٢٩٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٩.

(٤) في ب : وقرىء.

(٥) سقط في ب.

(٦) وهي قراءة الجمهور.


والثّاني : أنه لا التفات فيه ، بل هو راجع إلى قوله : «من يفعل».

وقرأ الحسن (١) : «تردّون» بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان :

فالالتفات نظرا لقوله : «من يفعل» ، وعدم الالتفات نظرا لقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ).

وكذلك : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم.

فإن قيل : عذاب الدّهري الذي ينكر الصّانع يجب أن يكون أشدّ من عذاب اليهود ، فكيف يكون في حقّ اليهود (يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ)؟

فالجواب : المراد منه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا ، فلفظ الأشد وإن ـ كان مطلقا ـ إلّا أن المراد أشد من هذه الجهة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوها مردودة لا بدّ من التنبيه عليها ، فأجاز أن يكون «أولئك» مبتدأ ، و (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) خبره ، و (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) خبرا ثانيا ل «أولئك».

قال : ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله : (فَلا يُخَفَّفُ) لم يجعله خبرا للموصول حتى تدخل «الفاء» في خبره ، وإنما جعله خبرا عن «أولئك» وأين هذا من ذاك؟

وأجاز أيضا أن يكون الذين مبتدأ ثانيا ، و «فلا يخفف» خبره ، دخلت لكونه خبرا للموصول ، والجملة خبرا عن «أولئك».

قال : ولم يحتج هذا إلى عائد ؛ لأن «الذين» هم «أولئك» كما تقول : «هذا زيد منطلق» ، وهذا أيضا خطأ لثلاثة أوجه :

أحدها : خلوّ الجملة من رابط ، وقوله : «لأن الذين» هم «أولئك» لا يفيد ، فإن الجملة المستغنية لا بدّ وأن تكون نفس المبتدأ.

وأما تنظيره ب «هذا زيد منطلق» فليس بصحيح ، فإن «هذا» مبتدأ و «زيد» خبره ، و «منطلق» خبر ثان ، ولا يجوز أن يكون «زيد» مبتدأ ثانيا ، و «منطلق» خبره ، والجملة خبر عن الأول ، للخلو من الرابط.

__________________

(١) وقرأ بها ابن هرمز.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٠.


الثاني : أن الموصول ـ هنا ـ لقوم معيّنين وليس عامّا ، فلم يشبه الشرط ، فلم تدخل «الفاء» في خبره.

الثالث : أن صلته ماضية لفظا ومعنى ، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبال ، فلا يجوز دخول الفاء في الخبر.

فتعيّن أن يكون «أولئك» مبتدأ والموصول بصلته خبره ، و «فلا يخفف» معطوف على الصّلة ، ولا يضر تخالف الفعلين في الزمان ، فإن الصّلات من قبيل الجمل ، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان ، فيجوز أن تقول : جاء الذي قتل زيدا أمس ، وسيقتل عمرا غدا ، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات.

وقيل : دخلت «الفاء» بمعنى جواب الأمر كقوله : أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم.

فصل في تفسير تخفيف العذاب

حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع ؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف ، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام ، أو في كلّ الأوقات ، فإذا وصف عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.

قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يجوز في «هو» وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، وما بعده خبره ، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي : «فلا يخفف».

والثاني : أن يكون مرفوعا بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فلما حذف الفعل انفصل الضّمير ؛ ويكون كقوله : [الطويل]

٦٤٥ ـ فإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثّناء سبيل (١)

وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة فعلية على مثلها ، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشتغال. وليس المرجح كونه تقدمه «لا» النافية ، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الأولى به ، خلافا لابن السيد حيث زعم أنّ «لا» النافية من المرجّحات لإضمار الفعل ، وهو قول [مرغوب عنه](٢) ولكنه قوي من حيث البحث. فقوله : (يُنْصَرُونَ) لا محلّ له على هذا ؛ لأنه مفسّر ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر.

__________________

(١) البيت للسموأل في ديوانه : ٩٠ ، والدرر : ١ / ١٩٩ ، وله أو للجلاح الحارثي (عبد الملك بن عبد الرحيم) في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١١١ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٧٧ ، خزانة الأدب : ٩ / ٤٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٣ ، و ٢ / ٥٩ ، والدر : ١ / ٢٩١.

(٢) في ب : غريب.


فصل

حمله بعضهم على نفي النّصرة في الآخرة ، والأكثرون حملوه على نفي النّصرة في الدنيا.

قال ابن الخطيب : والأول أولى ، لأنه ـ تعالى ـ جعله جزاء على صنعهم ولذلك قال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة ؛ لأنّ عذاب الدنيا وإن حصل ، فيصير كالحدود ؛ لأن الكفّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

روي عن ابن عباس أن التّوراة لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها ، فخفّفها الله على موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فحملها.

[قوله](١) : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) التضعيف في «قفّينا» ليس للتّعدية ؛ إذ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين ؛ لأنه قيل : التضعيف يتعدّى لواحد ، نحو : «قفوت زيدا» ، ولكنه ضمّن معنى «جئنا» كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرّسل.

فإن قيل : يجوز أن يكون متعديا لاثنين على معنى أنّ الأول محذوف ، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره : «وقفّينا من بعده الرسل».

فالجواب : أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التّقدير ، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية : ٤٦] إن شاء الله تعالى.

و «قفّينا» أصله : قفّونا ، ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء» ، واشتقاقه من «قفوت» ، وقفوته إذا اتّبعت قفاه ، ثم اتّسع فيه ، فأطلق على تابع ، وإن بعد زمان التابع عن زمان المتبوع.

قال أميّة : [البسيط]

٦٤٦ ـ قالت لأخت له قصّيه عن جنب

وكيف تقفو ولا سهل ولا جبل (٢)

و «القفا» : مؤخّر العنق ، ويقال له : القافية أيضا ، ومنه الحديث : «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم» (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٦) ، البحر : (١ / ٤٦٤) ، الدر المصون : ١ / ٢٩٢.

(٣) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٤) كتاب التهجد ـ


والقفاوة : ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه ، وقفوت الرجل : قذفته بفجور ، «وفلان قفوتي» : أي تهمتي ، وقفوتي أي خيرتي.

قال ابن دريد : كأنه من الأضداد.

ومنه : قافية الشعر ؛ لأنها يتلو بعضها بعضا ، ومعنى قفّينا : أي أتبعنا ، كقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤].

و «ومن بعده» متعلق به ، وكذلك : «بالرّسل» وهو جمع رسول بمعنى مرسل ، وفعل غير مقيس في «فعيل» بمعنى «مفعول» وسكون العين لغة «الحجاز» وبها قرأ الحسن (١) ، والضم لغة «تميم» ، وبها قرأ السّبعة إلّا أبا عمر (٢) ، وفيما أضيف إلى «نا» أو «كم» أو هم» ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.

فصل في تعيين الرسل المقفى بهم

هؤلاء الرّسل : يوشع ، وشمويل ، وداود ، وسليمان ، وشعياء ، وأرمياء ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم.

وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترة ، ويظهر بعضهم في أثر البعض.

والشريعة واحدة في أيام عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه جاء بشريعة مجدّدة ، والدليل على ذلك قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ؛) لأنه يقتضي أنهم على حدّ واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضا فيها. وقال القاضي : إنّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شرعة الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نقصان ، مع أنّ تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتّواتر عن الأول ؛ لأن الرّسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلّا ما كان قد علم من قبل ، أو يمكن أن يعلم من قبل ، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولا لا شريعة معه أصلا ، فكذا هاهنا ، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا

__________________

ـ (١٩) باب عقد الشيطان على قافية الرأس (١٢) حديث رقم (١١٤٢) ومسلم في الصحيح (١ / ٥٣٨) كتاب صلاة المسافرين وقصرها (٦) باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (٢٨) حديث رقم (٢٠٧ / ٧٧٦) وعن القافية قال في شرح السنة (٤ / ٣٣) وأراد بقافية الرأس مؤخر الرأس وأبو داود في السنن حديث رقم (١٣٠٦) ـ وابن ماجه في السنن حديث رقم (١٣٢٩) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٣) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (١١٣١) ـ والبيهقي في السنن (٢ / ٥٠١) ، (٣ / ١٥) ـ ومالك في الموطأ (١٧٦) وذكره المنذري في الترغيب ١ / ٤٤٢ ، ٤٤٦. والهندي في كنز العمال حديث رقم ٢١٣٧٨.

(١) وهي قراءة يحيى بن يعمر.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٢.

(٢) انظر شرح الطيبة : ٤ / ٣٥ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٤ ، وانظر السابقة.


بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة ، أو محيية لبعض ما اندرس من الشّريعة الأولى.

والجواب : لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبّد بتلك الشريعة السّابقة بنوع آخر من الألطاف لا يعلمه إلا الله؟

فصل في لفظ عيسى

[قوله](١) : «عيسى» : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف ، وقد تكلم النحويون في وزنه ، واشتقاقه على تقدير كونه عربيّ الوضع فقال سيبويه : وزنه «فعلى» والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء «معزى» يعني بالياء لا الألف ، سمّاها ياء لكتابتها بالياء.

وقال الفارسي : ألفه ليست للتأنيث ك «ذكرى» ، بدلالة صرفهم له في النكرة.

وقال عثمان بن سعيد الصيرفي (٢) : وزنه «فعلل» فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها منقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة ، فمن قال : إن «عيسى» مشتق من «العيس» : وهو بياض تخالطه شقرة ليس بمصيب ، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.

وقال الزمخشري : «وقيل : عيسى بالسّريانية يشوع».

قوله : (ابْنَ مَرْيَمَ) عطف بيان له أو بدل ، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى ؛ لأن «ابن مريم» جرى مجرى العلم له ، وللوصف ب «ابن» أحكام تخصّه ، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة ، وقد تقدم اشتقاق «ابن» وأصله.

و «مريم» أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخادم ، ثم سمّي به ؛ فلذلك لم ينصرف ، وفي لغة العرب : هي المرأة التي تكثر مخالطة الرجال ك «الزّير» من الرجال ، وهو الذي يكثر مخالطتهن.

قال رؤبة : [الرجز]

٦٤٧ ـ قلت لزير لم تصله مريمه (٣)

و «ياء» الزّير عن واو ؛ لأنه من «زار ـ يزور» فقلبت للكسرة قبلها ك «الريح» ، فصار لفظ «مريم» مشتركا بين اللّسانين ، ووزنه عند النحويين «مفعل» لا «فعيل» ، قال

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد أبو عمرو الداني الأموي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام العلامة الحافظ أستاذ الأستاذين وشيخ المقرئين ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة أخذ القراءات عن خلف بن إبراهيم ، وأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم وغيرهما وقرأ عليه أبو إسحاق بن إبراهيم ، والحسين بن علي وغيرهما. ينظر غاية النهاية : ١ / ٥٠٣.

(٣) ينظر ديوانه : (١٤٩) ، الكشاف : (١ / ١٦١) ، اللسان (زير) ، والدر : ١ / ٢٩٣.


الزمخشري : لأن «فعيلا» ، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو : «عثير وعليب» وقد أثبت بعضهم «فعيلا» ، وجعل منه نحو : «ضهيد» : اسم مكان و «مدين» على القول بأصالة ميمه و «ضهيأ» بالقصر ـ وهي المرأة التي لا تحيض ، أو لا ثدي لها ؛ مشتقّة من «ضاهأت» أي : «شابهت» ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك ، ويجوز مدّها قاله الزّجّاج.

وقال ابن جني : وأما «ضهيد وعثير» فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت «فعيل» ، وصحة الياء في «مريم» على خلاف القياس ، إذ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء ، ثم قلب الياء ألفا نحو : «مباع» من البيع ، ولكنه شذّ كما شذ «مزيد ومدين».

وقال أبو البقاء (١) : ومريم علم أعجمي ، ولو كان مشتقّا من «رام ـ يريم» لكان مريما بسكون الياء. وقد جاء في الأعلام بفتح الياء نحو : [مزيد] وهو على خلاف القياس.

و «البيّنات» قيل : هي المعجزات المذكورة في سورة «آل عمران» و «المائدة».

وقيل : الإنجيل.

وقيل : أعم من ذلك.

قوله : (وَأَيَّدْناهُ) معطوف على قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى).

وقرأ الجمهور : «وأيّدناه» على «فعّلناه» ، وقرأ مجاهد (٢) وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو : «وآيدناه» على «أفعلناه» ، والأصل فيه : «أأيد» بهمزتين ثانيتهما ساكنة ، فوجب إبدال الثانية ألفا نحو : «أأمن» وبابه ، وصححت العين كما صحّت في «أغيلت وأغيمت» وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجّب نحو : ما أبين وأطول.

وحكي عن أبي زيد أن تصحيح «أغيلت» مقيس.

فإن قيل : لم لا أعلّ «أيّدناه» كما أعلّ نحو : أبعناه حتى لا يلزم حمله على الشّاذ؟.

فالجواب : أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العين على الفاء ، فيلتقي ساكنان العين واللام ، فتحذف العين لالتقاء الساكنين ، فتجتمع همزتان مفتوحتان ، فيجب قلب الثانية واوا نحو : «أوادم» فتتحرك الواو بعد فتحة ، فتقلب ألفا فيصير اللفظ : أأدناه ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين ، فلأجل ذلك رفض بخلاف أبعناه وأقمناه ، فإنه ليس فيه إلّا إعلال العين فقط ، قال أبو البقاء (٣) : فإن قلت : فلم لم تحذف الياء التي هي عين كما حذفت من نحو : «أسلناه» من «سال ـ يسيل»؟.

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٤٩.

(٢) وقرأ بها حميد والأعرج.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٣.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٤٩.


قيل : لو فعلوا ذلك لتوالى إعلالان :

أحدهما : قلب الهمزة الثانية ألفا ، ثم حذف الألف المبدلة من الياء لسكونها ، وسكون الألف قبلها ، فكان يصير اللّفط أدناه ، فتحذف الفاء والعين ، وليس «أسلناه» كذلك ؛ لأن هناك حذفت العين فقط.

وقال الزمخشري في «المائدة» : «أيّدتك على أفعلتك».

وقال ابن عطية : «على فاعلتك» ، ثم قال : «ويظهر أنّ الأصل في القراءتين : أفعلتك ، ثم اختلف الإعلال» والذي يظهر أن «أيّد» فعّل لمجيء مضارعه على يؤيّد بالتشديد ، ولو كان أيّد بالتشديد بزنة «أفعل» لكان مضارعه «يؤيد» ك «يؤمن» من «آمن» وأما آيد ـ بالمدّ ـ فيحتاج في نقل مضارعه إلى سماع ، فإن سمع «يؤايد» ك «يقاتل» فهو «فاعل» فإن سمع «يؤيد» ك «يكرم» و «آيد» فهو أفعل ، ذكر جميع ذلك أبو حيّان في «المائدة» ، ثم قال : إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله : «اختلف الإعلال» ، وهو صحيح ، إلّا أن قوله : والذي يظهر أن «أيّد» في قراءة الجمهور «فعّل» لا «أفعل» إلى آخره فيه نظر ؛ لأنه يشعر بجواز شيء آخر متعذّر. كيف يتوهّم أن «أيّد» بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة «أفعل» ، هذا ما لا يقع.

و «الأيد» : القوة.

قال عبد المطّلب : [الرجز]

٦٤٨ ـ ألحمد لله الأعزّ الأكرم

أيّدنا يوم زحوف الأشرم (١)

والصحيح أن «فعّل» و «أفعل» هنا بمعنى واحد وهو «قوّيناه» ، وقد فرق بعضهم بينهما ، فقال : «أما المدّ فمعناه : القوة ، وأما القصر فمعناه : التأييد والنصر» وهذا في الحقيقة ليس بفرق ، وقد أبدلت بعض العرب في آيد على أفعل الياء جيما فقالت : آجده أي قواه.

قال الزمخشري (٢) : «يقال : الحمد لله الذي آجدني بعد ضعف ، وأوجدني بعد فقر». وهذا كما أبدلوا من يائه جيما فقالوا : لا أفعل ذلك جد الدّهر أو مد الدهر ، وهو إبدال لا يطّرد.

ومن إبدال الياء جيما قول الراجز : [الرجز]

٦٤٩ ـ خالي عويف وأبو علجّ

ألمطعمان اللّحم بالعشجّ (٣)

يريد : «وأبو علي» و «بالعشي».

قوله : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) متعلق ب «أيدناه».

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ١٦٢.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٢.

(٣) تقدم.


وقرأ (١) ابن كثير : «القدس» بإسكان الدال ، والباقون بضمها ، وهما لغتان : الضم ل «الحجاز» والإسكان ل «تميم» ، وقد تقدم ذلك ، وقرأ أبو حيوة (٢) : «القدّوس» بواو ، فيه لغة فتح القاف والدال معناه : الطّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]](٣) و «الروح» في الأصل : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان ، قاله الرّاغب(٤).

فصل في المراد ب «روح القدس»

اختلفوا في «روح القدس» هنا على وجوه :

أحدها : أنه جبريل عليه‌السلام ؛ لقول حسّان : [الوافر]

٦٥٠ ـ وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به كفاء (٥)

قال الحسن : القدس هو الله عزوجل ، وروحه : جبريل ، قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢] وقيل : سمي جبريل روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب.

قال النحاس : وسمي جبريل روحا أو أضيف إلى القدس ؛ لأنه كان بتكوين الله عزوجل له روحا من غير ولادة والد ولده [وقيل : المراد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن «روحا من أمرنا» لأنه الذي يوحى به](٦) ، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا.

وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير : «هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى».

وقيل : هو الروح الذي نفخ فيه.

والقدس والقدّوس هو الله ، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيما وتشريفا ، كما يقال : بيت الله ، وناقة الله ؛ قاله الربيع وغيره ، كقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان.

[واعلم أن إطلاق الروح على «جبريل» وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز](٧).

__________________

(١) ووافقه ابن محيصن.

انظر حجة القراءات : ١٠٥ ، والعنوان : ٧٠ ، والحجة : ٢ / ١٤٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٤.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر المفردات : ٢٠٥.

(٥) ينظر ديوانه : (٦٠) ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٢٢ ، روح المعاني : ٥ / ٣١٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٤.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.


قوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) الهمزة هنا ـ للتوبيخ والتّقريع ، والفاء للعطف عطفت هذه الجملة على ما قبلها ، واعتني بحرف الاستفهام فقدّم ، وتقدم تحقيق ذلك ، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف جملة ليعطف عليها ، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول.

ويجوز أن يقدّر قبلها محذوف أي : ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول ، وقد تقدّم الكلام في «كلما» عند قوله «كلّما أضاء» ، والناصب لها هنا استكبرتم.

و «جاء» يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية ، وبحرف الجر أخرى ، نحو : «جئت إليه» و «رسول» «فعول» بمعنى «مفعول» أي : مرسل ، وكون «فعول» بمعنى «المفعول» قليل ، جاء منه : «الرّكوب والحلوب» ، ويكون مصدرا بمعنى : الرّسالة قاله الزمخشري ؛ وأنشد : [الطويل]

٦٥١ ـ لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (١)

أي : برسالة ، ومن عنده : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦].

قوله : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) متعلّق بقوله : «جاءكم» و «ما» موصولة بمعنى الّذي ، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير : بما لا تهواه ، و «تهوى» مضارع «هوي» بكسر العين ولامه من ياء ؛ لأن عينه واو ، وباب «طويت وشويت» أكثر من باب «قوّة وحوة» ولا دليل في «هوي» لانكسار العين ، وهو مثل «شقي» من الشّقاوة ، وقولهم في تثنية مصدر هوي : هويان أدلّ على ذلك.

ومعنى تهوى : تحبّ وتختار ، وأصل الهوى : الميل ، سمي بذلك ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار ، ولذلك لا يستعمل غالبا إلّا فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل فيما هو خير ، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى «بدر» : «فهوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت» (٢).

وعن عائشة رضي الله عنها : «والله ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» (٣). وجمعه «أهواء».

__________________

(١) البيت لكثير ينظر ديوانه : ٢ / ٢٤٩ ، الكشاف : ٤ / ٤٩٧.

(٢) أخرجه مسلم «كتاب الجهاد» ٥٨ وأحمد (١ / ٣١ ـ ٣٢).

(٣) أخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٣٨٤ ـ ١٣٨٥ عن ابن عباس بزيادة في أوله وآخره كتاب الجهاد والسير (٣٢) باب الامداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (١٨) حديث رقم (٥٨ / ١٧٦٣) وأبو داود في السنن ٢ / ٦٨ كتاب الجهاد باب في فداء الأسير بالمال حديث رقم ٢٦٩٠ ـ والترمذي في السنن ٤ / ١١٤ ـ ١١٥ كتاب السير (٢٢) باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء (١٨) حديث رقم ١٥٦٧ وأحمد في المسند ٣ / ٢٤٣ ـ والحاكم في المستدرك ٢ / ٢٣٩ ، ٣٢٩ ، ٣ / ٢١ ، ٢٢.


قال تعالى : (بِأَهْوائِهِمْ) [الأنعام : ١١٩] ولا يجمع على «أهوية» ، وإن كان قد جاء «ندى» و «أندية» ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٦٥٢ ـ في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا (١)

وأما «هوى يهوي» بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السّقوط ، و «الهويّ» بفتح الهاء ، ذهاب في انحدار.

و «الهويّ» : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وأسند الفعل إلى «الأنفس» دون المخاطب فلم يقل : «بما لا تهوون» تنبيها على أنّ النفس يسند إليها الفعل السيّىء غالبا نحو : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) [يوسف : ١٨] و «استكبر» بمعنى : «تكبر».

قوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) «الفاء» عاطفة جملة «كذبتم» على «استكبرتم» ، و «فريقا» مفعول مقدم ، قدم لتتفق رؤوس الآي ، وكذا : «فريقا تقتلون» ، ولا بدّ من محذوف ، أي : فريقا منهم ، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب ، ومبادرة آخرين بالقتل. وقدم التكذيب ؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشّر ؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره ، فإنّ المقتولين قد كذبوهم أيضا ، وإنما لم يصرّح به ؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفعل. وجيء ب «تقتلون» مضارعا ، إما لكونه مستقبلا ؛ لأنهم كانوا يرومون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك سحروه ، وسمّوا له الشاة ، وقال عليه الصلاة والسلام عند موته : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، فهذا أوان انقطاع أبهري» (٢) ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي والفواصل ، وإما أن يراد به الحال الماضية ؛ لأن الأمر فظيع ، فأريد استحضاره في النّفوس ، وتصويره في القلوب.

__________________

(١) البيت لمرة بن محكان ينظر لسان العرب (ندى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥١٠ ، والمقتضب ٣ / ٤٨١ والخصائص ٣ / ٥٢ ، ٣ / ٢٣٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٩٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٦٣ ، والأغاني ٣ / ٣١٨ ، ولسان العرب (رجل) ، وشرح المفصل ١٠ / ١٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ص ٣٢٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٥٦ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٩٤ ، الدر المصون ١ / ٢٩٥.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٧٣٧) كتاب المغازي (٦٤) باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته (٨٣) حديث رقم (٤٤٢٨) عن عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم».

وقوله أوان بالفتح على الظرفية قال أهل اللغة الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه وقال الخطابي يقال إن القلب متصل به اه.

وأبو داود في السنن كتاب الديات باب (٦).

والبيهقي في دلائل النبوة (٤ / ٢٦٤).

وذكره ابن حجر في فتح الباري ٨ / ١٣١ ، ١٠ / ٢٤٧.

وابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ٢١٠.

والزبيدي في الإتحاف ٧ / ١٨٤.


وأجاز الرّاغب أن يكون (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) معطوفا على قوله : «وآتيناه» ، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملا.

فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم

هذا نهاية الذّم ؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه ، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا ، وطلب لذاتها ، والتّرؤس على عامتهم ، وأخذ أموالهم بغير حقّ ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك ، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسّلام ، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قالوا : يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائتنا بما أتى به عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إن كنت صادقا ، فقال الله عزوجل : أفكلّما جاءكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، وتعظّمتم عن الإيمان به ، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وطائفة تقتلون أي : قتلتم مثل : زكريا ويحيى وشعيب ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(قُلُوبُنا غُلْفٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله ، وقرأ الجمهور (١) : «غلف» بسكون اللام ، وفيها وجهان :

أحدهما : وهو الأظهر أن يكون جمع «أغلف» ك «أحمر وحمر» و «أصفر وصفر» ، والمعنى على هذا : أنها خلقت وجعلت مغشّاة لا يصل إليها الحقّ ، فلا تفهمه ونظيره : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت : ٥] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأغلف الذي لم يختتن.

والثاني : أن يكون جمع «غلاف» ، ويكون أصل اللام الضم ، فتخفف نحو : «حمار وحمر» ، «وكتاب وكتب» ، إلّا أن تخفيف «فعل» إنما يكون في المفرد غالبا نحو : «عنق» في «عنق» وأما «فعل» الجمع فقال ابن عطية : «لا يجوز تخفيفه إلّا في ضرورة» ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقرأ ابن عبّاس والأعرج (٢) ـ ويروى عن أبي عمرو ـ بضمّ اللام ، وهو جمع «غلاف» ، ولا يجوز أن يكون «فعل» في هذه القراءة جمع أغلف ؛ لأن تثقيل

__________________

(١) انظر في قراءة الجمهور : الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٥٣.

(٢) وقرأ بها ابن محيصن ، وابن هرمز.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٥٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٣ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٦.


«فعل» الصحيح العين ، لا يجوز إلّا في شعر ، والمعنى على هذه القراءة : أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر ، وهو قول ابن عباس وعطاء.

وقال الكلبي : «معناه أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته إلّا حديثك لا تعقله ولا تعيه ، ولو كان فيه خير لفهمته ووعته».

وقيل : غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك : التغليف كالتعمية في المعنى.

فصل في كلام المعتزلة

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكفّار ما لا يمكنهم معه الإيمان ، لا غلاف ولا كنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة ، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول ، فلا يكذبهم الله في قوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصّادق المحق ، وقالوا : هذا يدل على أن معنى قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الكهف : ٥٧] و (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) [يس : ٩] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان ، بل المراد : إما منع الألطاف ، أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر.

قالوا : ونظير ذم الله ـ تعالى ـ اليهود على هذه المقالة ذمه الكافرين على مثل هذه المقالة ، وهو قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين ، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا.

قال ابن الخطيب : واعلم أنا بيّنا في تفسير «الغلف» ثلاثة أوجه ، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل.

سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم : إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟

فإن قيل : إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة.

فالجواب من وجوه :

أحدها : لا نسلم ، بل لعلّه ـ تعالى ـ حكى عن حالهم ، أو عنهم قولا ، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.

وثانيها : لعلّ المراد من قوله تعالى : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني : ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء ، بل أفهامنا قويّة ، وخواطرنا منيرة ، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئا قويّا فلما ذكروا هذا الوصف


الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول.

وثالثها : أن قلوبهم لم تكن في أغطية ، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] إلّا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غلف ، فكان كفرهم عنادا.

قوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) «بل» : حرف إضراب ، والإضراب راجع إلى ما تضمّنه قولهم من أن قلوبهم غلف ، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق ، والإضراب على قسمين : إبطال ، وانتقال.

فالأول ، نحو : «ما قام زيد بل عمرو» ، والانتقال كهذه الآية ، ولا تعطف «بل» إلا المفردات ، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي ، ويزاد قبلها «لا» تأكيدا.

واللّعن : الطّرد والبعد ، ومنه : شأو لعين ، أي : بعيد ؛ قال الشّمّاخ : [الوافر]

٦٥٣ ـ ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين (١)

أي : الرجل البعيد ، وكان وجه الكلام أن يقول : «مقام الذّئب اللّعين كالرجل» والباء في «بكفرهم» للسبب ، وهي متعلّقة ب «لعنهم».

وقال الفارسي : النية به التقدم أي : وقالوا : قلوبنا غلف بسبب كفرهم ، فتكون الباء متعلقة ب «قالوا» ، وتكون «بل لعنهم» جملة معترضة ، وفيه بعد ، ويجوز أن تكون حالا من المفعول في «لعنهم» أي : لعنهم كافرين ، أي : ملتبسين بالكفر كقوله : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) [المائدة : ٦١].

قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) في نصب «قليلا» ستة أوجه :

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فإيمانا قليلا يؤمنون ؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله ، ويكفرون بالرسل.

الثاني : أنه حال من ضمير ذلك [المصدر](٢) المحذوف ، أي : فيؤمنونه أي : الإيمان في حال قلّته ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه ، وتقدّم تقريره.

الثالث : أنه صفة لزمان محذوف ، أي : فزمانا قليلا يؤمنون ، وهو كقوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢].

الرابع : أنه على إسقاط الخافض ، والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلما حذف حرف الجرّ انتصب ، ويعزى لأبي عبيدة.

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٣٢١ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٤٩ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٣٤٧ ، وشرح المفصل : ٣ / ١٣ ، ولسان العرب (لعن) ، والمعاني الكبير : ١ / ١٩٤ ، والمنصف : ١ / ١٠٩ ، ومجالس ثعلب : ٢ / ٥٤٣ ، والمحتسب : ١ / ٣٢٧ ، والدر : ١ / ٢٩٦.

(٢) سقط في ب.


الخامس : أن يكون حالا من فاعل «يؤمنون» أي : فجمعا قليلا يؤمنون ، أي : المؤمن فيهم قليل ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم.

قال ابن الخطيب : «وهو الأولى ؛ لأن نظيره قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] ، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ذكر](١) القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم».

وقال المهدوي : ذهب قتادة إلى أن المعنى : فقليل منهم يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع «قليل».

وأجيب : بأنه لا يلزم الرّفع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لما تقدم من أنّ نصبه على الحال واف بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.

السادس : أن تكون «ما» نافية ، أي فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا ، ومثله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف : ٣] (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣] ، كما يقال : قليلا ما يغفل أي : لا يعقل ألبتة.

قال الكسائي : «تقول العرب : مررنا بأرض قليلا ما تنبت» ، يريدون : لا تنبت شيئا ، وهذا قول الواقديّ. وهو قوي من جهة المعنى ، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حيّزها عليها قاله أبو البقاء [وإليه ذهب ابن الأنباري](٢) ، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يجزه البصريون ، وأجازه الكوفيون.

قال أبو البقاء (٣) : «ولا يجوز أن تكون «ما» مصدرية ؛ لأن «قليلا» يبقى بلا ناصب» ، يعني : أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها ، ويكون المصدر مرفوعا ب «قليلا» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] فإن «ما» ـ هاهنا ـ يجوز أن تكون مصدرية ؛ لأن «قليلا» منصوب ب «كان» وقال الزمخشري : «ويجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم».

وقال أبو حيّان : وما ذهب إليه من أن «قليلا» يراد به النّفي فصحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) لأن «قليلا» انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : «قمت قليلا» أي : قمت قياما قليلا ، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت «قليلا» منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة ، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية ، وإنما الذي نقل النحويون : أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم : «أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد» ، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض ـ هنا ـ ليس بصحيح» انتهى.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الاملاء : ١ / ٥٠.


وأجيب [بأن ما](١) قاله الزمخشري (٢) من أن معنى التقليل ـ هنا ـ النّفي قد قال به الواقديّ قبله ، كما تقدم فإنه قال : «أي : لا قليلا ولا كثيرا» ، كما تقول : قلّما يفعل كذا ، أي : ما يفعله أصلا.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩)

اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم ، وما ذاك إلّا القرآن.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ رفع صفة ل «كتاب» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي كتاب كائن من عند الله.

والثّاني : أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء.

وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال : إنه يحتمل أن يكون «من عند الله» متعلقا ب «جاءهم» ، فلا يكون صفة ، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولا للموصوف ولا للصفة ، فلا يفتقر الفصل به بينهما.

والجمهور على رفع «مصدق» على أنه صفة ثانية ، وعلى هذا يقال : قد وجد صفتان إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، وقد قدّمت المؤولة.

وقد تقدم أن ذلك غير ممتنع ، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضرورة.

والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله.

وقرأ (٣) ابن أبي عبلة : «مصدقا» نصبا ، وكذلك هو في مصحف أبيّ ، ونصبه على الحال ، وفي صاحبها قولان :

أحدهما : أنه «كتاب».

فإن قيل : كيف جاءت الحال من النكرة؟

فالجواب : أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو (مِنْ عِنْدِ اللهِ) كما تقدم.

على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شرط ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري.

والثاني : أنه الضّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفة ، والعامل فيها إما

__________________

(١) في ب : عما.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٤.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٧١ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٧.


الظرف ، أو ما يتعلق به ، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله : [مجزوء الوافر]

٦٥٤ ـ لميّة موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل (١)

إن «موحشا» حال من «طلل» ، وساغ ذلك لتقدمه ، فقال : لا حاجة إلى ذلك ، إذ يمكن أن يكون حالا من الضمير المستكنّ في قوله : «لمية» الواقع خبرا ل «طلل» ، وجوابه في موضع غير هذا. واللام في «لما معهم» وقعت لتعدية «مصدق» لكونه فرعا. و «ما» موصولة ، والظّرف صلتها ، ومعنى كونه مصدقا ، أي : موافقا لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبوة ، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت ، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشّرائع ، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن ؛ لأن جميع كتب الله كذلك ، فلم تبق إلّا الموافقة فيما ذكرناه.

قوله : (وَكانُوا) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «جاءهم» فيكون جواب «لما» مرتبا على المجيء والكون.

والثاني : أن يكون حالا ، أي : وقد كانوا ، فيكون جواب «لما» مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون.

قال أبو حيان : وظاهر كلام الزمخشري أن «وكانوا» ليست معطوفة على الفعل بعد «لما» ، ولا حالا ، لأنه قدر جواب «لما» محذوفا قبل تفسيره يستفتحون ، فدلّ على أن قوله : (وَكانُوا) جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : (وَلَمَّا). وهذا هو الثالث.

و «من قبل» متعلق ب «يستفتحون» ، والأصل : من قبل ذلك ، فلما قطع بني على الضم.

و «يستفتحون» في محل نصب على أنه خبر «كان».

واختلف النحويون في جواب «لما» الأولى والثانية.

فذهب الأخفش (٢) والزّجاج (٣) إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره : ولما جاءهم كتاب كفروا به ، وقدّره الزمخشري : «كذبوا به واستهانوا بمجيئه». وهو حسن ، ونظيره قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] أي : لكان هذا القرآن.

__________________

(١) البيت لكثير عزة في ديوانه ٥٠٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢١١ ، وشرح التصريح ١ / ٣٧٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٤٩ ، والكتاب ٤ / ١٢٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٦٣ ، وأسرار العربية ١٤٧ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣ ، والخصائص ٢ / ٤٩٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٤٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٦٦٤ و ١٨٢٥ ، وشرح قطر الندى ٢٣٦ ، ولسان العرب [خلل] ، مغني اللبيب ١ / ٨٥ و ٢ / ٤٣٦ ، الدر ١ / ٢٩٨.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٣٦.

(٣) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٤٦.


وذهب الفرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على «لما» ، وهو عنده نظير قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨] قال : ولا يجوز أن تكون الفاء ناسقة ، إذ لا يصلح موضعها «الواو».

و «كفروا» جواب «لما» الثانية على القولين.

وقال أبو البقاء (١) : في جواب «لما» الأولى وجهان :

أحدهما : جوابها «لما» الثانية وجوابها ، وهذا ضعيف ؛ لأن «الفاء» مع «لما» الثانية ، و «لما» لا تجاب بالفاء إلّا أن يعتقد زيادة «الفاء» على ما يجيزه الأخفش.

قال شهاب الدين (٢) : ولو قيل برأي الأخفش في زيادة «الفاء» من حيث الجملة ، فإنه لا يمكن هاهنا لأن «لما» لا يجاب بمثلها ، لا يقال : «لما جاء زيد لما قعد أكرمتك» على أن يكون «لما قعد» جواب «لما جاء» والله أعلم.

وذهب المبرد إلى أن «كفروا» جواب «لما» الأولى ، وكررت الثّانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) إلى قوله : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، وهو حسن لو لا أن «الفاء» تمنع من ذلك.

وقال أبو البقاء بعد أن حكى وجها أول : والثاني : أن «كفروا» جواب الأولى والثانية ؛ لأن مقتضاها واحد.

وقيل : الثانية تكرير ، فلم تحتج إلى جواب.

فقوله : وقيل : الثانية تكرير ، هو قول المبرّد ، وهو في الحقيقة ليس مغايرة للوجه الذي ذكره قبله من كون «كفروا» جوابا لهما بل هو هو.

فصل في الاستفتاح

اختلفوا في هذا الاستفتاح ، فقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والسّدي : نزلت في بني «قريظة» و «النضير» كانوا يستفتحون على «الأوس» و «الخزرج» برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل المبعث (٣).

وقال أبو مسلم : كانوا يقولون لمخالفيهم : غدا القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده ، ويصفونه بأنه نبي ، ومن صفته كذا ، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا ، أي : على مشركي العرب.

وقيل : إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يستفتحون أي : يسألون الفتح

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٥٠.

(٢) ينظر الدر المصون : ١ / ٢٩٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤) عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٦).


والنصر ، وكانوا يقولون : اللهم افتح علينا ، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [المبعوث](١) في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة ، وكانوا يستنصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زماننا نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير بني إسرائيل ، وعرفوا نعته وصدقه كفروا به بغيا (٢).

[وقيل :](٣) نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمدا في التوراة ، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته.

فإن قيل : التوراة نقلت نقلا متواترا ، فإما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التّفصيل أعني بيان أن الشّخص الموصوف بالصّورة الفلانية ، والسيرة الفلانية سيظهر في السّنة الفلانية في المكان الفلاني ، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه ، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا فكيف قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة](٤) كان وصفا إجماليا ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف ، بل كانت كالمؤكدة ، فلهذا ذمهم الله ـ تعالى ـ على الإنكار.

قال ابن الخطيب (٥) : وأما كفرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل ، وكانوا يرغبون النّاس في دينه ، ويدعونهم إليه ، فلما بعث الله محمدا من العرب من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم ، فأظهروا التكذيب ، وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر ؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب.

ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنبوّته كان يوجب عليهم زوال رياستهم وأموالهم ، فأبوا وأصرّوا على الإنكار.

ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة ، فلا جرم كفروا به.

قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) جملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم ، والمصدر ـ هنا ـ مضاف للفاعل ، وأتى ب «على» تنبيها على أن اللّعنة قد استعلت عليهم

__________________

(١) في ب : الذي يظهر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٦).

(٣) في أ : وقد.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٦٥.


وشملتهم. وقال : (عَلَى الْكافِرِينَ) ولم يقل : «عليهم» إقامة للظّاهر مقام المضمر ، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

«بئس» : فعل ماض غير متصرّف ، معناه الذّمّ ، فلا يعمل إلّا في معرّف ب «أل» أو فيما أضيف إلى ما هما فيه ، أو في مضمر مفسّر بنكرة ، أو في «ما» على قول سيبويه.

وفيه لغات : بئس ـ بكسر العين وتخفيف ـ هذا الأصل ، وبئس ـ بكسر الفاء إتباعا للعين ، وتخفيف هذا الإتباع ، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها «نعم» في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات.

قال ابن الخطيب : ما كان ثانيه حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات :

الأول : على الأصل أعني : بفتح الأول وكسر الثاني.

والثاني : إتباع الأول للثاني ، وهو أن يكون بكسر النون والعين ، كما يقال : «فخذ» بكسر الفاء والخاء ، وهم وإن كانوا يفرّون من الجمع بين الكسرتين إلّا أنهم جوّزوه ها هنا ؛ لكون الحرف الحلقيّ مستتبعا لما يجاوره.

الثالث : إسكان الحرف الحلقيّ المكسور ، وترك ما قبله ما كان ، فيقال : نعم وبأس بفتح الأول وإسكان الثاني ؛ كما يقال : «فخذ».

الرابع : أن يسكن الحرف الحلقيّ ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال : «نعم» بكسر النون وإسكان العين ؛ كما يقال : «فخذ» بكسر الفاء وإسكان الخاء.

واعلم أن هذا التغيير الأخير ، وإن كان في حدّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين ، إلّا أنهم جعلوه لازما لهما ؛ لخروجهما عمّا وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي ، وصيرورتهما كلمتي مدح وذمّ ، ويراد بهما المبالغة في المدح والذم ؛ ليدلّ هذا التّغيير اللازم في اللّفظ على التغيير عن الأصل ، وفي المعنى ؛ فيقولون : «نعم الرّجل زيد» ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشّعر ؛ كما أنشد المبرّد : [الرمل]

٦٥٥ ـ ففداء لبني قيس على

ما أصاب النّاس من شرّ وضر

ما أقلّت قدماي إنّهم

نعم السّاعون في الأمر المبر (١)

__________________

(١) البيتان لطرفة. ينظر ديوانه : (٥٨) ، المقتضب : ٢ / ١٣٨ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ٥٥ ، خزانة الأدب : ٩ / ٣٧٦ ، الكتاب : ٤٠ / ٤٤٠ ، الإنصاف : ١ / ١٢٢ ، شرح الكافية للرضي : ٢ / ٣٠١ ، الهمع : ٢ / ٨٤ ، الدرر : ٢ / ١٠٨ ، الفخر : ٣ / ١٢٨٢ ، الحجة : ٣٩٨.


وهما فعلان من نعم ينعم وبئس يبأس.

والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما ، فيقال : نعمت وبئست.

وزعم الكوفيون أنهما اسمان ؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان : [الطويل]

٦٥٦ ـ ألست بنعم الجار يؤلف بيته

من النّاس ذا مال كثير ومعدما (١)

وبما روي أن أعرابيّا بشر بمولودة فقيل له : نعم المولودة مولودتك! فقال : «والله ما هي بنعم المولودة : نصرتها بكاء ، وبرّها سرقة» و «نعم السّير على بئس العير». وقوله : [الرجز]

٦٥٧ ـ صبّحك الله بخير باكر

بنعم طير وشباب فاخر (٢)

وخرجه البصريون على حذف موصوف ، قامت صفته مقامه ، تقديره : والله ما هي بمولودة مقول فيها : نعم المولودة.

فصل في نعم وبئس

اعلم أنّ «نعم وبئس» أصلان للصّلاح والرّداءة ، ويكون فاعلهما اسما يستغرق الجنس إما مظهرا وإما مضمرا ، فالمظهر على وجهين :

الأول : كقولك : «نعم الرجل زيد» لا تريد رجلا دون رجل ، وإنما تقصد الرّجل على الإطلاق.

والثاني : نحو قولك : «نعم غلام الرّجل زيد».

وأما قوله : [البسيط]

٦٥٨ ـ فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم

وصاحب الرّكب عثمان بن عفانا (٣)

فنادر.

وقيل : كان ذلك لأجل أن قوله : «وصاحب الركب» قد دل على المقصود ؛ إذ المراد واحد ، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام ، فكأنه قد أتى به في القوم ، وأما المضمر فكقولك : «نعم رجلا زيد» الأصل : نعم الرجل رجلا زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول ؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢١٩) ، ابن يعيش : (٧ / ١٢٧).

(٢) ينظر الهمع : ٢ / ٨٤ ، العيني : ٤ / ٥٢ ، الأشموني : ٣ / ٢٧ ، الدرر : ٢ / ١٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٩.

(٣) البيت لكثير بن عبد الله النهشلي ينظر في الدرر : ٥ / ٢١٣ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٠٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٧ ، وله أو لأوس بن مغراء أو لحسان بن ثابت في خزانة الأدب : ٩ / ٤١٥ ، ٤١٧ ، وشرح المفصل : ٧ / ١٣١ ، وليس في ديوان حسان ، وبلا نسبة في شرح الأشموني : ٢ / ٣٧١ ، والمقرب : ١ / ٦٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨٦.


ف «رجلا» نصب على التمييز ، مثله في قولك : عشرون رجلا والمميّز لا يكون إلا نكرة ، ألا ترى أن أحدا لا يقول : «عشرون الدّرهم» ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا : «نعم الرجل» بالنصب لكان نقضا للغرض ، إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا ، وقالوا : «نعم الرجل» وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار ، وإنما أضمروا الفاعل قصدا للاختصار ، إذ كان «نعم رجلا» يدل على الجنس الذي فضل عليه.

فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب «نعم»

إذا قلت : «نعم الرجل زيد» فهو على [وجهين](١) :

أحدهما : أن يكون مبتدأ مؤخرا ، كأنه قيل : «زيد نعم الرجل» أخرت «زيدا» والنية به التقديم كما تقول : مررت به المسكين تريد : المسكين مررت به ، فأما الراجع إلى المبتدأ ، فإن الرجل لما كان شائعا ينتظر فيه الجنس كان «زيد» داخلا تحته ، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه.

والوجه الآخر : أن يكون «زيد» في قولك : «نعم الرجل زيد» خبر مبتدأ محذوف ، كأنه لما قيل : نعم الرجل قيل : من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل : زيد ، أي : هو زيد.

فصل في شرط نعم وبئس

ولا بد بعد هذين الفعلين من مخصوصين من المدح أو الذم ، وقد يحذف لقرينة وأما «ما» الواقعة بعد «بئس» كهذه الآية ، فاختلف فيها النحاة ، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟

فذهب الفراء (٢) : إلى أنها مع «بئس» شيء واحد ركّب تركيب «حبّذا» ، نقله ابن عطية عنه ونقل عنه المهدوي أنه يجوز أن تكون «ما» مع «بئس» بمنزلة «كلما» ، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها.

وذهب الجمهور أن لها محلّا ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟

فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز ، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها ، وفاعل «بئس» مضمر تفسره «ما» ، والمخصوص بالذم هو قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) لأنه في تأويل مصدر ، والتقدير : بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم كفرهم ، وبه قال الفارسي [في أحد قوليه](٣) ، واختاره الزّمخشري ، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذّم محذوفا و «اشتروا» صفة له في محلّ رفع تقديره : بئس شيئا شيء أو كفر اشتروا به ، كقوله : [الطويل]

__________________

(١) في ب : قسمين.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ٥٧.

(٣) سقط في ب.


٦٥٩ ـ لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل

 .......... (١)

أي : فتى أضحى.

و «أن يكفروا» بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أن «ما» منصوبة المحلّ أيضا ، [لكنه](٢) قدر بعدها «ما» موصولة أخرى بمعنى «الذي» ، وجعل الجملة من قوله : «اشتروا» صلتها ، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذم ، والتقدير : بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا ، أو يكون «أن يكفروا» على هذا القول خبرا لمبتدأ محذوف كما تقدم.

فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال :

الأول : أنها صفة لها ، فتكون في محلّ نصب ، أو صلة ل «ما» المحذوفة ، فلا محلّ لها ، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع.

وذهب سيبويه : إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل «بئس» ، فقال سيبويه : هي معرفة تامّة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي : شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول ـ أيضا ـ للكسائي.

وذهب الفراء والكسائي ـ أيضا ـ إلى أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والجملة بعدها صلتها ، ونقله ابن عطية عن سيبويه وهو أحد قولي الفارسي ، والتقدير : بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف «أن يكفروا» هو المخصوص بالذم.

قال أبو حيّان : وما نقله ابن عطية عن سيبويه وهم عليه ونقل المهدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضا أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية (٣) ، والتقدير : بئس اشتراؤهم ، فتكون «ما» وما في حيّزها في محل رفع.

قال ابن عطية (٤) : وهذا معترض ؛ لأن «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير.

قال أبو حيّان (٥) : وهذا لا يلزم ، إلّا إذا نصّ أنه مرفوع «بئس» ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل «بئس» مضمرا ، والتمييز محذوفا لفهم المعنى ، والتقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض.

قال شهاب الدين (٦) : وبهذا أعني : بجعل فاعل «بئس» مضمرا فيها جوز أبو البقاء

__________________

(١) ينظر الإملاء : (١ / ٥١) ، التبيان : ١ / ٩١ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٩.

(٢) في ب : لأنه.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٨.

(٤) ينظر البحر المحيط : (١ / ٤٧٣).

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ٣٠٠.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٦٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠١.


في «ما» أن تكون مصدرية ، فإنه قال والرابع : أن تكون مصدرية ، أي بئس شراؤهم ، وفاعل «بئس» على هذا مضمر ؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلا ، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها ؛ لأنه حذف عند الجمهور.

فصل في المراد بالشراء في الآية

في الشراء ـ هنا ـ قولان :

أحدهما : أنه بمعنى البيع ، بيانه أنه ـ تعالى ـ لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة ، والكفر الذي يؤدّي به إلى النّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السّلعة ثمنها على سلعته ، فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته قيل : نعم ما اشترى ، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما.

الوجه الثاني : أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله ـ تعالى ـ يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب ، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ، ويوصّلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به ، فذمّهم الله ـ تعالى ـ وقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ).

قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم ، ففيه الأوجه الثلاثة إما مبتدأ أو خبره الجملة قبله ، ولا حاجة إلى الرابط ؛ لأن العموم قائم مقامه ، إذ الألف واللام في فاعل «نعم وبئس» للجنس ، أو لأن الجملة نفس المبتدأ ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف ، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلا أو خبرا لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر.

وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلا من الضمير في «به» إذا جعلت «ما» تامة.

قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) متعلّق ب «كفروا» ، وقد تقدّم أن «كفر» يتعدّى بنفسه تارة ، ويحرف الجر أخرى ، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره : أنزله ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وكذلك جعلها مصدريّة ، والمصدر قائم مقام المفعول ، أي : بإنزاله يعني : بالمنزل.

قوله : «بغيا» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول من أجله وهو مستوف لشروط النصب ، وفي الناصب له قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنه يكفروا ، أي علة كفرهم البغي ، وهذا تنبيه على أن كفرهم [بغي وحسد] ، ولو لا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلا ، والمراد بذلك :


كفرهم بالقرآن ، لأن الخطاب لليهود ، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [البقرة ٩٠] وهذا لا يليق إلا باليهود ؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحسد والبغي.

والقول الثاني : أن الناصب لقوله «بغيا» «اشتروا» ، وإليه ينحو كلام الزمخشري ، فإنه قال : «وهو علّة» اشتروا.

الوجه الثاني : أنه منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه ما تقدم ، أي : بغوا بغيا.

والثالث : أنه في موضع حال ، وفي صاحبها القولان المتقدّمان : إما فاعل «اشتروا» ، وإما فاعل «يكفروا» ، تقديره : اشتروا باغين ، أو يكفروا باغين.

والبغي : أصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح أي : فسد ، قاله الأصمعي.

وقيل : هو شدة الطلب ، ومنه قوله تعالى : (ما نَبْغِي) [يوسف : ٦٥] ـ ومنه البّغيّ للزانية ، لشدة طلبها له وقال القرطبي : البغي معناه : الحسد ، قاله قتادة والسّدي ، وهو مفعول من أجله ، وهو في الحقيقة مصدر.

[وقال الراجز : [السريع أو الرجز]

٦٦٠ ـ أنشدوا الباغي يحبّ الوجدان

قلائصا مختلفات الألوان](١)

قوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله ، والناصب له «بغيا» أي : علّة البغي إنزال الله فضله على محمد عليه الصلاة والسلام.

والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، والتقدير : بغيا على أن ينزل ، أي : حسدا على أن ينزل ، فيجيء فيه الخلاف المشهور ، أهو في موضع نصب أو جر؟

والثالث : أنه في محل جر بدلا من «ما» في قوله تعالى : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) [بدل اشتمال أي بإنزال الله](٢) فيكون كقول امرىء القيس : [الطويل]

٦٦١ ـ أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فتقصر عنها خطوة أو تبوص (٣)

وقرأ (٤) أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مخففا من «أنزل» إلا ما وقع الإجماع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) تقدم برقم ٣٤١.

(٤) انظر العنوان : ٧٠ ، الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٨ ، وحجة القراءات : ١٠٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٧ ، وشرح شعلة : ٢٦٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٧.


على تشديده في «الحجر» (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا) [الحجر : ٢١] وقد خالفا هذا الأصل.

أما أبو عمرو فإنه شدد (عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧] في «الأنعام».

وأما ابن كثير فإنه شدّد في الإسراء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٢] (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) [الإسراء : ٩٣].

والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلّا حمزة والكسائي ، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففا (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) آخر لقمان [لقمان : ٣٤] (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في الشورى [الآية : ٢٨].

والهمزة والتضعيف للتعدية ، وقد تقدم : هل بينهما فرق؟ وتحقيق كلّ من القولين ، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على التشديد في تلك المواضع ، ومخالفة كلّ واحد أصله لماذا؟ بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات.

قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) من لابتداء الغاية ، وفيه قولان :

أحدهما : أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول «ينزل» أي : ينزل الله شيئا كائنا من فضله ، فيكون في محلّ نصب.

والثاني : أن «من» زائدة ، وهو رأي الأخفش ، وحينئذ فلا تعلق له ، والمجرور بها هو المفعول أي : أن ينزل الله فضله.

قوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ) متعلّق ب «ينزل» و «من» يجوز أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشّروط المجوزة للحذف ، والتقدير : على الذي يشاؤه ، أو على رجل يشاؤه.

وقدره أبو البقاء مجرورا فإنه قال ـ بعد تجوزه في «من» أن تكون موصوفة أو موصولة ـ «ومفعول يشاء محذوف ، أي : يشاء نزوله عليه ، ويجوز أن يكون : يشاء يختار ويصطفي» انتهى.

وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلّا بشروط ، وليست موجودة هنا ، فلا حاجة إلى هذا التقدير.

قوله : (مِنْ عِبادِهِ) فيه قولان.

أحدهما : أنه حال من الضّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول ، والإضافة تقتضي التشريف.

والثاني : أن يكون صفة ل «من» بعد صفة على القول بكونها نكرة ، قاله أبو البقاء وهو ضعيف ؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني ، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوبا لما تقرر.


قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ) الباء للحال ، أي : رجعوا ملتبسين بغضب ، أي : مغضوبا عليهم ، وقد تقدم ذلك.

قوله : (عَلى غَضَبٍ) في محلّ جر ؛ لأنه صفة لقوله : (بِغَضَبٍ) أي : كائن على غضب أي بغضب مترادف.

فصل في تفسير الغضب

في تفسير الغضب وجوه :

أحدها : لا بد من إثبات سببين للغضبين :

أحدهما : تكذيبهم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما أنزل عليه ، والآخر تكذيبهم بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ قاله الحسن والشّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة.

وقال ابن عباس ومجاهد : الغضب الأول تضييعهم التّوراة وتبديلهم.

والثاني : كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال عطاء ، وأبو عبيد : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وغير ذلك من أنواع كفرهم.

وقال أبو مسلم : المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر ، وإن كان واحدا إلا أنه عظيم.

وقال السدي : الغضب الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوّته(٣).

قوله : «مهين» صفة ل «عذاب» ، وأصله : «مهون» ؛ لأنه من الهوان ، وهو اسم فاعل من أهان يهين إهانة مثل : أقام ـ يقيم ـ إقامة ، فنقلت كسرة «الواو» على الساكن قبلها ، فسكنت «الواو» بعد كسرة ، فقلبت ياء.

والإهانة : الإذلال والخزي. وقال : «وللكافرين» ولم يقل : «ولهم» تنبيها على العلّة المقتضية للعذاب المهين ، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٥) عن عكرمة وقتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٧١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٥) عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٠).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٦) ، عن السدّي.


وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) : يعني اليهود.

(آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) : أي بكل ما أنزل الله ، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظة «ما» بمعنى «الذي» تفيد العموم ، قالوا : لأن الله ـ تعالى ـ أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله ، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ، ولو لا أنّ لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم ، ثم إنه ـ تعالى ـ أمرهم بذلك (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعني : التوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى ـ عليه‌السلام ـ ثم أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم يكفرون بما وراءه ، وهو الإنجيل والقرآن ، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذّم لهم ، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم : آمنوا بما أنزل الله إلّا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلا من عند الله ، وإلّا كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وإذ أول الدليل على كونه منزلا من عند الله وجب الإيمان به ، فإيمانهم بالبعض دون البعض تناقض ، ويجاب بوجهين :

أحدهما : أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة ، وهو كونه من عند الله ؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلا من عند الله لا لكون «ما» يقتضي العموم.

الثاني : أنا لا نمنع أن «ما» استعمل للعموم ؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟

فالقائل بأنها ليست موضوعة للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازا هاهنا.

فإن قيل : الأصل في الاستعمال الحقيقة.

فالجواب : أنها لو كانت للعموم حقيقة لما جاز إدخال لفظة «كل» عليها.

فإن قيل : إنما دخلت «كلّ» للتوكيد.

فالجواب : أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله.

قوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون [استئنافية استؤنفت](١) للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التّوراة ، فلا محل لها من الإعراب.

والثاني : أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : وهم يكفرون ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها «قالوا» ، أي قالوا : نؤمن حال كونهم كافرين بكذا ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها «نؤمن».

__________________

(١) في أ : استفهامية لا.


قال أبو البقاء (١) : إذ لو كان كذلك لكان لفظ الحال ونكفر ، أي ونحن نكفر. يعني : فكان يجب المطابقة.

ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو ، وهو نظير قوله : [المتقارب]

٦٦٢ ـ ..........

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

وحذف الفاعل من قوله تعالى : (بِما أَنْزَلَ) وأقيم المفعول مقامه للعلم به ، إذ لا ينزّل الكتب السماوية إلا الله ، أو لتقدم ذكره في قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ).

قوله : (بِما وَراءَهُ) متعلّق ب «يكفرون» و «ما» موصولة ، والظرف صلتها ، فمتعلّقه فعل ليس إلا ـ و «الهاء» في «وراءه» تعود على «ما» في قوله : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ).

و «وراء» من الظروف المتوسّطة التصرف ، وهو ظرف مكان ، والمشهور أنه بمعنى «خلف» وقد يكون بمعنى «أمام» قال تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩].

وقال : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان : ٢٧] فهو من الأضداد ، وفسره الفراء ـ هنا ـ بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير».

وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد».

وفي همزه قولان :

أحدهما : أنه أصل بنفسه [وإليه ذهب ابن جني مستدلا](٣) بثبوتها في التصغير في قولهم : «وريئة».

الثاني : أنها مبدلة من ياء ، لقولهم : تواريت.

قال أبو البقاء (٤) : ولا يجوز أن تكون الهمزة بدلا من واو ؛ لأن ما فاؤه واو ، لا تكون لامه واوا إلّا ندورا نحو : «واو» اسم حرف هجاء ، وحكم «وراء» حكم «قبل» و «بعد» في كونه إذا أضيف أعرب ، وإذا قطع بني على الضم.

وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر : [الطويل]

٦٦٣ ـ إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن

لقاؤك إلّا من وراء وراء (٥)

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٥١.

(٢) تقدم برقم ٤٤٥.

(٣) في ب : وذلك بدليل.

(٤) ينظر الإملاء : ١ / ٥١.

(٥) البيت لعتي بن مالك ينظر لسان العرب (ورى) ، خزانة الأدب ٦ / ٥٠٤ ، والدرر ٣ / ١١٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٢ ، وشرح شذور الذهب ص ١٣٤ ، وشرح المفصل ٤ / ٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٠ ، الدر ١ / ٣٠٣.


وفي الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : «كنت خليلا من وراء وراء» (١).

وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما : «وريئة» و «قديديمة» : تصغير «وراء» و «قدام».

وقال ابن عصفور : لأنهما لم يتصرفا فلو لم يؤنّثا في التصغير لتوهّم تذكيرهما.

والوراء : ولد الولد أيضا.

قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) مبتدأ أو خبر ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها قوله (يَكْفُرُونَ) [وصاحبها فاعل يكفرون](٢) وأجاز أبو البقاء (٣) أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله : (بِما وَراءَهُ) أي بالذي استقرّ وراءه ، وهو الحق.

وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه ، ثم إنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أخبر أن هذا القرآن منزّل من عند الله ، وأن فيه أمر المكلفين به ، فكان الإيمان به محقّق لا محالة.

قوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة ، لأن قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) قد تضمّن معناها ، والحال المؤكدة : إما أن تؤكد عاملها ، نحو : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] وإما أن تؤكد مضمون جملة ، فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها ، وتأخيرها عن الجملة ، ومثله أنشد سيبويه : [البسيط]

٦٦٤ ـ أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار (٤)

والتقدير : وهو الحق أحقّه مصدقا ـ وابن دارة أعرف معروفا ، هذا تقرير كلام النحويين ، وأما أبو البقاء ، فإنه قال : مصدقا حال مؤكّدة ، والعامل فيها ما في «الحق» من معنى الفعل ، إذ المعنى : وهو ثابت مصدقا ، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحقّ» عند قوم ، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام ، و «الحق» : مصدر لا يتحمّل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهم.

فقوله : «وعند آخرين» هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب ، و «ما» في قوله : «لما

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح (١ / ١٨٦ ـ ١٨٧) كتاب الإيمان (١) باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث رقم (٣٢٩ / ١٩٥).

والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٤ / ٤٤٠).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٥٢.

(٤) البيت لسالم بن دارة ينظر خزانة الأدب : ١ / ٤٦٨ ، ٢ / ١٤٥ ، ٣ / ٣٦٥ ، ٢٦٦ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٤٧ ، الخصائص : ٢ / ٢٦٨ ، ٣١٧ ، ٣٤٠ ، ٣ / ٦٠ ، الدرر : ٤ / ١١ ، شرح المفصل : ٢ / ٦٤ ، الكتاب : ٢ / ٧٩ ، المقاصد النحوية : ٣ / ١٨٦ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٥٥ ، شرح شذور الذهب : ص ٣٢٠ ، شرح ابن عقيل : ص ٣٣٨ ، همع الهوامع : ١ / ٢٤٥ ، والدر : ١ / ٣٠٣.


معهم» في موضع خفض باللام ، و «معهم» صلتها ، و «معهم» نصب بالاستقرار.

فصل في بيان ما تشير إليه الآية

وهذا أيضا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجهين :

الأول : أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يتعلم [علما](١) ، ولا استفاد من أستاذ ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقا لما في التوراة من غير تفاوت أصلا علمنا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما استفادها من الوحي والتنزيل.

والثاني : أن القرآن يدلّ على نبوته ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فلما أخبر الله ـ تعالى ـ عنه أنه مصدق للتوراة ، وجب اشتمال التّوراة على الإخبار عن نبوته ، وإلّا لم يكن القرآن مصدقا للتوراة ، بل مكذبا لها ، وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوته عليه الصّلاة والسّلام ، وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن.

قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) الفاء جواب شرط مقدر وتقديره : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم ؛ [لأن الإيمان بالتوراة مناف لقتل أشرف خلقه وذلك](٢) لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق ، وتدل على أنّ من كان صادقا في ادعاء النبوة كان قتله كفرا ، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ كفرا فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟

و «لم» جار ومجرور ، واللام حرف ، و «ما» استفهامية في محلّ جر ، أي : لأي شيء؟ ولكن حذفت ألفها فرقا بينها وبين «ما» الخبرية.

وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٦٦٥ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في التّراب (٣)

وهذا ينبغي أن يخصّ بالضرورة ، كما نص عليه بعضهم ، والزمخشري يجيز ذلك ، ويخرج عليه بعض آي القرآن ، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحذف في قولهم : اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي.

وإذا وقف على «ما» الاستفهامية المجرورة ، فإن كانت مجرورة باسم وجب لحاق

__________________

(١) في ب : من علم.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت لحسان بن ثابت. ينظر ديوانه : (٧٩) ، ابن يعيش : ٤ / ٩ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ٢٣٣ ، ٤ / ٢١٦ ، الهمع : ٢ / ٢١٧ ، الدرر : ١ / ٩٠ ، شواهد الشافية (٢٢٤) ، المغني : ١ / ٢٩٩ ، الأشموني : ٤ / ٢١٦ ، الخزانة : ٦ / ٩٩ ، معاني الفراء : ٢ / ٩٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٤.


هاء السّكت نحو مجيء «مه» ، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق ، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية ، بخلاف الاسم المضاف إليها ، فإنه في نيّة الانفصال ، وهذا الوقف إنما يجوز ابتداء ، أو بقطع نفس ، ولا جرم أن بعضهم منع الوقف على هذا النحو قال : «إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ ؛ لنقصان الحرف ، وإن وقف بها خالف السّواد».

لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثل ذلك لا يعد مخالفة للسّواد ، ألا ترى إلى إثباتهم بعض ياءات الزوائد.

والجار متعلق بقوله : (تَقْتُلُونَ) ، ولكنه قدّم عليه وجوبا ؛ لأن مجروره له صدر الكلام ، والفاء وما بعدها من «تقتلون» في محلّ جزم ، وتقتلون ـ وإن كان بصيغة المضارع ، فهو في معنى الماضي [لفهم المعنى](١) ، وأيضا فمعه قوله : (مِنْ قَبْلُ) [وأيضا فإن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنما كانوا في ذلك الزمان ، وأيضا فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضين](٢) ، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يتعاطوه ؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.

فإن قيل : كيف جاز قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) من قبل ، ولا يجوز أن يقال : أنا أضربك أمس؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله : ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت : لم يكن هذا من شأنك.

قال الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] ولم يقل : ما تلت الشياطين ؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة.

والثاني : كأنه قال : لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟

قال بعضهم : جاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال ، وهو بمعنى المضيّ لما ارتفع الإشكال بقوله : (مِنْ قَبْلُ) وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس.

قال الحطيئة : [الكامل]

٦٦٦ ـ شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر (٣)

شهد بمعنى يشهد.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ١٧٩ ، لسان العرب (حسب) ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٣٩٨ ، مجالس ثعلب : ص ٤٥٦.


قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

في «إن» قولان :

أحدهما : أنها شرطية ، وجوابه محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فحذف الشّرط من الجملة الأولى ، وبقي جوابه وهو : فلم تقتلون ، وحذف الجواب من الثّانية ، وبقي شرطه ، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى.

قال ابن عطية (١) رحمه‌الله : جوابها متقدم ، وهو قوله «فلم» وهذا إنما يتأتى على قول الكوفيين ، وأبي زيد.

والثاني : أن «إن» نافية بمعنى «ما» أي : ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم الإيمان.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

«بالبيّنات» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون حالا من «موسى» أي : جاءكم ذا بيّنات وحجج ، أو ومعه البينات.

وثانيهما : أن يكون مفعولا ، أي : بسبب إقامة البيّنات ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] وهي : العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر.

وقيل : البينات التوراة وما فيها من الدّلالات.

واللام في «لقد» لام القسم.

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) توبيخ ، وهو أبلغ من «الواو» في التّقريع بها والنظر في الآيات ، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتّخذتم ، [وهذا يدلّ على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم لجرمهم](٢). وما بعده من الجمل قد تقدم مثله ، والسبب في تكريرها أنه ـ تعالى ـ لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد عليه الصّلاة والسّلام ، وصفهم بالعناد والتكذيب ، ومثلهم بسلفهم في [قتلهم](٣) الأنبياء الذي يناسب التكذيب ؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى ـ عليه‌السلام ـ وما جاء به من البيّنات ، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلها وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه ، والتمسّك بدينه ، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التّكذيب والإنكار.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : قتل.


قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩٣)

قوله : (وَاسْمَعُوا) أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل وأجاب ؛ قال : [الوافر]

٦٦٧ ـ دعوت الله حتّى خفت ألّا

يكون الله يسمع ما أقول (١)

أي يقبل.

وقال الرّاجز : [الرجز]

٦٦٨ ـ والسّمع والطّاعة والتّسليم

خير وأعفى لبني تميم (٢)

فصل في التكرار

وفي هذا التكرير وجهان :

أحدهما : أنه للتأكيد ، وإيجاب الحجّة على الخصم.

الثاني : كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات ، ومع ذلك أصرّوا على كفرهم ، وصرحوا بقولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [النساء : ٤٦]](٣).

وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.

وقال أبو مسلم : يجوز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول ، وإن لم يقولوه كقوله تعالى : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] وكقوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] والأول أولى ؛ لأن هذا صرف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.

قوله : (وَأُشْرِبُوا) يجوز أن يكون معطوفا على قوله. (قالُوا : سَمِعْنا) ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل «قالوا» أي : قالوا ذلك ، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار «قد» ليقرب الماضي إلى الحال خلافا للكوفيين ، حيث قالوا : لا يحتاج إليها ، ويجوز أن يكون مستأنفا لمجرد الإخبار بذلك.

__________________

(١) ينظر اللسان : (سمع) ، القرطبي : ٣ / ٣١ ، روح المعاني : ١ / ٣٢٥.

(٢) البيت لجبير بن الضحاك. ينظر الطبري : ٢ / ٣٥٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٣.

(٣) سقط في ب.


واستضعفه أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال : لأنه قال بعد ذلك : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) فهو جواب قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.

و «الواو» في «أشربوا» وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل ، والثاني هو «العجل» ؛ لأن «شرب» يتعدّى بنفسه ، فأكسبته الهمزة مفعولا آخر ، ولا بد من حذف مضافين قبل «العجل» والتقدير : وأشربوا حبّ عبادة العجل.

وحسن حذف هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تصوّر إشراب ذات العجل ، والإشراب مخالطة المائع بالجامد ، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو : أشرب بياضه حمرة ، والمعنى : أنهم داخلهم حبّ عبادته ، كما داخل الصّبغ الثوب.

ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٦٦٩ ـ إذا ما القلب أشرب حبّ شيء

فلا تأمل له الدّهر انصرافا (١)

وعبر بالشرب دون الأكل ؛ لأن الشرب يتغلغل في باطن الشيء ، بخلاف الأكل فإنه مجاور ؛ ومنه في المعنى : [الطويل]

٦٧٠ ـ جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي

 .......... (٢)

وقال بعضهم : [الوافر]

٦٧١ ـ تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أنّ إنسانا يطير (٣)

فهذا وجه الاستعارة.

وقيل : الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.

وقيل : الإشراب هنا حقيقة ؛ لأنه يروى أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ برد العجل بالمبرد ، ثم جعل تلك البرادة في الماء ، وأمرهم بشربه ، فمن كان يحب العجل ظهرت البرادة على شفتيه.

__________________

(١) ينظر روح المعاني : ١ / ٣٢٦ ، البحر المحيط : ١ / ٤٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٥.

(٢) صدر بيت وعجزه :

فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٥.

(٣) الأبيات لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. ينظر الحماسة : ٢ / ١٠٥ ، المحتسب : ٢ / ١٤٤ ، مجالس ثعلب : ١ / ٢٣٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٣ ، اللسان (معع) ، شرح ديوان الحماسة : (٣ / ١٣٥٤) ، روح المعاني : ١ / ٣٢٦ ، الدر المصون : (١ / ٣٠٥.


روى القشيري ـ رحمه‌الله ـ أنه ما شربه أحد إلا جنّ.

قال القرطبي رحمه‌الله : أما تذريته في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي (١) الْيَمِّ نَسْفاً) [طه : ٩٧] ، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله : (فِي قُلُوبِهِمُ).

فصل في فاعل الإشراب

قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ) يدلّ على أن فاعلا غيرهم فعل بهم ذلك ، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى.

أجاب المعتزلة بوجهين :

الأول : ما أراد الله ـ تعالى ـ أن غيرهم فعل بهم ذلك ، لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبّه ، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال : فلان معجب بنفسه.

والثاني : أن المراد من «أشرب» أي : زيّنه لهم ، ودعاهم إليه كالسّامري ، وإبليس ، وشياطين الإنس والجن.

وأجابوا : بأن هذا صرف اللّفظ عن ظاهره ، وذلك لا يجوز المصير إليه إلّا بدليل منفصل ، وقد أقيمت الدلائل العقلية القطعية على أن محدث الأشياء هو الله ـ تعالى ـ فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر.

قوله : (بِكُفْرِهِمْ) فيه وجهان :

أظهرهما : أن «الباء» سببية متعلّقة ب «أشربوا» أي : أشربوا بسبب كفرهم السّابق.

والثاني : أنها بمعنى «على» يعنون بذلك أنها للحال ، وصاحبها في الحقيقة ذلك المضاف المحذوف أي : أشربوا حبّ عبادة العجل مختلطا بكفرهم ، والمصدر مضاف للفاعل ، أي : بأن يكفروا.

قوله : (قُلْ : بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) كقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا).

والمعنى : فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١].

وقيل : إن هذا خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر له بأن يوبّخهم أي : قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم ، وأمركم بها [إيمانكم](١) أي : بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧].

__________________

(١) سقط في ب.


قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يجوز فيها الوجهان السابقان من كونها نافية وشرطية ، وجوابها محذوف تقديره : فبئسما يأمركم.

وقيل : تقديره : فلا تقتلوا أنبياء الله ، ولا تكذّبوا الرّسل ولا تكتموا الحق ؛ وأسند الإيمان إليهم تهكّما بهم ، ولا حاجة إلى حذف صفة ، أي : إيمانكم الباطل ، أو حذف مضاف ، أي : صاحب إيمانكم.

وقرأ الحسن : «بهو إيمانكم» بضم الهاء مع الواو.

فإن قيل : الإيمان عرض ، ولا يصح الأمر والنهي.

فالجواب : أن الدّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٩٥)

وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم ، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النّاس ، ويدلّ عليه أنه لا يجوز أن يقال للخصم : إن كان كذا أو كذا فافعل كذا ، والأول مذهبه ، ليصحّ إلزام الثاني عليه.

ويدلّ على ذلك أيضا قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].

وأيضا اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقّون ؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم ، وأن سائر الفرق مبطلون ، وأيضا اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أعني : يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم ـ عليهم‌السلام ـ يخلصهم من [عقاب](١) الله ـ تعالى ـ ويوصلهم إلى ثوابه ، فكذّبهم الله ـ تعالى ـ وألزمهم الحجّة ، فقال : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنّة خالصة من دون النّاس ، فتمنوا الموت أي : فأريدوه واسألوه ؛ لأن من علم أن الجنة مأواه حنّ إليها ؛ لأن نعم الدنيا على قلّتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنازعته لهم بالجدال والقتال ، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة ، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة ، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ صرفهم عن إظهار التمنّي ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) في ب : عذاب.


وقيل : فتمنّوا الموت : ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات» (١).

قوله : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) شرط جوابه «فتمنّوا».

و «الدار» اسم «كان» وهي الجنة ، والأولى أن يقدّر حذف مضاف ، أي : نعيم الدار الآخرة ؛ لأن الدّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدّنيا ، وهي للفريقين. واختلفوا في خبر كان» على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه «خالصة» ، فيكون «عند» ظرف ل «خالصة» ، أو للاستقرار الذي في «لكم» ، ويجوز أن تكون حالا من «الدار» ، والعامل فيه «كان» ، أو الاستقرار.

وأما «لكم» فيتعلق ب «كان» ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.

قال أبو البقاء رحمه‌الله تعالى : ويجوز أن تكون للتبيين ، فيكون موضعها بعد «خالصة» أي : خالصة لكم فتتعلّق بنفس «خالصة» ، وهذا فيه نظر ؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره : أعني لكم ، نحو : سقيا لك ، تقديره : أعني بهذا الدعاء لك ، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان ، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم ، ويجوز أن يكون صفة ل «خالصة» في الأصل قدّم عليها فصار حالا منها ، فيتعلّق بمحذوف.

الثاني : أن الخبر «لكم» فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال ، والعامل فيها إما «كان» ، أو الاستقرار في «لكم» و «عند» منصوب بالاستقرار أيضا.

الثالث : أن الخبر هو الظّرف ، و «خالصة» حال أيضا ، والعامل فيها إما «كان» أو الاستقرار ، وكذلك «لكم» ، وقد منع من هذا الوجه قوم فقالوا : لا يجوز أن يكون الظرف خبرا ؛ لأن هذا الكلام لا يستقل.

وجوز ذلك المهدوي ، وابن عطية ، وأبو البقاء ، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال ، وأجاب عنه بأن قال : وسوغ أن يكون «عند» خبر «كان لكم» يعني لفظ «لكم» سوغ وقوع «عند» خبرا ، إذ كان فيه تخصيص وتبيين ، ونظيره قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] ، لو لا «له» لم يصحّ أن يكون «كفوا» خبرا.

و (مِنْ دُونِ النَّاسِ) في محلّ نصب ب «خالصة» ؛ لأنك تقول : خلص كذا من كذا ، والمراد به سوى لا معنى المكان ، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكا : هذا لك دون النّاس.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٦٣) عن ابن عباس موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٧٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.


وقرأ الجمهور : «فتمنّوا الموت» بضم الواو ، ويروى عن أبي عمرو (١) فتحها تخفيفا واختلاس الضمة ، وقرأ ابن أبي (٢) إسحاق بكسرها على التقاء السّاكنين تشبيها بواو (لَوِ اسْتَطَعْنا) [التوبة : ٤٢] المراد بها عندية المنزلة.

قال ابن الخطيب : «ولا بعد أيضا في حمله على [المكان](٣) فلعل اليهود كانوا مشبّهة ، فاعتقدوا العنديّة المكانية».

وقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) هذا أمر متعلّق على أمر مفقود ، وهو كونهم صادفين ، فلا يكون الأمر موجودا ، أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم ، وفي هذا التمني قولان :

أحدهما : قول ابن عباس : إنهم أمروا بأن يدعو الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة.

والثاني : أن يقولوا : ليتنا نموت وهذا أولى ؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.

قال عليه الصلاة والسلام : «لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلّا مات» وقال عليه الصلاة والسلام : «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النّار ولو خرج الّذين يباهلون [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) ، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» (٥).

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٩١].

فصل في سؤالات واردة

السؤال الأول : لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلّا بالموت ، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوبا لكونه وسيلة إلى ذلك المطلوب ، إلّا أنه يكون مكروها نظرا إلى ذاته ، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة ، وما كانوا يطيقونها ، فلا جرم ما تمنوا الموت.

السؤال الثاني : أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون إنّك تدّعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فإن كان الأمر

__________________

(١) حكاه عنه الأهوازي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨١ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٧٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٠٧.

(٢) انظر السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (١ / ١٤٨) والطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٦٢) وأبو يعلى كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢٢٨).

وقال الهيثمي : وفي الصحيح طرف من أوله ثم قال : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.


كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك ، فإنّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد ، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال ، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة ، فوجب أن ترضوا بقتلكم.

السؤال الثالث : لعلّهم كانوا يقولون : الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم ، لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر ، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلدا في النار أبدا ؛ لأنهم كانوا وعدوا به ، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذبا ، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت ، وليس لأحد أن يدفع هذا السّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسّهم النار إلّا أياما معدودة ؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة ، فكانت هذه الأيام ، وإن كانت قليلة بحسب العدد ، لكنها طويلة بحسب المدة ، فلا جرم ما تمنّوا الموت بسبب الخوف.

السؤال الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ نهى عن تمنّي الموت فقال : «لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به ولكن ليقل : اللهمّ أحيني إن كانت الحياة خيرا لي وتوفّني (١) إن كانت الوفاة خيرا لي» (٢) وأيضا قال تعالى في كتابه : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال ، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟

السؤال الخامس : أنّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب ، وبين اللفظ الدّال على ذلك المعنى ، وهو قول القائل : ليتني متّ ، فلليهود أن يقولوا : إنك طلبت منا التمني ، والتمنّي لفظ مشترك ، فإن ذكرناه باللّسان ، فله أن يقول : ما أردت به هذا اللّفظ ، وإنما أردت به المعنى الذي في القلب ، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب ، فله أن يقول : كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.

السؤال السادس : هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت ، فلم قلتم : إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ضعيف ؛ لأن

__________________

(١) في أ : وأمتني.

(٢) متفق عليه من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (١١ / ٣٥٧) كتاب الرقاق (٨١) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٤١) حديث رقم (٦٥٠٧) ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٦٥) كتاب الذكر والدعاء والاستغفار (٤٨) باب من أحب لقاء الله (٥) حديث رقم (١٤ / ٢٦٨٣) بسياق موجز دون ذكره السيدة عائشة رضي الله عنها ثم انفرد وساقه من رواية عائشة رضي الله عنها في (٤ / ٢٠٦٥ ـ ٢٠٦٦) حديث رقم (١٥ ، ١٦ / ٢٦٨٤) وفيه لفظه : والموت قبل لقاء الله وأبو داود في الجنائز باب ١٣ ـ والنسائي في السنن (٤ / ٣) وابن ماجه في السنن حديث رقم (٤٢٦٥) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٣) ، (٣ / ٢٥٨) ، (٥ / ١٠٩) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٤٤٣) والطبراني في الكبير (٤ / ٧٤) ، (١٨ ، ٣٦). وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، (٤ / ١٤٧) والخطيب في التاريخ (٥ / ٢٣٥).


الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقّا ، والنزاع ليس إلا فيه.

والجواب كون الموت متضمنا للآلام يكون كالصارف عن تمنّيه.

قلنا : كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل ؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.

وقوله : لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل.

قلنا : الفرق بين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبينهم أن محمدا كان يقول : إني [مبعوث](١) لتبليغ الشّرائع إلى أهل التّواتر ، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل ، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.

وقوله ثالثا : كانوا خائفين من العقاب.

قلنا : القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم ، وذلك يؤمنهم من الامتزاج.

وقوله رابعا : نهي عن تمني الموت.

قلنا : هذا النهي طريقه الشرع ، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات.

فصل في بيان متى يتمنى الموت

روي أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ كان يطوف بين الصّفّين في [غلالة](٢) ، فقال له ابنه الحسن ـ رضي الله عنه ـ ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ ، لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه [يسقط].

وقال عمار ـ رضي الله عنه ـ ب «صفين» : [الرجز]

٦٧٢ ـ الآن ألاقي الأحبّه

محمدا وحزبه (٣)

وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشّدائد ؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله ـ تعالى ـ فأين هذا مما نحن فيه؟

وقولهم خامسا : «إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟».

قلنا : التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ، كما أن الخبر لا يعرف إلّا بما يظهر بالقول ، ومن المحال أن يقول عليه الصلاة والسلام : «تمنّوا الموت» ، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلّا بظهوره.

__________________

(١) في ب : بعثت.

(٢) في أ : غلالته.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٦٠ ، الكشاف : ١ / ٢٩٧.


وقوله سادسا : ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه :

أحدها : لو حصل ذلك لنقل نقلا متواترا ؛ لأنه أمر عظيم ، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته ، وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة ، فوجب أن ينقل نقلا متواترا ، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.

وثانيها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع تقدّمه في الرأي والحزم ، وحسن النّظر في العاقبة ، والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهرا والموافق طوعا ، لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربّه بالوحي النازل عليه أن يتحدّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة ؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف](١) الأمور لم يرض بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أقدم على هذه الأدلة إلا بوحي من الله ـ تعالى ـ إليه بأنهم لا يتمنونه.

وثالثها : ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «لو تمنّوا الموت لشرقوا به ولماتوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردّا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطالا لحجّته. والحديثان المتقدّمان ، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.

قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) خبر قاطع عن أنّ ذلك لا يقع في المستقبل ، وهذا إخبار عن الغيب ؛ لأن مع توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك ، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه ، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.

قوله : «أبدا» منصوب ب «يتمنّوه» ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير ، ماضيا كان أو مستقبلا.

قال القرطبي : كالحين والوقت ، وهو ـ هاهنا ـ من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبدا.

وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبد كذا ، وكان من حقّه على هذا ألّا يثنى ولا يجمع ، وقد قالوا : آباد ، فجمعوه لاختلاف أنواعه.

وقيل : آباد لغة مولّدة ، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد ، وقد تقدم غير ذلك ، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.

__________________

(١) في أ : يعرف.


فصل في بيان أن بالآية غيبين

واعلم أن هذا إخبار عن غيب آخر ؛ لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة ، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات (١) فهما غيبان ، وقال هنا : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥] فنفى ب «لن» ، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :](٢) وذلك لأن دعواهم ـ هنا ـ أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، فإنهم ادعوا هنا أنّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النّاس ، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ؛ ومرتبة الولاية ـ وإن كانت شريفة ـ إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة ، فلما كانت الأولى أعظم لا جرم ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا».

قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون ؛ لأنهم إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت ، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه» ، والباء للسببية ، أي : بسبب اجتراحهم العظائم ، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.

و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : كونها موصولة بمعنى «الذي».

والثاني : نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : بما قدّمته ، فالجملة لا محلّ لها على الأولى ، ومحلّها الجر على الثاني.

والثالث : أنها مصدرية أي : بتقدمة أيديهم.

ومفعول «قدمت» محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشّر ، أو التبديل ونحوه.

قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ابتداء وخبر ، وهذا كالزّجر والتهديد ؛ لأنه إذا كان عالما بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصّوارف للمكلّف عن المعاصي ، وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن كلّ كافر ظالم ، وليس كلّ ظالم كافرا ، فذكر الأعم ؛ لأنه أولى بالذكر.

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

فأخبر تعالى أولا بأنهم لا يتمنّون الموت ، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحرص ؛ لأن ثم قسما آخر ، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت ، ولا يتمنّى الحياة.

__________________

(١) في أ : الأشخاص.

(٢) سقط في ب.


وهذه «اللام» جواب قسم محذوف ، والنون للتوكيد تقديره : والله لتجدنّهم.

و «وجد» هنا متعدية لمفعولين أولهما الضمير ، والثاني «أحرص» ، وإذا تعدّت لاثنين كانت ك «علم» في المعنى ، نحو : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٠٢].

ويجوز أن تكون متعدية لواحد ، ومعناها معنى «لقي وأصاب» ، وينتصب «أحرص» على الحال ، إما على رأي من لا يشترط التنكير في الحال ، وإما على رأي من يرى أنّ إضافة «أفعل» إلى معرفة غير محضة ، و «أحرص» أفعل تفضيل ، ف «من» مرادة معها ، وقد أضيفت لمعرفة ، فجاءت على أحد الجائزين ، أعني عدم المطابقة ، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحو : «الزّيدان أفضلا الرجال» ، و «الزيدون أفاضل الرجال» ، و «هند فضلى» و «الهنود فضليات النّساء» ومن قوله تعالى : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] وعدمها ، نحو : «الزيدون أفضل الرجال» ، وعليه هذه الآية ، وكلا الوجهين فصيح خلافا لابن السّراج. وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها ، ولذلك منع النحويون «يوسف أحسن إخوته» على معنى التفضيل ، وتأولوا ما يوهم غيره نحو : «النّاقص والأشجّ أعدلا بني مروان» بمعنى العادلان فيهم ؛ وأما قوله : [الرجز]

٦٧٣ ـ يا ربّ موسى أظلمي وأظلمه

فاصبب عليه ملكا لا يرحمه (١)

فشاذّ ، وسوغ ذلك كون «أظلم» الثاني مقتحما كأنه قال : «أظلمنا».

وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله : (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١].

قوله تعالى : (عَلى حَياةٍ) متعلّق ب «أحرص» ؛ لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب «على» تقول : حرصت عليه.

والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذلك كانت القراءة بها أوقع (٢) من قراءة أبيّ «على الحياة» بالتعريف.

وقيل : إن ذلك على حذف مضاف تقديره : على طول حياة ، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف ، بل يكون المعنى : أنهم أحرص النّاس على مطلق الحياة.

وإن قلت : فكيف وإن كثرت ، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك ، وأصل حياة : «حيية» تحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا.

قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت «أفعل» التفضيل ويجوز أن يكون منقطعا عنه ، وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال :

__________________

(١) ينظر الخزانة : ٤ / ٣٦٩ ، الهمع : ١ / ١١٠ ، التصريح : ١ / ٢٩٩ ، الدرر : ١ / ٨٠ ، المقرب : ١ / ٢١٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٨.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٨١ ، والدر المصون : ١ / ٣٠٨.


أحدها : أنه حمل على المعنى ، فإن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس ، فكأنه قيل : أحرص من النّاس ، ومن الذين أشركوا.

الثاني : أن يكون حذف من الثّاني لدلالة الأول عليه ، والتقدير : وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى ما تقرر من كون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) متّصلا ب «أفعل» التفضيل ، فلا بد من ذكر «من» ؛ لأن «أحرص» جرى على اليهود ، فلو عطف بغير «من» لكان معطوفا على النّاس ، فيكون المعنى : ولتجدنّهم أحرص الذي أشركوا ، فيلزم إضافة «أفعل» إلى غير من درج تحته ؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين ؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم : إنهم المجوس ، أو عرب يعبدون الأصنام ، اللهم إلا أن يقال : إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، فحينئذ لو لم يؤت ب «من» لكان جائزا.

الثالث : أن في الكلام حذفا وتقديما وتأخيرا ، والتقدير : ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس ، فيكون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) صفة لمحذوف ، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في «لتجدنّهم» وهذا وإن كان صحيحا من حيث المعنى ، ولكنه ينبو عنه التركيب لا سيّما على قول من يخصّ التقديم والتأخير بالضرورة.

وعلى القول بانقطاعه من «أفعل» يكون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) خبرا مقدما ، و «يودّ أحدهم» صفة لمبتدأ محذوف تقديره : ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم ، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله :

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] ، وقوله : «منا ظعن ومنا أقام».

والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزّمخشري أن يكون من اليهود ؛ لأنهم قالوا : عزير ابن الله ، فيكون إخبارا بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة ، ويكون من وقوع الظّاهر المشعر بالغلبة موقع المضمر ، إذ التقدير : ومنهم قوم يودّ أحدهم.

وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) تحت «أفعل» ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع.

فصل في المراد بالذين أشركوا

قيل : المراد بالذين أشركوا المجوس ، لأنهم كانوا يقولون لملكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان ، قاله أبو العالية والربيع : وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة ، وهذه تحية المجوس فيما بينهم : عش ألف سنة ، ولك ألف نيروز ومهرجان.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم : زه هزار سال.

وقيل : المراد مشركو العرب.

وقيل : كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم ؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن


يكون أكثر ، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [عش ألف سنة] بل [خرج مخرج](١) التكثير ، وهو معروف في كلام العرب.

قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) هذا مبني على ما تقدّم ، فإن قيل بأن (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) داخل تحت «أفعل» كان في «يود» خمسة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير في «لتجدنّهم» أي : لتجدنهم وادّا أحدهم.

الثاني : أنه حال من الذين أشركوا ، فيكون العامل فيه «أحرص» المحذوف.

الثالث : أنه حال من فاعل «أشركوا».

الرابع : أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.

الخامس ، وهو قول الكوفيين : أنه صلة لموصول محذوف ، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا ، والتقدير : ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم.

وإن قيل بالانقطاع ، فيكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أصل «يودّ» «يودد» ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو ، ليدل ذلك على أنه يفعل.

وحكى الكسائي : وددت ، فيجوز على هذا يودّ بكسر الواو و «أحد» هنا بمعنى واحد ، وهمزته بدل من واو ، وليس هو «أحد» المستعمل في النفي ، فإن ذاك همزته أصل بنفسها ، ولا يستعمل في الإيجاب المحض. و «يود» مضارع وددت بكسر العين في الماضي ، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع ؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ، بخلاف «يعد» وبابه.

وحكى الكسائي فيه «وددت» بالفتح.

قال بعضهم : فعلى هذا يقال : «يودّ» بكسر الواو.

و «الوداد» : التمني.

قوله : (لَوْ يُعَمَّرُ) في «لو» هذه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو الجاري على قواعد نحاة «البصرة» ـ أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف لدلالة «يودّ» عليه ، وحذف مفعول «يودّ» لدلالة «لو يعمّر» عليه والتقدير : يود أحدهم طول العمر ، لو يعمر ألف سنة لسرّ بذلك ، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

__________________

(١) في ب : المراد به.


والثاني : وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء ، أنها مصدرية بمنزلة «أن» الناصبة ، فلا يكون لها جواب ، [وينسبك] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولا ل «يودّ» ، والتقدير : يود أحدهم تعميره ألف سنة.

واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي ، وهذه يلزمها المستقبل ك «أن» وبأنّ «يودّ» يتعدى لمفعول ، وليس مما يعلق ، وبأن «أن» قد وقعت يعد «يود» في قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) [البقرة : ٢٦٦] وهو كثير ، [وجوابه في غير هذا الكتاب](١).

الثالث : وإليه نحا الزمخشري : أن يكون معناها التمني ، فلا تحتاج إلى جواب ؛ لأنها في قوة : «يا ليتني أعمّر» ، وتكون الجملة من «لو» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب «يود» ، إجراء له مجرى القول.

قال الزمخشري (٢) رحمه‌الله تعالى : فإن قلت : كيف اتّصل (لَوْ يُعَمَّرُ) ب (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ)؟

قلت : هي حكاية لودادتهم و «لو» في معنى التمنّي ، وكان القياس : «لو أعمّر» إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ، كقولك : «حلف بالله ـ تعالى ـ ليفعلن» انتهى وقد تقدّم شرحه ، إلّا قوله وكان القياس لو أعمر ، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسندا للمتكلم وحده ، وإنما أجرى «يود» مجرى القول ؛ لأن «يود» فعل قلبي ، والقول ينشأ عن الأمور القلبية.

و «ألف سنة» منصوب على الظرف ب «يعمر» ، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل ، وفي «سنة» قولان :

أحدهما : أن أصلها : سنوة لقولهم : سنوات وسنيّة وسانيت.

والثاني : أنها من «سنهة» لقولهم : سنهات وسنيهة وسانهت ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك.

قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) في هذا الضمير خمسة أقوال :

أحدها : أنه عائد على «أحد» وفيه حينئذ وجهان :

أحدهما : أنه اسم «ما» الحجازية ، و (بِمُزَحْزِحِهِ) خبر «ما» ، فهو محل نصب والباء زائدة.

و «أن يعمر» فاعل بقوله : «بمزحرحه» والتقدير : وما أحدهم مزحزحه تعميره.

الثاني من الوجهين في (هُوَ :) أن يكون مبتدأ ، و (بِمُزَحْزِحِهِ) خبره ، و «أن يعمر»

__________________

(١) في ب : موضع الرد عليه.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٨.


فاعل به كما تقدم ، وهذا على كون «ما» تميمية ، والوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز ، وظهور النصب في قوله : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] ، (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢].

الثاني من الأقوال : أن يعود على المصدر المفهوم من «يعمّر» ، أي : وما تعميره ، ويكون قوله : «أن يعمر» بدلا منه ، ويكون ارتفاع «هو» على الوجهين المتقدمين أي قوله : اسم «ما» أو مبتدأ.

الثالث : أن يكون كناية عن التعمير ، ولا يعود على شيء قبله ، ويكون «أن يعمّر» بدلا منه مفسرا له ، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل ، وهذا مفسّر بالبدل بعده ، وقد تقدم أن في ذلك خلافا ، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون «هو» مبهما ، و «أن يعمر» موضحه.

الرابع : أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في «الحلبيّات» موافقة للكوفيين ، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة ، إذا انتظم من ذلك إسناد معنوي ، نحو : ظننته قائما الزيدان ، وما هو بقائم زيد ؛ لأنه في قوة : ظننته يقوم الزيدان ، وما هو يقوم زيد ، والبصريون يأبون تفسيره إلّا بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر ، وقد تقدم تحقيق القولين.

الخامس : أنه عماد ، نعني به الفصل عند البصريين ، نقله ابن عطيّة عن الطّبري عن طائفة ، وهذا يحتاج إلى إيضاح ، وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العماد مع الخبر المقدم ، يقولون في زيد هو القائم : هو القائم زيد ، وكذلك هنا ، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون «بمزحزحه» خبرا مقدما و «أن يعمر» مبتدأ مؤخرا ، و «هو» عماد ، والتقدير : وما تعميره وهو بمزحزحه ، فلما قدم الخبر قدم معه العماد.

والبصريون لا يجيزون شيئا من ذلك.

و «من العذاب» متعلّق بقوله : (بِمُزَحْزِحِهِ) و «من» لابتداء الغاية والزحزحة : التّنحية ، تقول : زحزحته فزحزح ، فيكون قاصرا ومتعديا فمن مجيئه متعديا قوله : [البسيط]

٦٧٤ ـ يا قابض الرّوح من نفسي إذا احتضرت

وغافر الذّنب زحزحني عن النّار (١)

وأنشده ذو الرّمّة : [البسيط]

٦٧٥ ـ يا قابض الرّوح من جسم عصى زمنا

 .......... (٢)

ومن مجيئه قاصرا قول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) البيت لذي الرمة. ينظر ملحقات ديوانه : (١٨٧٥) ، القرطبي : ٢ / ٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٣١١.

(٢) تقدم قريبا.


٦٧٦ ـ خليليّ ما بال الدّجى لا يزحزح

وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح (١)

قوله : (أَنْ يُعَمَّرَ) : إما أن يكون فاعلا أو بدلا من «هو» ، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في «هو».

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) مبتدأ وخبر ، و «بما» يتعلّق ببصير.

و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : يعملونه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : بعملهم.

والجمهور «يعملون» بالياء ، نسقا على ما تقدم ، والحسن وغيره «تعملون» بالتاء ، وللخطاب على الالتفات ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه محيطا بأعمالهم السّالفة مراعاة لرءوس الآي ، وختم الفواصل.

قال ابن الخطيب : «والبصير قد يراد به العليم ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصحّان عليه ـ سبحانه ـ إلّا أن من قال : إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة» [قال العلماء رحمهم‌الله تعالى : وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيّات الأمور ، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به.

ومنه قولهم : فلان خبير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بملاقاة الرجال.

وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة](٢).

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨)

هذا نوع آخر من قبائح اليهود ، ومنكرات أقوالهم ، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره ـ تعالى ـ بمخاطبتهم بذلك ؛ لأنه يجري مجرى المحاجّة ، والمفسرون ذكروا أمورا :

أحدها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قدم «المدينة» أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد : كيف نومك ، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (٣) قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن

__________________

(١) ينظر القرطبي : ١ / ٢٦ ، الدر المصون : ١ / ٣١١.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري ٣ / ٤٠ ، في التهجد : باب قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان وغيره (١١٤٧) ، وطرفه في ـ


الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال : «أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرّجل ، وأمّا اللّحم والدّم والظّفر والشّعر فمن المرأة» فقال : صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : «أيّهما غلب ماؤه صاحبه كان الشّبه له» ، قال : صدقت فقال : أخبرني أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه ، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «أنشدكم بالله الّذي أنزل التّوراة على موسى هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمنّ على نفسه أحبّ الطّعام والشّراب وهو لحمان الإبل وألبانها» فقالوا : اللهم نعم.

فقال له : بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عزوجل؟ قال : «جبريل عليه‌السلام».

قال : إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه : وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله ـ تعالى ـ أنزل على نبينا أن «بيت المقدس» سيخرب في زمان رجل يقال له : بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه ، فلما كان وقته بعثنا رجلا من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله ، فانطلق حتى لقي ب «بابل» غلاما مسكينا فأخذه ليقتله](١). [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا](٢) فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله ـ تعالى ـ على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب «بيت المقدس» فلا فائدة في قتله ، ثم إنه كبر وقوي وملك ، وغزانا وخرّب «بيت المقدس» ، فلذلك نتّخذه عدوّا [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس ـ رضي الله تعالى ـ عنهما ، وفي هذا القول نظر ؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية : إن رسولهم ميكائيل ، وهو الذي يأتي بالبشر والرخاء ، وأنهم يحبونه ، ثم إنه ـ تعالى ـ أثبت عدواتهم لميكائيل أيضا في الآية التي تليها فقال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا](٣).

وثانيها : قال قتادة وعكرمة والسّدي : كان لعمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ أرض بأعلى «المدينة» وممرها على مدراس اليهود ، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم ، وسمع

__________________

ـ (٢٠١٣) ، (٣٥٦٩) ، ومسلم ١ / ٥٠٩ ، في كتاب صلاة المسافرين : باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ١٢٥ / ٧٣٨ ، وفي الحديث خاصة من خصائص سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) سقط في : ب.

(٢) سقط في : أ.

(٣) بدل ما بين المعكوفين في ب : وأما ميكائيل فإنه عدوّ جبريل ، فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدوّا لجبريل ، فهو عدوّ لميكائيل ، وهما عدوّان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.


منهم ، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك ، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رضي الله عنه : والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني ، وإني أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأرى آثاره في كتابكم فقالوا : من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال : جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا ، وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدّة ، وإن ميكائيل يأتي بالخصب والسّلامة ، فقال لهم عمر رضي الله عنه : تعرفون جبريل ، وتنكرون محمدا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فقالوا : نعم قال : فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله ـ عزوجل ـ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل ، قال : فإن كان كما تقولون فما هما بعدوين ، ولأنتم أكفر [من الحمير ، وإني أشهد أنّ من كان عدوّا لجبريل فهو عدو لميكائيل ، ومن كان عدوا لميكائيل فهو عدو لجبريل ، ومن كان عدوا لهما فإن الله ـ تعالى ـ عدوّ له ، ثم رجع عمر فوجد جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد سبقه بالوحي ، فقرأ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الآيات وقال : لقد وافقك ربك يا عمر ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله ـ تعالى ـ أصلب من الحجر](١).

وثالثها : قال مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ عدوّنا ، أمر أن يجعل النبوة فينا ، فجعلها في غيرنا فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات.

قال ابن الخطيب : والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة ؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله ، فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة ، وتقرير هذا من وجوه :

أولها : أن الذي نزله جبريل من](٢) القرآن [الذي نزل به فيه](٣) بشارة المطيعين بالثواب ، وإنذار العصاة بالعقاب ، والأمر بالمحاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره ، بل بأمر الله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ، ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله ـ تعالى ـ وعداوة الله ـ تعالى ـ كفر ، فيلزم أن معاداة من هذا سبيله كفر.

ثانيها : أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب ، فإما أن يقال : إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله ، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين ، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله ، فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل ـ عليهما‌السلام ـ فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟

وثالثها : أن إنزال القرآن على محمد ـ عليه‌السلام ـ كما شق على اليهود ، فإنزال

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.


التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ شق على قوم آخرين ، فإن اقتضت نفرة هؤلاء لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نفرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ قبحه ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.

فإن قيل : إنا نرى اليهود في زماننا مطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن أحدا من سلفهم لم يقل بذلك.

فالجواب : أن هذا باطل ، لأن كلام الله أصدق ، ولأن جهلهم كان شديدا ، وهم الذين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ) «من» شرطية في محلّ رفع بالابتداء ، و «كان» خبره على ما هو الصحيح كما تقدم ، وجوابه محذوف تقديره : من كان عدوّا لجبريل فلا وجه لعداوته ، أو فليمت غيظا ونحوه.

ولا جائز أن يكون «فإنّه نزّله» جوابا للشرط لوجهين :

أحدهما : من جهة المعنى.

والثاني : من جهة الصناعة.

أما الأول : فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي ؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلا.

ولقائل أن يقول : هذا محمول على التّبيين ، والمعنى : فقد تبين أنه نزله ، كما قالوا في قوله : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) ونحوه.

وأما الثاني : فلأنه لا بد في جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز : من يقم فزيد منطلق ، ولا ضمير في قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) يعود على «من» فلا يكون جوابا للشرط ، وقد جاءت مواضع كثيرة من ذلك ، ولكنهم أوّلوها على حذف العائد ، فمن ذلك قوله : [الوافر]

٦٧٧ ـ فمن تكن الحضارة أعجبته

فأيّ رجال بادية ترانا (١)

وقوله : [الطويل]

٦٧٨ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٢)

وينبغي أن يبنى ذلك على الخلاف في خبر اسم الشّرط.

فإن قيل : إنّ الخبر هو الجزاء وحده ـ أو هو الشّرط ـ فلا بدّ من الضمير ، وإن قيل بإنه فعل الشّرط ، فلا حاجة إلى الضمير ، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند

__________________

(١) البيت للقطامي ينظر ديوانه : (٥٨) ، المغني : ٢ / ٥٠٧ ، اللسان (حضر) ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١ / ٣٤٧ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٠٧ ، معجم مقاييس اللغة (بدو) ، الدر المصون : (١ / ٣١٢)

(٢) البيت لضابىء البرجمي وهو من شواهد الكتاب : ١ / ٧٥ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٨ / ٦٨ ، الهمع : ٢ / ١٤٤ ، والدر : ٢ / ٢٠٠ ، والدر : ١ / ٣١٢.


قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) ، وقد صرّح الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ بأنه جواب الشّرط ، وفيه النّظر المذكور ، وجوابه ما تقدم. و «عدوّا» خبر «كان» ، ويستوي فيه الواحد وغيره ، قال : «هم العدوّ» ـ والعداوة : التجاوز قال الرّاغب : فبالقلب يقال : العداوة وبالمشي يقال : العدو ، وبالإخلال في العدل يقال : العدوان وبالمكان أو النسب يقال : قوم عدى أي غرباء.

و «لجبريل» يجوز أن يكون صفة ل «عدوّا» فيتعلّق بمحذوف ، وأن تكون اللام مقوية لتعدية «عدوّا» إليه.

و «جبريل» اسم ملك وهو أعجمي ، فلذلك لم ينصرف ، وقول من قال : «إنّه مشتقّ من جبروت الله» بعيد ؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية ، وكذا قول من قال : إنه مركّب تركيب الإضافة ، وأن «جبر» معناه : عبد ، و «إيل» اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فهو بمنزلة عبد الله ؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرف الثاني [وهذا القول مرويّ عن ابن عبّاس ، وجماعة من أهل العلم ، فقال أبو علي السّنوي : وهذا لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنه لا يعرف من أسماء الله «إيل».

والثاني : أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا](١). وقال المهدوي : إنه مركّب تركيب مزج نحو : حضرموت وهذا بعيد أيضا ؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلّا.

وردّ عليه أبو حيّان بأنه لو كان مركبا تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المتضايفين ، أو يبنى على الفتح كأحد عشر ، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه ، وكونه لم يسمع فيه البناء ، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج](٢) وهذا الرد لا يحسن ردّا ؛ لأنه جاء على أحد الجائزين ، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : والصّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بلسان عربي مبين.

قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل ، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الأسماء الأعجمية ، فجاءت فيه بثلاث عشرة لغة.

أشهرها وأفصحها : «جبريل» بزنة قنديل ، وهي قراءة أبي عمرو (٣) ، ونافع وابن

__________________

(١) سقط في : ب.

(٢) سقط في : أ.

(٣) انظر العنوان في القراءات السبع : ٧١ ، وحجة القراءات : ١٠٧ ، والحجة : ٢ / ١٦٣ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٨ ، ٤٠٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٠ ، وشرح شعلة : ٢٧٠.


عامر وحفص عن عاصم ، وهي لغة «الحجاز» ؛ قال ورقة بن نوفل : [الطويل]

٦٧٩ ـ وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصّدر منزل (١)

وقال حسّان : [الوافر]

٦٨٠ ـ وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء (٢)

وقال عمران بن حطّان : [البسيط]

٦٨١ ـ والرّوح جبريل منهم لا كفاء له

وكان جبريل عند الله ماأمونا (٣)

الثانية : كذلك إلا أنه بفتح الجيم ، وهي قراءة (٤) ابن كثير والحسن ، وقال الفرّاء : «لا أحبها ؛ لأنه ليس في كلامهم فعليل» وما قاله ليس بشيء ؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك «لجام» ، وقسم يلحقوه ك «إبريسم» ، على أنه قيل : إنه نظير شمويل اسم طائر.

وعن ابن كثير أنه رأى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يقرأ «جبريل وميكائيل» ، قال : فلا أزال أقرؤهما كذلك.

الثالثة : جبرئيل كعنتريس ، وهي لغة قيس وتميم (٥) ، وبها قرأ حمزة والكسائيّ ؛ وقال حسّان : [الطويل]

٦٨٢ ـ شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة

يد الدّهر إلّا جبرئيل أمامها (٦)

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، زاد المسير : ١ / ١١٨ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٢) تقدم برقم ٦٥٠.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، والدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٤) ينظر القراءة السابقة.

(٥) في أ : قريش.

(٦) ينظر ديوانه : (٢٧١) ، ونسبه ابن منظور في اللسان (جبر) لكعب بن مالك. وينظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ١ / ١٥٦ ، وخزانة الأدب : ١ / ٤١٤ ، والأزمنة والأمكنة للمرزوقي : ١ / ٣٠٩ ، روح المعاني : ١ / ٣٣٢ ، إعراب القرآن المنسوب للزجاج : ٢ / ٤٥٠ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

ظرف المكان إذا كان خبرا عن اسم عين ، سواء كان اسم مكان أو لا ، فإن كان غير متصرف ، نحو : زيد عندك ، فلا كلام في امتناع رفعه ، وإن كان متصرّفا وهو نكرة ، فالرّفع راجح ، نحو : أنت مني مكان قريب ، وأدراك من يمين أو شمال ، وهو باق على الظرفيّة عند البصريين ، والمضاف محذوف : إما من المبتدأ ، أي : مكانك من مكان قريب ، أو من الخبر ، أي : أنت مني ذو مكان قريب ؛ ومثله عند الكوفيين بمعنى اسم الفاعل ، فيجب رفعه ؛ وليس بظرف ، وإن كان معرفة ، والرفع مرجوح ، نحو : زيد خلفك ، وداري أمامك ؛ وذلك لأن أصل الخبر التنكير ، ومع ذلك فرفع المعرفة لا يختصّ بالشعر ؛ كما في قوله : إلا جبرئيل أمامها ، على أن «جبرئيل» مبتدأ و «أمامها» بالرفع خبره ، والجملة صفة لكتيبة ، خلافا للجرمي والكوفيين ، وإن لم يتصرف كالفوق والتحت ، لزم نصبه إجماعا ، وإن كان خبرا عن المكان ، نحو : داري خلفك ، ومنزلي أمامك ـ جوّزوا رفعه في السّعة.


وقال جرير : [الكامل]

٦٨٣ ـ عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا (١)

الرابعة : كذلك إلّا أنه لا ياء بعد الهمزة ، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر.

الخامسة : كذلك إلّا أن اللام مشددة ، وتروى أيضا (٢) عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضا قالوا : و «إلّ» بالتشديد اسم الله تعالى.

وفي بعض التفاسير : «لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمّة» قيل : معناه : الله ، وروي عن أبي بكر لما سمع بسجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إلّ.

السادسة : جبرائل بألف بعد الرّاء ، وهمزة مكسورة بعد الألف ، وبها قرأ عكرمة.

السابعة : مثلها إلا أنها بياء بعد الهمزة.

الثامنة : جبراييل بياءين بعد الألف من غير همزة ، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضا.

التاسعة : جبرال.

العاشرة : جبرايل بالياء والقصر ، وهي قراءة طلحة بن مصرّف.

الحادية عشرة : جبرين بفتح الجيم والنون.

والثانية عشرة : كذلك إلا أنها بكسر الجيم.

والثالثة عشرة : جبرايين.

والجملة من قوله : (مَنْ كانَ) في محلّ نصب بالقول ، والضمير في قوله «فإنّه» يعود على جبريل وفي قوله : «نزله» يعود على القرآن ، وهذا موافق لقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) في قراءة (٣) من رفع «الروح» ولقوله : «مصدقا».

وقيل : الأول يعود على الله ، والثاني يعود على جبريل ، وهو موافق لقراءة من قرأ (٤) «نزّل به الرّوح» بالتشديد والنصب ، وأتى ب «على» التي تقتضي الاستعلاء دون «إلى» التي تقتضي الانتهاء ، وخصّ القلب بالذكر ؛ لأنه خزانة الحفظ ، وبيت الربّ عزوجل [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه ، لا على قلبه ، إلّا أنه خصّ القلب بالذكر ؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أدّاه إلى أمّته ، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٣٣٩) ، البحر المحيط : ١ / ٢٨٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٨ ، زاد المسير : ١ / ١١٨ ، معالم التنزيل : ١ / ٩٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٢) انظر تفصيل هذه اللغات ، وما يوافقها من قراءات في : المحرر الوجيز : ١ / ١٨٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، وما بعدها ، والدر المصون : ١ / ٣١٢ وما بعدها.

(٣) ستأتي في «الشعراء ١٩٣».

(٤) ستأتي في «الشعراء ١٩٣».


ثبات حفظه في قلبه جاز أن يقال : نزله على قلبك ، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه ، ولأنه أشرف الأعضاء.

قال عليه الصّلاة والسّلام : «ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب» (١)](٢) وأضافه إلى ضمير المخاطب دون ياء المتكلم ، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون «على قلبي» لأحد أمرين :

إما مراعاة لحال الأمر بالقول فتسرد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك : قل لقومك : لا يهينوك ، ولو قلت : لا تهينوني لجاز ، ومنه قول الفرزدق : [الطويل]

٦٨٤ ـ ألم تر أنّي يوم جوّ سويقة

دعوت فنادتني هنيدة : ما ليا (٣)

فأحرز المعنى ونكّب عن نداء هنيدة «ما لك»؟ ، وإما لأن ثمّ قولا آخر مضمرا بعد «قل» والتقدير ، قل يا محمد : قال الله «من كان عدوّا لجبريل فإنه نزله على قلبك» ، [وإليه نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله ، قل : ما تكلمات به من قولي : من كان عدوّا لجبريل ، فإنه نزله على قلبك](٤) فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر ، والقول المضمر معمول للفظ «قل» ، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ «قل» بالتأويل المذكور أولا ، ولا ينافيه قول الزمخشري ، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في «أنه» يحتمل معنيين :

الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك.

الثاني : فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك ، ودلت الآية على شرف جبريل ـ عليه‌السلام ـ وذمّ معاديه قاله القرطبي رحمه‌الله تعالى.

قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل : «نزله» إن قيل : إنه ضمير جبريل ، أو من مفعوله إن قيل : إن الضمير المرفوع في «نزل» يعود على الله ، والتقدير : فإنه نزل مأذونا له أو معه إذن الله ، والإذن في الأصل العلم بالشّيء ، والإيذان ، كالإعلام ، آذن به : علم به ، وآذنته بكذا : أعلمته به ، ثم يطلق على التمكين ، أذن في

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ١٥٣) كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه (٥٢) ومسلم (٣ / ١٢١٩ ـ ١٢٢٠) كتاب المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات حديث (١٠٧ ـ ١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ٦٥٣ ، الأغاني : ٢١ / ٢٧٥ ، الحماسة البصرية : ١ / ٢٥٦ ، والبحر : ١ / ٤٨٩ ، والدر المصون : ١ / ٣١٤ ، شواهد المغني : ٢ / ٨٣٣ ، والمنصف : ٣ / ١١٧ ، وجمهرة اللغة : ص ٨٥٣ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤١٤.

(٤) سقط في أ.


كذا : أمكنني منه ، وعلى الاختيار ، فعلته بإذنك : أي باختيارك ، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.

قال ابن الخطيب (١) : تفسير الإذن هنا بالأمر أي بأمر الله ، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :

أولها : أنّ الإذن حقيقة في الأمر ، ومجاز في العلم ، واللّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.

وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.

وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً) حال من الهاء في «نزّله» إن كان يعود الضمير على القرآن ، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، والتقدير : فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقا.

الثاني : أن يكون من جبريل بمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل ، وهي حال مؤكدة ، والهاء في «بين يديه» يجوز أن تعود على «القرآن» أو على «جبريل».

وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ لا يخصّ كتابا دون كتاب ، ومنهم من خصّه بالتوراة ، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب فلم صار مصدقا لها؟

فالجواب : أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد وأصول الدين.

قوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى) حالان معطوفان على الحال قبلهما ، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل ، أو على المبالغة أو على حذف مضاف أي : ذا هدى و «بشرى» ألفها للتأنيث ، وجاء هذا التّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقا للترتيب الوجودي ، وذلك أنه نزل مصدّقا للكتب ؛ لأنها من ينبوع واحد ، وحصلت به الهداية بعد نزوله ، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية ، وخصّ المؤمنين ، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله : بشرى للمتقين ، أو لأن البشرى لا تكون إلّا للمؤمنين ؛ لأن البشرى هي الخبر الدّال على الخير العظيم ، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا :) الكلام في «من» كما تقدم ، إلّا أن الجواب هنا يجوز أن يكون (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

فإن قيل : وأين الرّابط؟ فالجواب من وجهين :

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٧٩.


أحدهما : أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر ، وكان الأصل : فإن الله عدوّ لهم ، فأتى بالظّاهر تنبيها على العلة.

والثاني : أن يراد بالكافرين العموم ، والعموم من الرّوابط ، لاندراج الأول تحته ، ويجوز أن يكون محذوفا تقديره : من كان عدوّا لله فقد كفر ونحوه.

وقال بعضهم : الواو في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) بمعنى «أو» ، قال : لأن من عادى واحدا من هؤلاء المذكورين ، فالحكم فيه كذلك.

وقال بعضهم : هي للتفصيل ، ولا حاجة إلى ذلك ، فإن هذا الحكم معلوم ، وذكر جبريل وميكال بعد اندراجهما أولا تنبيه على فضلهما على غيرهما من الملائكة ، وهكذا كلّ ما ذكر خاص بعد عام ، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما ؛ لأن الذي جرى بين الرّسول وبين اليهود هو ذكرهما ، والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جرم نصّ على اسميهما ، واعلم أنّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة ، وبعضهم يسمي هذا النوع بالتجريد ، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصا له بمزية ، وهذا الحكم ـ أعني ذكر الخاصّ بعد العام ـ مختصّ بالواو ولا يجوز في غيرها من حروف العطف.

وجعل بعضهم مثل هذه الآية ـ أعني : في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفا له ـ قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] وهذا فيه نظر ، فإن «فاكهة» من باب المطلق ؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات ، وليست من العموم في شيء ، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صدق اللّفظ على ما يحتمله ، ثم نص عليه فصحيح ، وأتى باسم الله ظاهرا في قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ ؛) لأنه لو أضمر فقيل : «فإنه» لأوهم عوده على اسم الشرط ، فينعكس المعنى ، أو عوده على ميكال ؛ لأنه أقرب مذكور.

وميكائيل اسم أعجمي ، والكلام فيه كالكلام في «جبريل» من كونه مشتقّا من ملكوت الله عزوجل ، أو أن «ميك» بمعنى عبد ، و «إيل» اسم الله ، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج ، وقد عرف الصحيح من ذلك.

وفيه سبع لغات : «ميكال» بزنة «مفعال» وهي لغة «الحجاز» ، وبها قرأ أبو عمر (١) وحفص عن عاصم ، وأهل «البصرة» ؛ قالوا : [البسيط]

__________________

(١) انظر في قراءات «ميكائيل» واللغات الواردة فيها :

الشواذ : ٨ ، والسبعة : ١٦٥ ، وحجة القراءات : ١٠٧ ، ١٠٨ ، والعنوان : ٧١ ، والحجة : ٢ / ١٦٣ ، ١٦٤ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٢ ، ٥٣ ، وشرح شعلة : ٢٧١ ، والدر المصون : ١ / ٣١٥ ، ٣١٦.


٦٨٥ ـ ويوم بدر لقيناكم لنا عدد

فيه مع النّصر ميكال وجبريل (١)

وقال جرير : [الكامل]

٦٨٦ ـ عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا (٢)

الثانية : كذلك ، إلّا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وأهل «المدينة» بهمزة واختلاس ميكائيل.

الثالثة : كذلك ، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن «ميكائيل» ، وهي قراءة الباقين.

الرابعة : ميكئيل مثل ميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن.

الخامسة : كذلك ، إلّا أنه لا ياء بعد الهمزة ، فهو مثل : ميكعل ، وقرىء بها.

السادسة : ميكاييل بياءين بعد الألف ، وبها قرأ الأعمش.

السابعة : ميكاءل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال : «إسراءل» ، وحكى الماورديّ عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن «جبر» بمعنى عبد بالتكبير ، و «ميكا» بمعنى عبيد بالتصغير ، فمعنى جبريل : عبد الله ، ومعنى ميكائيل : عبيد الله قال : ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.

وقال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وزاد بعض المفسّرين : وإسرافيل عبد الرحمن.

قال النحاس : ومن قال : «جبر» عبد ، و «إل» الله وجب عليه أن يقول : هذا جبرئل ، ورأيت جبرئل ، ومررت بجبرئل ، وهذا لا يقال ، فوجب أن يكون مسمى بهذا.

وقال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفا ، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.

قال ابن الخطيب (٣) : يجب أن يكون جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أفضل من ميكائيل لوجوه :

أحدها : أنه قدمه في الذّكر ، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا.

وثانيها : أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم ، وهو مادة بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٦ ، الحجة لأبي زرعة : (١٠٨) ، القرطبي : ٢ / ٣٨ ، معالم التنزيل : ١ / ٩٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٦.

(٢) ينظر ديوانه : (٣٣٩) ، البحر المحيط : ١ / ٤٨٦ ، القرطبي : (٢ / ٢٨) ، إعراب القرآن للزجاج : ٨٦٨ ، الطبري : ١ / ٣٤٦ ، مجمع البيان : ١ / ٣٧٤ ، والدر المصون : ٢ / ٣١٣.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٠.


وثالثها : قوله ـ تعالى ـ في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢١] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فوجب أن يكون أفضل منه.

فإن قيل : حقّ العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟

فالجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلّا فينا ؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المضارّ به ، وذلك محال على الله ـ تعالى ـ بل المراد أحد وجهين : إما أن يعادوا أولياء الله ، فيكون ذلك عداوة لله ، كقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] ، وكقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذيّة عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته ، وبعدهم عن الطريقة ، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ) (٩٩)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفون لنا صفته.

فقال ابن صوريا : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الآيات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (١) ، والمرادة بالآيات البينات : آيات القرآن مع سائر الدّلائل من المباهلة ، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو : إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل [ونبع](٢) الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.

وقال بعضهم : الأولى تخصيص ذلك بالقرآن ، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن.

فإن قيل : الإنزال عبارة عن تحريك الشّيء من أعلى إلى أسفل ، وذلك محقّق في الأجسام ، ومحال في الكلام.

فجوابه : أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٨١) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٦).

(٢) في ب : ونبوع.


قوله تعالى : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) هذا استثناء مفرّغ ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب.

والكفر بها من وجهين :

الأول : جحودها مع العلم بصحتها.

والثاني : جحودها مع الجهل ، وترك النظر فيها ، والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظّاهر تخصيص ، فيدخل الكل فيه.

قال ابن الخطيب (١) : والفسق في اللّغة : خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠].

وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها : فسقت النواة ، وقد يقرب من معناه الفجور ؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد ، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السّد حتى صار إلى حيث يفسد.

فإن قيل : أليس صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ، ولا يوصف بالفسق والفجور؟

قلنا : إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا ؛ لأن من فتح من النهر نقبا يسيرا لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر ، وكذلك الفسق إنما يقال إذا عظم التعدّي ، إذا ثبت هذا فنقول : في قوله : (إِلَّا الْفاسِقُونَ) وجهان :

أحدهما : أن كل كافر فاسق ، ولا ينعكس ، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره ، فكان أولى.

الثاني : أن يكون المراد ما يكفر بها إلّا الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره ، والمعنى : أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلّا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى ، والأحسن في الجواب أن يقال : إنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَما يَكْفُرُ بِها) أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال.

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠٠)

الجمهور على تحريك واو «أوكلما» ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال : فقال الأخفش : إن الهمزة للاستفهام ، والواو زائدة ، وهذا على رأيه في جواز زيادتها.

وقال الكسائي هي «أو» العاطفة التي بمعنى «بل» ، وإنما حركت الواو.

ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة.

وقال البصريون : هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٢.


قال القرطبي : كما دخلت همزة الاستفهام على «الفاء» في قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) [المائدة : ٥٠] ، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) [يونس : ٤٢] ، (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) [الكهف : ٥٠].

وعلى «ثم» كقوله : (أَثُمَّ إِذا ما).

وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئا يعطف عليه ما بعده ، لذلك قدره هنا : أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا.

وقرأ أبو السّمال العدوي (١) : «أو كلما» ساكنة الواو ، وفيها ثلاثة أقوال : فقال الزمخشري : إنها عاطفة على «الفاسقين» ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا ، يعني به : أنه عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه في تأويله كقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] أي : الذين اصّدّقوا وأقرضوا.

وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى.

وقال المهدوي : «أو» لانقطاع الكلام بمنزلة «أم» المنقطعة ، يعني أنها بمعنى «بل» ، وهذا رأى الكوفيين ، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله : [الطويل]

٦٨٧ ـ ..........

 ... أو أنت في العين أملح(٢)

في أول السورة.

وقال بعضهم : هي بمعنى «الواو» فتتفق القراءتان ، وقد وردت «أو» بمنزلة «الواو» كقوله : [الكامل]

٦٨٨ ـ ..........

ما بين ملجم مهره أو سافع (٣)

(خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢] (آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] فلتكن [هنا](٤) كذلك ، وهذا أيضا رأي الكوفيين.

والناصب ل «كلّما» بعده ، وقد تقدم تحقيق القول فيها ، وانتصاب «عهدا» على أحد وجهين : إما على المصدر الجاري على غير الصدر وكان الأصل : «معاهدة» أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى «أعطوا» ويكون المفعول الأول محذوفا ، والتقدير : عاهدوا الله عهدا.

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٢ ، والدر المصون : ١ / ٣١٦

(٢) تقدم برقم ٢٢٧.

(٣) عجز بيت لحميد بن ثور صدره :

قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم

ينظر شواهد المغني : ١ / ٦٣ ، العيني : ٤ / ١٤٦ ، اللسان (سفع) ، شرح التصريح : ٢ / ١٤٦ ، شرح الأشموني : ٣ / ١٠٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٧.

(٤) في ب : هذه القراءة.


وقرىء (١) : «عاهدوا» فيكون «عهدا» مصدرا جاريا على صدره.

وقرىء أيضا (٢) : «عوهدوا» مبنيا للمفعول.

قال ابن الخطيب : المقصود من هذا الاستفهام ، الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، ودلّ قوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه ، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم ، فكأنه ـ تعالى ـ أراد تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم ، بل هو سجيّتهم وعادتهم ، وعادة سلفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة ، فلا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك. وفي العهد وجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ لما أظهر الدّلائل الدّالة على نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه ـ سبحانه وتعالى ـ وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

وثانيها : قولهم قبل مبعثه : لئن خرج النبي لنؤمنن به ، ولنخرجن المشركين من ديارهم [قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أخذ الله ـ تعالى ـ عليهم ، وعهد إليهم في محمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهد فنزلت هذه.

قال القرطبي (٣) : ويقال فيه : «ابن الصّيف» ويقال : «ابن الضّيف»](٤).

وثالثها : أنهم كانوا يعاهدون الله كثيرا وينقضونه.

ورابعها : قال عطاء : إن اليهود كانوا قد عاهدوه على ألّا يعينوا عليه أحدا من الكافرين ، فنقضوا ذلك ، وأعانوا عليه قريشا يوم «الخندق» [ودليله قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ)](٥) إنما قال : «نبذه فريق منهم» لأن في جملة من عاهد من آمن ، أو يجوز أن يؤمن ، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفيه قولان :

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٣١٧.

(٢) قرأ بها الحسن وأبو رجاء.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٢ ، والدر المصون : ١ / ٣١٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٠.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ٢٨.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.


الأول : أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبدا لحسدهم وبغيهم.

[والثاني : لا يؤمنون](١) أي : لا يصدقون بكتابهم ، لأنهم في قومهم كالمنافقين مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ، ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.

قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه من باب عطف الجمل ، وتكون «بل» لإضراب الانتقال لا الإبطال ، وقد [علم](٢) أن «بل» لا تسمّى عاطفة حقيقة إلا في المفردات.

الثاني : أنه يكون من عطف المفردات ، ويكون «أكثرهم» معطوفا على «فريق» ، و «لا يؤمنون» جملة في محلّ نصب على الحال من «أكثرهم».

وقال ابن عطيّة : من الضمير في «أكثرهم» ، وهذا الذي قاله جائز ، لا يقال : إنها حال من المضاف إليه ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، وذلك جائز.

وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفا.

والنّبذ : الطرح ومنه النّبيذ والمنبوذ ، وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز.

وقال بعضهم : النّبذ والطّرح والإلقاء متقاربة ، إلّا أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطّرح أكثر ما يقال في المبسوط والجاري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين ؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطّرح قوله : [الكامل]

٦٨٩ ـ إنّ الّذين أمرتهم أن يعدلوا

نبذوا كتابك واستحلّوا المحرما (٣)

وقال أبو الأسود : [الطويل]

٦٩٠ ـ وخبّرني من كنت أرسلت أنّما

أخذت كتابي معرضا بشمالكا

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (٤)

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

قال القرطبي : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) نعت للرّسول ، ويجوز نصبه على الحال.

واعلم أن معنى كون الرسول مصدقا لما معهم هو أنه كان معترفا بنبوّة موسى ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : عرفت.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٢٩ ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٠١ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٥٨ ، مجمع البيان : ١ / ٣٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

(٤) ينظر ديوانه : (٤٩) ، القرطبي : ٢ / ٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.


عليه الصّلاة والسّلام ـ وبصحة التوراة ، أو مصدقا لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقا للتوراة.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

والثاني : المراد من يدعي التمسّك بالكتاب ، سواء علمه أم لم يعلمه ، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [القرآن](١) لا يختص بذلك من يعرف علومه ، بل المراد من يؤمن به.

قوله تعالى : (الْكِتابَ كِتابَ اللهِ :) «الكتاب» مفعول ثان ل «أوتوا» ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين ، فأقيم الأول مقام الفاعل ، وهو «الواو» ، وبقي الثاني منصوبا ، [وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول](٢) و «كتاب الله» مفعول نبذ ، و «وراء» منصوب على الظرف وناصبه «نبذ» ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة ؛ تقول العرب : «جعل هذا الأمر وراء ظهره ، ودبر أذنه» أي : أهمله ؛ قال الفرزدق : [الطويل]

٦٩١ ـ تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي

بظهر فلا يعيا عليّ جوابها (٣)

والمراد بكتاب الله : القرآن.

وقيل : إنه التوراة لوجهين :

الأول : أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولا ، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال : إنهم نبذوه.

والثاني : أنه قال تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ولو كان المراد به : القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى ؛ لأنّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن.

فإن قيل : كيف يصحّ نبذهم التوراة ، وهم متمسّكون بها؟

قلنا : إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بنعته ، ووجوب الإيمان به ، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتّوراة.

قال السّدي ـ رحمه‌الله تعالى ـ نبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب «آصف» ، وسحر (هارُوتَ وَمارُوتَ)(٤).

قوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها : فريق ،

__________________

(١) في ب : الكتاب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : (٨٠) ، الأضداد : (٢٥٦) ، القرطبي : ٢ / ٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٠٤) عن السدي ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٢٤٧).


وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف ، والعامل فيها «نبذ» ، والتقدير : مشبهين للجهّال ، ومتعلق العلم محذوف تقديره : أنه كتاب الله لا يداخلهم فيه شكّ ، والمعنى : أنهم كفروا عنادا ؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة ؛ لأنه لا يقال ذلك إلّا فيمن يعلم.

قال ابن الخطيب (١) : ودلّت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم ، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المكابرة عليهم.

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) إلى آخرها.

وقال أبو البقاء : إنها معطوفة على «أشربوا» أو على «نبذ فريق» ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جوابا لقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ).

واتّباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتبا على مجيء الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بل كان اتباعهم لذلك قبله ، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم ، و «ما» موصولة ، وعائدها محذوف ، والتقدير : تتلوه.

وقيل : «ما» نافية ، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام ، [ذكره] ابن العربي.

و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع واقع موقع الماضي ؛ كقوله : [الكامل]

٦٩٢ ـ وإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الهجان وكلّ طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح (٢)

أي : فلقد كان.

وقال الكوفيون : الأصل : وما كانت تتلو الشياطين ، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة ، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر ، وإنما قصدوا تفسير المعنى ، وهو

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٤.

(٢) البيتان لزياد الأعجم. ينظر الأمالي للقالي : ٣ / ١١ ، ابن الشجري : ١ / ٣٠٤ ، الخزانة : ٤ / ١٩٢ ، القرطبي : ٢ / ٣٠ ، البيان في غريب القرآن : ١ / ١١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.


نظير : «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار ، وبقيامه في الزمن الماضي ، وقرأ الحسن (١) والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السّلامة ، قالوا : وهو غلط. وقال بعضهم : لحن فاحش.

وحكى الأصمعي «بستان فلان حوله بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن.

قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه على معنى «في» ، أي : في زمن ملكه ، والملك هنا شرعه.

والثاني : أن يضمن تتلو معنى تتقوّل أي : تتقول على ملك سليمان ، وتقوّل يتعدى بعلى ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ).

وهذا الثاني أولى ، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف ، وهو مذهب البصريين ـ كما تقدم ـ وإنما أحوج إلى هذين التأويلين ؛ لأن تلا إذا تعدّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئا يصحّ أن يتلى عليه نحو : تلوت على زيد القرآن ، والملك ليس كذلك.

قال أبو مسلم : «تتلو» أي : تكذب على ملك سليمان يقال : تلا عليه : إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران.

قال ابن الخطيب (٢) : أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف ، والتلاوة : الاتباع أو القراءة وهو قريب منه.

قال أبو العباس المقرىء : و «على» ترد على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى «في» كهذه الآية.

وبمعنى «اللام» ، قال تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] أي : للذي.

وبمعنى «من» ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) [المططفين : ٢] أي : من الناس يستوفون.

و «سليمان» علم أعجمي ، فلذلك لم ينصرف.

وقال أبو البقاء رحمه‌الله تعالى : «وفيه ثلاثة أسباب : العجمة والتّعريف والألف والنون» ، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه ، والتصريف حتى تعرف زيادتها ، وقد تقدّم أنهما لا يدخلان في الأسماء الأعجميّة ، وكرر قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) بذكره ظاهرا ؛ تفخيما له ، وتعظيما ؛ كقوله : [الخفيف]

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٤ ، والدر المصون : ١ / ٣١٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٠.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٥.


٦٩٣ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 .......... (١)

وقد تقدم تحقيق ذلك.

فصل في المراد بقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا)

المراد بقوله : (وَاتَّبَعُوا) هم اليهود.

فقيل : هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

وقيل : هم الذين كانوا في زمن سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السّحرة ؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا ، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر.

وقيل : إنه يتناول الكل وهو أولى.

قال السّدي : لما جاءهم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والفرقان ، فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب «آصف» وسحر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن ، فهذا هو قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السّحر.

واختلفوا في المراد من الشياطين.

فقال المتكلمون من المعتزلة : هم شياطين الإنس ، وهم المتمرّدون في الضلال ؛ كقول جرير: [البسيط]

٦٩٤ ـ أيّام يدعونني الشّيطان من غزلي

وكنّ يهوينني إذ كنت شيطانا (٢)

وقيل : هم شياطين الإنس والجن.

قال السدي : إن الشياطين كانوا يسترقون السّمع ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا : إن الجنّ تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم له ملكه إلّا بهذا العلم ، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره (٣).

وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالوا : روي أن سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصّه الله ـ تعالى ـ بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر ديوانه : ١ / ١٦٥ ، القرطبي : ٢ / ٣٠ ، مجمع البيان : ١ / ٣٩٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦) عن السدي ، وذكره ابن كثير في «التفسير» (١ / ٢٤٩).


إن هلك الظّاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السّحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان ، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلّا بسبب هذه الأشياء.

فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان

إنما أضافوا السّحر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لوجوه :

أحدها : أضافوه تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره ، وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم.

وثانيها : أن اليهود كانوا يقولون : إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما سخر الجن لسليمان ، فكان يخالطهم ، ويستفيد منهم أسرارا عجيبة غلب على الظنون أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ استفاد السحر منهم فقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تنزيه له ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الكفر ، وذلك يدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر ، فروي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يزعم أن سليمان كان نبيّا وما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، وروي أن السّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان ، فبرأه الله ـ تعالى ـ من ذلك ، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره ، وهو قوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ).

هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ما قبلها.

وقرأ ابن عامر (١) ، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها ، والباقون بالتشديد ، والنصب وهو واضح.

وأما القراءة الأولى ، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك ، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونقل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو» ، وكان ما بعدها مفردا وذهب يونس](٢) إلّا أنها لا تكون عاطفة وهو قوي ، فإنه لم يسمع في لسانهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وإن وجد ذلك في كتب النحاة (٣) فمن تمثيلاتهم ، ولذلك لم يمثل بها سيبويه ـ رحمه‌الله ـ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه.

وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو ، وتارة لا تقترن.

__________________

(١) انظر الكشف : ١ / ٢٥٦ ، والسبعة : ١٦٧ ، وحجة القراءات : ١٠٨ ، والحجة : ٢ / ١٦٩. ١٧٠ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٣ ، وشرح شعلة : ٢٧١ ، وإتحاف : ١ / ٤١٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : النحويين.


قال زهير : [البسيط]

٦٩٥ ـ إنّ ابن ورقاء لا تخشى بوادره

لكن وقائعه في الحرب تنتظر (١)

وقال الكسائي والفراء : الاختيار تشديدها إذا كان قبلها «واو» وتخفيفها إذا لم يكن ، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عطف ، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاث كلمات : لا النافية ، وكاف الخطاب ، وإن التي للإثبات ، وإنما حذفت الهمزة تخفيفا.

قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) «الناس» مفعول أول ، و «السّحر» مفعول ثان ، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال :

أحدها : أنها حال من فاعل «كفروا» أي معلّمين.

الثاني : أنها حال من الشياطين ، وردّه أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ بأن «لكن» لا تعمل في الحال ، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل.

الثالث : أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.

الرابع : أنها بدل من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل.

الخامس : أنها استئنافية ، أخبر عنهم بذلك ، هذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشّياطين.

أما إذا أعدناه على «الذين اتّبعوا ما تتلو الشّياطين» فتكون حالا من فاعل «اتبعوا» ، أو استئنافية فقط.

والسّحر : كلّ ما لطف ودقّ سحره ، إذا أبدى له أمرا يدقّ عليه ويخفى.

قال : [الطويل]

٦٩٦ ـ ..........

أداء عراني من حبابك أم سحر (٢)

ويقال : سحره : أي خدعه وعلّله ؛ قال امرؤ القيس : [الوافر]

٦٩٧ ـ أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطّعام وبالشّراب (٣)

__________________

(١) ينظر ديوانه : ٣٠٦ ، والجنى الداني : ص ٥٨٩ ، والدرر : ٦ / ١٤٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٠٣ ، واللمع : ١٨٠ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٩٢ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٧٨ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٣٨٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٢٧ ، والدر المصون : ١ / ٣١٩.

(٢) عجز بيت لأبي عطاء السندي وصدره :

فو الله ما أدري وإني لصادق

ينظر شواهد البحر : ١ / ٤٨٧ ، اللسان (حبب) ، الدر المصون : ١ / ٣٢٠.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٣) ، اللسان (سحر) ، البحر : ١ / ٤٨٧ ، مجمع البيان : ١ / ٣٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٠.


أي : نعلّل ، وهو في الأصل : مصدر يقال : سحره سحرا ، ولم يجىء مصدر ل «فعل» يفعل على فعل إلا سحرا وفعلا.

والسّحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه ، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم [ومنه قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحري ونحري](١) وهذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء.

ومنه قول تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب بدليل قولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٥٤] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.

وقال تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦].

وقال تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التّمويه والخداع ، وهو عند الإطلاق يذم فاعله ، ويستعمل مقيدا فيما يمدح وينفع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ من البيان لسحرا».

فسمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض البيان سحرا ؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته ، فعلى [هذا] يكون قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ من البيان لسحرا» (٢) خرج مخرج المدح.

وقال جماعة من أهل العلم : خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (١٠ / ٥٣٧) عن أبي بن كعب بلفظه كتاب الأدب (٧٨) باب ما يجوز من الشعر (٩٠) حديث رقم (٦١٤٥) وأخرجه أبو داود في السنن (٤ / ٣٠٣) كتاب الأدب (٣٥) باب ما جاء في الشعر (٩٥) حديث رقم (٥٠١٢) واللفظ له وأحمد في المسند (١ / ٢٦٩ ، ٢٧٣ ، ٣٠ ، ٣٠٩ ، ٣١٣ ، ٣٢٧) (٥ / ١٢٥) ـ والدارمي في السنن (٢ / ٢٩٧) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٠٠٩ ، ٢٠١٧) ـ والبيهقي في السنن (٥ / ٦٨) ، (١٠ / ٢٣٧ ، ٢٤١) ـ والطبراني في الكبير (١٠ / ٢٠٧) ، (١١ / ٨٧) ، (١٢ / ٢٠٠) ، (١٧ / ١٩) ـ وابن أبي شيبة (٨ / ٥٠٤ ، ٥٠٥) ـ وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٣٠٩) ـ والخطيب في التاريخ (١٣ / ١٢٢) ـ وابن عساكر (٢ / ٤٤٤) ، (٥ / ٣٢٠) ، (٦ / ٣٦٠٥).

(٣) متفق عليه من رواية أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فقد أخرجه البخاري في الصحيح (١٢ / ٣٣٩) كتاب الحيل (٩٠) باب (١٠) وهو ما قبل باب في النكاح (١١) حديث رقم (٦٩٦٧) واللفظ له.

وأخرجه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٣٧) كتاب الأقضية (٣٠) باب الحكم بالظاهر (٣) حديث رقم (٤ / ١٧١٣). ـ


وقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ أبغضكم إليّ الثّرثارون المتفيهقون» (١).

[الثرثرة : كثرة الكلام وتردده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار والمتفيهق نحوه](٢) قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّع وتنطّع ، قال : «وأصله الفهق ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان ، فقالا : أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من البيان لسحرا» ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانه ، فيذهب بالحق ، وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق.

فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سحرا ، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟

فالجواب : إنما سمي السّحر سحرا لوجهين :

الأول : أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب ، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.

الثاني : أنّ القادر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا ، وتقبيح ما يكون حسنا فأشبه السحر من هذا الوجه.

فصل في ماهية السحر

قال بعض العلماء : إن السّحر تخيّل لا حقيقة له ، لقوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦].

وقيل : إنه حقيقة ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر ، وحلت عقوده ، وكلما انحلت عقدة خفّ عنه عليه‌السلام إلى أن سار كما نشط من عقال.

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٣٥٨٣) ـ والموطأ (٧١٩) والبيهقي في السنن (١٠ / ١٤٩) ـ والخطيب في التاريخ (٤ / ١٠٠) ، (٧ / ١٧٩) ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٠٣ وابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٣٣٩ ، ١٣ / ١٥٧.

(١) أخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٣٢٥ كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في معالي الأخلاق (٧١) حديث رقم ٢٠١٨.

وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٣ عن أبي ثعلبة الخشني ولفظه : (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساوئكم أخلاقا ؛ الثرثارون والمتفيهقون المتشدقون) ، وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ٤٥.

(٢) سقط في ب.


وذهب ابن عمر إلى «خيبر» ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده ، فأجلاهم عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجاءت امرأة لعائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت : يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بعيرها ، فقالت عائشة : ليس عليها شيء ، فقالت : إني عقلت زوجي عن النساء ، فقالت عائشة : أخرجوا عني هذه الساحرة.

وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنّ من السحر ما هو تخيّل ، وغير تخيل.

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ قال في حقّه عليه‌السلام : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فكيف أثر فيه السحر؟

فالجواب أن قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية ، فإنه ـ عليه‌السلام ـ قد سحر وكسرت رباعيته ، ورمي عليه الكرش والثرب ، وآذاه جماعة من قريش.

قال ابن الخطيب (١) : السّحر على أقسام :

الأول : سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة ، وهم الذين بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبطلا لمقالتهم ورادّا عليهم وهم ثلاث فرق :

الأولى : الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها ، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق ، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد ، وهم الصّابئة الدهرية.

والفريق الثاني : القائلون بإلاهية الأفلاك ، قالوا : إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها ، فعبدوها وعظّموها ، واتخذوا لكل واحد منها هيكلا مخصوصا وصنما معينا ، واشتغلوا بخدمتها ، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان.

والفريق الثالث : الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنّجوم فاعلا مختارا خلقها وأوجدها بعد العدم إلّا أنهم قالوا : إن الله ـ تعالى عزوجل ـ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوض تدبير هذا العالم إليها.

النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام ، والنفوس القوية.

النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية.

واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة.

أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية ،

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٩.


وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ، ومنها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم.

النوع الرابع : التخيّلات والأخذ بالعيون ، وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السّفينة ينظر السفينة واقفة والشّط متحركا ، وذلك يدلّ على أن السّاكن متحرك والمتحرك يرى ساكنا ، والقطرة النازلة ترى خطّا مستقيما ، والذّبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة ، والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجّاصة ، والشخص الصغير يرى في الضّباب عظيما.

النوع الخامس : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النّصب الهندسية مثل صورة فارس على فرس في يده بوق ، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يمسه أحد ، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وضحك الخجل ، وضحك الشّامت ، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق السّاعات ، ويندرج في هذا الباب علم جرّ الأثقال وهو أن يجر ثقلا عظيما بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها.

النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة.

النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدعي السّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم ، وأن الجن تطيعه ، وينقادون له ، فإذا كان السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلّق قلبه بذلك ، وحصل في نفسه نوع من الرّعب والخوف ، فحينئذ يمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء.

فصل في مذهب الشافعي في السحر

حكي عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : السحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقّاه الساحر منه بتعليمه إيّاه ، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره.

وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان ، والأصح أن ذلك تخييل.

قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطّباع والنفوس ، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [وربما يحمّ منه](١) ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلل التي تؤثر في الأبدان.

__________________

(١) سقط في ب.


فصل في خرق الساحر للعادات

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق ، وزوال عقل وتعويج عضو ، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.

قالوا : ولا يبعد في السّحر أن يستدقّ جسم السّاحر حتى [يلج](١) في الكوّات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كلب وغير ذلك.

ولا يكون السحر علة لذلك ، ولا موجبا له ، وإنما [يخلق] الله ـ تعالى ـ هذه الأشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرّي عند شرب الماء [روى سفيان عن عمار الدهني أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ، ويخرج من فيه ، فاستل جندب (٢) السيف فقتله.

__________________

(١) في ب : يتولج.

(٢) جندب بن عبد الله ، ويقال : جندب بن كعب ، أبو عبد الله الأزدي ، صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي عن النبيّ ، وعن عليّ ، وسلمان الفارسي.

حدّث عنه : أبو عثمان النّهديّ ، والحسن البصريّ ، وتميم بن الحارث ، وحارثة بن وهب.

قدم دمشق ، ويقال له : جندب الخير ، وهو الذي قتل المشعوذ.

روى خالد الحذّاء ، عن أبي عثمان النهدي : أنّ ساحرا كان يلعب عند الوليد بن عقبة الأمير ، فكان يأخذ سيفه ، فيذبح نفسه ولا يضرّه ، فقام جندب إلى السيف فأخذه ، فضرب عنقه ، ثم قرأ : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣].

أخرجه الطبراني برقم (١٧٢٥) من طريق محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا خالد الحذّاء ، وهو في «تهذيب ابن عساكر» ٣ / ٤١٣ ، وذكره المؤلف في «تاريخ الإسلام» ٣ / ٣ ، وقال : إسناده صحيح ، وأخرجه الدار قطني ٣ / ١١٤ إلا أنه قال جندب البجلي.

وروى إسماعيل بن مسلم : عن الحسن ، عن جندب الخير ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدّ السّاحر ضربه بالسيف».

ضعيف لضعف إسماعيل بن مسلم وهو المكي ، وهو في «سنن الترمذي» (١٤٦٠) في الحدود ، و «المستدرك» ٤ / ٤٦٠ ، و «الدار قطني» ٣ / ١١٤. قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، إسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث ، والصحيح عن جندب موقوف ، وضعّفه أيضا الحافظ في «الفتح» وقال المؤلف في «الكبائر» ص ٤٦ : الصحيح أنه من قول جندب. وقد أخرجه الطبراني (١٦٦٦) من طريق جندب البجلي ، فأخطأ.

وروي ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ؛ أن الوليد كان بالعراق ، فلعب بين يديه ساحر ، فكان يضرب رأس الرجل ، ثم يصيح به ، فيقوم خارجا ، فيرتدّ إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان من الغد ، اشتمل على سيفه ، فذهب ليلعب ، فاخترط الرجل سيفه ، فضرب عنقه ، وقال : إن كان صادقا ، فليحي نفسه ، فسجنه الوليد ، فهرّبه السّجّان ؛ لصلاحه. ـ


هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال : البجلي وهو الذي قال في حقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون في أمّتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسّيف يفرق فيها بين الحقّ والباطل» (١) فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل السّاحر.

قال علي بن المديني : وروى عنه حارثة بن مضرّب](٢).

فصل في إمكان السحر

واختلف المسلمون في إمكان السحر ، فأما المعتزلة فقد أنكروه ـ أعني : الأقسام الثلاثة الأولى ـ ولعلهم كفّروا من قال بها وبوجودها.

أما أهل السّنة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا ؛ إلّا أنهم قالوا : إن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلمات معينة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢].

وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام سحر ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : «إنّه ليخيّل إليّ أنّي أقول الشّيء وأفعله ولم أفعله» (٣).

وأن امرأة يهودية سحرته ، وجعلت ذلك السحر تحت راعونة البئر ، فلما استخرج

__________________

ـ وعن أبي مخنف لوط ، عن خاله ، عن رجل ، قال : جاء ساحر من «بابل» ، فأخذ يري الناس الأعاجيب ، يريهم حبلا في المسجد ، وعليه فيل يمشي ، ويري حمارا يشتدّ ؛ حتى يجيء فيدخل في فمه ، ويخرج من دبره ، ويضرب عنق رجل ، فيقع رأسه ، ثم يقول له : قم ، فيعود حيّا ، فرأى جندب ابن كعب ذلك ، فأخذ سيفا ، وأتى والناس مجتمعون على الساحر ، فدنا منه فضربه ، فأذرى رأسه ، وقال : أحي نفسك ، فأراد الوليد بن عقبة قتله ، فلم يستطع ، وحبسه.

وجندب بن عبد الله بن زهير ، وقيل : جندب بن زهير بن الحارث الغامدي الأزدي الكوفي. قيل : له صحبة وما روى شيئا ، شهد «صفّين» مع عليّ أميرا ، كان على الرّجّالة ، فقتل يومئذ.

وقال أبو عبيد : جندب الخير : هو جندب بن عبد الله بن ضبّة ، وجندب بن كعب : هو قاتل الساحر ، وجندب بن عفيف ، وجندب بن زهير قتل ب «صفّين» ، وكان على الرّجّالة ؛ فالأربعة من الأزد.

وجندب بن جندب بن عمرو بن حممة الدوسي الأزدي ، قتل يوم «صفّين» مع معاوية ، نقله ابن عساكر ، وأنّ جدّه من المهاجرين.

ينظر تهذيب التهذيب : ١ / ١١١ ، تاريخ الإسلام : ٣ / ٣ ، الإصابة : ١ / ٢٥٠ ، خلاصة تهذيب الكمال : ٥٥ ، تهذيب ابن عساكر : ٣ / ٤١٣ ، وسير أعلام النبلاء : ٣ / ١٧٥ ـ ١٧٧.

(١) ذكره القرطبي في تفسيره : ٢ / ٤٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٢٥٠) كتاب الطب باب السحر وقول الله .... حديث رقم (٥٧٦٣) ، (٨ / ٣٤) كتاب الأدب باب قول الله تعالى : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ....» حديث رقم (٦٠٦٣).

وذكره الفخر الرازي في التفسير ٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤.


ذلك زال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العارض ، ونزلت المعوّذتان بسببه.

وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها : فقالت لها : إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة : وما سحرك؟ فقالت : صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب «بابل» أطلب علم السحر ، فقالا لي : يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئا فقالا لي : أنت على رأس أمر ، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي : اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارسا مقنّعا بالحديد قد خرج من فرجي ، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك قد خرج عنك ، وقد أحسنت السحر.

فقلت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئا فتصوّريه في وهمك إلا كان ، فصورت في نفسي حبا من حنطة فإذا أنا بحبّ فقلت : انزرع فانزرع ، فخرج من ساعته سنبلا فقلت : انطحن فانطحن من ساعته ، فقلت : انخبز فانخبز ، وأنا لا أريد شيئا أصوره في نفسي إلا حصل ، فقالت عائشة : ليس لك توبة (١).

فصل في أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم‌السلام ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي به الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد ، والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها.

فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور

قال ابن الخطيب : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحا ولا بمحظور ؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضا لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، [وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا] كيف يكون حراما وقبيحا. [ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به في وجوب القصاص](٢).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ١٥٥ ـ ١٥٦) والطبري في «التفسير» (٢ / ٤٤٠ ـ ٤٤١) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١).

وقال ابن كثير عقبه : فهذا إسناد جيد إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ.

(٢) سقط في ب.


فصل في أمور لا تكون من السحر ألبتة

قد تقدم عن القرطبي قوله : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [وإنطاق العجماء](١) ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم‌السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في تفسيره ، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، فأخبر عن إقلاب العصيّ والحبال بأنها حيّات.

فصل في أن الساحر كافر أم لا؟

اختلف العلماء في الساحر هل يكفر أو لا؟

اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم ، وهي [الخالقة](٢) لما فيه من الحوادث ، فإنه يكون كافرا مطلقا ، وهو النوع الأول من السحر.

وأما النوع الثاني : وهو أن يعتقد [أن الإنسان تبلغ روحه](٣) في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل ، [فالظاهر](٤) إجماع الأمة أيضا على تكفيره.

وأما النوع الثالث : وهو أن يعتقد السّاحر أنه [بلغ](٥) في التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأودية إلى حيث يخلق الله ـ تعالى ـ عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه.

فإن قيل : إن اليهود لما أضافوا السّحر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال الله تعالى تنزيها له عنه : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ) [البقرة : ١٠٢] فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر ؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر ، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر ، وأيضا قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢].

قلنا : حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة ، فيحمل على سحر من يعتقد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : الجاعلة.

(٣) في ب : أنه قد يبلغ روح الإنسان.

(٤) في ب : فالأظهر.

(٥) في ب : قد يبلغ.


إلاهية النجوم وأيضا فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، بل المعنى أنهم كفروا ، وهم مع ذلك يعلمون السحر.

فصل في سؤال الساحر حلّ السحر عن المسحور

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟

اختلفوا : فقال سعيد بن المسيّب : يجوز. ذكره «البخاري» ، وإليه مال المزني ، وكرهه الحسن البصري.

وقال الشعبي : لا بأس بالنّشرة.

قال ابن بطّال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر ويدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيّد للرجل إذ حبس عن أهله.

فصل في أن الساحر هل يقتل أم لا؟

هل يجب قتل الساحر أم لا؟

أما النوعان الأولان فلا شكّ في [قتل](١) معتقدهما.

قال ابن الخطيب (٢) : يكون كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل.

وروي عن مالك وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهما ـ توبته.

لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه الصلاة والسلام : «نحن نحكم بالظّاهر».

وأما النوع الثالث : فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر ؛ لأنه حكم على المحظور بكونه مباحا ، وإن اعتقد حرمته ، فعند الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ حكمه حكم الجناية ، إن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالبا ، يجب عليه القود.

وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد.

وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدّية مخففة في ماله ؛ لأنه ثبت بإقراره إلّا أن تصدقه العاقلة ، فحينئذ يجب عليهم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه.

وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : يقتل السّاحر إذا علم أنه ساحر ، ولا يستتاب ولا يقبل قوله : إني أترك السحر وأتوب منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا

__________________

(١) في أ : كفر.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٩٥.


يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة ، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ، ولم يقتل.

وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال : سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في السّاحر : يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد ، فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ، ومن كان كذلك إذا قتل قتل. واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر ، فهو فسق ، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفصيل المتقدم.

وأيضا فإن ساحر اليهود لا يقتل ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سحره رجل من اليهود يقال له : لبيد بن أعصم ، وامرأة من يهود «خيبر» يقال لها : زينب فلم يقتلهما ، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».

واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن جارية لحفصة سحرتها ، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد ، فقتلها فبلغ ذلك عثمان ، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك ، لأنها قتلت بغير إذن ، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر».

والجواب : لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة ، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة ، وأما بقية [أنواع](١) السحر من الشّعوذة ، والآلات العجيبة المبنية على النسب الهندسية ، وأنواع التخويف ، والتقريع والوهم ، فكل ذلك ليس بكفر ، ولا يوجب القتل.

قوله : (وَما أُنْزِلَ) فيه أربعة أقوال :

أظهرها : أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» محلّها النصب عطفا على «السحر» ، والتقدير : يعلّمون الناس السحر ، والمنزل على الملكين.

الثاني : أنها موصولة أيضا ، ومحلها النصب لكن عطفا على (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، والتقدير : واتبعوا ما تتلو الشياطين ، وما أنزل على الملكين. وعلى هذا فما بينهما اعتراض ، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا.

الثالث : أن «ما» حرف نفي ، والجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها ، وهي «وما كفر سليمان» والمعنى : وما أنزل على الملكين إباحة السحر.

قال القرطبي : و «ما» نافية (٢) ، والواو للعطف على قوله : [(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ،

__________________

(١) في ب : الآت.

(٢) في ب : نفى.


وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل ، وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك.

وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما كفر سليمان](١) ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السّحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشّياطين في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) قال : وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة في حالة طمثهن ؛ قال الله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق : ٤].

فإن قيل : كيف يكون اثنان بدلا من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة :

الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ؛ كما قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء : ١١].

الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠].

الثالث : إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما ، كتخصيصه ـ تعالى ـ النخل [والرمان](٢) في قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) [آل عمران : ٦٨] وإما لطيبه كقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وإما لأكثريته ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» (٣) وإما لتمردهم كهذه الآية.

الرابع : أن محلّها الجر عطفا على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) ، والتقدير : افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم.

وقال أبو البقاء : «تقديره» وعلى عهد الّذي أنزل.

واحتج أبو مسلم : بأن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى ، وذلك غير

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة :

حديث أبي هريرة ولفظه : (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).

أخرجه مسلم (٢ / ٦٤) وأبو عوانة (١ / ٣٩٥) والترمذي (١ / ٢٩٣) وأحمد (٢ / ٤١٢) وابن ماجه (٥٦٧).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

حديث جابر ولفظه : (أعطيت خمسا .... وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).

أخرجه البخاري (١ / ٩٣) والنسائي (١ / ٧٣) ، (٤ / ١٢٠) والدارمي (١ / ٣٢٢) والبيهقي (١ / ٢١٢).

حديث أبي ذر :

أخرجه الدارمي (٢ / ٢٢٤) وأحمد (٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦١) وأبو داود (٤٨٩).


جائز ، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السّحر ، كذلك في الملائكة بطريق الأولى.

وأيضا فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

وأيضا فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة ، فكيف يضاف إلى الله ـ تعالى ـ ما ينهى عنه؟ والمعنى : أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه ، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر ، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر ؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين ، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) توكيدا لبعثهم على [قبوله](١) والتمسّك به ، فكانت طائفة تتمسّك ، وأخرى تخالف.

قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : والأول أولى ؛ لأن عطف «وما أنزل» على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل ، أما قوله : «لو كان منزلا عليهما لكان منزّله هو الله تعالى».

قلنا : تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود ، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه ؛ قال : [الهزج]

٦٩٨ ـ عرفت الشّرّ لا للشّر

ر لكن لتوقّيه (٢)

وقوله : لا يجوز بعثة الأنبياء [لتعليم السحر ، فكذا الملائكة](٣).

قلنا : الغرض من ذلك التعليم التّنبيه على إبطاله.

وقوله : «تعليم السّحر كفر».

قلنا : إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة.

وقوله : يضاف السحر للكفرة والمردة.

قلنا : فرق بين العمل والتعليم ، فيجوز أن يكون العمل منبها عنه ، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأمورا به.

والجمهور على فتح لام «الملكين» على أنهما من الملائكة.

وقرأ ابن عباس (٤) وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس ، وسيأتي تقريره.

__________________

(١) في ب : القبول.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ٣٠١ ، الفخر الرازي : ٣ / ٢١٨.

(٣) في أ : لتعلمه.

(٤) وبها قرأ ابن أبزى.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.


قوله : «ببابل» متعلق ب «أنزل» ، والباء بمعنى «في» أي : في «بابل». ويجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال من الملكين ، أو من الضمير في «أنزل» فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رحمه‌الله.

و «بابل» لا ينصرف للعجمة والعلمية ، فإنها اسم أرض ، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل : لتبلبل ألسنة الخلائق بها ، وذلك أن الله ـ تعالى ـ أمر ريحا ، فحشرتهم بهذه الأرض ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة ، والبلبلة التفرقة.

وقيل : لما أهبط نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ نزل فبنى قرية ، وسماها «ثمانين» ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة.

وقيل : لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.

وهي بابل «العراق».

وقال ابن مسعود : «بابل» أرض «الكوفة».

وقيل : «جبل نهاوند» (١).

قوله : (هارُوتَ وَمارُوتَ) الجمهور على فتح تائها.

واختلف النحاة في إعرابها ، وذلك مبني على القراءتين في «الملكين» ، فمن فتح لام «الملكين» ، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه :

أظهرها : أنها بدل من «الملكين» ، وجرّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية.

الثاني : أنهما عطف بيان لهما.

الثالث : أنهما بدل من «الناس» في قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وهو بدل بعض من كل ، أو لأن أقل الجمع اثنان.

الرابع : أنهما بدل من «الشياطين» في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) في قراءة من نصب ، وتوجيه البدل كما تقدم.

وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن ، فيكون بدل كل من كل ، والفتحة على هذين القولين للنصب.

وأما من قرأ برفع «الشياطين» (٢) ، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلا منهم ، بل يكون منصوبا في هذا القول على الذم أي : أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها ؛ كقوله: [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٣٦) عن السدّي.

(٢) وقد قرأ بالرفع الحسن ، والزهري.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.


٦٩٩ ـ أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (١)

أي : أذم وجوه قرود ، ومن كسر لامهما ، فيكون بدلا منهما كالقول الأول إلّا إذا فسر الملكان بداود وسليمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كما ذكره بعض المفسرين ، فلا يكونان بدلا منهما ، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجهين السّابقين في رفع الشياطين ونصبه ، أو يكونان بدلا من «النّاس» كما تقدم.

وقرأ الحسن «هاروت وماروت» برفعهما ، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي : هما هاروت وماروت ، ويجوز أن يكون بدلا من «الشياطين» الأولى وهو قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، أو الثاني على قراءة من رفعه.

ويجمعان على هواريت ومواريت ، وهوارتة وموارتة ، وليس من زعم اشتقاقهما من الهرت والمرت وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما ، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا.

فصل في توجيه قراءة فتح اللام

أما القراءة بفتح لام «الملكين» ، فقيل : هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت.

وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام.

وقيل غيرهما.

وأما من كسر اللام فقيل : إنهما اسم لقبيلتين من الجن.

وقيل : هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.

وقيل : هما رجلان صالحان.

وقيل : كانا رجلين ساحرين.

وقيل : كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر.

قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) هذه الجملة عطف على ما قبلها ، والجمهور على «يعلّمان» مضعفا.

واختلف فيه على قولين :

أحدهما : أنه على بابه من التعليم.

والثاني : أنه بمعنى يعلمان من «أعلم» ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان.

قالوا : لأن الملكين لا يعلمان الناس السحر ، إنما يعلمانهم به ، وينهيانهم عنه ،

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه : ص ٣٤ ، وخزانة الأدب : ٢ / ٤٤٦ ، ٤٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٤٦ ، والكتاب : ٢ / ٧٠ ، ٧١ ، ولسان العرب : ٨ / ٦١ (جدع) ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.


وإليه ذهب طحلة بن مصرف ، وكان يقرأ (١) «يعلمان» من الأعلام.

ومن حكى أن تعلّم بمعنى «اعلم» ابن الأعرابي ، وابن الأنباريّ ؛ وأنشدوا قول زهير : [البسيط]

٧٠٠ ـ تعلّمن ها ـ لعمر الله ـ ذا قسما

فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (٢)؟

وقول القطاميّ : [الوافر]

٧٠١ ـ تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا

وأنّ لذلك الغيّ انقشاعا (٣)

وقول كعب بن مالك : [الطويل]

٧٠٢ ـ تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد (٤)

وقول الآخر : [الوافر]

٧٠٣ ـ تعلّم أنّه لا طير إلّا

على متطيّر وهو الثّبور (٥)

والضمير في «يعلمان» فيه قولان :

أحدهما : أنه يعود على هاروت وماروت.

والثاني : أنه عائد على [الملكين ، ويؤيده قراءة أبيّ بإظهار الفاعل : «وما يعلّم الملكان».

والأول هو الأصح ؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل](٦) دون المبدل منه ، فإنه في حكم المطّرح ، فمراعاته أولى ؛ تقول : «هند حسنها فاتن» ولا تقول : «فاتنة» مراعاة لهند ، إلّا في قليل من الكلام ؛ كقوله : [الكامل]

٧٠٤ ـ إنّ السّيوف غدوّها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب (٧)

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٢ ، والشواذ : ٨.

(٢) ينظر ديوانه : (٨١) ، وشواهد الكتاب : ٣ / ٥٠٠ ، الخزانة : ٥ / ٤٥١ ، المقتضب : ٢ / ٣٢٢ ، الهمع : ١ / ٧٦ ، الدرر : ١ / ٥٠ ، القرطبي : ٢ / ٣٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٣٥ ، وخزانة الأدب : ٩ / ١٢٩ ، ١٣٠٢ والدرر : ١ / ٢٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٢٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٧٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٤) ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٦٢٧ ، شرح الأشموني : ١ / ١٥٨ ، شرح شذور الذهب : ص ٤٦٨ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٩٤ ، ملحق ديوان كعب بن زهير (٢٥٨) ، أمالي المرتضى : ٢ / ٧٧ ، مجمع البيان : ١ / ٣٨٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٥) ينظر القرطبي : ٢ / ٣٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) البيت للأخطل ينظر ديوانه : ص ٣٢٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ١٩٩ ، ٢٠١ ، ولسان العرب (عضب) ، وجمهرة اللغة : ص ٣٥٤ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٤١ ، والدر المصون : ١ / ٦٢٢.


وقول الآخر : [الكامل]

٧٠٥ ـ فكأنّه لهق السّراة كأنّه

ما حاجبيه معيّن بسواد (١)

فراعى المبدل منه في قوله : «تركت» ، وفي قوله : «معيّن» ، ولو راعى البدل ، وهو الكثير ، لقال «تركا» و «معيّنان» ؛ كقول الآخر : [الطويل]

٧٠٦ ـ فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما (٢)

ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجثّة.

وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رواحها وغدوها» منصوب على الظرف ، وأن قوله : «معيّن» خبر عن «حاجبيه» ، وجاز ذلك ؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر ، يجوز فيهما ذلك ؛ قال : [الهزج]

٧٠٧ ـ ..........

بها العينان تنهل (٣)

وقال : [الكامل]

٧٠٨ ـ لكأنّ في العينين حبّ قرنفل

أو سنبل كحلت به فانهلّت (٤)

ويجوز عكسه ؛ قال : [الطويل]

٧٠٩ ـ إذا ذكرت عيني الزّمان الّذي مضى

بصحراء فلج ظلّتا تكفان (٥)

و «من» زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق ؛ لأن «أحدا» يفيده بخلاف : «ما جاء من رجل» فإنها زائدة للاستغراق.

و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي ، وأنه الذي همزته أصل بنفسها.

__________________

(١) البيت للأعشى. ينظر شواهد الكتاب : ١ / ١٦١ ، شرح المفصل : ٣ / ٦٧ ، الخزانة : ٢ / ٣٧٠ ، الدرر : ٢ / ٢٢١ ، اللسان (عين) ، الدر : ١ / ٣٢٢.

(٢) البيت لعبدة ينظر ديوانه : ص ٨٨ ، والأغاني : ١ / ٧٨ ، ٢١ / ٢٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٢٠٤ ، وديوان المعاني : ٢ / ١٧٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٧٩٢ ، وشرح المفصل : ٣ / ٦٥ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٧٣٢ ، والكتاب : ١ / ١٥٦ ، ولمرداس بن عبدة في الأغاني : ١٤ / ٨٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٣) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

لمن زحلوفة زل

ينظر ديوانه : (١٥٤) ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢١ ، والمحتسب : ٢ / ١٨٠ ، واللسان (زلل) ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٤) البيت لسلمى بن ربيعة. ينظر الحماسة : (١ / ٢٨٥) ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢١ ، حاشية الشيخ يس : ٢ / ٣٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٥) ينظر تذكرة النحاة : ص ٥٧٣ ، والدرر : ١ / ١٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٥٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٥٠ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.


وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد ، فتكون همزته بدلا من الواو.

فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة

القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لا يليق بهم تعليم السحر ، وقالوا : كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [الأنعام : ٨].

وأيضا لو أنزل الملكين ، فإما أن يجعلهما في صورة الرجلين ، أو لا يجعلهما كذلك ، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلا وتلبيسا على الناس وهو لا يجوز ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين تشاهدهم أنه لا يكون في الحقيقة إنسانا ، بل يكون ملكا من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩].

وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين](١) لتعليم السحر وعن الثاني : بأن هذه الآية عامة ، [وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وتلك](٢) خاصة والخاص مقدم على العام.

وعن الثالث : أن الله ـ تعالى ـ أنزلهما في صورة رجلين ، وكان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنسانا ، كما أنه في زمان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان الواجب على من شاهد حية الكلبي ألّا يقطع بكونه من البشر ، بل الواجب التوقف فيه.

فصل في فساد رواية الزهرة

رووا قصة الزّهرة وما جرى لها مع الملكين.

ولهم في الزهرة قولان :

أحدهما : أنها الكوكب المعروف.

والثاني : أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب.

وقيل : مسخت بها.

قال ابن الخطيب : وهذه الرواية فاسدة مردودة (٣) ؛ لأنه ليس في كتاب الله ـ تعالى ـ ما يدل عليها ، بل فيه ما يبطلها من وجوه :

الأول : الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عليهم‌السلام من كل المعاصي.

الثاني : أن قولهم : إنهما خيّرا بين عذاب الدنيا ، وبين عذاب الآخرة فاسد ، بل كان

__________________

(١) في ب : الملائكة

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : غير مقبولة.


الأولى أن يخيّرا بين التوبة والعذاب ؛ لأن الله ـ تعالى ـ خير بينهما من أشرك به طول عمره ، فكيف يبخل عليهما بذلك؟

الثالث : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ، ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول : السبب](١) في إنزالهما وجوه :

أحدها : أن السحرة كثرت في ذلك الزمان ، واستنبطت أبوابا غريبة من السحر ، وكانوا يدّعون النبوة ، ويتحدّون الناس بها ، فبعث الله ـ تعالى ـ هذين الملكين لأجل أن يعلّما الناس أبواب السّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.

وثانيها : أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة ، وبماهية السحر ، والناس كانوا جاهلين بماهية السّحر ، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة ، فبعث الله ـ تعالى ـ هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.

وثالثها : لا يمتنع أن يقال : السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله ، والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم ، أو مندوبا ، فالله ـ تعالى ـ بعث ملكين لتعليم السّحر لهذا الغرض ، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما ، واستعملوه في الشر ، وإيقاع الفرقة بين أولياء الله ، والألفة بين أعداء الله.

ورابعها : أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ، ولما كان السّحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما ؛ لأن الذي لا يكون متصورا يمتنع النهي عنه.

وخامسها : لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها ، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن.

وسادسها : يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللّذات العاجلة ، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة ، فيستوجب به الثواب الزائد ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله ـ تعالى ـ إنزال الملكين لتعليم السّحر ، والله أعلم.

فصل في زمن وقوع هذه القصة

قال بعضهم : هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصّلاة والسلام.

__________________

(١) في أ : لكن الحكمة.


قوله : (حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ).

«حتى» : حرف غاية ونصب ، وهي هنا بمعنى «إلى» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها ، وعلامة النصب حذف النون ، والتقدير : إلى أن يقولا ، وهي متعلقة بقوله : (وَما يُعَلِّمانِ) ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية ، وهي قولهم : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

وأجاز أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال : والمعنى : وما يعلمان من أحد إلّا أن يقولا وهذا الذي أجازه لا يعرف عن أكثر المتقدمين ، وإنما قاله ابن مالك ؛ وأنشد : [الكامل]

٧١٠ ـ ليس العطاء من الفضول سماحة

حتّى تجود وما لديك قليل (١)

قال : تقديره : إلا أن تجود.

و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية ، وكقوله : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٥] ، وتكون حرف عطف ، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل ؛ كقوله: [الطويل]

٧١١ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (٢)

والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة ، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها : إما في القوة ، أو الضعف ، أو غيرهما ، ولها أحكام أخر ستأتي إن شاء الله تعالى.

و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة ، فلذلك وقع بعدها الجملة ، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكذلك : «فلا تكفر».

فصل في المراد بالفتنة

المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي ، كقولهم : فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب ، وقد بيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر.

فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر ولا يصفانه لأحد ، ولا يكشفان له وجوه

__________________

(١) البيت للمقنع الكندي في خزانة الأدب ٣ / ٣٧٠ ، والدرر ٤ / ٧٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٧٣٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٧٢ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ٥٥٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٦٠ ، مغني اللبيب ١ / ١٢٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤١٢ ، همع الهوامع : ٢ / ٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٤.

(٢) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٣٤٤) ، الخزانة : ٩ / ٤٧٧ ، شرح المفصل : ٨ / ١٨ ، الهمع : ١ / ٢٤٨ ، الدرر : ١ / ٢٠٧ ، الأشموني ٣ / ٣٠٠ ، التهذيب ١ / ٢٢ ، حروف المعاني للزجاجي (٦٥) معاني الحروف للرماني (١٢٠) ، مغني اللبيب : ١ / ١٢٨ ، شرح الألفية لابن الناظم (٦٧٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٢٤.


الاحتيال حتى يبذلا له النّصيحة فيقولا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي : هذا الذي نصفه لك ، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة ، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي ، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه ، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.

قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ) في هذه الجملة سبعة أقوال :

أظهرها : أنها معطوفة على قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ) والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد» ، وجمع حملا على المعنى ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧].

فإن قيل : المعطوف عليه منفي ، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفيا أيضا لعطفه عليه ، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه ، وهو أن قوله : (ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) ، وإن كان منفيا لفظا فهو موجب معنى ؛ لأن المعنى : يعلمان الناس السحر بعد قولهما : إنما نحن فتنة ، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره.

الثّاني : أنه معطوف على (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قاله الفراء.

وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعني : فكان حقه أن يقال : «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي](١) وغيره ، وقالوا : لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلّمون» ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة ، والضمير في «منهما» راجع إليهما ، فإن قوله : «منهما» إنما جاء بعد تقدّم ذكر الملكين.

وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر : وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر ، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين ، وقد فرضتم أن (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على «يعلمون» ، [فيكون التقدير : «يعلّمون النّاس السّحر فيتعلّمون منهما»](٢) فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر الملكين ، وهو اعتراض واه فإنهما متقدمان لفظا ، وتقدير تأخرهما لا يضرّ ؛ إذ المحذور عود الضمير على غير مذكور في اللفظ.

الثالث : وهو أحد قولي سيبويه أنه عطف على «كفروا» ، فعل في موضع رفع ، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع.

قال سيبويه : [وارتفع](٣) «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره ، ولكنه على : كفروا فيتعلمون ، وشرح ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جوابا لقوله : فلا تكفر فينتصب في جواب النهي ، كما انتصب : (فَيُسْحِتَكُمْ) [طه : ٦١] ، بعد قوله : (لا تَفْتَرُوا) لأن كفر من نهياه أن يكفر ليس

__________________

(١) في ب : أبو البقاء.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : وارتفعت.


سببا لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر ، وتقدم جوابه.

الرابع : وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : «فهم يتعلمون» ، فعطف جملة اسمية على فعلية.

الخامس : قال الزّجّاج أيضا : والأجود أن يكون معطوفا على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعترض أبو علي قول الزجاج ؛ فقال : «لا وجه لقوله : استغني عن ذكر «يعلمان» ؛ لأنه موجود في النص». وهذا الاعتراض من أبي علي تحامل عليه لسبب وقع بينهما ؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله : (وَما يُعَلِّمانِ) حتى يكون مذكورا في النص ، وإنما أراد أن ثم فعلا مضمرا يدل عليه قوة الكلام وهو : «يعلمان فيتعلمون»](١).

السّادس : أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام ، والتقدير : فيأتون فيتعلّمون ، ذكره الفراء والزجاج أيضا.

السّابع : قال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رحمه‌الله وأن يكون مستقلّا بنفسه غير محمول على شيء قبله ، وهو ظاهر كلامه.

قوله : (مِنْهُما) متعلّق ب «يعلمون».

و «من» لابتداء الغاية ، وفي الضمير ثلاثة أقوال : أظهرها : عوده إلى الملكين ، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها.

والثاني : يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين.

والثالث : أنه يعود على الفتنة ، وعلى الكفر المفهوم من قوله : (فَلا تَكْفُرْ) ، وهو قول أبي مسلم.

قوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ) الظّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية.

وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة ، وليس بواضح ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير في «به» عليها ، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مرّة.

و «بين المرء» ظرف ل «يفرّقون».

والجمهور على فتح ميم «المرء» مهموزا ، وهي اللغة العالية.

__________________

(١) سقط في ب.


وقرأ ابن (١) أبي أسحاق : «المرء» بضم الميم مهموزا.

وقرأ الأشهب العقيلي والحسن : «المرء» بكسر الميم مهموزا.

فأما الضم فلغة محكية.

وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقا ، ويحتمل أن يكون ذلك للإتباع ، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تتبع «لامه» ، فإن ضم ضمت ، وإن فتح فتحت ، وإن كسر كسرت ، تقول : «ما قام المرء» بضم الميم و «رأيت المرء» بفتحها ، و «مررت بالمرء» بكسرها ، وقد يجمع بالواو والنون ، وهو شاذ.

قال الحسن في بعض مواعظه : «أحسنوا ملأكم أيّها المرؤون» أي : أخلاقكم.

وقرأ الحسن ، والزهري «المر» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفا وهو قياس مطّرد.

وقرأ الزهري أيضا : «المرّ» بتشديد الرّاء من غير همز ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة إلى الرّاء ، ثم رأى الوقف عليها مشدّدا ، كما روي عن عاصم (مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٣] بتشديد الراء ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

فصل في تفسير التفريق

ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين :

الأول : أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق ، فيصير كافرا ، وإذا صار كافرا بانت منه امرأته ، فيحصل تفريق (٢) بينهما.

الثاني : أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل ، والتّضريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصّور التي يتعلّمونها تنبيها على الباقي ، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة ، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) فإنه أطلق الضرر ، ولم يقصره على التفريق ، فدلّ على أنه إنما ذكره ؛ لأنه من أعلى مراتبه.

قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) يجوز في «ما» وجهان.

أحدهما : أن تكون الحجازية ، فيكون «هم» اسمها ، و «بضارين» خبرها ، و «الباء» زائدة ، فهو في محل نصب.

والثاني : أن تكون التميمية ، فيكون «هم» مبتدأ ، و «بضارّين» خبره ، و «الباء» زائدة أيضا فهو في محل رفع.

__________________

(١) انظر جميع هذه القراءات في الشواذ : ٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٥.

(٢) في ب : تفرق.


والضمير فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه عائد على السّحرة العائد عليهم ضمير «فيتعلّمون».

الثاني : يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا».

الثالث : يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله : «و (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ).

والجمهور على «بضارّين» بإثبات النون و «من أحد» مفعول به ، وقرأ الأعمش (١) : «بضارّي» من غير نون ، وفي توجيه ذلك قولان :

أظهرهما : أنه أسقط النون تخفيفا ، وإن لم يقع اسم الفاعل صلة ل «أل» ؛ مثل قوله : [الطويل]

٧١٢ ـ ولسنا إذا تأبون سلما بمذعني

لكم غير أنّا إن نسالم نسالم (٢)

أي : بمذعنين ونظيره في التّثنية : «قطا قطا بيضك ثنتا ، وبيضي مائتا» يريدون ثنتان ومائتان.

والثاني ـ وبه قال الزّمخشري ، وابن عطية ـ أن النّون حذفت للإضافة إلى «أحد» ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور ، وهو «به» ؛ كما فصل به في قول الآخر : [الطويل]

٧١٣ ـ هما أخوا في الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (٣)

وفي قوله : [الوافر]

٧١٤ ـ كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل (٤)

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦ ، والمحتسب : ١ / ١٠٣ ، والتخريجات النحوية : ١٩١.

(٢) ينظر تسهيل ابن مالك : (١٣) ، روح المعاني : ١ / ٣٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٦.

(٣) البيت لعمرة الخثعمية ينظر في الإنصاف : ٢ / ٤٣٤ ، والدرر : ٥ / ٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٠٨٣ ، ولسان العرب (أبى) ، ولها أو لدرنا بنت عبعبة في الدرر : ٥ / ٤٥ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٧٢ ، ولدرنا بنت عبعبة في شرح المفصل : ٣ / ٢١ ، والكتاب : ١ / ١٨٠ ، ولدرنا بنت عبعبة أو لدرنا بنت سيار في شرح أبيات سيبويه : ١ / ٢١٨ ، ولامرأة من بني سعد في نوادر أبي زيد : ص ١١٥ ، وبلا نسبة في الخصائص : ١ / ٢٩٥ ، ٢ / ٤٠٥ ، وكتاب الصناعتين : ص ١٦٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦.

(٤) البيت لأبي حية النميري في الإنصاف : ٢ / ٤٣٢ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢١٩ ، والدرر : ٥ / ٤٥ ، وشرح التصريح : ٢ / ٩٥ ، والكتاب : ١ / ١٧٩ ، ولسان العرب [عجم] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٧٠ ، وأوضح المسالك : ٣ / ١٨٩ ، والخصائص : ٢ / ٤٠٥ ، ورصف المباني : ٦٥ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٢٨ ، وشرح ابن عقيل : ٤٠٣ ، وشرح عمدة الحافظ : ٤٩٥ ، وشرح المفصل : ١ / ١٠٣ ، والمقتضب : ٤ / ١٧٧ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦.


ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال : فإن [قلت](١) كيف يضاف إلى «أحد» وهو مجرور؟ قلت : جعل الجار جزءا من المجرور.

قال أبو حيان : وهذا التخريج ليس يجوز ؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظّرف والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه ؛ لأنه مشغول بعامل جرّ ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة.

وأما جعله حرف الجر جزءا من المجرور فليس بشيء ؛ لأن هذا مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه.

وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة (٢) ابن عامر ، فبالظرف وشبهه أولى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. وأما قوله : «لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه.

فإنما ذلك في الجزء الحقيقي ، وهذا إنما قال : ننزله منزلة الجزء ، ويدلّ على ذلك قول [النحاة](٣) الفعل كالجزء من الفاعل ، ولذلك أنّث لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثّر فيه.

و «من» في «من أحد» زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ).

وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء : إن «أحدا» يجوز أن يكون بمعنى واحد ، والمعهود زيادة «من» في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو : ما ضربت من أحد ، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك ؛ لأن المعنى : وما يضرون من أحد ، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عنه باسم الفاعل الدّال على الثبوت ، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد المراد الذي لم تفده الجملة الفعلية (٤).

قوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا استثناء مفرّغ من الأحوال ، فهو في محل نصب على الحال ، فيتعلّق بمحذوف ، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه :

أحدها : أنه الفاعل المستكن في «بضارين».

الثاني : أنه المفعول وهو «أحد» وجاءت الحال من النكرة ؛ لاعتمادها على النفي.

والثالث : أن الهاء في «به» أي بالسحر ، والتقدير : وما يضرون أحدا بالسحر إلا

__________________

(١) في أ : قيل.

(٢) يعني في قوله تعالى : «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» الآية ١٣٧ من الأنعام.

قرأ ابن عامر : وكذلك زيّن ، قتل ، أولادهم شركائهم.

وقرأ الباقون كما هو مثبت. انظر حجة القراءات : ٢٧٣.

(٣) في ب : النحويين.

(٤) في أ : الاسمية.


ومعه علم الله ، أو مقرونا بإذن الله ونحو ذلك.

والرابع : أنه المصدر المعروف وهو الضرر ، إلا أنه حذف للدلالة عليه.

فصل في تأويل الإذن

قال ابن الخطيب (١) : الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ، لأنه ـ تعالى ـ أراد عيبهم وذمهم عليه ، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه ، فلا بد من التأويل ، وفيه وجوه :

أحدها : قال الحسن : المراد منه التّخلية يعني الساحر إذا سحر إنسانا ، فإن شاء الله تعالى منعه منه ، وإن شاء خلّى بينه وبين ضرر السحر.

وثانيها : قال الأصم : المراد : «إلّا بعلم الله» ، وإنما سمي الأذان أذانا ، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة ، وسمي الإيذان إيذانا ؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن ، وكذلك قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِ) [التوبة : ٣] أي : إعلام ، وقوله تعالى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] معناه : فاعلموا ، وقوله : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] يعني : أعلمتكم.

وثالثها : أن الضرر الحاصل عند فعل السّحر إنما يحصل بخلق الله ، وإيجاده وإبداعه ، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله ـ تعالى ـ كما قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

ورابعها : أن يكون المراد بالإذن الأمر ، وهذا الوجه لا يليق إلّا بأن يفسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافرا ، والكفر يقتضي التفريق ، فإنّ هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.

قوله : (وَلا يَنْفَعُهُمْ) في هذه الجملة وجهان.

أحدهما : وهو الظاهر أنها عطف على «يضرهم» فتكون صلة ل «ما» أيضا ، فلا محلّ لها من الإعراب.

والثاني ، وأجازه أبو البقاء : أن تكون خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : وهو لا ينفعهم ، وعلى هذا فتكون «الواو» للحال ، والجملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال ، وهذه الحال تكون مؤكّدة ؛ لأن قوله : «ما يضرهم» يفهم منه عدم النفع.

قال أبو البقاء : ولا يصح عطفه على «ما» ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم.

وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها ، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠١.


وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحال والاستقبال ، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال ، والضّرّ والنفع معروفان ، يقال ضرّه يضرّه بضم الضاد ، وهو قياس المضاعف المتعدّي ، والمصدر : الضّر والضّر بالضم والفتح ، والضّرر بالفك أيضا ، ويقال : ضارة يضيره بمعناه ضيرا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧١٥ ـ تقول أناس لا يضيرك نأيها

بلى كلّ ما شفّ النّفوس يضيرها (١)

وليس حرف العلة مبدلا من التضعيف.

ونقل بعضهم : أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال : منفوع ، والقياس لا يأباه.

قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) تقدم أن هذه اللّام جواب قسم محذوف.

و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد ، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام ، فالجملة بعدها في محل نصب ؛ إما سادّة مسدّ مفعولين ، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم ، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها ، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين ، وإلا عطفنا واحدا ، ونظيره في الكلام : علمت لزيد قائم وعمرا ذاهبا ، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو.

والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعطف المنصوب على محلها قول الشاعر : [الطويل]

٧١٦ ـ وما كنت أدري قبل عزّة ما الهوى

ولا موجعات القلب حتّى تولّت (٢)

روي بنصب «موجعات» على أنه عطف على محل «ما الهوى» ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون «ما» زائدة ، «والهوى» مفعول به ، فعطف «موجعات» عليه ، ويحتمل أن تكون «لا» نافية للجنس و «موجعات» اسمها ، والخبر محذوف كأنه قال : ولا موجعات القلب عندي حتى تولّت.

والضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال :

أحدها : ضمير اليهود الذين بحضرة محمد عليه‌السلام ، أو ضمير من بحضرة سليمان ، أو ضمير جميع اليهود ، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.

قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) في هذه اللام قولان :

أحدهما (٣) : وهو ظاهر (٤) قول النحاة أنها لام الابتداء المعلّقة ل «علم» عن العمل

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٧.

(٢) البيت لكثير عزة. ينظر ديوانه : ص ٩٥ ، خزانة الأدب : ٩ / ١٤٤ ، شرح التصريح : ١ / ٢٥٧ ، شرح شذور الذهب : ٤٧٥ ، شرح شواهد المغني : ص ٨١٣ ، ٨٢٤ ، أوضح المسالك : ٢ / ٦٤ ، شرح الأشموني : ص ١٦٢ ، العيني : ٢ / ٤٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٨.

(٣) في ب : أظهرهما.

(٤) سقط في ب.


كما تقدم ، و «من» موصولة في محلّ رفع بالابتداء ، و «اشتراه» صلتها وعائدها.

و «ما له في الآخرة من خلاق» جملة من مبتدأ وخبر ، و «من» زائدة في المبتدأ ، والتقدير : ما له خلاق في الآخرة.

وهذه الجملة في محل رفع خبر ل «من» الموصولة ، فالجملة من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) مقسم عليها كما تقدم ، و (لَمَنِ اشْتَراهُ) غير مقسم عليها ، هذا مذهب سيبويه رحمه‌الله تعالى والجمهور.

الثاني : وهو قول الفراء ، وتبعه أبو البقاء : أن تكون هذه اللام هي الموطّئة للقسم ، و «من» شرطية في محل رفع بالابتداء ، و (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) جواب القسم ، ف «اشتراه» على القول الأول صلة ، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط ، ويكون جواب الشرط محذوفا ؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم ، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالبا ، وقد يجاب الشرط مطلقا كقوله : [الطويل]

٧١٧ ـ لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشّمس باديا (١)

ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض ، وقد يكون مضارعا كقوله : [الطويل]

٧١٨ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٢)

فعلى قول الفرّاء تكون الجملتان من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ، و (لَمَنِ اشْتَراهُ) مقسما عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال : هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك ، والذي يظهر في منعه ، أن الفعل بعد «من» وهو «اشتراه» ماض لفظا ومعنى ، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل ، فجعله شرطا لا يصح ؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضيا لفظا ، فلا بد أن يكون مستقبلا معنى.

فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء

واستعير لفظ الشراء لوجوه :

أحدها : أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وأقبلوا على التمسّك بما تتلو الشّياطين ، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.

__________________

(١) البيت لامرأة من عقيل. ينظر خزانة الأدب : ١١ / ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، والدرر : ٤ / ٢٣٧ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٥٤ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢١٩ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٩٥ ، ولسان العرب (ختم) ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٣٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٤٣ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦١٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٣٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٨.

(٢) البيت للكميت بن معروف ينظر خزانة الأدب : ١٠ / ٦٨ ، ٧٠ ، ١١ / ٣٣١ ، ٣٥١ ، ٤٢٩ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٩٦ ، ٥٩٥ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٥٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٢٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٩.


وثانيها : أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر ، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.

وثالثها : أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه ، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقابلة التعليم لأجل الاستعمال. والخلاق : النصيب.

قال الزّجاج : أكثر استعماله في الخير.

فأما قول أميّة بن أبي الصلت : [البسيط]

٧١٩ ـ يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم

إلّا سرابيل من قطر وأغلال (١)

فيحتمل ثلاثة أوجه.

أحدها : أنه على سبيل التهكّم بهم ؛ كقوله : [الوافر]

٧٢٠ ـ ..........

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

والثاني : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن لهم السّرابيل من كذا. الثالث : أنه استعمل في الشر على قلة. والخلاق : القدر ؛ قال : [المتقارب]

٧٢١ ـ فما لك بيت لدى الشّامخات

وما لك في غالب من خلاق (٣)

أي : من قدر ورتبة ، وهو قريب من الأول.

قال القفّال رحمه‌الله تعالى : يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ، ومعناه التقدير ، ومنه : خلق الأديم ، ومنه يقال : قدر للرجل كذا درهما رزقا على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال :

يعود على السحر ، أو الكفر ، أو كيلهم الذي باعوا به السحر ، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه. وتقدم الكلام على قوله : (وَلَبِئْسَ ما) وما ذكر الناس فيها ، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره : والله لبئسما ، والمخصوص بالذّم محذوف أي : السحر أو الكفر.

قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) جواب «لو» محذوف تقديره : لو كانوا يعلمون ذم ذلك

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٧) ، الطبري : ٢ / ٤٥٢ ، البحر : ١ / ٤٨٧ ، الفخر الرازي : ٣ / ٢٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٩.

(٢) عجز بيت لعمرو بن معد يكرب وصدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

ينظر شواهد الكتاب : ٢ / ٣٢٣ ، والنوادر : ١٥٠ ، ابن يعيش : ٢ / ٨٠ ، الخزانة : ٤ / ٥٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٩.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٧ ، روح المعاني : ١ / ٣٤٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٩.


لما باعوا به أنفسهم ، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء : لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر ؛ لأن المقدر كلما كان متصيّدا من اللفظ كان أولى. والضمير في «به» يعود على السحر ، أو الكفر ، وفي «يعلمون» يعود على اليهود باتفاق.

قال الزمخشري (١) : فإن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولا في : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

قلت : معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه ، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «علموا» و «يعلمون» لشيء واحد.

وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العقل ؛ لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته ، فصار وجود العلم كالعدم حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله ـ تعالى ـ الكفا ر «صما وبكما وعميا» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس](٢) أو يغاير بين متعلّق العلمين أي : علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا.

وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين ، أو على من بحضرة سليمان ، أو على الملكين ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا لَوْ) هنا فيها قولان :

أحدهما : أنها على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وسيأتي الكلام في جوابها ، وأجاز الزمخشري رحمه‌الله تعالى أن تكون للتمني أي : ليتهم آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم ، واختيارهم له ، فعلى هذا لا يلزم أن يكون لها جواب ، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ ، وفي كلامه اعتزال.

و (أَنَّهُمْ آمَنُوا) مؤول بمصدر ، وهو في محل رفع ، [وفيه قولان](٣) أحدهما ـ وهو قول سيبويه ـ : أنه في محلّ رفع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ولو كان إيمانهم ثابت ، وشذّ وقوع الاسم بعد (لَوْ) ، وإن كانت مختصة بالأفعال ، كما شذ نصب «غدوة» بعد «لدن».

وقيل : لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان لفظ المسند والمسند إليه في صلة «أنّ».

وصحح أبو حيّان هذا في سورة «النساء» وهذا يشبه الخلاف في «أن» الواقعة بعد «ظنّ وأخواتها» ، وتقدم تحقيقه.

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٧٣.

(٢) في أ : بحواسهم.

(٣) في ب : واختلف في ذلك على قولين.


والثاني : وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية ، رافعه محذوف تقديره : ولو ثبت إيمانهم ؛ لأنها لا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا ، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسّرا بفعل مثله ، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو. والضمير في (أَنَّهُمْ) فيه قولان :

أحدهما : عائد على اليهود ،

والثاني : على الذين يعلمون [الناس](١) السحر.

قال ابن الخطيب (٢) : إنّ الله ـ تعالى ـ لما قال : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠٢] ثم وصفهم بأنهم (اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، وأنهم تمسّكوا بالسحر قال بعده : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) يعني بما نبذوه من كتاب الله.

فإن حملت ذلك على القرآن جاز ، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز ، وإن حملته على الأمرين جاز ، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات ، وترك المأمورات.

قوله تعالى : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها لام الابتداء ، وأن ما بعدها استئناف إخبار بذلك ، وليس متعلقا بإيمانهم وتقواهم ، ولا مترتبا عليه ، وعلى هذا فجواب «لو» محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني ، أو قيل بأنها للتمني ، ويكون لها جواب تقديره : لأثيبوا.

والثاني : أنها جواب «لو» ، فإن «لو» تجاب بالجملة الاسمية.

قال الزمخشري (٣) رحمه‌الله تعالى : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الذاريات : ٢٥] لذلك. [وفي] وقوع جواب «لو» جملة اسمية نظر يحتاج إلى دليل غير محلّ النزاع.

قال أبو حيان (٤) رحمه‌الله تعالى : لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جوابا ل «لو» ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ، ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل.

والمثوبة فيها قولان :

أحدهما : أن وزنها «فعولة» ، والأصل مثووبة ، فثقلت الضّمة على «الواو» ، فنقلت إلى الساكن قبلها ، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل : مقولة ومجوزة ومصونة ومشوبة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٢.

(٣) ينظر الكشاف : ١ / ١٧٤.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٠٤.


وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول ، فهي مصدر ـ نقل ذلك الواحدي.

والثاني : أنها «مفعلة» من الثواب بضم العين ، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء ، ويقال : «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، وكان من حقّها الإعلال فيقال : «مثابة» ك «مقامة» ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال «مكوزة» ، وبذلك قرأ أبو السمال (١) وقتادة كمشورة. ومعنى «لمثوبة» أي : ثواب وجزاء من الله.

وقيل : لرجعة إلى الله ـ تعالى ـ خير.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) في محلّ رفع صفة «لمثوبة» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : لمثوبة كائنة من عند الله تعالى.

والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره.

قال أبو حيان : وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة.

قلت : ولا حاجة إلى هذا ؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر ، وهو الاعتماد على لام الابتداء ، حتى لو قيل في الكلام : «لمثوبة خير» من غير وصف لصح.

والتنكير في «لمثوبة» يفيد أن شيئا من الثواب ـ وإن قلّ ـ خير ، فلذلك لا يقال له قليل ، ونظيره : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقوله : «خير» خبر «لمثوبة» ، وليست هنا بمعنى «أفعل» التفضيل ، بل هي لبيان أنها فاضلة ، كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) [فصلت : ٤٠] ..

قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) جوابها محذوف تقديره : لكان تحصيل المثوبة خيرا ، أي : تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى ، وكذلك قدّره بعضهم : لآمنوا.

وفي مفعول «يعلمون» وجهان :

أحدهما : أنه محذوف اقتصارا أي : لو كانوا من ذوي العلم.

والثاني : أنه محذوف اختصارا تقديره : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

اعلم أن الله ـ تعالى ـ لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد ـ عليه الصلاة

__________________

(١) وقرأ بها ابن بريدة.

انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٧١٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٣١.


والسلام ـ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه.

واعلم أنّ الله ـ تعالى ـ خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «وكان يخاطب في التوراة بقوله : يا أيها المساكين» (١).

فصل في لفظ راعنا

روي أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول الله من المراعاة ، أي : راعنا سمعك أي فرّغ سمعك لكلامنا (٢) ، يقال : رعى إلى الشيء ورعاه ، أي : أصغى إليه وأسمعه ، وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا بلغة اليهود.

وقيل : معناه عندهم اسمع لا سمعت.

وقيل : هو من الرّعونة ، وإذا أردوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا بمعنى يا أحمق ، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم : كنا نسبّ محمدا سرّا ، فأعلنوا به الآن ، فكانوا يأتونه ويقولون : راعنا يا محمد ، ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ ، ففطن لها ، وكان يعرف لغتهم ، فقال لليهود : لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضرين عنقه قالوا : أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا : راعِنا)(٣) لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وقولوا انظرنا» ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة «النساء» : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [النساء : ٤٦].

قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى ، إلّا أن أهل «الحجاز» ما كانوا يقولونها إلّا عند الهزل والسخرية ، فلا جرم نهى الله عنها.

وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : راعنا أي : أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.

وقيل : قوله : «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول : راع كلامي فلا تغفل عنه ،

__________________

(١) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥) عن خيثمة بلفظ : ما تقرءون في القرآن : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنه في التوراة يا أيها المساكين.

وعزاه لابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٦٠) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥ ـ ١٩٦) وعزاه لأبي نعيم في «دلائل النبوة» عن ابن عباس بمعناه.


ولا تشتغل بغيره ، وليس في قوله : (انْظُرْنا) إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه.

والجمهور على أن «راعنا» أمر من المراعاة ، وهي النظر في مصالح الإنسان ، وتدبر أموره ، و «راعنا» يقتضي المشاركة ؛ لأن معناه : ليكن منك رعاية لنا ، وليكن منا رعاية لك ، فنهوا عن ذلك ؛ لأن فيه مساواتهم به عليه الصلاة والسلام.

وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المخاطبة كما قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].

وقرأ الحسن (١) وأبو حيوة : «راعنا» بالتنوين ، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : قولا راعنا ، وهو على طريق النسب ك «لابن» و «تامر» ، والمعنى : لا تقولوا قولا ذا رعونة. والرعونة : الجهل والحمق والهوج ، وأصل الرعونة : التفرّق ، ومنه : «جيش أرعن» أي : متفرّق في كل ناحية ، ورجل أرعن : أي ليس له عقل مجتمع ، وامرأة رعناء.

وقيل للبصرة : الرعناء ؛ قال : [البسيط]

٧٢٢ ـ لو لا ابن عتبة عمرو والرّجاء له

ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا (٢)

قيل : سميت بذلك لأنها أشبهت «رعن الجبل» وهو النّاتىء منه.

وقال ابن فارس : يقال : «رعن الرجل يرعن رعنا».

وقرأ أبيّ (٣) ، وزرّ بن حبيش ، والأعمش ذكرها القرطبي «راعونا» ، وفي مصحف عبد الله كذلك ، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيما ، وفي مصحف عبد الله أيضا «ارعونا» لما تقدم.

والجملة في محل نصب بالقول ، وقدم النهي على الأمر ؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل.

فإن قيل : أفكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجل عليهم حتّى يقولوا هذا؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام ، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه : اسمع أو سمعت.

الثاني : أنهم فسروا قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل ـ عليه‌السلام ـ حرصا على تحصيل الوحي ، وأخذ القرآن ، فقيل له : لا تحرّك به لسانك لتعجل به ، فلا يبعد أن يجعل فيما

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٩ ، قال ابن عطية : وهي شاذة ، وانظر البحر المحيط : ١ / ٥٠٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٢) البيت للفرزدق. ينظر القرطبي : ٢ / ٤٢ ، أدب الكاتب : ٣٣٠ ، المجمل : ٢ / ٣٨٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٢.


يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصا على تعجيل أفهامهم ، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام.

قوله : «انظرنا» الجملة أيضا في محلّ نصب بالقول ، والجمهور على انظرنا [بالوصل في](١)

(١) الهمزة ، وضم الظاء أمرا من الثلاثي ، وهو نظر من النّظرة ، وهي التأخير ، أي : أخرنا وتأنّ علينا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٧٢٣ ـ فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب (٢)

وقيل : هو من نظر أي : أبصر ، ثم اتّسع فيه ، فعدّي بنفسه ؛ لأنه في الأصل يتعدى ب «إلى» ؛ ومنه : [الخفيف]

٧٢٤ ـ ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما ينظر الأراك الظّباء (٣)

أي : إلى الأراك.

وقيل : من نظر أي : تفكر ثم اتسع فيه أيضا ، فإن أصله أن يتعدّى ب «في» ، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي : انظر في أمرنا ، وقرأ أبيّ والأعمش : (انْظُرْنا) بفتح الهمزة وكسر الظاء أمرا من الرباعي بمعنى : أمهلنا وأخّرنا ؛ قال : [الوافر]

٧٢٥ ـ أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا (٤)

أي : أمهل علينا ، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النّظرة بمعنى التأخير ، لا من البصر ، ولا من البصيرة ، وهذه الآية نظير [آية](٥) الحديد (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) [الحديد : ١٣] فإنها قرئت بالوجهين.

قوله : (وَاسْمَعُوا) حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة :

أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.

[وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا](٦).

__________________

(١) في ب : يفصل.

(١) في ب : يفصل.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٩) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، البحر : ١ / ٥٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٣) البيت لعبيد الله بن قيس. ينظر ديوانه : (٨٨) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، البحر : ١ / ٥٠٩ ، روح المعاني : ١ / ٣٤٩ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٤) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته. ينظر شرح المعلقات للتبريزي : (٣٨٠) ، الزوزني : (١٢٧) ، الشنقيطي : (٩٩) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٥) في ب : التي في.

(٦) سقط في ب.


وثالثها : اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم ، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول.

وتقدم الكلام على معنى «العذاب الأليم».

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحذر منهم فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.

قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ :) في «من» قولان :

أحدهما : أنها للتبعيض ، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال ، ويتعلّق بمحذوف أي : ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.

والثاني : أنها لبيان الجنس ، وبه قال الزمخشري ؛ لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا) جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].

قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على «أهل» المجرور ب «من» و «لا» زائدة للتوكيد ؛ لأن المعنى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) بغير زيادة «لا».

وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار ، وأن الأصل ولا المشركون ، عطفا على الذين ، وإنما خفض للمجاورة ، نحو (بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] في قراءة (١) الجر ، وليس بواضح.

وقال النحاس : ويجوز : ولا المشركون بعطفه على «الذين» وقال أبو البقاء رحمه‌الله : وإن كان قد قرىء : «ولا المشركون» بالرفع فهو عطف على الفاعل ، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفض على الجوار.

قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب «يودّ» أي : ما يود إنزاله من خير ، وبني الفعل للمفعول للعمل بالفاعل ؛ وللتصريح به في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) ، وأتي ب «ما» في النفي دون غيرها ؛ لأنها لنفي الحال ، وهم كانوا متلبّسين بذلك.

__________________

(١) ستأتي في المائدة ٦.


قال القرطبي : و «أن» في موضع نصب ، أي بأن ينزل.

قوله : (مِنْ خَيْرٍ) هذا هو القائم مقام الفاعل ، و «من» زائدة ، أي : أن ينزل خير من ربكم.

وحسن زيادتها هنا ، وإن كان «ينزل» لم يباشره حرف النفي ؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ؛ لأنه إذا نفيت الودادة انتفى متعلّقها ، وهذا له نظائر في كلامهم نحو : «ما أظن أحدا يقول ذلك إلّا زيد» برفع «زيد» بدلا من فاعل «يقول» وإن لم يباشر النفي ، لكنه في قوة : «ما يقول أحد ذلك إلّا زيد في ظني».

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) [الأحقاف : ٣٣] زيدت «الباء» ؛ لأنه في معنى : أو ليس الله بقادر ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.

وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.

وقيل «من» للتبعيض ، أي : ما يودون أن ينزّل من الخير قليل ولا كثير ، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل : «عليكم» ، والمعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخيور.

والمراد بالخير ـ هنا ـ الوحي.

والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم ، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله : (اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) في «من» أيضا قولان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، فتتعلّق ب «ينزّل».

والثاني : أنها للتبعيض ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف تقديره : من خيور ربّكم ، وتتعلق حينئذ بمحذوف ، لأنها ومجرورها صفة لقوله : (مِنْ خَيْرٍ) أي : من خير كائن من خيور ربكم ، ويكون في محلّها وجهان :

الجر على اللفظ ، والرفع على الموضع ، لأن «من» زائدة في «خير» ، فهو مرفوع تقديرا لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.

وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «من» قولين :

الأولى : قيل : إنها للتبعيض ، وقيل : أو لبيان الجنس.

وفي الثانية قولان : زائدة أو للتبعيض.

وفي الثالثة أيضا قولان : لابتداء الغاية ، أو التبعيض.

قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ ودادتهم ذلك.


و «يختص» يحتمل أن يكون متعديّا ، وأن يكون لازما ، فإن كان متعديا كان فيه ضمير يعود على الله تعالى ، وتكون «من» مفعولا به أي يختص الله الذي يشاؤه برحمته ، ويكون معنى «افتعل» هنا معنى المجرد نحو : كسب مالا واكتسبه ، وإن كان لازما لم يكن فيه ضمير ، ويكون فاعله «من» أي : والله يختصّ برحمته الشّخص الذي يشاؤه ، ويكون «افتعل» بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو : اضطراب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا [يتبين فساد](١) قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس إلّا.

و «من» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد ، أي : يشاء اختصاصه.

ويجوز أن يضمن «يشاء» معنى يختار ، فحينئذ لا حاجة إلى حذف مضاف ، بل تقدره ضميرا فقط أي : يشاؤه ، و «يشاء» على القول الأول لا محلّ له لكونه صلة ، وعلى الثاني محلّه النّصب ، أو الرفع على [حسب](٢) ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلا أو مفعولا.

فصل في تفسير الرحمة في الآية

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «يختصّ برحمته» أي بنبوّته ، خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : الرحمة القرآن.

وقيل : هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا.

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٦)

اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ، وغدا يرجع عنه ، كما قال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١] فنزلت هذه الآية.

في «ما» قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنها مفعول مقدم ل «ننسخ» ، وهي شرطية أيضا جازمة ل «ننسخ» ولكنها واقعة موقع المصدر ، و «من آية» هو المفعول به ، والتقدير : أي شيء ننسخ كقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء ١١٠] ، أو : أيّ نسخ ننسخ من آية ، قاله أبو البقاء وغيره ، وقالوا : مجيء «ما» مصدرا جائز ؛ وأنشدوا : [الكامل]

__________________

(١) في أ : يفسد.

(٢) سقط في ب.


٧٢٦ ـ نعب الغراب فقلت بين عاجل

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب (١)

ورد هذا القول بشيئين :

أحدهما : أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، وهو غير جائز ، لما تقدم عند قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧].

والثاني : أن «من» لا تزاد في الموجب ، والشرط موجب ، [وهذا فيه خلاف لبعض](٢) البصريين أجاز زيادتها في الشرط ؛ لأنه يشبه النفي ، ولكنه خلاف ضعيف.

وقرأ ابن عامر (٣) : «ننسخ» بضم النون ، وكسر السين من «أنسخ».

قال أبو حاتم : «هو غلط» وهذه جرأة منه على عادته.

وقال أبو علي : «ليست لغة» ؛ لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ؛ لأن المعنى يجيء : ما نكتب من آية ، وما ننزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا كما يقال : أحمدته وأبخلته ، أي : وجدته كذلك ، ثم قال : «وليس نجده منسوخا إلّا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى ، وإن اختلفتا في اللفظ».

فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري ، وابن عطية الهمزة للتعدية ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف ، وفي معنى الإنساخ ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه‌السلام ، والإنساخ هو الأمر بنسخها ، أي : الإعلام به.

وجعل ابن عطية المفعول ضمير النبي عليه‌السلام ، والإنساخ إباحة النّسخ لنبيه ، كأنه لما نسخها أباح له تركها ، فسمى تلك الإباحة إنساخا.

وخرج ابن عطية القراءة (٤) على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له.

قال : ويكون المعنى : ما نكتب وننزل من اللّوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ، ونتركه فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا فإنا (٥) نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في «منها» ، و «بمثلها» عائدين على الضمير في «ننسأها».

قال أبو حيان (٦) : وذهل عن القاعدة ، وهي أنه لا بد من ضمير يعود من الجزاء

__________________

(١) ينظر البحر : ١ / ٥١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٤.

(٢) في أ : بعض.

(٣) انظر السبعة : ١٦٨ ، والكشف : ١ / ٢٥٧ ، وحجة القراءات : ١٠٩ ، والعنوان : ٧١ ، والحجة : ٢ / ١٨٠ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٤ ، ٥٥ ، وشرح شعلة : ٢٧٢ ، وإتحاف : ١ / ٤١١.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٢.

(٥) في ب : فإنما.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥١٢.


على اسم الشرط ، و «ما» في قوله : «م ننسخ» شرطية ، وقوله : «أو ننسأها» عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها من حيث اللفظ والمعنى ، بل إنما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطية ، التقدير : أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء ، ولكن يبقى قوله : ما ننسخ من آية مفلتا من الجواب ؛ إذ لا رابط يعود منه إليه ، فبطل هذا المعنى الذي قاله.

والنسخ في اللغة (١) هو الإزالة من غير بدل يعقبه ، يقال : نسخت الرّيح الأثر ، والشمس الظّلّ ، وقال القفّال : «إنه للنقل والتحويل» ، ومنه : نسخت الكتاب : إذا نقلته ، وتناسخ الأرواح ، وتناسخت القرون.

وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلا عن الأول.

دليل الأول أنه إذا نسخ الأثر والظّل ، فهو إعدامه ؛ لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه.

وقال تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [الحج : ٥٢] أي : فيزيله ويبطله ، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألّا يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك.

فإن قيل : الريح والشمس ليسا مزيلين للأثر والظل في الحقيقة ، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله ـ تعالى ـ وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة

__________________

(١) انظر في النسخ : البرهان لإمام الحرمين : ٢ / ١٢٩٣ ، البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٦٣ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ١٥ ، سلاسل الذهب للزركشي : ص ٢٩٠ ، التمهيد للإسنوي : ص ٤٣٥ ، نهاية السول له : ٢ / ٥٤٨ ، زوائد الأصول له : ص ٣٠٨ ، منهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٢٢٤ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٨٧ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ٧ ، المنخول للغزالي : ص ٢٨٨ ، المستصفى له : ١ / ١٠٧ ، حاشية البناني : ٢ / ٧٤ ، الإبهاج لابن السبكي : ٢ / ٢٢٦ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ١٢٩ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ١٠٦ ، المعتمد لأبي الحسين : ١ / ٣٦٣ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي : ص ٣٨٩ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ٤ / ٤٦٣ ، أعلام الموقعين لابن القيم : ١ / ٢٩ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج : ٣ / ٤٩ ، ميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٦٢١ ، ٩٨١ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ١٨٥ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ٣٤ ، شرح المنار لابن ملك : ص ٩١ ، الموافقات للشاطبي : ٣ / ١٠٢ ، تقريب الوصول لابن جزيّ : ص ١٢٥ ، شرح مختصر المنار للكوراني : ص ٩١ ، نشر البنود للشنقيطي : ٢ / ٢٨٠ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٤٦٢. معيار العقول في علم الأصول لابن المرتضى : ١ / ١٧٢ ، كشف الأسرار : ٣ / ١٥٤ ، حواشي المنار (٧٠٨) ، العدة : ٣ / ٧٧٨ ، الحدود للباجي : ص (٤٩) ، اللمع : ص (٣٠) ، الوصول لابن برهان : ٢ / ٧ ، روضة الناظر : (٣٦) ، الرسالة للشافعي : (١٢٨) ، ١٣٩ ، المغني للخبازي (٢٥٠) ، المسودة (١٩٥) ، شرح تنقيح الفصول : (٣٠١) ، تقريب الوصول : (١٢٥) ، المنتهى لابن الحاجب : (١١٣).


في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، [ويقال](١) : بل النسخ هو النقل والتحويل ، [ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنه ينقله إليه ، أو ينقل حكايته](٢) كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقرون والمواريث ، فإنه تحويل من واحد إلى آخر.

وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مجاز في الإبطال دفعا للاشتراك.

[وأجيب](٣) عن الأول من وجهين :

أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله ـ تعالى ـ هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير.

والثاني : أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ، فهب أنه كذلك ، لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس.

وعن الثاني : أن النقل أخصّ من الإبطال ، لأنه حيث وجد النقل ، فقد عدمت صفة ، وحصل عقيبها صفة أخرى ، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. وقال آخر (٤) :

[والنسخ : الإزالة ، وهو في اللغة على ضربين :

ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحو : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وقامت مقامه.

والثاني : أن يزيله كما تزيل الريح الأثر](٥).

قوله : (مِنْ آيَةٍ) «من» للتبعيض ، فهي متعلقة بمحذوف ؛ لأنها صفة لاسم الشرط ، ويضعف جعلها حالا ، والمعنى : أي شيء ننسخ من الآيات ، ف «آية» مفرد وقع موقع الجمع ، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ، وهذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط ؛ وذلك أن فيه إبهاما من جهة عمومه ، ألا ترى أنك لو قلت : «من يكرم أكرم» (٦) تناول النساء والرجال. فإذا قلت : «من الرجال» بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط.

وأجاز أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ فيها وجهين آخرين :

أحدهما : أنها في موضع نصب على التمييز ، والمميّز «ما» والتقدير : أيّ شيء

__________________

(١) في ب : ونقول.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : والجواب.

(٤) في ب : بعضهم.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : يكون.


ننسخ ، قال : ولا يحسن أن تقدر : أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين «آية» ، وبين المميز بآية ، لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، يعني أنك لو قدرت ذلك لاستغنيت عن التمييز.

والثاني : أنها زائدة و «آية» حال ، والمعنى : أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا ، وقد جاءت «آية» حالا في قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] أي : «علامة» وهذا فاسد ؛ لأن الحال لا تجر ب «من» ، وقد تقدم أنها مفعول بها ، و «من» زائدة على القول بجعل «ما» واقعة موقع المصدر ، فهذه أربعة أوجه.

قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) «أو» [هنا للتقسيم] ، و «ننسها» مجزوم عطفا على فعل الشرط قبله.

وفيها ثلاث (١) عشرة قراءة : «ننسأها» بفتح حرف المضارعة ، وسكون النون ، وفتح السين مع الهمزة ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير.

الثانية : كذلك إلا أنه بغير همز ، ذكرها أبو عبيد البكري (٢) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

قال ابن عطية : «وأراه وهم».

الثالثة : «تنسها» بفتح التاء التي للخطاب ، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز ، وهي قراءة الحسن ، وتروى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعد بن أبي وقاص : «إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ، ولا على ابن المسيب» وتلا : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ موجودة في كتاب الله ، فهذا مثله.

الرابعة : كذلك إلا أنه بالهمز.

__________________

(١) انظر هذه القراءات في :

السبعة : ١٦٨ ، والكشف : ١ / ٢٥٨ ، والشواذ : ٩ ، والعنوان : ٧١ ، وحجة القراءات : ١٠٩ ، ١١٠ ، والحجة : ٢ / ١٨٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٩٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٣ ، ٥١٤ ، والدر المصون :١ / ٣٣٥ ، ٣٣٧.

(٢) عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي أبو عبيد ، مؤرخ جغرافي ، ثقة. علامة بالأدب له معرفة بالنبات نسبته إلى بكر بن وائل كانت لسلفه إمارة في غربي جزيرة الأندلس وقيل : كان أميرا وتغلب عليه المعتضد ، ولد في شلطيش غربي إشبيلية وانتقل إلى قرطبة ثم صار إلى المرية فاصطفاه صاحبها «محمد بن معن» لصحبته ووسع راتبه وهذا ما حمل بعض المؤرخين على نعته بالوزير ورجع إلى قرطبة بعد غزو المرابطين له كتب جليلة منها : معجم ما استعجم ، شرح أمالي القالي ، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال ، وتوفي بقرطبة عن سن عالية في سنة ٤٨٧ ه‍.

ينظر الأعلام : ٤ / ٩٨ (٦٠٦) ، الصلة لابن بشكوال : ٢٨٢ ، بغية الوعاة : ٢٨٥.


الخامسة : كذلك إلا أنه بضم التاء ، وهي قراءة أبي حيوة.

السادسة : كذلك إلا أنه بغير همز ، وهي قراءة سعيد بن المسيب.

السابعة : «ننسها» بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز ، وهي قراءة باقي السبعة.

الثامنة : كذلك إلا أنه بالهمزة.

التاسعة : ننسّها بضم حرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [مشددة ، وهي قراءة الضّحاك ، وأبي رجاء (١).

العاشرة : «ننسك» ، بضمّ حرف المضارعة ، وسكون النون ، وكسر السين ، وكاف بعدها للخطاب.

الحادية عشرة :](٢) كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية ، وتشديد السين مكسورة ، وتروى عن الضحاك ، وأبي رجاء أيضا.

الثانية عشرة : كذلك إلّا أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف «ننسّكها» وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه.

الثالثة عشرة : «ما ننسك من آية أو ننسخها فجىء بمثلها» وهي قراءة الأعمش ، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله.

فأما قراءة الهمز على اختلاف وجوهها ، فمعناها التأخير من قولهم : نسأ الله ، وأنسأ الله في أجلك أي : أخّره ، وبعته نسيئة أي متأخرا.

وتقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسئا ، وأنسأ الإبل : إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثر ، فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : نؤخر نسخها ، ونزولها ، وهو قول عطاء.

الثاني : نمحها لفظا وحكما ، وهو قول ابن زيد.

الثالث : نمضها فلا ننسخها ، وهو قول أبي عبيد ، [قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) عمران بن تيم ويقال ابن ملحان أبو رجاء العطاردي البصري التابعي الكبير ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة وكان مخضرما أسلم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يره وعرض القرآن على ابن عباس ، وتلقنه من أبي موسى ولقي أبا بكر الصديق وحدث عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم ، روى القراءة عنه عرضا أبو الأشهب العطاردي وقال كان أبو رجاء يختم القرآن في كل عشر ليال ، وعن أبي رجاء قال : كان أبو موسى يعلمنا القرآن خمس آيات. قال ابن معين : مات سنة خمس ومائة وله مائة وسبع وعشرون سنة وقيل مائة وثلاثون.

ينظر الغاية : ١ / ٦٠٤ (٢٤٦٩).

(٢) سقط في أ.


٧٢٧ ـ أمون كألواح الإران نسأتها

على لاحب كأنّه ظهر (١)](٢)

وهو ضعيف لقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ؛) لأن ما أمضي وأقرّ لا يقال فيه : فأت بخير منه.

وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضا ففيها احتمالان :

أظهرهما : أنها من النّسيان ، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر ، وفي بعضها الترك.

فإن قيل : وقوع هذا النسيان [يمتنع](٣) عقلا ونقلا.

أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر ، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع.

وأما النقل فلقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

والجواب عن الأول من وجهين :

الأول : أن النسيان يصح بأن يأمر الله ـ تعالى ـ بطرحه من القرآن ، وإخراجه من جملة ما يتلى ، ويؤتى به في الصّلاة ويحتج به ، فإذا زال حكم التعبّد به قال : العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فيصير لهذا الوجه منسيا من الصدور ، وأيضا روي : أنهم كانوا يقرءون السورة ، فيصبحون وقد نسوها. وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ـ ٧] وبقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤].

والثاني : أن أصله الهمز من النّسيء ، وهو التأخير ، إلا أنه أبدل من الهمزة ألف فحينئذ تتحد القراءتان.

ثم من قرأ من القراء : «ننساها» من الثلاثي فواضح.

وأما من قرأ منهم من «أفعل» ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون ، فمعناه عندهم : «ننسكها» ، أي : نجعلك ناسيا لها ، أو يكون المعنى نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونسيته : تركته ؛ وأنشدوا : [الرجز]

٧٢٨ ـ إنّ عليّ عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها (٤)

أي : لا تاركها ولا آمرا بتركها.

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد. ينظر ديوانه : (٢٢) ، شرح القصائد العشر : (١٤١) ، البحر المحيط : ١ / ٥٠٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٨.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ممنوع.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥١٤ ، القرطبي : ٢ / ٤٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٧.


وقال الزجاج : «هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك».

قال الفارسي وغيره : «ذلك متّجه ؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها» ، وضعف الزجاج أيضا أن تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن له ـ عليه‌السلام ـ ولا نسي قرآنا.

[بدليل](١) قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، أي : لم نفعل شيئا من ذلك.

وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع.

قوله تعالى : (نَأْتِ) هو جواب الشرط ، وجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا التركيب أفصح التراكيب ، أعني : مجيئهما مضارعين.

قوله : (بِخَيْرٍ مِنْها) متعلّق ب «نأت» ، وفي «خير» هنا قولان :

الظاهر منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ ، أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب. وقوله تعالى : (أَوْ مِثْلِها) أي : في التكليف والثواب ، وهذا واضح.

والثاني : أن «خيرا» هنا مصدرا ، وليس من التفضيل في شيء ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] و «من» لابتداء الغاية ، والجار والمجرور صفة لقوله «خير» أي : خير صادر من جهتها ، والمعنى عند هؤلاء : ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء.

وهذا بعيد جدّا لقوله بعد ذلك : «أو مثلها» فإنه لا يصح عطفه على «بخير» على هذا المعنى ، اللهم إلا أن يقصد بالخير عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف «مثلها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوز إلّا عند الكوفيين لعدم إعادة الخافض. وقوله : (ما نَنْسَخْ) فيه التفات من غيبة إلى تكلم ، ألا ترى أن قبله (وَاللهُ يَخْتَصُّ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ).

فصل في بيان معنى النسخ

قال ابن الخطيب (٢) : الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي.

__________________

(١) في ب : واحتج بقوله.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٦.


والنسخ جائز عقلا واقع سمعا ، ومن اليهود من أنكره عقلا ، ومنهم من جوّزه عقلا ، ومنع منه سمعا.

ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.

واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته لا تصحّ إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنّسخ.

على اليهود إلزامان :

الأول : جاء في التوراة أن الله ـ تعالى ـ قال لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند خروجه من الفلك : «إني جعلت كل دابة مأكلا لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه».

ثم إنه ـ تعالى ـ حرم على موسى ، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

الثاني : كان آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ يزوج الأخت من الأخ ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى غيره.

قال منكرو النّسخ : لا نسلم أن نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا تصح إلّا مع القول بالنسخ ، لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ [أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم بعد ذلك أمر النّاس باتّباع محمد عليه الصلاة والسلام ، فعند ظهور شرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ زال التكليف بشرعهما ، وحصل التكليف بشرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لكنه](١) لا يكون ذلك نسخا ، بل جاريا مجرى قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف ، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ قد بشرا في التّوراة والإنجيل بمبعث محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأن عند ظهوره يجب الرّجوع إلى شرعه ، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ.

فصل في حجج منكري النسخ

احتج منكرو النّسخ بأن قالوا : إن الله ـ تعالى ـ لما بيّن شرع عيسى عليه الصلاة والسلام ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة ، إما أن يقال : إنها دالة على دوامها ، أو لا يدل على دوامها ، أو [لم يكن](٢) فيها دلالة على الدوام ، ولا على [عدم الدوام](٣) ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام ، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذبا ؛ لأنه غير جائز على الشرع ، وأيضا فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ما كان.

(٣) في ب : اللا دوام.


في شرع موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مع أنهما لم يدوما ، زال الوثوق عنه في كل الصور.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذكر اللفظ الدّال على الدوام ، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نصّ على ذلك ، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟

قلت : هذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين.

وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله ـ تعالى ـ أن شرعهما سيصير منسوخا ، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضا ؛ لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضا ، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفّر فيها الدواعي على نقله ، وما كان كذلك وجب اشتهاره ، وبلوغه إلى حدّ التواتر ، وإلا فلعلّ القرآن عورض ، ولم تنقل معارضته ، ولعلّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا الشرع عن هذا الوضع ، ولم ينقل ، [وإذا كان ذلك غير جائز وجب](١) أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر ، فنقول : لو أن الله ـ تعالى ـ نصّ في زمان موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهورا لأهل التواتر ، وكان معلوما لهم بالضرورة ، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه ، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : [إن الله ـ تعالى ـ نص على شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم](٢).

فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوما بالضرورة لأهل التواتر.

وأيضا فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخا ، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.

وأما القسم الثالث : وهو أنه [ـ تعالى ـ نص على شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يبيّن فيه كونه دائما ، أو كونه غير دائم](٣) فنقول : إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار (٤) ، وإنما يفيد المرة الواحدة ، فإذا أتى المكلف بالمرة

__________________

(١) في ب : وإذا ثبت وجوب.

(٢) في أ : أنه نص على عدم الدوام.

(٣) في أ : لم ينص على الدوام ، ولا على عدم الدوام.

(٤) لا نزاع بين الأصوليّين ، والنّظّار ، ومن لفّ لفّهم في أنّ المرّة ضروريّة ؛ من حيث إنّ الماهيّة لا وجود لها في الخارج إلّا ضمن أفرادها ، لا من حيث إنّها مدلولة. ـ


الواحدة ، فقد خرج عن عهدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر

__________________

ـ ولم يختلفوا أيضا في أنّ الأمر المقيّد بالمرّة ، أو التكرار يحصل على ما قيّد به ، إنّما وقع الخلاف بينهم في دلالة الأمر على ما زاد على القدر الّذي تتحقّق به الماهية ، إذا لم يكن مقيّدا بما يدلّ على التّكرار ، أو المرّة.

وقد تنوّعت مذاهبهم في ذلك إلى أربعة آراء :

أوّلا : وهو مذهب الجمهور من الأصوليّين واختاره أبو المعالي الجويني ، والرازيّ ، والبيضاوي والآمديّ ، وابن الحاجب ؛ حيث يرون أنه يدلّ على طلب تحصيل الماهيّة ، من غير إشعار بمرّة ، أو تكرار.

ثانيا : وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراينيّ ، والإمام أحمد ، وعبد القادر البغدادي ؛ حيث يرون أنّ الأمر يوجب التّكرار المستوعب لجميع العمر مع الإمكان ، إذا لم يقترن بما يدلّ على خلاف ذلك.

ثالثا : وهو منقول عن بعض مشايخ الحنفيّة ، ورأي بعض الشّافعيّة ، ومقتضاه : أنّ الأمر المطلق يدلّ على المرّة ، ولا يوجب التّكرار ولا يحتمله ، إلا إذا علّق بشرط ؛ مثل قوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

رابعا : وإليه ذهب الواقفيّة حيث يرون التّوقّف : إمّا لأنه مشترك بينهما ، فلا يعمل على أحدهما إلّا بقرينة ؛ أو لأنّه موضوع لأحدهما ، ولا يعرف إلّا بالبيان.

والرّأي الذي نختاره هو رأي الجمهور ، ونستدلّ على ذلك بأدلّة منها :

لو كان الأمر مفيدا لأحدهما ، لكان تقييده بذلك المعنى تكرارا وبغيره نقضا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

دليل بطلان التالي : أن التقييد لا يؤدّي إلى النقض ، ولا إلى التكرار ، ودليل بطلان المقدم : أن بطلان اللازم المساوي أو الأخص يستلزم بطلان ملزومه.

ويرد عليه : بأنه لا يثبت المدعى ؛ لأن عدم التكرار أو النقض قد لا يكون لكونه موضوعا للماهية ؛ من حيث هي ، بل لكونه مشتركا أو لأحدهما ، ولا نعرفه كما قد قيل به ، فيكون التقييد للدلالة على أحدهما.

ولأنه ورد مع التكرار شرعا كالأمر في آية الصلاة ، وعرفا كقول الحاكم للمحكوم التزم بالضبط الحكوميّ.

وتارة المرة شرعا ؛ كالأمر في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وعرفا ؛ كقولك : ادخل الدار ، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو طلب الإتيان بالمأمور به ؛ دفعا للاشتراك والمجاز اللازمين من جعله موضوعا لكل منهما أو لأحدهما فقط ؛ لكونهما خلاف الأصل ؛ وحينئذ لا يفيد شيئا بهما ولا ينافيه ؛ لعدم استلزام العلم الخاص وعدم منافاته إياه.

ويرد على هذا الوجه : أن الأمر إن كان موضوعا لمطلق الطلب ، ثم استعمل في طلب الخاص ـ فيكون مجازا ، وبأن الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنية فإذا استعمل الأمر فيما تشخص منها في الخارج ، يكون مجازا ؛ لأنه غير ما وضع له فاستعمال الأمر المقيد ، أو المرة مجاز ، فالفرار من مجاز واحد يوقعه في مجوزين.

وللقطع بأن المرّة والتكرار من صفات الفعل ، كالقليل والكثير ، ومن المعلوم أن الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية شيء منها ، وإذا علم ذلك فمعنى اقرأ طلب لقراءة ما ، فلا يدلّ على صفة القراءة من تكرار أو مرّة.

كما أن الأمر المطلق لو كان للتكرار ، لعم جميع الأوقات ؛ لعدم أولوية وقت دون وقت ، والتعميم باطل لأمرين.

أحدهما : أنه تكليف بما لا يطاق.

والثاني : يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتي بعده ، لا يمكن أن يجامعه في الوجود ؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثاني ، وليس كذلك.


الأول ، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال.

فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية

قال ابن الخطيب (١) : والاستدلال بهذه الآية على وقوع النّسخ ضعيف ؛ لأن «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك : «من جاءك فأكرمه» لا يدل على حصول المجيء ، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩].

فصل في فوائد معرفة النسخ

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : معرفة هذا الباب أكيدة عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة ؛ لما يترتب عليه من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال : دخل علي ـ رضي الله عنه ـ المسجد ، فإذا رجل يخوف الناس ؛ فقال : ما هذا؟ قالوا : رجل يذكر الناس ؛ فقال : ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال : لا ؛ قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكّر فيه.

وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا ؛ قال : قد هلكت وأهلكت!.

ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله

اعلم أن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، وسمي الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا.

واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه :

أحدها : هذه الآية.

وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه :

الأول : أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسّبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله ـ تعالى ـ وتعبّدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٧.


الوجه الثاني : المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ ، [وتحويله عنه](١) إلى سائر الكتب وهو كما يقال : نسخت الكتاب.

الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير.

[ومن الناس من أجاب عن الاعتراض](٢) الأول بأن الآية إذا أطلقت ، فالمراد بها آيات القرآن ؛ لأنه هو المعهود عندنا.

وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه.

ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل.

وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير ـ والله أعلم ـ : ما ننسخ من اللوح المحفوظ ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.

الحجة الثانية : [للقائلين بوقوع النسخ في القرآن](٣) أن الله ـ تعالى ـ أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا ، وذلك في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) [البقرة : ٢٤٠] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، كما قال (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

قال أبو مسلم : الاعتداد بالحول ما زال بالكلية ؛ لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا.

والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السّنة العدة يكون زائلا بالكلية.

الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة : ١٢] ، ثم نسخ ذلك.

قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه ؛ لأن سبب التعبّد بها أن يمتاز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد.

والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل ؛ لأنه روي أنه لم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وأجيب عن.

(٣) سقط في ب.


يتصدق غير علي ـ رضي الله عنه ـ ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣].

الحجة الرابعة : أنه ـ تعالى ـ أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦].

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] ثم أزالهم عنها بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] قال أبو مسلم : «حكم تلك القبلة ما زال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر».

الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين «بيت المقدس» ، وسائر الجهات ، فالخصوصية التي امتاز بها «بيت المقدس» عن سائر الجهات قد زالت بالكلية ، فكان نسخا.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] والتبديل يشتمل على رفع إثبات ، والمرفوع : إما التلاوة ، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ.

واحتجّ أبو مسلم بأن الله ـ تعالى ـ وصف كتابه بأنه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.

والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله.

فصل في أنواع النسخ (١)

تارة ينسخ الحكم ، وتارة التلاوة ، وتارة هما معا ، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات.

__________________

(١) وهو ثلاثة أنواع : «النّوع الأوّل» نسخ الحكم والتلاوة معا ؛ وذلك مثل ما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أنها قالت : «كان فيما أنزل عشر رضعات محرّمات فنسخن بخمس» وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة. وقال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : «إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أوتي قرآنا ثم نسيه ، فلم يبق منه شيء لما رفع الله عن قلبه ذلك» ومثل له أيضا بما روي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه قال : «كنّا نقرأ على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سورة تعدل سورة التوبة ، ما أحفظ منها غير آية واحدة ، وهي : لو أن لابن آدم واديين من ذهب ، لابتغى إليه ثالثا ، ولو أن له ثالثا لابتغى إليه رابعا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب» ونسخ هذا النوع كان بطريق الصرف والنسيان.

أي : يصرفها عن القلوب ، أو يصرف القلوب عنها ، وكان هذا النوع حاصلا في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدلّنا ـ


وأما نسخ التلاوة دون الحكم ، فكما يروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا

__________________

ـ على ذلك الاستثناء المذكور في قوله تعالى : («سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ ؛) إذ لو لم يتصور النسيان ، لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة ، والتالي باطل ، وهذا النوع لم يخالف فيه أحد.

«النّوع الثّاني» : ومعناه : أن يزال الحكم بنقل العباد منه ، ويبقى المنسوخ متلوّا ؛ وذلك مثل نسخ كل من الإيذاء باللّسان للزانيين الثابت بقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) وإمساك الزانيات الثابت بقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بالجلد والرجم فيهما مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما ، وأمثلة هذا النوع متعددة ؛ لأنه هو الكثير في كتاب الله ـ تعالى ـ.

من ذلك نسخ الاعتداد بالحول ، وقد تقدم ذكره ، ونسخ التخيير في الصوم ، ونسخ المسالمة مع الكفار ، وثبات الواحد للعشرة مع بقاء الآيات الموجبة لها.

وهذا النوع قال به جمهور الفقهاء والمتكلمين ، ولم يخالف في ذلك سوى فرقة شاذة من المعتزلة متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه ؛ إذ الابتلاء يحصل به ، والنص وسيلة إلى هذا المقصود ، فلا يبقى النصّ بدون حكمه ؛ لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصد ؛ كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض.

ويجاب عن هذا التمسك : بأن ما يتعلّق بالنص من الأحكام على قسمين : قسم يتعلق بالنظم ؛ مثل جواز الصلاة ، والإعجاز ، وغيرهما ، وقسم يتعلق بالمعنى ؛ وهو ما يترتب عليه من الوجوب ، والحرمة ، ونحوهما ، فيجوز أن يكون أحدهما مصلحة دون الآخر ، فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى ، جاز أن يبقى ما يتعلّق بالنظم ؛ لكونه مقصودا ؛ والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا : أن في القرآن ما هو متشابه ، ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلّق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز ، فإذا حسن ابتداء إنزال القرآن له ، فالبقاء أولى ، فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصورين ـ استقام بقاء النص ببقائهما ، أو ببقاء أحدهما. واعتراف الخلق برحمة الخالق ؛ حيث جعل لكل زمان من القوانين ما يناسبه ؛ ولكل أمة من الأمم ما يكفل لها سعادتها وراحتها ، لبقاء النص ماثلا بين أعينهم مسلوب الحكم ، بعد أن كان معمولا به ـ لأكبر دليل على أنه تولّى تربية الأمم ، وتدرج بهم إلى الكمال الذي أعده لهم ـ جل شأنه ـ ؛ بتغيير الحكم الذي كان يناسب علّة متأصلة في الأمة ، إلى حكم مناسب للدوام والاستقرار ، وبذلك يزداد شكرنا ، ويقوى امتثالنا للحكم ، واقتناعنا برحمته ، فقد يكون انتقالا إلى أخف ؛ فنشكر نعمة التخفيف ، وقد يكون انتقالا إلى حكم أشد من الأول ، فنشكر نعمة التهذيب لنفوسنا ، والتعويض للزيادة في ثبوتنا. فمن الأول : نسخ عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر بعد أن كانت حولا ؛ إذ لو بقيت الآية الأولى معمولا بها حتى الآن ، لكان ذلك مكرها فضليات النساء على التطوّح وراء المآرب الدنيئة ، لأن النّساء في الزمن الأول كنّ قادرات على الانتظار تلك المدة الطويلة ، فلما عيل صبرهنّ ، اقتضى النظام العادل أن يخفّف ذلك ؛ من الزمن الطويل الشاق إلى هذه المدة القصيرة السهلة ، ونسخ مصابرة الواحد عشرة في القتال بمصابرة اثنين ؛ وذلك لقلّة عدد المسلمين في صدر الإسلام ، فلما تضاعف عددهم ، وقويت شوكتهم ، زال ذلك المانع ، فخفف الله عليهم.

«ومن الثاني» : تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة في صدر الإسلام ، فجاءت الأحكام والآيات تستلها من نفوسهم رويدا رويدا ، حتى استقروا على المنع الباتّ ، وفي ذلك من حسن المعاملة ، وبديع الصنع ، ما لا يخفى على أحد ، سوى من حرم نعمة العقل ، فهذي من هذي.

«النوع الثالث» وهو نسخ التلاوة دون الحكم ومعناه : أن يزال النص الدال على الحكم بصرف الله ـ تعالى ـ القلوب عن حفظه ، مع بقاء العمل بالحكم ، وقد مثل بعضهم لهذا النّوع بقراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في كفارة اليمين : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ولكن التمثيل بهذا ليس من هذا ـ


نقرأ «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (١).

وروي : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب ، ويتوب الله على من تاب» (٢).

وأما نسخ الحكم والتلاوة معا ، فكما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات» (٣) ، فالعشر

__________________

ـ النوع في شيء ؛ بدليل أن هذه القراءة كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ، لكن لمّا لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن ، تركت ، فالأولى التمثيل لهذا النوع بما روي عن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ :

«كان فيما أنزل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم» ، وهذا ثابت بطرق كثيرة ، فلا يبعد أن يدعى فيه التواتر ، فاندفع قول القائل : «لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم» ؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر.

وهذا النوع كسابق من اتفاق الجمهور على جوازه ووقوعه ، ولم يخالف في ذلك سوى شرذمة من المعتزلة ؛ متمسكين بأن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية ، والمفهوم مع المنطوق. وكما لا ينفك العلم عن العالمية ، والمفهوم عن المنطوق ، فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ، وأيضا يلزم من نسخ التلاوة دون الحكم إيقاع المكلف في الجهل ؛ لأن ارتفاع التلاوة مظنة ارتفاع الحكم. «الجواب». «أما عن الأول» فلا تلازم بين جواز التلاوة وحكم المدلول ؛ فإن جواز التلاوة حكم ، وحكم المدلول حكم آخر ، وليس هذا كالعلم مع العالمية ؛ إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية ؛ فإن العالمية هي قيام العلم بالذات ، وإذ لا تغاير ، فلا تلازم ، ولو سلّم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية ، فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم علة العالمية ، بخلاف التلاوة ، فإنها أمارة الحكم فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ، ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها.

وتظهر حكمة هذا النوع في كل آية بما يناسبها ، فنرى في آية «الرجم» مثلا حكمة الله تتجلى بأكمل معانيها ، في تنزيه الأسماع عن تكرار سماع هذه الفعلة الفاحشة جد الفحش ، والألسنة عن تكرار التلفظ بهذه الجريمة التي يمجها الذوق السليم ، ويأبى الضمير الحي إلّا أن يطاردها ، فهي ممّا يستحى من تكراره ؛ يدلنا على ذلك : أن الإنسان يستبيح لنفسه أن يتحدث لبنيه وبناته بأخبار سرقات ، وقتل ونهب ، ولا يستبيح لنفسه أن يتحدث لهم عن هتك الأعراض ، وتعرض الرجال للنّساء ، والنساء للرجال ؛ فإن ذلك مدعاة إلى حب الاستطلاع ، ولا يكون إلا بالسقوط في تلك الهوّة.

(١) أخرجه أحمد (٥ / ١٨٢) وابن ماجه (٢ / ٨٥٣) رقم (٢٥٥٣) وأبو داود «كتاب الحدود» باب (١٦).

(٢) أخرجه البخاري (٨٩ / ١١٥) كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال رقم (٦٤٤٠) وأحمد (٥ / ١١٧) وابن حبان (٢٤٨٣ ـ موارد).

وأخرجه مسلم في الزكاة (١٠٤٩) بلفظ : «لو أن لابن آدم ملء واد مالا ، لأحبّ أن له إليه مثله».

وأخرجه الطبراني في الكبير (١ / ٢٠١) رقم (٤٢) مختصرا ، والترمذي (٣٨٩٤) والحاكم (٢ / ٢٢٤) وصححه ووافقه الذهبي.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه مسلم «كتاب الرضاع» باب ٢٥ وأبو داود (١ / ٦٢٩) رقم (٢٠٦٢) والترمذي (٤ / ٤٥٦) رقم (١١٥٠) والدارمي (٢ / ١٥٧).


مرفوع التلاوة والحكم جميعا ، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم.

ويروى أيضا أن سورة «الأحزاب» كانت بمنزلة السبع الطوال ، أو أزيد ، ثم انتقص منها.

[وروى ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن ، فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليل يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء ، فقام الآخر ، فقال : وأنا كذلك يا رسول الله ، فقال الآخر : فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّها ممّا نسخ الله البارحة» (١)

وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة ، فلا ينكره.

فصل في بيان أنه ليس شرطا البدل في النسخ

قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلّا إلى بدل واحتجوا بهذه الآية.

وأجيبوا بأن نفي الحكم ، وإسقاط التعبّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ، وقد نسخ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل](٢).

فصل في جواز النسخ بالأثقل

قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ينافي كونه أثقل ؛ لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله.

وأجيب : بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في الآخرة ، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله ـ سبحانه ـ نسخ في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصّلاة ركعتين عند قوم ، فنسخت بأربع في الحضر.

وأما نسخه إلى الأخف ، فكنسخ العدّة من حول إلى أربعة أشهر وعشرة ، وكنسخ صلاة اللّيل إلى التخيير فيها.

وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القبلة.

فصل : الكتاب لا ينسخ بالسّنّة المتواترة

قال الشافعي رضي الله عنه : الكتاب لا ينسخ بالسّنة المتواترة ، واستدل بهذ الآية

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٢ / ٢٨٨) وفي «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣١٨) ، (٧ / ١٥٤ ، ١٥٦) للهيثمي.

وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. والأثر ذكره ابن كثير في «التفسير» (١ / ١٠٤).

(٢) سقط في ب.


قال : لأنه قوله تعالى : «فأت (بِخَيْرٍ مِنْها) يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه ، كما إذا قال الإنسان : ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه ، وجنس القرآن قرآن ، وأيضا المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآن الذي هو كلام الله تعالى.

وأيضا فإن [السّنة لا تكون خيرا من القرآن](١).

وروى الدّارقطني عن جابر أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القرآن ينسخ حديثي وحديثي لا ينسخ القرآن».

وأجيب عن قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] وقوله : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وإذا ثبت أن الكل من عند الله ، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [أقصى ما فيه أنّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ ، وغير متلو](٢) وقد نسخت الوصية للأقربين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصيّة لوارث» (٣).

ونسخ حبس الزّاني في البيوت بخبر الرجم.

والجواب : استدل به الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من الآية ، وأما الوصية فإنها نسخت بآية المواريث قاله عمر وابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وأشار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى هذا بقوله : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث».

وأما حبس الزاني ، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية ، وهي إلى (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥] فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو وليس بنسخ.

وروي أيضا أن قوله : «الشّيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما ألبتة» (٤) كان قرآنا ، فلعل النسخ إنما وقع به.

__________________

(١) في ب : القرآن لا تكون السنة خيرا منه.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه سعيد بن منصور (٤٢٧) وأبو داود (٣٥٦٥) والترمذي (٢ / ١٦) وابن ماجه (٢٧١٣) والبيهقي (٦ / ٢٦٢٤) والطيالسي (١١٢٧) وأحمد (٥ / ٢٦٧) عن أبي أمامة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه سعيد بن منصور (٤٢٨) والنسائي (٢ / ١٢٨) والترمذي (٢ / ١٧) والدارمي (٢ / ٤١٩) وابن ماجه (٢٧١٢) والطيالسي (١٢١٧) وأحمد (٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه (٢٧١٤) والدارقطني (٤٥٤ ـ ٤٥٥) عن أنس بن مالك وأخرجه الدارقطني ص ٤٦٦ والبيهقي (٦ / ٢٦٣) عن ابن عباس بلفظ لا تجوز وصية لوارث.

(٤) أخرجه أحمد في المسند (٥ / ١٨٣) ـ والدارمي في السنن ٢ / ١٧٩. والبيهقي في السنن ٨ / ٢١١ ـ والحاكم في المستدرك ٤ / ٣٦٠. والخطيب في التاريخ ٢ / ٣٨٦ ـ وذكره القرطبي في التفسير ٥ / ٨٩.

وابن حجر في فتح الباري ٩ / ٦٥ ـ والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٨٠. والهيثمي في الزوائد ٦ / ٢٦٨ ـ والعجلوني في كشف الخفا ٢ / ٢٣ وتقدم تخريجه.


فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟

اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ (١)؟

فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر ، لاستحالة الكذب على الله تعالى.

وقيل : إن الخبر إذا تضمّن حكما شرعيّا جاز نسخه ، كقوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل : ٦٧].

فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟

القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله ، ولو صلى به لم تصح صلاته.

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن

استدلت المعتزلة بهذه الآية على [خلق القرآن](٢) من وجوه :

أحدها : أن كلام الله ـ تعالى ـ لو كان قديما لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك

__________________

(١) تنوعت آراء الأصوليّين في موضوع النّسخ : فالمذهب الذي عليه أئمّة العلماء ؛ وهو أن النّسخ إنما يكون في المتعبّدات ؛ لأن لله ـ عزوجل ـ أن يتعبد خلقه بما شاء ، إلى أيّ وقت شاء ، ثم يتعبدهم بغير ذلك ، فيكون النّسخ في الأوامر والنواهي ، وما كان في معناهما ؛ مثل قوله تعالى : «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» [النور : ٣] وقوله تعالى في سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ : «قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» [يوسف : ٤٧].

فالأولى : مثال للخبر الذي بمعنى النّهي ؛ لأن المعنى : لا تنكحوا زانية ولا مشركة.

والثانية : مثال للخبر الذي بمعنى الأمر ، لأنّ المعنى : «ازرعوا».

وهذا المذهب عزي إلى الضّحّاك بن مزاحم.

والثاني : أن النّسخ كما يكون في الأوامر والنّواهي يكون في الأخبار ، وينسب ل «عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، والسّديّ» ؛ حيث قالا : «قد يدخل النّسخ على الأمر والنهي ، وعلى جميع الأخبار» ، ولم يفصّلا ، وتابعهما على هذا القول جماعة.

قال أبو جعفر : «وهذا القول عظيم جدا يؤول إلى الكفر» ؛ لأن قائلا لو قال : «قام فلان» ، ثمّ قال : «لم يقم» ، ثم قال : «نسخته» ـ لكان كاذبا.

والثّالث : منهم من ذهب إلى أنّ أمر النّاسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام ، فله أن ينسخ ما شاء ، وهذا القول أعظم ، لأنّ النسخ لم يكن إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا بالوحي من الله ـ تعالى ـ : إمّا بقرآن مثله ؛ على قول قوم ، وإمّا بوحي من غير القرآن ، فلما ارتفع هذا بموت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ارتفع النّسخ.

والرابع : منهم من ذهب إلى أنّ النّسخ يكون في الأوامر والنّواهي ، وأمّا الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم ، فيجوز النّسخ فيه ، وبين ما لا حكم فيه ، فلا يجوز.

والخامس : منهم من ذهب إلى أنّ النّسخ يكون في الأوامر والنّواهي خاصة.

وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة بن عمّار.

(٢) في ب : إن القرآن مخلوق.


محال ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن المنسوخ ، والمتأخر يستحيل قدمه ، والمنسوخ يجب زواله وارتفاعه ، وما ثبت زواله استحال قدمه.

وثانيها : أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديما.

وثالثها : قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يدل على أنه القادر على نسخ بعضها ، وإتيانه بشيء آخر بدلا من الأول ، وما كان داخلا تحت القدرة ، وكان فعلا كان محدثا.

وأجيب عنه : بأن كونه ناسخا ومنسوخا إنما هو من عوارض الألفاظ ، ولا نزاع في حدوثها ، فلما قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها؟

قالت المعتزلة : لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال ، وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث ؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ، لأنه حصل بعد أن لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك [عن الحدث](١) محدث.

والجواب : أن قدرة الله ـ تعالى ـ كانت في الأزل متعلّقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود ، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟

فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرا على إيجاد الموجود وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ، فألزمكم حدوث قدرة الله ـ تعالى ـ على ما ذكرتم ، وكذلك علم الله ـ تعالى ـ كان متعلقا بأن العالم سيوجد ، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جهلا ، وإن لم يبق يلزمكم كون التعلق الأول حادثا ؛ لأنه لو كان قديما لما زال ، وكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حادثا فإذا عالمية الله ـ تعالى ـ لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث [محدث](٢) فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جوابا عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام.

قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) هذا استفهام معناه التقرير ، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب «أم» ، و «أم» في قوله : (أَمْ تُرِيدُونَ) منقطعة هذا هو الصحيح في الآية. قال ابن عطية (٣) : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : «أم تريدون» ، وقال قوم : «أم» منقطعة ، فالمعادل محذوف تقديره : أم علمتم ، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه‌السلام.

أما إذا أريد هو به ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي انتهى.

__________________

(١) في ب : هذه التعلقات.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٥.


وهذا فيه نظر ؛ لما مرّ أن المراد به التقرير ، فهو كقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّا لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك.

وفي قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) التفاتان.

أحدهما : خروج من خطاب جماعة ، وهو (خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

والثاني : خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتّفخيم. و (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «أن» وما في حيّزها ، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور ، أو واحد ، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

قال ابن الخطيب : لما حكم بجواز النسخ عقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره ، وهذا هو التنبيه على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حسن [منه الأمر والنهي لكونه مالكا للخلق ، وهذا هو مذهب أصحابنا ، وأنه](١) إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل ، أو لعقاب يندفع.

قال القفال رحمه‌الله تعالى : ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة ، فإنه ـ تعالى ـ أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض ، وأن الأمكنة والجهات كلها له ، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض ، إلّا من حيث يجعلها هو تعالى له ، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف ، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة.

قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) جزم ب «لم» ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل ، وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) خطاب للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمراد أمته ، لقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

وفي قوله : (مُلْكُ) وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره مقدم عليه ، والجملة في محلّ رفع خبر ل «أن».

والثاني : أنه مرفوع بالفاعلية ، رفعه الجار قبله عند الأخفش ، لا يقال : إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبرا ل «أن» ، فيرفع الفاعل عند الجميع ؛ لأن الفائدة لم تتم به ، فلا يجعل خبرا.

__________________

(١) سقط في أ.


والملك بالضم الشيء المملوك ، وكذلك هو بالكسر ، إلا أنّ المضموم لا يستعمل إلا في مواضع السّعة وبسط السلطان.

وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].

قوله : (وَما لَكُمْ) يجوز في «ما» وجهان.

أحدهما : أن تكون تميمة ، فلا عمل لها ، فيكون «لكم» خبرا مقدما ، و «من وليّ» مبتدأ مؤخرا زيدت فيه «من» ، فلا تعلّق لها بشيء.

والثاني : أن تكون حجازية ، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفا أو حرف جر ، فيكون «لكم» في محلّ نصب خبرا مقدما ، و «من وليّ» اسمها مؤخرا ، و «من» فيه زائدة أيضا.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بما تعلق به «لكم» من الاستقرار المقدر ، و «من» لابتداء الغاية.

والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من قوله : «من ولي أو نصير» ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالا قاله أبو البقاء رحمه‌الله تعالى.

فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به «لكم» ، ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله ؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [البسيط]

٧٢٩ ـ يا نفس ما لك دون الله من واق

[وما على حدثان الدّهر من باق(١)(٢)

والولي : من وليت أمر فلان ، أي قمت به ، ومنه : وليّ العهد أي : المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين.

(وَلا نَصِيرٍ) عطف على لفظ «وليّ» ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزا ، وأتي بصيغة «فعيل» في «ولي» و «نصير» ؛ لأنها أبلغ من فاعل ، ولأن «وليا» أكثر استعمالا من «وال» ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة «الرعد».

وأيضا لتواخي الفواصل وأواخر الآي.

وفي قوله : (لَكُمْ) التفات من خطاب الواحد لخطاب الجماعة ، وفيه مناسبة ، وهو أن المنفيّ صار نصّا في العموم بزيادة «من» فناسب كون المنفي عنه كذلك فجمع لذلك.

فصل في أن الملك غير القدرة

استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة.

__________________

(١) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٩ ، مجمع البيان : ١ / ٤١١ ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٨٩.

(٢) سقط في أ.


فقال : إنه ـ تعالى ـ قال أولا : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم قال بعده: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريرا من غير فائدة ، والكلام في حقيقة الملك.

قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لما حكم بجواز النسخ في الشرائع ، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم ، فمنعهم الله ـ تعالى ـ عنها ، وبين أنّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة والسلام](١).

وثانيها : لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم : إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه‌السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم.

وثالثها : لما أمر ونهى قال : أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و «أم» هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ) وهي مفرقة لما جمعته أي : كما أن «أو» مفرقة لما جمعته تقول : اضرب أيهم شئت زيدا أم عمرا ، فإذا قلت : اضرب أحدهم.

قلت : اضرب زيدا أو عمرا.

أو تكون منقطعة ، فتقدم ب «بل» والهمز ، ولا تكون إلّا بعد كلام تام كقوله : إنما الإبل أم شاء ؛ كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [هود : ٣٥] أي : يقولون.

قال الأخطل : [الكامل]

٧٣٠ ـ كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (٢)

ويكون إضرابا للالتفات من قصّة إلى قصة](٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : ٣٨٥ ، والأزهية : ١٢٩ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٩ و ١٠ و ١٢ و ١٩٥ ، ١١ / ١٢٢ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٦٧ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٤٣ ، والكتاب : ٣ / ١٧٤ ، ولسان العرب [كذب] ، [غلس] ، ومغني اللبيب : ١ / ٤٥ ، والمقتضب : ٣ / ٢٩٥ ، والأغاني : ٧ / ٧٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ١٢٥.

(٣) سقط في ب.


قال أبو البقاء : أم هنا منقطعة ، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أيّهما ، والهمزة من قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) ليست من «أم» في شيء ، والمعنى : بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام.

وأصل تريدون : «ترودون» ؛ لأنه من راد يرود ، وقد تقدّم ، فنقلت حركة «الواو» على «الراء» ، فسكنت «الواو» بعد كسرة فقلبت ياء.

وقيل : «أم» للاستفهام ، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها.

وقيل : هي بمعنى «بل» وحدها ، وهذان قولان ضعيفان.

قوله تعالى : (أَنْ تَسْئَلُوا) ناصب ومنصوب في محل نصب مفعولا به بقوله : (تُرِيدُونَ) أي : أتريدون سؤال رسولكم.

قوله : (كَما سُئِلَ) متعلق ب «تسألوا» و «الكاف» في محلّ نصب ، وفيها التقديران المشهوران : فتقدير سيبويه رحمه‌الله تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف.

أي : إن تسألوه أي : السؤال حال كونه مشبّها بسؤال قوم موسى له ، وتقدير جمهور النحاة : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالا مشبها كذا. و «ما» مصدرية ، أي : كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى](١) و «موسى» مفعول لم يسمّ فاعله ، حذف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قوم موسى.

والمشهور : «سئل» بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسن (٢) : «سيل» بكسر السين وياء بعدها من : سال يسال نحو : خفت أخاف ، وهل هذه الألف في «سال» أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه ، وسيأتي تحقيقه في «سأل» ، وقرىء بتسهيل (٣) الهمزة بين بين و «من قبل» متعلّق ب «سئل» ، و «قبل» مبنية على الضم ؛ لأن المضاف إليه معرفة أي : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدما على سؤالهم.

قوله : (بِالْإِيمانِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها ياء العوضية ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

والثاني : أنها للسببية.

قال أبو البقاء (٤) : يجوز أن يكون مفعولا يتبدّل ، وتكون الباء للسبب ، كقولك : اشتريت الثوب بدرهم ، وفي مثاله هذا نظر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٩٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٣) وهذه القراءة بضم السين.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٤) ينظر الإملاء : ١ / ٥٧.


وقوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) قرىء بإدغام الدّال في الضاد وإظهارها.

و «سواء» قال أبو البقاء (١) : سواء السبيل ظرف بمعنى وسط السبيل وأعدله ، وهذا صحيح فإن «سواء» جاء بمعنى وسط.

قال تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥].

وقال عيسى بن عمر : ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي ؛ وقال حسّان : [الكامل]

٧٣١ ـ يا ويح أصحاب النّبيّ ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد (٢)

ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير : [الوافر]

٧٣٢ ـ أرونا خطّة لا عيب فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء (٣)

والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة ، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان ، فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم ، فالمبدّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه : إنه ضل سواء السبيل.

والسبيل يذكر ويؤنث : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨].

والجملة من قوله : (فَقَدْ ضَلَّ) في محل جزم ؛ لأنها جزاء الشرط ، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطا.

فصل في المخاطب بهذا

في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه :

أحدها : [أنهم المسلمون قاله الأصم ، والجبّائي ، وأبو مسلم ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : أن قوله تعالى](٤) : (أَمْ تُرِيدُونَ) يقتضي معطوفا عليه وهو قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) فكأنه قال : وقولوا : انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟

وثانيها : أن المسلمين كان يسألون محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ـ عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه.

وثالثها : سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر ديوانه : (٦٦) ، مجاز القرآن : ١ / ٥٠ ، اللسان (سوا) ، القرطبي : (٢ / ٤٩) ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٩٦ ، البحر المحيط : ١ / ٥١٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٣) تقدم برقم ١٥١.

(٤) سقط في ب.


أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، ويعلقون عليها المأكول والمشروب ، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

القول الثاني : أنه خطاب لأهل «مكة» ، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم ؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في رهط من قريش فقال : يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ، ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه. وقال له بقية الرّهط : فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من](١) عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض ، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك ، فنؤمن لك عند ذلك.

فأنزل الله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) محمدا أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(٢) [البقرة : ٥٥]. وعن مجاهد رحمه‌الله تعالى أنّ قريشا سألت محمدا عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصّفا ذهبا وفضّة ، فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.

القول الثالث : المراد بهم اليهود ، [وهذا القول أصح ، لأن هذه السورة من أول قوله](٣) : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٧] حكاية ومحاجّة معهم ؛ ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم.

فصل في سؤالهم

[قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفيته ، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة.

فإن قيل : إن كان ذلك السؤال طلبا للمعجزة فليس بكفر ؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا ، وإن كان طلبا لوجه الحكمة في نسخ الأحكام ، فهذا أيضا لا يكون كفرا ؛ لأن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ طلبوا الحكمة في خلق البشر ، ولم يكن ذلك كفرا. والجواب أن يحمل على أنهم طلبوا أن يجعل لهم إله كما لهم آلهة ، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنّت ، أو اللّحاج ، فهذا كفر ، والسبب هذا السؤال ، والله أعلم (٤)].

قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فأنزل الله هذه الآية.

(٣) في أ : لأن معنى قوله تعالى.

(٤) سقط في ب.


كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٩)

سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر بعد وقعة «أحد» : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا ، فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد ، قال : فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت.

فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، ثم أتيا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبراه فقال : أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت هذه الآية (١).

قوله تعالى : (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) الكلام في «لو» كالكلام فيها عند قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) [البقرة : ٩٦] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعول «يود» أي : ودّ كثير ردّكم.

ومن أبي جعل جوابها محذوفا تقديره : لو يردونكم كفارا لسرّوا أو فرحوا بذلك.

وقال بعضهم : تقديره : لو يردونكم كفارا لودّوا ذلك ، ف «ودّ» دالّة على الجواب ، وليست بجواب ؛ لأن «لو» لا يتقدمها جوابها كالشرط.

وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد ، وذلك أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيلزم من تقديره ذلك أن ودادتهم ذلك لم تقع ؛ لأن الموجب لفظا منفي معنى ، والغرض من ودادتهم ذلك واقعة باتفاق ، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح.

و «يرد» هنا فيه قولان.

أحدهما ـ وهو الواضح ـ أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى «صيّر» ، فضمير المخاطبين مفعول أول ، و «كفارا» مفعول ثان ؛ ومن مجيء «ردّ» بمعنى «صيّر» قوله : [الوافر]

٧٣٣ ـ رمى الحدثان نسوة آل حرب

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا (٢)

__________________

(١) انظر تفسير الفخر الرازي : (٣ / ٢١٣).

(٢) البيتان لعبد الله بن الزبير. ينظر ملحق ديوانه : ص ١٤٣ ـ ١٤٤ ، ونسبا أيضا للكميت بن معروف ينظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٩٤١ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤١٧ ، عيون الأخبار : ٣ / ٧٦ ، معجم الشعراء : ص ٣٠٩ ، ذيل الأمالي : ص ١١٥ ، شرح الأشموني : ١ / ١٥٩ ، شرح ابن عقيل : ص ٢١٧ ، لسان العرب (سمد) ، أمالي القالي : ٣ / ١٢٨ ، الأضداد : (٣٦) ، مجالس ثعلب : ٢ / ٤٣٩ ، الدر المصون : ١ / ٣٤١.


وجعل أبو البقاء كفارا حالا من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد ، وهو ضعيف ، لأن الحال يستغني عنها غالبا ، وهذا لا بد منه.

و «من بعد» متعلق ب «يردّونكم» و «من» لابتداء الغاية

قوله تعالى : (حَسَداً) نصب على المفعول له ، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه ، والعامل فيه «ود» أي : الحامل على ودادتهم ردّكم كفّارا حسدهم لكم.

وجوزوا فيه وجهين آخرين :

أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال ، وإنما لم يجمع لكونه مصدرا ، أي : حاسدين ، وهذا ضعيف ، لأن مجيء المصدر حالا لا يطّرد.

الثاني : أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسدا [والأول أظهر الثلاثة](١).

قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق ب «ود» أي : ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [والميل مع الحق ؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق](٢) و «من» لابتداء الغاية.

الثاني : أنه صفة ل «حسدا» فهو في محلّ نصب ، ويتعلّق بمحذوف أي : حسدا كائنا من قبلهم وشهوتهم ، ومعناه قريب من الأول.

[الثالث : أنه متعلّق ب «يردّونكم» ، و «من» للسببية. أي : يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم](٣).

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما) متعلّق ب «ودّ» ، و «من» للابتداء ، أي : أنّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حين وضوح الحق ، وتبيّنه لهم ، فكفرهم عناد ، و «ما» مصدرية أي : من بعد تبيين الحقّ.

والحسد : تمنّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حسد.

فإن قيل : إنّ النّفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟

فالجواب : أن الذي هو في وسعه أمران :

أحدهما : كونه راضيا بتلك النّفرة.

والثاني : إظهار آثار تلك النّفرة من القدح فيه ، والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.


وجدّ أسباب المحبة إليه ، فهذا هو الداخل تحت التكليف.

والحمد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أتعود إليك أم لا ؛ لأنه فيه تسفيه الحق ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه أنعم على من لا يستحقّ.

والمحمود كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله تعالى القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق آناء اللّيل وآناء النّهار» (١) .. وهذا الحديث معناه «الغبطة» كذا ترجم عليه البخاري رحمه‌الله تعالى.

والصّفح قريب من العفو ، مأخوذ من الإعراض بصفحة العنق.

وقيل : معناه التجاوز ، من تصفّحت الكتاب أي : جاوزت ورقه ، والصّفوح من أسماء الله ، والصّفوح أيضا : المرأة تستر وجهها إعراضا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧٣٤ ـ صفوح فما تلقاك إلّا بحيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (٢)

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : العفو : ترك المؤاخذة بالذّنب.

والصّفح : إزالة أثره من النفس. يقال : صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته ، ومنه قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥].

فصل في المراد بهذه الآية

[المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلّا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ٧٣) كتاب فضائل القرآن (٦٦) باب اغتباط صاحب القرآن (٢٠) حديث رقم (٥٠٢٥).

وفي (١٣ / ٥٠٢) كتاب التوحيد (٩٧) باب قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجل آتاه الله القرآن .. (٤٥) حديث رقم (٧٥٢٩).

ومسلم في الصحيح (١ / ٥٥٨) كتاب صلاة المسافرين (٦) باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (٤٧) حديث رقم (٢٦٦ / ٨١٥) والترمذي في السنن حديث رقم (١٩٣٦).

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٤٠٧) كتاب الزهد باب الحسد حديث رقم (٤٢٠٨ ، ٤٢٠٩) ـ وأحمد في المسند (١ / ٣٨٥ ، ٣٥٣ ، ٤٢٣).

وابن أبي شيبة (١٠ / ٥٥٧ ، ٥٥٨) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث (٥٩٧٤) والخطيب في التاريخ (٧ / ٨٥) ـ والبيهقي في السنن (٤ / ١٨٨) ، (١٠ / ٨٨) ـ وأبو نعيم في الحلية (٧ / ٣٦٣) ، (٨ / ٤٦) ـ وذكره المنذري في الترغيب ١ / ٩٨ ، ٤٣٨.

والهندي في كنز العمال حديث رقم (١٦٠٥٠) ، (٢٣٣٩) ، (٢٣٤٠) ، (٢٨٩٣٩).

(٢) البيت لكثير. ينظر ديوانه : ١ / ٤٣ ، البحر المحيط : ١ / ٥٠٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٢.


بشبهة يلقيها إليه ، لأنّ المحق لا يعدل عن الحق إلّا بشبهة ، والشبهة ضربان :

أحدهما : ما يتّصل بالدنيا ، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم ، وضيق الأمر عليكم ، واستمرار المخافة بكم ، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.

والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المعجزات ، أو تحريف ما في التوراة.

فصل في المقصود بأمر الله

قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يحتمل أمرين :

الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب ؛ لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت ، فكأنه ـ تعالى ـ أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علّقه بغاية ، فقال : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

وذكروا فيه وجوها :

أحدها : أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن.

وثانيها : أنه](١) قوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.

وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أنه الأمر بالقتال ؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :

إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية ، وتحمل الذل والصّغار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩].

وروي أنّه لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال حتى نزل جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] وقلّده سيفا فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ب «بطن نخل» ، وبعده غزوة «بدر».

فإن قيل : كيف يكون منسوخا وهو معلق بغاية كقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧]. وإن لم يكن ورود الليل ناسخا ، فكذا هاهنا.

فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ، ويحلّ محل قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه عنكم.

__________________

(١) سقط في أ.


فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟

فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيّجوا شرا وقتالا.

قال القرطبي رحمه‌الله : [قال أبو عبيدة :](١) كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.

قال ابن عطية : [الحكم](٢) بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن معاندات اليهود أنما كانت ب «بالمدينة».

قال القرطبي : «وهو الصحيح».

[التفسير الثاني : العفو والصفح](٣) أنه حسن الاستدعاء ، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق ، والتشدّد فيه ، وهذا لا يجوز نسخه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)

لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تنبيها لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [المزمل : ٢٠]. الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكوات ، وبيّن تعالى أنهم يجدونه ، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال ؛ لأنها لا تبقى ، ولأن وجدان عين تلك الأشياء ، ولا يرغب فيه ، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه.

قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ).

فيجوز في «ما» أن تكون مفعولا بها ، وأن تكون واقعة موقع المصدر ، ويجوز في «من خير» الأربعة أوجه التي في «من آية» : من كونه مفعولا به ، أو حالا ، أو تمييزا ، أو متعلّقا بمحذوف.

و «من» تبعيضية ، وقد تقدم تحقيقها ، فليراجع ثمّة.

و «لأنفسكم» متعلّق ب «تقدمّوا» ، أي : لحياة أنفسكم ، وحذف ، و «تجدوه» جواب الشرط ، وهي متعدّية لواحد ؛ لأنها بمعنى الإصابة ، ومصدرها الوجدان بكسر

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وحكمه.

(٣) سقط في أ.


الواو كما تقدم ، ولا بد من حذف مضاف أي : تجدوا ثوابه ، وقد جعل الزمخشري رحمه‌الله تعالى الهاء عائدة على «ما» ، وهو يريد ذلك ؛ لأنّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد ، إنما يوجد ثوابه.

[فصل فيما بعد الموت

جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس : ما خلّف؟ وقالت الملائكة عليهم‌السلام : ما قدّم؟

وجاء عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه مرّ ببقيع «الغرقد» فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، أخبارنا عندنا أنّ نساءكم قد تزوّجن ، ودوركم قد سكنت ، وأموالكم قد قسّمت ، فأجابه هاتف : يا ابن الخطاب ، أخبار ما عندنا أنّ ما قدّمناه وجدناه ، وما أنفقناه فقد ربحناه ، وما خلّفناه فقد خسرناه (١) ؛ ولقد أحسن القائل حيث قال : [الكامل]

٧٣٥ ـ قدّم لنفسك قبل موتك صالحا

واعمل فليس إلى الخلود سبيل (٢)

وقال آخر : [الكامل]

٧٣٦ ـ قدّم لنفسك توبة مرجوّة

قبل الممات وقبل حبس الألسن (٣)

وقال آخر : [السريع]

٧٣٧ ـ وقدّم الخير فكلّ امرىء

على الّذي قدّمه يقدم (٤)](٥)

فصل في إعراب الآية

قوله : (عِنْدَ اللهِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «تجدوه».

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٢ / ٥١.

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

(٤) وقبله :

سابق إلى الخير وبادر به

فإنما خلفك ما تعلم

ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

وأحسن من هذا قول أبي العتاهية :

إسعد بما لك في حياتك إنما

يبقى وراءك مصلح أو مفسد

وإذا تركت لمفسد لم يبقه

وأخو الصلاح قليله يتزيّد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثا

إن المورث نفسه لمسدّد

(٥) سقط في ب.


والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي : تجدوا ثوابه مدّخرا معدّا عند الله تعالى ، والظّرفية هنا مجاز نحو : «لك عند فلان يد».

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)

اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود ، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً).

«من» فاعل بقوله : (يَدْخُلَ) وهو استثناء مفرغ ، فإن ما قبل «إلّا» مفتقر لما بعدها ، والتقدير : لن يدخل الجنّة أحد ، وعلى مذهب الفرّاء يجوز في «من» وجهان آخران ، وهما النّصب على الاستثناء والرفع على البدل من «أحد» المحذوف ، فإن الفراء رحمه‌الله تعالى يراعي المحذوف ، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران ، فكذلك جاز مع التقدير عنده ، وقد تقدّم تحقيق المذهبين.

والجملة من قوله تعالى : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ) في محلّ نصب بالقول ، وحمل أولا على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله : (كانَ) ، وعلى معناها ثانيا فجمع في خبرها وهو «هودا» ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل وصفا يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث.

فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه ، ومذهب غيرهم منعه ، منهم أبو العبّاس ، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية ، فإن هودا جمع «هائد» على أظهر القولين ، نحو : بازل وبزل ، وعائد وعود ، وحائل وحول ، وبائر وبور.

و «هائد» من الأوصاف ، الفارق بين مذكّرها ومؤنثها «تاء» التأنيث ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٧٣٨ ـ وأيقظ من كان منكم نياما (١)

و «نيام» جمع نائم ، وهو كالأول.

وفي «هود» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جمع هائد كما تقدم.

__________________

(١) لم نهتد إلى قائله وتتمته ، وينظر معاني القرآن : ١ / ٧٣ ، والبحر : ١ / ٥٢٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٣.


والثاني : أنه مصدر على «فعل» نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو : عدل وصوم.

والثالث : وهو قول الفراء أن أصله «يهود» ، فحذفت الياء من أوله ، وهذا بعيد.

و «أو» هنا للتّفصيل والتنويع ؛ لأنه لما لفّ الضمير في قوله تعالى : (وَقالُوا) : فصّل القائلين ، وذلك لفهم المعنى ، وأمن الإلباس ، والتقدير : [وقال اليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا.

وقال الأنصاري : لن يدخل إلّا من كان نصارى](١) ؛ لأن من المعلوم أنّ اليهود لا تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وكذلك النصارى لا تقول : [لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا](٢).

ونظيره قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] إذ معلوم أن اليهود لا تقول : كونوا نصارى ، ولا النّصارى تقول : كونوا هودا.

وصدرت الجملة بالنفي ب «لن» ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبال ، ودخول الجنة مستقبل. وقدمت اليهود على النصارى لفظا لتقدمهم زمانا.

وقرأ أبيّ (٣) بن كعب : «إلّا من كان يهوديّا أو نصرانيّا».

قوله تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) «تلك» مبتدأ ، و «أمانيّهم» خبره ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضا بين قوله : (وَقالُوا) ، وبين قوله تعالى : (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها.

والمشار إليه ب «تلك» فيه ثلاثة احتمالات :

أحدها : أنه المقالة المفهومة من : (قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ، أي : تلك المقالة أمانيهم.

فإن قيل : كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟

فالجواب : أن تلك كناية عن المقالة ، والمقالة في الأصل مصدر ، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد والمثنى والمجموع ، فالمراد ب «تلك» الجمع من حيث المعنى.

وأجاب الزمخشري رحمه‌الله أن «تلك» يشار بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم [ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا أي](٤) ألّا يدخل الجنة غيرهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٢٠.

(٤) سقط في ب.


قال أبو حيان رحمه‌الله تعالى : وهذا ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت ، واستقلت بالنزول ، فيبعد أن يشار إليها.

وأجاب الزمخشري أيضا أن يكون على حذف مضاف أي : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد.

قال أبو حيان : وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون «تلك» مبتدأ ، و «أمانيّهم» خبر ، فقلب هذا الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه ، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ ، فلا يتقدم الخبر نحو : زيد زهير ، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك : الأسد زيد شجاعة [قال عليه الصلاة والسلام : «العاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله تعالى» (١) وقال علي رضي الله عنه : «لا تتكل على المنى ، فإنها تضيع المتكل»](٢).

قوله : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) هذه الجملة في محلّ نصب بالقول.

واختلف في «هات» على ثلاثة أقوال :

أصحها : أنه فعل ، [وهذا هو صحيح](٣) لاتّصاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو : هاتوا ، هاتي ، هاتيا ، هاتين.

الثاني : أنه اسم فعل بمعنى أحضر.

الثالث : وبه قال الزمخشري : أنه اسم صوت بمعنى «ها» التي بمعنى أحضر.

وإذا قيل بأنه فعل فاختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضا :

أصحها : أن هاءه أصل بنفسها ، وأن أصله هاتى يهاتي مهاتاة مثل : رامى يرامي مراماة ، فوزنه «فاعل» فتقول : هات يا زيد ، وهاتي يا هند ، وهاتوا وهاتين يا هندات ، كما تقول : رام رامي راميا راموا رامين. وزعم ابن عطية ـ رحمه‌الله ـ أن تصريفه مهجور لا يقال فيه إلّا الأمر ، وليس كذلك.

الثاني : أن «الهاء» بدل من الهمزة ، وأن الأصل «آتى» وزنه : أفعل مثل أكرم.

وهذا ليس بجيد لوجهين :

أحدهما : أن «آتى» يتعدى لاثنين ، وهاتي يتعدى لواحد فقط.

[وثانيهما] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [لزوال](٤)

__________________

(١) أخرجه البيهقي (٣ / ٣٦٩) والبغوي (٢ / ٣٠٥) وذكره الزبيدي في «الإتحاف» (٧ / ٤٤) ، (٩ / ١٦٦) ، (١٠ / ٢٢١).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : لجواز.


موجب قلبها ، وهو الهمزة الأولى ، ولم يسمع ذلك.

الثالث : أن هذه «ها» التي للتنبيه دخلت على «أتى» ولزمتها ، وحذفت همزة أتى لزوما ، وهذا مردود ، فإن معنى «هات» أحضر كذا ، ومعني ائت : احضر أنت ، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة.

فتحصل في «هاتوا» سبعة أقوال :

فعل ، أو اسم فعل ، أو اسم صوت ، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية ، أو بدل من همزة ، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟

وأصل «هاتوا» : «هاتيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وضم ما قبله لمجانسة «الواو» فصار «هاتوا».

قوله تعالى : (بُرْهانَكُمْ) مفعول به.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : «البرهان : الدّليل الذي يوقع اليقين ، وجمعه براهين ، مثل قربان وقرابين ، وسلطان وسلاطين».

واختلفوا فيه على قولين :

أحدهما : أنه مشتقّ من «البره» وهو القطع ، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي ، ومنه : برهة الزمان أي : القطعة منه ، فوزنه «فعلان».

والثاني : أن نونه أصلية لثبوتها في برهن يبرهن برهنة ، والبرهنة البيان ، فبرهن فعلل لا فعلن ، لأن فعلن غير موجود في أبنيتهم ، فوزنه «فعلال» ؛ [وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صرف «برهان» وعدمه ، إذا سمّي به.

ودلّت الآية على أن الدّليل على المدّعي ، سواء ادّعى نفيا ، أو إثباتا ، ودلّت على بطلان القول بالتقليد ؛ قال الشاعر : [السريع]

٧٣٩ ـ من ادّعى شيئا بلا شاهده

لا بدّ أن تبطل دعواه (١)](٢)

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني : في إيمانكم أي في قولكم : إنكم تدخلون الجنة ، أي : بينوا ما قلتم ببرهان.

قوله تعالى : (بَلى) فيه وجوه :

الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.

الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا.

الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنّة ، بل إن غيّرتم

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ٤.

(٢) سقط في ب.


طريقتكم ، وأسلمتم وجهكم لله ، وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام ، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة.

قوله تعالى : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) هو إسلام النفس لطاعة الله تعالى ، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه :

أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس والفكر والتخيّل [ولذلك يقال: وجه الأمر ، أي معظمه ؛ قال الأعشى : [السريع]

٧٤٠ ـ أؤوّل الحكم على وجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر (١)](٢)

فإذا تواضع الأشارف كان غيره أولى.

وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ومعنى «أسلم» : خضع قال زيد بن عمرو بن نفيل : [المتقارب]

٧٤١ أ ـ وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا (٣)

٧٤١ ب ـ وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا (٤)

فيكون المراد هنا نفسه ، والأمر بإذلالها ، وأراد به نفس الشيء ، وذلك لا يكون إلّا بانقياد الخضوع ، وبإذلال النّفس في طاعة الله ـ عزوجل ـ وتجنبها عن معاصيه](٥).

ومعنى «لله» أي : خالصا لله لا يشوبه شرك.

قوله تعالى : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جملة في محلّ نصب على حال [والعامل فيها «أسلم» وهذه الحال حال مؤكدة لأن م ن «أسلم وجهه لله فهو محسن»](٦).

وقال الزمخشري رحمه‌الله تعالى وهو محسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة ؛ لأن من أسلم وجهه قسمان : محسن في عمله وغير محسن انتهى.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٩٣) ، الطبري : ٢ / ٥١١ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) تبع المصنف الرّازي في إدماج البيتين. ينظر الرازي : ٤ / ٤.

(٤) ينظر مشكل القرآن : (٤٨٠) ، الطبري : ٢ / ٢ / ٥١١ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٥ ، والمعارف : ص ٢٧ ، ومجمع البيان : ١ / ١ / ١٨٧ ، والرازي : ٤ / ٤ ، والأغاني : ٣ / ١٧ ، وبعده :

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها

سواء وأرسى عليها الجبالا

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.


قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ) الفاء جواب الشرط إن قيل بأن «من» شرطية ، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة ، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها.

وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري ، وهو أن تكون «من» فعله بفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم ، و «فله أجره» كلام معطوف على يدخلها ـ هذا نصه.

و «له أجره» مبتدأ وخبره ، إما في محلّ جزم ، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في «من». وحمل على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وعلى معناها ، فجمع في قوله : (عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وهذا أحسن التركيبين ، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في «عند» ما تعلق به «له» من الاستقرار ، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة «الرّب» لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير ، ولم يضفه إلى الضمير ، ولا إلى الجلالة ، فيقول : فله أجره عنده أو عند الله ، لما ذكرت لك ، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨] بما فيه من القراءات.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

اليهود ملّة معروفة ، والياء فيه أصلية لثبوتها في التّصريف ، وليست من مادّة «هود» من قوله تعالى : (هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وقد تقدم أن الفراء رحمه‌الله تعالى يدعي أن «هودا» أصله : يهود ، فحذفت ياؤه ، وتقدم أيضا عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] أن اليهود نسبة ل «يهوذا بن يعقوب».

وقال الشّلوبين : يهود فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون جمع يهوديّ ، فتكون نكرة مصروفة.

والثاني : أن تكون علما لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة من الصرف. انتهى ، وعلى الأول دخلت الألف واللام ، وعلى الثاني قوله : [الطويل]

٧٤٢ ـ أولئك أولى من يهود بمدحة

إذا أنت يوما قلتها لم تؤنّب (١)

وقال آخر : [الكامل]

__________________

(١) البيت لرجل من الأنصار. ينظر ما ينصرف وما لا ينصرف : ص ٦٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٥٤ ، ولسان العرب (هود) ، والدر المصون : ١ / ٣٤٦.


٧٤٣ ـ فرّت يهود وأسلمت جيرانها

 ..........(١)

ولو قيل بأن «يهود» منقول من الفعل المضارع نحو : يزيد ويشكر لكان قولا حسنا. ويؤيده قولهم : سمّوا يهودا لاشتقاقهم من هاد يهود إذا تحرك.

قوله تعالى : (لَيْسَتِ النَّصارى) «ليس» فعل ناقص أبدا من أخوات «كان» ولا يتصرف ، ووزنه على «فعل» بكسر العين ، وكان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل : شئت ، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت «الفاء» على حالها.

وقال بعضهم : «ليست» بضم الفاء ، ووزنه على هذه اللغة : فعل بضم العين ، ومجيء فعل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر ، لم يجىء منه إلّا «هيؤ الرجل» ، إذا حسنت هيئته.

وكون «ليس» فعلا هو الصحيح خلافا للفارسي في أحد قوليه ، ومن تابعه في جعلها حرفا ك «ما» كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرّفع البارزة بها ، ولها أحكام كثيرة ، و «النّصارى» اسمها ، و «على شيء» خبرها ، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة ، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] أي : أهلك الناجين ، وقوله : [الطويل]

٧٤٤ ـ ..........

 ... لقد وقعت على لحم(٢)

أي : لحم عظيم ، وأن يكون نفيا على سبيل المبالغة ، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه ، مع أن الشيء يطلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقوله : «أقل من لا شيء».

فصل في سبب نزول هذه الآية

روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل.

وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى عليه‌السلام والتوراة ، فأنزل الله هذه الآية (٣).

__________________

(١) صدر بيت للأسود بن يعفر وعجزه :

صمي لما فعلت يهود صمام

ينظر اللسان (صمم) ، والدر المصون : ١ / ٣٤٦.

(٢) تقدم برقم ١٣٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤١٣ ـ ٥١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٧ ـ ١٩٨).


واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله ـ تعالى ـ أهم الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه‌السلام أو في زمن محمد عليه‌السلام؟

[فإن قيل : كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصّانع وصفاته سبحانه ، وذلك قول فيه فائدة؟

والجواب عندهم من وجهين :

الأول : أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قولا باطلا يحبط ثواب الأول ، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق.

الثّاني : أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيها ، وهي ما يتّصل بإثبات الثّواب](١).

قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ) جملة حالية ، وأصل يتلون : يتلوون فأعلّ بحذف «اللّام» ، وهو ظاهر.

و «الكتاب» اسم جنس ، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب ، وحقّ من حمل التوراة ، أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ألّا يكفر بالباقي ؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته.

قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب ، وفيها حينئذ تقديران :

أحدهما : أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عامله ، تقديره : قولا مثل ذلك القول [الذي قال أي قال القول] الذين لا يعلمون.

[الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه. قال : تقديره : مثل ذلك القول قاله أي : قال القول الذين لا يعلمون](٢) حال كونه مثل ذلك القول ، وهذا رأي سيبويه رحمه‌الله ، والأول رأي النّحاة ، كما تقدم غير مرة ، وعلى هذين القولين ففي نصب «مثل قولهم» وجهان :

أحدهما : أننه منصوب على البدل من موضع الكاف.

الثاني من الوجهين : أنه مفعول به العامل فيه «يعلمون» ، أي : الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود ، والنّصارى قالوا مثل مقالتهم ، أي : أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتّفاق ، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليهود والنصارى.

الثاني من القولين : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد محذوف تقديره: [مثل ذلك قاله الذين لا يعلمون.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.


وانتصاب «مثل قولهم» حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو مفعول ب «يعلمون» تقديره](١) مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى ، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ مفعوله ، وهو العائد على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن الجمهور يأبي جعل الكاف اسما.

والثاني : حذف العائد المنصوب ، [والنحاة](٢) ينصّون على منعه ، ويجعلون قوله : [السريع]

٧٤٥ ـ وخالد يحمد ساداتنا

بالحقّ لا يحمد بالباطل (٣)

ضرورة.

[وللكوفيين في هذا تفصيل](٤).

فصل في المراد بالذين لا يعلمون

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالما لكي يصح هذا الفرق.

واختلفوا في (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فقال مقاتل رحمه‌الله : إنهم مشركو العرب قالوا (٥) في نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين ، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنّصارى ، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألّا يلتفت إليه.

وقال مجاهد : عوام النصارى فصلا بين خواصهم وعوامهم.

وقال عطاء : أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح ، وقوم هود وصالح ، ولوط وشعيب ، قالوا لنبيهم : إنه ليس على (٦) شيء.

وقيل : إن حملنا قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) على الحاضرين في زمن صلى‌الله‌عليه‌وسلم حملنا قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) على المعاندين المتقدمين ويحتمل العكس.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : النحويين.

(٣) البيت في مغني اللبيب : ٢ / ٦١١ ، والمقرب : ١ / ٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥١٧) عن السدّي ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥١٧) عن ابن جريج عن عطاء ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣).


قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الحسن : يكذبهم جميعا ، ويدخلهم النار.

وثانيها : ينصف المظلوم المكذّب من الظالم المكذّب.

وثالثها : يريهم من يدخل الجنة عيانا ، ومن يدخل النار عيانا ، وهو قول «الزجاج».

قوله : (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) منصوبان ب «يحكم» ، و «فيه» متعلق ب «يختلفون».

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

«من» استفهام في محلّ رفع بالابتداء ، و «أظلم» أفعل تفضيل خبره ، ومعنى الاستفهام هنا النفي ، أي : لا أحد أظلم منه ، ولما كان المعنى على ذلك أورد بعض الناس سؤالا ، وهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) [الأنعام : ٢١] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) [السجدة : ٢٢] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) [الزمر : ٣٧] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه ، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه :

أحدها : وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، ولا أحد من الكذّابين أظلم ممن كذب على الله ، وكذلك ما جاء منه.

الثاني : أن التّخصيص يكون بالنّسبة إلى السّبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها.

الثالث : أن هذا نفي للأظلمية ، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظّالمية لم يكن مناقضا ؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلميّة ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد مما وصف بذلك يزيد على الآخر ؛ لأنهم متساوون في ذلك ، وصار المعنى : ولا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى وممن ذكر ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم ، كما أنك إذ قلت : «لا أحد أفقه من زيد وبكر وخالد» لا يدلّ على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم ، لا يقال : إن من منع مساجد الله ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله كذبا أقلّ ظلما ممن جمع بين هذه الأشياء ، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكفّار ، وهم متساوون في الأظلمية إذ كانت طرق الأظلمية مختلفة.


و «من» يجوز أن تكون موصولة ، فلا محلّ للجملة بعدها ، وأن تكون مرصوفة فتكون الجملة محلّ جار صفة لها.

و «مساجد» مفعول أول ب «منع» ، وهي جمع مسجد ، وهو اسم مكان السجود ، وكان من حقه أن يأتي على «مفعل» بالفتح لانضمام عين مضارعه ، ولكن شذّ كسره ، [كما شذت ألفاظ تأتي](١).

وقد سمع «مسجد» بالفتح على الأصل.

قال القرطبي رحمه‌الله : قال الفرّاء : كل ما كان على «فعل يفعل» ، مثل دخل يدخل ، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا ، ولا يقع فيه الفرق ، مثل : دخل يدخل مدخلا ، وهذا مدخله ، إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين ، من ذلك : المسجد ، والمطلع ، والمغرب ، والمشرق ، والمسقط ، والمفرق ، والمجزر ، والمسكن ، والمرفق ، من : رفق يرفق ، والمنبت ، والمنسك من : نسك ينسك ، فجعلوا الكسر علامة للاسم.

والمسجد ـ بالفتح ـ جبهة الرجل حيث يصيبه مكان السجود.

قال الجوهري رحمه‌الله تعالى : «الأعضاء السّبعة مساجد ، وقد تبدل جيمه ياء ، ومنه : المسجد لغة».

قول تعالى : (أَنْ يُذْكَرَ) ناصب ومنصوب ، وفيه أربع أوجه :

أحدها : أنه مفعول ثاني ل (مَنَعَ) ، تقول : منعته كذا.

والثاني : أنه مفعول من أجله أي : كراهة أن يذكر.

وقال أبو حيان (٢) : فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله ، وما أشبهه.

والثالث : أنه بدل اشتمال من (مَساجِدَ) أي : منع ذكر اسمه فيها.

والرابع : أنه على إسقاط حرف الجر ، والأصل من أن يذكر ، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران من كونها في محلّ نصب أو جر ، و «في خرابها» متعلق ب «سعى».

واختلف في «خراب» فقال أبو البقاء : «هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسّلام بمعنى التسليم ، وأضيف اسم المصدر لمفعوله ؛ لأنه يعمل عمل الفعل».

وهذا على أحد القولين في اسم المصدر ، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله : [الوافر]

٧٤٦ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٣)

وقال غيره : هو مصدر : خرب المكان يخرب خرابا ، فالمعنى : سعى في أن تخرب

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٢٧.

(٣) تقدم برقم ٣٣٩.


هي بنفسها بعدم تعاهدها بالعمارة ، ويقال : منزل خراب وخرب ؛ كقوله : [البسيط]

٧٤٧ ـ ما ربع ميّة معمورا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب (١)

فهو على الأول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل.

فصل في تعلق الآية بما قبلها

في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

فأما من حملها على النصارى ، وخراب «بيت المقدس» قال : تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط. فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد ، والسعي في خرابها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام ، وسائر المساجد ، قال : جرى ذكر مشركي العرب في قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

وقيل : [ذم جميع الكفار](٢) ، فمرة وجه الذّنب إلى اليهود والنصارى ، ومرة إلى المشركين.

فصل فيمن خرب «بيت القدس»

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : [إن ملك النصارى غزا «بيت المقدس» فخربه ، وألقى فيه الجيف ، وحاصر أهله ، وقتلهم ، وسبى البقية ، وأحرق التوراة](٣) ، ولم يزل «بيت المقدس» خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر (٤).

وقال الحسن وقتادة والسدي : نزلت في بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس ، وأعانه على ذلك [الرومي وأصحابه النصارى من أهل «الروم» (٥).

قال السدي : من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا عليهما‌السلام (٦).

قال قتادة : حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوسي (٧)](٨).

قال أبو بكر الرازي رحمه‌الله تعالى في «أحكام القرآن» : هذان الوجهان غلطان ؛

__________________

(١) البيت لأبي تمام. ينظر ديوانه : (١٩) ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٩.

(٢) في ب : جرى ذكر جميع الكفار وذمهم.

(٣) في أبدل هذه العبارة ما يلي :

إن ططيوس بن استسيانوس الرومي ملك النصارى وأصحابه غزا بني إسرائيل ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وأحرق التوراة ، وخرّب «بيت المقدس» ، وقذف فيه الجيف ، وذبح فيه الخنازير.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ٩).

(٥) أخرجه الطبري (٢ / ٥٢٠) وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٢٤).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٢١) عن السدّي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٤).

(٨) سقط في ب.


لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد «بختنصّر» كان قبل مولد المسيح ـ عليه‌السلام ـ بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح ، فكيف يكونون مع بختنصّر في تخريب «بيت المقدس»؟

وأيضا فإن النصارى يعتقدون في تعظيم «بيت المقدس» مثل اعتقاد اليهود وأكثر ، فكيف أعانوا على تخريبه.

وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الدعاء إلى الله ب «مكة» وألجئوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام ، وقد كان الصديق ـ رضي الله عنه ـ بنى مسجدا عند داره ، فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم.

وقيل : إن قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] نزلت في ذلك ، فمنع من الجهر لئلا يؤذى ، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئا ، ويصلون له تذللا ، وخشوعا ، ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه ، وألسنتهم بالذكر له ، وجميع جسدهم بالتذلّل لعظمته وسلطانه.

وقال أبو مسلم : المراد منه الذين صدّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من «المدينة»

عام «الحديبية» ، واستشهد بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] وحمل قوله تعالى : (إِلَّا خائِفِينَ) بما يعلي الله تعالى من يده ، ويظهر من كلمته ، كما قال في المنافقين : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١].

[فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد؟

والجواب : أن هذا كمن يقول : من أظلم ممن آذى صالحا واحدا ، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.

أو يقال : إن المسجد موضع السجود ، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجدا واحدا](١).

قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه خامس ، وهو أقرب إلى رعاية النظم ، وهو أن يقال : إنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود ، فكانوا يمنعون النّاس عن الصّلاة عند توجّههم إلى الكعبة ، ولعلّهم أيضا سعوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها ، وسعوا أيضا في تخريب مسجد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القبلة ، فعابهم الله بذلك ، وبيّن سوء طريقتهم فيه.

__________________

(١) سقط في ب.


قال : وهذا التأويل أولى مما قبله ، وذلك لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر في الآيات السّابقة على هذه الآية إلّا قبائح أفعال اليهود والنصارى ، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم ، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدّهم الرسول عن المسجد الحرام. وأما حمل الآية على سعي النّصارى في تخريب «بيت المقدس» فضعيف أيضا على ما شرحه أبو بكر الرّازي رحمه‌الله تعالى ، فلم يبق إلّا ما قلناه.

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال ؛ لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١١٣] مع أن الشّرك أعظم من هذا الفعل ، كذا الزنا ، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل.

فالجواب عنه : [مضى ما في الباب](١) أنه عام دخله التخصيص ، فلا يقدح فيه.

والله أعلم.

فصل فيما يستدل بالآية عليه

قال القرطبي رحمه‌الله : لا يجوز منع المرأة من الحجّ (٢) إذا كانت ضرورة ، سواء كان لها محرم أو لم يكن ، ولا تمنع أيضا من الصّلاة في المساجد ، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (٣) وكذلك لا يجوز نقض المسجد ، ولا بيعه ، ولا تعطيله ، وإن خربت المحلّة ، ولا يمنع بناء المساجد إلّا أن يقصدوا الشّقاق والخلاف ، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قرية ، يريدون بذلك

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) من الموانع الزوجية : فيجوز للزّوج أن يمنع زوجته من فرض النّسك ونفله ؛ لأن حقه على الفور ، والنسك على التراخي ، ويجوز له أن يأمرها بالتحلّل ، فإذا أمرها به ، لزمها حينئذ أن تتحلّل ؛ كما في الحصر العام ، فإن امتنعت من التحلّل ، فللزوج وطؤها وسائر الاستمتاع بها ، والإثم عليها لا عليه ، ولا يجوز للزوجة أن تتحلّل بدون إذن منه ، وليس للحرّة أن تستأذن زوجها فيه.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٣٥) عن ابن عمر بلفظه كتاب الجمعة باب هل على من لم يشهد الجمعة ... حديث رقم (٩٠٠) وأخرجه مسلم في الصحيح (١ / ٣٢٧) عن ابن عمر بلفظه كتاب الصلاة (٤) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة (٣٠) حديث رقم (١٣٦ / ٤٤٢) وأبو داود في السنن حديث رقم (٥٦٥) ، (٥٦٦).

وأحمد في المسند (٢ / ١٦ ، ٣٦ ، ٤٣٨) ، (٦ / ٦٩) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (١٦٧٩) ـ والدارمي في السنن (١ / ٢٩٣) وابن أبي شيبة في المصنف (٢ / ٣٨٣) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٥١٢١) ـ والبيهقي في السنن (٣ / ١٣٢ ، ١٣٤) ، (٥ / ٢٢٤) والطبراني في الكبير (١٢ / ٣٦٣ ، ٤٢٥) ـ وأبو نعيم في الحلية (٧ / ١٣٧) ـ والخطيب في التاريخ (٢ / ٣٦٠) ، (٦ / ١٩) ، (١١ / ٣٤٤) ـ وذكره ابن حجر في فتح الباري ٢ / ٣٥٠ ، ٣٨٢ ، (٤ / ٧٧) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم (١٣٢٣٢) ، (٤٥١٧١) ، (٤٥١٧٣).


تفريق أهل المسجد الأول وخرابه ، واختلاف الكلمة ، فإن المسجد الثّاني ينقض ، ويمنع من بنيانه ، وسيأتي بقية الكلام [في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى](١).

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها).

«أولئك» مبتدأ ، «لهم» خبر «كان» مقدّم على اسمها ، واسمها «أن يدخلوها» لأنه في تأويل المصدر ، أي : ما كان لهم الدخول ، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن «أولئك».

قوله : (إِلَّا خائِفِينَ) حال من فاعل «يدخلوها» وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال ؛ لأن التقدير : ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال ، إلّا في حالة الخوف.

وقرأ أبي (٢) «خيفا» وهو جمع خائف ، ك «ضارب» و «ضرّب» ، والأصل : خوّف ك «صوّم» ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز ، قالوا : صوم وصيم ، وحمل أولا على لفظ «من» ، فأفرد في قوله : «منع ، وسعى» وعلى معناه ثانيا ، فجمع في قوله : (أُولئِكَ) وما بعده.

فصل في ظاهر الآية

ظاهر الآية يقتضي أنّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلّا خائفين.

وأما من جعله عامّا في الكل ، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوها :

أحدها : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلّا خائفين على حال الهيبة ؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ، ويمنعوا المؤمنين منها ، والمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم.

وثانيها : أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، وعلى سائر المساجد ، وأنه يذلّ المشركين لهم حتّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلّا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم ، وقد أنجز الله ـ تعالى ـ صدق هذا الوعد ، فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيهم عام حجّ أبو بكر رضي الله عنه : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» ، وأمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، فحجّ من العام الثاني ظاهرا على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام ، وهذا هو تفسير أبي مسلم.

ثالثها : أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصّغار والذل بالجزية والإذلال.

ورابعها : أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام ، إلّا في أمر يتضمن الخوف نحو أن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٢٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٩.


يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجّة ؛ لأن كلّ ذلك يتضمّن الخوف ، والدليل عليه قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [التوبة : ١٧].

وخامسها : قال قتادة والسّدي : بمعنى أن النصارى لا يدخلون «بيت المقدس» إلا خائفين ، ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضربا ، وهذا مردود ؛ لأن «بيت المقدس» بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النّصارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدّخول فيه إلا خائفا ، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين ـ رحمه‌الله ـ في زماننا.

وسادسها : أنه وإن كان لفظه لفظ الخبر ، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول ، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣].

[وسابعها : أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلّا خائفا من القتل والسّبي](١).

قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها ، ولا يجوز أن تكون حالا ، لأن خزيهم ثابت على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة.

اختلفوا في الخزي ، فقال بعضهم : ما يلحقهم من الذّل بمنعهم من المساجد ، وقال قتادة القتل للخزي ، والجزية للذمي.

وقال السدي : الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي ، وفتح «عموريّة» و «روميّة» و «قسطنطينيّة» ، وغير ذلك من مدنهم ، والعذاب العظيم [فقد وصفه الله ـ تعالى ـ بما](٢) يجري مجري النهاية في المبالغة ؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم ، فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم.

فصل في دخول الكافر المسجد

اختلفوا في دخول الكافر المسجد ، فجوزه أبو حنيفة مطلقا ، وأباه مالك مطلقا.

وقال الشافعي رضي الله عنه : يمنع من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، واحتج بوجوه منها قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، قال : قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة ، إما على المسجد فقط ، أو على الحرم كله ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصل ؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.


فإن قيل : المراد به الحجّ لقوله : «بعد عامهم هذا» لأن الحجّ إنما يفعل في السنة مرة واحدة.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه ترك للظّاهر من غير موجب.

الثّاني : ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم ، [وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام](١).

الثالث : أنه ـ تعالى ـ لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو «عرفة».

الرابع : الدّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة : ٢٨] فأراد به الدخول للتجارة.

ومنها قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد ، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلّا ما قام عليه الدليل.

فإن قيل : هذه الآية مخصوصة بمن خرب «بيت المقدس» ، أو بمن منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العبادة في الكعبة.

وأيضا يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج.

فالجواب عن الأول : أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر ، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما حصل من الدخول ، وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولدا من الدخول ، بل من شيء آخر.

ومنها [أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم ، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجب ، وتمكين الكفّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير ؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفّوا به ، وأقدموا على تلويثه وتنجيسه.

ومنها أنه تعالى](٢) أمر بتطهير البيت في قوله : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] والمشرك نجس لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).

والتطهير على النجس واجب ، فيكون تبعيد الكافر عنه واجبا ، وبأنا أجمعنا على أن الجنب يمنع منه ، فالكافر بأن يمنع منه أولى.

واحتج أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قدم عليه وفد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.


«يثرب» فأنزلهم المسجد بقوله عليه الصلاة والسلام : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن».

وهذا يقتضي إباحة الدخول.

وأيضا فالكافر جاز له دخول سائر المساجد ، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم.

والجواب عن الحديثين : أنهما كانا في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بالآية ، وعن القياس أن المسجد الحرام [أعظم] قدرا من سائر المساجد ، فظهر الفرق ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)

قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) : جملة مرتبطة بقوله : (مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) ، (وَسَعى فِي خَرابِها).

يعني : أنه إن سعى في المنع من ذكره ـ تعالى ـ وفي خراب بيوته ، فليس ذلك مانعا من أداء العبادة في غيرها ؛ لأن المشرق والمغرب ، وما بينهما له تعالى ، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين :

أحدهما : لشرفهما حيث جعلا لله تعالى.

والثاني : أن يكون من حذف المعلوم للعلم ، أي : لله المشرق والمغرب وما بينهما ، كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد ؛ وكقول الشاعر : [البسيط]

٧٤٨ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (١)

أي : يداها ورجلاها ؛ ومثله : [الطويل]

٧٤٩ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها

إذا نجلته رجلها خذف أعسرا (٢)

أي : رجلها ويداها.

وفي المشرق والمغرب قولان :

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر الكتاب : ١ / ٢٨ ، وشرح التصريح : ٢ / ٣٧١ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٤٢٤ ، ٤٢٦ ، ولسان العرب (صرف) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥٢١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٥ ، والإنصاف : ١ / ٢٧ ، وأسرار العربية : ص ٤٥ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ٢٩ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٣٧٦ ، وتخليص الشواهد : ص ١٦٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٥٨ ، وتخليص الشواهد : ص ١٦٩ ، وجمهرة اللغة : ص ٧٤١ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٦٩ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٣٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٤٧٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤١٦ ، وشرح قطر الندى : ص ٢٦٨ ، ورصف المباني : ٢ / ٤٤٦ ، والممتع في التصريف : ١ / ٢٠٥.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ص ٦٤ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٦٤٧ ، لسان العرب (خذف) (نجل) ، المقاصد النحوية : ٤ / ١٦٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٠.


أحدهما : أنهما اسما مكان الشروق والغروب.

والثاني : أنهما اسما مصدر ، أي : الإشراق والإغراب ، والمعنى : لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها ، وإغرابها من مغربها ، وهذا يبعده قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتاهما ، أو لأنهما مصدران ، وجاء المشارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم ، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما ، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع ، فحق اسم المصدر والزمان والمكان فتح العين ، ويجوز ذلك قياسا لا تلاوة.

قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) «أين» هنا اسم شرط بمعنى «إن» و «ما» مزيدة عليها ، و (تُوَلُّوا) مجزوم بها.

وزيادة «ما» ليست لازمة لها ؛ بدليل قوله : [الخفيف]

٧٥٠ ـ أين تضرب بنا العداة تجدنا

 .......... (١)

وهي ظرف مكان ، والناصب لها ما بعدها ، وتكون اسم استفهام أيضا ، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «من» و «ما».

وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة ، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام.

وأصل تولّوا : تولّيوا فأعل بالحذف ، وقرأ الجمهور : «تولوا» بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا ، فإن «ولى» وإن كان غالب استعمالها أدبر ، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما.

تقول : وليت عن كذا إلى كذا ، وقرأ الحسن (٢) : «تولّوا» بفتحهما.

وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون مضارعا ، والأصل : تتولوا من التولية ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا ، نحو : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) [القدر : ٤].

والثاني : أن يكون ماضيا ، والضمير للغائبين ردّا على قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) فتتناسق الضمائر.

__________________

(١) صدر بيت للسلولي وعجزه :

نصرف العيس نحوها للتلاقي

ينظر شرح المفصل : ٤ / ١٠٥ ، البحر : ١ / ٥٢٥ ، الكتاب : ٣ / ٥٨ ، المقتضب : ٢ / ٤٨ ، شرح الأشموني : ٤ / ١٠ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٧٤٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٠

(٢) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٠ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٢.


وقال أبو البقاء : والثاني : أنه ماض والضمير للغائبين ، والتقدير : أينما يتولّوا ، يعني : أنه وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى ثم قال : وقد يجوز أن يكون ماضيا قد وقع ، ولا يكون «أين» شرطا في اللفظ ، بل في المعنى ، كما تقول : «ما صنعت صنعت» إذا أردت الماضي ، وهذا ضعيف ؛ لأن «أين» إما شرط ، أو استفهام ، وليس لها معنى ثالث. انتهى وهو غير واضح.

قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الفاء وما بعدها جواب الشّرط ، فالجملة في محلّ جزم ، و «ثمّ» خبر مقدم ، و «وجه الله» رفع بالابتداء ، و «ثمّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل : هنا وهنّا بتشديد النون ، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء : لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك ، وثمّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء](١).

وقيل : بني لشبهه بالحرف في الافتقار ، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من».

ولذلك غلط بعضهم في جعله مفعولا في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) [الإنسان : ٢٠] ، بل مفعول «رأيت» محذوف.

فصل في نفي التجسيم

وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه ؛ لأنه لو كان الله ـ تعالى ـ جسما ، وله وجه جسماني لكان مختصّا بجانب معين وجهة معينة ، ولو كان كذلك لكان قوله: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) كذبا ، ولأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا ، وإذا ثبت هذا ، فلا بد فيه من التأويل ، ومعنى (وَجْهُ اللهِ) جهته التي ارتضاها قبلة وأمر بالتوجه نحوها ، أو ذاته نحو : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٦٨] ، أو المراد به الجاه ، أي : فثمّ جلال الله وعظمته من قولهم : هو وجه القول ، أو يكون صلة زائدا ، وليس بشيء.

وقيل : المراد به العمل قاله الفراء ؛ وعليه قوله : [البسيط]

٧٥١ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر أدب الكاتب : ٥٢٤ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ١٦ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٨٣ ، وتخليص الشواهد : ٤٠٥ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١١١ و ٩ / ١٢٤ ، والدرر : ٥ / ١٨٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٢٠ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٩٤ ، وشرح شذور الذهب : ٤٧٩ ، وشرح المفصل : ٧ / ٦٣ ، ٨ / ٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة : ١٨١ ، والكتاب : ١ / ١ / ٣٧ ، ولسان العرب [غفر] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٢٦ ، والمقتضب : ٢ / ٣٢١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨٢.


[قوله تعالى : (واسِعٌ عَلِيمٌ) أي : يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.

وقيل : واسع المغفرة.

فصل في سبب نزول الآية

في سبب نزول الآية قولان :

أحدهما : أنه أمر يتعلّق بالصلاة. والثاني : في أمر لا يتعلق بالصلاة.

فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال «بيت المقدس» إلى الكعبة ، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب ، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى ، فأينما أمركم الله ـ عزوجل ـ باستقباله فهو القبلة ؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها ؛ بل لأن الله ـ تعالى ـ جعلها قبلة ، فهو يدبر عباده كيف يريد](١) وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر.

وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ لما تحولت القبلة عن «بيت المقدس» أنكرت اليهود ذلك ، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢].

وثالثها : قال أبو مسلم : إن اليهود والنّصارى كل واحد منهم قال : إنّ الجنة له لا لغيره ، فردّ الله عليهم بهذه الآية ؛ لأن اليهود إنما استقبلوا «بيت المقدس» ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله ـ تعالى ـ صعد السماء من الصّخرة والنصارى استقبلوا المشرق ؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، فولدت عيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ هناك ، فردّ الله عليهم أقوالهم.

ورابعها : قال قتادة وابن زيد : إن الله ـ تعالى ـ نسخ «بيت المقدس» بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية ، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة ، إلّا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يختار التوجّه إلى «بيت المقدس» ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء ، ثم إنه ـ تعالى ـ نسخ ذلك بتعيين الكعبة.

وخامسها : أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة ، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد.

[وسادسها : ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يده ، ثم صلينا فلما أصبحنا ، فإذا نحن على غير القبلة ، فذكرنا ذلك

__________________

(١) سقط في ب.


لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١) ، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة ؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ «بيت المقدس»](٢).

وسابعها : أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجّه به راحلته.

وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : «إنما نزلت هذه الآية في الرّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحلته في السفر» (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : فإن قيل : فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصّواب؟

قلنا : إن قوله تبارك وتعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) مشعر بالتخيير ، والتخيير لا يثبت إلا في صورتين :

إحداهما : في التّطوع على الراحلة.

وثانيتهما : في السفر عند تعذّر الاجتهاد لظلمة أو لغيرها ؛ لأن في هذين الوجهين المصلّي مخير.

فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير ، والذين حملوا الآية على الوجه الأول ، فلهم أن يقولوا : إن القبلة لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس ، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا في ذلك الوقت ، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت ، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه ، فثمّ وجه الله ، قالوا : وحمل الكلام على هذا الوجه أولى ؛ لأنه يعم كل مصلّ ، وإذا حمل على الأول لا يعم ؛ لأنه يصير محمولا على التّطوع دون الفرد ، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر ، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه ، فهو أولى من التخصيص ، وأقصى ما في الباب أن يقال : إنّ على هذا التأويل لا بد أيضا من ضرب تقييد وهو أن يقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) من الجهات المأمور بها (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إلّا أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال ؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) بحسب ميل أنفسكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك ، فقد زالت طريقة التخيير.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ١٧٦) رقم (٣٤٥) وابن ماجه (١ / ٣٢٦) رقم (١٠٢٠) والطيالسي (١١٤٥) والبيهقي (٢ / ١١) والطبري في «تفسيره» (١٨٤١ ، ١٨٤٣) والدارقطني ص (١٠١) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ١٧٩ ـ ١٨٠).

وقال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان.

وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ١٩٥) وأحمد (٧٤١٤ ـ شاكر) والطبري (٢ / ٥٣٠) والبيهقي في السنن ٢ / ٤ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ١٨ ـ ١٩.


القول الثاني : أنّ هذه الآية نزلت في أمر سوى الصّلاة وفيه وجوه :

أولها : أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي ، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ، ثم إنهم أينما ولّوا هاربين عني وعن سلطاني ، فإن سلطاني يلحقهم ، [وتدبيري](١) يسبقهم ، فعلى هذا يكون المراد منه [سعة القدرة والسلطان](٢) وهو نظير قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، وقوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] ، وقوله : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨].

وثانيها : قال قتادة : إن النبي ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ أخاكم النّجاشيّ قد مات فصلّوا عليه» ، قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ) [آل عمران : ١٩٩] فقالوا : إنه كان لا يصلي [إلى القبلة ، فأنزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٣) ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب ، وما بينهما كلها لي ، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذرا للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق ، وهو نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣].

وثالثها : قال الحسن ، ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : لما نزل قوله ـ سبحانه وتعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية (٤).

ورابعها : قال علي بن عيسى رحمه‌الله : إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله ـ تعالى ـ عن ذكره حيث كنتم من أرضهم ، فلله المشرق والمغرب ، والجهات كلها.

وخامسها : زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب](٥).

فصل قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

قرأ الجمهور : «وقالوا» بالواو عطفا لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها ، وهو أحسن في الربط.

__________________

(١) في ب : وقدرتي.

(٢) في ب : سعة العلم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن قتادة.

(٤) أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٢٠٦).

(٥) سقط في ب.


وقيل : هي معطوفة على قوله : (وَسَعى) فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة ، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله.

وقرأ ابن عامر (١) ـ وكذلك هي في مصاحف «الشام» : «قالوا» من غير «واو» ، وكذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : الاستئناف.

والثاني : حذف حرف العطف وهو مراد ، استغناء عنه بربط الضّمير بما قبل هذه الجملة ، و «اتّخذ» يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع ، فيتعدّى لمفعول واحد ، وأن يكون بمعنى صيّر ، فيتعدّى لاثنين ، ويكون الأول هنا محذوفا تقديره : وقالوا : اتخذ الله بعض الموجودات ولدا ، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مفعول واحد : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) [الأنبياء : ٢٦] ، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) [المؤمنون : ٩١] ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢]. والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض والنقص وهو غير مقيس والمصدر : الولادة والوليدية وهذا الثاني غريب.

وقوله : (سُبْحانَهُ).

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : «سبحان» منصوب على المصدر ، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا.

قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

«بل» إضراب وانتقال ، و «له» خبر مقدم ، و «ما» مبتدأ مؤخر ، وأتى هنا ب «ما» ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيرا في «ما» و «من» ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله (قانِتُونَ) ، فجاء بصيغة السّلامة المختصّة بالعقلاء.

قال الزمخشري فإن قلت : كيف جاء ب «ما» التي لغير أولي العلم مع قوله : (قانِتُونَ).

قلت : هو كقوله : «سبحان ما سخركن لنا» وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، وهذا جنوح منه إلى أن «ما» قد تقع على أولي العلم ، ولكن المشهور خلافه.

وأما قوله : «سبحان ما سخركن لنا» فسبحان غير مضاف ، بل هو كقوله :

٧٥٢ ـ ..........

سبحان من علقمة ... (٢)

__________________

(١) انظر الكشف : ١ / ٢٦٠ ، والسبعة : ١٦٨ ، والعنوان : ٧١ ، وحجة القراءات : ١١٠ ، ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٣.

(٢) تقدم برقم ٣٦٥.


و «ما» مصدرية ظرفية.

قول تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مبتدأ وخبر ، و «كلّ» مضافة إلى محذوف تقديرا ، أي : كلّ من في السموات والأرض.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا كذا قال أبو حيان رحمه‌الله تعالى. وهذا بعيد جدا ، لأن المجعول ولدا لم يجر له ذكر ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره».

قوله : لم يجر له ذكر» بل قد جرى ذكره فلا بعد فيه.

وجمع «قانتون» حملا على المعنى لما تقدم من أن «كلّا» إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ ، [ومراعاة المعنى ، وهو الأكثر نحوه : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] ومن مراعاة](١) اللّفظ : «قل كلّ يعمل على شاكلته» (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، وحسن الجمع هنا لتواخي رؤوس الآي.

والقنوت : أصله الدوام ، ويستعمل على أربعة أوجه : الطاعة والانقياد ، كقوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) [آل عمران : ٤٣] وطول القيام ، كقوله عليه‌السلام لما سئل : أي الصّلاة أفضل؟ قال : طول القنوت (٢) وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رضي الله عنه : كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمسكنا عن الكلام والدعاء ، ومنه القنوت (٣).

قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : «قانتون» أي : أن كل من في السموات والأرض مطيعون (٤).

وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين.

وقال السّدي رحمه‌الله تعالى : يطيعون يوم القيامة ، وأوردوا على هذا أيضا بأن هذا صفة المتّكلين](٥).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه مسلم «صلاة المسافرين» ١٦٥ والترمذي (٣٨٧) وابن ماجه (١٤٢١) والنسائي (٥ / ٥٨) وأحمد (٣ / ٣٠٢ ، ٣١٤ ، ٣٩١ ، ٤١٢) ، (٤ / ٣٨٥ ، ٣٨٧) والبيهقي (٣ / ٨) والطبراني (١٧ / ٤٨) والبغوي (١ / ٢٤٧) وعبد الرزاق (٤٨٤٥) وابن عبد البر (١ / ١٣٢) وأبو نعيم (٣ / ٣٥٧) والطحاوي في «شرح المعاني» (١ / ٢٩٩ ، ٤٧٦) وابن عساكر (٦ / ٣٥٦ تهذيب).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦) كتاب التفسير : باب : قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» حديث (٤٥٣٤) ومسلم (١ / ٣٨٣) ، كتاب المساجد : باب تحريم الكلام في الصلاة حديث (٣٥ / ٥٣٩) من حديث زيد بن أرقم.

(٤) أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٨).

(٥) سقط في ب.


وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) يتناول من لا يكون مكلفا ، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر :

الأول : بكونها شاهدة على وجود الخالق ـ سبحانه ـ بما فيها من آثار الصّنعة ، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية.

الثاني : كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء ، وهو قول أبي مسلم رحمه‌الله تعالى ، وعلى هذين الوجهين الآية عامة.

الثالث : أراد بما في السّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز ؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له.

فصل فيمن قال اتخذ الله ولدا

قال ابن الخطيب (١) : اعلم أن الظاهر من قوله : (وَقالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أن يكون راجعا إلى قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] وقد ذكرنا أن منهم من تأوّله على النصارى.

ومنهم من تأوّله على مشركي العرب.

ونحن قد تأولناه على اليهود ، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى ؛ لأن اليهود قالوا : عزيز ابن الله ، والنّصارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها نزلت في كعب بن الأشرف ، وكعب بن الأسد ، ووهب بن يهوذا ؛ فإنهم جعلوا عزيرا ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.

وروى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما](٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله تعالى : «كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إيّاي فزعم أنّي لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأمّا شتمه إيّاي فقوله : لي ولد فسبحاني أن أتّخذ صاحبة أو ولدا»(٣).

فصل في تنزيه الله تعالى

قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : احتج على التنزيه بقوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ووجه الاستدلال من وجوه :

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ٢١.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه النسائي في السنن ٤ / ١١٢ ، كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين عن أبي هريرة.

والطبراني في الكبير ١٠ / ٣٧٦ ـ وذكره الزبيدي في الإتحاف ١٠ / ٤٤٨.

وأخرجه البخاري في صحيحه ٨ / ٣١٢ (٤٩٧٥) عن ابن عباس.


الأول : أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته محدث ، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود ، والمخلوق لا يكون ولدا [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم ، ووجوده إنما حصل بخلق الله ـ تعالى ـ وإيجاده وإبداعه ، فثبت أن ما سواه فهو عبده ، وملكه ، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولدا له ، كلّ هذا مستفاد من قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له كلّ ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع](١).

والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده ، إما أن يكون قديما أزليّا أو محدثا ، فإن كان أزليّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس ، فيكون ذلك الحكم حكما مجرّدا من غير دليل ، وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له فلا يكون ولدا له.

والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد ، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه ، وممتازا عنه من وجه آخر ، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركبا ومحدثا وذلك محال ، فإذن المجانسة ممتنعة ، فالولدية ممتنعة.

الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه ، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة ، فإذا كان كل ذلك محال ، كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا. [يحكى أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال لبعض النصارى : لو لا تمرد عيسى عن عبادة الله عزوجل لصرت على دينه فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رضي الله عنه : فإن كان عيسى إلها فكيف يعبد غيره ، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة ، فانقطع النصراني (٢)](٣).

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ) المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع.

وقرىء (٤) بالجر على أنه بدل من الضمير في «له» [وفيه الخلاف المشهور](٥) وقرىء بالنصب على المدح.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره ٤ / ٢٣.

(٣) سقط في ب.

(٤) بالجر قرأ صالح بن أحمد ، وبالنصب المنصور.

انظر الشواذ : ١٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٣٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٢.

(٥) سقط في ب.


و (بَدِيعُ السَّماواتِ) من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلا في الأصل ، والأصل بديع سماواته ، أي بدعت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب ، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل ، فنصبت ما كان فاعلا ، ثم أضيفت إليه تخفيفا ، وهكذا كلّ ما جاء من نظائره ، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها ، وهو لا يجوز ، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.

وقال الزمخشري (١) رحمه‌الله تعالى : و (بَدِيعُ السَّماواتِ) من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.

ورده أبو حيان بما تقدم ، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.

وأجاز الزمخشري فيه وجها ثانيا : وهو أن يكون «بديع» بمعنى مبدع ؛ كما أن سميعا في قول عمرو بمعنى مسمع ؛ نحو : [الوافر]

٧٥٣ ـ أمن ريحانة الدّاعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع (٢)؟

إلا أنه قال : «وفيه نظر» ، وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، وكأن النظر الذي ذكره الزمخشري ـ والله أعلم ـ هو أن «فعيلا» بمعنى «مفعل» غير مقيس ، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول ، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديرا.

والمبدع : المخترع المنشىء ، والبديع : الشيء الغريب الفائق غيره حسنا.

قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً) العامل في «إذا» محذوف يدل عليه الجواب من قوله: (فَإِنَّما يَقُولُ) ، والتقدير : إذا قضى أمرا يكون ، فيكون هو الناصب له.

و «قضى» له معان كثيرة.

قال الأزهري رحمه‌الله تعالى : «قضى» على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشّيء وتمامه ؛ قال أبو ذؤيب : [الكامل]

٧٥٤ ـ وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابع تبّع (٣)

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٨١.

(٢) البيت لعمرو بن معد يكرب. ينظر ديوانه : ص ١٤٠ ، والأصمعيات : ص ١٧٢ ، والأغاني : ١٠ / ٤ ، وخزانة الأدب : ٨ / ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٧ ، ١١ / ١١٩ ، وسمط اللآلي : ص ٤٠ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧٩ ، ولسان العرب (سمع) ، والدر المصون : ١ / ٣٥٢.

(٣) ينظر لسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، وشرح المفصل : ٣ / ٥٩ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٦٠ ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٣٩ ، والمعاني الكبير : ص ١٠٣٩ ، وشرح المفصل : ٣ / ٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٣.


وقال الشّماخ : [الطويل]

٧٥٥ ـ قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتّق (١)

فيكون بمعنى «خلق» نحو : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] وبمعنى أعلم: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤].

وبمعنى أمر : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

وبمعنى وفّى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩].

وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا.

وبمعنى أراد : «وإذا قضى أمرا».

وبمعنى أنهى ، ويجيء بمعنى قدّر وأمضى ، تقول : قضى يقضي قضاء ؛ قال : [الطويل]

٧٥٦ ـ سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا (٢)

ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم ؛ لأنه فصل للدعوى.

ولهذا قيل : حاكم فيصل إذا كان قاطعا للخصومات.

وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.

ومنه : انقضى الشيء : إذا تم وانقطع.

وقولهم : قضى حاجته أي : قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.

وقضى دينه : إذا أدّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه ، أو انتفع كل منهما من صاحبه.

وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه.

وأما قولهم : قضى المريض وقضى نحبه : إذا مات ، وقضى عليه : قتله فمجاز. [واختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي القدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم](٣).

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها :

الأول : الدين ؛ قال الله تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) [التوبة : ٤٨] يعني : دينه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٤٩) ، اللسان (بوج) ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٦ ، تفسير الطبري : ٢ / ٥٤٣ ، مشكل إعراب القرآن : ٣٤٣ ، القرطبي : ٢ / ٦١ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٣.

(٢) البيت لسعد بن ناشب. ينظر الحماسة : ٦٩١ ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٣.

(٣) سقط في ب.


الثاني : القول ؛ قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) [المؤمنون : ٢٧] يعني قولنا. وقوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه : ٦٢] يعني قولهم.

الثالث : العذاب ؛ قال تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لما وجب العذاب بأهل النّار.

الرابع : عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً) [مريم : ٣٥] يعني : عيسى عليه الصلاة والسلام.

الخامس : القتل ب «بدر» ، قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) [غافر : ٧٨] يعني : القتل ب «بدر» ، وقوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٢] يعني قتل كفار «مكة».

السادس : فتح «مكة» ؛ قال الله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة : ٤٢] يعني فتح «مكة».

السابع : قتل «قريظة» وجلاء «بني النضير» ؛ قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩].

الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

التاسع : القضاء ؛ قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [الرعد : ٢] يعني القضاء.

العاشر : الوحي ؛ قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السجدة : ٥] يعني الوحي.

الحادي عشر : أمر الخلق ؛ قال الله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣].

الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [آل عمران : ١٥٤] يعنون : النصر ، (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] يعني النصر.

الثالث عشر : الذنب ؛ قال الله تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) [الطلاق : ٩] يعني جزاء ذنبها.

الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] لعله : وشأنه.

قوله تعالى : (فَيَكُونُ) الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفا أي خبرا لمبتدأ محذوف أي : فهو يكون ، ويعزى لسيبويه ، وبه قال الزّجّاج في أحد قوليه.

والثاني : أن يكون معطوفا على «يقول» ، وهو قول الزّجاج والطبري ، ورد ابن عطية هذا القول ، وقال : إنه خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التّكوين والوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟


وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.

أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل ، وهو [الأصح](١) فلا.

ومثله قول أبي النجم : [الرجز]

٧٥٧ ـ إذ قالت الأنساع للبطن الحقي (٢)

الثالث : أن يكون معطوفا على «كن» من حيث المعنى ، وهو قول الفارسي ، وضعّف أن يكون عطفا على «يقول» ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه «يقول» ، كالموضع الثاني في «آل عمران» ، وهو (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولم ير عطفه على «قال» من حيث إنه مضارع ، فلا يعطف على ماضي ، فأورد على نفسه : [الكامل]

٧٥٨ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني (٣)

__________________

(١) في أ : الصحيح

(٢) ينظر الخصائص : ١ / ٢٤ ، الكشاف : ١ / ١٨١ ، القرطبي : ٢ / ٦٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٤.

(٣) البيت لرجل من سلول ينظر في الدرر : ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح : ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣١٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات : ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري : ص ١٧١ ، وينظر الأزهية : ص ٢٦٣ ، والأشباه والنظائر : ٣ / ٩٠ ، والأضداد : ص ١٣٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٦٣١ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٢٠٦ ، وجواهر الأدب : ص ٣٠٧ ، وخزانة الأدب : ١ / ٣٥٧ ، ٣٥٨ ، ٣ / ١٠١ ، ٤ / ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٥ / ٢٣ ، ٥٠٣ ، ٧ / ١٩٧ ، ٩ / ١١٩ ، ٣٨٣ ، والخصائص : ٢ / ٣٣٨ ، ٣ / ٣٣٠ ، والدرر : ٦ / ١٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٢١ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٤١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٧٥ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢١٩ ، ولسان العرب (ثمم) ، (منن) ، ومغني اللبيب : ١ / ١٠٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٤.

إذا كان الخبر جملة اسمية ، وكان المبتدأ الثاني معرفة ـ فالجار والمجرور صفة له ، نحو : السمن منوان بدرهم ؛ وكذا إن كان معرّفا بالألف واللام ، كما في قولك : البرّ الكرّ منه بستين ؛ لأن التعريف غير مقصود قصيده ؛ لأن «أل» فيه جنسية كالتي دخلت على اللئيم في البيت الذي معنا ، فقد أفادت التعريف لفظا ، وهو في المعنى نكرة ، وعلى هذا تعرب جملة «يسبني» حالا ؛ بالنظر إلى اللفظ ، وصفة ؛ بالنسبة للمعنى ، وهو أولى من جعلها حالا ؛ لأنه أظهر للمقصود ، وهو التمدح بالوقار والتجمل ؛ لأن المعنى أمر على لئيم عادته سبي.

كما يؤيد هذا ما ذهب إليه الجمهور ، وأن النكرة لا تنعت بمعرفة ، وكذلك المعرفة لا تنعت بنكرة ، وأجاز الأخفش نعت النكرة إذا خصّصت بالمعرفة ، وجعل (الأوليان) صفة ل «آخران» في قوله تعالى : «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» (المائدة : ١٠٧).

وأجاز بعضهم وصف المعرفة بالنكرة مطلقا ، وأجازه ابن الطراوة بشرط كون الوصف خاصّا بذلك الموصوف كقول الشاعر :

أبيت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

وأجاز بعض الكوفيين وصف النكرة بالمعرفة فيما فيه مدح أو ذم ؛ استشهادا بقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالاً) الهمزة ١ ، ٢ ، والصحيح مذهب الجمهور ، وما أوهم خلاف ذلك مؤوّل ـ


فقال : «أمرّ بمعنى مررت».

قال بعضهم : ويكون في هذه الآية ـ يعني في آية «آل عمران» ـ بمعنى «كان» فليجز عطفه على «قال».

وقرأ ابن عامر (١) : «فيكون» نصبا هنا ، وفي الأولى من «آل عمران» ، وهي (كُنْ فَيَكُونُ ،) تحرزا من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠].

وفي مريم : (كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [مريم : ٣٥ ـ ٣٦].

وفي غافر : (كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ) [غافر : ٦٨ ـ ٦٩].

ووافقه الكسائي على ما في «النحل» و «يس».

وهي : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

أما آيتا «النحل» و «يس» فظاهرتان : لأن ما قبل الفعل منصوبا يصح عطفه عليه ، وسيأتي.

وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة ، فقد اضطرب كلام النّاس فيها ، وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير ، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر : «فيكون» نصبا ، وهذا غير جائز في العربية ؛ لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلّا في «يس» و «النحل» ، فإنه نسق لا جواب.

وقال في «آل عمران» : قرأ ابن عامر وحده : «كن فيكون» بالنصب وهو وهم. قال : وقال هشام : كان أيوب بن تميم يقرأ : «فيكون» نصبا ، ثم رجع فقرأ : «يكون» رفعا.

وقال الزجاج : «كن فيكون» رفع لا غير.

وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللّفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فنصبتا في جوابه بالفاء.

وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى ، فإن ذلك لا يصح لوجهين :

__________________

ـ بجعل التابع بدلا ، فإذا كان التعريف بلام الجنس ، جاز نعته بالنكرة ؛ لقربه من التنكير ، كما في البيت الذي معنا.

وشاهد آخر وضع «أمرّ» موضع «مررت» ؛ لأنه لم يرد ماضيا منقطعا ، وإنما أراد أن هذا أمره ودأبه ، فجعله كالفعل الدائم ، وإذا كان بمعنى الماضي ، فيجوز عطف الماضي عليه ، فيعطف «فمضيت» على أمر ؛ لأنه بمعنى «مررت» كما وضحنا.

وشاهد ثالث : وهو أن المرور يتعدّى ب «على» كما يتعدى ب «الباء».

ورابع : وهو أن ـ ثمّت ـ هي ثم العاطفة ، فإذا كانت مع التاء ، اختصّت بعطف الجمل.

(١) انظر السبعة : ١٦٩ ، وحجة القراءات : ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٣ ، والعنوان في القراءات السبع : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٣.


أحدهما : أن هذا وإن كان بلفظ الأمر ، فمعناه الخبر نحو : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) [مريم : ٧٥]. أي : فيمدّ ، وإذا كان معناه الخبر ، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة ؛ كقوله : [الوافر]

٧٥٩ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٧٦٠ ـ لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (٢)

والثاني : أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو : «ائتني فأكرمك» تقديره : «إن أتيتني أكرمتك».

وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير : إن تكن تكن ، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلا ، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما ، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطا لنفسه وهو محال ، قالوا : والمعاملة اللفظية ، واردة في كلامهم نحو : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) [إبراهيم : ٣١] (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية : ١٤].

وقال عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

٧٦١ ـ فقلت لجنّاد خذ السّيف واشتمل

عليه برفق وارقب الشّمس تغرب

وأسرج لي الدّهماء واذهب بممطري

ولا يعلمن خلق من النّاس مذهبي (٣)

فجعل «تغرب» جوابا ل «ارقب» وهو غير مترتّب عليه ، وكذلك لا يلزم من قوله أن يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاة لجانب اللفظ.

أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.

وأما الآيات فلا نسلم أنّه غير مترتب عليه ؛ لأنه أراد بالعباد الخلّص ، وبذلك أضافهم إليه.

أو تقول : إن الجزم على حذف لام الأمر ، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البيت للمغيرة بن حبناء. ينظر الكتاب : ٣ / ٣٩ ، شرح المفصل : ١ / ٢٧٩ ، المحتسب : ١ / ١٩٧ ، الهمع : ١ / ٧٧ ، الخزانة : ٣ / ٦٠ ، الدرر : ١ / ٥١ ، المقتضب : ٢ / ٢٢ ، شرح الألفية لابن الناظم :

(٦٧٩) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٤.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ينظر ملحق ديوانه : ص ١٥٩ ، والرد على النحاة : ص ١٢٦ ، والكتاب : ٣ / ٤٠ ، وللأعشى في خزانة الأدب : ٨ / ٣٣٩ ، والخصائص : ١ / ٣٨٩ ، ولسان العرب (دلك) ، والمحتسب : ١ / ١٩٧ ، والجنى الداني : ص ١٢٣ ، ورصف المباني : ص ٢٢٦ ، ٣٧٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٥.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٢٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٥.


وقال ابن مالك : «إنّ» «أن» الناصبة قد تضمر بعد الحصر ب «إنما» اختيارا ، وحكاه عن بعض الكوفيين.

قال : وحكوا عن العرب : إنما هي ضربة من الأسد فتحطم ظهره بنصب «تحطم» ، فعلى هذا يكون النّصب في قراءة ابن عامر محمولا على ذلك إلّا أنّ هذا الذي نصبوه دليلا لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره : إنما هي ضربة فحطم ؛ كقوله : [الوافر]

٧٦٢ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (١)

فصل في تحرير كلمة كن

قال ابن الخطيب : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) هو أنه ـ تعالى ـ يقول له : «كن» ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد ، والذي يدل عليه وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : (كُنْ) إما أن يكون قديما أو محدثا ، والقسمان فاسدان ، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على «كن» إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه :

الأول : أن كلمة «كن» لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لا بد وأن يكون محدثا ، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثا.

الثاني : أن كلمة «إذا» لا تدخل إلا على الاستقبال ، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثا ؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله : «كن» مرتّب على القضاء ب «فاء» التعقيب ؛ لأنه قال : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون «كن» قديما.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ رتّب تكوين المخلوق على قوله : «كن» ب «فاء» التعقيب ، فيكون قوله : «كن» مقدما على تكوين المخلوق بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث

__________________

(١) البيت لميسون بنت بحدل. ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٤٤ ، ولسان العرب (مسن) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٩٧ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٥٣ ، والمحتسب : ١ / ٣٢٦ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٧٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٤٧٧ ، وشرح شذور الذهب : ص ٤٠٥ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٥٠ ، وشرح المفصل : ٧ / ٢٥ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٣٤٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٥٧٦ ، وشرح قطر الندى : ص ٦٥ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٥٢٣ ، والرد على النحاة : ص ١٢٨ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ٢٧٧ ، وأوضح المسالك : ٤ / ١٩٢ ، والجنى الداني : ص ١٥٧ ، ورصف المباني : ص ٤٢٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١١٢ ، ١١٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٥.


بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا ، فقوله : «كن» لا يجوز أن يكون قديما ، ولا جائز أيضا أن يكون قوله : «كن» محدثا ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : «كن» ، وقوله : «كن» أيضا محدث ، فيلزم افتقار «كن» إلى «كن» آخر ، ويلزم التسلسل والدور ، وهما محالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله : «كن» وأن قوله : «كن» إن [كان] خطابا له حال وجوده ، فتحصيل للحاصل ، قاله أبو الحسن الماوردي.

قال القرطبي رحمه‌الله : والجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه خبر من الله ـ تعالى ـ عن نفوذ أوامره في خلقه ، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.

الثاني : أن الله ـ تعالى ـ عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ؛ لتصير جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم.

الثالث : أن ذلك خبر من الله ـ تعالى ـ عام عن جميع ما يحدثه ويكوّنه ، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا ، كقول أبي النّجم : [الرجز]

٧٦٣ ـ إذ قالت الأنساع للبطن الحقي (١)

ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.

وكقول عمرو بن هممة الدّوسيّ : [الطويل]

٧٦٤ ـ فأصبحت مثل النّسر طارت فراخه

إذا رام تطيارا يقال له : قع (٢)

وقال الآخر : [الرجز]

٧٦٥ ـ قالت جناحاه لساقيه الحقا

ونجّيا لحميكما أن يمزقا (٣)

الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كن» قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل ؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه ـ تعالى ـ أمر الموجود بأن يصير موجودا ، وذلك أيضا لا فائدة فيه.

الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جمادا ، وتكليف الجماد عبث ، ولا يليق بالحكيم.

الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.


فرضنا القادر المريد منفكّا عن قوله : «كن» فإما أن يتمكّن من الإيجاد والإحداث ، أو لا يتمكّن ، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفا على قوله «كن» ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألّا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القدرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي.

الحجة الخامسة : أن «كن» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.

الحجة السادسة : أن لفظة «كن» ككلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدما على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ؛ فإن كان الأول لم يكن لكلمة «كن» أثر ألبتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثّاني فهو محال ؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة ؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثّاني حاصلا ، وحين جاء الثّاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] بين أن قوله «كن» متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشّيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : «كن» في وجود الشيء ، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، فإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :

الأول : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه ـ تعالى ـ يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.

الثاني : قال أبو الهذيل : إنه علامة يفعلها الله ـ تعالى ـ للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا.

الثالث : قال الأصم : إنه خاصّ بالموجودين الذين قال لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ، ومن جرى مجراهم.

الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف ، والقوي هو الأول.

وقال الطبري رحمه‌الله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود ، ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلّا وهو موجود بالأمر ، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ، ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].


قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله ـ عزوجل ـ لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخّر المقدورات ، عالما مع تأخر المعلومات ، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ؛ إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله ـ تعالى ـ من قدرة وعلم ، فهو قديم لم يزل والمعنى الذي تقتضيه عبارة «كن» ؛ هو قديم قائم بالذات.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)

«لو» و «لو لا» يكونان حرفي ابتداء ، وقد تقدم عند قوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) [البقرة : ٦٤] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة : «هلا» فيختصّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة ، كقوله : [الطويل]

٧٦٦ ـ تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا (١)

أي : لو لا تعدّون الكميّ (٢) ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التحضيص يؤوّل ؛ كقوله : [الطويل]

٧٦٧ ـ ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة

إليّ فهلّا نفس ليلى شفيعها (٣)

__________________

(١) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٤١٠) ، الأزهية : (١٧٧) ، الخصائص : ٢ / ٤٥ ، شرح المفصل : ٢ / ٣٨ ، ابن الشجري : ١ / ٢٧٩ ، المغني : ١ / ٢١٤ ، رصف المباني : (٢٩٣) ، شواهد المغني : (٦٦٩) ، مجاز القرآن : ١ / ٥٢ ، تأويل المشكل : ٥٤٠ ، الهمع : ١ / ١٤٨ ، الأشموني : ٤ / ٥١ ، الدرر : ١ / ١٣٠ ، شرح الحماسة للمرزوقي : ٣ / ٢٢١ ، الصاحبي (٢٥٣) ، اللسان والتاج (ضطر) ، شرح شواهد المغني (٢٢٩) ، مجمع البيان : ١ / ١٩٥ ، الكامل : ١ / ١٦٣ ، المخصص : ٣ / ١٩٩ ، الأمالي الشجرية : (٢ / ٢٩٣) ، أسرار العربية (٢٠٥) ، الجنى الداني : (٦٠٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(٢) قال في المغني : الثالث [أي : من الأوجه التي تكون عليها «لو لا»] : أن تكون للتوبيخ والتنديم ؛ فتختص بالماضي ؛ نحو لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... إلى أن قال : وقوله :

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا

إلا أن الفعل أضمر ، أي : لو لا عددتم [الكميّ] ، وقول النحويين «لو لا تعدون» مردود ؛ إذ لم يرد أن يحضّهم على أن يعدّوا في المستقبل ، بل المراد : توبيخهم على ترك عدّه في الماضي ، وإنما قال : «تعدّون» على حكاية الحال ، فإن كان مراد النحويين مثل ذلك ، فحسن.

(٣) البيت للمجنون ينظر ديوانه : ص ١٥٤ ، ولإبراهيم الصولي ينظر ديوانه : ص ١٨٥ ، ولابن الدمينة ينظر ملحق ديوانه : ص ٢٠٦ ، وللمجنون أو لابن المدمينة أو للصمة بن عبد الله القشيري في شرح شواهد المغني : ١ / ٢٢١ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤١٦ ، ولأحد هؤلاء أو لإبراهيم الصولي ينظر خزانة الأدب : ٣ / ٦٠ ، وللمجنون أو للصمة القشيري في الدرر : ٥ / ١٠٦ ، وللمجنون أو لغيره في المقاصد النحوية : ٤ / ٤٥٧ ، وبلا نسبة في الأغاني : ١١ / ٣١٤ ، وأوضح المسالك : ٣ / ١٢٩ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٣٢٠ ، وجواهر الأدب : ص ٣٩٤ ، والجنى الداني : ص ٥٠٩ ، ٦١٣ ، وخزانة ـ


ف «نفس ليلى» مرفوع بفعل محذوف يفسره «شفيعها» أي : فهلا شفعت نفس ليلى. وقال أبو البقاء : إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتخضيض ، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان ، وهذه الجملة التحضيضية في محلّ نصب بالقول.

قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ) قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك.

وقرأ أبو حيوة (١) ، وابن أبي إسحاق : «تشّابهت» بتشديد الشين.

قال الدّاني : «وذلك غير جائز ؛ لأنه فعل ماض» ، يعني : أن التاءين المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا.

فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين

هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ، فإنهم قدحوا في التوحيد باتّخاذ الولد ، وقدحوا الآن في النبوّة.

قال ابن عباس : «هم اليهود».

وقال مجاهد : «هم النصارى» (٢) لأنهم المذكورون أولا ، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣].

فإن قيل : المراد مشركو العرب ، لأنه ـ تعالى ـ وصفهم بأنهم لا يعلمون ، وأهل الكتاب أهل العلم.

[قلنا](٣) : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي ، وأهل الكتاب كانوا كذلك.

وقال قتادة وأكثر المفسرين : هم مشركو العرب لقوله : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] ، وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١].

وتقرير هذه الشبهة أنك تقول : إن الله ـ تعالى ـ يكلّم الملائكة وكلم موسى ، ويقول : يا محمد إن الله ـ تعالى ـ كلّمك فلم لا يكلمنا مشافهة ، ولا ينص على نبوتك

__________________

ـ الأدب : ٨ / ٥١٣ ، ١٠ / ٢٢٩ ، ١١ / ٤٥ ، ٣١٣ ، ورصف المباني : ص ٤٠٨ ، والزهرة : ص ١٩٣ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٦ ، وشرح التصريح : ٢ / ٤١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٢٢ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٤ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٧. والدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(١) انظر السبعة : ١٦٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٥٤) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٣) في ب : فالجواب.


حتى يتأكّد الاعتقاد ، وتزول الشبهة ، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات ، وبالآيات وهي القرآن ، وسائر المعجزات ، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت ، فلم يجب إجابتها لوجوه :

أحدها : أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة ، فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب ، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة ، فحيث لم يكتف بها ، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد ، ويدل له قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١].

وثانيها : لو كان في [علم الله تبارك وتعالى](١) أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها ، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجا فلا جرم لم يفعل ذلك ، ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].

وثالثها : إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة ؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة ، فحينئذ يخرج عن كونه معجزا.

وأما قوله تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم](٢) ، فكما أن قوم موسى ، [كانوا أبدا في التعنت واقتراح](٣) الأباطيل ، كقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٢] ، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبدا في العناد واللّجاج ، وطلب الباطل.

قوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يعني القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة ، وكلام الذّئب ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، آيات قاهرة ، ومعجزات باهرة لمن كان طالبا لليقين.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩)

اعلم أن القوم لما أصرّوا على العناد واللّجاج الباطل ، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة.

قوله : (بِالْحَقِّ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولا به ، أي : بسبب إقامة الحق.

__________________

(١) في ب : معلوم.

(٢) في أ : أي تشابه أقوالهم وأفعالهم.

(٣) في أ : تعنتوا واقترحوا.


الثاني : أن يكون حالا من المفعول في «أرسلناك» أي : أرسلناك ملتبسا بالحق.

الثالث : أن يكون حالا من الفاعل ، أي : ملتبسين في الحق.

وفيه وجوه :

أحدها : أنه الصدق كقوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) [يونس : ٥٣] أي : صدق وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «بالقرآن» ، لقوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥].

وقال ابن كيسان : «بالإسلام وشرائعه» ، لقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) [الإسراء: ٨١] ، وقال مقاتل : «لم نرسلك عبثا وإنما أرسلناك بالحق» لقوله عزوجل : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الأحقاف : ٣] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه :

أحدها : أنه متعلّق بالإرسال.

وثانيها : أنه متعلّق بالبشير والنذير أي : أنت مبشر بالحق ومنذر به.

وثالثها : أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن ، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيرا لمن أطاع الله بالثواب ، ونذيرا لمن كفر بالعقاب ، والأولى أن يكون البشير والنذير حالا من الرسول ، أي : أرسلناك بالحق لتكون بشيرا ونذيرا لمن اتبعك (١) [ونذيرا لمن كفر بك](٢) ويجوز أن يكون بشيرا ونذيرا حالا من «الحق» ؛ لأنه يوصف أيضا بالبشارة والنّذارة ، وبشير ونذير على صيغة «فعيل».

أما بشير فتقول : هو من بشر مخففا ؛ لأنه مسموع فيه ، و «فعيل» مطرد من الثلاثي.

وأما «نذير» فمن الرباعي ، ولا ينقاس عدل مفعل إلى فعيل ، إلا أن له هنا محسّنا.

قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ) قرأ الجمهور : «تسأل» مبنيّا للمفعول مع رفع الفعل على النفي ، وفي معنى هذه القراءة وجوه :

أحدها : أن مصيرهم إلى الجحيم ، فمعصيتهم لا تضرّك ، ولست مسؤولا عن ذلك ، وهو كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] وقوله : (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

الثاني : أنك هاد وليس لك من الأمر شيء ، ولا تغتمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ، ونظيره قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

الثالث : أنك لا تسأل عن ذنب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة (٣) أبيّ : «وما تسأل» ، وقراءة عبد الله : «ولن تسأل».

__________________

(١) في ب : كفر بك.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤ ، البحر المحيط : ١ / ٥٣٨.


وقال مقاتل رحمه‌الله تعالى : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أنّ الله تعالى أنزل بأسه باليهود لآمنوا» (١) ؛ فأنزل الله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) وقرىء (٢) «تسأل» مبنيا للفاعل مرفوعا أيضا ، وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنه حال ، فيكون معطوفا على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيرا أو نذيرا ، وغير مسؤول.

والثاني : أن تكون مستأنفة.

وقرأ (٣) نافع ويعقوب : «تسأل» على النّهي ، وهذا مستأنف فقط ، ولا يجوز أن تكون حالا ؛ لأن الطّلب لا يقع حالا.

وفي المعنى على هذه القراءة وجهان :

الأول : روي أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة.

قال ابن الخطيب (٤) رحمه‌الله : وهذه الرواية بعيدة ؛ لأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان عالما بكفرهم ، وكان عالما بأن الكافر معذّب ، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل.

والثاني : معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفّار من العذاب ، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة ، فيقال لك : لا تسأل عنه.

وقرأ (٥) ابن مسعود رضي الله عنه : «ولن تسأل».

وقرأ أبي (٦) : «وما تسأل» ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفي أن يكون مسؤولا عنهم.

والجحيم : شدّة توقّد النار ، ومنه قيل لعين الأسد : «جحمة» لشدة توقّدها ، يقال : جحمت النّار تجحم ؛ ويقال لشدّة الحر : «جاحم» ؛ قال : [مجزوء الكامل]

٧٦٨ ـ والحرب لا يبقى لجا

حمها التّخيّل والمراح (٧)

قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٢ / ٦٤.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(٣) انظر السبعة : ١٦٩ ، والكشف : ١ / ٢٦٢ ، وحجة القراءات : ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٩ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٠ ، وشرح شعلة : ٢٧٤ ، وإتحاف : ١ / ٤١٤.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ٢٨.

(٥) تقدمت هذه القراءة.

(٦) تقدمت هذه القراءة.

(٧) البيت لسعد بن مالك. ينظر شواهد الكتاب : ٢ / ٣٢٤ ، الخزانة : ١ / ٢٥٥ ، الحماسة : ١ / ١٩٢ ، مجمع البيان : ١ / ٤٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٧ ، البحر : ١ / ٥٢٦.


الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

والرّضا : ضد الغضب ، وهو من ذوات «الواو» لقولهم : الرضوان ، والمصدر : رضا ورضاء بالقصر والمد ، ورضوانا ورضوانا بكسر «الفاء» وضمها.

قال القرطبي رحمه‌الله : رضي يرضى رضا ورضاء ورضوانا ورضوانا ومرضاة ، وهو من ذوات «الواو» ويقال في التثنية : رضوان ، وحكى الكسائي رحمه‌الله : رضيان ، وحكى رضاء ممدود ، وكأنه مصدر راضى يراضي مراضاة ورضاء.

وقد يتضمّن معنى «عطف» فيتعدى ب «على» ؛ قال : [الوافر]

٧٦٩ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

 ..........(١)

والملّة في الأصل : الطريقة ، يقال : طريق مملّ ، أي : أثّر فيه [المشي](٢) ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيها بالطريقة.

وقيل : بل اشتقت من «أمللت» ؛ لأن الشريعة فيها من يملي ويملى عليه.

فصل في سبب نزول هذه الآية

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم ، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [تشددهم في باطلهم ، وثباتهم على كفرهم](٣) أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهم ، ولا يرضون منك بالكفر ، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم.

قال ابن عباس رحمه‌الله : هذا في القبلة ، وذلك أن يهود «المدينة» ونصارى «نجران» كانوا يرجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان يصلّي إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية (٤).

وقيل : كانوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدنة ، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه ، فأنزل الله هذه الآية.

معناه : إنك إن هادنتهم ، فلا يرضون بها ، ولا يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم (٥).

قوله : (تَتَّبِعَ) منصوب ب «أن» مضمرة بعد «حتى» قاله الخليل ، وذلك أن «حتى» خافضة بالاسم لقوله عزوجل : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٥] وما يعمل في الاسم لا

__________________

(١) تقدم برقم ٨٠.

(٢) في أ : الشمس.

(٣) في أ : ثباتهم على الكفر.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٩) وعزاه للثعلبي عن ابن عباس.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ١١٠.


يعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسما لا ينصب شيئا.

وقال النّحاس : «تتّبع» منصوب ب «حتى» ، و «حتى» بدل من «أن».

فصل في أن الكفر ملّة واحدة

دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى : (مِلَّتَهُمْ) فوحّد الملّة ، وبقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه : «لا يتوارث أهل ملّتين شيء» المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يورّث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» (١). ثم قال تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذي يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى.

قوله تعالى : (هُوَ) يجوز في (هُوَ) أن يكون فصلا أو مبتدأ ، وما بعده خبره ، ولا يجوز أن يكون بدلا من «هدى الله» لمجيئه بصيغة الرفع.

وأجاز أبو البقاء رحمه‌الله تعالى فيه أن يكون توكيدا لاسم «إن» ، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر.

قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) هذه تسمى «اللام» الموطّئة للقسم ، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط ، وأكثر مجيئها مع «إن» وقد تأتي مع غيرها نحو : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ) [آل عمران : ٨١] ، (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٨] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ولكونها مؤذنة بالقسم اعتبر سبقها ، فأجيب القسم دون الشرط بقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) وحذف جواب الشّرط ، ولو أجيب الشرط لوجبت «الفاء» وقد تحذف هذه «اللّام» ويعمل بمقتضاها ، فيجاب القسم نحو قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣].

والأهواء جمع هوى ، كما تقول : «جمل وأجمال» ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على أفراد الملة لقال : هواهم. قوله : (مِنَ الْعِلْمِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «جاءك» و «من» للتبعيض ، أي جاءك حال كونه بعض العلم.

فصل في المراد بهذا الخطاب

قيل : المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٩٤) ومسلم «الفرائض» (١) والترمذي (٢١٠٧) وأبو داود (٢٩٠٩) وابن ماجه (٢٧٢٩) ، (٢٧٣٠) وأحمد (٥ / ٢٠٠ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩) والدارمي (٢ / ٣٧٠ ، ٣٧١) والبيهقي (٦ / ٢١٧ ، ٢١٨) والحاكم (٤ / ٣٤٥) وعبد الرزاق (٩٨٥٢) وابن أبي شيبة (١١ / ٣٧٣) والحميدي (٥٤٠١) وابن عبد البر (٢ / ٥٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٤٤) ، (٧ / ٣١٨) والطحاوي في «شرح المعاني» (٣ / ٢٦٥ ، ٢٦٦).


٦٥] ، فالخطاب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد الأمة. (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البيان بأن دين الله هو الإسلام ، والقبلة قبلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي الكعبة.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي معين يعصمك ويذبّ عنك.

فصل فيما تدل عليه الآية

قالوا : الآية تدلّ على أمور : منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله.

وثانيها : أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة ، ويبطل القول بالتقليد.

وثالثها : أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد.

ورابعها : سئل الإمام أحمد ـ رحمه‌الله ـ عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر.

فقيل : بم كفرته؟ فقال : بآية من كتاب الله تعالى ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [البقرة : ١٤٥] فالقرآن من علم الله تعالى ، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : «يتلونه» ، وتكون الجملة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ :) إما مستأنفة وهو الصحيح.

وإما حالا على قول ضعيف تقدم مثله أول السورة.

والثاني : أن الخبر هو الجملة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ).

ويكون «يتلونه» في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في «آتيناهم» وإما من الكتاب ، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة ؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كان الكتاب متلوّا.

وجوز (١) الحوفي أن يكون «يتلونه» خبرا ، و (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) خبرا بعد خبر ، قال : مثل قولهم : «هذا حلو حامض» كأنه يريد جعل الخبرين في معنى خبر واحد ، هذا إن أريد ب «الذين» قوم مخصوصون.

__________________

(١) علي بن إبراهيم بن سعيد ، أبو الحسن الحوفي : نحوي ، من العلماء باللغة والتفسير. من أهل الحوف (بمصر) ، من كتبه «البرهان في تفسير القرآن» كبير جدّا ، و «الموضح» في النحو ، و «مختصر كتاب العين» توفي سنة ٤٣٠ ه‍.

انظر بغية الوعاة : ٣٢٥ ، وفيات الأعيان : ١ / ٣٣٢ ، إنباه الرواة : ٢ / ٢١٩ ، مفتاح السعادة : ١ / ٤٣٨ ، الأعلام : ٤ / ٢٥٠.


وإن أريد بهم العموم ، كان (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) الخبر.

قال جماعة ـ منهم ابن عطية رحمه‌الله وغيره ـ و «يتلونه» حالا لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة.

وقال أيضا أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون «يتلونه» خبرا ؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حقّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان (١) : ونقول : ما لزم من الامتناع من جعلها خبرا يلزم في جعلها حالا ؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة.

قوله تعالى : (حَقَّ تِلاوَتِهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه نصب على المصدر وأصله : «تلاوة حقّا» ثم قدم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير «ضربت شديد الضرب» أي : ضربا شديدا. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.

الثاني : أنه حال من فاعل «يتلونه» أي : يتلونه محقين.

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف.

وقال ابن عطية (٢) : و «حقّ» مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى «أفعل» ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف ، إنما جازت هنا ؛ لأن تعرّف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمّه ونسيج وحده يعني : أنه في قوة «أفعل» التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة ، وكأنه يرى أن إضافة «أفعل» غير محضة ، ولا حاجة إلى تقدير عامل فيه ؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في «به» فيه أربعة أقوال :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ : عوده على الكتاب.

الثاني : عوده على الرسول ، قالوا : «ولم يجر له ذكر لكنه معلوم» ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار ، فإنه مذكور في قوله : (أَرْسَلْناكَ) [البقرة : ١١٩] ، إلا أن فيه التفاتا من خطاب إلى غيبة.

الثالث : أنه يعود على الله تعالى ، وفيه التفات أيضا من ضمير المتكلّم المعظم في قوله : (أَرْسَلْناكَ) إلى الغيبة.

الرابع : قال ابن عطية (٣) : إنه يعود على «الهدى» وقرره بكلام حسن.

فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل السّفينة الذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب ،

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٠.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٥.


وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من «الحبشة» ، وثمانية من رهبان «الشام» منهم بحيرى.

وقال الضحاك : هو من آمن من اليهود : عبد الله بن سلام ، وشعبة بن عمرو ، وتمام ابن يهوذا ، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين ، وعبد الله بن صوريا. دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب.

وقال قتادة وعكرمة : هم المؤمنون عامة لقوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) وهذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ، وهذا شأن القرآن ؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما ، وأيضا قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن.

والتلاوة لها معنيان :

أحدهما : الاتباع فعلا ؛ لأن من اتبع غيره يقال : تلاه فعلا ، قال تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ٢].

والثاني : القراءة.

وفي حق التلاوة وجوه :

أحدها : أنهم تدبّروه ، فعملوا بموجبه [حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما](١).

وثانيها : أنهم خضعوا عند تلاوته.

وثالثها : أنهم عملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه ، وفوضوه إلى الله تعالى.

ورابعها : يقرءونه كما أنزله الله ، ولا يحرفونه ، ولا يتأولونه على غير الحق.

وخامسها : روي عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا (٢).

وسادسها : المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه ؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد ، وهو تعظيمها ، والانقياد لها.

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

العامل في «إذ» «قال».

وقيل : العامل فيه «اذكر» مقدرا ، وهو مفعول ، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٩).


وقدره الزمخشري رحمه‌الله تعالى كان كيت وكيت ، فجعله ظرفا ، ولكن عامله مقدر.

و «ابتلى» وما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه.

وأصل ابتلى : ابتلو ، فألفه عن «واو» ؛ لأنه «من بلا يبلو» أي ؛ اختبر.

و «إبراهيم» مفعول مقدم ، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة ؛ لأنه متى اتّصل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه ، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، هذا هو المشهور (١) ، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة.

__________________

(١) حاصل المواضع التي يتقدم فيها المفعول على وجوه ثلاثة :

الأولى : ـ أن يكون المفعول ضميرا متصلا ، والفاعل اسما ظاهرا ، نحو : (ضربك زيد) فرارا من فصل الضمير مع إمكان اتصاله.

الثانية : ـ أن يحصر الفاعل بإنما اتّفاقا ، نحو : (إنما ضرب محمدا بكر).

وإنما وجب توسّطه لما ذكرناه ، فإن مضروبية محمد مقصورة على بكر ، وضاربية بكر على الاحتمال ، فلو أخّر المفعول ، لانعكس المعنى ؛ ولذلك شاهد من الكتاب الكريم ، وهو قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالعلماء فاعل محصور فيه الخشية ، فوجب تأخيره.

وكذلك الحكم فيما إذا حصر الفاعل ب «إلّا» عند غير الكسائي ، نحو : (ما ضرب عمرا إلّا زيد) ؛ حملا على «إنما» ؛ طردا للباب على وتيرة واحدة.

أما الكسائي : فيقول بجواز تقديم الفاعل المحصور ب «إلّا» ، مثل ما سبق عنه من إجازته تقديم المفعول المحصور ب «إلّا» ، حيث قدمت (إلا) صح المحصور ؛ واستدل لذلك بقول الشاعر.

ما عاب إلا لئيم فعل ذي كرم

ولا جفا قطّ إلا جبأ بطلا

فقد تقدم فيه الفاعل المحصور ب «إلّا» معنا في الموضعين ، والأصل : ما عاب فعل ذي كرم إلا لئيم ولا جفا بطلا إلا جبأ».

وبقول الآخر :

فلم يدر إلا الله ما هيّجت لنا

أهلة أنآء الديار وشامها

فقدم الفاعل المحصور ب «إلّا» على المفعول ، وهو ما هيجت والأصل : فلم يدر ما هيّجت لنا إلا الله.

وهذا البيت لذي الرمة غيلان ، والصواب في ذكره ما سبق ، فمن إنشاده من ذكر «أهلة» بدل «عشية» ، والأهلة جمع هلال ؛ وهو ما تقوس وانحنى وأنآء جمع نؤي ؛ وهو الحفر حول الخباء أو الخيمة ، يدفع المطر ويصده عنها ، وشامها جمع شامة ؛ وهي الأثر الأسود في الأرحل.

والجمهور على خلاف ما ذهب إليه الكسائي ؛ فهم يقولون : إن «ما هيجت» ليست مفعول الفعل المذكور ، بل لفعل مقدر ، تقديره : (يرى ما هيجت لنا) ، أي : ما أثارت ، و «أهلة» منصوب على الظرف مضافة إلى أنآء الديار.

وقيل : إن أنآء جمع نأي ، وهو البعد ، والتقدير : أنآء أهل الديار فسمى أهل الديار ديارا تسمية للحال باسم المحل ، وشامها فاعل هيجت ، ويروى «أهلة وعشية» بالرفع ، فإن صحّ ، فيكون فاعل «هيجت» ، وعليه فينتصب وشامها على المفعولية.

ويقول آخر :

نبّئتهم عذّبوا بالنّار جارهم

وهل يعذّب إلّا الله بالنّار

فقدم الفاعل المحصور ب «إلّا» على المجرور ب «الباء» ، وطوى ذكر المفعول ، و «هل» فيه بمعنى «ما» النافية ، والأصل : (ما يعذب أحد أحدا بالنار إلّا الله). ـ


وخالف أبو الفتح في ذلك وقال : «إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول ، فصار للفظ به شعور وطلب».

وقد أنشد ابن مالك أبياتا كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل (١) ، منها : [السريع]

__________________

ـ «نبئتهم» مجهول بمعنى : أخبرتهم ، والتاء مفعوله الأول نائب الفاعل ، والثاني : الضمير المنصوب ، والثالث : جارهم ، و «هل» للنفي وإلّا بمعنى : غير ، أي : ما يعذب أحد بالنار غير الله ، والشاهد فيه ؛ فإن الكسائي احتج به على أن توسط المفعول ، وتأخير الفاعل لا يجب إذا كان الفاعل محصورا ب «إلّا» ؛ فإن المفعول في قوله : (وهل يعذب إلا الله) يجوز أن يقدّر قبل الفاعل وبعده.

والقائلون بوجوب توسط المفعول ، أجابوا عن نحو ما تقدم من الأبيات ؛ فقدروا قبل «فعل ذي كرم» ـ عاب ـ ، وقبل «بطلا» ـ بنار ، وقبل «ما هيجت» ـ درى ـ ؛ بناء على أن ما قبل «إلا» لا يعمل فيما بعدها في غير الأمور المستثناة ، وقدروا قبل المجرور في البيت الأخير وهو بالنار ـ يعذّب ـ ، فلم يتقدم الفاعل المحصور على المفعول ؛ لأن هذا ليس مفعولا للفعل المذكور.

الثالثة : ـ أن يتصل بالفاعل ضمير المفعول ، نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ف «إبراهيم» مفعول به متوسط و «ربه» فاعل مؤخّر وجوبا.

وأيضا : فإن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) فيه «الظالمين» مفعول به متوسط ، و «معذرتهم» فاعل مؤخر.

وإنما وجب توسط المفعول به ؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، لو تأخر المفعول به ، وهو غير جائز عند الأكثرين ، لا في نثر ولا في شعر ، إلا في مواضع منها : ـ ذكر الضمير ثم ذكر مفسره بعده ؛ لغرض التفخيم بذكره مبهما ثم مفسرا ، فيكون أوقع في النفس ، أو لغرض التأكيد بذكره مجملا ثم مفصلا ، فلا يكون هناك لبس ، وليس شيء من هذين مقصودا فيما نحن فيه ؛ لأن المقصود من ذكر إبراهيم ونحوه : أن يكون مفعولا ، وأنت إذا جئت بعد الضمير المبهم بشيء الغرض الأصلي منه التفسير فقط ، لم يبق الإبهام.

وإذا جئت بعده بشيء الغرض الأصلي منه غير التفسير ؛ كالمفعول هنا ـ فلا يكفي في التفسير ؛ لأنه يحمل على ما هو المراد الأصلي منه ، ويبقى الإبهام بحاله.

وأجاز الأخفش ، وتبعه ابن جني ، وأبو عبد الله الطوال : عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، في الشعر والنثر.

واستدل من الشعر بقوله :

جزى ربه عني عدي بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

(١) وشذ عود الضمير من الفاعل المتقدم ، وهو «أصحابه» على المفعول المتأخر ، وهو «مصعبا» ؛ لأن فيه عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وهذا ممنوع عند جمهور النحويين ، وما ورد من ذلك تأوّلوه ، وأجازها أبو عبد الله الطوال من الكوفيين ، وأبو الفتح بن جني ، وتابعهما ابن مالك ؛ وممّا ورد من ذلك قول الشاعر :

لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا

كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد

جزى ربه عني عديّ بن حاتم

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

ويجوز التأويل بأصحاب العصيان ، والأولى تجويز رأي الأخفش وابن جني على قلة ، وليس للبصريين منعه. (حاشية الخضري ١ / ١٦٦ ، الكافية ١ / ٧٣).


٧٧٠ ـ لمّا عصى أصحابه مصعبا

أدّى إليه الكيل صاعا بصاع (١)

ومنها : [البسيط]

٧٧١ ـ جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار (٢)

وقال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء به ، إذ معلوم أن الله هو المبتلي ، واتّصال ضمير المفعول بالفاعل موجب للتقديم ، يعني أن الموجب للتقديم سببان : سبب معنوي وسبب صناعي.

و «إبراهيم» علم أعجمي.

قيل : معناه قبل النقل أب رحيم.

فصل في تفسير لفظ إبراهيم

قال الماوردي : هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم.

قال السهيلي : كثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي ، أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم ، راحم بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغارا إلى يوم القيامة [على ما روى البخاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى في الروضة إبراهيم عليه‌السلام وحوله أولاد الناس (٣)](٤).

وفيه لغات سبع ، أشهرها : إبراهيم بألف وياء ، وإبراهام بألفين ، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في «البقرة» ، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر «النساء» وموضعين في آخر «براءة» وموضع في آخر «الأنعام» وآخر «العنكبوت» ، وفي «النجم» و «الشورى» و «الذاريات» و «الحديد» والأول في «الممتحنة» ، وفي «إبراهيم» وفي «النحل» موضعين ، وفي «مريم» ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعا منها خمسة عشر في «البقرة» وثلاثة عشر في السور المذكورة.

__________________

(١) البيت للسفّاح بن بكير. ينظر خزانة الأدب : ١ / ٢٨٩ ، ٢٩٠ ، ٦ / ٩٧ ، وشرح اختيارات المفضل : ص ١٣٦٢ (الحاشية) ، ولسان العرب : ١٥ / ١٤٨ (نجا) ، وخزانة الأدب : ١ / ٢٧٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٢) البيت لسليط بن سعد. ينظر الأغاني : ٢ / ١١٩ ، خزانة الأدب : ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، معجم ما استعجم : ص ٥١٦ ، والدرر : ١ / ٢١٩ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤٩٥ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٨٩ ، وتذكرة النحاة : ص ٣٦٤ ، خزانة الأدب : ١ / ٢٨٠ ، شرح الأشموني : ١ / ١٧٠ ، شرح ابن عقيل : ص ٢٥٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨) كتاب تعبير الرؤيا : (باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح) حديث (٧٠٤٧) من حديث سمرة بن جندب.

(٤) سقط في ب.


وروي عن ابن عامر قراءة (١) جميع ما في القرآن كذلك.

ويروى أنه قيل لمالك بن أنس : إن أهل «الشام» يقرءون ستة وثلاثين موضعا إبراهام بالألف ، فقال : أهل «دمشق» (٢) بأكل البطّيخ أبصر منهم بالقراءة.

فقيل : إنهم يدعون أنها قراءة عثمان.

فقال : هذا مصحف عثمان ، فأخرجه فوجده كما نقل له.

الثالثة : إبراهم بألف بعد الراء ، وكسر الهاء دون ياء ، وبها قرأ أبو بكر (٣) ؛ وقال زيد بن عمرو بن نفيل : [الرجز]

٧٧٢ ـ عذت بما عاذ به إبراهم

إذ قال وجهي لك عان راغم (٤)

الرابعة : كذلك ، إلا أنه بفتح الهاء.

الخامسة : كذلك إلا أنه بضمها.

السادسة : إبراهم بفتح الهاء من غير ألف وياء.

قال عبد المطلب : [الرمل]

٧٧٣ ـ نحن آل الله في كعبته

لم نزل ذاك على عهد ابرهم (٥)

السّابعة : إبراهوم بالواو.

قال أبو البقاء : ويجمع على «أباره» عند قوم ، وعند آخرين «براهم».

وقيل : أبارهة وبراهمة ويجوز أبارهة [وقال المبرد رحمه‌الله تعالى : لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها](٦).

وحكى ثعلب فيه : «براه» كما يقال في تصغيره : «بريه» بحذف الزوائد.

والجمهور على نصب «إبراهيم» ورفع «ربّه» كما تقدم.

__________________

(١) انظر حجة القراءات : ١١٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٤ ، ٦٥ ، وشرح شعلة : ٢٧٥ ، ٢٧٦.

(٢) بالكسر ، ثم الفتح ، وشين معجمة ، وآخره قاف : البلدة المشهورة قصبة الشام ، هي جنّة الشام ؛ لحسن عمارتها وبقعتها ، وكثرة أشجارها وفواكهها ، ومياهها المتدفّقة في مساكنها ، وأسواقها ، وجامعها ، ومدارسها. قيل : سمّيت بذلك ؛ لأنهم دمشقوا في بنائها أي أسرعوا. وقيل : هو اسم واضعها ، وهو دمشق بن كنعان. وقيل غير ذلك ، وهي مشهورة ينظر مراصد الاطلاع : ٢ / ٥٣٤.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٥ ، ووقع فيه «أبو بكرة» ـ بزيادة تاء متحركة ـ ، والدر المصون : ١ / ٣٥.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٢ ، اللسان (برهم) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٥) ينظر الهمع : ٢ / ٥٠ ، الدرر : ٢ / ٦٢ ، زاد المسير : ١ / ١٣٩ ، مجمع البيان : ١ / ٤٥١ ، البحر المحيط : ١ / ٥٤٢ ، الدر المصون : ١ / ٥٤٢.

(٦) سقط في ب.


وقرأ ابن عباس (١) وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا : وتأويلها دعا ربه ، فسمى دعاءه ابتلاء مجازا ؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير.

والضمير المرفوع في «فأتمّهنّ» فيه قولان :

أحدهما : أنه عائد على «ربّه» أي : فأكملهن.

والثاني : أنه عائد على «إبراهيم» أي : عمل بهن ، ووفّى بهن.

وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب «الشوس» من أرض «الأهواز».

وقيل : «بابل» ، وقيل : «كولى» وقيل «كسكر» وقيل : «حيران».

ونقله أبوه إلى «بابل» أرض نمرود بن كنعان ، وكان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن ، ذكره السهيلي.

فصل فيما دلت عليه السورة

اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم ، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٢٢] بين نوعا آخر من البيان ، وهو أن ذكر قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والحكمة فيه أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ معترف بفضله جميع الطّوائف ، والمشركون أيضا معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده ، ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته ، فذكر فضيلته لهم ؛ لأنها تدلّ على قبول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجوه :

أحدها : أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف ، فلما وفّى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة.

وثانيها : أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللّجاج والتعصّب للباطل.

وثالثها : أن الحج (٢) من خصائص دين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحكى الله ـ تعالى ـ ذلك عن

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(٢) الحجّ لغة : القصد ؛ ومنه : حجّ إلينا فلان ، أي : قدم.

انظر لسان العرب : ٢ / ٧٧٨ ، المغرب : ١٠٣ ، المصباح المنير : ١ / ١٢١.

واصطلاحا :

عرفه الحنفيّة بأنه : قصد موقع مخصوص وهو البيت ـ ، بصفة مخصوصة ، في وقت مخصوص ، بشرائط مخصوصة.

عرفه الشافعية بأنه : قصد الكعبة للنّسك.

عرفه المالكية بأنه : هو وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة ، وطواف بالبيت سبعا ، وسعي بين الصفا والمروة كذلك ، على وجه مخصوص بإحرام. ـ


إبراهيم ليكون ذلك كالحجّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.

ورابعها : أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ، ووجوب الاقتداء به ، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب عن قلوبهم.

فصل في معنى الابتلاء

والابتلاء هنا الاختبار والامتحان ، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء ؛ لأنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات على سبيل التّفاصيل من الأزل إلى الأبد ، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا ، أو عاملهم معاملة المختبر.

واختلف في «الكلمات» فقال مجاهد : هي المذكورة بعدها في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إلى آخرها من الآيات ، ورفع البيت ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، والدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن هذه أمور شاقّة ؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقا عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره ، ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمّن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله ـ تعالى ـ الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالشّيطان في الموقف لرمي الجمار وغيرها.

وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو مما يحتاج إلى إخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحسد عن القلب ، فكل هذه تكاليف شاقّة ، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف ، فلم يقبل وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

واعترض القاضي على هذا ، فقال : إنما يجوز هذا لو قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم قال بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماما فأتمهن.

وأجيب عنه : بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكأنه ـ تعالى ـ ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أنه أتمّها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا ليس ببعيد.

وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : عشر خصال كانت فرضا في شرعه ، وهي سنّة في شرعنا : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق ، وفرق الرأس ، وقصّ الشارب ، والسّواك ، وأما التي في البدن :

__________________

ـ عرفه الحنابلة بأنه : قصد مكة للنسك في زمن مخصوص.

انظر الاختيار : ١٧٧ ، مغني المحتاج : ١ / ٤٦٠ ، نهاية المحتاج : ٣ / ٢٣٣ ، الشرح الكبير : ٢ / ٢٠٢ ، المبدع : ٣ / ٢٨٣ ، كشف القناع : ٢ / ٣٧٥ ، أسهل المدارك : ١ / ٤٤١ ، الفواكه الدواني : ١ / ٤٠٦ ، مجمع الأنهر : ١ / ٢٥٩.


فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، [والاستنجاء بالماء (١).

وفي الخبر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أول من قصّ الشارب ، وأول من اختتن وأول من قلّم الأظفار](٢).

وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثا عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال محمد بن حبيب (٣) الهاشمي أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرّسّ ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروي أن عبد المطلب ختن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم سابعه وجعل مأدبة ، وسماه محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال يحيى بن أيوب ـ رضي الله تعالى عنه ـ طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلّا عند ابن أبي السّريّ.

وقال عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام : عشر منها في سورة «براءة» : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢] إلى آخر الآية.

وعشر منها في سورة «الأحزاب» : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] إلى آخر الآية وعشر منها في «المؤمنين» : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١٠].

وروي عن ابن عباس : أربعون فزاد : وعشر في (سَأَلَ سائِلٌ) إلى قوله تعالى : (يُحافِظُونَ) [المعارج : ١ ـ ٣٤].

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع : هي مناسك الحجّ (٤).

[وقال الحسن](٥) : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس والقمر ، والكواكب ، والختان على الكبر ، والنار ، وذبح الولد ، والهجرة ، فوفّى بالكلّ (٦).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٦٦) والطبري (٣ / ٩) وفي تاريخه (١ / ١٤٤) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢١٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : قال يوسف بن حبيب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٢) عن ابن عباس.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٤) عن الحسن.


وقال يمان بن رباب : هي محاجّته قومه ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والضيافة ، والصبر عليها.

وقال بعضهم : هي قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١].

وقال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] الآية.

وقيل : هي قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] الآيات.

قال القفّال : وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كلّ ما في فعله كلفة شدة ومشقة ، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ، ويتناول كل واحد منها ، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض ، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات](١) ، فوجب التوقّف.

فصل في وقت هذا الابتلاء

قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ جعل قيامه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهنّ كالسبب لأن يجعله الله إماما ، والسبب مقدم على المسبّب ، وإذا كان كذلك فالله ـ تعالى ـ ابتلاه بالتكاليف الشّاقّة ، فلما وفّى بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة.

وقال غيره : إنه بعد النبوة ، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته.

وأجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه ـ تعالى ـ أوحى إليه على لسان جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذه التكاليف ، فلما تمّم ذلك جعله نبيّا مبعوثا إلى الخلق.

إذا عرفت هذا فنقول : قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحسن من أمر الكواكب والشمس والقمر ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابتلي بذلك قبل النبوة.

وأما ذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان ، فكل ذلك بعد النبوة.

يروى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ختن نفسه ، وكان سنه مائة وعشرين سنة.

ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله : «أتمهن» أنه ـ سبحانه ـ علم من حاله أنه يتمهن ، ويقوم بهن بعد النبوة ، فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.

فصل

قال القرطبي رحمه‌الله روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن

__________________

(١) في أ : وجب التعارض.


المسيب ، يقول : إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أول من اختتن (١) ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحدّ ، وأول من قلّم الأظفار ، وأول من قصّ الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا (٢).

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله.

قال غيره : وأول من ثرد الثّريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل (٣).

قوله : (قالَ إِنِّي) هذه الجملة القولية يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها ، إذا قلنا بأنها عاملة في «إذ» ؛ [لأن التقدير : وقال إنّي جاعلك إذ ابتلى ، ويجوز أن تكون استئنافا إذا قلنا : إن العامل في «إذ» مضمر](٤) ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال : إنّي جاعلك.

ويجوز فيها أيضا على هذا القول أن تكون بيانا لقوله : «ابتلى» وتفسيرا له ، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، وما بعدها ، نقل ذلك الزمخشري.

قوله : (جاعِلُكَ) هو اسم فاعل من «جعل» بمعنى «صيّر» فيتعدّى لاثنين :

أحدهما : «الكاف» ، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟

وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه في محل جر بالإضافة.

والثاني : أنه في محل نصب ، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير ، قالوا : ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة ؛ كقولهم : [الوافر]

٧٧٤ ـ فما أدري وظنّي كلّ ظنّ

أمسلمني إلى قومي شراحي (٥)

وقال آخر : [الطويل]

٧٧٥ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه

 .......... (٦)

__________________

(١) ذكره السيوطي في الوسائل ص ٩ ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢١٩) وعزاه لابن سعد عن الكلبي.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن أبي شيبة عن السدّي.

(٤) سقط في أ.

(٥) البيت ليزيد بن محمد الحارثي. ينظر الهمع : ١ / ٦٥ ، المحتسب : ٢ / ٢٢٠ ، الدرر : ١ / ٤٣ ، العيني : ١ / ٣٨٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(٦) صدر بيت وعجزه :

 ..........

إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما ـ


وهذا يدل على تسليم كون «نون» مسلمني تنوينا ، وإلّا فالصحيح أنها نون وقاية.

الثالث ـ وهو مذهب سيبويه ـ أنّ حكم الضمير حكم مظهره ، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره.

والمفعول الثاني «إماما».

قوله : (لِلنَّاسِ) يجوز فيه وجهان.

أحدهما : أنه متعلق بجاعل أي لأجل النّاس.

والثاني : أنه حال من «إماما» ، فإنه صفة نكرة قدم عليها ، فيكون حالا منها ؛ إذ الأصل : إماما للناس ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.

و «الإمام» : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به.

ومنه قيل لحائط البناء : «إمام» ويكون في غير هذا جمعا ل «آمّ» اسم فاعل من أمّ يؤمّ نحو : قائم وقيام ، ونائم ونيام وجائع وجياع.

والمراد من الإمام هاهنا النبي ، ويدلّ عليه وجوه :

منها أن قوله : (لِلنَّاسِ إِماماً) يدل على أنه ـ تعالى ـ جعله إماما لكل الناس ، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولا من عند الله مستقلّا بالشرع ؛ لأنه لو كان تبعا لرسول آخر لكان مأموما [لذلك الرسول لا إماما له ، فحينئذ](١) يبطل العموم.

وأيضا إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّا.

وأيضا إنّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم](٢) قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٢١].

والخلفاء أيضا أئمة ؛ لأنهم رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم ، وقبول قولهم ، وأحكامهم. والقضاة ، والفقهاء أيضا أئمة لهذا المعنى ، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضا إماما به.

قال عليه الصلاة والسلام : «إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا» (٣)

__________________

ـ ينظر الكتاب : ١ / ١٨٨ ، شرح المفصل : ٢ / ١٢٥ ، الكامل : (٢٦٤) ، معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٨٦ ، الدرر : ٢ / ٢١٥ ، مجالس ثعلب : ١ / ١٢٣ ، الهمع : ٢ / ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٧١) كتاب «الصلاة» ، باب الصلاة في السطوح حديث رقم (٣٧٨) ، (١ / ٢٧٩) كتاب الأذان ، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به حديث رقم (٦٨٨) ، (١ / ٢٨٠) رقم (٦٨٩) ومسلم (١ / ٣٠٨) رقم (٧٧ / ٤١١) وأبو داود (٦٠٣) والترمذي (٣٦١) والنسائي (٢ / ١٩٦) وابن ماجه (١٢٣٨ ، ـ ـ ١٢٣٩) وأحمد (٢ / ٤٢٠) والبيهقي (٢ / ٩٢ ، ٣٠٣) ، (٣ / ٧٨) وعبد الرزاق (٤٠٧٨ ، ٤٠٨٢) والدارمي (١ / ٢٨٧) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٩ / ٣٨) وابن عبد البر (٦ / ١٣٠).

وذكره الهندي في «كنز العمال» رقم (٢٠٤٦٤ ، ٢٠٤٨٩ ، ٢٠٤٩٠).


وقد يسمى من يؤتم به في الباطل ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيدا.

فصل في إمامة سيدنا إبراهيم

اعلموا أن الله ـ تعالى ـ لما وعده بأن يجعله إماما للناس حقّق الله ـ تعالى ـ ذلك الوعد فيه إلى قيام السّاعة ، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها (١) يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب ، وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصّلاة والسلام.

وقال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] وقال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].

وقال عزوجل : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].

وجميع أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقولون في صلاتهم : وارحم محمّدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول ، والمفعول الثّاني والعامل فيهما محذوف تقديره : قال : واجعل فريقا من ذريتي إماما قاله أبو البقاء (٢).

الثاني : أن (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على «الكاف» ، كأنه قال : «وجاعل بعض ذرّيتي» كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا.

قال أبو حيّان : لا يصح العطف على الكاف ؛ لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلّا بإعادة الجار ، ولم يعد ؛ ولأن «من» لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفا ، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح ، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف ؛ لأنه نصب ، فتجعل «من» في موضع نصب ؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويه رحمه‌الله تعالى](٣) لفوات المحرز ، وليس نظير ما ذكر ؛ لأن «الكاف» في «سأكرمك» في موضع نصب.

الثالث : قال أبو حيان : والذي يقتضيه المعنى أن يكون «من ذرّيّتي» متعلقا

__________________

(١) في أ : تنافرها.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٦١.

(٣) سقط في ب.


بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماما ؛ لأن (إِبْراهِيمَ) فهم من قوله : إني جاعلك للنّاس إماما الاختصاص فسأل أن يجعل من ذرّيته إماما.

قال شهاب الدّين (١) : إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي ، فيتعدّى «جاعل» لواحد ، فهذا ليس بظاهر.

وإن أراد التعلق المعنوي ، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء ، ويجوز أن يكون «من ذرّيّتي» مفعولا ثانيا قدم على الأول ، فيتعلّق بمحذوف ، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت : «من ذريتي إمام» لصح.

وقال ابن عطية : وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي : ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف ، ولو قدره قبل «من ذرّيّتي» لكان أولى ؛ لأن ما في حيّز الاستفهام لا يتقدم عليه.

وفي «ذرية» ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها ، وبالضم قرأ الجمهور ، وبالفتح قرأ (٢) أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل.

فصل في اشتقاق ذريّة

فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب :

أحدها : أنها مشتقة من «ذروت».

الثاني : من «ذريت».

الثالث : من ذرأ الله الخلق.

الرابع : من الذّرّ.

وأما تصريفها فذرّيّة بالضم إن كانت من ذروت ، فيجوز فيها أن يكون وزنها «فعّولة» ، والأصل : «ذرّووة» ، فاجتمع واوان : الأولى زائدة للمد ، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفا ، فصار اللفظ «ذرّوية» ، فاجتمع ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة ، وكسر ما قبل الياء ، وهي الراء للتجانس.

ويجوز أن يكون وزنها «فعّيلة» ، والأصل : «ذرّيوة» ، فاجتمع ياء المد والواو

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٣٦١.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦١ ، ونسب القرطبي القراءتين لزيد بن ثابت.

انظر القرطبي : ٢ / ٧٤.


التي هي لام الكلمة ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذريت لغة في ذروت فيجوز فيها أيضا أن يكون وزنها «فعّولة» أو فعّيلة كما تقدم ، وإن كانت «فعّولة» فالأصل «ذرّوية» ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام.

وإن كانت «فعّيلة» فالأصل : «ذرّيية» ، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام.

وإن كانت من ذرأ مهموزا ، فوزنها «فعّيلة» ، والأصل : «ذرّيئة» فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة «خطيئة» و «النسيء» ، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة.

وإن كانت من «الذّر» فيجوز في وزنها أربعة أوجه :

أحدها : «فعليّة» وتحتمل هذه الياء أن تكون للنّسب ، وغيّروا الذّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل سهلي بضم الدال والسين ، وأن تكون لغير النسب فتكون ك «قمرية».

الثاني : أن تكون «فعّيلة» ك «مرّيقة» والأصل «ذرّيرة» ، فقلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال ، كما قالوا : تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت.

الثالث : أن تكون «فعّولة» ك «قدوس» و «سبّوح» ، والأصل : «ذرّورة» فقلبت الراء ياء لما تقدم ، فصار ذرّوية فاجتمع واو وياء ، فجاء القلب والإدغام كما تقدم.

الرابع : أن تكون فعلولة ، والأصل : ذرّورة ، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله.

وأما ذرّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فعّيلة ، والأصل : ذرّيوة ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها ، فإن كانت من ذريت فوزنها فعلية أيضا ، وإن كانت من ذرأ فوزنها فعّيلة أيضا كبطّيخة ، والأصل ذرّيئة. ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال.

وإن كانت من الذّرّ فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون وزنها فعليّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة.

الثاني : أن تكون «فعّيلة».

الثالث : أن تكون «فعليلة» ك «حلتيت» والأصل فيهما : ذرّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الأخيرة ياء والإدغام فيها.

وأما «ذرّيّة» بفتح الذال : فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها : فعّيلة ك «سكينة» والأصل ذرّيوة أو ذرّيية أو فعّولة والأصل ذرّورة أو ذرّوية ، ففعل به ما تقدم في نظيره.

وإن كانت من ذرأ فوزنها : إما فعّيلة ك «سكينة» ، والأصل : ذرّيئة وإما فعّولة ك «خرّوبة» والأصل : ذرّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره.

وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضا أربعة أوجه :


أحدها : فعليّة ، والياء أيضا تحتمل أن تكون للنسب ، ولم يشذّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألّا يكون نحو : برنية.

الثاني : فعّولة ك «خرّوبة» والأصل ذرّورة.

الثالث : فعّيلة ك «سكينة» والأصل : ذريرة.

الرابع : فعلولة ك «بكّولة» ، والأصل ذرورة أيضا ، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخيرة ، وإدغام ما قبلها فيها وكسرت الذال إتباعا ، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة.

فصل في معنى الذّرية

النسل يقع على الذكور الإناث ، والجمع الذراري.

وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلّا بقوله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] يعني : نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن معه ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل

هل كان إبراهيم عليه ـ السّلام ـ مأذونا له في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أو لم يكن مأذونا فيه؟ فإن أذن الله ـ تعالى ـ في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنبا.

قلنا : قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلب أن يكون بعض ذريته أئمة ، وقد حقق الله ـ تعالى ـ إجابة دعاءه في المؤمنين من ذريته ك «إسماعيل» ، و «يعقوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» و «داود» ، و «سليمان» ، و «أيّوب» ، و «يونس» ، و «زكريا» ، و «يحيى» ، و «عيسى» ، عليهم‌السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

قوله تعالى : (قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

الجمهور على نصب (الظَّالِمِينَ) مفعولا ، و (عَهْدِي) فاعل ، أي : لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم.

وقرأ (١) قتادة ، والأعمش ، وأبو رجاء : «الظالمون» بالفاعلية ، و «عهدي» مفعول به ، والقراءتان ظاهرتان ؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما ، فإن من نالك فقد نلته.

__________________

(١) وقرأ بها ابن مسعود ، وطلحة بن مصرف.

انظر القرطبي : ٢ / ٧٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٣ ، وإعراب النحاس : ١ / ٢٠٩ ، والشواذ : ٩ ، والتخريجات النحوية : ٣٦٢.


والنّيل : الإدراك ، وهو العطاء أيضا ، نال ينال نيلا فهو نائل ، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من : «عهدي» ، والباقون بفتحها.

فصل في تحرير معنى العهد

اختلفوا في العهد ، فقيل : الإمامة.

وقال السدي : النبوة ، وهو قول ابن عباس.

وقال عطاء : رحمتي (١).

وقيل : عهده أمره ، ويطلق على الأمر ، قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) [آل عمران : ١٨٣] أي : أمرنا ، وقال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] يعني : ألم أقدم إليكم الأمر به ، فيكون معنى قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي : لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله.

[قال قتادة رحمه‌الله تعالى : هو الإيمان.

وقال مجاهد والضحاك رحمهما‌الله هو طاعتي ، أي : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه (٢)

ومعنى الآية : لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ولدك.

وقال أبو عبيدة رحمه‌الله تعالى : العهد الأمان من النار ؛ لقوله عزوجل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ)](٣) [الأنعام : ٨٢]

قال ابن الخطيب : والأول أولى ؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة.

فإن قيل : أفما كان إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عالما بأن النبوة لا تليق بالظّالمين؟

فالجواب : بلى ، ولكن لم يعلم حال ذرّيته ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن فيهم من هذا حاله ، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.

فصل في عصمة الأنبياء

الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين.

الأول : أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد : الإمامة ، ولا شكّ أن كل نبي إمام ، فإن الإمام هو الذي يؤتم به ، والنبي أولى الناس ، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقا ، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقا فاعلا للذنب والمعصية أولى.

الثاني : أنّ العهد إن كان هو النبوة ، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظّالمين ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري (٣ / ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٢) رقم (١٩٥٦).

(٣) سقط في ب.


وإن كان هو الإمامة ، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ، وكل فاسق ظالم لنفسه ، فوجب ألّا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين.

فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟

قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين : الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له ، واختلفوا في أنّ الفسق الطّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟

واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها من وجهين :

[الأول : ما بيّنا أن قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) جواب لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) طلب الإمامة الّتي ذكرها الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ، ليكون الجواب مطابقا للسؤال ، فتصير الآية كأنه ـ تعالى ـ قال : لا ينال الإمامة الظّالمين ، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه ، فكانت الآية دالّة على ما قلناه](١).

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهرا وباطنا ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة.

[قلنا](٢) : أما الشيعة [فيستدلون](٣) بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا.

وأما نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك إلّا أنا تركنا عبارة الباطن ، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة.

فإن قيل : أليس أن يونس عليه الصلاة والسلام قال : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] وقال آدم : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣]؟

قلنا : المذكور في الآية هو الظلم المطلق ، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما‌السلام.

الوجه الثاني : أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] يعني : ألم آمركم بهذا؟

وقال الله تعالى : (قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) [آل عمران : ١٨٣] يعني أمرنا ، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول : لا يخلو قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى ، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : فالجواب.

(٣) في أ : فيشترطون.


على أن أوامر الله ـ تعالى ـ لازمة للظالمين ، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر ، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله ـ تعالى ـ وغير مقتدى بهم فيها ، فلا يكونون أئمة في الدّين ، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق ، قال عليه‌السلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (١) ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما ، وأن أحكامه لا تنفذ إذ ولّي الحكم ، وكذلك لا تقبل شهادته ، ولا خبره [عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدّم للصّلاة ، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به ، فإنه لا تفسد صلاته](٢).

وقال أبو بكر الرّازي : «ومن النّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماما وخليفة ، ولا يجوز كون الفاسق قاضيا» ، قال : وهذا خطأ ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وكيف يكون خليفة ، وروايته غير مقبولة ، وأحكامه غير نافذة.

قال : وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة : أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ، وتولى القضاء من إمام جائر فإنّ أحكامه نافذة ، والصّلاة خلفه جائزة ؛ لأن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة ، فلا اعتبار في ذلك بمن ولّاه ؛ لأن الذي ولّاه بمنزلة سائر أعوانه ، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرّضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا ، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم.

فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظّلمة

ونقل القرطبي رحمه‌الله تعالى عن ابن خويزمنداد أنه قال : وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة ، فجائز أخذه ؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجّاج وغيره.

وإن كان مختلطا حلالا وظلما ، كما في أيدي الأمراء اليوم ، فالورع تركه ، ويجوز

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ١٥٩) كتاب أخبار الآحاد باب إجازة خبر الواحد حديث رقم (٧٢٥٧).

ومسلم في الصحيح (٣ / ١٤٦٩) كتاب الإمارة (٣٣) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (٨) حديث رقم (٣٩ / ١٨٤٠) وأبو داود في السنن كتاب الجهاد باب ٩٥.

والنسائي في السنن كتاب البيعة باب ٣٢ ـ وأحمد في المسند (٤ / ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، ٤٣٢ ، ٤٣٦) ، (٥ / ٦٦ ، ٧٠) ـ والبيهقي في السنن (٨ / ١٥٦) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٤٤٣) ـ وابن أبي شيبة (١٢ / ٥٤٥) ـ والطبراني في الكبير (٣ / ٢٣٧) ، (١٨ / ١٥٠ ، ١٧١ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٢٢٩) ـ وذكره الهيثمي في الزوائد (٥ / ١٢٩).

(٢) سقط في أ.


للمحتاج أخذه ، وهو كلصّ في يده مال مسروق ، ومال حلال ، [وقد وكله فيه رجل ، فجاء اللص يتصدق به على إنسان](١) ، فيجوز أن تؤخذ منه الصّدقة ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما ، وإن كان الورع التنزّه عنه ، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها ، [وإنما تحرم لجهاتها ، وإن كان في أيديهم ظلما صراحا ، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم](٢) ، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ، ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال](٣).

قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

«إذ» عطف على «إذ» قبلها ، وقد تقدم الكلام فيها ، و «جعلنا» يحتمل أن يكون بمعنى «خلق» و «وضع» فيتعدّى لواحد ، وهو «البيت» ، ويكون «مثابة» نصبا على الحال وأن يكون بمعنى «صيّر» فيتعدى لاثنين ، فيكون «مثابة» هو المفعول الثاني. والأصل في «مثابة» «مثوبة» فأعلّ بالنقل والقلب ، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟

وهل الهاء فيه للمبالغة ك «علّامة» و «نسّابة» لكثرة من يثوب إليه ، أي يرجع ، أو لتأنيث المصدر ك «مقامة» أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال ، وقد جاء حذف هذه الهاء ؛ قال ورقة بن نوفل : [الطويل]

٧٧٦ ـ مثاب لأفناء القبائل كلّها

تخبّ إليها اليعملات الذّوامل (٤)

وقال : [الرمل]

٧٧٧ ـ جعل البيت مثابا لهم

ليس منه الدّهر يقضون الوطر (٥)

وهل معناه من ثاب يثوب أي : رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟

قولان :

أظهرهما : أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : إنهم يثوبون إليه في كل عام.

وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى

__________________

(١) في أ : متصدق بالقرب على إنسان.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر اللسان (ثوب) ، القرطبي : ٢ / ٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٣ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧.

(٥) ينظر البحر : ١ / ٥٥١ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٣.


العود إليه](١) ، وقرأ الأعمش (٢) وطلحة «مثابات» جمعا ، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.

قوله تعالى : (لِلنَّاسِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.

والثاني : أنه متعلّق بجعل أي : لأجل الناس يعني مناسكهم.

قوله تعالى : (وَأَمْناً) فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «مثابة» وفيه التأويلات المشهورة : إما المبالغة في جعله نفس المصدر ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذا أمن ، وإما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، أي : آمنا ، على سبيل المجاز كقوله : (حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧].

والثاني : أنه معمول لفعل محذوف تقديره : وإذ جعلنا البيت مثابة ، فاجعلوه آمنا لا يعتدي فيه أحد على أحد.

والمعنى : أن الله جعل البيت محترما بحكمه ، وربما يؤيد هذا بقراءة (٣) : «اتّخذوا» على الأمر ، فعلى هذا يكون «وأمنا» وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.

فصل في تحرير المقصود من البيت

اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني ، وهو تطهير البيت ، فنقول : المراد بيت الله الحرام ؛ لأن الألف واللام فيه : إما للعهد أو للجنس ، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس ، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.

قال ابن الخطيب : وليس المراد نفس الكعبة ؛ لأنه ـ تعالى ـ وصفه بكونه «أمنا» وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت ، والمراد منه كل الحرم.

قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وقال تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦ ـ ٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٢٢).

(٢) انظر الشواذ : ٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٤ ، والقرطبي : ٢ / ٧٦ ، والتخريجات النحوية : ٥٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٧.

(٣) وهي قراءة الجمهور ، قرأ بها : ابن كثير وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي.

انظر الحجة : ٢ / ٢٢٠ ، وحجة القراءات : ١١٣ ، وإتحاف : ١ / ٤١٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٧ ، وشرح شعلة : ٢٧٦ ، والعنوان : ٧١.


والمراد ـ والله أعلم ـ منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، وقال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن ، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه ـ تعالى ـ أطلق لفظ البيت ، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.

فصل في تحرير معنى الأمن

قوله : (وَأَمْناً) أي : موضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين ، ولا شكّ أن قوله تعالى : (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) خبر فتارة يتركه على ظاهره ، ويقول : هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره ، ويقول : هو أمر.

أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم ؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.

وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] فأخبر عن وقوع القتل فيه.

وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى : أن الله ـ تعالى ـ أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة» ، وكانوا يسمون قريشا : أهل الله تعظيما له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهمّ بالظّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب ، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح «مكة» : «إنّ هذا البلد حرّمه الله ـ تعالى ـ يوم خلق السّموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله ـ تعالى ـ إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرّفها ، ولا يختلى خلاها» فقال العباس رحمه‌الله : يا رسول الله إلا الإذخر. فقال : «إلّا الإذخر» (١).

فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟

قال الشّافعي رحمه‌الله ـ تعالى ـ ورضي عنه : إذا دخل البيت من وجب عليه حدّ فلا تستوف منه ، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» رقم (٩٨٦) وأحمد (١ / ٣٩٥) والبيهقي (٥ / ١٩٥) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٠٥).


وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه : لا يجوز.

واحتج الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب «مكة» غيلة إن قدر عليه ، وهذا في الوقت الذي كانت «مكة» فيه محرمة ، وذلك يدل أنها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه ، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.

واحتج أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ بهذه الآية.

والجواب عنه أن قوله : (وَأَمْناً) ليس فيه بيان أنه جعله آمنا في ماذا؟ فيمكن أن يكون آمنا من القحط ، وأن يكون آمنا من نصب الحروب ، وأن يكون آمنا من إقامة الحدود ، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل ، بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى ؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر ، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك ، فكان قول الشّافعي رحمه‌الله أولى.

قول تعالى : (وَاتَّخِذُوا) قرأ نافع وابن عامر : «واتّخذوا» فعلا ماضيا على لفظ الخبر ، والباقون على لفظ الأمر.

فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على «جعلنا» المخفوض ب «إذ» تقديرا ، فيكون الكلام جملة واحدة.

الثاني : أنه معطوف على مجموع قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا) فيحتاج إلى تقدير «إذ» أي : وإذ اتّخذوا ، ويكون الكلام جملتين.

الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفا على محذوف تقديره : فثابوا واتخذوا.

وأما قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها عطف على «اذكروا» إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسرائيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا.

والثاني : أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله : (مَثابَةً) ، كأنه قال : ثوبوا واتخذوا ، ذكر هذين الوجهين المهدوي.

الثالث : أنه مفعول لقول محذوف ، أي : وقلنا : اتخذوا ، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته ، أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وأمته.

الرابع : أن يكون مستأنفا ذكره أبو البقاء.

قوله تعالى : (مِنْ مَقامِ) في «من» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها تبعيضية ، وهذا هو الظاهر.

الثاني : أنها بمعنى «في».

الثالث : أنها زائدة على قول الأخفش ، وليس بشيء.


والمقام هنا مكان القيام ، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضا. وأصله : «مقوم» فأعل بنقل حركة «الواو» إلى السّاكن قبلها ، وقبلها ألفا ، ويعبر به عن الجماعة مجازا ؛ كما يعبر عنهم بالمجلس ؛ قال زهير : [الطويل]

٧٧٨ ـ وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل (١)

قوله : (مُصَلًّى) مفعول «اتّخذوا» ، وهو هنا اسم مكان أيضا ، وجاء في التفسير بمعنى قبلة.

وقيل : هو مصدر ، فلا بد من حذف مضاف أي : مكان صلاة ، وألفه منقلبة عن واو ، والأصل : «مصلّو» ؛ لأن الصلاة من ذوات «الواو» كما تقدم أول الكتاب.

فصل في المقصود بالمقام

اختلفوا في «المقام» فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة : هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ رجله عليه ، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه ، ثم رفعته من تحته ، وقد غاصت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الرجل الأخرى ، فغاصت رجله أيضا فيه ، فجعله الله ـ تعالى ـ من معجزاته (٢) يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيّنا فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أن إبراهيم عليه‌السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وقال مجاهد رحمه‌الله وإبراهيم النخعي رضي الله عنه (٣) : «مقام إبراهيم الحرم كله» وقال يمان : المسجد كله مقام إبراهيم عليه الصلام والسلام.

[وقال عطاء : إنه عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : «الحج كله مقام إبراهيم](٤).

واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر ـ رحمة الله عليه ـ أنه عليه الصّلاة والسلام ـ لما فرغ من الطواف أتى المقام ، وتلا قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٥).

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١١٣) ، القرطبي : ٢ / ١١٢ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٨٠ ، اللسان (قوم) ، مجمع البيان : ١ / ٤٥٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٥ ـ ٣٦) عن السدّي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٤) عن مجاهد.

(٤) سقط في أ.

(٥) انظر تفسير الطبري : (٣ / ٣٣).


وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرّ بالمقام ، ومعه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية (١) ، وقال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

وليس للصلاة تعلق بالحرم ، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع ، فيكون مقام إبراهيم هو هذا ، ولو سأل سائل أهل «مكّة» عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد ، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطّين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله ـ تعالى ـ ومعجزة إبراهيم عليه‌السلام ، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره ، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ، ولم يثبت قيامه على غيره ، فحمل هذا اللفظ ، أعني : مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على الحجر يكون أولى.

قال القفّال : ومن فسر (٢) «مقام إبراهيم» بالحجر خرج قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على مجاز قول الرجل : اتخذت من فلان صديقا ، وقد أعطاني الله من فلان أخا صالحا ، وإنما تدخل «من» لبيان المتخذ الموصوف ، ويميزه في ذلك المعنى من غيره.

فصل في تحرير معنى المصلّى

اختلفوا في «المصلّى».

فقال مجاهد رحمه‌الله تعالى : «هو الدعاء» ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله : إن الحرم كله مقام إبراهيم.

وقال الحسن رضي الله عنه : أراد به قبلة إبراهيم.

وقال قتادة والسّدي : أمروا أن يصلوا عنده ، وهذا القول أولى ؛ لأن لفظ «الصّلاة» إذا أطلق يعقل منه الصّلاة الشّرعية وقال عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضا فعن الشافعي رحمه‌الله قولان :

أحدهما : أنهما فرض ؛ لهذه الآية ، فإن الأمر للوجوب.

والثاني : أنهما سنة ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأعرابي حين سأله هل عليّ غيرها؟ قال لا إلّا أن تطوع ، وإن كان الطواف سنة فهما سنة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري : (٣ / ٣٢).

(٢) في أ : حمل.


فصل في الكلام على البيت المعمور

روي عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بجبال الكعبة من فوقها ، حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون فيه أبدا.

وذكر علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم ، فانهدم فبنته العمالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم ، فبنته جرهم ، ومر عليه الدهر فانهدم ، بنته قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ شابّ ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من خرج عليهم ، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ، ثم ترفعه جميع القبائل ، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضعه.

وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب.

في الصفح الأول : أنا الله ذو بكّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حفّا ، وباركت لأهلها في اللحم واللبن.

وفي الصفح الثاني : أنا الله ذو بكّة خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته.

وفي الثالث : أنا الله ذو بكّة خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، وويل لمن كان الشر على يديه. وقال صلوات الله وسلامه عليه : «الرّكن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس الله تعالى نورهما ، ولو لا ذلك لأضاء لهما ما بين المشرق والمغرب ، وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلّا شفي» (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا الحجر له عينان يبصر بهما يوم القيامة وإنّه كان أشدّ بياضا من الثّلج حتّى سوّدته خطايا أهل الشّرك» (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هذا الحجر يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما ، ولسان ينطق به ، يشهد على من استلمه بحقّ» (٣).

وعن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنه قبّل الحجر الأسود وقال : «إنّي لأعلم أنك

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٢١٤) والحاكم (١ / ٤٥٦) والترمذي (٨٧٨) والبيهقي (٥ / ٧٥) وابن حبان (١٠٠٤ ـ موارد) وابن خزيمة (٢٧٣١) وقال الترمذي : حديث غريب.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٣٠٧) والخطيب (٧ / ٣٦٢) وذكره الهندي في «كنز العمال» (٤٧٢٤).

(٣) انظر الدر المنثور للسيوطي : (١ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠).


حجر لا تضر ولا تنفع ، وأن الله ربّي ، ولو لا أني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبّلك ما قبّلتك».

قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ) تقدم معنى العهد.

قيل : معناه ـ هاهنا ـ أمرنا وقيل : أوحينا.

قوله : (وَإِسْماعِيلَ) إسماعيل علم أعجميّ ، وفيه لغتان : باللام والنون ؛ وعليه قول الشاعر : [الرجز]

٧٧٩ ـ قال جواري الحيّ لمّا جينا

هذا وربّ البيت إسماعينا (١)

ويجمع على : «سماعلة» و «سماعيل» و «أساميع».

ومن أغرب ما نقل في التسمية أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لما دعا الله أن يرزقه ولدا كان يقول : اسمع إيل اسمع إيل ، وإيل هو الله ـ تعالى ـ فسمى ولده بذلك.

قوله : (أَنْ طَهِّرا) يحوز في «أن» وجهان :

أحدهما : أنها تفسيرية لجملة قوله : (عَهِدْنا) ، فإنه يتضمن معنى القول ؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا ، فهي بمنزلة «أي» التي للتفسير ، وشرط «أن» التفسيرية أن تقع بعدما هو بمعنى القول لا حروفه.

وقال أبو البقاء : والمفسرة تقع بعد القول ، وما كان في معناه.

فقد غلط في ذلك ، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

والثاني : أن تكون مصدرية ، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية ، قالوا : «كتبت إليه بأن قم» وفيها بحث ليس هذا موضعه ، والأصل : بأن طهرا ، ثم حذفت الباء ، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب ، أو خفض.

و «بيتي» مفعول به أضيف إليه ـ تعالى ـ تشريفا وقرأ أهل «المدينة» وحفص «بيتي» بفتح الياء هاهنا ، وفي سورة «الحج» ، وزاد حفص في سورة «نوح» عليه الصلاة والسلام.

و «الطائف» اسم فاعل من : «طاف يطوف» ، ويقال : أطاف رباعيا ، قال : [الطويل]

٧٨٠ ـ أطافت به جيلان عند قطاعه

 .......... (٢)

وهذا من باب «فعل وأفعل» بمعنى.

فصل في معنى تطهير البيت

يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به ، لأنه موضع الصّلاة فيجب

__________________

(١) ينظر البحر : ١ / ٥٤٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٥.

(٢) صدر بيت لامرىء القيس وعجزه :

تردد فيه العين حتى تحيرا

ينظر ديوانه : (٦١) ، الدر المصون : ١ / ٣٦٥.


تطهيره من الشرك ، ومن كل ما لا يليق به ، وذكر المفسّرون وجوها :

أحدها : أن معنى «طهّرا بيتي» ابنياه وطهّراه من الشرك ، وأسّساه على التقوى.

وثانيهما : عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه ، وزاروه وأقاموا به.

ومجازه : اجعلاه طاهرا عندهم ، كما يقال : فلان يطهر هذا ، وفلان ينجسه.

وثالثها : ابنياه ، ولا تدعا أحدا من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطّائفين فيه ، بل أقرّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال : طهر الله الأرض من فلان ، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك ، وهو كقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس ، بل خلقن طاهرات ، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهرا.

ورابعها : معناه : أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ، ليقتدي الناس بكما في ذلك.

وخامسها : قال بعضهم : إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار ، فأمر الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك ، وهذا ضعيف ؛ لأن قبل البناء ما كان البيت موجودا ، فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيرا للبيت ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتا ، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتا لكنه مجاز.

قوله تعالى : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

الطائفين : الدّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين.

والرّكع» ، جمع «راكع».

والعكوف لغة : اللزوم واللبث ؛ قال : [الوافر]

٧٨١ ـ ..........

عليه الطّير ترقبه عكوفا (١)

وقال : [الرجز]

٧٨٢ ـ عكف النّبيط يلعبون الفنزجا (٢)

__________________

(١) عجز بيت للمرار الأسدي وصواب إنشاده :

أنا ابن التارك البكريّ بشر

عليه الطّير ترقبه وقوعا

ينظر الكتاب : ١ / ١٨٢ ، الخزانة : ٢ / ١٩٣ ، شرح المفصل لابن يعيش : ٣ / ٧٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٥ ، وليس ثمة من رواه «عكوفا» كما رواه المؤلف إلا ما ذكره صاحب الدر المصون.

(٢) البيت للعجاج. ينظر ديوانه : ٢ / ٢٤ ، القرطبي : ٢ / ٧٨ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٦.


ويقال : عكف يعكف ويعكف ، بالفتح في الماضي ، والضم والكسر في المضارع ، وقد قرىء (١) بهما.

و «السّجود» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع ساجد نحو : قاعد وقعود ، وراقد ورقود ، وهو مناسب لما قبله.

والثاني : أنه مصدر نحو : الدخول والقعود ، فعلى هذا لا بد من حذف مضاف أي : ذوي السّجود ذكره أبو البقاء.

وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله : «الطائفين والعاكفين» لتباين ما بينهما ، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله : (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) ؛ لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة ، وهو نوع من الفصاحة ، وأخر صيغة «فعول» على «فعّل» ؛ لأنها فاصلة.

فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة

في هذه الأوصاف الثلاثة قولان :

أحدهما : أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة ؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف.

فالمراد بالطّائفين : من يقصد البيت حاجّا أو معتمرا ، فيطوف به ، والمراد بالعاكفين : من يقيم هناك ويجاور ، والمراد بالركع السجود : من يصلي هناك.

والثاني : قال عطاء : إنه إذا كان طائفا فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ العاكفون هم الذي يصلون عند الكعبة (٢).

خصّ الركوع والسجود بالذكر ؛ لأنها أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى.

فصل فيما تدل عليه الآية

هذه الآية تدل على أمور منها :

أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء ، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ؛ لأنه ـ تعالى ـ كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص.

__________________

(١) ستأتي في الأعراف آية ١٣٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٣) عن ابن عباس.


وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء : أن الطواف لأهل الأنصار أفضل ، والصلاة لأهل «مكة» أفضل.

ومنها جواز الاعتكاف في البيت.

ومنها جواز الصلاة في البيت فرضا أو نفلا إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها ، خلافا لمن منع جواز الصّلاة المفروضة في البيت.

فإن قيل : لا تسلم دلالة الآية على ذلك ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يقل : والركّع السجود في البيت ، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطّواف في جوف البيت ، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصّلاة إلى البيت متوجّهة إليه ، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت ، سواء كان ذلك في البيت ، أو خارجا عنها ، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوف بالبيت ، ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه ، والله ـ تعالى ـ إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه ، لقوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩].

وأيضا المراد لو كان التوجه إليه للصلاة ، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه ، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه.

فإن قيل : احتجّ المخالف بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّها إلى المسجد ، بل إلى جزء من أجزائه.

والجواب : أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجها إلى كلّ المسجد ، بل لا بد وأن يكون متوجها إلى جزء من أجزائه ، ومن كان داخل البيت فهو كذلك ، فوجب أن يكون داخلا تحت الآية.

فصل في تطهير جميع بيوت الله

ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة ، وإنما خص الكعبة بالذكر ؛ لأنه لم يكن هناك غيرها.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

قال القاضي رحمه‌الله تعالى : في هذه الآيات تقديم وتأخير ، لأن قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) لا يمكن إلّا بعد دخول البلد في الوجود ، والذي ذكره من بعد وهو قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [البقرة : ١٢٧] وإن كان متأخرا في التلاوة ، فهو متقدم في المعنى.


قوله تعالى : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) والجعل هنا يعني التّصيير ، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلدا» مفعول ثان ، والمعنى : اجعل هذا البلد ، أو هذا المكان ، و «آمنا» صفة أي ذا أمن نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أو آمنا من فيه نحو : ليله نائم. والبلد معروف ، وفي تسميته قولان :

أحدهما : أنه مأخوذ من البلد.

والبلد في الأصل : الصدر يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت ، أي : صدرها ، والبلد صدر القرى ، فسمي بذلك.

والثاني : أن البلد في الأصل الأثر ، ومنه : رجل بليد لتأثير الجهل فيه.

وقيل لبركة البعير : «بلدة» لتأثيرها في الأرض إذا برك ، ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧٨٣ ـ أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (١)

إنما قال في هذه السورة «بلدا آمنا» على التنكير.

وقال في سورة إبراهيم : (هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] على التعريف لوجهين :

الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ، ولم يكن المكان قد جعل بلدا ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم : ٣٧].

فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلدا ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمنا.

الثاني : أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا ، فقوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) تقديره : اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، كقولك : كان اليوم يوما حارّا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة ؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة ، فقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فليس فيه إلّا طلب الأمن لا طلب المبالغة ، والله أعلم.

فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم

قيل : المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان

__________________

(١) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ١٠٤ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٤١٨ ، ٤٢٠ ، والدرر : ٣ / ١٦٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٤٢ ، والكتاب : ٢ / ٣٣٢ ، ولسان العرب (بلد) ، (بغم) ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢١٨ ، ٣٩٤ ، ٢ / ٧٢٩ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٢ ، والمقتضب : ٤ / ٤٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٦.


«مكة» بالأمن والتّوسعة بما يجلب إلى «مكة» فلم يصل إليه جبّار إلا قصمه الله ـ عزوجل ـ كما فعل بأصحاب الفيل.

فصل في الرد على بعض الشّبهات

فإن قيل : أليس أن الحجّاج حارب ابن الزبير ، وخرب الكعبة ، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟

فالجواب (١) : لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها ، بل كان مقصوده شيئا آخر.

فإن قيل : ما الفائدة في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ قبل ذلك بقوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمنا ، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده أمنا ، فطلب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكون الأمن بجميع البلد.

وثانيها : أن يكون قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) بعد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فيكون إجابة لدعائه ، وعلى هذا فيكون مقدما في التلاوة مؤخرا في الحكم.

وثالثها : أن يكون المراد من الأمن المذكور في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً)(٢)

(لِلنَّاسِ وَأَمْناً) هو الأمن من الأعداء والخيف والخسف والمسخ ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القحط ، ولهذا قال : «وارزق أهله من الثّمرات».

فإن قيل : الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا ، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟

فجوابه من وجوه :

أحدها : أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين ، وإذا كان البلد أمنا مخصبا تفرغ أهلها لطاعة الله ـ تعالى ـ وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ جعله مثابة للناس ، والناس إنما يمكنهم الذّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة ، والأقوات هناك رخيصة.

__________________

(١) في أ : قلنا.


وثالثها : أن الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة ، فحينئذ يشاهد المشاعر العظيمة ، والمواقف الكريمة ، فيكون الأمن تتمّة في تلك الطاعة.

فصل في المراد بالأمن

اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل : الأمن من القحط ؛ لأنه أسكن ذرّيته بواد غير ذي زرع ولا ضرع.

وقيل : الأمن من الخسف والمسخ.

وقيل : الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي ، واحتج عليه بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سأله الأمن أولا ، ثم سأله الرّزق ثانيا.

ولو كان المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرّزق بعده تكرار ، وقد يجاب بأنه : لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ ، أو لعله الأمن من القحط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية ، وقد يكون بالتّوسعة فيها ، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن ، ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله ـ تعالى ـ جبريل ، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعا ، فسميت «الطائف» لذلك ، ثم أنزلها «تهامة» ، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيها ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها ، وأنبت فيها أنواع الثّمرات.

فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟

اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟

فقالوا : إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ٣ / ٣٨ كتاب جزاء الصيد باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم ١٨٣٣ ، ٣ / ١٢٧ ، كتاب البيوع باب في الصواغ حديث رقم ٢٠٩٠ ، ٥ / ٣٠٩ ، كتاب المغازي باب ٥٤ حديث رقم ٤٣١٣.

وابن ماجه في السنن حديث رقم ٣٠٠٩ ـ وأحمد في المسند ٤ / ٣٢ والبيهقي في السنن ٨ / ٧١ ـ والطبراني في الكبير ١١ / ٣٣٥.

والبخاري في التاريخ : ١ / ٤٥١ ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم ٩١٨٩ ، ٢١٩٢ ـ وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٦ / ١٦٠ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٤٦٥٢ ، ٣٤٦٧٧.


قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك ، ثم إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكّده بهذا الدعاء.

وقيل : إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقبله كانت كسائر البلد ، والدليل عليه قوله عليه‌السلام : «اللهمّ إنّي حرّمت المدينة كمّا حرّم إبراهيم مكّة» (١).

وقيل : كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة.

قوله : (مَنْ آمَنَ) بدل بعض من كلّ ، [وهو «أهله»] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه ، و «من» في «من الثّمرات» للتبعيض.

وقيل : للبيان ، وليس بشيء ، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها.

فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدّعاء

إنما خصّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجهين :

الأول : أنه لما سأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل الإمامة في ذرّيته ، قال الله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] فصار ذلك [تأديبا](٢) في المسألة ، فلما ميّز الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة ، لا جرم خصّص المؤمنين بهذا الدّعاء دون الكافرين.

الثاني : يحتمل أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار ، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحجّ ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) يجوز في «من» ثلاثة أوجه.

أحدها : أن تكون موصولة ، وفي محلّها وجهان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره ، قال الله : وأرزق من كفر ، ويكون «فأمتعه» معطوفا على هذا الفعل المقدر.

والثاني [من الوجهين] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، و «فأمتعه» الخبر ، دخلت الفاء في الخبر تشبيها له بالشرط.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن (٥ / ٢٠١) بلفظه وابن أبي شيبة (١٤ / ٢٠٠).

وذكره المنذري في الترغيب ٢ / ٢٢٥.

والهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٨١٥١).

(٢) في أ : كالتأديب له.


وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا ، والرد عليه.

الثّاني من الثلاثة الأوجه : أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء ، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع.

الثالث : أن تكون شرطية ، ومحلّها الرفع على الابتداء فقط ، و «فأمتّعه» جواب الشرط.

ولا يجوز في «من» في جميع وجوهها أن تكون منصوبة على الاشتغال.

أما إذا كانت شرطا فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء ، وفعل الشرط هنا غير ناصب لضميرها بل رافعه.

وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو «فأمتعه» شبيه بالجزاء ، ولذلك دخلته الفاء ، فكما أن الجزاء لا يفسر عاملا فما أشبهه أولى بذلك ، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر.

وقال أبو البقاء (١) : لا يجوز أن تكون «من» مبتدأ ، و «فأمتعه» الخبر ؛ لأن «الذي» لا تدخل «الفاء» في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقّا بالصلة نحو : الذي يأتيني فله درهم ، والكفر لا يستحقّ به التمتع.

فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو جعلت الخبر محذوفا ، و «فأمتعه» دليلا عليه جاز تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه.

ويجوز أن تكون «من» شرطية ، والفاء جوابها.

وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن كفر أرزق ، و «من» على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل فعل الشرط انتهى.

أما قوله : «لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع» فليس بمسلّم ، بل التمتّع القليل والمصير إلى النار مستحقّان بالكفر.

وأيضا فإن التمتّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّا بالكفر ، ولكن قد عطف عليه ما هو مستحقّ به ، وهو المصير إلى النار ، فناسب ذلك أن يقعا جميعا خبرا.

وأيضا فقد ناقض كلامه ؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية ، وهل الجزاء إلّا مستحق بالشرط ، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به.

وأما تجويزه زيادة الفاء ، وحذف الخبر ، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها.

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٦٢.


وقرىء : «أمتعه» مخفّفا من أمتع يمتع ، وهي قراءة (١) ابن عامر رضي الله عنه ، و «فأمتعه» بسكون العين ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه تخفيف كقوله : [السريع]

٧٨٤ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

 .......... (٢)

والثاني : أن «الفاء» زائدة وهو جواب الشرط ؛ فلذلك جزم بالسكون ، وقرأ ابن عباس (٣) رضي الله عنهما ومجاهد «فأمتعه ثمّ اضطرّه» على صيغة الأمر فيهما ، ووجهها أن يكون الضمير في «قال» لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و «من» على هذه القراءة يجوز أن تكون مبتدأ ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية ، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخرا عنها ؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.

وقال الزمخشري : (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (مَنْ آمَنَ) كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في «جاعلك» قال أبو حيان (٤) : أما عطف (مَنْ كَفَرَ) على (مَنْ آمَنَ) فلا يصح ؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام ؛ لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وارزق من كفر ؛ لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل.

«من آمن» العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في (وَمَنْ كَفَرَ) ، وإذا قدرته أمرا تنافى مع قوله : (فَأُمَتِّعُهُ ؛) لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع ، وإلجائهم إليه ـ تعالى ـ وأن كلّا من الفعلين تضمّن ضميرا ، وذلك لا يجوز إلّا على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي : قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلا ثم أضطره ، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على «من» كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في «جاعلك».

فقال : فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟

فالجواب : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم ، وأما الرزق فربما يكون استدراجا.

والمعنى : قال : (وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ)» فظاهر قوله «والمعنى قال» أن الضمير في «قال» لله تعالى ، وأن (مَنْ كَفَرَ) منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم.

__________________

(١) انظر السبعة : ١٧٠ ، والكشف : ١ / ٢٦٥ ، وحجة القراءات : ١١٤ ، والحجة : ٢ / ٢٢١ ، وإتحاف : ١ / ٤١٧ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٧.

(٢) تقدم برقم ٤٩٧.

(٣) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٧.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٦.


و «قليلا» نعت لمصدر محذوف أو زمان ، وقد تقدم له نظائر واختيار سيبويه فيه.

وقرأ الجمهور : «أضطرّه» خبرا.

وقرأ يحيى (١) بن وثاب بكسر الهمزة ، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال : إخال.

وقرأ ابن (٢) محيصن «أطّرّه» بإدغام الضاد في الطاء ، [نحو] : اطّجع في اضطجع وهي مرذولة ؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف : ضغم شقر ، نحو : اطجع في اضطجع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر ؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الدّاني اللام في (يَغْفِرْ لَكُمْ) [نوح : ٣١] والضاد في الشين : (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) [النور : ٦٢] والشين في السين : (الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢].

وأدغم الكسائي الفاء في الباء : (نَخْسِفْ بِهِمُ) [سبأ : ٩].

وحكى سيبويه رحمه‌الله تعالى أن «مضجعا» أكثر ، فدلّ على أن «مطّجعا» كثير.

وقرأ يزيد بن أبي حبيب (٣) : «أضطرّه» بضم الطاء كأنه للإتباع.

وقرأ أبي (٤) : «فنمتّعه ثمّ نضطرّه» بالنون.

واضطر افتعل من الضّرّ ، وأصله : اضترّ ، فأبدلت التاء طاء ؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدّ ، وعليه جاء التنزيل ؛ وقال : [البسيط]

٧٨٥ ـ إضطرّك الحرز من سلمى إلى أجإ

 .......... (٥)

والاضطرار : الإلجاء والإلزاز (٦) إلى الأمر المكروه.

قوله : «أمتعه» قيل : بالرزق.

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، وفيه أنها لابن عامر ، وانظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٢) وقرأ بها ابن محيصن.

انظر إتحاف : ١ / ٤١٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٣) يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري أبو رجاء ولد ٥٣ ه‍.

مفتي أهل مصر في صدر الإسلام ، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها قال الليث : يزيد عالمنا وسيدنا ، وكان حجة حافظا للحديث. توفي في ١٢٨ ه‍.

ينظر تذكرة : ١ / ١٢١ ، تهذيب : ١١ / ٣١٨ ، تاريخ الإسلام للذهبي : ٥ / ١٨٤ ، الأعلام : ٨ / ١٨٣.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٤ ، اللسان (أجأ) ، الدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٦) في أ : والإلزام.


وقيل : بالبقاء في الدنيا.

وقيل : بهما إلى خروج محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن قام على الكفر ، [وقيد المتاع بالقلّة](١) ؛ لأن متاع الدنيا قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد.

وفي الاضطرار قولان :

أحدهما : أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه ، كما قال الله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] و (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] يقال اضطررته إلى الأمر أي : ألجأته [وحملته عليه](٢) وقالوا : إن أصله من الضّر ؛ وهو إدناء الشيء ، ومنه ضرة المرأة لدنوّها.

الثاني : أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختيارا ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة : ١٧٣] فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة ، إن كان ذلك الأكل فعله ، فيكون المعنى : أن الله ـ تعالى ـ يلجئه إلى أن يختار النار ، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير ؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور ، وبئس المصير ضده.

قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المصير فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : النار ومصير : مفعل من صار يصير ، وهو صالح للزمان والمكان.

وأما المصدر فقياسه الفتح ؛ لأن ما كسر عين مضارعه ، فقياس ظرفيه الكسر ومصدره الفتح ، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب.

أحدها : أنه كالصحيح [وقد تقدم](٣).

والثاني : أنه مخير فيه.

والثالث : أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى ، فإن كان «المصير» في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقا ، والتقدير : وبئس المصير النّار كما تقدم ، وإن كان مصدرا على رأي من أجازه فالتقدير : وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النّار.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٢٨)

«إذ» عطف على «إذ» قبلها ، فالكلام فيهما واحد.

و «يرفع» في معنى رفع ماضيا ؛ لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي.

__________________

(١) في أ : وقبل المتاع فأثقله.

(٢) في أ : فألجأته إليه.

(٣) سقط في ب.


وقال الزمخشري : «هي حكاية حال ماضية» قال أبو حيان : وفيه نظر.

و «القواعد» جمع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوق ، وهي صفة غالبة ، ومعناها الثابتة ، ومنه «قعّدك الله» أي : أسأل الله تثبيتك ، ومعنى رفعها البناء عليها ؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع.

وأما القواعد من النّساء فمفردها «قاعد» من غير تاء ؛ لأن المذكر لا حظّ له فيها إذ هي من : قعدت عن الزوج.

ولم يقل «قواعد البيت» ، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين.

[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد

الأكثرون على أن البيت كان موجودا قبل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكا له في رفع القواعد؟

فالأكثرون على أنه كان شريكا له ؛ للعطف عليه.

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر.

فقالا : إلى من تكلنا؟

قال : إلى الله تعالى ، فعطش إسماعيل ولم ير الماء ، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعك ، فضربها بأصبعه ، فنبع زمزم. وهذا ضعيف ؛ وذلك لقوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وهذا يوجب صرفه إلى المذكور السابق : وهو رفع القواعد](١).

فصل في الكلام على رفع القواعد

يروى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرّد أخضر ، وأنزل الله الحجر ، وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، وأمر الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يحج إليه ، ويطوف به.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من «الهند» إلى «مكة» ماشيا ، وكان ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله ـ تعالى ـ إلى السماء الرابعة ، وبعث جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم أمر الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ما ولد إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ

__________________

(١) سقط في ب.


ببناء البيت ، فسأل الله ـ تعالى ـ أن يبين له موضعه ، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت ، فتبعها حتى أتيا «مكة» ، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث الله سحابة على قدر الكعبة ، وذهب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في ظلها إلى أن وافت «مكة» فوقعت على موضع البيت ، فنودي منها يا إبراهيم ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص.

[وقيل : أرسل الله جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : بني البيت من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان جبال بالشام ، والجودي : جبل بالجزيرة (١) وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة ، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود ، فوضعه مكانه.

وقيل : إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء ، وسمي «صراح» ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة «الحج» إن شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم](٢).

قوله : (مِنَ الْبَيْتِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «يرفع» ومعناها ابتداء الغاية.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من «القواعد» ، فيتعلّق بمحذوف تقديره : كائنة في البيت ، ويكون معنى «من» التبعيض [روى ابن كثير (٣) ـ رحمه‌الله ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، «أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض ، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ؛ ليخرج بها أحدهما ، فتحركا تحرك الرجل ، فانتفضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس».

وقيل : أبصر القوم برقة ، كادت تخطف بصر الرجل فبرأ الرجل من يده ، فوقع في موضعه ، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم](٤).

قوله : (وَإِسْماعِيلُ) فيه قولان :

أحدهما : وهو الظاهر ـ أنه عطف على «إبراهيم» ، فيكون فاعلا مشاركا له في الرفع ، ويكون قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) في محلّ نصب بإضمار القول ، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما ، أي : يرفعان يقولان : ربنا تقبل ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله

__________________

(١) قال ابن كثير : وهو غريب. ينظر تفسيره : ١ / ١٧٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير ابن كثير : ١ / ١٨١.

(٤) سقط في ب.


بإظهار فعل القول ، قرأ : «يقولان : ربّنا تقبّل» أي ؛ قائلين ذلك ، ويجوز ألا يكون هذا القول حالا ، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها ، ويكون هو العامل في «إذ» قبله ، والتقدير : يقولان : ربنا تقبل إذ يرفعان ، أي : وقت رفعهما.

والثّاني : الواو [واو الحال](١) ، و «إسماعيل» مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ) فيكون إبراهيم هو الرّافع ، وإسماعيل هو الدّاعي فقط ، قالوا : لأن إسماعيل كان حينئذ طفلا صغيرا ، ورووه عن علي ـ رضي الله عنه ـ والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول : ربنا تقبّل منّا.

وفي المجيء بلفظ «الرب» جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح.

و «تقبّل» بمعنى «اقبل» ، ف «تفعّل» هنا بمعنى المجرد.

وتقدم الكلام على نحو (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) من كون «أنت» يجوز فيه التأكيد والابتداء والفصل. وتقدمت صفة السّمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ) [آل عمران : ١٠٦] وتأخرت صفة العلم ؛ لأنها فاصلة ، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها.

[فإن قيل : قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يفيد الحصر ، وليس الأمر كذلك ، فإن غيره قد يكون سميعا.

فالجواب أنه تعالى لكماله في هذه الصفة كأنه هو المختص بها دون غيره](٢).

قوله : (مُسْلِمَيْنِ) مفعول ثان للجعل ؛ لأنه بمعنى [التصيير ، والمفعول الأول هو](٣) «نا».

وقرأ (٤) ابن عباس «مسلمين» بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان :

أحدهما : أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع ، وبه استدل من يجعل التثنية جمعا.

والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلهما ك «هاجر».

قوله : (لَكَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «مسلمين» لأنه بمعنى نخلص لك أوجهنا نحو : «أسلمت وجهي لله» فيكون المفعول محذوفا لفهم المعنى.

__________________

(١) في أ : للحال.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : كالقصير ، والقول الأول ثبوتا.

(٤) وقرأ بها عوف الأعرابي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١١ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٠.


والثاني : أنه نعت لمسلمين أي : مسلمين مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.

فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال

استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة ، وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلّا خلق ذلك فيهما ، فإن [الجعل](١) عبارة عن الخلق.

قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.

فإن قيل : هذه الآية الكريمة متروكة الظاهر ؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السّؤال [كانا](٢) غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلبا لتحصيل الحاصل ، وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ؛ ولأن صدور هذا الدّعاء منهما لا يصلح إلّا بعد أن كانا مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معان أخر سوى الخلق :

أحدها : «جعل» بمعنى «صيّر» ، قال [الله] تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧].

وثانيها : «جعل» بمعنى «وهب» ، تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.

وثالثها : [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩].

وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠].

ورابعها : «جعل» كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) [السجدة: ٢٤] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] فهو الأمر.

وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتبا [وشاعرا](٣) إذا علمته ذلك.

__________________

(١) في ب : الجهل.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : كذلك بالتعليم ؛ كقولك : جعلته كاتبا وفقيها.


وسادسها : البيان والدّلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلا إذا أوردت [من الحجة](١) ما يبين بطلان ذلك. إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام ، والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصّا ، وجعلني فاضلا أديبا إذا وصفه بذلك سلّمنا أن المراد من الجعل الخلق ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام ، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها ، فقد جعله الله مسلما له ، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديبا ، فيجوز أن يقال : صيّرتك أديبا ، وجعلتك أديبا ، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصّا محتالا.

سلمنا أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه ـ تعالى ـ خالقا للإسلام ، لكنه على خلاف الدّلائل العقلية ، فوجب ترك القول به.

وإنما قلنا [إنه](٢) على خلاف الدّلائل العقلية ؛ لأنه لو كان فعل العبد خلقا لله ـ تعالى ـ لما استحق العبد به مدحا ولا ذمّا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، ولوجب أن يكون الله ـ تعالى ـ هو المسلم المطيع لا العبد.

والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر.

[قلنا](٣) : لا نسلّم وبيانه من وجوه :

الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب ، وأنه لا يبقى زمانين فقوله : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : اخلق هذا العرض ، فينافي الزمان المستقبل دائما ، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.

الثاني : أن يكون المراد منه الزّيادة في الإسلام كقوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ويؤيد هذا قوله تعالى (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق ، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.

الثالث : أن «الإسلام» إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف «اللام» كقوله : (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرّضا بكل ما قدر [وترك المنازعة في أحكام الله ـ تعالى ـ وأقضيته ، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية ، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال](٤) فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.

قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة

__________________

(١) في أ : حجة.

(٢) في أ : إن الآية الكريمة.

(٣) في أ : فالجواب.

(٤) سقط في أ.


له فلا فائدة في الصفة ، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف ، وجب حمله على تحصيل الصفة ، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح ، وهو مرغوب له فيه.

قلنا : نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به ، فكان حمله على الأول أولى.

وأيضا أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله ـ تعالى ـ لا يجوز عليه الكذب ، فكان ذلك الوصف حاصلا ، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.

وأيضا أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلما جاز أن يقال : جعله مسلما.

أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف.

فالجواب : هذا مدفوع من وجوه :

أحدها : أن لفظ الجعل مضاف إلى «الإسلام» ، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.

وثانيها : أن تلك الألطاف قد فعلها الله ـ تعالى ـ وأوجدها ، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة ، فطلبها يكون طلبا لتحصيل الحاصل ، وإنه غير جائز.

وثالثها : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا.

فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفا.

وإن كان لها أثر في الترجيح ، فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ، وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح ، إما أن يجب الفعل ، أو يمتنع ، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.

فإن وجب فهو المطلوب.

وإن امتنع فهو مانع لا مرجح ، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع : إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلا ، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.

وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال ، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.

قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله ـ تعالى ـ وهو فصل المدح والذم.

قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.


قال القرطبي : سألاه التثبت والدوام و «الإسلام» في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، وكفى هذا دليلا لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد ، ويؤيده قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ، ٣٦] والله أعلم.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) فيه قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أن «من ذرّيتنا» صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول ، و «أمة مسلمة» مفعول ثان تقديره : واجعل فريقا من ذرّيتنا أمة مسلمة.

وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها للتبعيض.

والثاني ـ أجازه الزمخشري ـ أن تكون للتبيين ، قال تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [النور : ٥٥].

الثالث : أن تكون لابتداء غاية الجعل ، قاله أبو البقاء.

والثاني من القولين : أن يكون «أمة» هو المفعول الأول ، و «من ذرّيتنا» حال منها ؛ لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالا ، و «مسلمة» هو المفعول الثاني ، والأصل : واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة ، ف «الواو» داخلة في الأصل على «أمة» ، وإنما فصل بينهما بقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) وهو جائز ؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف ، وفي إجازته ذلك نظر ، فإن النحويين كأبي عليّ وغيره منعوا الفصل بالظّرف [بين حرف العطف](١) إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله : [المنسرح]

٧٨٦ ـ يوما تراها كشبه أردية ال

عصب ويوما أديمها نغلا (٢)

ضرورة ، فالفصل في الحال أبعد ، وصار ما أجازه نظير قولك : «ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد» وهذا غير فصيح ، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلق وأوجد ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق «من ذرّيتنا» به ، ويكون «أمة» مفعولا به ، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه «اخلق» إنما معناه «صيّر».

وإن كان من عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوق ، والمنطوق ليس بمعنى الخلق ، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ص ٢٨٣ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٢٤ ، ولسان العرب (خمس) ، (نغل) ، (أدم) ، الخصائص : ٢ / ٣٩٥ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٣٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٠.


وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣] أن يكون التقدير : وملائكته يصلون لاختلاف مدلول الصّلاتين ، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما ، وقوله : «لك» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلمين».

فصل

إنما خص بعضهم ؛ لأنه ـ تعالى ـ أعلمهما [أن](١) في ذريتهما الظالم بقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وقيل : أراد به العرب ؛ لأنهم من ذريتهما.

وقيل : هم أمّة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لقوله تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩].

فإن قيل : قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) كما يدلّ على أن في ذريّته من يكون ظالما فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالما](٢) ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوما بتلك الآية ، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟

فالجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة ، والشفيق بسوء الظن مولع.

فإن قيل : لم خص ذريتهما بالدعاء (٣) أليس أن هذا يجرى مجرى البخل في الدعاء؟

فالجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.

والأمة هنا : الجماعة ، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠]. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي دين وملة](٤). ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢].

وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] أي : بعد حين وزمان.

ويقال هذه أمة زيد ، أي أمّ زيد ، والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمّة ، أي : حسن القامة ؛ قال : [المتقارب]

٧٨٧ ـ وإنّ معاوية الأكرمي

ن حسان الوجوه طوال الأمم (٥)

__________________

(١) في ب : وأما.

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في أ : مرة أخرى.

(٤) سقط في ب.

(٥) البيت للأعشى. ينظر ديوانه : (٩١) ، القرطبي : ٢ / ١٨٧ ، اللسان (أمم).


وقيل : الأمة الشّجّة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم نقله القرطبي.

قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية ، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها مفعولا ثانيا ، ف «نا» مفعول أول ، و «مناسكنا» مفعول ثان.

وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من «رأى» بمعنى عرف ، فتتعدى أيضا لاثنين كما تقدم ، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية ، والقلبية تقبل [النّقل](١) لاثنين كقول القائل : [الطويل]

٧٨٨ ـ وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول (٢)

وقال الكميت : [الطويل]

٧٨٩ ـ بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (٣)

وقال ابن عطية : ويلزم قائله أن يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثة ، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى ؛ وأنشد قول حطائط بن يعفر : [الطويل]

٧٩٠ ـ أريني جوادا مات هزلا لأننّي

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا (٤)

يعني : أنه قد تعدت «علم» القلبية إلى اثنين ، سواء كانت مجردة من الهمزة أم لا ، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه «فعل وأفعل» بمعنى وهو غريب ، ولكن جعله بيت حطائط من رؤية القلب ممنوع ، بل معناه من رؤية البصر ، ألا ترى أن قوله : «جوادا مات» من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات تعدي «أعلم» القلبية إلى اثنين إلى دليل.

__________________

(١) في أ : الفعل يتعدى.

(٢) البيت للسموأل. ينظر الحماسة : ١ / ٨٠ ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٠ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١ / ١١٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٧١.

(٣) ينظر خزانة الأدب : ٩ / ١٣٧ ، والدرر : ١ / ٢٧٢ ، ٢ / ٢٥٣ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٥٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٩٢ ، والمحتسب : ١ / ١٨٣ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٤١٣ ، ٣ / ١١٢ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٦٩ ، وشرح الأشموني : ص ١٦٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٢٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٧١.

(٤) البيت قيل لحاتم الطائي أو لحطائط بن يعفر أو لدريد أو لمعن بن أوس. ينظر ديوان حاتم الطائي : ص ٢١٨ ، خزانة الأدب : ١ / ٤٠٦ ، سمط اللآلي : ص ٧١٤ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٧٣٣ ، شرح المفصل : ٨ / ٧٨ ، الشعر والشعراء : ١ / ٢٥٤ ، شرح التصريح : ١ / ١١١ ، المقاصد النحوية : ١ / ٣٦٩ ، لسان العرب (علل) ، (أنن) ، ديوان معن : ص ٣٩ ، أوضح المسالك : ١ / ١١٢ ، تخليص الشواهد : ص ١٠٥ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٣٦ ، الطبري : ٣ / ٧٨ ، مجاز القرآن : ١ / ٥٥ ، عيون الأخبار : ٣ / ١٨١ ، أمالي القالي : ٢ / ٧٩ ، القرطبي : ٢ / ٨٧ ، الحجة : ٢ / ١٧٣ ، مجمع البيان : ١ / ٤٧٤ ، البحر : ١ / ٥٦١ ، الدر المصون : ١ / ٣٧١.


وقال بعضهم : هي هنا بصرية قلبية معا ؛ لأن الحج لا يتم إلّا بأمور منها ما هو معلوم ومنها ما هو مبصر.

ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو استعمال المشترك في معنييه معا.

وقرأ الجمهور : (أَرِنا) بإشباع كسر «الراء» هنا ، وفي [النساء : ١٥٣] وفي [الأعراف : ١٤٣] (أَرِنِي أَنْظُرْ ،) وفي [فصلت : ٢٩] (أَرِنَا الَّذَيْنِ).

وقرأ ابن كثير (١) بالإسكان في الجميع ، ووافقه في «فصلت» ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، واختلف عن أبي عمرو ، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميع ، وروى عنه الدّوري اختلاس الكسر فيها.

أما الكسر فهو الأصل.

وأما الاختلاس فحسن مشهور.

وأما الإسكان فللتخفيف ، شبهوا المتصل بالمنفصل فسكنوا كسره ، كما قالوا في فخذ : فخذ ، وكتف : كتف.

وقد غلط قوم راوي هذه القراءة.

وقالوا : صار كسر الراء دليلا على الهمزة المحذوفة ، فإن أصله : «أرئنا» ثم نقل.

قال الزمخشري تابعا لغيره : قال الفارسي : التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة ، وأما كسرة الراء فصارت كالأصل ؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال.

وقال أيضا : ألا تراهم أدغموا في (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] ، والأصل : «لكن أنا» نقلوا الحركة ، وحذفوا ، ثم أدغموا ، فذهاب الحركة في «أرنا» ليس بدون ذهابها في الإدغام ، وأيضا فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّا عن العرب ؛ قال القائل : [البسيط]

٧٩١ ـ أرنا إداوة عبد الله نملؤها

من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئوا (٢)

وأصل أرنا : أرئنا ، فنقلت حركة «الهمزة» إلى «الراء» وحذفت هي ، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

و «المناسك» واحدها : «منسك» بفتح العين وكسرها ، وقد قرىء بهما (٣) والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعه.

__________________

(١) انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٢٣ ، وحجة القراءات : ١١٤ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٩ ـ ٧١ ، وشرح شعلة : ٢٧٧ ، وإتحاف : ١ / ٤١٨.

(٢) ينظر البحر : ١ / ٥٦١ ، القرطبي : ٢ / ٨٧ ، روح المعاني : ١ / ٣٨٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٢.

(٣) ستأتي في الحج ٣٤.


ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب.

قال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) [الحج : ٣٤] قرىء بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل ، وكذلك قوله عليه‌السلام «خذوا عنّي مناسككم» (١) أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ ، لا أنه أراد : خذوا عنّي مواضع نسككم ، وبعض المفسرين حمل المناسك على الذبيحة فقط.

قال ابن الخطيب : وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبّد ، [لا لكونها مذبوحة](٢) ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك.

قال القرطبي : [قوله تعالى : (مَناسِكَنا) يقال](٣) : إن أصل النّسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله.

وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا.

فصل في تسمية عرفات

وقال الحسن : إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ «عرفات» ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من المناسك؟ قال : نعم [فسميت «عرفات»](٤) فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل ـ عليه‌السلام ـ بأن يرميه بسبع حصيات ، ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل ـ عليه‌السلام ـ برمي سبع حصيات (٥)

فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر](٦) الحج ، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف.

وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج ، مثل «منى» و «عرفات» و «المزدلفة» ونحوها.

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره ٤ / ٥٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فسمي الوقت : عرفة ، والموضع : عرفات.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٣٦ عن جابر بن عبد الله ولفظه : (ألا فخذوا عني مناسككم) والبيهقي في السنن ٥ / ١٢٥ بلفظه وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٢ / ٦٩ ، ٩١ ، ٩٨ ، ٤ / ٣٣٣ ، ٥ / ١١٧ ، ٧ / ٢٧٢. وابن حجر في فتح الباري : ١ / ٢١٧ ، ٤٩٩ ـ والزيلعي في نصب الراية : ٣ / ٥٥ ـ وابن كثير في البداية والنهاية : ٥ / ١٨٤ ، ٢١٥.

(٦) في ب : شرائع.


وبعضهم حمله على المجموع.

فصل في استلام الأركان

قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه‌السلام.

وقال : حج إسحاق وسارة من «الشّام» ، وكان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يحجه كل سنة على البراق ، وحجّه بعد ذلك الأنبياء والأمم.

وروى محمد بن سابط عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «كان النّبيّ من الأنبياء إذا هلكت أمّته لحق مكّة فتعبّد بها هو ومن آمن معه حتّى يموتوا ، فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر» (١).

وذكر ابن وهب أن شعيبا مات ب «مكة» هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربيّ «مكة» بين دار الندوة وبين بني سهم.

وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما‌السلام ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.

وقال عبد الله بن ضمرة السلولي : ما بين الرّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين.

قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا) احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال : لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، فلو لا تقدم الذنب ، وإلّا لكان طلب التوبة طلبا للمحال.

قالت المعتزلة : الصغيرة تجوز على الأنبياء.

ولقائل أن يقول : إن الصّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها ، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال ؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.

قال ابن الخطيب : وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة ، ولمن لم يجوزها ، وهي من وجوه:

أولها : يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدّدا في الانصراف عن المعصية ؛ لأن من تصور نفسه بصورة النّادم العازم على التحرز الشديد ، كان أقرب إلى ترك المعاصي.

وثانيها : أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفكّ عن التّقصير من بعض الوجوه : إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى ، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.

__________________

(١) ذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٣٠. والسيوطي في الدر المنثور ١ / ١٣٦ ، وعزاه للجندي من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن سابط عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ به.


وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما أعلم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أن في ذريته من يكون ظالما عاصيا ، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة للتوبة فقال : (وَتُبْ عَلَيْنا) أي على المذنبين من ذرّيتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده ، فاعتذر الوالد عنه ، فقد يقول : أجرمت وعصيت فاقبل عذري ، ويكون مراده : أن ولدي أذنب فاقبل عذره ؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه :

الأول : ما حكى الله ـ تعالى ـ في سورة «إبراهيم» أنه قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦].

فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.

الثاني : ذكر أن في قراءة عبد الله : «وأرهم مناسكهم وتب عليهم».

الثالث : أنه قال عطفا على هذا : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩].

الرابع : تأولوا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : (أَرِنا مَناسِكَنا) أي «ذرّيتنا».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال : إنهما لما قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام ؛ لأنهما كان لهما ذنب.

قال القرطبي : وهذا حسن ، وأحسن منه أن يقال : إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس ، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصّل من الذنوب وطلب التوبة.

فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى

دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق لله ـ تعالى ـ لأنه عليه الصلاة والسلام طلب من الله ـ تعالى ـ أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله ـ تعالى ـ [محالا وجهلا.

قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله ـ تعالى ـ](١) طلب التوبة منا. [فقال](٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً يا أَيُّهَا) .. (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ولو كانت فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا وجهلا ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : (وَتُبْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : قالت المعتزلة : وقد قال الله.


عَلَيْنا) على التوفيق ، وفعل الألطاف ، أو على قبول التوبة من العبد.

والجواب : [قال ابن الخطيب](١) متى لم يخلق الله ـ تعالى ـ داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة ، فكانت التوبة من الله ـ تعالى ـ لا من العبد ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة.

فصل في معنى التوبة

اعلم أن التوبة هي الرجوع ، فمعنى توبة الله ـ تعالى ـ أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم ، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المعاصي ، فمتعلّق التوبة مختلف ، وإذا اختلفت التعلّقات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة.

فصل في الدعاء

قال بعضهم : إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه ، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء ، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة ، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه ، وإن كان دعاؤه لشر ، فليدع بالعزيز والمنتقم ، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

في ضمير «فيهم» قولان :

أحدهما : أنه عائد على معنى الأمة ؛ إذ لو عاد على لفظها لقال : «فيها» قاله أبو البقاء.

والثاني : أنه يعود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل : يعود على أهل «مكة» ، ويؤيده : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] ، وفي قراءة أبي : «وابعث فيهم في آخرهم رسولا منهم».

قوله : (مِنْهُمْ) في محلّ نصب ، لأنه صفة ل «رسولا» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : رسولا كائنا منهم (٢).

قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله من قولهم : ناقة مرسال ورسلة ، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النّوق.

ويقال للجماعة المهملة المرسلة : رسل ، وجمعه أرسال. ويقال : جاء القوم أرسالا ، أي بعضهم في أثر بعض ، ومنه يقال للبن : رسل ، لأنه يرسل من الضرع. نقله القرطبي رحمه‌الله تعالى.

قوله : «يتلو» في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه :

__________________

(١) في أ : أنه.

(٢) في أ : كائنا منهم أي : مرسلا ، وهي مفعول الرسالة.


أحدها : أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل «رسولا» ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن ، إذ تقدم ما هو شبيه بالمفرد ، وهو المجرور على الجملة.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من «رسولا» ؛ لأنه لما وصف تخصص.

الثالث : أنها حال من الضمير في «منهم» ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «منهم» لوقوعه صفة.

وتقدم قوله : (الْعَزِيزُ ؛) لأنها صفة ذات ، وتأخر (الْحَكِيمُ ؛) لأنها صفة فعل.

ويقال : عزّ يعزّ ، ويعزّ ، ويعزّ ، ولكن باختلاف معنى ، فالمضموم بمعنى «غلب» ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣].

والمفتوح بمعنى [الشدة ، ومنه : عزّ لحم الناقة ، أي : اشتد ، وعزّ عليّ هذا الأمر ، والمكسور بمعنى](١) النّفاسة وقلّة النظير.

فصل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم

اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين :

أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع.

والثاني : أن يكون المبعوث منهم لا من غيرهم ، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته ، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها ، وإذا كان منهم ، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه ، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه ، وأمانته ، وكان أحرص الناس على خيرهم ، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.

أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى» (٢).

وأراد بالدعوة هذه الآية ، وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكره في سورة «الصف» من قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦].

وثالثها : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إنما دعا بهذا الدعاء ب «مكة» لذريته الذين يكونون بها ، وبما حولها ، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب «مكة» وما حولها إلّا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ من بني

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١ / ٦٩). وابن سعد في الطبقات (١ / ١ / ٩٦) ـ وابن عساكر : ١ / ٣٩. والطبري في التفسير (١ / ٤٣٥) ـ وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٣١ ـ والسيوطي في الدر المنثور : ١ / ١٣٩ ، ٥ / ٢٠٧ ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣١٨٣٣ ، ٣١٨٣٤ ، ٣١٨٣٥ ، ٣١٨٨٩.


إسرائيل إلا عشرة : هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) فيه وجهان :

الأول : أنها الفرقان الذي أنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك ، فوجب حمله عليه.

الثاني : يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدّالة على وجود الصّانع وصفاته سبحانه وتعالى ، ومعنى تلاوته إيّاها عليهم : أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها.

قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي : القرآن يعلمهم ما فيه من الدّلائل والأحكام.

وأما الحكمة فهي : الإصابة في القول والعمل.

وقيل : أصلها من أحكمت الشيء أي رددته ، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل.

اختلف المفسرون [في المراد بالحكمة](١) هاهنا.

قال ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له.

وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو قول قتادة.

قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه : والدليل عليه أنه ـ تعالى ـ ذكر تلاوة الكتاب أولا ، وتعليمه ثانيا ، ثم عطف عليه الحكمة ، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب ، وليس ذلك إلّا سنّة الرسول عليه‌السلام.

فإن قيل : لم لا يجوز حمله على تعليم الدّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟

فالجواب : لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى.

وقيل : الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل.

وقال مقاتل : هي مواعظ القرآن الكريم ، وما فيه من الأحكام.

وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل به.

وقيل : حكمة تلك الشرائع ، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.

وقيل : أراد بالكتاب الآيات المحكمة ، وأراد بالحكمة المتشابهات. [وقال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة](٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.


وأما قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ).

قال الحسن : يطهّرهم من شركهم (١).

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التزكية هي الطاعة والإخلاص (٢).

وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود.

وقيل : يأخذ زكاة أموالهم. ولما ذكر هذه الدعوات ، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

و «العزيز» : هو القادر الذي لا يغلب ، و «الحكيم» : هو العليم الذي لا يجهل شيئا.

[واعلم أن «العزيز» و «الحكيم» بهذين التفسيرين صفة للذات ، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه ، وأراد بالحكمة : أفعال الحكمة ، لم يكن «العزيز» و «الحكيم» من صفات الذات ، بل من صفات الفعل ، والفرق بين هذين النوعين : أن صفات الذات أزلية ، وصفات الفعل ليست كذلك ، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل ، وصفات الذات ليست كذلك.

فصل](٣)

[و](٤) قال الكلبي : العزيز المنتقم لقوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [آل عمران :٤].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : العزيز الذي لا يوجد مثله.

وقيل : المنيع الذي لا تناله الأيدي ، ولا يصل إليه شيء.

وقيل : القوي.

والعزّة القوة ، لقوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] أي قوينا.

وقيل : الغالب ، لقوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣] أي غلبني ، ويقال : من عزيز أي من غلب.

واعلم أن مناسبة قوله : (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر ، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها ، ومن كان عالما قادرا فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٨٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٨٨) عن ابن عباس.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.


(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

«من» اسم استفهام بمعنى الإنكار ، فهو نفي في المعنى ، لذلك جاءت بعده «إلّا» التي للإيجاب ، ومحلّه رفع بالابتداء.

و «يرغب» خبره ، وفيه ضمير يعود عليه.

والرغبة أصلها الطلب ، فإن تعدت ب «في» كانت بمعنى الإيثار له ، والاختيار نحو : رغبت في كذا ، وإن تعدت ب «عن» كانت بمعنى الزّهادة نحو : رغبت عنك.

قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ) في «من» وجهان.

أحدهما : أنها في محلّ رفع على البدل من الضمير في «يرغب» ، وهو المختار ؛ لأن الكلام غير موجب ، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف.

فإذا قلت : ما قام القوم إلّا زيد ، ف «إلّا» عندهم حرف عطف ، وزيد معطوف على القوم ، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو.

الثاني : أنها في محلّ نصب على الاستثناء ، و «من» يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرة موصوفة ، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الرفع ، أو النصب على الثاني.

قوله : (نَفْسَهُ) في نصبه سبعة أوجه :

أحدها : وهو المختار أن يكون مفعولا به ؛ لأنه حكي أن «سفه» بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى «سفّه» بفتح الفاء والتشديد ، وحكي عن أبي الخطّاب أنها لغة ، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال](١) : «سفه نفسه : امتهنها ، واستخف بها» ، ثم ذكر أوجها أخرى.

ثم قال والوجه الأول ، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث : «الكبر أن تسفه الحقّ وتغمض النّاس» (٢).

__________________

(١) في أ : فإن قلت.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٩٣ كتاب الإيمان (١) باب تحريم الكبر وبيانه (٣٩) حديث رقم (١٤٧ / ٩١).

وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٤٥٧ كتاب اللباس باب ما جاء في الكبر حديث رقم ٤٠٩٢ عن أبي هريرة.

والترمذي في السنن حديث رقم ١٩٩٩.

والبخاري في الأدب المفرد ٥٥٦ ـ وأحمد في المسند ١ / ٣٩٩ ، ٢ / ١٥٧ ، ٤ / ١٥١ ـ والطبراني في الكبير ١٠ / ٢٧٣.

وذكره ابن كثير في التفسير : ٢ / ٢١ ، ٧ / ٣٥٦. وابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٤٩٠. والهيثمي في الزوائد ٥ / ١٣٦. والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١١٥.


الثاني : أنه مفعول به ولكن على تضمين «سفه» معنى فعل يتعدى ، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى «جهل» ، وقدره أبو عبيدة بمعنى «أهلك».

قال القرطبي : وأما سفه بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد](١).

الثالث : أنه منصوب على إسقاط حرف الجرّ تقديره : سفه في نفسه.

الرابع : توكيد لمؤكد محذوف تقديره : سفه في نفسه ، فحذف المؤكد قياسا على النعت والمنعوت ، حكاه مكّي.

الخامس : أنه تمييز ، وهو قول الكوفيين.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميّز ؛ نحو قوله : [الوافر]

٧٩٢ ـ ..........

ولا بفزارة الشّعر الرّقابا (٢)

[الوافر]

٧٩٣ ـ ..........

أجبّ الظّهر ليس له سنام (٣)

فجعل «الرّقاب» و «الظّهر» تمييزين ، وليس كذلك ، بل هما مشبّهان بالمفعول به ؛ لأنهما معمولا صفة مشبهة ، وهي «الشّعر» جمع أشعر ، و «أجبّ» وهو اسم.

السادس : أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين.

السابع : أنه توكيد لمن سفه ؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين ، وهو تخريج غريب نقله صاحب «العجائب والغرائب» (٤).

والمختار الأول ؛ لأن التضمين لا ينقاس ، وكذلك حرف الجر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عجز بيت للحارث بن ظالم وصدره :

فما قومي بثعلبة بن سعد

ينظر الأغاني : ١١ / ١١٩ ، الإنصاف : ص ١٣٣ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٢٥٨ ، شرح اختيارات المفضل : ٣ / ١٣٣٥ ، الكتاب : ١ / ٢٠١ ، المقاصد النحوية : ٦٠٩ ، المقتضب : ٤ / ١٦١ ، خزانة الأدب : ٧ / ٤٩٢ ، شرح المفصل : ٦ / ٨٩ ، الحماسة الشجرية : ١ / ٢٤٧ ، الكشاف : ١ / ١٨٩ ، البحر : ١ / ٥٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.

(٣) عجز بيت للنابغة وصدره :

ونأخذ بعده بذناب عيش

ينظر ديوانه : (١٥٧) ، شواهد الكتاب : ١ / ١٩٦ ، أمالي ابن الشجري : ٢ / ١٤٣ ، ابن يعيش (٦ / ٨٣ ، ٨٥) ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.

(٤) محمود بن حمزة بن نصر ، أبو القاسم برهان الدين الكرماني ، ويعرف بتاج القراء ، عالم بالقراءات ، أثنى عليه ابن الجزري وذكر بعض كتبه ، ومنها : «لباب التفاسير» ، وهو المعروف بكتاب العجائب والغرائب ، ضمنه أقوالا في معاني بعض الآيات ، ومن كتبه «خط المصاحف» و «لباب التأويل» وغيرها من الكتب توفي سنة ٥٠٥ ه‍.

انظر غاية النهاية : ٢ / ٢ / ٢٩١ ، إرشاد الأريب : ٧ / ١٤٦ ، هدية العارفين : ٢ / ٤٠٢ ، الأعلام : ٧ / ١٦٨.


وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، فالصحيح لا يجوز.

وأما التمييز فلا يقع معرفة ، وما ورد نادر أو متأول.

وأما النصب على التشبيه بالمفعول ، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات

لما ذكر أمر إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وشرائعه التي ابتلاه الله بها ، وبناء بيته ، والحرص على مصالح عباده ، ودعائه [بالخير لهم](١) ، وغير ذلك عجب الناس فقال : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ).

قال النحاس : وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب والمعنى : يزهد فيها ، وينأى بنفسه عنها ، أي : الملّة وهي الدين والشرع ؛ إلّا من سفه نفسه.

قال قتادة : وكل ذلك توبيخ اليهود ، والنصارى ، ومشركي العرب ؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوصلة إلى إسرائيل وقريش ، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه ، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله](٢) ، وسائر العرب ، [وهم العدنانيون](٣) مرجعهم إلى إسماعيل ، وهم يفتخرون على [القحطانيين](٤) بما أعطاه الله ـ تعالى ـ من النبوة ، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه‌السلام ، ولما ثبت أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هو الذي طلب من الله ـ تعالى ـ بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله ـ تعالى ـ في تحصيل هذا المقصود ، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه‌السلام](٥) ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه.

[فإن قيل : لعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي طلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه غير هذا الشخص.

فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية ، والمعتمد في إثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور المعجزة على يده ، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ ، ولفظ «الملة» يتناول الفروع والأصول ؛ فيكون محمدا عليه ـ الصلاة والسلام ـ.

والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته ، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم](٦).

__________________

(١) في أ : له.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : عرب.

(٤) في أ : غيرهم بإسماعيل.

(٥) في أ : يفتخر بإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وفضيلة الانتساب إليه.

(٦) سقط في ب.


فصل

روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : إن الله ـ تعالى ـ قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، وأسلم سلمة ، ومهاجر أبى أن يسلم ، فنزلت هذه الآية الكريمة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : «إلّا من سفه نفسه» خسر نفسه.

وقال الكلبي : «ضلّ من قتل نفسه».

وقال أبو البقاء ، وأبو عبيدة : «أهلك نفسه».

وقال ابن كيسان والزجاج : «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله ـ تعالى ـ خالقها ، وقد جاء «من عرف نفسه عرف ربّه».

وقال ابن بحر : معناه جهل نفسه ، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته.

وهذا معنى قول الزجاج رحمه‌الله تعالى : لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعينين يبصر بهما ، وأذنين يسمع بهما ، ولسان ينطق به ، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع ، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومعدة أعدّت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صفوه ، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف ، وأمعاء يرتكز إليها نقل الغذاء ، فيبرز من أسفل البدن ، فيستدل بها على أن له خالقا قادرا عليما حكيما وهذا معنى قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) اخترناه من سائر الخلق في الدنيا ، وإنّه في الآخرة عظيم المنزلة.

[قال الحسين بن فضيل : فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن : من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب](١).

قوله : (فِي الْآخِرَةِ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف ، وليست موصولة.

الثاني : أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك : بعد سقياه.

الثالث : يتعلق بمحذوف أيضا ، لكن من جنس الملفوظ به أي : وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.

__________________

(١) سقط في ب.


الرابع : أن يتعلق بقوله الصالحين ، وإن كانت «أل» موصولة ؛ لأنه يغتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعا ، ونظيره قول الشاعر : [الرجز]

٧٩٤ ـ ربّيته حتّى إذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا (١)

الخامس : أن يتعلّق ب «اصطفيناه».

قال الحسين بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير مجازه : ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة.

وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنبوّ السمع عنه.

والاصطفاه : الاختيار ، «افتعال» من صفوة الشيء ، وهي خياره ، وأصله : اصتفى ، وإنما قلبت تاء الافتعال «طاء» مناسبة للصاد لكونها حرف إطباق ، وتقدم ذلك عند قوله : (أَضْطَرُّهُ) [البقرة : ١٢٦].

وأكد جملة الاصطفاء باللام ، والثانية ب «إن» و «اللام» ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد ، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مغيّب ، فاحتاج الإخبار به إلى فضل توكيد.

وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه ، ونقله جيل بعد جيل.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١)

في «إذ» خمسة أوجه :

أصحها : أنه منصوب ب «قال أسلمت» ، أي : قال : أسلمت وقت قول الله له أسلم.

الثاني : أنه بدل من قوله : «في الدنيا».

الثالث : أنه منصوب ب «اصطفيناه».

الرابع : أنه منصوب ب «اذكر» مقدرا ، ذكر ذلك أبو البقاء ، والزمخشري ، وعلى تقدير كونه معمولا ل «اصطفيناه» أو ل «اذكر» مقدرا يبقى قوله : (قالَ : أَسْلَمْتُ) غير منتظم مع ما قبله ، إلّا أن يقدر حذف حرف عطف أي : فقال ، أو يجعل جوابا بسؤال مقدر ، أي : ما كان جوابه؟

فقيل : قال أسلمت.

الخامس : أبعد بعضهم ، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه «اصطفيناه».

__________________

(١) ينظر ديوان العجاج : ٢ / ٢٨١ ، شرح المفصل : ٩ / ١٥١ ، المحتسب : ٢ / ٣١٠ ، الخزانة : ٣ / ٥٦٣ ، المخصص : ١٤ / ١٧٥ ، التهذيب (معد) ، المنصف : ١ / ١٢٩ ، التبيان : ١ / ١١٧ ، الهمع : ١ / ٨٨ ، الدرر : ١ / ٦٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.


وفي قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ) التفات ، إذ لو جاء على نسقه لقيل : إذ قلنا ؛ لأنه بعد (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) ، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله : [البسيط]

٧٩٥ ـ باتت تشكّى إليّ النّفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا (١)

وقوله : (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فيه من الفخامة ما ليس في قوله «لك» أو «لربي» ، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميع العالمين اعترف بأنه ربه وزيادة ، بخلاف الأول ، فلذلك عدل عن العبارتين.

وفي قوله : (أَسْلِمْ) حذف مفعول تقديره : أسلم لربك.

فصل في تحرير وقت قول الله تعالى لإبراهيم : أسلم

الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطّلاعه على أمارات الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له تعالى : (أَسْلِمْ قالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ؛) لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه ، ويحتمل أيضا أن يكون قوله : (أَسْلِمْ) كان قبل الاستدلال ، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [لا نفس القول] على حسب مذاهب العرب في هذا ، كقول الشاعر : [الرجز]

٧٩٦ ـ إمتلأ الحوض وقال : قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني (٢)

ويدل على ذلك قوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فجعل دلالة البرهان كلاما.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة ، واختلفوا في المراد منه.

فقال الكلبي والأصمّ : أخلص دينك ، وعبادتك لله تعالى.

وقال عطاء : أسلم نفسك إلى الله ، وفوّض أمورك إليه.

قال : أسلمت ، أي : فوضت.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار.

__________________

(١) البيت للبيد. ينظر ديوانه : ٣٥٢ ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٦ ، الطبري : ١ / ٥٢ ، الأضداد (١١٧) ، الدر المصون : ١ / ٣٧٥.

(٢) ينظر إصلاح المنطق : ص ٥٧ ، ٣٤٢ ، الإنصاف : ص ١٣٠ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٣٠٩ ؛ وتخليص الشواهد : ص ١١١ ؛ وجواهر الأدب : ص ١٥١ ؛ والخصائص : ١ / ٢٣ ؛ ورصف المباني : ص ٣٦٢ ، وسمط اللآلي : ص ٤٧٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ٥٧ ؛ وشرح المفصّل : ١ / ٨٢ ، ٢ / ١٣١ ، ٣ / ١٢٥ ؛ وكتاب اللامات : ص ١٤٠ ، ولسان العرب (قطط) ، (قطن) ؛ ومجالس ثعلب : ص ١٨٩ ؛ والمقاصد النحويّة : ١ / ٣٦١ ، الرازي : ٤ / ٧١ ، القرطبي : ٢ / ٢٣.


قال القرطبي : والإسلام هنا على أتم وجوهه ، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والانقياد للمستسلم والله أعلم.

قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

قرىء (١) : «وصّى» ، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصّى ، وأوصى رباعيا ، وهي قراءة نافع ، وابن عامر ، وكذلك هي في مصاحف «المدينة» و «الشام».

وقيل : أوصى ووصى بمعنى.

والضمير في «بها» فيه ستّة أقوال :

أحدها : أنه يعود على الملّة في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٠].

قال أبو حيان (٢) : «وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره».

والزمخشري ـ رحمه‌الله ـ لم يذكر هذا ، وإنما ذكر عوده على قوله «أسلمت» لتأويله بالكلمة.

قال الزمخشري : والضمير في «بها» لقوله : «أسلمت لرب العالمين» على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) [الزخرف : ٢٨] إلى قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٧] وقوله : «كلمة باقية» دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى.

الثاني : أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله : (أَسْلَمْتُ) كما تقدم تقريره عن الزمخشري.

قال ابن عطية (٣) : «وهو أصوب لأنه أقرب مذكور».

الثالث : أنه يعود على متأخر ، وهو الكلمة المفهومة من قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

الرابع : أنه يعود على كلمة الإخلاص ، وإن لم يبد لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل.

الخامس : أنه يعود على الطّاعة للعلم بها أيضا.

السادس : أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله : «ووصّى» ، و «بها» يتعلّق ب «وصّى» و «بنيه» مفعول به.

__________________

(١) قرأ نافع وابن عامر : «وأوصى» على «أفعل» ، وقرأ الباقون : «ووصّى» على «فعّل».

انظر السبعة : ١٧١ ، والكشف : ١ / ٢٦٥ ، وحجة القراءات : ١١٥ ، والحجة : ٢ / ٢٢٧ ، وشرح شعلة : ٢٧٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧١ ، ٧٢ ، والعنوان : ٧١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٨.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٠.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٣.


روي أنهم ثمانية : إسماعيل ، واسم أمه هاجر القبطية ، وإسحاق ، واسم أمه سارة وستة ، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ ، ثم توفي عليه الصلاة والسلام.

وكان بين وفاته وبين مولد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود ينقصون ذلك نحوا من أربعمائة سنة.

قوله : (وَيَعْقُوبُ) الجمهور على رفعه وفيه قولان :

أظهرهما : أنه عطف على (إِبْراهِيمُ) ، ويكون مفعوله محذوفا ، أي : ووصى يعقوب بنيه أيضا.

والثاني : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ويعقوب قال : يا بني إن الله اصطفى.

وقرأ أسماعيل بن عبد الله (١) ، وعمرو بن فائد (٢) بنصبه عطفا على «بنيه» ، أي : ووصّى إبراهيم يعقوب أيضا.

[ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري ، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة ، ومات بمصر ، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق ، فحمله يوسف ، ودفنه عنده](٣).

قوله : «يا بني» فيه وجهان :

أحدهما : أنه من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم ، أو على قراءته منصوبا.

والثّاني : أنه من مقول يعقوب إن قلنا رفعه بالابتداء ، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للدلالة عليه تقديره : «ووصّى إبراهيم بنيه يا بني».

__________________

(١) أبو إسحاق إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزومي ، مولاهم المكي ، المعروف ب «القسط» مقرىء مكة. ولد سنة ١٠٠ ه‍ ، وقرأ على ابن كثير وعلى صاحبيه : شبل بن عباد ، ومعروف بن مشكان ، وأقرأ الناس زمانا ، وكان ثقة ضابطا قرأ عليه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومحمد بن سبعون ، وعكرمة بن سليمان ، وروى عنه القراءة أحمد بن موسى اللؤلؤي ، وفي سند البزي عن ابن كثير نفسه ، وفي سند قنبل عن شبل ومعروف عن ابن كثير ـ قال الذهبي : والقولان صحيحان ، ثم جمع بينهما. توفي سنة ١٧٠ ه‍.

ينظر غاية النهاية : ١ / ١٦٦.

(٢) عمرو بن فائد أبو علي الأسواري البصري ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصر العطار ، ومما روى عنه : إياك نعبد وإياك بتخفيف الياء.

ينظر الغاية : ١ / ٦٠٢ (٢٤٦٢).

(٣) سقط في ب.


وعلى كل تقدير فالجملة من قوله : «يا بني» وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين ، أي : فقال يا بني ، وبفعل الوصية ؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين ، [قال النحاس : يا بني نداء مضاف ، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها ؛ لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان ، وبمعناه (بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] ونحوه](١). وقال الراجز : [الرجز]

٧٩٧ ـ رجلان من ضبّة أخبرانا

إنّا رأينا رجلا عريانا (٢)

بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو لإجراء الخبر مجرى القول ، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن (٣) مسعود : «أن يا بني» ب «أن» المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما ينسبك منه مصدر.

قال الفراء : ألغيت «أن» لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز إلغائها ، وقال النحويون : إنما أراد «أن» وألغيت ليس بشيء. ومن أبى جعلها مفسرة ـ وهم الكوفيون ـ يجعلونها زائدة.

و «يعقوب» علم أعجمي ولذلك لا ينصرف ، ومن زعم أنه سمّي يعقوب ؛ لأنه ولد عقب العيص أخيه ، وكانا توأمين ، أو لأنه كثر عقبه ونسله فقد وهم ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، لأنه عربي مشتق.

ويعقوب أيضا ذكر الحجل ، إذا سمي به المذكر انصرف ، والجمع يعاقبة ويعاقيب ، و «اصطفى» ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن «واو» ؛ لأنها من الصّفوة ، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعدا ، قلبت ياء ، ثم انقلبت ألفا.

اصطفى : اختار.

قال الراجز : [الرجز]

٧٩٨ ـ يا ابن ملوك ورّثوا الأملاكا

خلافة الله الّتي أعطاكا

لك اصطفاها ولها اصطفاكا (٤)

والدين : الإسلام.

و «لكم» أي لأجلكم ، والألف واللام في «الدين» للعهد ؛ لأنهم كانوا عرفوه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر المحتسب : ١ / ١٠٩ ، الخصائص : ٢ / ٣٣٨ ، البحر المحيط : ١ / ٥٧١ ، الكشاف : ١ / ٣١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٦.

(٣) وبها قرأ أبي والضحاك. انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧١ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٦.

(٤) ينظر القرطبي : ٢ / ٩٣.


قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا) هذا في الصورة عن الموت ، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك : «لا تصلّ إلا وأنت خاشع» ، فنهيك له ليس عن الصلاة ، إنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنّكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة ، وهي غير منهي عنها هي إظهار أنّ الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ، كأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تصلّها على هذه الحالة ، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم. [وعن الفضيل بن عياض أنه قال : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، أي : مسلمون الظن ، أي محسنون الظن بربكم ، وروي عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : «لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»](١). وأصل تموتن : تموتوننّ : النون الأولى علامة الرفع ، والثانية المشددة للتوكيد ، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع ؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ ، فالتقى ساكنان : الواو والنون الأولى المدغمة ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وبقيت الضمة تدلّ عليها ، وهكذا كل ما جاء في نظائره.

قوله : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة ، و (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، كأنه قال تعالى : «لا تموتن على كل حال إلا على هذه الحال» ، والعامل فيها ما قبل إلا.

قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

«أم» في أم هذه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور ـ : أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب «بل» ، وهمزة الاستفهام.

وبعضهم يقدرها ب «بل» وحدها ، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال.

ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي ، أي : بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.

الثاني : أنها بمعنى همزة الاستفهام ، وهو قول ابن عطية والطبري ، إلا أنهما اختلفا في محلها.

فإن ابن عطية قال : و «أم» تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام ، لغة يمانية.

__________________

(١) سقط في ب.


وقال الطبري : إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره.

قال أبو حيان في قول ابن عطية : «ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال».

وقال في قول الطبري : وهذا أيضا قول غريب.

الثالث : أنها متصلة ، وهو قول الزمخشري.

قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة ، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك : وقيل : الخطاب لليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، وسمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه لظهر لهم حرصه على ملّة الإسلام ، ولما ادّعوا عليه اليهودية ، فالآية الكريمة منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : أم كنتم شهداء؟

ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء ، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملّة (١) الإسلام ، فما لكم تدّعون على الأنبياء (٢) ما هم منه براء؟

قال أبو حيان (٣) : ولا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة ، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره ، لو قلت «أم زيد» تريد : «أقام عمرو أم زيد» لم يجز ، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك : «بلى وعمرا» لمن قال : لم يضرب زيدا ، وقوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي فضرب فانفجرت ، وندر حذفه مع «أو» ؛ كقوله : [الطويل]

٧٩٩ ـ فهل لك أو من والد لك قبلنا

 .......... (٤)

أي : من أخ أو والد ، ومع حتى كقوله : [الطويل]

٨٠٠ ـ فواعجبا حتّى كليب تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (٥)

أي : يسبني الناس حتى كليب ، على نظر فيه ، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله : [الطويل]

__________________

(١) زاد في أ : إبراهيم أي.

(٢) زاد في أ : اليهودية.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٢.

(٤) صدر بيت لأمية الهذلي. وعجزه :

يرشح أولاد العشار ويفضل

ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٥٣٧ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٦٧٠ ، المقاصد النحوية : ٤ / ١٨٢ ، وللهذلي في همع الهوامع : ٢ / ٢ / ١٤٠ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٨.

(٥) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : ١ / ٤١٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٤١٤ ، ٩ / ٤٧٥ ، ٤٧٦ ، ٤٧٨ ، والدرر : ٤ / ١١٢ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٢ ، ٣٧٨ ، وشرح المفصل : ٨ / ١٨ ، والكتاب : ٣ / ١٨ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٢٩ ، وشرح المفصل : ٨ / ٦٢ ، والمقتضب : ٢ / ٤١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٢٤ ، ورصف المباني : ص ١٨١ ، والدر : ١ / ٣٧٨.


٨٠١ ـ دعاني إليها القلب إنّي لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها (١)

أي : أم غيّ ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن المستفهم على الإثبات يتضمّن نقيضه ، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى ، ألا ترى إلى قوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] كيف حذف و «البرد» انتهى.

و «شهداء» خبر كان ، وهو جمع شاهد أو شهيد ، وقد تقدم أول السورة.

قوله : (إِذْ حَضَرَ) إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي : شهداء وقت حضور الموت إياه ، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه ومقدماته ؛ قال الشّاعر : [البسيط]

٨٠٢ ـ وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرّئكم إنّي أنا الموت (٢)

أي : أنا سببه ، والمشهور نصب «يعقوب» ، ورفع «الموت» ، قدم المفعول اهتماما وقرأ بعضهم بالعكس.

وقرىء (٣) : «حضر» بكسر الضاد ، قالوا : والمضارع يحضر بالضم شاذ ، وكأنه من التداخل وقد تقدم.

قوله : (إِذْ قالَ) ، «إذ» هذه فيها قولان :

أحدهما : بدل من الأولى ، والعامل فيها ، إما العامل في «إذ» الأولى إن قلنا : إن البدل لا على نية تكرار العامل ، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك.

الثاني : أنها ظرف ل «حضر».

قوله : (ما تَعْبُدُونَ) ، ما اسم استفهام في محلّ نصب ؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون ، وهو واجب التقديم ؛ لأن له صدر الكلام ، وأتى ب «ما» دون «من» لأحد أربعة معان.

أحدها : أن «ما» للمبهم أمره ، فإذا علم فرّق ب «ما» و «من».

[قال الزمخشري : وكفاك دليلا قول العلماء : «من» لما يعقل.

الثاني : أنها سؤال عن صفة المعبود](٤).

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ينظر تخليص الشواهد : ص ١٤٠ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٥١ ، والدرر : ٦ / ١٠٢ ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٤٣ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٥٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢٦ ، ١٤٢ ، ٢ / ٦٧٢ ، ومغني اللبيب : ص ١٣ ، وشرح الأشموني : ٤ / ٣٧١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٢ والدر : ١ / ٣٧٨.

(٢) البيت لرويشد بن كثير. ينظر الحماسة : ١ / ١٠٢ ، القرطبي : ٢ / ٢٥٨ ، البحر المحيط : ١ / ٥٧٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٩.

(٣) قرأ بها أبو السمال.

انظر الشواذ : ٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٩.

(٤) سقط في أ.


قال الزمخشري : كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم طبيب ، أم غير ذلك من الصفات؟

الثالث : أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء ، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر ، فاستفهم ب «ما» التي لغير العاقل ، فعرف بنوه ما أراد ، فأجابوه عنه بالحق.

الرابع : أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب «ما» دون «من» ، لئلا يطرق لهم الاهتداء ، فيكون كالتلقين لهم ، ومقصوده الاختبار.

وأجاب ابن الخطيب بوجهين :

الأول : أن «ما» عام في كل شيء ، والمعنى : أي شيء تعبدون.

والثاني : قوله : (ما تَعْبُدُونَ) كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟

وقوله : (مِنْ بَعْدِي) أي : بعد موتي.

قوله : (قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ).

تمسّك المقلّدة بهذه الآية الكريمة قالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره عليهم.

والجواب : أن هذا ليس تقليدا ، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصّانع كقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] فهاهنا المراد من قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) أي : نعبد الإله الذي دلّ عليه وجودك ، ووجود آبائك.

فصل في نزول هذه الآية

قال القفّال : وفي بعض التفاسير أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لما دخل «مصر» رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان ، فخاف على بنيه بعد وفاته ، فقال لهم هذا القول تحريضا لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى.

وحكى القاضي عن ابن عباس : أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ جمعهم إليه عند الوفاة ، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران ، فقال : يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك (١).

ثم قال القاضي : هذا بعيد لوجهين :

الأول : أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب ، وأنهم كانوا قوما صالحين ، وذلك لا يليق بحالهم.

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ٦٩.


[وقال عطاء : إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة ، فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ؛ ففعل ذلك به ، فجمع ولده وولد ولده ، وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما ، وسيأتي الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى](١).

وقال القفّال : وقيل : إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق ؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق](٢).

قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ) أعاد ذكر الإله ، لئلا يعطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار ، والجمهور على «آبائك».

وقرأ الحسن (٣) ويحيى وأبو رجاء : «أبيك».

وقرأ أبّي : «وإله إبراهيم» فأسقط «آبائك».

فأما قراءة الجمهور فواضحة.

وفي «إبراهيم» وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل.

والثاني : أنه عطف بيان ، ومعنى البدلية فيه التفصيل.

الثالث : أنه منصوب بإضمار «أعني» فالفتحة على هذا علامة للنصب ، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصّرف ، وفيه دليل على تسمية الجدّ والعم أبا ، فإن إبراهيم جده وإسماعيل عمه ، كما يطلق على الخالة أمّ ، ومنه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) [يوسف : ١٠٠] في أحد القولين.

قال بعضهم : وهذا من باب التّغليب ، يعني : أنه غلب الأب على غيره ، وفيه نظر ، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع ، فيغلب فيهما.

وأما قراءة «أبيك» فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مفردا غير جمع ، وحينئذ فإما أن يكون واقعا موقع الجمع أو لا ، فإن كان واقعا موقع الجمع ، فالكلام في «إبراهيم» وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعا موقعه ، بل أريد به الإفراد لفظا ومعنى ، فيكون «إبراهيم» وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة ، ويكون إسماعيل وما بعده عطفا على «أبيك» ، أي : وإله إسماعيل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أسن منه.

(٣) انظر الشواذ : ١٧ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢١٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٦٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٩.


الثاني : يكون جمع سلامة بالياء والنون ، وإنما حذفت النون للإضافة ، وقد جاء جمع أب على «أبون» رفعا ، و «أبين» جرا ونصبا ، حكاها سيبويه ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٨٠٣ ـ فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا (١)

ومثله : [الوافر]

٨٠٤ ـ فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

 .......... (٢)

والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير. وإسحاق : علم أعجميّ ، ويكون مصدر أسحق ، فلو سمّي به مذكر لانصرف ، والجمع : أساحقة وأساحيق.

قال القرطبي : ولم ينصرف إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ؛ لأنّها أعجمية.

قال الكسائيّ : وإن شئت صرفت «إسحاق» ، وجعلته من السّحق ، وصرفت «يعقوب» وجعلته من الطّير.

وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أبا ، وبدأ بذكر الجد ، ثم إسماعيل العم ؛ لأنّه أكبر من إسحاق.

فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أبا

ذهب أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى أن الجد أب ، وأسقط به الإخوة ، والأخوات ، وهو قول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وابن عباس وعائشة ، وجماعة من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ومن التابعين ، والحسن ، وطاوس وعطاء.

وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وهو قول مالك ، وأبي يوسف ومحمد.

__________________

(١) البيت لزياد بن واصل السلمي. ينظر خزانة الأدب : ٤ / ٤٧٤ ، ٤٧٧ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢٨٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب : ٤ / ١٠٨ ، ٤٦٧ ، ولسان العرب (أبي) ، والمحتسب : ١ / ١١٢ ، والمقتضب : ٢ / ١٧٤ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ٢٨٦ ، والكتاب : ٣ / ٤٠٦ ، وشرح المفصل : ٣ / ٣٧ ، والخصائص : ١ / ٣٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٠.

(٢) البيت للعباس بن مرداس السلمي ، ورواية البيت :

فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

وقد برئت من الإحن الصّدور

ينظر الديوان : ص ٥٢ ، السيرة النبوية : ٢ / ٤٥١ ، مجاز القرآن لأبي عبيدة : ١ / ٧٩ ، ١ / ١٣١ ، الجمهرة : ٣ / ٤٨٤ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٥٨ ، اللسان (أخو) ، القرطبي : ٢ / ١٣٩ ، إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس : (١ / ٢٦٥) ، تأويل مشكل القرآن : (٢١٩) ، تفسير الطبري : ٣ / ٢٣ ، خزانة الأدب : ٤ / ٤٧٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٠.


واحتج أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بأدلة منها هذه الآية الكريمة ، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد.

فإن قيل : قد أطلقه على العمّ ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقا.

فالجواب : الأصل في الاستعمال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به ، فيبقى في الثاني حجة.

والثاني منها قوله ـ تبارك وتعالى ـ مخبرا عن يوسف : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) [يوسف : ٣٨].

ومنها : ما روى عطاء عن ابن عباس أنّه قال : من شاء لاعنته عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب.

وقال أيضا : ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الأب أبا.

واحتجّ الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ بأدلّة :

منها : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢] فلم يدخل يعقوب في بنيه ، بل ميّزه عنهم ، فلو كان الصاعد في الأبوّة أبا لكان النازل في البنوّة ابنا في الحقيقة ، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد ، فعلمنا أنه حقيقة في الأب مجاز في الجد](١). ولو كان الجد أبا على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجدّه حيّ أن ينفي أنّ له أبا ، كما لا يصح في الأب القريب ، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.

فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنّ رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد ، فلذلك صح فيه النفي.

فالجواب : لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعا لم يكن الترتيب في الوجود سببا لنفي اسم الأب عنه.

ومنها : لو كان الجد أبا على الحقيقة لصحّ القول بأنّه مات ، وخلف أمّا وآباء كثيرين ، وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء ، وأرباب اللغة ، والتفسير.

ومنها : [لو كان الجدّ أبا ـ ولا شكّ](٢) أنّ الصحابة عارفون باللغة ـ لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ، ولو كان الجد أبا لكانت الجدة أمّا ، ولو كان كذلك لما وقعت الشّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى السؤال عنه ، [فهذه الدلائل دلت على أنّ الجدّ ليس بأب](٢).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.


ومنها : قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] فلو كان الجدّ أبا لكان ابن الابن ابنا لا محالة ، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب.

وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين :

الأول : أنه قرأ أبيّ (١) : «وإله إبراهيم» بطرح «آبائك» إلّا أنّ هذا لا يقدح في الغرض ؛ لأن القراءة الشاذّة لا تدفع القراءة المتواترة.

بل الجواب أن يقال : إنّه أطلق لفظ الأب على الجدّ وعلى العمّ.

وقال عليه الصلاة والسلام في العبّاس : «هذا بقيّة آبائي».

وقال : «ردّوا عليّ أبي ، فإنّي أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» ، فدلنا ذلك على أنّه ذكره على سبيل المجاز ، ولو كان حقيقة لما كان كذلك.

وأمّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظرا إلى الحكم الشرعي ، لا إلى الاسم اللغوي ؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللّسان.

قوله : (إِلهاً واحِداً) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه بدل من «إلهك» بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٥ ـ ١٦].

والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله : [الوافر]

٨٠٥ ـ فلا وأبيك خير منك إنّي

ليؤذيني التّحمحم والصّهيل (٢)

ف «خير» بدل من «أبيك» ، وهو نكرة غير موصوفة.

والثاني : أنّه حال من «إلهك» والعامل فيه «نعبد» ، وفائدة البدل والحال التنصيص على أنّ معبودهم فرد إذ إضافة الشيء إلى كثير توهم تعداد المضاف ، فنصّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تسمى «حالا موطّئة» ، وهي أن تذكرها ذاتا موصوفة ، نحو : جاء زيد رجلا صالحا.

الثالث ، وإليه نحا الزّمخشريّ : أن يكون منصوبا على الاختصاص ، أي : نريد بإلهك إلها واحدا.

قال أبو حيّان رحمه‌الله : وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما.

__________________

(١) ينظر القراءة السابقة.

(٢) ينظر خزانة الأدب : ٥ / ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ولسان العرب (أذن) ، ونوادر أبي زيد : ص ١٢٤ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٥٨١ ؛ والمقرب : ١ / ٢٤٥. والدر المصون ١ / ٣٨٠.


قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها معطوفة على قوله : (نَعْبُدُ) يعني : أنها تتمّة جوابهم له ، فأجابوه بزيادة.

والثاني : أنّها حال من فاعل «نعبد» ، والعامل «نعبد».

والثالث ، وإليه نحا الزّمخشري : ألّا يكون لها محل ، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنّا له مخلصون.

قال أبو حيّان : ونصّ النحويون على أنّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقوية في الحكم ، إمّا بين جزئي صلة وموصول ؛ كقوله : [البسيط]

٨٠٦ ـ ماذا ـ ولا عتب في المقدور ـ رمت أما

يكفيك بالنّجح أم خسر وتضليل (١)

وقوله (٢) : [الكامل]

٨٠٧ ـ ذاك الّذي ـ وأبيك ـ يعرف مالكا

والحقّ يدفع ترّهات الباطل (٣)

أو من مسند ومسند إليه كقوله : [الطويل]

٨٠٨ ـ وقد أدركتني ـ والحوادث جمّة ـ

أسنّة قوم ضعاف ولا عزل (٤)

أو بين شرط وجزاء ، أو قسم وجوابه ، مما بينهما تلازم.

وهذه الجملة قبلها كلام مستقل عمّا بعدها ، لا يقال : إنّ بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازما ؛ لأنّ ما قبلها من مقول بني يعقوب ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر بها عنهم ، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. انتهى ملخصا.

وقال ابن عطية (٥) : «ونحن له مسلمون» ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ، ونحن نكون.

قال أبو حيان (٦) : يظهر منه أنّه جعل هذه الجملة عطفا على جملة محذوفة ، ولا حاجة إليه.

__________________

(١) ينظر الدرر : ١ / ٢٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، والدر : ١ / ٣٨١.

(٢) في أ : وفي قول القائل.

(٣) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٥٨٠ ، والدرر : ١ / ٢٨٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨١٧ ، والخصائص : ١ / ٣٣٦ ، ولسان العرب (تره) ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٩١ ، والمقرب : ١ / ٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، ٢٤٧ ، والدرر : ١ / ٣٨١.

(٤) البيت لجويرية بن زيد. ينظر في الدرر : ٤ / ٢٥ ، ولرجل من بني عبد الدار ينظر في شرح شواهد المغني : ٢ / ٨٠٧ ، والخصائص : ١ / ٣٣١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ١٤٠ ، ولسان العرب (هيم) ، ومغني اللبيب : ٤ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، والدر : ١ / ٣٨١.

(٥) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٤.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٥.


قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

«تلك» مبتدأ ، و «أمّة» خبره ، ويجوز أن تكون «أمّة» بدلا من «تلك» ، و «قد خلت» خبر للمبتدأ.

وأصل «تلك» : «تي» ، فلمّا جاء باللّام للبعد حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، فإن قيل : لم لم تكسر اللام حتى لا تحذف الياء؟

فالجواب : أنّه يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين.

وزعم الكوفيون أنّ التاء وحدها هي الاسم ، وليس ثمّ شيء محذوف.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ) جملة فعلية في محل رفع صفة ل «أمّة» إن قيل إنها خبر «تلك» أو خبر «تلك» إن قيل : إن «أمة» بدل من «تلك» كما تقدم ، و «خلت» أي صارت إلى الخلاء ، وهي الأرض التي لا أنيس بها ، والمراد به ماتت ، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم.

والأمة : الجماعة ، وقيل : الصنف.

قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفة ل «أمة» أيضا ، فيكون محلها رفعا.

والثاني : أن تكون حالا من الضمير في «خلت» فمحلها نصب ، أي : خلت ثابتا لها كسبها.

والثالث : أن تكون استئنافا فلا محلّ لها.

وفي «ما» من قوله : (ما كَسَبَتْ) ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها بمعنى الذي.

والثاني : أنها نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : كسبته ، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول.

والثالث : أن تكون مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور ، ويكون المصدر واقعا موقع المفعول أي : لها مكسوبها أو يكون ثمّ مضاف ، أي : لها جزاء كسبها.

قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) إن قيل : إن قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) مستأنف كانت هذه الجملة عطفا عليه.

وإن قيل : إنه صفة أو حال فلا.

أما الصفة فلعدم الرابط فيها.

وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها ، وزمان استقرار كسب المخاطبين ،


وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان ، و «ما» من قوله : (ما كَسَبْتُمْ) ك «ما» المتقدمة.

فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد

دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب ، وإن كان الله ـ تعالى ـ أقدره على ذلك ، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرّا فبعدله ، فالعبد مكتسب لأفعاله ، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرّعشة مثلا ، وذلك التمكن هو مناط التكليف ، وهذا مذهب أهل السّنة.

وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح.

وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين ، وأن العبد يخلق أفعاله ، نقله القرطبي.

قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) هذه الجملة استئناف ليس إلّا ، ومعناها التوكيد لما قبلها ؛ لأنه لما تقدم أن أحدا لا ينفعه كسب أحد ، بل هو مختص به إن خيرا وإن شرّا ، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره ، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا بذلك.

و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة ، وفي الكلام حذف ، أي : ولا يسألون عما كنتم تعملون.

قال أبو البقاء : ودلّ عليه : لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم انتهى.

ولو جعل الدالّ ـ قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) كان أولى ؛ لأنه مقابلة.

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٣٥)

والكلام في «أو» [كالكلام فيها عند](١) قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١].

و «تهتدوا» جزم على جواب الأمر ، وقد عرف ما فيه من الخلاف : أعني هل جزمه بالجملة قبله ، أو ب «إن» مقدرة (٢).

قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) قرأ الجمهور : «ملّة» نصبا ، وفيها أربعة أوجه :

أحدها : أنه مفعول فعل مضمر ، أي : بل نتبع ملة ؛ [فحذف المضاف وأقيم

__________________

(١) في أ : قد تقدم في.

(٢) ثبت في أ : أو ب «إن» مقدرة ، واعلم أن كل فرقة ذهبت إلى ما هي عليه ، فردّ الله عليهم بقوله تعالى : «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» أي : قل يا محمد : بل تتبع ملة إبراهيم.


المضاف إليه مقامه](١) لأن معنى كونوا هودا : اتبعوا اليهودية أو النصرانية.

الثاني : أنه منصوب على خبر «كان» ، أي : بل نكون ملّة أي : أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم : «إني من دين» أي من أهل دين ، وهو قول الزّجّاج (٢) ، وتبعه الزمخشري.

الثالث : أنه منصوب على الإغراء ، أي : الزموا ملّة ، وهو قول أبي عبيدة ، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به ، وإن اختلف العامل.

الرابع : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، والأصل : نقتدي بملّة إبراهيم ، فلما حذف الحرف انتصب.

وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيكون تقدير الفعل : بل نكون ، أو نتبع ، أو نقتدي كما تقدم ، وأن يكون خطابا للكفار ، فيكون التقدير : كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا.

وقرأ (٣) ابن هرمز ، وابن أبي عبلة «ملّة» رفعا وفيها وجهان :

أحدهما : أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : بل ملتنا ملّة إبراهيم ، أو نحن ملة ، أي : أهل ملة.

الثاني : أنها مبتدأ حذف خبره ، تقديره : ملة إبراهيم ملتنا.

قوله : (حَنِيفاً) في نصبه أربعة أقوال :

أحدها : أنه حال من «إبراهيم» ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياسا في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم (٤).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٩٤.

(٣) انظر الشواذ : ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢١٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٣.

(٤) حقّ صاحب الحال أن يكون مجرورا بالإضافة ، كما لا يكون صاحب الخبر ؛ لأن المضاف إليه مكمّل للمضاف ، وواقع منه موقع التنوين ، فإن كان المضاف بمعنى الفعل ، حسن جعل المضاف إليه صاحب حال ؛ لأنه في المعنى فاعل أو مفعول ، نحو : «إليه مرجعكم جميعا» وعرفت قيام زيد مسرعا.

وجوّز البصريون وصاحب «البسيط» مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا ، وهذا مذهب سيبويه ، وخرّجوا عليه «إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين».

وجوّزه الأخفش وابن مالك إن كان المضاف جزء ما أضيف إليه ، أو مثل جزئه ، نحو : «ما في صدورهم من غلّ إخوانا» ، ونحو : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ورد هذا المصنّف ، وجعل «إخوانا» منصوبا على المدح على ما سيأتي ، «وحنيفا» حال من «ملة» بمعنى : دين ، والسر في هذا الخلاف ؛ أنهم اختلفوا في : هل يجب أن يكون العامل في الحال هو نفس العامل في صاحبها ، أم لا يجب ذلك؟.

فذهب سيبويه : إلى أنه لا يجب أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، بل يجوز أن يكون العامل فيهما واحدا ، وأن يكون مختلفا ، وعلى ذلك ؛ أجاز أن يجيء الحال من المضاف إليه مطلقا.

وذهب غيره : إلى أنه لا بد من أن يكون العامل في الحال هو نفس العامل في صاحبها ، وترتّب على ذلك ألا يجوّزوا أن يجيء الحال من المضاف ، إلا إذا توفر له واحد مما ذكر ؛ وذلك لأن المضاف إن ـ


أحدها : أن يكون المضاف عاملا عمل الفعل.

الثاني : أن يكون جزءا نحو : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].

الثالث : أن يكون كالجزء كهذه الآية ؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء.

والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه ، ولو كان المضاف جزءا ، قالوا : لأن الحال لا بد لها من عامل ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها ، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل ، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام ، أو معنى الإضافة ، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل.

ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك : «رأيت وجه هند قائمة» ، وهو قول الزجاج.

الثاني : نصبه بإضمار فعل ، أي : نتبع حنيفا وقدره أبو البقاء ب «أعني» ، وهو قول الأخفش الصغير ، وجعل الحال خطأ.

الثالث : أنه منصوب على القطع ، وهو رأي الكوفيين ، وكان الأصل عندهم : إبراهيم الحنيف ، فلما نكره لم يمكن إتباعه ، وقد تقدم تحرير ذلك.

الرابع ، وهو المختار : أن يكون حالا من «ملّة» فالعامل فيه ما قدّرناه عاملا فيها ، وتكون حالا لازمة ؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف ، وكذلك على القول بجعلها حالا من «إبراهيم» ؛ لأنه لم ينتقل عنها.

فإن قيل : صاحب الحال مؤنث ، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث ، فيقال : حنيفة.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن «فعيلا» يستوي فيه المذكر والمؤنث.

والثاني : أن الملّة بمعنى الدين ، ولذلك أبدلت منه في قوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام : ١٦١] ذكر ذلك ابن الشّجريّ في «أماليه».

و «الحنف» : الميل ، ومنه سمي الأحنف ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى ؛ قالت أمّه : [الرجز]

__________________

ـ كان عاملا في المضاف إليه بسبب شبهة للفعل ؛ لكونه مصدرا أو اسم فاعل ، كان كذلك عاملا في الحال ، فيتّحد العامل في الحال والعامل في صاحبه الذي هو المضاف إليه ، وإن كان المضاف جزء المضاف إليه ، أو مثل جزئه ، كان المضاف والمضاف إليه جميعا كالشيء الواحد ، فيصير في هاتين الحالتين كأن صاحب الحال هو نفس المضاف ، فالعامل فيه هو العامل في الحال. انظر همع الهوامع : (١ / ٢٤٠) ، منهج السالك : (١٩٣) ، التصريح على التوضيح : (١ / ٣٨٠) ، شرح ابن عقيل : (١ / ٦٤٤).


٨٠٩ ـ والله لو لا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله (١)

ويقال : رجل أحنف ، وامرأة حنفاء.

وقيل : هو الاستقامة ، وسمي المائل الرّجل بذلك تفاؤلا ؛ كقولهم للّديغ «سليم» وللمهلكة : «مفازة» قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ](٢).

وقيل : الحنيف لقب لمن تديّن بالإسلام ؛ قال عمرو : [الوافر]

٨١٠ ـ حمدت الله حين هدى فؤادي

إلى الإسلام والدّين الحنيف (٣)

[قاله القفال. وقيل : الحنيف : المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه](٤).

قاله الزجاج ؛ وأنشد : [الوافر]

٨١١ ـ ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين (٥)

وأما عبارات المفسرين ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين : الحنيفية حج البيت (٦).

وعن مجاهد أيضا : اتباع الحق.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.

وقيل : اتباع شرائع الإسلام.

وقيل : إخلاص الدين قاله الأصم.

وقال سعيد بن جبير : هي الحج الحسن ، وقال قتادة : الحنيفية الختان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات ، وإقامة المناسك.

قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا ؛ لأن بعض اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله وذلك شرك.

وأيضا إن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومعلوم أنه ـ عليه‌السلام ـ أتى بشرائع مخصوصة ، من حجّ البيت والختان وغيرهما ، فمن دان بذلك فهو

__________________

(١) ينظر اللسان (حنف) ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٩٤ ، مجمع البيان : ١ / ٤٨٦ ، الفخر الرازي : ٤ / ٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر سيرة ابن هشام : ١ / ٢٩٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر الكشاف : ١ / ٣١٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٠٤ ـ ١٠٥) عن الحسن ومجاهد وابن عباس وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٧).


حنيف ، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء ، ثم كانت تشرك ، فقيل من أجل هذا «حنيفا ، وما كان من المشركين» ونظيره قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ٦].

فصل في الكلام على هذه الآية

اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وتقديره : إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفا ؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «اتفقوا» على صحّة دين إبراهيم ، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، فكأنه سبحانه وتعالى قال : إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر ، فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان المقول على التقليد ، فالرجوع إلى دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وترك اليهودية والنصرانية أولى.

فإن قيل : اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك ، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة ، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كانوا مقرين به ، لكنهم أنكروا كونه منكرا للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقا عليه ، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه ، فكان الأخذ به أولى.

فالجواب : أنه كان معلوما بالتواتر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أثبت الولد لله ـ تعالى ـ فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فإن قيل : أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟

فالجواب أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد ، وثبت أن النصارى يقولون بالتّثليث ، واليهود يقولون بالتشبيه ، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.

فصل

[اعلم أن قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ليس المراد منه التخيير ، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوّز اختيار النصرانية على اليهودية ، بل تزعم أنه كفر ، وكذلك أيضا حال النصارى ، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية ، والنصارى إلى النصرانية ، فكل فريق يدعو إلى دينه ، ويزعم أنه على الهدى](١).

__________________

(١) سقط في ب.


قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

(قُولُوا :) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه للمؤمنين ، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا.

والثاني : أنه يعود على القائلين كانوا هودا أو نصارى.

والمراد بالمنزل إليهم : إما القرآن ، وإما التوراة والإنجيل.

[قال الحسن رحمه‌الله تعالى : لما حكى الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم قالوا : كونوا هودا أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قل : بل «ملة» إبراهيم ، قال : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ)](١).

وجملة «آمنّا» في محلّ نصب ب «قولوا» ، وكرر الموصول في قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) لاختلاف المنزل إلينا ، والمنزل إليه ، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم ، ولم يكرر في «عيسى» ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلّا في نزر يسير ، فالذي أوتيه عيسى هو عين ما أوتيه موسى إلا يسيرا ، وقدم المنزل إلينا في الذكر ، وإن كان متأخرا في الإنزال تشريفا له.

والأسباط جمع «سبط» وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم.

وقيل : هم بنو يعقوب لصلبه.

وقال الزمخشري : «السبط هو الحافد».

واشتقاقهم من السبط وهو التتابع ، سموا بذلك ؛ لأنهم أمة متتابعون.

وقيل : من «السّبط» بالتحريك جمع «سبطة» وهو الشجر الملتف.

وقيل ل «الحسنين» : سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانتشار ذرّيتهم.

ثم قيل لكل ابن بنت : «سبط».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : جمع إبراهيم براهم ، وإسماعيل سماعيل ، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون ، وحكوا : براهمة وسماعلة ، وحكوا براهم وسماعل.

قال محمد بن يزيد : هذا غلط ؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها ، ولكن أقول : أباره وأسامع ، ويجوز أباريه وأساميع.

وأجاز أحمد بن يحيى «براه» ، كما يقال في التصغير «بريه».

__________________

(١) سقط في ب.


قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى) يجوز في «ما» وجهان :

أحدهما : أن تكون في محل جر عطفا على المؤمن به ، وهو الظاهر.

والثاني : أنها في محل رفع بالابتداء ، ويكون (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) عطفا عليها. وفي الخبر وجهان :

أحدهما : أن يكون (مِنْ رَبِّهِمْ).

والثاني : أن يكون (لا نُفَرِّقُ) هكذا ذكر أبو حيان ، إلا أن في جعله (لا نُفَرِّقُ) خبرا عن «ما» نظر لا يخفى من حيث عدم عود الضمير عليها.

ويجوز أن تكون «ما» الأولى عطفا على المجرور ، و «ما» الثانية مبتدأة ، وفي خبرها الوجهان ، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره : لا نفرق فيه ، وحذف العائد المجرور ب «في» مطّرد كما ذكر بعضهم ، وأنشد : [المتقارب]

٨١٢ ـ فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر (١)

أي : نساء فيه ونسرّ فيه.

قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ أنه في محل نصب ، و «من» لابتداء الغاية ، ويتعلّق ب «أوتي» الثانية إن أعدنا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى ، أو ب «أوتي» الأولى ، وتكون الثانية تكرارا لسقوطها في «آل عمران» إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما‌السلام والنبيين.

الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره : وما أوتيه كائنا من ربهم.

الثالث : أنه في محل رفع لوقوعه خبرا إذا جعلنا «ما» مبتدأ.

قوله : (بَيْنَ أَحَدٍ) متعلق ب «لا نفرق» ، وفي «أحد» قولان :

أظهرهما : أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية ، فهو للعموم وتحته أفراد ، فلذلك صحّ دخول «بين» عليه من غير تقدير معطوف نحو : «المال بين الناس».

والثاني : أنه الذي همزته بدل من «واو» بمعنى واحد ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول «بين» على متعدد ، ولكنه حذف لفهم المعنى ، والتقدير : بين أحد منهم ؛ ونظيره ومثله قول النابغة : [الطويل]

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب. ينظر ديوانه : ص ٣٤٧ ، تخليص الشواهد : ص ١٩٣ ، حماسة البحتري : ١ / ٥٦٥ ، وأمالي ابن الحاجب : ٢ / ٧٤٩ ، همع الهوامع : ١ / ١٠١ ، ٢ / ٢٨ ، والدرر : ١ / ٧٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٥.


٨١٣ ـ فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلّا ليال قلائل (١)

أي : بين الخير وبيني.

و «له» متعلّق ب «مسلمون» ، قدم للاهتمام به لعود الضمير على الله ـ تعالى ـ أو لتناسب الفواصل.

فصل في الكلام على الآية

قدم الإيمان بالله ؛ لأن من لا يعرف الله يستحيل أن يعرف نبيّا أو كتابا ، فإذا عرف الله ، وآمن به عرف أنبياءه ، وما أنزل عليهم.

وقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فيه وجهان :

الأول : لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، بل نؤمن بالكل ، روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا : آمنّا بالله وما أنزل ...» (٢) الآية.

الثاني : لا نقول : إنهم متفرقون في أصول الديانات ، بل هم يجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) [الشورى : ١٣].

[فإن قيل : كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟

قلنا : نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقّا في زمانه ، فلا تلزمنا المناقضة ، وإنما تلزم المناقضة لليهود والنصارى ؛ لاعترافهم بنبوة من ظهر المعجز على يده ، ولم يؤمنوا](٣).

وقوله : «ونحن مسلمون» يعني أن إسلامنا لأجل طاعة الله لا لأجل الهوى.

قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣٧)

«الباء» في قوله (بِمِثْلِ) فيه أقوال :

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني. ينظر ديوانه : ص ١٢٠ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٥٣ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٤٨ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٦٧ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٣٩٦ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٦.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٥) تعليقا كتاب الشهادات باب : لا يسأل أهل الشرك ، (٩ / ١٩٨) رقم (٧٣٦٢) كتاب الاعتصام باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسألوا أهل الكتاب ، (٩ / ٢٨٠) رقم (٧٥٤٢) كتاب التوحيد باب ما يجوز من تفسير التوراة وأخرجه البيهقي (١٠ / ١٦٣) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٢٦٩).

(٣) سقط في ب.


أحدها : أنها زائدة كهي في قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] وقوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ) [مريم : ٢٥] ؛ وقوله : [البسيط]

٨١٤ ـ ..........

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (١)

والثاني : أنها بمعنى «على» ، أي : فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله.

والثالث : أنها للاستعانة كهي في «نجرت بالقدّوم» ، و «كتبت بالقلم» ، والمعنى : فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم. وعلى هذه الأوجه ، فيكون المؤمن به محذوفا ، و «ما» مصدرية ، والضمير في «به» عائدا على الله ـ تعالى ـ والتقدير : فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، و «مثل» هنا فيها قولان :

أحدهما : أنها زائدة ، والتقدير : بما آمنتم به ، وهي قراءة عبد الله (٢) بن مسعود ، وابن عباس [وذكر البيهقي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لا تقولوا بمثل ما آمنتم به ، فإن الله ـ تعالى ـ ليس له مثل (٣) ، ولكن قولوا بالذي آمنتم به ، وهذا يروى قراءة أبيّ](٤) ونظيرها في الزيادة قول الشاعر : [السريع أو الرجز]

٨١٥ ـ فصيّروا مثل كعصف مأكول (٥)

وقال بعضهم : هذا من مجاز الكلام تقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي : لا تفعله أنت.

والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، نقله ابن عطية ، وهو يؤول إلى إلغاء «مثل» وزيادتها.

والثاني : أنها ليست بزائدة ، والمثليّة متعلقة بالاعتقاد ، أي : فإن اعتقدوا بمثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي : فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به ، والمعنى : فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وهذا التأويل ينفي زيادة «الباء».

قال ابن الخطيب (٦) رحمه‌الله تعالى : وفيها وجوه ، وذكر في بعضها أن المقصود

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس.

(٢) سقط في ب.

(٣) عجز بيت للقتال الكلابي ، وصدره :

هن الحرائر لا ربات أحمرة

ينظر ديوانه : (٥٣) ، مجالس ثعلب : ١ / ٣٠١ ، المغني : ١ / ٢٩ ، الخزانة : ٣ / ٦٦٧ ، المخصص : ١٤ / ٧٠ ، الجنى الداني : (٢١٧) ، الدر المصون : ١ / ٣٨٦.

(٤) انظر الشواذ : ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢١٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٨١ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٦.

(٥) تقدم برقم (٢٢٤).

(٦) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ٧٦.


منه التثبيت ، والمعنى : إن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ، ومساويا له في الصحة والسداد ، فقد اهتدوا ، ولمّا استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصواب والسّداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، [ولكنك تريد تثبيت صاحبك ، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه](١).

وقيل : إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا بمثل ذلك ، وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف ، فقد اهتدوا ؛ لأنهم يتوصّلون به إلى معرفة نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين ، فقد اهتدوا.

و «ما» في قوله : (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) فيها وجهان :

أحدهما : أنها بمعنى الذي ، والمراد بها حينئذ : إما الله ـ تعالى ـ بالتأويل المتقدم عند من يجيز وقوع (ما) على أولي العلم نحو : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥].

وإما الكتاب المنزل.

[والثاني : أنها مصدرية ، وقد تقدم ذلك.

والضمير في «به» فيه أيضا وجهان :

أحدهما : أنه يعود على الله ـ تعالى ـ كما تقدم](٢).

والثاني : أن يعود على (ما) إذا قيل : إنها بمعنى الذي.

قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) جواب الشرط في قوله : (فَإِنْ آمَنُوا) ، وليس الجواب محذوفا ، كهو في قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) [فاطر : ٤٠] ، لأن تكذيب الرسل ماض محقق هناك ، فاحتجنا إلى تقدير جواب.

وأما هنا فالهداية منهم لم تقع بعد ، فهي مستقبلة معنى ، وإن أبرزت في لفظ المعنى.

[قال ابن الخطيب : والآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء ، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها ، وبين وجوه دلالتها ، ثم بيّن وجه الزجر وما يلحقهم إن تولوا ، فقال : «وإن تولوا فإنهم في شقاق»](٣).

قوله : (فِي شِقاقٍ) خبر لقوله : «هم» ، وجعل الشقاق ظرفا لهم ، وهم مظروفون له مبالغة في الإخبار باستعلائه عليهم ، وهو أبلغ من قولك : هم مشاقّون ، وفيه : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الأعراف : ٦٦] ونحوه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.


والشّقاق : مصدر من شاقّه يشاقّه نحو : ضاربه ضرابا ، ومعناه المخالفة والمعاداة.

وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه من الشّق وهو الجانب. وذلك أن أحد المشاقين يصير في شقّ صاحبه ، أي : جانبه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٨١٦ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (١)

أي : بجانب.

الثاني : أنه من المشقة ، فإن كلّا منهما يحرص على ما يشقّ على صاحبه.

الثالث : أنه من قولهم : «شققت العصا بيني وبينك» ، وكانوا يفعلون ذلك عند تعاديهم.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب : معناه إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة ، والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة ، فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين ، والانقياد للحق ، وإنما غرضهم المنازعة ، وإظهار العداوة.

قال ابن عباس وعطاء رضي الله عنهما (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي : في خلاف منذ فارقوا الحقّ ، وتمسّكوا بالباطل ، فصاروا مخالفين لله.

وقال أبو عبيدة ومقاتل : (فِي شِقاقٍ) ، أي : في ضلال.

وقال ابن زيد : في منازعة ومحاربة.

وقال الحسن : في عداوة (٢).

قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق ، أو المخالفة التي لا تكون معصية : إنه شقاق ، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنته وفي استحقاق النّار ، فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم ، وصار وصفهم بذلك دليلا على أنهم معادون للرسول ، مضمرون له السوء مترصّدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا آمنه الله ـ تعالى ـ من كيدهم ، وآمن المؤمنين من شرّهم ومكرهم ، [فقال : «سيكفيكهم الله» تقوية لقلبه وقلوب المؤمنين](٣).

و «الفاء» في قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) تشعر بتعقيب الكفاية عقب شقاقهم ، وجيء ب «السين» دون «سوف» ؛ لأنها أقرب منها زمانا بوضعها ، ولا بد من حذف مضاف أي:

__________________

(١) تقدم برقم (٢٣٦).

(٢) أخرج بعض هذه الآثار الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٣٧).

(٣) سقط في ب.


فسيكفيك شقاقهم ؛ لأن الذوات لا تكفى إنما تكفى أفعالها ، والمكفي به محذوف ، أي : بمن يهديه الله ، أو بتفريق كلمتهم.

[ولقد كفى بإجلاء بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وبني قينقاع ، وضرب الجزية على اليهود والنصارى](١).

قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : السميع لأقوالهم ، العليم لأحوالهم.

وقيل : السميع لدعائك العليم بنيتك ، فهو يستجيب لك ويوصلك لمرادك. [وروي أن عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان يقرأ في المصحف ، فقتل فقطرت نقطة من دمه على قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ، قد أخبره بذلك (٢)](٣).

والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان ؛ ويجوز في غير القرآن الكريم : «فسيكفيك».

فصل في الكلام على سمع الله وعلمه

واحتجوا بقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات ، وإلا يلزم التكرار ، وهو غير جائز ، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعا أمرا زائدا على وصفه بكونه عليما.

قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)

قرأ الجمهور «صبغة» بالنصب.

وقال الطبري رحمه‌الله : من قرأ (٤) : «ملّة إبراهيم» بالرفع قرأ «صبغة» بالرفع (٥) وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز ، وابن أبي عبلة.

فأما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه :

أحدها : أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد ، وهذا اختاره الزمخشري ، وقال : «هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام» انتهى قوله.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الحاكم (٣ / ١٠٣) وسكت عنه ورده الذهبي بقوله : كذب بحت وفي الإسناد أحمد بن محمد بن عبد الحميد الجعفي وهو المتهم به.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٩) عن أبي سعيد مولى بني أسد وعزاه لابن أبي داود في «المصاحف» وأبي القاسم بن بشران في أماليه ، وأبي نعيم في المعرفة وابن عساكر.

وذكره أيضا (١ / ٢٥٩) عن نافع بن أبي نعيم بمعناه ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) سقط في ب.

(٤) سبق تخريج هذه القراءة.

(٥) قراءة الرفع على أنها خبر المبتدأ محذوف ، أي : ذلك الإيمان صبغة الله. ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٨٤.


واختلف حينئذ عن ماذا انتصب هذا المصدر؟

فقيل : عن قوله : (قُولُوا : آمَنَّا).

وقيل عن قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وقيل : عن قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا).

الثاني : أن انتصابها على الإغراء أي : الزموا صبغة الله.

وقال أبو حيان (١) وهذا ينافره آخر الآية ، وهو قوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) [فإنه خبر والأمر ينافي الخبر] إلا أن يقدر هنا قول ، وهو تقدير لا حاجة إليه ، ولا دليل من الكلام عليه.

الثالث : أنها بدل من «ملة» وهذا ضعيف ؛ إذ قد وقع الفصل بينهما بجمل كثيرة.

الرابع : انتصابها بإضمار فعل أي : اتبعوا صبغة الله ، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء ، وهو في الحقيقة ليس زائدا فإنّ الإغراء أيضا هو نصب بإضمار فعل.

قال الزمخشري (٢) رحمه‌الله : وهي ـ أي الصبغة ـ من «صبغ» كالجلسة من «جلس» ، وهي الحالة التي يقع عليها الصّبغ ، والمعنى : تطهير الله ؛ لأن الإيمان يطهر النّفوس.

فصل في الكلام على الصّبغ

الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال : صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغا بفتح الصاد وكسرها.

و «الصّبغة» فعلة من صبغ كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.

ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال :

الأول : أنه دين الله ، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوها.

أحدها : أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال : الآن صار نصرانيا فأمر المسلمون أن يقولوا : آمنا وصبغنا الله صبغة لا مثل صبغتكم ، وإنما جيء بلفظ الصّبغة على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار : [اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلا يصطنع الكرم.

والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم](٣) : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلا مواظبا على الكرم.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٨٤.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٩٦.

(٣) سقط في أ.


ونظيره قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٤ ـ ١٥] ، (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) [هود : ٣٨].

وثانيها : اليهود تصبغ أولادها يهودا ، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم ، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم.

عن قتادة قال ابن الأنباري رحمه‌الله يقال : فلان يصبغ فلانا في الشيء ، أي : يدخله فيه ، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازما للثوب. وأنشد ثعلب : [الطويل]

٨١٧ ـ دع الشّرّ وانزل بالنّجاة تحرّزا

إذا أنت لم يصبغك بالشّرع صابغ (١)

وثالثها : سمي الدين صبغة ؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطّهارة والصلاة قال الله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩].

[وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادة رضي الله تعالى عنهم : أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية ، وصبغوه بذلك ليطهروه به ، وكأنه الختان ؛ لأن الختان تطهير ، فلما فعلوا ذلك قالوا : الآن قد صار نصرانيا حقّا ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً)(٢) وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.

قال بعض شعراء ملوك «همدان» : [المتقارب]

٨١٨ ـ وكلّ أناس لهم صبغة

وصبغة همدان خير الصّبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا

فأكرم بصبغتنا في الصّبغ (٣)](٤)

ورابعها : قال القاضي : قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) متعلّق بقوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦] إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ؛ ليبيّن أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله ، وبين الدّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية ، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم.

القول الثاني : أن صبغة الله فطرته ، وهو كقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ١٣٦].

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ٧٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١١٧ ـ ١١٨ ، ١١٩) عن مجاهد والحسن وقتادة وذكره السيوطي بمعناه في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٩) عن قتادة ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٨٣ ، القرطبي : ٢ / ٩٨.

(٤) سقط في ب.


ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة ، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق ، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسّمة اللّازمة. [قال القاضي رحمه‌الله تعالى : من حمل قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول : هو دين الله ؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عقل وشرع ، وهو الدين أيضا الذي ألزمكم الله ـ تعالى ـ التمسّك به ، فالنفع به سيظهر دنيا ودين ، كظهور حسن الصبغة ، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا ، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى ، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى ؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه ، فلا فائدة فيه](١).

القول الثالث : أن صبغة الله هي الختان ، الذي هو تطهير ، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم ، فكذلك الختان تطهير للمسلمين قاله أبو العالية.

القول الرابع : قال الأصم رحمه‌الله تعالى : إنه حجة الله.

القول الخامس : قال أبو عبيدة رحمه‌الله تعالى : إنه سنة الله.

وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين :

أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك الإيمان صبغة الله.

والثاني : أن تكون بدلا من «ملّة» ؛ لأن من رفع «صبغة» رفع «ملة» كما تقدم فتكون بدلا منها كما قيل بذلك في قراءة النصب.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وقيل : الصّبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام ، بدلا من معمودية النصارى ، ذكر ذلك الماوردي رحمه‌الله تعالى. وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا ، وبهذا المعنى جاءت السّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما.

وقيل : إن القربة إلى الله تعالى يقال لها : صبغة ؛ حكاه ابن فارس في «المجمل».

قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ) مبتدأ وخبر ، وهذا استفهام معناه النفي أي : لا أحد ، و «أحسن» هنا فيها احتمالان :

أحدهما : أنها ليست للتفضيل ؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن.

والثاني : أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في «صبغة» غير الله حسنا لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء.

و «من الله» متعلق بأحسن ، فهو في محل نصب.

و «صبغة» نصب على التمييز من أحسن ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ

__________________

(١) سقط في ب.


والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله ، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصّابغين. [وهذا غريب معنى ، وغني عن القول كون التمييز منقولا عن المبتدأ](١).

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) جملة من مبتدأ وخبر معطوف على قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) فهي في محلّ نصب بالقول.

قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللهِ) بدل من «ملّة» ، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فكّ النظم ، وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه.

قال أبو حيان : وتقديره في الإغراء : عليكم صبغة ليس بجيد ؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه : ب «الزموا صبغة الله» انتهى. كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(١٣٩)

الاستفهام في قوله : (أَتُحَاجُّونَنا) للإنكار والتوبيخ.

والجمهور : «أتحاجوننا» بنونين الأولى للرفع ، والثانية نون «نا».

وقرأ زيد والحسن والأعمش ـ رحمهم‌الله ـ بالإدغام.

وأجاز بعضهم حذف النون الأولى.

فأما قراءة الجمهور فواضحة.

وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين ، وسوغ الإدغام وجود حرف المد واللين قبله القائم مقام الحركة.

وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة (٢) : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] ؛ وقوله : [الوافر]

٨١٩ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (٣)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ستأتي في الحجر آية (٥٤).

(٣) البيت لعمرو بن معد يكرب. ينظر ديوانه : ص ١٨٠ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٣٧١ ، ٣٧٢ ، ٣٧٣ ، والكتاب : ٣ / ٥٢٠ ، ولسان العرب : ١٥ / ٦٣ (فلا) ، والمقاصد النحوية : ١ / ٣٧٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٠٤ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢١٣ ، والدرر : ١ / ٢١٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر : ١ / ٨٥ ، وجمهرة اللغة : ص ٤٥٩ ، وشرح المفصل : ٣ / ٩١ ، ولسان العرب : ٢ / ٢٤٦ (حيج) ، ومغني اللبيب : ٢ / ٦٢١ ، والمنصف : ٢ / ٣٢٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٩.


يريد «فلينني»» ، وهذه الآية مثل قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] ، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة : الفكّ والإدغام والحذف ، ولكن في المتواتر.

وهنا لم يقرأ في المشهور كما تقدّم إلا بالفكّ.

ومحلّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها.

والضمير في «قل» يحتمل أن يكون للنبي ـ عليه‌السلام ـ أو لكلّ من يصلح للخطاب ، والضمير المرفوع في : (أَتُحَاجُّونَنا) لليهود والنصارى ، أو لمشركي العرب أو للكلّ.

و «المحاجّة» مفاعلة من حجّه يحجّه.

فصل في تحرير معنى المحاجّة

اختلفوا في تلك المحاجة : فقيل : هي قولهم : إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم ، والمعنى : أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسوله من العرب لأمتكم ، وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم ، وترونكم أحق بالنبوة منا.

وقيل : هي قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] قاله الحسن رضي الله عنه.

وقيل : (أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) أي : أتجادلوننا في دين الله.

وقوله : (فِي اللهِ) لا بد من حذف مضاف أي : في شأن الله ، أو دين الله.

قوله : (وَهُوَ رَبُّنا) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، وكذا ما عطف عليه من قوله : (وَلَنا أَعْمالُنا) ولا بد من حذف مضاف أي : جزاء أعمالنا ، ولكم جزاء أعمالكم.

فصل

قوله : (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) فيه وجهان :

الأول : أنه أعلم بتدبير خلقه ، وبمن يصلح للرسالة ، وبمن لا يصلح لها ، فلا تعترضوا على ربكم ، فإنّ العبد ليس له أن يعترض على ربه ، بل يجب عليه تفويض الأمر إليه.

الثاني : أنه لا نسبة لكم إلى الله ـ تعالى ـ إلا بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم ، فلم ترجّحون أنفسكم علينا ، بل الترجيح من جانبنا ؛ لأنا مخلصون له في العبودية ، ولستم كذلك ، وهذا التأويل أقرب.

قوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) المراد منه النّصيحة في الدين ، كأنه تعالى قال لنبيه : قل لهم هذا القول على وجه الشّفقة والنصيحة ، أي : لا يرجع إليّ من أفعالكم


القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر ، وإنما المراد [نصحكم](١) وإرشادكم إلى الأصلح.

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٤٠)

قال القرطبي رحمه‌الله : وجمع إسحاق : أساحيق.

وحكى الكوفيون : أساحقة ، وأساحق ؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب.

قال النحاس رحمه‌الله : فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوّله ، وإنما يقال : «أساريل».

وحكى الكوفيون «أسارلة» ، و «أسارل». والباب في هذا كله أن يجمع مسلّما فيقال: «إبراهيمون» ، و «إسحاقون» ، و «يعقوبون» ، والمسلّم لا عمل فيه.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى وقوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ) : قرأ حمزة (٢) ، والكسائي ، وحفص ، وابن عامر بتاء الخطاب ، والباقون بالياء.

فأما قراءة الخطاب ، فتحتمل «أم» فيها وجهين :

أحدهما : أن تكون المتّصلة ، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله : (أَتُحَاجُّونَنا) فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المحاجّة في الله ، أو ادعاء على إبراهيم ، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم ، فإنّ كلا الأمرين باطل.

قال ابن الخطيب : إن كانت متّصلة تقديره : بأي الحجّتين تتعلّقون في أمرنا؟ أبالتّوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون؟

والثاني : أن تكون المنقطعة ، فتتقدر ب «بل» والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب.

والتقدير : بل أتقولون؟

والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضا فيكون قد انتقل عن قوله : أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى ، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكر معه ، [كأنه قيل : أتقولون : إن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هودا أو نصارى](٣).

__________________

(١) في أ : صلاحكم.

(٢) انظر السبعة : ١٧١ ، والحجة : ٢ / ٢٢٨ ، وحجة القراءات : ١١٥ ، والعنوان : ٧٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧١ ، وشرح شعلة : ٢٧٨ ، وإتحاف : ١ / ٤١٩.

(٣) سقط في ب.


وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن «أم» فيها منقطعة على المعنى المتقدم ، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة ؛ لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو ؛ أيكون هذا أم هذا ، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال : هذا المثال غير جيّد ؛ لأن القائل غير واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غيران ، وإنما تتّجه معادلة «أم» للألف على الحكم المعنوي ، كأن معنى قل : أتحاجوننا : «أيحاجون يا محمد أم تقولون».

وقال الزمخشري (١) : وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلّا منقطعة.

قال أبو حيان (٢) رحمه‌الله تعالى : ويمكن الاتصال مع قراءة الياء ، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين.

وقال أبو البقاء (٣) : أم تقولون يقرأ بالياء ردّا على قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) ، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) ، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) إلى قوله : «أم يقولون» حتى يجعله ردّا عليه ، وهو بعيد عنه لفظا ومعنى.

وقال أبو حيان (٤) : الأحسن في القراءتين أن تكون «أم» منقطعة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ، ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٦٥] الآيات.

وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معا.

وهذا الذي قاله الشيخ حسن جدا.

و «أو» في قوله : (هُوداً أَوْ نَصارى) كهي في قوله : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وقد تقدم تحقيقه.

قوله تعالى : (قُلْ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ).

معناه : أن الله أعلم ، وخبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل ، وفي القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية.

فإن قيل : إنما يقال هذا فيمن لا يعلم ، وهم علموه وكتموه ، فكيف يصح الكلام؟

فالجواب : من قال : إنهم كانوا على ظنّ وتوهم ، فالكلام ظاهر ، ومن قال : علموا وجحدوا ، فمعناه : أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به ، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله ـ تعالى ـ أعلم.

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٩٧.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٨٧.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٦٦.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٨٧.


[و «أم» في قوله تعالى : (أَمِ اللهُ) متصلة ، والجلالة ، عطف على «أنتم» ، ولكنه فصل بين المتعاطفين بالمسؤول عنه ، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة ؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثلاثة أوجه : تقدم المسؤول عنه نحو قوله : «أأعلم أم الله» ، وتوسطه نحو (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) ، وتأخيره نحو : أأنتم أم الله أعلم.

وقال أبو البقاء رحمه‌الله تعالى : (أَمِ اللهُ) مبتدأ ، والخبر محذوف أي : أم الله أعلم ، و «أم» هنا متصلة ، أي : ربكم أعلم ، وفيه نظر ؛ لأنه إذا قدر له خبرا صناعيا صار جملة ، و «أم» المتصلة لا تعطف الجمل ، بل المفرد وما في معناه. وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى ، فيغتفر له ذلك ، بل تفسير إعراب ، والتفصيل في قوله : (أَعْلَمُ) على سبيل الاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، فيكون من الجهلة ، وإلا فلا مشاركة ، ونظيره قول حسان : [الوافر]

٨٢٠ ـ أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخير كما الفداء (١)

وقد علم أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ خير الكل](٢).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

في «من» من قوله : (مِنَ اللهِ) أربعة أوجه :

أحدها : أنها متعلقة ب «كتم» ، وذلك على حذف مضاف أي : كتم من عباد الله شهادة عنده.

الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة ؛ لأن «عنده» صفة لشهادة ، وهو ظاهر قول الزمخشري رحمه‌الله ، فإنه قال : و «من» في قوله : (شَهادَةً مِنَ اللهِ) مثلها في قولك : «هذه شهادة مني لفلان» إذا شهدت له ، ومثله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١].

الثالث : أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في «عنده» يعني : من الضمير المرفوع بالظّرف لوقوعه صفة ، ذكره أبو البقاء رحمه‌الله تعالى.

الرابع : أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف ، وهو «عنده» لوقوعه صفة ، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف.

قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تعلق «من» بشهادة لئلّا يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني : أن «شهادة» مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل ، فلو علّقت «من» بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول ، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي ، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة.

__________________

(١) تقدم برقم (٢٨٢).

(٢) سقط في ب.


وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : لا نسلم أن «شهادة» ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما.

والثاني : سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة ، بل هو معمول لها ، فيكون بعض الصلة أجنبيّا حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته ، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر ، وهو أن المعنى يأبى ذلك.

و «كتم» يتعدّى لاثنين ، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره : كتم النّاس شهادة ، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون «من الله» صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب «كتم» ، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستودعة من الله عنده أبلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله.

وقال في «ري الظمآن» : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك : «ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة» ، والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك.

قال أبو حيان : وهذا متكلّف جدّا من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول. أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضّرائر عند الجمهور.

وأيضا فيبقى قوله : (مِمَّنْ كَتَمَ) متعلقا : إما ب «أظلم» ، فيكون ذلك على طريق البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص ، وليس بثابت ، وإن كان بعضهم زعم وروده ، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص ، أو تكون «من» متعلقة بمحذوف ، فتكون في موضع الحال ، أي : كائنا من الكاتمين.

وإمّا من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جرّ ب «من» يكون على تقدير ، أي : إن كتمها فلا أحد أظلم منه ، وهذا كله معنى لا يليق به ـ تعالى ـ وينزه كتابه عنه.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى ، وأنه يجازيهم على أعمالهم.

والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالا منه ؛ مأخوذ من الأرض الغفل ، وهي التي لا علم لها ولا أثر عمارة.

وناقة غفل : لا سمة بها.

ورجل غفل : لم يجرب الأمور. وقال الكسائي : «أرض غفل لم تمطر» ، غفلت عن الشيء غفلة وغفولة ، وأغفلت الشيء : تركته على ما ذكر منك.


فإن قيل : ما الحكمة في عدوله عن قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) إلى (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ).

فالجواب : أن نفي النقائص وسلبها عن صفات الله ـ تعالى ـ أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها ، فإن نفي النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة ، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض ؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض ، فلما قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) دلّ ذلك على أنه عالم ، وعلى أنه غير غافل ، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية.

فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) [يوسف : ١٩].

فالجواب : أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر ، بخلاف هذه الآية ، فإن المقصود

بها الزجر والتهديد.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظا لهم ، وزجرا حتى لا يتّكلوا على فضل الآباء ، فكلّ واحد يؤخذ بعمله.

وأيضا أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك ، بل كل إنسان مسؤول عن عمله ، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم ؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.

فإن قيل : لم كررت هذه الآية؟

فالجواب من وجهين :

الأول : قال الجبّائي : إنه عنى بالآية الأولى إبراهيم ، ومن ذكر معه ، والثانية أسلاف اليهود.

قال القاضي : هذا بعيد ؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح ، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه : إنهم كانوا هودا ، فكأنهم قالوا : إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود ، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسّف ، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه ، فقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ) يجب أن يكون عائدا إليهم.

الوجه الثاني : أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التّكرار عبثا ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : ما هذا إلا بشر ، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [الجنس](١) ، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة ، فلها ما كسبت ،

__________________

(١) في أ : الدين.


وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك أنفع لكم ، وأعود عليكم ، ولا تسألون إلا عن عملكم.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : كررها ، لأنها تضمّنت معنى التهديد والتخويف ، أي : إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم ، فأنتم أحرى ، فوجب التأكيد فلذلك كررها.

تمّ الجزء الثّاني ، ويليه الجزء الثّالث

وأوّله : «قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) ...


فهرس المحتويات

تتمة تفسير سورة البقرة

الآية : ٤٠

٣

فصل في المراد بالبر في الآية

٢٩

فصل في النعمة

٦

فصل في سبب هذا التعجب

٢٩

فصل في حد النعمة

٦

فصل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف

٣٠

فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا

٧

فصل في ماهية العقل

٣٠

فصل في النعم المخصوصة ببني إسرائيل

٨

فصل في خلق أفعال العباد

٣٠

فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم

٨

الآية : ٤٥

٣١

فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه

١٠

فصل في فضل الصلاة

٣٢

الآية : ٤١

١٣

الآية : ٤٦

٣٤

فصل في بيان المخاطبين في الآية

١٤

فصل في أوجه ورود لفظ الظن

٣٦

فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود

١٨

فصل في رؤية الله تعالى

٣٧

الآية : ٤٢

٢٠

الآية : ٤٧

٤٥

فصل في المراد من قوله تعالى : «الحق بالباطل»

٢٢

الآية : ٤٨

٤٧

فصل في المراد بالكتمان

٢٣

فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب

٤٧

الآية : ٤٣

٢٤

فصل في سبب نزول الآية

٥٢

فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة

٢٦

فصل في الشفاعة

٥٢

فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع

٢٦

الآية : ٤٩

٥٢

الآية : ٤٤

٢٦

فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل

٥٨

فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء

٦٠

الآية : ٥٠

٦٢


فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه

٦٤

أو بمعناها

 ٩٦

فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة

٦٤

فصل في بيان التبديل

١٠١

فصل في فضل يوم عاشوراء

٦٥

فصل في الباعث على تبديلهم

١٠١

الآيتان : ٥١ ، ٥٢

٦٧

فصل في لغات الرجز

١٠٢

فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه

 ٦٩

فصل في تفسير الظلم

١٠٣

فصل في معنى أربعين ليلة

 ٧٠

الآية : ٦٠

١٠٥

فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل

 ٧٢

فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التّيه

١٠٩

فصل في ردّ شبهة للمعتزلة

 ٧٣

فصل في جنس الشجرة

١٠٩

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية

 ٧٥

فصل في المراد بالحجر

١١٠

الآية : ٥٣

 ٧٦

فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر

١١١

فصل في الرد على المعتزلة

 ٧٦

فصل في كلام المعتزلة

١١٢

الآية : ٥٤

 ٧٨

الآية : ٦١

١١٣

فصل في الرد على المعتزلة

 ٧٨

فصل في لفظ أدنى

 ١٨

فصل في نظم الآية

٧٩

فصل في معنى الآية

١١٩

فصل في كيفية قتل أنفسهم

 ٨٣

فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال

١٢١

الآيتان : ٥٥ ، ٥٦

 ٨٤

فصل في المراد ب «مصر»

١٢٢

فصل في زمان هذه الواقعة

 ٨٦

فصل في أوجه ورود لفظ الحق

١٣٠

الآية : ٥٧

 ٨٨

الآية : ٦٢

١٣٢

فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته

 ٨٨

فصل في تفسير الصابئين

١٣٦

فصل في اشتقاق الغمام

٨٩

الآيتان : ٦٣ ، ٦٤

١٣٨

فصل في سبب تقديم المن على السلوى

 ٩٠

فصل في تفسير فضل الله عليهم

١٤٤

الآيتان : ٥٨ ، ٥٩

٩٢

الآيتان : ٦٥ ، ٦٦

١٤٥

فصل في المراد بالباب

 ٩٥

فصل في قصة عدوانهم بالصيد

١٤٨

فصل في تفسير «الحطة»

 ٩٦

فصل في المقصود من ذكر هذه القصة

١٥٠

فصل في بيان التلفظ بالحطة

الآيات : ٦٧ ـ ٧٣

١٥٣

فصل في قصة القتيل

١٥٤

فصل في الباعث على تعجبهم

١٥٦


فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟

١٥٦

الآيتان : ٧٦ ، ٧٧

١٩٧

فصل في الغاية من وصف البقرة

١٦١

فصل في إعراب الآية

١٩٨

فصل في الاستثناء بالمشيئة

١٦٧

فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر

٢٠١

فصل في الإرادة الكونية

١٦٧

الآيتان : ٧٨ ، ٧٩

٢٠٢

فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة

١٦٨

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

٢٠٢

فصل في تقدير المشيئة

١٦٨

فصل في بطلان التقليد في الأصول

٢٠٦

فصل في ضبط الحيوان بالصفة

١٧١

فصل في سبب هذا الوعيد

٢١٠

فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا

١٧٣

فصل في الرد على المعتزلة

٢١١

فصل في النسخ بالأشقّ

١٧٤

الآية : ٨٠

٢١٢

فصل في سبب تثاقلهم

١٧٨

فصل في مدة الحيض

٢١٣

فصل في نسبة القتل إلى جميعهم

١٧٩

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

٢١٥

فصل في بيان المضروب به

١٨٠

الآية : ٨١

٢١٦

فصل في نظم الآية

١٨٢

فصل في لفظة «بلى»

٢١٨

فصل في توريث القاتل

١٨٢

الآية : ٨٢

٢٢٥

الآية : ٧٤

١٨٣

فصل في الاستدلال بالآية

٢٢٥

فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة

١٨٦

الآية : ٨٣

٢٢٦

فصل في الرد على المعتزلة

١٨٦

فصل في مرتكب الكبيرة

٢٢٦

فصل في تولد الأنهار

١٨٧

فصل في مدلول «الميثاق»

٢٢٩

الآية : ٧٥

١٩١

فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله

٢٣١

فصل في المقصود بالآية

١٩١

فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين

٢٣١

فصل في قبائح اليهود

١٩١

فصل في أحكام تؤخذ من الآية

 ٢٣٣

فصل في تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٩٣

فصل في رعاية اليتيم

٢٣٤

فصل في إعراب الآية

١٩٣

فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى

٢٣٩

فصل في تعيين الفريق

١٩٥

فصل في أن الإحسان كان واجبا عليهم

٢٤٠

فصل في كلام القدرية والجبرية

١٩٦

فصل في ذم العالم المعاند

١٩٦

فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض

١٩٦


الآيتان : ٨٤ ، ٨٥

٢٤٤

فصل في التكرار

٢٩١

فصل في معنى العدوان واشتقاقه

٢٥٠

فصل في فاعل الإشراب

٢٩٣

فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل

٢٥٣

الآيتان : ٩٤ ، ٩٥

٢٩٤

فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية

٢٥٦

فصل في سؤالات واردة

٢٩٦

فصل في المراد بالخزي في الآية

٢٥٨

فصل في بيان متى يتمنى الموت

٢٩٨

الآية : ٨٦

٢٥٩

الآية : ٩٦

٣٠٠

فصل في تفسير تخفيف العذاب

٢٦٠

فصل في بيان أن بالآية غيبين

٣٠٠

الآية : ٨٧

٢٦١

فصل في المراد بالذين أشركوا

٣٠٢

فصل في تعيين الرسل المقفى بهم

٢٦٢

الآيتان : ٩٧ ، ٩٨

٣٠٦

فصل في لفظ عيسى

٢٦٣

الآية : ٩٩

٣١٧

فصل في المراد ب «روح القدس»

٢٦٦

الآية : ١٠٠

٣١٨

الآية : ٨٨

٢٦٩

الآية : ١٠١

٣٢١

فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم

٢٦٩

الآية : ١٠٢

٣٢٣

فصل في كلام المعتزلة

٢٧٠

فصل في المراد بقوله تعالى : «واتبعوا»

٣٢٥

الآية : ٨٩

٢٧٣

فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان

٣٢٦

فصل في الاستفتاح

٢٧٥

فصل في ماهية السحر

٣٢٩

الآية : ٩٠

٢٧٧

فصل في مذهب الشافعي في السحر

٣٣١

فصل في نعم وبئس

٢٧٨

فصل في خرق الساحر للعادات

٣٣٢

فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب «نعم»

٢٧٩

فصل في إمكان السحر

٣٣٣

فصل في شرط نعم وبئس

٢٧٩

فصل في أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر

٣٣٤

فصل في المراد بالشراء في الآية

٢٨١

فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور

٣٣٤

فصل في تفسير الغضب

٢٨٤

فصل في أمور لا تكون من السحر ألبتة

٣٣٥

الآية : ٩١

٢٨٥

فصل في أن الساحر كافر أم لا؟

٣٣٥

فصل في بيان ما تشير إليه الآية

٢٨٨

فصل في سؤال الساحر حلّ السحر عن المسحور

٣٣٦

الآية : ٩٢

٢٩٠

الآية : ٩٣

٢٩١


فصل في أن الساحر هل يقتل أم لا؟

٣٣٦

فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟

٣٨٢

فصل في توجيه قراءة فتح اللام

٣٤١

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن

٣٨٢

فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة

٣٤٤

الآية : ١٠٧

٣٨٤

فصل في فساد رواية الزهرة

٣٤٤

فصل في أن الملك غير القدرة

٣٨٥

فصل في زمن وقوع هذه القصة

٣٤٥

الآية : ١٠٨

٣٨٦

فصل في المراد بالفتنة

٣٤٦

فصل في المخاطب بهذا

٣٨٨

فصل في تفسير التفريق

٣٤٩

فصل في سؤالهم

٣٨٩

فصل في تأويل الإذن

٣٥٢

الآية : ١٠٩

٣٩٠

فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء

٣٥٤

فصل في المراد بهذه الآية

٣٩٢

الآية : ١٠٣

٣٥٦

فصل في المقصود بأمر الله

٣٩٣

الآية : ١٠٤

٣٥٨

الآية : ١١٠

٣٩٤

فصل في لفظ راعنا

٣٥٩

[فصل فيما بعد الموت

٣٩٥

الآية : ١٠٥

٣٦٢

فصل في إعراب الآية

٣٩٥

الآية : ١٠٦

٣٦٤

الآيتان : ١١١ ، ١١٢

٣٩٦

فصل في تفسير الرحمة في الآية

٣٦٤

الآية : ١١٣

٤٠١

فصل في بيان معنى النسخ

٣٧١

فصل في سبب نزول هذه الآية

٤٠٢

فصل في حجج منكري النسخ

٣٧٢

فصل في المراد بالذين لا يعلمون

٤٠٤

فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية

٣٧٥

الآية : ١١٤

٤٠٥

فصل في فوائد معرفة النسخ

٣٧٥

فصل في تعلق الآية بما قبلها

٤٠٧

فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله

٣٧٥

فصل فيمن خرب «بيت القدس»

٤٠٧

فصل في أنواع النسخ

٣٧٧

فصل فيما يستدل بالآية عليه

٤٠٩

فصل في بيان أنه ليس شرطا البدل في النسخ

٣٨٠

فصل في ظاهر الآية

٤١٠

فصل في جواز النسخ بالأثقل

٣٨٠

فصل في دخول الكافر المسجد

٤١١

فصل : الكتاب لا ينسخ بالسّنّة المتواترة

٣٨٠

الآية : ١١٥

٤١٣

فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟

٣٨٢

فصل في نفي التجسيم

٤١٥

فصل في سبب نزول الآية

٤١٦

الآيتان : ١١٦ ، ١١٧

٤١٨

فصل فيمن قال اتخذ الله ولدا

٤٢١

فصل في تنزيه الله تعالى

٤٢١


فصل في تحرير كلمة كن

٤٢٩

فصل في تحرير معنى المصلّى

٤٦٤

الآية : ١١٨

٤٣٢

فصل في الكلام على البيت المعمور

٤٦٥

فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين

٤٣٣

فصل في معنى تطهير البيت

٤٦٦

الآية : ١١٩

٤٣٤

فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة

٤٦٨

الآية : ١٢٠

٤٣٧

فصل فيما تدل عليه الآية

٤٦٨

فصل في سبب نزول هذه الآية

٤٣٧

الآية : ١٢٦

٤٦٩

فصل في أن الكفر ملّة واحدة

٤٣٨

فصل في تطهير جميع بيوت الله

٤٦٩

فصل في المراد بهذا الخطاب

٤٣٨

فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم

٤٧٠

الآيات : ١٢١ ـ ١٢٣

٤٣٩

فصل في الرد على بعض الشّبهات

٤٧١

فصل فيما تدل عليه الآية

٤٣٩

فصل في المراد بالأمن

٤٧٢

فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية

٤٤٠

فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟

٤٧٢

الآية : ١٢٤

٤٤١

فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدّعاء

٤٧٣

فصل في تفسير لفظ إبراهيم

٤٤٤

الآيتان : ١٢٧ ، ١٢٨

٤٧٧

فصل فيما دلت عليه السورة

٤٤٦

[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد

٤٧٨

فصل في معنى الابتلاء

٤٤٧

فصل في الكلام على رفع القواعد

٤٧٨

فصل في وقت هذا الابتلاء

٤٤٩

فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال

٤٨١

فصل في إمامة سيدنا إبراهيم

٤٥٢

فصل في تسمية عرفات

٤٨٨

فصل في اشتقاق ذريّة

٤٥٣

فصل في استلام الأركان

٤٨٩

فصل في معنى الذّرية

٤٥٥

فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى

٤٩٠

فصل في تحرير معنى العهد

٤٥٦

الآية : ١٢٩

٤٩١

فصل في عصمة الأنبياء

٤٥٦

فصل في معنى التوبة

٤٩١

فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟

٤٥٧

فصل في الدعاء

٤٩١

فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظّلمة

٤٥٨

الآية : ١٢٥

٤٥٩

فصل في تحرير المقصود من البيت

٤٦٠

فصل في تحرير معنى الأمن

٤٦١

فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟

٤٦١

فصل في المقصود بالمقام

٤٦٣


فصل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم

٤٩٢

فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد

٥١٤

الآية : ١٣٠

٤٩٥

فصل في الكلام على هذه الآية

٥١٨

فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات

٤٩٧

الآية : ١٣٦

٥١٩

الآية : ١٣١

٤٩٩

الآية : ١٣٧

٥٢١

فصل في تحرير وقت قول الله تعالى لإبراهيم : أسلم

٥٠٠

فصل في الكلام على الآية

٥٢١

الآية : ١٣٢

٥٠١

فصل في الكلام على الآية

٥٢٤

الآية : ١٣٣

٥٠٤

الآية : ١٣٨

٥٢٥

فصل في نزول هذه الآية

٥٠٧

فصل في الكلام على سمع الله وعلمه

٥٢٥

فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أبا

٥٠٩

فصل في الكلام على الصّبغ

٥٢٦

الآية : ١٣٤

٥١٣

الآية : ١٣٩

٥٢٩

الآية : ١٣٥

٥١٤

فصل في تحرير معنى المحاجّة

٥٣٠

الآية : ١٤٠

٥٣١

الآية : ١٤١

٥٣٥

اللباب في علوم الكتاب - ٢

المؤلف:
الصفحات: 543